تعزيز اليقين وهداية الحيران

الأنبياء والمرسلون عليهم السلام

الرئيسية / بنك المعلومات / الأنبياء والمرسلون عليهم السلام

الكتب

النبوات بين الإيمان والانكار

تناول الكتاب نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - ودلائلها وعرض للمعجزة الخالدة الباقية وهى القرآن الكريم وبين بعض دلائل اعجازه ثم عرض للمنكرين للنبوات فأثبت شبهاتهم ورد عليها بالأدلة النقلية والعقلية...
تحميل

فصول في النبوة وصحة الإسلام

يتناول الكتاب في البداية بيان حاجة البشر الضرورية إلى الدين ثم تناول أدلة صحة الإسلام من عدة أوجه؛ حيث عرض دلائل صدق الرسول ثم انتقل إلى دلائل صحة الرسالة (القرآن) ببيان أوجه الإعجاز القرآني -الغيبي والبلاغي والتشريعي والعلمي-، ثم جاء الختام بعقد مقارنة بين الأديان من عدة أوجه.. وكل هذا بلغة سهلة إقناعية
تحميل

الوجود التاريخي للأنبياء وجدل البحث الأركيولوجي

تناول المؤلّف في هذا الإصدار قضية من أهم القضايا المثارة في الجدل الحديث حول الخبر التاريخي في القرآن؛ وهي زعم كثير من الملاحدة واللادينيين في الغرب والشرق أنّ الأنبياء الوارد ذكرهم في القرآن الكريم، أو عامتهم، شخصيّات خرافية، قد أثبت علم الآثار أنّهم ما عاشوا على الأرض وإنّما هم صنيعة الخيال.
تحميل

أعلام النبوة للماوردي

نسف الإلحاد: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ حقيقه ام خيال (مصدر الاديان)

مقالة تناقش شبهة عدم وجود ذكر للرسل في غير الشرق الأوسط
تحميل

الشبهات والاتهامات الباطلة حول الرسل عليهم السلام - تفسير موضوعي

الشبهات والاتهامات الباطلة حول الرسل عليهم السلام - تفسير موضوعي
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

هل المعجزة خرافة مستحيلة؟

تشغيل الفيديو

لماذا يسعى الحداثيون لتفريغ النبوة من معناها؟

تشغيل الفيديو

مناظرات إبراهيم عليه السلام

تشغيل الفيديو

هل إرسال الرسل يقتصر على الشرق الأوسط فقط

المقالات

اتهام الأنبياء والرسل بالجنون والسحر والكذب والافتراء

مضمون الشبهة:

يتهم المشركون المكذبون لدعوة الرسل رسلهم بأنهم كذابون مفترون يتكلمون بما لا معنى له، وأن الرسول مفتر فيما يزعمه من أن الله أرسله إليهم واختصه من بينهم بالوحي، ويرمون رسلهم بالسحر والكذب والجنون، قال سبحانه وتعالى: )كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52)( (الذاريات).

وجوه إبطال الشبهة:

1)  هذه مقولة كل الأمم المكذبة لرسلها على مر العصور.

2)  إنكار هذه المقولة والتعجب من التوافق عليها، ولكن الكفر ملة واحدة تتشابه قلوب أصحابه.

3) المشركون يعلمون صدق الرسول وبراءته من هذه التهم لكنهم يجحدون بآيات الله، ولكن ما على الرسول إلا البلاغ.

التفصيل:

أولا. توافق كل الأمم على هذه المقولة:

تلك مقولة الأمم المكذبة لرسلها على مر العصور، يتهمون رسلهم بالسحر والجنون والكذب والافتراء، فقد قال قوم نوح – عليه السلام – عنه: )إن هو إلا رجل به جنة( (المؤمنون: 25)، وقال الله عنهم أيضا: )كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9)( (القمر)، وقوم عاد قالوا عن نبي الله هود عليه السلام: )إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء( (هود: 54)، وقوم ثمود قالوا لنبي الله صالح عليه السلام: )قالوا إنما أنت من المسحرين (153)( (الشعراء)، وقالوا عنه أيضا: )بل هو كذاب أشر (25)( (القمر)، وقال قوم موسى – عليه السلام – عن نبيهم: )ساحر كذاب( (غافر: 24)، وقال عنه فرعون: )وقال ساحر أو مجنون (39)( (الذاريات)، ويقولون عنه وعن أخيه هارون – عليهما السلام -: )إن هذان لساحران( (طه: 63)، وقوم عيسى – عليه السلام – يرمون ما جاء به من البينات بالسحر، قال سبحانه وتعالى: )فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف).

وقوم النبي – صلى الله عليه وسلم – يتهمونه وما جاء به من الآيات بالسحر والجنون والشعر والكهانة كما حكى القرآن: )بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر( (الأنبياء: 5)، وكذلك قوله: )ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون (36)( (الصافات)، وقالوا عن القرآن: )إن هذا إلا سحر يؤثر (24)( (المدثر)، وهذه الدعوى قالتها الأمم السابقة لرسلها، قال سبحانه وتعالى: )كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52)( (الذاريات).

ثانيا. الإنكار والتعجب من هذا التوافق؛ لكن الكفر ملة واحدة:

ويرد القرآن على ذلك متعجبا من اتفاقهم في كل عصر ومع كل نبي على هذه المقولة كأنهم تواصوا بها فأوصى أولهم آخرهم بالتكذيب حتى تواطئوا عليه، قال سبحانه وتعالى: )أتواصوا به( (الذاريات: 53)، والاستفهام هنا للتوبيخ والتعجب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ، أي: كأنهم أوصى بعضهم بعضا بأن يقولوه[1].

ثم يؤكد القرآن أنه لم يوص أحد منهم أحدا، ولم يوص بعضهم بعضا بذلك، وإنما الكفر ملة واحدة، يتفق أهله في التكذيب والضلال والطغيان، فهؤلاء القوم قوم طغاة جمعهم الطغيان ومجاوزة الحد في الكفر، فتشابهت قلوبهم، وهذا أصل معهود من أمثالهم من المشركين الذين سبقوهم بالضلال، كما قال سبحانه وتعالى: )تشابهت قلوبهم( (البقرة: 118)، فهؤلاء قد ساوى بينهم الطغيان حتى كأنهم تواصوا بما يقولون.

قال سبحانه وتعالى: )بل هم قوم طاغون (53)( (الذاريات)، فضلالهم وطغيانهم واحد، وإن تعددت طرقه واختلفت وجوهه، وتباعدت أزمنته واختلفت أمكنته، أي: ما هو بتواص، ولكنه تماثل في منشأ ذلك القول، أي: سبب تماثل المقالة تماثل التفكير والدواعي للمقالة، إذ جميعهم قوم طاغون، وأن طغيانهم وكبرياءهم يصدهم عن اتباع رسول يحسبون أنفسهم أعظم منه، وإذ لا يجدون وصمة يصمونه بها اختلقوا لتنقيصه عللا لا تدخل تحت الضبط، وهي أنه مجنون أو ساحر، فاستووا في ذلك بعلة استوائهم في أسبابه ومعاذيره[2].

ويؤكد هذا قول الشيخ سيد قطب معلقا على هذا الحال: “فهي طبيعة واحدة للمكذبين؛ وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون.. كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون، وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين”[3].

ثالثا. رغم جحود المشركين.. ما على الرسول إلا البلاغ:

كما يؤكد القرآن أيضا أن هؤلاء المشركين المعاندين لا يرون الرسول في الحقيقة كذابا، ولا يعتقدون أنه يكذب على الله فيما جاء به، وهم لم يجربوا عليه كذبا، ولكنهم يجحدون بالآيات الدالة على صدقه بإنكارها بألسنتهم فقط وإن استيقنتها أنفسهم، وما ذاك إلا لاستكبارهم وعلوهم وعنادهم وظلمهم، قال سبحانه وتعالى: )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام)، وقال – عز وجل – عن قوم فرعون: )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا( (النمل: 14).

والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون، ألا يحفل الرسول – صلى الله عليه وسلم – بتكذيب المشركين. فهو غير ملوم على ضلالهم، ولا مقصر في هدايتهم: )فتول عنهم فما أنت بملوم (54)( (الذاريات).. إنما هو مذكر، فعليه أن يذكر، وأن يمضي في التذكير، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون: )وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)( (الذاريات). ولا تنفع غيرهم من الجاحدين. والتذكير هو وظيفة الرسل. والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيهما إلى الله وحده[4].

الخلاصة:

اتهام الأنبياء والرسل بالجنون والسحر والكذب والافتراء أمر دأبت عليه كل الأمم، فالكفر كله ملة واحدة كأنما توحدوا بذلك على مدار القرون.

المكذبون لم يتواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين اللاحقين والغابرين.

وظيفة الرسول البلاغ والتذكير، أما الهدى والضلال فالأمر فيهما لله وحده.

مشركو مكة لم يكذبوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنما أنكروا الآيات ورفضوا الإيمان بها ظلما وعلوا واستكبارا على الحق – رغم تيقنهم من كونه حقا – قال سبحانه وتعالى: )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام).

 

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (المؤمنون/ 25، 38، سبأ/ 8، الشعراء/ 153، 158، 186، ص/ 4، الذاريات/ 39، 52، القمر/ 9، 25، هود/ 54، الصف/ 6).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الذاريات/ 53، البقرة/ 118، الأنعام/ 33، النمل/ 14).

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج2، ص22.

[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج27، ص23.

[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3386.

[4]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م،،ج6، ص3386.

المصدر

اتهام موسى وهارون – عليهما السلام – بالسحر

مضمون الشبهة:

اتهم فرعون ومن معه موسى وهارون – عليهما السلام – بأنهما ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، وأن ما أتى به موسى – عليه السلام – من الآيات الظاهرة الواضحة ما هو إلا سحر مبين. قال تعالى: )قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)( (طه).

وجها إبطال الشبهة:

1) ما قاله فرعون ومن معه من اتهام موسى وهارون بالسحر هو مجرد زعم باطل، ومقولة ظالمة ناشئة عن البهتان والكذب والاستكبار.

2) إيمان السحرة برب موسى وهارون – عليهما السلام – يعد من أكبر الأدلة على براءة موسى وهارون – عليهما السلام – من تهمة السحر.

التفصيل:

أولا. اتهام موسى وهارون – عليهما السلام – بالسحر مجرد زعم باطل:

تلك مقولة مبنية على الكذب والبهتان والاستكبار والعناد والتعالى، يتهمون ما جاء به موسى – عليه السلام – وهارون – عليهما السلام – من المعجزات الباهرة والدلائل القاهرة والآيات الظاهرة على صدقهما، بأنه سحر ظاهر رغم أنهم شاهدوا ذلك وتحققوه وأيقنوا أنه من عند الله، يقول سبحانه وتعالى: )فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون (77)( (يونس).

أي لما رأوا المعجزات التي هي حق ثابت وليست بتخيلات وتمويهات، وعلموا أن موسى – عليه السلام – صادق فيما ادعاه، تدرجوا من مجرد الإباء المنبعث عن الاستكبار إلى البهتان المنبعث عن الشعور بالمغلوبية.

والحق: يطلق اسما على ما قابل الباطل، وهو العدل الصالح، ويطلق وصفا على الثابت الذي لا ريبة فيه، والذي أثبت له المجيء هنا هو الآيات التي أظهرها موسى – عليه السلام – إعجازا لهم لقوله قبله: )ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا( (الأعراف: ١٠٣)، فكان جعل الحق جائيا بتلك الآيات صالحا لمعنيي الحق؛ لأن تلك الآيات لما كانت ثابتة لا ريبة فيها كانت في ذاتها حقا، فمجيئها حصولها وظهورها المقصود منه إثبات صدق موسى – عليه السلام – في رسالته فكان الحق جائيا معها، فمجيئه ثبوته كقوله سبحانه وتعالى: )وقل جاء الحق وزهق الباطل( (الإسراء: 81).

وبهذا يتبين أن الآية دالة على أن آيات الصدق ظهرت وأن المحجوجين أيقنوا بصدق موسى وأنه جاء بالحق، ولكنهم لجهلهم وعنادهم لم يميزوا بين السحر، وما هو من قبيل المعجزة التي هي آية من عند الله عز وجل، ولذا قال أولئك الظالمون: )إن هذا لسحر مبين (76)( (يونس).

واعتذارهم عن ظهور الآيات بأنها سحر هو اعتذار المغلوب العديم الحجة الذي قهرته الحجة وبهره سلطان الحق، فلم يبق له منتشب من المعارضة المقبولة فهو يهرع إلى انتحال معارضات بمعاذير لا تدخل تحت التمحيص ولا تثبت في محك النقد:

ولا بد للمغلوب من بارد العذر

وإذ قد اشتهر بين الدهماء من ذوي الأوهام أن السحر يظهر الشيء في صورة ضده، ادعى هؤلاء أن ما ظهر من دلائل صدق موسى هو سحر ظهر به الباطل في صورة الحق بتخييل السحر.

ومعنى ادعاء الحق سحرا أن دلائله من قبيل التخيلات والتمويهات، فكذلك مدلوله هو مدلول السحر وهو إنشاء تخيل باطل في نفوس المسحورين[1].

ولقد رد عليهم نبي الله موسى – عليه السلام – متعجبا من قولهم: أتقولون هذا الذي قلتم للحق الظاهر الذي هو أبعد الأشياء عن كيد السحر الباطل لما جاءكم وعرفتموه واستيقنته نفوسكم ورأيتموه بأعينكم، ورجفت عن عظمته قلوبكم، فهذا لا يمكن أن يكون سحرا من جنس ما تصنعه أيديكم، كيف والحال المعروف عندكم أن السحرة لا يفوزون في أمور الجد العملية من دعوة دين وتأسيس ملك وقلب نظام، وهو ما تتهمونني به على ضعفي وقوتكم؛ لأن السحر أمور شعوذة وتخييل لا تلبث أن تفتضح وتزول، ولما نفى موسى – عليه السلام – عن آيات الله أن تكون سحرا ارتقى، فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيرا لهم؛ لأنهم كانوا ينوهون بشأن السحر. فجملة: )ولا يفلح الساحرون (77)( (يونس) معطوفة على جملة: )أسحر هذا( (يونس: 77).

فالمعنى: هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح، أي لو كان ساحرا لما شنع حال الساحرين؛ إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته؛ لأنه لو رآها محقرة لما التزمها[2].

ثانيا. إيمان السحرة برب موسى وهارون – عليهما السلام – دليل على براءتهما من تهمة السحر:

ومن أدل الأدلة على أن ما جاء به موسى – عليه السلام – ليس سحرا – كما زعم فرعون وقومه – أن السحرة لما ظهرت لهم المعجزة واتضح لهم البرهان، وبطل سحرهم أمام موسى – عليه السلام – وعاينوا ذلك وشاهدوه – وهم ذوو خبرة بفنون السحر وصناعته وطرقه ووجوهه – علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى – عليه السلام – ليس من قبيل السحر والحيل، بل حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا إله قادر حكيم يقول للشيء: كن فيكون، فعند ذلك وقعوا لله سجدا وقالوا: آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون – عليهما السلام -، فكانوا أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء بررة، قال سبحانه وتعالى: )فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه).

الخلاصة:

جاء موسى – عليه السلام – فرعون ومن معه بآيات باهرة ومعجزات بينة، وقد أيقن فرعون ومن معه بصدق موسى عليه السلام، وأن ما جاء به هو الحق، ولكنه استكبر هو ومن معه، فاتهم موسى وهارون بأنهما ساحران. عنادا وتكذيبا لهما.

لما ألقى موسى – عليه السلام – عصاه ولقفت عصى وحبال السحرة، أيقن السحرة أن ما جاء به موسى – عليه السلام – لا يمكن أن يكون من قبيل السحر، بل هو الحق من ربهم، فوقعوا سجدا لله، وآمنوا برب موسى وهارون – عليهما السلام -.

 

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (طه/ 63، النمل/ 13، غافر/ 24، القصص/ 36، 48، يونس/ 76).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (يونس/ 77، طه/ 70، 72، 73).

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص248، 249 بتصرف.

[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص250.

المصدر

ادعاء المشركين أن سبب امتناعهم عن الإيمان هو عدم مجيء رسول لهم

مضمون الشبهة:

ادعى كفار قريش أن السبب في عدم إيمانهم هو عدم مجيء رسول لهم، ولذا أقسموا بالله – قبل إرسال الرسول – صلى الله عليه وسلم – إليهم – أنهم إن جاءهم نذير ليكونن أهدى من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل، قال تعالى: )وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)( (فاطر).

وجها إبطال الشبهة:

1)  مقولتهم هذه تدل على أنهم كانوا على بصيرة من أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويعلمون صدق رسالته.

2)  أرسل الله الرسل فكذبوا من أقوامهم عنادا واستكبارا وحسدا.

التفصيل:

أولا. مقولة المشركين هذه تدل على علمهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم:

هذه المقالة صدرت عن هؤلاء القوم قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – لما بلغهم أن اليهود والنصارى كذبوا الرسل، فصدرت عنهم في مجرى المحاورة والمفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة أو يقدمون هم عليهم إلى يثرب، أو بلاد الشام في أسفارهم، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى اتباع اليهودية أو النصرانية، فكان المشركون لا يجرءون على تكذيبهم؛ لأنهم كانوا مرموقين عندهم؛ إذ كانوا يفضلونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين، وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك، فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلا إلى العرب، ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم؛ وذلك كما قال سبحانه وتعالى: )أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم( (الأنعام)، وهذا يشبه قوله سبحانه وتعالى: )أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير( (المائدة: ١٩)، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الأولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169)( (الصافات).

وهذه الآيات – وغيرها – تدل على أنهم كانوا يعلمون صدق الرسل؛ ولذا رد الله عليهم شبهتهم هذه بإرسال الرسل إليهم لكنهم لم يزدادوا إلا نفورا واستكبارا وعنادا، قال سبحانه وتعالى: )فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)( (فاطر)، وقال أيضا: )فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة( (الأنعام: ١٥٧)، وقال أيضا: )فقد جاءكم بشير ونذير( (المائدة: ١٩).

والمعنى: أننا حققنا لكم ما كنتم تقسمون عليه فهلا أحللتم قسمكم ووفيتم بوعدكم.

وهكذا يسجل القرآن عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد – صلى الله عليه وسلم – بالكتاب المبين يودون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين، ويرجون لو كان ذلك أن يكونوا عبادا لله مخلصين، فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به، وذلك أفظع الكفر؛ لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره؛ إذ كانوا يتمنونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثله، فلم يكن كفرهم إذا عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر بل عن استكبار وعناد وتماد في الخطأ وعدم رجوع للحق، وإلا فقد زال العذر عنهم بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم[1].

ثانيا. سبب تكذيب المشركين للرسل هو الاستكبار والعناد والحسد:

ويبين الله – عز وجل – أيضا أن الذي منعهم من الإيمان بما جاء به الرسل هو استكبارهم وعنادهم حيث يعلمون الحق ولا يتبعونه، قال سبحانه وتعالى: )استكبارا في الأرض ومكر السيئ( (فاطر:43)، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها( (الأنعام:157)، وقال سبحانه وتعالى: )فكفروا به فسوف يعلمون (170)( (الصافات).

والعجيب أن هؤلاء المشركين قد أكدوا الأيمان في دعواهم تلك ووثقوها بكل ألفاظ التوكيد والتوثيق، ويكفي أنهم أقسموا بالله – عز وجل – جهد أيمانهم على الرغم من أنهم كانوا يحلفون بآبائهم وبأصنامهم؛ كما قال – سبحانه وتعالى – عنهم: )وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)( (فاطر).

وهذا التأكيد بالقسم مبني على اعتقادهم أنهم أكمل البشر فطرة، وأعلاهم استعدادا لكل فضيلة، وكان اعتقادا راسخا في عقولهم متمكنا من وجدانهم ومن أدلته ما رواه التاريخ لنا من المفاخرات بين بعض العرب والفرس، وإذا كانت قبائل العرب كلها تعتقد أن شعبهم أزكى من جميع الأعاجم فطرة وأذكى أفئدة وأعز أنفسا وأكمل عقولا وأفهاما وأفصح ألسنة وأبلغ بيانا، فما القول بقريش التي دانت لها العرب واعترفت بفضلها على غيرها منهم، ولكن جمهور سادة قريش وكبرائها قد استكبروا بذلك وعتوا عتوا كبيرا، حتى كذبوا بأعظم ما فضل الله به جيلهم وقومهم على جميع الأجيال والأقوام بالحق – وهو القرآن – وصدوا عنه وصدفوا عن آياته، فكان إقسامهم أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم حجة عليهم، وإن صدق على غيرهم من قريش ومن سائر العرب الذين اهتدوا بالكتاب فسادوا به جميع الأمم، وكانوا أئمة لها في دينها ودنياها ما داموا مهتدين به معتصمين بحبله، وإذا كان ذلك القسم صادرا عن عقيدة راسخة فلا جرم أنه لو لم يأتهم النذير بهذا الكتاب المنير لاعتذروا في الآخرة بهذا العذر[2].

الخلاصة:

لقد كان مشركو العرب يتفاخرون على أهل الكتاب بأنهم لو جاءهم رسول – كما جاء أهل الكتاب – لآمنوا به ولكانوا أهدى من جميع الأمم، وقد بين الله تعالى بطلان زعمهم هذا، فأرسل إليهم ما كانوا يرجون فكفروا به على بصيرة من أمره وعلى علم بصدقه.

إن السبب الحقيقي في امتناع هؤلاء المشركين عن الإيمان هو استكبارهم وعنادهم، إذ كانوا يعلمون الحق ولا يتبعونه، كما أخبر الله – عز وجل – عنهم في قوله: )استكبارا في الأرض ومكر السيئ( (فاطر: 43).

 

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (فاطر/ 42، الأنعام/ 156، 157، الصافات/ 167: 169).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (فاطر/ 42، 43، المائدة/ 19، الأنعام/ 157).

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج22، ص332.

[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج8، ص205.

المصدر

ادعاء ألوهية عيسى – عليه السلام – لأنه خالق مثل الله

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن عيسى – عليه السلام – يعمل أعمال الله؛ كالخلق، وأن الذي يخلق يعبد، استنادا إلى قوله سبحانه وتعالى: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، ويرمون بذلك إلى القول بألوهية عيسى عليه السلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) عيسى – عليه السلام – لم يخلق من عدم، ودوره اقتصر على النفخ فتحول الطين إلى طير بإذن الله، ومن ثم فلا مزية لسيدنا عيسى – عليه السلام – بهذا الخلق ترفعه لمقام الألوهية.

2) الإنجيل يشير إلى أن عيسى لم يدع الألوهية، ولم يدع علم الغيب الذي هو من خصائص الألوهية، فكيف ينسبون له الألوهية، وكتابهم – على الرغم من أنه محرف – لم ينسبها له.

التفصيل:

أولا. عيسى – عليه السلام – لم يخلق الطين من عدم، بل نفخ فيه؛ فتحول إلى طير بإذن الله:

عيسى – عليه السلام – لم يخلق من عدم، ولم ينسب إليه في القرآن هذا النوع من الخلق الذي لا يتصف به أحد إلا الله تعالى، فهذا الخلق الذي هو الإيجاد من عدم استقلالا ليس لأحد إلا لله، والقرآن الكريم أثبته لله – عز وجل – ونفاه عن غيره، وتحدى أن يقوم أحد من المعبودات التي تعبد من دون الله بخلق أي شيء مثل خلق الله، فقال سبحانه وتعالى: )هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه( (لقمان: ١١)، وقال سبحانه وتعالى: )والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20)( (النحل)،وقوله سبحانه وتعالى: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله( (آل عمران: ٤٩)، ويتضح من الآيات أن تحول الطين إلى طير ليس بيد عيسى – عليه السلام – وإنما هو بإذن الله، أما دور عيسى – عليه السلام – فهو مجرد النفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، وذلك معجزة له – عليه السلام – أجراها الله على يديه كما أجرى مثل ذلك على أيدي بعض أنبياء بني إسرائيل[1].

الخلق لله هو الصنع والتقدير والإبداع من عدم وعلى غير مثال سابق، أما لعيسى فهو تصوير على مثال، يوضح ذلك صاحب كتاب “مدرسة الأنبياء” فيقول: صنع نبي الله عيسى ابن مريم – عليه السلام – تمثالا من الطين كهيئة الطير، قيل: على صورة الخفاش أو الوطواط، ثم نفخ فيه فكان طائرا بإذن الله وفي ذلك يقول القرآن الكريم: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني( (المائدة: ١١٠). وفي هذا الإطار ينبغي توضيح ما يلي:

لا يفهم من نسبة الخلق إلى عيسى – عليه السلام – أنه شارك الله في الخلق، ذلك أن معنى الخلق هو التقدير والتصوير، ومعنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير أي: أقدر وأصنع وأصور مثل هيئة الطير، والخلق إذا نسب إلى الإنسان فهو صنع وتقدير على مثال سابق، وإذا نسب إلى الله فهو الصنع والتقدير، والإبداع على غير مثال سابق.

وبناء على ذلك فإن عيسى صنع تمثالا من الطين، ولم يوجد الطين من العدم، والله هو خالق الطين الذي هو مادة الطير. إن عيسى – عليه السلام – صنع التمثال على هيئة الطير، فهو لم يبتكر شكله من عنده، والله هو خالق الهيئة والصورة. إن عيسى – عليه السلام – إنما صنع ذلك بإذن الله الذي علمه الصنعة، ولولا الإذن الإلهي ما استطاع ذلك. إن النفخة التي نفخها – عليه السلام – في الطين فتحول بها إلى طير كانت بإذن الله، وهذا يعني أن الأمر كله متوقف على إذن الله، خالق الروح وواهبها[2].

لقد جاءت كلمة: )بإذن الله( من قول عيسى – عليه السلام – وعلى لسانه، فهذا اعتراف منه بأن ذلك ليس من صنعه، لكنه بإذن الله، وإنما هو إنسان وعبد لله يفعل ما يأذن له به الله، وكأنه – عليه السلام – يريد أن يقول لقومه: إن كنتم فتنتم بهذا فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم – عليه السلام – من باب أولى، حينما قطع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاه.

وبهذا البيان يتضح لنا أن معجزات السيد المسيح – عليه السلام – وقد ذكر القرآن بعضها، إنما هي كسائر معجزات الأنبياء لا تدل على ألوهيته، وإنما تدل على صدق نبوته وبشريته عليه السلام.

ثانيا. الإنجيل يشير إلى أن عيسى لم يدع الألوهية، ولم يدع علم الغيب الذي هو من خصائص الألوهية:

والإنجيل يشير إلى أن عيسى – عليه السلام – لم يدع الألوهية، ولم يدع علم الغيب، فلم يعرف 0موعد الساعة: “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب”. (مرقس 13: 32)، وكذلك لما طلب منه إحياء أخي مرثا، فذهبت أخته مريم معه إلى الجبانة، وهناك سألها: “أين وضعتموه”؟ (يوحنا 11: 34)، وكذلك لم يعرف مدة مرض المجنون، فقد سأل أباه: “كم من الزمن منذ أصابه هذا”؟ فقال: منذ صباه”. (مرقس 9: 21)، كذلك جاء شجرة التين هو وأصحابه؛ ليصيبوا منها ما يسد مـخمصتهم، فلم يجدوا فيها شيئا: “فنظر شجرة تين على الطريق، وجاء إليها فلم يجد فيها شيئا إلا ورقا فقط”. (متى 21: 19)، كما بين إنه رسول الله، حيث قال: “لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني”. (يوحنا 5: 30)، كما شهدت له مرثا أنه نبي الله وحبيبه: “ولكني الآن أيضا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه”. (يوحنا 11: 22)، كما دعا الله وقت محنته فقال: “يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت”. (متى 26: 39)، كما كان معروفا بين شعبه أنه نبي: “فقال لهما: «ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟» فأجاب أحدهما، الذي اسمه كليوباس وقال له:«هل أنت متغرب وحدك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟» فقال لهما:«وما هي؟» فقالا: المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنسانا نبيا مقتدرا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب”. (لوقا 24: 17 – 19)، كذلك نادته مريم المجدلية بقولها: “ربوني الذي تفسيره: يا معلم”. (يوحنا 20: 16)، والربانيون من الأحبار المعلمون في المعبد من نسل لاوي، وليست هذه من صفات الله، بل هي من صفات المخلوق الذي يناجي ربه.

الخلاصة:

عيسى – عليه السلام – لم يخلق الطين الذي خلق منه الطير، ولم يخلق الطير وكل دوره هو النفخ في هذا الطير فصار طيرا بإذن الله عز وجل.

معنى الخلق المنسوب إلى عيسى – عليه السلام – هو التقدير والتصوير، على مثال سابق، أما الخلق لله فهو الصنع والتقدير والإبداع على غير مثال سابق، فهو الإيجاد من عدم؛ لأن الله هو خالق الطين الذي هو مادة الطير، فدور عيسى – عليه السلام – هو تصوير هذا الطين على هيئة الطير ثم ينفخ فيه فيحول إلى طير بإذن الله تعالى، وهذا يعني أن الأمر متوقف على إذن الله تعالى، وبهذا البيان يتضح جليا لكل ذي عقل أن هذه معجزة لعيسى – عليه السلام – أجراها الله على يديه مثل الذي أجراه الله تعالى على يد إبراهيم – عليه السلام – تأييدا له وتصديقا لنبوته وهو عبد الله ورسوله.

تشير الأناجيل إلى أن عيسى – عليه السلام – لم يدع الألوهية كما لم يدع علم الغيب الذي هو من خصائص الألوهية.

 

(*) هذا هو الحق: رد على مفتريات كاهن الكنيسة، محمد عبد اللطيف بن الخطيب، المطبعة المصرية، القاهرة، 1399هـ/ 1977م.

[1]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص435.

[2]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص325، 326.

المصدر

ادعاء أن الرسل ينبغي ألا يأكلوا أو يتزوجوا؛ لأن هذا نقص في حقهم

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن الأنبياء ليس لهم أن يكونوا من البشر العاديين الذين يأكلون ويتزوجون ويتناسلون؛ لأن ذلك يمثل هبوطا وسقوطا يشينهم، هادفين من وراء ذلك إلى نفي النبوة عن البشر.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  أهلية البشر لتحمل الرسالة الإلهية أمر أثبتته التجربة العملية والتاريخ الإنساني.

2)  أرسل الله – سبحانه وتعالى – إلى خلقه من هم من جنسهم؛ حتى تتحقق القدوة والأخذ عنهم؛ لأن في المخالفة ذريعة للناس في ألا يقتدوا بهم، متعللين بأنهم ليسوا من جنسهم، وأنهم لا يقوون على ما يقوى عليه هؤلاء الأنبياء.

3)  مقتضى بشرية الأنبياء والرسل تجعلهم: يأكلون ويشربون ويتزوجون ويولد لهم، ويتعرضون للبلاء، و يشتغلون بأعمال البشر.

4)  لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال.

التفصيل:

أولا. أهلية البشر لتحمل الرسالة الإلهية:

إن الله – عز وجل – خلق الإنسان في أحسن تقويم وفضله وكرمه على سائر المخلوقات؛ قال سبحانه وتعالى: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء)، وكرمنا أي: جعلنا لهم كرما، أي: شرفا وفضلا، وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة.. وقيل: كرمهم بالنطق والتمييز.. وقيل: بتسليطهم على الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل: بالكلام والخط، وقيل: بالفهم والتمييز.

والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء[1].

وشاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم: )قل إنما أنا بشر مثلكم( (الكهف: ١١٠)، أما الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمل الرسالة فلا يقدرون الإنسان قدره؛ فالإنسان مؤهل لتحمل الأمانة العظمى، التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها قال سبحانه وتعالى: )إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72)( (الأحزاب).

وهؤلاء الذين استعظموا اختيار الله البشر رسلا، نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته: )وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7)( (الفرقان)، ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)( (الحجر)، وبهذه الروح تميز الإنسان، وصار إنسانا، واستخلف في الأرض، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته، فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس، صاحب استعداد للتلقي، فيوحى إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا بحاجة إلى العون: )قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)( (إبراهيم).

ثم إن الرسل يعدون إعدادا خاصا؛ لتحمل النبوة والرسالة، ويصنعون صنعا فريدا: )واصطنعتك لنفسي (41)( (طه)، واعتبر هذا بحال نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كيف رعاه وأحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره: )ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)، وقد زكاه وطهره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظ الشيطان منذ كان صغيرا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست[2] من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره[3] – فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره»[4].

وحدث قريب من هذا عندما جاء جبريل – عليه السلام – يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلا، ففي حديث الإسراء: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل – عليه السلام – ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه»[5] [6].

ثانيا. أرسل الله – سبحانه وتعالى – الرسل إلى خلقه من جنسهم حتى تتحقق القدوة والأخذ عنهم:

لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر، وكان هذا الأمر من أعظم ما صد الناس عن الإيمان: )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94)( (الإسراء)، وعدوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشرا فيما جاءوا به من عقائد وشرائع أمرا قبيحا، وعدوه خسرانا مبينا: )ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34)( (المؤمنون). )فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24)( (القمر)[7].

وقد اقترح أعداء الرسل أن يكون الرسل الذين يبعثون إليهم من الملائكة يعاينونهم ويشاهدونهم، أو على الأقل يبعث مع الرسول البشري رسول من الملائكة: )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94)( (الإسراء)، )وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7)( (الفرقان).

وعندما نتأمل النصوص القرآنية، يمكننا أن نرد عليهم من أربعة وجوه هي:

أن الله اختارهم بشرا لا ملائكة؛ لأنه أعظم في الابتلاء والاختيار؛ ففي الحديث القدسي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»[8].

أن في هذا إكراما لمن سبقت لهم منه الحسني، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلا تكريما وتفضيلا لهم: )أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)( (مريم).

أن البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة، يقول سيد قطب في هذا: “وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحس بإحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم… ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم؛ لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق، وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة؛ لأنه بشر مثلهم، يتسامى بهم رويدا رويدا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونها سطرا سطرا، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها؛ لأنها ممثلة في إنسان”[9].

ولو كان الرسل من الملائكة، ما استطاع البشر أن يأخذوا عنهم أو يجتمعوا، ولكان للناس حجة في عدم اتباع الرسل أن يقولوا: هؤلاء الذين بعثهم الله إلينا وأمرنا باتباعهم ليسوا من جنسنا.. ليسوا بشرا إنما هم ملائكة، وطبيعتنا تختلف عن طبيعتهم فهم أسمى منا خلقا، وأطهر منا عملا وأكرم مقاما؛ لأن الملائكة أطهار كما أخبر عنهم رب العزة عز وجل: )لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)( (التحريم)، وأنهم دائما في عبادة لا ينقطعون عنها أبدا: )يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20)( (الأنبياء)، ثم إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وليس فيهم شهوة أو ميل إلى المعصية؛ لأنهم عباد مكرمون.. ولما كان الغرض من بعثة الأنبياء أن يكونوا سفراء بين الله وعباده حتى يبلغوا مراده إليهم، كان لا بد أن يكون السفير ممن يمكن الاجتماع به والأخذ عنه، وأن يكون قدوة للبشر في سلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم، ولا يكون ذلك إلا ممن اتحد معهم في الخصائص والصفات[10].

صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك.

فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية، عندما رأى جبريل – عليه السلام – على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يعاني من اتصال الوحي به شدة، ولذلك قال في الرد عليهم: )يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22)( (الفرقان)، ذلك أن الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قدر أنهم رأوا الملائكة كان ذلك اليوم يوم هلاكهم.

فكان إرسال الرسل من البشر ضروريا؛ كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة ما أمكنهم ذلك: )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)( (الإسراء).

فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولا من جنسهم، أما وإن الذين يسكنون الأرض بشر، فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)( (آل عمران).

وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة، فإن ذلك يقتضي – لو شاء الله أن يرسل ملكا رسولا إلى البشر – أن يجعله رجلا: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا( (الأنعام: ٩)، فالله يخبر أنه “لو بعث رسولا ملكا”، لكان على هيئة رجل، يمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لاختلط الأمر عليهم[11]. وقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى في معرض الرد على المشركين، حين طلبوا أن يكون النبي المرسل من الملائكة لا من البشر: )وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)( (الأنعام).

ومعنى الآية الكريمة: لو جعلنا النبي ملكا كما اقترحوا، لجعلناه في صورة رجل من البشر؛ ليمكن اجتماعهم به وأخذهم عنه، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر، هل هو ملك أو بشر؟ فيشكون في أمره، ويعودون إلى سيرتهم الأولى في طلبهم أن يكون النبي من الملائكة[12].

قال العلامة القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: قوله سبحانه وتعالى: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا(، أي: أنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كل جنس يألف بجنسه، وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله – عز وجل – الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقابلته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به، ويسكنوا إليه، لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم، حيث كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه بشر، وليس بينه وبينهم فرق، فيلبسون على الناس بهذا ويشككونهم، فأعلمهم الله – عز وجل – أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل؛ لأوجدوا سبيلا إلى اللبس – الشك – كما يفعلون.

ثالثا. مقتضى كون الأنبياء بشرا أن يتصفوا بالصفات التي لاتنفك البشرية عنها:

يوضح د. عمر الأشقر في كتابه “الرسل والرسالات” أبرز تلك الصفات على النحو التالي:

الرسل يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم:

الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب، ويحدثون كما يحدث البشر؛ لأن ذلك من لوازم الطعام والشراب: )وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)( (الأنبياء).

ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر لهم آباء وأمهات، وأعمام وعمات وأخوال وخالات، يتزوجون ويولد لهم قال سبحانه وتعالى: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38)( (الرعد).

 ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض، فهم ينامون ويقومون، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر من الموت، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه: )والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81)( (الشعراء)، وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: )إنك ميت وإنهم ميتون (30)( (الزمر)، وقال مبينا أن هذه سنة في الرسل كلهم: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران)،[13] وقد جاء في وصف الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الأسود قال: «سألت عائشة: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله – تعني خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» [14] [15].

تعرض الأنبياء للابتلاء:

ومن مقتضى بشرية الرسل أنهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر، فقد يسجنون، كما سجن يوسف عليه السلام: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33)( (يوسف)، وذكر الله أنه:)فلبث في السجن بضع سنين( (يوسف: ٤٢)، وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم، كما أصابوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – في غزوة أحد؛ فأدموه وكسروا رباعيته، وقد يخرجونهم من ديارهم، كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام، وكما هاجر نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، وقد يقتلونهم قال سبحانه وتعالى: )أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)( (البقرة)، وقد يصابون بالأمراض، كما ابتلى الله نبيه أيوب فصبر، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم «أن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه»[16].

وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله، وكان ذا مال وولد كثير: )وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)( (الأنبياء)، والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب، بل هم أشد الناس بلاء، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» [17].

«ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهو يوعك،[18] فوضع يده على الرسول – صلى الله عليه وسلم – فوجد حره بين يديه فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: “إنا كذلك، يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر”، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ فقال: “الأنبياء”، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: “ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة التي يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء»[19].

اشتغال الأنبياء بأعمال البشر:

ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر، فمن ذلك اشتغال الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالتجارة قبل البعثة، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم، فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نجني الكباث[20]، وإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “عليكم بالأسود منه، فإنه أطيبه”، قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها». [21]

ومن الأنبياء الذين نص القرآن على أنهم رعوا الغنم نبي الله موسى – عليه السلام – فقد عمل في ذلك عدة سنوات، فقد قال له العبد الصالح: )قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27)( (القصص). قال ابن حجر: والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم؛ ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم.

ومن الأنبياء الذين عملوا بأعمال البشر داود – عليه السلام – فقد كان حدادا يصنع الدروع، قال سبحانه وتعالى: )وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)( (الأنبياء)، وفي نفس الوقت كان ملكا، وكان يأكل مما تصنعه يداه. ونبي الله زكريا كان يعمل نجارا، فعن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «كان زكريا نجارا»[22] [23].

رابعا. لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال:

ليس الهبوط أن يشتهي المرء طعاما أو امرأة، وإنما الهبوط أن يأكل المرء من سحت، أو يتصل بمن لا تحل له. والعجب أن يعيب هؤلاء على بشر مثلهم، ثم يقلدونهم في قولهم، فأصحاب تلك الدعوات لم يكونوا خالقيها، وإنما اقتبسوا من غيرهم قولهم، فقد جاء النص:

 )قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون (14)( (فصلت)، وتولى القرآن الرد: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)( (الأنعام)؛ لأنه لا يمكن أن يتعامل ملك على ملائكيته مع بشر على بشريته؛ وذلك لأمر أراده الإسلام في موضع النبوة، وذلك أن فيه الأسوة، وكيف يتأسى بمن خالف طبيعته، فلو ذكر لمعاند قوله سبحانه وتعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب) ليقول: ومن أين لي وأنا بشر وهو ملك؟

لكن الله لما شاء وجودهم أنبياء جعلهم بشرا؛ حتى يسهل التأسي بهم ومتابعتهم، إن هذا الفهم السقيم بقية باقية من فهم الأمم السابقة، وخاصة أهل الكتاب في كتابهم المقدس، تلك المفاهيم الممتزجة بكل باطل، فالنبي عندهم أشبه بالكهنة والعرافين، وهم بين متخبطين في الرذائل ساقطين سقوط أدنى البشر أو متألـهين، وهذا الخليط المترنح لا يستقر على وضع مستقيم حتى في الاعوجاج نفسه.

وقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن اجتناب ما أحله الله؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[24].

الخلاصة:

شاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم: )قل إنما أنا بشر مثلكم( (الكهف: 110)؛ لذا أعدهم الله إعدادا خاصا؛ لتحمل أعباء النبوة والرسالة، وصنعهم صنعا فريدا: )واصطنعتك لنفسي (41)( (طه)، واعتبر هذا بحال نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كيف رعاه وأحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره، وقد زكاه وطهره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظ الشيطان مذ كان صغيرا.

لم يرسل الله – عز وجل – إلى عباده رسلا من الملائكة، ولكن أرسل إليهم رسلا من البشر؛ كي تسهل مخاطبتهم، والأخذ عنهم، ولاتفاقهم في الخلقة والصفات؛ لأنهم أسوة وقدوة للبشر جميعا، فكيف يكون الأسوة والقدوة من غير جنسهم؟

كون الرسل بشرا يقتضي أن يتصفوا بصفات البشر، كالأكل والشرب والزواج والنوم والابتلاء، وغيرها من صفات البشر؛ لأن هؤلاء الأنبياء لا بد أن تكون لهم سنن في كل متطلبات الحياة من مأكل ومشرب وزواج ونوم وغيرها؛ ليقتدي بها الناس في حياتهم، وهذا لا يتحقق إلا بكونهم بشرا.

لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال، وهذا ما حرمه الله على الأنبياء وغيرهم من البشر.

 

(*) النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ.

[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص294.

[2]. الطست: إناء كبير مستدير مصنوع من نحاس وغيره.

[3]. الظئر: المرضعة غير ولدها، ويقع على الرجل والمرأة.

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات وفرض الصلوات (431).

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلوات، باب كيف فرضت الصلوت في الإسراء (342)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفرض الصلوات (433).

[6]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص63: 65.

[7]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص65.

[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).

[9]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص65: 67.

[10]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص19.

[11]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68.

[12]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص20.

[13]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68، 69.

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من كان في حاجة على أهله فأقيمت الصلاة فخرج (644)، وفي مواضع أخرى.

[15]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص143.

[16]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 299) برقم (3617)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر وثواب الأمراض (2898)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (17).

[17]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (1607)، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (2398)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (143).

[18]. يوعك: أصابه مرض من شدة الحمى والتعب.

[19]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (4024)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3250).

[20]. الكباث: ثمر الأراك.

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) يعكفون على أصنام لهم ( (الأعراف: ١٣٨) (3225)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث (5470)، واللفظ للبخاري.

[22]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل زكريا ـ عليه السلام ـ

(6312).

[23]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68: 72.

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3469).

المصدر

ادعاء أن الذبيح هو إسحاق – عليه السلام – وليس إسماعيل عليه السلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين اليهود أن الذبيح هو إسحاق – عليه السلام -، وليس إسماعيل – عليه السلام – كما جاء في القرآن الكريم، ويهدفون من وراء ذلك إلى نسبة الشرف والتضحية والفداء لأنفسهم وأجدادهم، مجردين العرب من كل فضل.

وجوه إبطال الشبهة:

1) سياق الآيات في القرآن الكريم يدل على أن الذبيح هو إسماعيل، وليس إسحاق – عليه السلام – وكذلك السنة النبوية المطهرة.

2) النصوص الواردة في التوراة بشأن الذبيح تدل على أنه إسماعيل – عليه السلام – وقد أصابها التحريف بحذف اسم إسماعيل – عليه السلام -، ووضع إسحاق – عليه السلام – مكانه؛ ليرفعوا من شأن من انتسبوا إليه.

3) اقتداء المسلمين بأبيهم إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – في مناسك الحج يدل على أن الذبيح إسماعيل، وإلا فلماذا اختص المسلمون دون غيرهم من اليهود بأداء هذه المناسك؟!!

التفصيل:

أولا. سياق الآيات في القرآن يدل على أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – وليس إسحاق – عليه السلام – وكذلك السنة النبوية المطهرة:

جاءت آيات سورة الصافات ناطقة بأن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – قال تعالى على لسان إبراهيم: )رب هب لي من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101) فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذلك نجزي المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)( (الصافات).

ولا شك أن الضمير في “عليه” راجع إلى الذبيح وهو إسماعيل – عليه السلام – فالآيتان بالبشرى بإسحاق – عليه السلام – بعد ذكر القصة صريحتان، في أن إسحاق – عليه السلام – غير الغلام الذي ابتلى الله إبراهيم – عليه السلام – بذبحه، وعود الضمير إلى الغلام الذبيح، وذكر اسم إسحاق – عليه السلام – معه صريحا يقتضي التغاير بين الذبيح وإسحاق – عليه السلام.

وأما القصة في التوراة فبطلها إسحاق – عليه السلام – حشر اليهود اسمه في هذه القصة؛ حرصا منهم على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاد بنفسه صغيرا في طاعة الله، وذلك لينالوا التشريف والتكريم الإلهي.

والآيات ذكرت سؤال إبراهيم – عليه السلام – ربه أن يهبه من الصالحين، وهو سؤال يشعر بأنه صدر منه قبل إنجابه فتكون إجابة الله بأن رزقه ابنه الأول وهو إسماعيل عليه السلام.

والله تعالى وصف الغلام الموهوب بأنه حليم فقال: )فبشرناه بغلام حليم (101)( (الصافات)، بينما وصف إسحاق بأنه عليم فقال: )قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم (53)( (الحجر)، حيث كانت أمه سارة حاضرة هذه البشرى وتوضحها آية هود: )وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71)( (هود).

إن الآيات في سورة الصافات بعد أن فرغت من قصة الذبيح أخبرت أن الله كافأ الوالد على صبره على البلاء بأمرين، أولهما: فداء ابنه بذبح عظيم، ثانيهما: بشارته بإسحاق نبيا من الصالحين.

وعطف الحديث عن إسحاق – عليه السلام – في قوله: )وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112)( (الصافات) على قوله تعالى: )فبشرناه بغلام حليم (101)( (الصافات)، يدل على أن الذبيح غير إسحاق؛ لأن العطف يقتضي المغايرة وما ذاك إلا إسماعيل عليه السلام.

ويؤكد ذلك أن الضمير في كلمة “عليه” في قوله تعالى: )وباركنا عليه وعلى إسحاق( (الصافات: 113) يعود على الغلام الحليم ولا يعود على إبراهيم – عليه السلام – لأنه لو عاد عليه – أي إبراهيم – لكان في ذكر إسحاق – عليه السلام – عبث يتنزه الكلام عنه؛ لأن إسحاق – عليه السلام – من ذرية إبراهيم – عليه السلام – فكأنه ذكر مرتين.

إن الله – عز وجل – قد بشر سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب – عليهما السلام -، فكيف يأمر الله إبراهيم بذبح إسحاق – عليه السلام – وقد أخبره أنه سيكبر ويتزوج ويولد له ولد اسمه يعقوب[1]؟

“وقال محمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فزوة الأسلمي، عن محمد بن كعب: أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – وهو خليفة إذ كان معه بالشام يعني استدلاله بقوله بعد العصمة: )فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71)( (هود)، فقال له عمر: إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، قال: فسأله عمر بن عبد العزيز: أي ابن إبراهيم – عليه السلام – أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل – عليه السلام – والله يا أمير المؤمنين، وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق – عليه السلام – لأن إسحاق – عليه السلام – أبوهم”[2].

ثانيا. دلت التوراة على أن الذبيح هو إسماعيل، وليس إسحاق – عليه السلام -:

إن المتصفح لما ورد في التوارة بشأن الذبيح، يجد أن الأوصاف التي ذكروها عن الذبيح تنطبق تماما على إسماعيل دون إسحاق – عليهما السلام – وهذا يدل صراحة على تحريف اليهود قصة الذبيح حيث جعلوا إسحاق مكان إسماعيل – عليهما السلام -، والدليل على ذلك من التوراة نفسها؛ حيث وصفت الذبيح بأنه ولد إبراهيم – عليه السلام – الوحيد، أي: الذي ليس له سواه، وهو ما يدل على سخاوة نفس إبراهيم – عليه السلام – بولده الوحيد بذبحه امتثالا لأمر ربه له في المنام، أما إسحاق فلم يكن وحيدا لإبراهيم في يوم من الأيام؛ لأن إسحاق – عليه السلام – ولد وإسماعيل عنده أربع عشرة سنة، كما صرحت التوراة بذلك، وبقي إسماعيل – عليه السلام – إلى أن مات أبوه إبراهيم – عليه السلام – وحضر إسماعيل – عليه السلام – وفاته ودفنه، وكذلك فإن قضية ذبح إسحاق – عليه السلام – تناقض الوعد الذي وعد به إبراهيم – عليه السلام – من أن إسحاق – عليه السلام – سيكون له نسل[3].

فهذه مصارحة بأن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – ولكن الحقد والحسد والكراهية اليهودية للعرب تدفعهم إلى نكران كل حقيقة، وتبديل كل نص صحيح.

وثمة دليل آخر من التوراة يثبت أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – لأن إسماعيل – عليه السلام – هو الذي أقام بمكة وليس إسحاق

جاء في سفر التكوين: “فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها والولد وصرفها. فمضت وتاهت في برية بئر سبع”. (التكوين21: 14)، “وسكن في برية فاران وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر”. (التكوين21: 21).

والذي يلاحظ من العددين السابقين من سفر التكوين أن البلاد التي سكنها إسماعيل – عليه السلام – وأمه إنما هي برية بئر سبع، ثم ذهب إلى فاران. ولم يذكر الوادي الذي هو مكة اليوم، وفاران تطلق على مواضع منها جبال مكة.

ويدل على أن إسماعيل – عليه السلام – سكن مكة ما جاء في سفر التكوين: “وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور. أمام جميع إخوته نزل”. (التكوين 25: 18)[4]. فهل ذهب إسحاق – عليه السلام – إلى مكة؟! والأدلة الثابتة تاريخيا تؤكد وتثبت أن قصة الذبح تمت في مكة.

وبهذا يتضح جليا بطلان زعم اليهود بأن الذبيح هو إسحاق – عليه السلام – كما يتضح أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – بنص التوراة والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ثالثا. إسماعيل – عليه السلام – هو الذي أقام بمكة وليس إسحاق عليه السلام:

لقد أقام سيدنا إسماعيل – عليه السلام – بمكة منذ أن جاء مع أمه طفلا رضيعا في القصة المشهورة، ثم أتم بناء البيت مع أبيه؛ قال تعالى: )وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127)( (البقرة)، ثم دفن نبي الله إسماعيل بالحجر مع أمه هاجر، وكان عمره يوم أن مات مائة وسبعا وثلاثين سنة[5].

وبناء على هذا فلو كان الذبيح إسحاق – عليه السلام – لكانت مسألة الذبح والفداء وما يتعلق بهما من مناسك قد وقعت بأرض الشام، حيث عاش هناك سيدنا إسحاق، أما وهي تفعل في أرض الحجاز حيث ولد وعاش إسماعيل – عليه السلام – فهذا دليل من الواقع على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام[6].

ومما يؤكد هذا: أن إبراهيم بنى بيتا لله بمكة قبل أن يبني بيتا آخر بنحو أربعين سنة، كما في حديث أبي ذر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن شأن بيوت العبادة في ذلك الزمان أن تقرب فيها القرابين، فقربان أعز شيء على إبراهيم – عليه السلام – هو المناسب لكونه قربانا لأشرف هيكل، وقد بقيت في العرب سنة الهدايا في الحج كل عام، وما تلك إلا تذكرة لأول عام أمر فيه إبراهيم – عليه السلام – بذبح ولده وأنه الولد الذي بمكة… ولقد وردت روايات في حكمة تشريع الرمي في الجمرات من عهد الحنيفية، أن الشيطان تعرض لإبراهيم – عليه السلام – ليصده عن المعنى من ذبح ولده، وذلك من مناسك الحج لأهل مكة، ولم تكن لليهود سنة “ذبح معين”[7].

وقال سفيان: لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا. وكذا روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة حتى يبس[8].

مما سبق يتضح لنا أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – لأنه هو المقيم بمكة، ولا نعلم هل قدمها إسحاق – عليه السلام – في حال صغره أم لا، والله أعلم.

الخلاصة:

تشير الآيات الواردة في القرآن الكريم إلى أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – وذلك لأن الله تعالى بعد ما وضح صبر إبراهيم – عليه السلام – وامتثاله لأمر الله – عز وجل – بشره بمولود له جديد اسمه إسحاق، ومن ذريته يعقوب – عليهما السلام – وإلا فكيف يبشره بإسحاق ومن ورائه يعقوب – عليه السلام – ثم يأمر إبراهيم – عليه السلام – أن يذبحه؟! والقرآن أقوى في حجته من التوراة؛ لأنه لم يصبه التحريف كالتوراة التي أخبرنا الله تعالى بتحريفها، ومن أصدق من الله قيلا.

تدل النصوص الواردة في التوراة على أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام ـوليس إسحاق، وذلك لأن الابن الوحيد والبكر لسيدنا إبراهيم هو سيدنا إسماعيل – عليه السلام – وليس إسحاق – عليهم السلام جميعا – حيث تعترف التوراة بأن إسحاق – عليه السلام – ولد وعمر إسماعيل – عليه السلام – أربع عشرة سنة، فكيف يكون البكر؟! وكيف يكون الوحيد؟! وهذا يدل على تحريف اليهود للتوراة بذكرهم إسحاق – عليه السلام – بدلا من إسماعيل – عليه السلام – ليكون لهم الفضل والشرف دون أمة العرب أبناء إسماعيل عليه السلام.

اختصاص الله – عز وجل – أمة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بأداء مناسك الحج، اقتداء بسنة أبيهم إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – فلماذا لم يؤمر اليهود بأداء هذه المناسك إن كان الذبيح هو إسحاق – عليه السلام – الذي ينتسبون إليه؟! ولماذا كانت هذه المناسك في مكة موطن إسماعيل، ولم تكن في الشام موطن إسحاق عليه السلام؟! ألا تعد كل هذه الدلائل كافية على أن الذبيح هو إسماعيل – عليه السلام – لا إسحاق عليه السلام!

 

(*) دراسات لغوية مقارنة، د. محمد صالح توفيق، مطبعة الزهراء، القاهرة، د. ت. موقع صيد الفوائد. www.sauid.net

[1]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص81.

[2]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص127.

[3]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص135، 136.

[4]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص152.

[5]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص169.

[6]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج20، ص12805.

[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج23، ص158.

[8]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص125.

المصدر

ادعاء أن إسماعيل – عليه السلام – ليس نبيا من الأنبياء

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن إسماعيل – عليه السلام – ليس نبيا من الأنبياء كما جاء في القرآن، مستدلين على ذلك بما جاء في التوراة؛ من أن النبوة تكون في إسحاق وبنيه. ويتساءلون: كيف يكون إسماعيل – عليه السلام – نبيا والتوراة تصفه بأنه إنسان وحشي، يده على كل واحد ويد كل واحد عليه أي: إنه سيكون سفاحا وضيعا؟

وجها إبطال الشبهة:

1) إسماعيل – عليه السلام – نبي من الأنبياء ورسول من الرسل بأدلة القرآن، ونفي بعضهم لنبوته – عليه السلام – جحد للحقائق.

2) على الرغم من تحريف التوراة فقد صرحت بنبوة إسماعيل – عليه السلام – لكنه الحقد اليهودي الذي يريد أن يسلب العرب كل فضل.

التفصيل:

أولا. إسماعيل – عليه السلام – نبي من الأنبياء، بأدلة القرآن والتوراة، ونفي بعض المشككين لنبوته جحد للحقائق:

النبوة ثابتة لإسماعيل – عليه السلام – بما جاء في القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو الحجة القاطعة؛ لأنه كلام رب العالمين، الذي لم تمتد إليه يد البشر بأي تحريف، مهما حاول المغرضون إخفاء هذه الحقيقة، فلا تزداد بمرور الزمن إلا وضوحا، فكل يوم يثبت للعلماء أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون كلام بشر، ولم يستطع أحد أن يأخذ عليه مأخذا منذ نزوله حتى الآن، وكذلك لن يستطيع أحد أن يجد فيه ما يمكن أن يؤخذ عليه، فالقرآن هو الحكم فيما يثبت وفيما ينفي.

وقد أثبت القرآن نبوة إسماعيل – عليه السلام – في غير موضع، فقال: )واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54)( (مريم)، وقال: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة)، وقال: )قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران). فهذه كلها آيات بينات تثبت نبوة إسماعيل عليه السلام.

العهد القديم ليس حجةبما ناله من تحريف على أيدي البشر:

العهد القديم ليس حجة فيما يذكره، وما لا يذكره؛ لما ناله من تحريف وتبديل على أيدي البشر، فهو ليس كتابا من عند الله، بل كتبه البشر بأيديهم )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة). ووجود الأخطاء والتناقضات في الكتاب المقدس أمر شائع.

وقد ثبت التحريف من وجوه كثيرة سطرتها أيدي العلماء، في بحوثهم المجردة عن كل ميل[1].

وهب أن العهد القديم لم يذكر نبوة نبي من الأنبياء، فهل يعني ذلك نفيها؟ فكما أن الذكر فيه لا يثبت شيئا، فكذلك لا يعني عدم ذكره لشيء أو حقيقة ما أن ذلك الشيء غير حقيقي، وعليه فلا مانع عقلا من أن تثبت نبوة إسماعيل – عليه السلام – من طريق آخر، حيث أثبتها القرآن الكريم.

ثانيا. على الرغم من تحريف التوراة فإنها صرحت بنبوة إسماعيل – عليه السلام -، ولكنه الحقد اليهودي الذي يريد أن يسلب العرب كل فضل:

ومع ذلك فإن التوراة صرحت بأن العهد – وهو تعبير توراتي عن النبوة – في نسل إبراهيم – عليه السلام – جميعا إلى الابن، ونسل إبراهيم يشمل ابنيه إسماعيل وإسحاق – عليهم السلام جميعا – وذريتهما، وجاء في سفر التكوين بعد ولادة إسماعيل وقبل ولادة إسحاق: “ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة، ظهر الرب لأبرام، وقال له: أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملا؛ فأجعل عهدي بيني وبينك… وأقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك، في أجيالهم عهدا أبديا، لأكون إلها لك، ولنسلك من بعدك”. (التكوين 17: 1ـ 8).

إن هذا النص صريح في أن عهد النبوة الذي وعد الله به إبراهيم – عليه السلام – لجميع نسله، بلا تفرقة بين نسله من إسماعيل – عليه السلام – أو نسله من إسحاق – عليه السلام – بل إن هذا النص جاء تحديدا قبل بشارته بإسحاق عليه السلام.

ونسل إبراهيم – عليه السلام – يشمل إسماعيل وإسحاق – عليه السلام – ومن جاء من نسلهما، ولكن اليهود أرادوا إخفاء هذه الحقيقة، فعادوا يقصرون العهد الإلهي على إسحاق – عليه السلام – وبنيه، وراحوا ينفونها عن إسماعيل – عليه السلام – وبنيه؛ عداء لإسماعيل – عليه السلام – وحقدا وحسدا للعرب الذين هم من نسل إسماعيل – عليه السلام ـأن ينالهم شرف النبوة، ولو كان اليهود من نسل إسماعيل – عليه السلام -،والعرب من نسل إسحاق – عليه السلام – لادعوا أن النبوة في إسماعيل دون إسحاق.

وبناء على ذلك راح كاتب سفر التكوين يزعم أن إبراهيم – عليه السلام – قال لله: “ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا، وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده، وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا”. (التكوين17: 18 – 20).

ففي هذا السفر تجريد لإسماعيل – عليه السلام – من النبوة، بعد إثباتها له، وذلك التناقض في التوراة مألوف، وليس غريبا عليها، فقد أنكرت – بعد تحريفها – كل نبوة من غير نسل إسحاق – عليه السلام -، ثم راحوا يثبتونها لخمسة من الرسل ليسوا من نسل يعقوب بن إسحاق – عليه السلام – وهم: ملكي صادق، ويثرون، وبلعان، وأيوب، ويونس.

فالهدف من نفي النبوة عن إسماعيل ونسله هو تجريد العرب – عليه السلام – من كل فضل ومنقبة، ومن ذلك نفي نبوة جدهم إسماعيل، ونسبة كل فضل لليهود وحدهم.

وأما عن وصف التوراة لإسماعيل – عليه السلام – بأنه “يكون إنسانا وحشيا يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه”، والتي يستدل بها الزاعمون على نفي نبوته، فالعبارة محرفة، والعبارة كما كانت في التوراة حتى القرن السابع الهجري، حيث نقلها العلماء: “يده فوق كل واحد ويد الكل به”.

ومعنى “إنسانا وحشيا” أي: إنسانا قويا.

وهذا يعني ريادة إسماعيل – عليه السلام – وذريته لكل الناس، وقوة الناس لا تحصل إلا باتباع إسماعيل وذريته. والريادة والقوة إذا جاءت في الوحي الإلهي فإنها بالدرجة الأولى تعني الريادة الدينية، التي تكفل سعادة الدنيا والآخرة، ولا يتحقق ذلك إلا بالنبوة.

الخلاصة:

القرآن الكريم هو الحجة القاطعة في إثبات نبوة إسماعيل – عليه السلام – لأنه لم تمتد إليه يد التحريف، وقد أثبتت نبوة إسماعيل – عليه السلام – في آيات عديدة منها: )إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54)( (مريم).

العهد القديم الذي ينفي نبوة إسماعيل – عليه السلام – ليس حجة؛ لما فيه من تحريف شهد به علماء اليهود والنصارى أنفسهم.

إن التوراة – على الرغم من تحريفها – قد صرحت بأن العهد “النبوة” يكون في نسل إبراهيم – عليه السلام – ولم تستثن من ذلك إسماعيل – عليه السلام – ولكنه الحسد والحقد اليهودي الذي يريد أن يحرم العرب من كل فضل ومنقبة.

 

(*) موقع إسلاميات. www.Islameyat.com

[1]. خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس، هذه المقالة بالنص عن مجلة “Awoke” عدد 8 سبتمبر 1957م، وذلك في الصفحة الأخيرة تحت عنوان “الحقيقة عن الكتاب”، والذي قدر هذا العدد من الأخطاء هي هيئة من الخبراء الإنجليز عام 1720م وليسوا عربًا أو مسلمين، وتفاصيل هذا الموضوع موجودة عند الداعية الإسلامي أحمد ديدات، المجموعة الثالثة، ترجمة: محمد مختار، رمضان الصفناوي، علي عثمان، مكتبة كتاب المختار، مصر.

المصدر

ادعاء أن إبراهيم – عليه السلام – تزوج من سارة، وهي أخته

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – تزوج سارة وهي أخته، حيث يذكر الكتاب المقدس أنها كانت أختا غير شقيقة لإبراهيم عليه السلام، ويتساءلون: ألا يعد ذلك ارتكابا لمحرم شرعا؟ هادفين من ذلك إلى الطعن في عصمة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وجها إبطال الشبهة:

1)  الكتاب المقدس ثبت أنه محرف؛ فما ورد فيه ليس بحجة.

2) الثابت في الأحاديث الصحيحة أن سارة لم تكن أخت إبراهيم – عليه السلام – من النسب، وإنما المراد الأخوة الإيمانية، وهذا هو مقصود إبراهيم – عليه السلام – من التعريض بأنها أخته، حين دخوله مصر حفاظا عليها من الملك المتجبر.

التفصيل:

أولا. الكتاب المقدس ثبت أنه محرف؛ فما ورد فيه ليس بحجة:

يقول جراهام سكروغي من معهد مودي في مدينة شيكاغو، وهو عالم مسيحي مشهور في كتابه “الكتاب المقدس كلام الله”: إنه من وضع البشر إلا أنه سماوي. ويقول أيضا: نعم إن الكتاب المقدس من وضع البشر، ولو أن الكثيرين ينكرون ذلك لشدة تعصبهم، لقد مرت هذه الأسفار في عقول البشر وكتبت بلغة البشر ودبجت بأقلامهم وبأساليبهم[1].

ويقول عالم مسيحي آخر مشهور وهو كنث كراغمطران القدس الإنجليكاني في كتابه “نداء المئذنة”، يقول عن الكتاب المقدس: “إنه نتاج ملخص مكثف مختار منسوخ، وكما جاء في أسفار العهد الجديد: إن هذه الأسفار خلاصة تجربة وتاريخ”.

وفي مقال بمجلة “استيقظوا” وهي مجلة طائفة مسيحية تدعى”شهود يهوه” تصدر في بروكلين، نيويورك، في عددها الصادر في 8 أيلول 1957م، تحت عنوان “50 ألف خطأ في الكتاب المقدس” يقول المقال: استيقظوا… حانت الآن الساعة، لنستيقظ من النوم، 50 ألف خطأ في الكتاب المقدس[2]؟‍‍

فكيف تكون المعلومات الواردة بهذا الكتاب حجة، وهذه هي شهادات أهل الكتاب أنفسهم؟‍ وهناك كثير غيرها في كتبهم لكن المجال لا يتسع، والمشكلة الأعظم التي تظهر للعيان ناصعة لا تحتاج إلى برهان هي: أننا إذا تصفحنا الكتاب المقدس تبين لنا من نصوصه ما يؤكد على تحريفه وتغييره، فإن اليهود قد اختلقوا كثيرا من الأكاذيب التي لا تليق بالأشخاص العاديين ولصقوها – زورا وبهتانا – بالأنبياء؛ حيث يصورون الأنبياء بأقبح الأوصاف، فهم لصوص وزناة وقتلة وسفاكون للدماء يرتكبون الجرائم البشعة التي يترفع عنها البشر العاديون، فضلا عن الأنبياء خير خلق الله تعالى، فكيف يحتجون بالمعلومات التي جاءت في هذا الكتاب بشأن إبراهيمعليه السلام؟

إن الأعظم جرما من ذلك، هو وصفهم القبيح لله تعالى؛ فقد صوروه – عزوجل – وكأنه إنسان يغفل، ويسهو، وينام، ويجهد، فيستريح، ويعقوب – عليه السلام – يصارعه، ويغلبه، ولا يفكه حتى يباركه: “لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت”. (التكوين 32: 28)، ومن ذلك أن الله تعالى ندم على خلق الإنسان: “فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه”. (التكوين 6: 6)، والله – عزوجل – استراح بعد أن خلق السماوات والأرض: “في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح وتنفس”. (الخروج 31: 17) [3].

وبهذا يتبين لنا حقيقة كتابهم المقدس وأنه من صنع البشر الذين حرفوه حسب أهوائهم الفاسدة فلا يصح أن تؤخذ منه أخبار أو معلومات لعدم الوثوق به؛ وعليه يبطل زعمهم واستدلالهم.

ثانيا. الثابت في الأحاديث الصحيحة والتاريخ أن سارة لم تكن أخت إبراهيم – عليه السلام – من النسب، وإنما المراد الأخوة الإيمانية:

 إننا لو وقفنا على نسب سيدنا إبراهيم – عليه السلام – لعلمنا أنه أبو الأنبياء إبراهيم بن تارح ابن ناصور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالخ بن ارفكشاد بن سام بن نوح عليه السلام، أما السيدة سارة فقد ذكر ابن كثير في تاريخه عن نسبها أنها ابنة ملك حران والمشهور أنها ابنة عمه هاران.

فهذا النسب يغاير نسب السيدة سارة؛ فبطل قولهم بأنها أخته من النسب، وإلا فما الدليل على قولهم؟

ولقد روي في الصحيح أنه قد عم القحط وشمل الجدب بلاد الشام وفلسطين كلها، فرحل إبراهيم – عليه السلام – إلى مصر، تصحبه زوجته سارة وكانت ذات جمال باهر، فوشى بها أحد بطانة السوء إلى الملك وكان رجلا جبارا، وهو أحد ملوك العرب العماليق واسمه سنان بن علوان، وكان من عادة هذا الطاغية أنه لا يسمع برجل عنده امرأة جميلة إلا وأخذها منه اغتصابا، فلما نزل إبراهيم – عليه السلام – أرض مصر أراد هذا الفاجر أن يعتدي على سارة زوج إبراهيم ويستأثر بها لنفسه فدعاه وسأله عما يربطها به من قرابة، فقال له إبراهيم: هي أختي وقصد بذلك أخوة الدين )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات: 10)، فأمر به فأخرج.

فأتى سارة فقال لها: «إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي؛ فإنك أختي في الإسلام، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل إليها الملك الجبار فأتى بها، فلما دخلت عليه فتن بجمالها، فسألها عن إبراهيم عليه السلام، فأخبرته أنها أخته، ولكن الفاجر أراد بها السوء، فمد يده إليها يريد أن يجذبها نحوه، فيبست يده[4] فلم يعد يستطيع حراكها، واضطربت حتى كاد يصعق من شدة الهول والفزع، فقال لها: ادعي لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلقه، فلما عاد إلى حالته الأولى حدثته نفسه بالغدر بها مرة ثانية، فأخذ مثل الأولى أو أشد، فطلب منها أن تدعو الله له على أن يطلق سراحها ولا يمسها بسوء، فدعت الله فعاد كما كان، فدعا بعض حجبته فقال:

إنك لم تأتني بإنسان إنما أتيتني بشيطان، فأمر بها أن تطلق، وأخدمها جارية من جواريه تسمى هاجر، وكان إبراهيم – عليه السلام – من وقت ذهابها إلى الملك قام يصلي لله – عزوجل – ويسأله أن يدفع عن أهله السوء، فلما أقبلت أومأ إليها إبراهيم – عليه السلام – بيده يسألها، فقالت: رد الله كيد الكافر في نحره وأخدمني هاجر، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فتلك أمكم يابني ماء السماء»[5]، فعصمها الله وصانها إكراما لإبراهيم عليه السلام [6].

فالمراد كما في هذا الحديث الصحيح: أنها أخته في الإسلام والدين الحق الذي كان عليه، لا أخوة النسب؛ لأن الأخوة تطلق أصلا على المشاركة في النسب، وتطلق على المشاركة في الصفات مجازا أو استعارة، وهي هنا من هذا القبيل، فقد أطلقت على المشاركة في الدين الحق، قال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات). وفي الحديث: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»([7]).

ويدل أيضا على أنها أخوة الدين ما ورد في القرآن الكريم من أن زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – هن أمهات المؤمنين رغم أنهن لسن أمهات المؤمنين حقيقة قال تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)( (الأحزاب). ويدل على ذلك أيضا قول إبراهيم – عليه السلام – لسارة: كما في الحديث الصحيح: «ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك»[8]. فثبت أنها أخته في الإسلام وأنها ليست أخته من النسب[9].

مما سبق ينتفى أن تكون السيدة سارة أخت سيدنا إبراهيم عليه السلام، والصحيح أن إبراهيم – عليه السلام – لم يتزوج أخته من النسب بل إن كلمة الأخوة هنا تعني أخوة الدين لا النسب[10].

الخلاصة:

لا يصح أن نجعل من الكتاب المقدس حجة ومرجعية؛ لأن الثابت – حتى في الدراسات التي قام بها كثير من علماء اليهود والنصارى – أن هذا الكتاب المقدس قد أعيدت كتابته، وأصابه التحريف حذفا أو زيادة.. كما أن ترجماته قد أدخلت عليه كثيرا من التغييرات؛ فلا يمكن الوثوق بما ورد فيه.

من خلال نسب إبراهيم – عليه السلام – والسيدة سارة يتضح أنها ليست أخته، إنما المراد بقوله: أنها أخته التعريض حفاظا عليها من الملك الجبار، أي أنها أخته في الإسلام، قال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات). ولقول إبراهيم – عليه السلام – للسيدة سارة: “ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك”.

 

(*) قناة الحياة، زكريا بطرس، الحلقة 17.

[1]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص86.

[2]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص98.

[3]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص20، 21.                                          

[4]. يبست يده: شلت.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله سبحانه وتعالى: ) واتخذ الله إبراهيم خليلا ( (3179)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل (6294).

[6]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص158، 159.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2310)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأداب، باب تحريم الظلم (6743).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2104)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام (6294).

[9]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص111.

[10]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص158.

المصدر

ادعاء أن الأنبياء غير معصومين لوقوعهم في بعض الذنوب(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن الأنبياء بشر غير مفضلين، وليس لهم أي ميزة على غيرهم من البشر، وما عرف عن العصمة، فهو من حديث المتكلمين عن السلب والاختيار. ويستدلون على زعمهم هذا بوقوع الأنبياء في بعض المخالفات من: الظلم والنسيان والشك، وارتكابهم بعض الذنوب، وطلب المنهي عنه. ويتساءلون: هل يتفق هذا مع ما يقال عن عصمتهم وتفضيلهم على بقية البشر؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)  الأدلة العقلية والنقلية تثبت العصمة للأنبياء ويكفينا أن نعلم أن الله أرسلهم؛ ليكونوا قدوة للناس في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.

2)     مبدأ العصمة لم يكن من أفكار المتكلمين، وإنما هو مبدأ قرآني صرف.

3)  العصمة منحة ربانية يمنحها الله من يشاء من عباده وقد خصها برسله المصطفين الأخيار، وهي لا تسلب الاختيار عن صاحبها الذي هو أساس التكليف.

التفصيل:

أولا. الأدلة العقلية والنقلية تثبت العصمة للأنبياء:

العصمة في اللغة هي: المنع. وفي الاصطلاح: حفظ الله لأنبيائه ورسله من الوقوع في الذنوب والمعاصي، فالعصمة ثابتة للأنبياء، وهي من صفاتهم التي أكرمهم الله – عز وجل – وميزهم بها على سائر الخلق، فلم تكن لأحد إلا الأنبياء الكرام.

وهناك العديد من الأدلة العقلية، والأدلة النقلية من القرآن والسنة على عصمة الأنبياء:

الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء:

لو صدر الذنب عن الأنبياء لكان حالهم في استحقاق الذم في العاجل والعقاب في الآجل أشد من حال عصاة الأمة؛ وهذا باطل، فصدور الذنب عنهم باطل.

بيان ذلك: أن أعظم نعم الله تعالى على العباد نعمة الرسالة والنبوة، وكل من كانت نعم الله عليه أكثر وأعظم، كان صدور الذنب عنه أفحش، وصريح العقل يدل على ذلك، ويؤكده من النقل أيضا:

o         قوله سبحانه وتعالى: )يا نساء النبي لستن كأحد من النساء( (الأحزاب: ٣٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين( (الأحزاب: ٣٠).

o         أن المحصن يرجم إذا زنا، وغير المحصن يجلد.

o         أن العبد يحد نصف حد الحر.

طاعة الأنبياء واجبة، فلو صدرت منهم المعصية للزم أن تكون المعصية واجبة وحراما وهو باطل، وأما أن طاعتهم واجبة فلقوله سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله( (النساء: ٦٤)، وأما أن المعصية لو صدرت منهم للزم أن تكون واجبة وحراما فلأنه يجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية، فتصير تلك المعصية واجبة علينا، وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا، فيلتزم توارد الإيجاب والتحريم على الشيء الواحد في آن واحد، وهو باطل، فالأنبياء لم تصدر عنهم معصية[1].

لو صدر ذنب عن الأنبياء لوجب زجرهم وإيذاؤهم؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ولكن زجر الأنبياء فيه إيذاء لهم، وإيذاء الأنبياء حرام لقوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57)( (الأحزاب). كما أن هذا فيه مشاقة للرسول، ومشاقة الرسول محرمة لقوله سبحانه وتعالى: )ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)( (النساء)، ومن ثم كان صدور الذنب عن الأنبياء ممتنعا[2].

لو صدر الذنب عن الأنبياء ما كانوا مقبولي الشهادة لقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6)( (الحجرات). فلو أقدم الأنبياء على الذنوب، وردت شهادتهم لكانوا أقل حالا من عدول الأمة، فكيف يكون غيرهم أفضل حالا منهم، وقد اصطفاهم الله وفضلهم على العالمين؟![3]

لو صدرت المعصية عن الأنبياء لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله؛ لقوله سبحانه وتعالى: )ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)( (النساء)، ولكانوا ملعونين لقوله سبحانه وتعالى: )ألا لعنة الله على الظالمين (18)( (هود)، وبإجماع الأمة هذا باطل فكان صدور المعصية عنهم باطلا[4].

أنهم كانوا يأمرون بفعل الطاعات وترك المعاصي، ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)( (الصف)، وتحت قوله سبحانه وتعالى: )أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)( (البقرة). ومعلوم أن هذا في غاية القبح، لكنهم منزهون عن القبح. وأيضا أخبر الله – سبحانه وتعالى – عن رسوله شعيب – عليه السلام – أنه برأ نفسه من ذلك، فقال: )وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه( (هود: ٨8).

وصف الله تعالى أنبياءه بالاصطفاء والخيرية في كل الأمور، ومن كان موصوفا بالاصطفاء والخيرية على هذا النحو لا تصدر المعصية عنه، أما أن الله – عز وجل – وصفهم بالاصطفاء والخيرية فجاء في آيات كثيرة منها: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج)، واختيار الله لهم لتبليغ شرائعه إلى الناس لا يكون إلا عن صلاحية منهم للقيام بما كلفوا به على أكمل وجه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: ١٢٤).

وقال – عز وجل – عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب: )وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47)( (ص)، ولفظي (المصطفين، والأخيار) يتناولان جميع الأفعال، سواء المأمور بها أم المنهي عنها، فثبت بذلك أنهم كانوا من المصطفين الأخيار في كل الأمور[5]، ومن ثم فصدور المعصية عنهم غير وارد.

قال سبحانه وتعالى: )إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)( (الأنبياء)، والألف واللام في صيغة الجمع في كلمة “الخيرات” تدل على العموم، فأخبر الله – عز وجل – عن أنبيائه في هذه الآية بأنهم كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله من الطاعات، تاركين لكل ما ينبغي تركه من المعاصي، وذلك يدل على عصمتهم من الذنوب والمعاصي.

لو أذنب الأنبياء لكانوا غير مخلصين، وكونهم غير مخلصين باطل، فبطل كونهم مذنبين، وثبت نقيضه وهو عصمتهم من الذنب، قال – عز وجل – في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب: )إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46)( (ص). وقال – عز وجل – في حق يوسف عليه السلام: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف). وإذا ثبتت العصمة في حق واحد ثبتت في حق الكل. أما أنهم لو أذنبوا لكانوا غير مخلصين؛ فلأن الذنب لا يقع إلا عن إغواء من الشيطان، وهو لا يغوي المخلصين، بدليل قوله – سبحانه وتعالى – حكاية عنه: )قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)( (الحجر).

قسم الله تعالى المكلفين إلى قسمين: حزب الشيطان، ويقول – سبحانه وتعالى – فيهم: )أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون (19)( (المجادلة)، وحزب الله كما قال سبحانه وتعالى: )أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (22)( (المجادلة)، ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يريد الشيطان ويأمره به، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياء؛ لصدق عليهم أنهم من حزب الشيطان، ولصدق عليهم قوله سبحانه وتعالى: )ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون( ولصدق على الزهاد من آحاد الأمة قوله سبحانه وتعالى: )ألا إن حزب الله هم المفلحون(، وحينئذ يلزم أن يكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء.

قال – عز وجل – في حق إبراهيم عليه السلام: )قال إني جاعلك للناس إماما( (البقرة: ١٢٤)، والإمام هو الذي يقتدى به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم – عليه السلام – لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجبا، وهذا باطل[6] لأمرين:

o         أن وجوب الاقتداء بمن يفعل الذنب أمر بذلك الذنب، والله لا يأمر بالفحشاء، قال سبحانه وتعالى: )إن الله لا يأمر بالفحشاء( (الأعراف: ٢٨).

o         الله لا يصطفي ولا يجعل للناس إماما من يكون قدوة في فعل الذنب؛ لأن الاصطفاء إنما يكون لأجل القدوة في الهداية، فثبت أن الخليل – عليه السلام – لم يذنب، والأنبياء جميعا مثله[7].

قال سبحانه وتعالى: )قال لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة). وثابت أن المذنب ظالم، وهذا العهد الذي حكم الله – عز وجل – بعدم وصوله للظالمين إما أن يكون عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان الأول – أي: عهد النبوة – فهو المقصود، وإن كان الثاني – أي: عهد الإمامة – فالمقصود أظهر؛ لأن عهد الإمامة أقل درجة من عهد النبوة، فإذا لم يصل عهد الإمامة إلى الظالم – وهو المذنب العاصي – فالأولى ألا يصل عهد النبوة – وهو أجل وأعظم – إلى ذلك العاصي. [8] ومن ثم تثبت العصمة لهؤلاء الأنبياء، وتستحيل عليهم المعصية.

من الثابت لدى العلماء أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وبما أن الملائكة لم يقدموا على شيء من الذنوب، فالأولى أن يحجم الأنبياء عنها حتى تثبت لهم تلك الأفضلية.

قال سبحانه وتعالى: )ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20)( (سبأ). فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال: إنهم الأنبياء أو غيرهم، فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم، لقوله سبحانه وتعالى: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)، وتفضيل غير النبي على النبي باطل بالإجماع؛ فوجب القطع بأن أولئك الذين لم يتبعوا إبليس هم الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وكل من أذنب فقد اتبع إبليس، فدل هذا على أن الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – ما أذنبوا[9].

الأدلة النقلية على عصمة الأنبياء:

يستقصي د. أبو النور الحديدي هذه الأدلة التي تثبت عصمة الأنبياء ويفصل القول فيها، وننقل هذا التفصيل مختصرا على النحو الآتي:

قد حفل القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تتحدث عن أنبياء الله – صلوات الله وسلامه عليهم – وتثبت لهم كل كمال بشري يمكن أن تحويه كلمة “العصمة”، وتجعلهم فوق الدنايا والصغائر بما يدفع شبهات المفترين.

مع ملاحظة أن ما يحكم به على واحد من أنبياء الله، ينطبق على بقية أنبيائه.

فمن الآيات التي تحدثت عن آدم – عليه السلام – قوله سبحانه وتعالى: )وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)( (البقرة).

وعلم آدم بالأسماء مبرر لتفضيله، وإسجاد الملائكة له، ولكنه ليس المبرر الوحيد، فالعلم عندما لاتصاحبه طاعة الله، والكف عن محارمه يفقد قيمته وثمرته، ولا يستحق صاحبه به تفضيلا على غيره. فلا بد إذن أن آدم – عليه السلام – قد شابه الملائكة في التخلق بأخلاقهم من فعل المأمورات، وترك المنهيات، ثم امتاز عليهم بعلم الأسماء دونهم، فلهذا كله استحق شرف إسجادهم له.

أما عن نبي الله نوح – عليه السلام – فقد امتدحت آيات من القرآن الكريم نوحا – عليه السلام – بأنه عبد شكور، قال سبحانه وتعالى: )ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)( (الإسراء)، وأما الهداية، فقد وصف الله تعالى بها نوحا – عليه السلام – في قوله: )ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84)( (الأنعام). أي: وهديناه إلى الدين الحق والمعرفة الصحيحة من قبل إبراهيم.

وأما الصلاح فقد وصفه الله – عز وجل – به هو ولوط – عليهما السلام – في قوله سبحانه وتعالى: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين( (التحريم: ١٠).

وأما الاصطفاء بالرسالة ففي قوله سبحانه وتعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران). واصطفى: أي: اختار، فمعنى اصطفاهم: جعلهم صفوة خلقه تمثيلا بالشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة.

ويروي بعض العلماء قولا يوضح اصطفاء آدم ونوح هو: اصطفى الله آدم – عليه السلام – بأن خلقه بيده في أحسن تقويم وبتعليم الأسماء له، وإسجاد الملائكة له، وإسكانه الجنة. واصطفى نوحا – عليه السلام – بكونه أول من نسخ الشرائع، إذ لم يكن تزويج المحارم قبل بعثته حراما، وبإطالة عمره، وجعل ذريته هم الباقين، واستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين، وحمله على متن الماء.

ومن البدهي أن من اصطفاه الله، وجعله على هدى، وفضله على عباده، وجعله عبدا شكورا لا تصدر عنه معصية؛ لأن الله – عز وجل – لا يختار العصاة؛ ليهدي بهم خلقه، ثم إن النبوة أعظم النعم على الإنسان، والعاصي لا يقوم بشكر الله على نعمه، ونوح عبد شكور، فهو إذن لم يعص الله عز وجل[10]. وما يحكم به على نبي من أنبياء الله، ينطبق على جميعهم.

أما عن نبي الله إبراهيم – عليه السلام – فقد امتدحه القرآن الكريم بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ونفى عنه ما ادعته كل من اليهود والنصارى والمشركين، من أنهم على ملته، بل أثبت القرآن أن أقرب الناس لخليل الله إبراهيم – عليه السلام – هم أتباعه ومحمد – صلى الله عليه وسلم – والذين آمنوا، قال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)( (آل عمران).

 كما امتدحه الله – عز وجل – في آية أخرى فقال: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51)( (الأنبياء)، “والرشد” فسره بعض العلماء بالنبوة، استئناسا بقوله: )وكنا به عالمين(؛ لأن الله – عز وجل – لا يخص أحدا بالنبوة إلا إذا علم من حاله أنه يقوم بها، ويجتنب ما لا يليق بها. وهذا الرشد الذي آتاه الله إبراهيم – عليه السلام – قد طهر قلبه، فجعله سليما، قال سبحانه وتعالى: )وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84)( (الصافات). أي: إن الله – عز وجل – نقى قلبه من العقائد الفاسدة، والنيات السيئة، والصفات القبيحة.

ومن الآيات التي تحدثت عن حميد صفاته – عليه السلام – قوله سبحانه وتعالى: )إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75)( (هود)، فتضمنت هذه الآية وصفه – عليه السلام – بثلاث صفات:

o         أنه حليم: أي: غير عجول في الانتقام من المسيء إليه.

o         أنه أواه: أي: كثير التضرع والدعاء من خوف الله.

o         أنه منيب: أي: راجع إلى الله عز وجل.

وهي صفات تدل كلها على رقة القلب، والرأفة، والرحمة، وغير ذلك من الصفات والكمالات التي لا تجتمع لأحد من البشر، ولا توجد إلا متفرقة، في حين أنها اجتمعت لخليل الله إبراهيم – عليه السلام – حتى وصف بأنه أمة، قال سبحانه وتعالى: )إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122)( (النحل).

فقد وصفه الله – عز وجل – في هذه الآية بأنه كان أمة وحده، أي: عنده من الخير ما عند أمة، أو أنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار. كما وصفه بأنه كان قانتا مطيعا له، مائلا عن الباطل إلى الحق، ولم يكن من المشركين، شاكرا لنعم الله عليه، اجتباه واصطفاه ربه للنبوة، وهداه إلى الطريق الموصل إليه – سبحانه وتعالى – وذلك بهدايته إلى ملة الإسلام، كما جمع الله له خير الدنيا، وجعله في الآخرة في عداد الصالحين في الدرجات العلا من الجنة.

فهل يصح أن يقال عن الذي رفع الله درجته، وأعلى في العالمين ذكره، وطهر قلبه، وامتدحه بحميد الصفات: إنه غير معصوم من الذنوب التي تشينه وتحط من شأنه؟! قد قال – عز وجل – عنه أيضا في وصفه بالصدق: )واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41)( (مريم). ولقد قام الخليل – عليه السلام – بحقوق النبوة والاصطفاء، فوفاها وبلغها وأداها كلها على أكمل وجه، قال سبحانه وتعالى: )وإبراهيم الذي وفى (37)( (النجم).

قال قتادة: إنه وفي طاعة الله، وأدى رسالته إلى خلقه، واختار ابن جرير هذا القول؛ لأنه يشمل الذي قبله، وأيضا يشهد له قول الله سبحانه وتعالى: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة).

 فقام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون إماما للناس، يقتدى به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، وهذا يدل على أنه – عليه السلام – معصوم من الذنوب؛ لأنه – وقد جعله الله قدوة – لو صدرت المعصية منه لوجب الاقتداء به فيها، فيلزم وجوب فعل المعصية وهو باطل[11].

لقد تحدث القرآن الكريم أيضا عن نبي الله لوط – عليه السلام – بما يشهد بعصمته من الذنوب والمعاصي، فذكر – عز وجل – أنه – عليه السلام – قد آمن بإبراهيم – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (26)( (العنكبوت). وأن الله تعالى قد آتاه حكما وعلما، وصلاحا ورحمة، قال سبحانه وتعالى: )ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75)( (الأنبياء). والحكم: فسر بالحكمة وهي: الإصابة في القول والعمل، وفسر بـ: الفصل بين الخصوم، وفسر بـ: النبوة. والعلم: هو العلم بكل ما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام. )ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث( نجاه الله من أهل سدوم الذين كانوا يعملون الخبائث والسوء، والفسق من اللواط وقذف المارة بالحصى والسباب… وغير ذلك مما يدخل تحت الفاحشة والمنكر وقطع السبيل.

وكان لوط – عليه السلام – يكره أعمال قومه القبيحة: )قال إني لعملكم من القالين (168)( (الشعراء). أي: إني أبغض عملكم غاية البغض، وينهى قومه عن ارتكاب تلك الأفعال، ويصفهم بالجهل نتيجة أفعالهم تلك: )أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55)( (النمل)، ونتيجة لإنكاره عليهم ونهيه إياهم؛ ضاق قومه به ذرعا، وتوعدوه إن لم يكف عن هذا؛ ليخرجوه من بين أظهرهم بقوة وعنف، قال سبحانه وتعالى: )قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167)( (الشعراء). فخوفهم لوط – عليه السلام – من العذاب فقالوا: )ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين( (العنكبوت: ٢٩)، وعندئذ طلب من ربه أن ينجيه من شؤم عملهم وعذابه فقال: )رب نجني وأهلي مما يعملون (169)( (الشعراء)، فنجاه الله – عز وجل – ومن آمن معه، فأخرجهم من بين قومه وقت حلول العذاب بهم إلا امرأته لرضاها بفعل قومه قال سبحانه وتعالى: )فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171)( (الشعراء).

ومن أخلاقه أيضا رعايته لحق الضيف، فقد دافع عن أضيافه – ولم يكن يعرف أنهم ملائكة – وجاهد في دفع قومه عنهم؛ حتى لا يخزى في ضيفه فقال لقومه: )وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78)( (هود). وقد وصفه الله – عز وجل – بالصلاح وأدخله في رحمته، قال سبحانه وتعالى: )وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75)( (الأنبياء)، لهذا كله فضله الله – عز وجل – مع غيره من الرسل – عليهم السلام – على العالمين: )وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام).

فإذا كان لوط – عليه السلام – بهذه المثابة من التصديق بجميع ما أتى به إبراهيم – عليه السلام – وقد أوتي حكما وعلما وصلاحا ورحمة وفضلا، فلا يقبل التقول عليه بأنه – عليه السلام – التجأ إلى غير ربه، أو رضي أن يأتي قومه الفاحشة مع بناته، ولا يقبل أيضا أن يشرب الخمر مهما كانت الحيلة إلى ذلك، ويضطجع مع ابنتيه تحت أي مؤثر كان – كما زعم المبطلون – مستندين إلى نصوص وردت في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين[12].

يأتي الحديث عن يوسف – عليه السلام – فيثبت له القرآن الكريم مثلما أثبت لغيره من الأنبياء من الفضائل ومكارم الأخلاق والتنزه عن المعاصي والذنوب، وفي شأنه يقول سبحانه وتعالى: )وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم (6)( (يوسف). “ويجتبيك” أي: يصطفيك للنبوة، “وتأويل الأحاديث” أي: تعبير الرؤى، “ويتم نعمته عليك” أي: يجمع لك بين النبوة والملك، أو بين خيري الدنيا والآخرة.

ويمكن أن نلخص من أخلاق يوسف – عليه السلام – الطيبة ما يقطع بنزاهته عن كل ما نسب إليه – كذبا وافتراء – وهي:

o         العفة عن الشهوات، وضبط النفس عن السوء والفحشاء، قال سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف).

o         الحلم عند الغضب، وضبط النفس عن مجازاة السيئة بمثلها، قال سبحانه وتعالى: )قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)( (يوسف).

o         وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: )ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60)( (يوسف).

o         ثقته بنفسه: )قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف).

o         قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ما غاب ومضى عليه سنون حتى يضبط السياسات ويعرف للناس أعمالهم: )وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58)( (يوسف).

o         استعداده للعلم وحبه له، وتمكنه منه: )واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38)( (يوسف). )ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22)( (يوسف). )رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)( (يوسف).

o          شفقته على الضعفاء، وتواضعه مع جلال قدره، وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: )يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39)( (يوسف)، وحادثهما في أمور دنياهما ودينهما، فالأول بقوله: )إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون( (يوسف: ٣٧)، والثاني بقوله: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء( (يوسف: ٣٨).

o         العفو مع القدرة: )قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف).

o         إكرام العشيرة: )وأتوني بأهلكم أجمعين (93)( (يوسف).

o         حسن التدبير: )فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47)( (يوسف). ومن حسن تدبيره، وسديد سياسته في ملكه اجتذابه القلوب إليه بالإحسان: )وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62)( (يوسف). وتدبير الحيلة العجيبة بمسأله الصواع، واتهام إخوته بالسرقة؛ ليضم أخاه إليه )فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه( (يوسف).

o         ومعاملة المحكومين بشرعهم وعادتهم رفقا بهم، وليكون أدعى لامتثالهم: )قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75)( (يوسف)[13].

أما عن سيدنا موسى – عليه السلام – فقد آتاه الله حكما وعلما؛ جزاء له على إحسانه قال سبحانه وتعالى: )ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (14)( (القصص)، وقد تخلق – عليه السلام – بأخلاق طيبة؛ منها: الأمانة التي وصفته بها ابنة شيخ مدين: )قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26)( (القصص).

ومنها الحياء: فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا، لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة[14] وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر. ثوبي حجر. حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه. فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا: فذلك قوله: )يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)( (الأحزاب)»[15].

ومنها: النجدة ونصرة المظلوم، ويتبين هذا من إغاثته للإسرائيلي الذي استعانه على ظالمه المصري الذي كان يسخره في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، ومنها: معاونة الضعيف.

ولهذه الصفات التي تحلى بها آتاه الله الهدى: )ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53)( (غافر)، كما آتاه الله حكما: )ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21)( (الشعراء).

وكان موسى – عليه السلام – ذا جاه وقدر عظيم: )يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)( (الأحزاب). ومن وجاهته ومنزلته عند الله تعالى أنه يوم القيامة حين يصعق الناس، ويكون نبينا – صلى الله عليه وسلم – أول من يفيق، فإنه يرى موسى – عليه السلام – آخذا بشيء من العرش بقوة، فلا يدري نبينا أكان موسى ممن صعق فأفاق قبله – وهذه فضيلة لموسى ظاهرة، أو كان موسى ممن استثنى الله فلم يصعق، وهذه أيضا فضيلة لموسى عليه السلام.

فهل بعد هذا يلتفت العقل إلى كلمة تطعن في موسى – عليه السلام – أو فرية تنتقص من قدره[16]؟

أما عن داود وسليمان – عليهما السلام – فقد تحدثت آيات القرآن الكريم عن اختيار الله لهما، وإيتائهما الملك والنبوة: )فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء( (البقرة: 251)، وأعطى سليمان ما أعطى داود: )وورث سليمان داوود( (النمل: ١٦)، )وكلا آتينا حكما وعلما( (الأنبياء:٧٩)، وأثبت الله لهما ذكاء النبوة وتواضعها فقال: )وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)( (النمل)، فهما لم يدعيا التفضيل على جميع البشرية؛ لأنهما لم يستوعبا جميع النعم التي تفضل الله بها على عباده، فضلا عن أن يدعيا استيعاب البشر أجمعين، فهو منطق راشد يتمثل فيه الذكاء والأدب والتواضع والحياء.

وقد أمر الله – عز وجل – نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء بسيدنا داود – عليه السلام – في الصبر فقال: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17)( (ص)، فلو كان داود – عليه السلام – مرتكبا للمعاصي لما كان من الحكمة أمر نبينا – صلى الله عليه وسلم – بالاقتداء به؛ إذ كيف يقتدى في الصبر بمن لم يصبر عن المعصية؟!

وقد أخبر الحق – سبحانه وتعالى – أن لكل من داود وسليمان – عليهما السلام – عنده منزلة عالية، وحسن مرجع، فقال عن كل منهما: )وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)( (ص)، وكل هذا يدل على براءتهما مما نسب إليهما زورا وافتراء، فإن الذي يستحق الزلفى وحسن المآب لا يتصور منه صدور المعصية أو الذنب.

هذه بعض أخلاق وخصال المصطفين الأخيار الذين صنعهم الله بيده، ورباهم، ليكونوا هداة ومثالا لمن يرجو الله واليوم الآخر، فهل يقابل إحسان الله – عز وجل – لعبده بشيء من الإساءة؟ أو يتصور منه صدور معصية من المعاصي؟ هذا ما لا يقول به عاقل منصف.

ثانيا. العصمة مبدأ قرآني، ليس من أفكار المتكلمين:

مبدأ العصمة مبدأ قرآني صرف؛ إذ إنه جاء – أول ما جاء – في القرآن الكريم؛ حيث يقول الله – عز وجل – في حق الملائكة: )لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)( (التحريم)، ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من هذا القول في تحديد حقيقة العصمة وواقعها في مجال الامتثال، فالآية تدل على عصمة الملائكة في مجال التكليف.

وبإمعان النظر في هذه الآية يظهر أن العصمة بمفهومها القريب – أي: العصمة عن العصيان والخطأ – مع قطع النظر عن موصوفها – الملائكة – قد طرحها القرآن الكريم، ولفت نظر المسلمين إليها من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ هذه الفكرة من الأحبار، أو الرهبان، أو حتى المتكلمين.

فإن قيل: إن ذلك في حق الملائكة، وليس في حق الأنبياء، قلنا: ليس الشأن شأن المجيء في الملائكة أو الأنبياء، وإنما القضية هي وجود المبدأ نفسه، فقد وجد في القرآن الكريم في حق الملائكة.وإن كانت هذه الآية تتحدث عن الملائكة، فلقد صرح القرآن الكريم بعصمة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في غير آية، ومنها: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم).

 فالآيات تشير بوضوح صريح إلى عصمة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فأنه لا ينطق عن هوى النفس، ولا تحيز الذات، وإنما كلامه وحي من الله – عز وجل – ومن ثم يكون مصونا معصوما من الزلل في المرحلتين: مرحلة الأخذ، ومرحلة التبليغ، وصدق الله – عز وجل – إذ يقول: )ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17)( (النجم). وليس ذلك في حق النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فحسب، بل إن العصمة ثابتة للأنبياء جميعا.

ثالثا. العصمة منحة ربانية، ولا تعني سلب الاختيار:

العصمة موهبة من مواهب الله – سبحانه وتعالى – يتفضل بها على من يشاء من عباده، بعد وجود أرضيات صالحة وقابليات مصححة لإفاضتها عليهم.

فالله – سبحانه وتعالى – يجتبي من يشاء من عباده؛ ليكونوا أسوة للخلق، ولما كان الأمر مع هؤلاء المجتبين كذلك، كان لزاما لهؤلاء أن يكونوا معصومين؛ حتى يقع كلامهم في القلوب موقعه: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)( (الأنعام).

وعصمة الأنبياء لا تعني سلب اختيارهم في ارتكاب المعاصي والآثام، وإنما هم مع قدرتهم على إتيان المعاصي والذنوب، يبعدون – بعلمهم وخوفهم من الله وحفظ الله لهم – كل البعد عن هذه الرذائل.

وأيا كان تفسير معنى العصمة فهي لا تسلب اختيار النبي، فالنبي مخير في فعله، في إمكانه إتيان المعاصي وتركها، ومثال ذلك في واقعنا: الإنسان العاقل العالم بوجود الطاقة الكهربائية في الأسلاك المنزوعة من جلدها لا يمسها – مع قدرته على مسها – إلا أنه علم بعواقب المس فتجنبه، وكذلك الطبيب الذي يرى المسلول أو المجذوم يشرب من ماء؛ فإن هذا الطبيب – لعلمه بعواقب استعمال الماء بعد هذا المريض – يتنزه عن استعماله؛ خوفا على نفسه، مع قدرته على استعماله.

وكذلك الأنبياء لما حصل لهم يقين العلم بالله، وعرفوا حقيقة أمره ونهيه، وما هو نعيمه وعذابه؛ تجنبوا بل فروا من المآثم فرار الطبيب من المجذوم؛ ولذلك نجد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول لأصحابه: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا»[17].

إن هذه الميزة – العصمة – لا تغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية، ولا تخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار. كيف والعلم من مبادئ الاختيار؟ ومجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة، كطالب السلامة إذا أيقن بكون هذا المائع الذي أمامه سما قاتلا، فمن حين علمه بتلك الحقيقة، يمتنع عن شرب ذلك المائع باختياره.

تلك هي حقيقة عصمة الأنبياء، التي لا تسلبهم إرادتهم – كما زعم بعض المتوهمين – وإنما تحفظهم بحفظ الله – عز وجل – من الوقوع في رذائل الأمور؛ لأنه – عز وجل – إنما أرسلهم لهداية البشر، فليس من المعقول أبدا أن يتركهم يتخبطون في ظلام الآثام والمعاصي كسائر البشر، فلا بد لهؤلاء الأنبياء – عليهم صلوات الله وسلامه – من خصائص فريدة، وميزات عديدة، تميز هؤلاء الأنبياء بين أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.

ويشهد لذلك القول قول الله سبحانه وتعالى: )ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88)( (الأنعام). وتفيد هذه الآية إمكانية وقوع الشرك من هؤلاء الرسل، إلا أن اجتباء الله، وهدايته لهم، وتعليمه إياهم بحقيقة العبادة، وأصول الاعتقاد، كل ذلك منعهم من الوقوع في الشرك.

وعليه فلا مجال للقول بأن عصمة الأنبياء – عليهم السلام – تعني سلب الاختيار عنهم، أو إنها مجرد فكرة من أفكار المتكلمين عن السلب والاختيار.

الخلاصة:

العقل والنقل يثبتان العصمة للأنبياء، حتى يسلم لهم – صلوات الله وسلامه عليهم – مبدأ الطاعة والاقتداء.

العصمة مبدأ قرآني، ولم يكن من أفكار المتكلمين؛ لأن علم الكلام لم ينشأ أساسا – إلا في ضوء الاختلافات المذهبية والفكرية في القرن الثاني الهجري.

إن الله يجتبي من يشاء من عباده، ويعصمهم من الوقوع في الأخطاء؛ ليصح الاقتداء بهم، والعصمة منحة ربانية، يتفضل الله بها على أنبيائه؛ ليكونوا أسوة للخلق، وهي ليست أمرا مكتسبا.

العصمة لا تعني سلب الحرية، والجبر على الفعل، فهي لا تعني سلب حرية الأنبياء في ارتكاب المعاصي والآثام، وإنما هم مع قدرتهم على إتيان المعاصي والذنوب إلا أنهم – بعلمهم وخوفهم من الله، وحفظ الله لهم – يبعدون كل البعد عن هذه الرذائل والمعاصي.

 

(*) النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، مرجع سابق.

[1]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مرجع سابق، ص133، 134.

[2]. عصمة الأنبياء، الرازي، مرجع سابق، ص42.

[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مرجع سابق، ص135 بتصرف.

[4]. عصمة الأنبياء، الرازي، مرجع سابق، ص43 بتصرف.

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مرجع سابق، ص136، 137.

[6]. عصمة الأنبياء، الرازي، مرجع سابق، ص46.

[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مرجع سابق، ص138.

[8]. عصمة الأنبياء، الرازي، مرجع سابق، ص46، 47 بتصرف يسير.

[9]. المرجع السابق، ص45.

[10]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، ص141 وما بعدها.

[11]. المرجع السابق، ص148: 154 بتصرف.

[12]. المرجع السابق، ص155: 157 بتصرف.

[13]. المرجع السابق، ص158: 168 بتصرف.

[14]. الأدرة: الخصية المنتفخة.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام (3223)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة (796)، واللفظ للبخاري.

[16]. عصمة الأنبياء، د. محمد أبو النور الحديدي، مرجع سابق، ص169: 175.

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف (997)، ومسلم في صحيحه، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف (2127).

المصدر

ادعاء أن استعانة يوسف – عليه السلام – بالساقي تخالف توكله على الله

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن استعانة يوسف – عليه السلام – بالساقي، تخالف توكله على الله، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى على لسان يوسف – عليه السلام: )اذكرني عند ربك( (يوسف: 42) [1]. ولذلك عاقبه الله – عز وجل – بأن لبث في السجن بضع سنين، وهم يرون لجوء يوسف – عليه السلام – في كشف الضر عنه إلى مخلوق مجالا للطعن في عصمته عليه السلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) طلب يوسف – عليه السلام – من الساقي أن يقص خبره على الملك لا يقدح في عصمته – عليه السلام – لأن الدنيا دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله عز وجل.

2) مكث سيدنا يوسف – عليه السلام – في السجن لم يكن عقابا من الله على ذنب قد ارتكبه، بل كان رحمة به، وإعزازا لشأنه، ولأمور أخرى اقتضتها حكمة الله عز وجل.

التفصيل:

أولا. الدنيا هي دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله:

قبل الحديث عن الأسباب التي دعت يوسف – عليه السلام – للاستعانة بالساقي في تبليغ خبره إلى الملك رجاء الخلاص من السجن، لا بد أن نوضح أن معنى قول سيدنا يوسف – عليه السلام – للساقي: )اذكرني عند ربك(: أن يقص على سيده قصته، ويذكر عنده أن يوسف – عليه السلام – مظلوم في الواقعة التي أودع لأجلها السجن، فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف – عليه السلام – عند الملك، فطالت أيام السجن على يوسف – عليه السلام – حتى لبث فيه بضع سنين.

ويرى بعض العلماء أن استعانة سيدنا يوسف – عليه السلام – بالساقي هي مخالفة للأولى ولا طعن فيها على يوسف – عليه السلام – لأن مخالفة الأولى لا تقدح في عصمة الأنبياء، والاستعانة بالناس جائزة في دفع الظلم، فالدنيا دار الأسباب، لكن ذلك إنما هو لعامة البشر، أما الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فلا يصح أن يعرضوا حاجاتهم، ويلجأوا في كشف الضر عنهم إلا إلى الله – عز وجل – وحده مسبب الأسباب.

يقول الزمخشري: “كما اصطفى الله – عز وجل – الأنبياء على خليقته، فقد اصطفى لهم أحسن الأمور، وأفضلها وأولاها، والأحسن والأولى للنبي ألا يكل أمره إذا ابتلى ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد بأحد من البشر، وخصوصا إذا كان المعتضد به كافرا، لئلا يشمت به الكفار ويقولوا: لو كان هذا على الحق، وكان له رب يعينه لما استغاث بنا”[2].

وقيل: إن مخالفة يوسف – عليه السلام – للأولى هي أنه أخلى كلامه – وهو يطلب من الساقي أن يشرح حاله عند الملك – من ذكر الله – عز وجل – مثل: إن شاء الله، وكان عليه ألا يخلي كلامه منه.

وذهب فريق آخر من العلماء إلى أنه لم يقع منه – عليه السلام – مخالفة للأولى، ويحمل قوله للساقي على أحد أمرين:

الأول: أنه – عليه السلام – قال ذلك؛ ليتوصل به إلى هداية الملك، وعرض دعوته عليه، كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه.

الثاني: أنه – عليه السلام – إنما باشر الأسباب، والدنيا دار الأسباب، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، وهذا كما يكون في حق عامة البشر يكون كذلك في حق الأنبياء، ويفهم من معنى الآية أن يوسف – عليه السلام – إنما قال للساقي: )اذكرني عند ربك( ليتوصل بذلك إلى إظهار براءته أمام الملك والناس، فإن من أودعوه السجن قد قصدوا الإيهام بأنه المعتدي في واقعة مراودة امرأة العزيز، حتى حسبه الكثير من الناس معتديا، فأراد يوسف – عليه السلام – أن يعرف الملك ورعيته الحقيقة؛ وذلك بأن تذكر قصته عند الملك، فيستدعيه من السجن، ويسأله، فيقرر الأمر على حقيقته، فإن تألم يوسف – عليه السلام – من إظهاره بمظهر المعتدي كان أكثر من تألمه من السجن في حد ذاته، فهو الذي قال: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف:33).

وإظهار براءة المتهمين واجب على كل إنسان، وخاصة إذا كانوا من الأنبياء – عليهم السلام – ثم إن يوسف – عليه السلام – مكلف – في السجن، وبعد الخروج منه – بدعوة الناس إلى الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وحتى تقبل دعوته، وينقاد الناس لنصحه لا بد أن يكون بريء الساحة، نقي العرض، طاهر العفة عندهم.

فهذا هو الذي دعاه أن يطلب من الساقي أن يذكر قصته عند الملك، وليس من أجل الخروج من السجن فقط، واستناد القائلين بأن يوسف – عليه السلام – خالف الأولى بابتغائه الفرج من عند غير الله – عز وجل – إلى ما أسنده ابن جرير إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لو لم يقل – يعني يوسف – الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث؛ حيث يبتغي الفرج من عند غير الله” – استناد إلى غير مستند لضعفه الشديد، فقد ضعفه ابن كثير قائلا: هذا الحديث ضعيف جدا؛ لأن يوسف ابن وكيع – أحد رواته – ضعيف، وإبراهيم بن يزيد أضعف منه أيضا[3].

ثم إن الأصح أن الضمير في “فأنساه” عائد إلى الناجي لا إلى يوسف – عليه السلام – والمعنى: فأنسى الشيطان الناجي ذكر يوسف – عليه السلام – عند الملك، فكانت العاقبة المترتبة على نسيان الساقي أن يوسف – عليه السلام – لبث في السجن بضع سنين، فالفاء للعاقبة وليست للجزاء[4]. ويؤكد على أن النسيان كان من الساقي لا من يوسف – عليه السلام – قوله تعالى بعد ذلك عن الساقي: )وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة( (يوسف: 45).

ومعلوم أن النسيان من الله، وأما الشيطان فسبب من أسبابه، إذ يوسوس إلى الإنسان بما يشغله عن الشيء حتى يزول عن قلبه ذكره – عليه السلام – وعلى فرض تسليمنا بما زعمه هؤلاء في قولهم: إن يوسف – عليه السلام – هو الناسي وأن الشيطان قد أنساه ذكر ربه، فإن ذلك أيضا لا يجعله – عليه السلام – يستحق العقاب باللبث في السجن، إذ الناسي غير مؤاخذ[5]، وعلى كل فلم يصدر من يوسف – عليه السلام – ما يتنافى مع عصمة الله له.

ثانيا. مكث سيدنا يوسف في السجن لم يكن عقابا ولا تأديبا من الله له، بل كان رحمة به، وإعزازا لشأنه، ولأمور أخرى اقتضتها حكمة الله عز وجل:

لم يختر يوسف – عليه السلام – السجن كما يتوهم بعض الناس، ولكنه فضله على ما تدعوه إليه النسوة، وكأنه قال: السجن بكل ما فيه من لوعة، وقسوة، وذلة، وصغار، وكرب، وغربة، أحب إلى من قصر منيف أتعرض فيه لهذا النوع من المراودة؛ فإن الصبر على السجن أحب إلي من الصبر على هؤلاء النسوة، ورؤية هذه الوجوه الشعثة في تلك القصور المقفرة الخالية من الأخلاق السامية، والمثل العليا، فالسجن أحب إلي؛ لأنه مكان لا يعوقني فيه عائق عن طاعتك يا رب، ولا يحول بين التفكر في بديع مخلوقاتك وجلائل نعمك عائق بخلاف تلك القصور التي ينسى الإنسان فيها نفسه، ويفقد فيها حسه، ولا يجد فيها ما يعينه على طاعة مولاه[6]، وهذا كان مراد يوسف – عليه السلام – من قوله: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف: 33).

وعلى هذا فإن مكوث يوسف – عليه السلام – في السجن بضع سنين لم يكن عقابا له على خطأ، أو تقصير؛ لأن وقوع الخطأ أو التقصير يتنافى مع وصف الله له، بأنه من عباد الله المخلصين، بل كان لبثه في السجن رحمة به، وإعزازا لشأنه، فقد أصقل الله مواهبه في السجن، وأطلعه على كثير من الأمور التي ما كان ليطلع عليها، وهو في قصر العزيز، أو خارج أسوار السجن.

الخلاصة:

يرى بعض العلماء أن طلب يوسف – عليه السلام – من الساقي أن يذكره عند ربه فيه مخالفة للأولى؛ لأنه استعان بالبشر، ولم يستعن بالله مباشرة؛ لأن الأنبياء علاقتهم مباشرة مع الله – عز وجل – خالق الأسباب، أما التعويل على الأسباب فلعامة البشر، بيد أن مخالفة الأولى لا تعد ذنبا ولا يطعن بها في عصمة الأنبياء.

بينما يرى بعضهم أن يوسف – عليه السلام – لم تقع منه مخالفة للأولى؛ لأنه أراد من قوله: )اذكرني عند ربك( التوصل به إلى هداية الملك، أو أن قوله جاء مباشرة طاعة لله – عز وجل – في الأخذ بالأسباب، مما لا يتنافى مع توكله على الله – عز وجل – فالأخذ بالأسباب جائز في حق الأنبياء.

لم يكن لبث يوسف – عليه السلام – في السجن بضع سنين عقابا له من الله على ذنب ارتكبه، بل لقد اختار يوسف – عليه السلام – السجن، وفضله على الحياة في القصر وما تدعوه إليه النسوة، وقد كان لهذا فوائد عديدة، منها إعزاز شأنه واطلاعه على كثير من الأمور التي ما كان ليطلع عليها خارج السجن.

 

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. islameyat.com

[1]. ربك: سيدك.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص317.

[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: هاني الحاج، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د. ت، ج4، ص272.

[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص318، 319 بتصرف يسير.

[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص199 بتصرف يسير.

[6]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص118.

المصدر

ادعاء أن القرآن والإنجيل يثبتان أفضلية المسيح – عليه السلام – على محمد صلى الله عليه وسلم

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم والإنجيل يثبتان أفضلية المسيح – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – ويستدلون على زعمهم بما يأتي:

أن عيسى – عليه السلام – ابن الله، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – بشر، ويستندون في ذلك إلى عبارة: “أني قلت: إني ابن الله”.

أن يسوع أجرى المعجزات، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم تؤثر عنه أية معجزة، ويستندون في دعواهم إلى قوله سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون( (الإسراء: 59).

أن عيسى – عليه السلام – يعلم الغيب: )وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم( (آل عمران: 49)، وأن محمدا لا علم له به: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير( (الأعراف: 188).

أن عيسى – عليه السلام – يشفع في خطايا العالم كله، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لا يشفع، ولا تقبل منه الشفاعة، ويستدلون بقوله سبحانه وتعالى: )إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم( (التوبة: 80).

أن المسيح – عليه السلام – دعا للمحبة والسلام، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – سن لأمته الإرهاب، ويستندون في ادعائهم إلى قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65)( (الأنفال).

وجوه إبطال الشبهة:

1)   المفاضلة الصحيحة بين اثنين تكون في نص واحد، لا في نصين متباينين، من حيث صحة المعنى وصحة التوثيق، وعبارة: “أني قلت: إني ابن الله” مقابلة ومعارضة بتصريحات الأناجيل المتكررة بأن عيسى عليه السلام “ابن الإنسان”؛ فكيف يقوي الإنجيل على محاجة القرآن وهو متناقض ينقض بعضه بعضا، فمرة يقول هو: “ابن الله”، ومرة يقول: “ابن الإنسان”.

2)   المسيح – عليه السلام – لم يفعل المعجزات استقلالا، ولكن الله – سبحانه وتعالى – أجراها على يديه تصديقا له، ولقد أيد الله – عز وجل – محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن، والمقصود بالآيات الممتنع إرسالها إلى محمد – عليه السلام – هي الآيات المقترحة من المشركين، لا مطلق الآيات.

3)   إن علم الغيب هو بيد الله – عز وجل – لا يظهر عليه أحد إلا من ارتضى من رسول مرسل أو ملك مقرب، وما اطلع عليه عيسى – عليه السلام – من أمر الغيب هو من هذا القبيل، وهو ليس بدعا من الرسل، فنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – أيضا ممن أطلعه الله – عز وجل – على أمور غيبية، وقوله – سبحانه وتعالى – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير( (الأعراف:188) لا تفيد نفي علم الغيب عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

4)   إن الشفاعة التي يزعمها النصارى لعيسى – عليه السلام – شفاعة أوحى بها فكرهم الباطل ومنطقهم الفاسد، ليبيحوا لأنفسهم فعل المنكرات واستحلال المحرمات، وبلغ من حمقهم أن أجازوها – أي: الشفاعة – للناس برمتهم المؤمنين منهم بعيسى – عليه السلام – وغير المؤمنين به.

5)   ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوته للسلم في الأحوال كلها مهانة ومذلة، لا يرضاها ذو مروءة وكرامة – فضلا عن نبي مرسل – فالأمر إذا اقتضى القتال فالعفو فيه تهاون وخذلان، وتحريض النبي – صلى الله عليه وسلم – للمؤمنين على القتال من هذا الباب.

التفصيل:

أولا. المفاضلة الصحيحة بين اثنين تكون في نص واحد، لا في نصين متباينين:

على من أراد المفاضلة بين اثنين مفاضلة صحيحة، أن يفاضل بينهما في نص واحد، أما أن يفاضل بعضهم بين النبي – صلى الله عليه وسلم – في القرآن، وعيسى في الإنجيل، فأمر لا يجوز؛ ذلك أننا لا نؤمن بأن الكتاب المقدس الحالي بعهديه وحي من عند الله، ولا النصارى أنفسهم يقولون: إنه وحي منزل، بل هو مكتوب بأيدي من نسب إليهم؛ وعليه فالمفاضلة ليست من الصحة في شيء.

أما عبارة: “أني قلت: إني ابن الله” فهي مناقضة ومعارضة بتصريحات الأناجيل المتكررة بأن عيسى عليه السلام “ابن الإنسان”: “فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان”. (متى 10: 23)، “فإن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا في ملكوته”. (متى: 17: 40)، “وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء. وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان”. (يوحنا 3: 13، 14).

وعقلاء النصارى يدركون أن معتقد بني دينهم أن الله ثلاثة – الآب، والابن، والروح القدس – باطل، وأنه إله واحد، وكون عيسى ابن الله على الحقيقة لم يرد في كلام عيسى، وأن التعبير بـ “ابن الله” تعبير مجازي، كما جاء أن الجميع أبناء الله، يقول د. نظمي لوقا: “ولم يرد على لسان المسيح في أقواله الواردة في بشارات حوارييه – الأناجيل – إشارة إلى شيء من ذلك “التثليث النصراني”، بل كان يدعو نفسه على الدوام بـ “ابن الإنسان”، أما البنوة لله – عز وجل – فما ورد لها ذكر إلا على سبيل المجاز المطلق، وبمعنى يشمل البشر كافة، حين أوصى أن تكون صلاة الناس إلى الله بادئة بقولهم: “أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك”. (متى 6: 9)، وحين طالب أتباعه وجميع الناس أن يسلكوا طريق البر؛ كي يكونوا جديرين بنسبتهم إلى الله: “أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات”. (متى 5: 44، 45)[1].

وبناء على ما سبق، فلا فرق بين ما صرحت به الأناجيل في شأن عيسى من أنه ابن الإنسان، وبين النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ومجيء القرآن مصرحا بأنه بشر؛ فالأنبياء جميعا بشر أرسلهم الله إلى البشر، قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم( (الأنبياء: ٧)، وقال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق( (الفرقان:٢٠) بشر بكامل خواص البشرية.

ثانيا. المسيح لم يفعل المعجزات استقلالا، ولكن الله – عز وجل – أجراها على يديه تصديقا له، كما أن الله أيد محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن الكريم:

إن من يزعمون أن يسوع أجرى المعجزات، مستدلين بنص الأناجيل: “عمل كل شيء حسنا، جعل الصم يسمعون، والخرس يتكلمون”. (مرقس 7: 37)، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يـجر المعجزات، مستدلين على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)، متخذين ذلك دليلا على تفضيل عيسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – زعم باطل وقول متهافت.

نعم إن الله – عز وجل – أجرى المعجزات على يد عيسى – عليه السلام – تصديقا له، ولا ينكر ذلك المسلمون، والقرآن الكريم يذكر ذلك في الآيات: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)( (آل عمران).

وقوله: )إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)( (المائدة)، ولكنه لم يفعلها استقلالا، وإنما هي من فعل الله، أظهرها على يدي عيسى – عليه السلام – وإذا نسبت إليه في القرآن، أو في الإنجيل، فهي نسبة مجازية، كما ينسب الشيء الواحد إلى أكثر من ذات، حسب دور كل من نسب إليه، فينسب إلى فاعله الأصلي، وينسب إلى من باشره، وينسب إلى من تسبب فيه… إلخ.

كما نسب الله – عز وجل – التوفي إلى الله، وإلى ملك الموت، فعيسى – عليه السلام – يمسح بيده على الأبرص، فيعقب هذا المسح أن يبرئه الله – عز وجل – من هذا الداء، وينفخ فيما شكله من الطين، فيعقب هذا النفخ أن يوجد الله – عز وجل – الحياة، فنسب هذا وذاك إلى عيسى باعتباره متسببا.

وأما نفي المعجزات عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بحجة قوله سبحانه وتعالى: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون( (الإسراء: ٥٩)؛ فليس المراد بالآيات التي امتنع الله من إرسالها مطلق المعجزات التي تؤيد الرسول في صدقه ودعواه النبوة، ولكن المراد الآيات التي يقترحها المشركون، فالله – سبحانه وتعالى – لم يلب ما طلبوه؛ لأن من سبقهم من الأمم طلبوا من رسلهم آيات، وجاءتهم الآيات بناء على ما طلبوا، فما ازدادوا إلا تكذيبا، كما حدث من بني إسرائيل مع نبيهم موسى – عليه السلام – وكما حدث من عاد وثمود، فإن من طلب الآيات وجاءته، واستمر على التكذيب هلك، فالمقصود بالآيات الممتنع إرسالها الآيات المقترحة، لا مطلق الآيات.

عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: «سأل أهل مكة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني[2] بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم، قال: لا، بل أستأني بهم، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – قوله: )وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (59)( (الإسراء)»[3].

وقد أيد الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات الباهرات، وأعظمها معجزة القرآن الكريم، تلك المعجزة التي تخاطب العقول وتستحوذ على القلوب، وهي معجزة باقية صالحة للأمم جميعا، ولمستويات الناس كافة أبد الدهر، وما زال القرآن الكريم يثبت لأولي العلم كل يوم أنه وحي من الله، وليس من عند بشر، وأنه الذي بلغه رسول الله للناس، هذا فضلا عن معجزاته – صلى الله عليه وسلم – الأخرى التي جرت على يديه، منها ما أثبته القرآن الكريم، ومنها ما جاء في سنته، فمن معجزاته في القرآن الكريم معجزة الإسراء والمعراج، وانشقاق القمر، وإخباره بالغيب بجميع أنواعه: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وما أكثر ما جاء في السنة من معجزات، كنبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع، وتكثير الطعام القليل[4].

ثالثا. الذي يعلم الغيب ويعلم ما في القلوب هو علام الغيوب – عز وجل – وحده دون غيره:

ينسب بعضهم علم الغيب إلى عيسى – عليه السلام – استنادا إلى عبارة جاءت في العهد الجديد تقول: “فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص للكلى والقلوب، وسأعطي كل واحد منكم بحسب أعماله”. (رؤيا يوحنا اللاهوتي 2: 23). وينفي علم الغيب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – استنادا إلى قوله سبحانه وتعالى: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير( (الأعراف: 188)، وقوله عز وجل: )قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك( (الأنعام: 50).

وللجواب عن هذا نقول: لا نسلم بأن عيسى – عليه السلام – يقول مثل هذا الكلام، فهو ليس إلها ولا ابن إله، حتى يوحي إلى يوحنا بهذا الكلام، وإذا كان عيسى – عليه السلام – سيكلف يوحنا برسالة إلى الكنائس كما جاء في مستهل رؤيا اللاهوتي، فإنما يكلفه بأن يدعو الناس إلى عبادة الإله الواحد، ومتى كانت الكلى موضع أسرار؟! على أي حال، إن الذي يعلم ما في القلوب هو علام الغيوب – سبحانه وتعالى – وحده دون غيره.

وأما قول الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: )ولا أعلم الغيب( (الأنعام: 50) فهذا حق لا ريب فيه، فلا النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا غيره من البشر، ولكن النبي إذا علم، وظهر له من الغيب شيئا، فإنما بتعليم الله له، قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول( (الجن)، وقد أظهر الله – عز وجل – لنبيه من الغيب ما كان آية على صدقه، فقال سبحانه وتعالى: )غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4)( (الروم)، ولو لم يتحقق ما جرى على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم – ونبوءته بهذا الحدث الكبير في هذه الأمة العظمى – وهو حدث ترقبه العالم آنذاك – لكذب الناس بالقرآن وما صدقه أحد، وهناك الكثير من الأحداث التي أخبرت بالغيب جاءت على لسان رسول الله في سنته؛ كإخباره بعلامات الساعة: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان»[5]. وقد تحققت هذه الأخبار وغيرها، مما يثبت صدقه صلى الله عليه وسلم.

ولو افترضنا – جدلا – أن عيسى – عليه السلام – قال هذا الكلام، فليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب بل يكون علمه بأمور جزئية أعلمها الله له لتقع في المستقبل للدلالة على نبوته، كما أخبر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – عن أمور كثيرة تقع في المستقبل ووقعت بالفعل مثل فتن وملاحم آخر الزمان، وعلامات الساعة، والإعجاز العلمي الذي أخبر به القرآن والسنة، وما زال يقع ويتحقق حتى اليوم.

رابعا. دليلهم على شفاعة عيسى للخطايا يتعارض مع العقل والواقع النصراني نفسه، وقد نفى الله – عز وجل – شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – في المنافقين:

في هذه المقارنة يثبتون الشفاعة لعيسى، وينفونها عن محمد – صلى الله عليه وسلم – ففي حق عيسى – عليه السلام – جاء في إنجيل يوحنا: “أنا قد جئت نورا إلى العالم، حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة. وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم”. (يوحنا 12: 46، 47). وفي حق محمد – صلى الله عليه وسلم – يستشهدون بقوله سبحانه وتعالى: )استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم( (التوبة: ٨٠).

أما ما جعلوه دليلا على شفاعة عيسى – عليه السلام – لخطاياهم، وخطايا كل العالم، فهو يتعارض مع العقل والواقع النصراني نفسه؛ حيث إن شفاعة عيسى – عليه السلام – للخطايا تعد تحريضا على ارتكاب كل الرذائل والمنكرات، ما دام المسيح يشفع لكم بمجرد أن تؤمنوا بأنه المخلص، فهل ترضون – معاشر القساوسة – لأتباعكم أن يرتكبوا كل المنكرات باسم شفاعة عيسى – عليه السلام – وتكفيره لخطاياكم؟! وما جدوى مواعظكم في بني دينكم إذا كان الأمر كذلك؟

لقد فهم المسيحيون في الغرب الأمر على هذا الوجه، إنهم يستبيحون لأنفسهم كل الشهوات الدنيوية بلا حدود على اعتبار أن هذا حق الجسد من المتعة، ويكفيهم من أمر الآخرة أن المسيح مخلص لهم!

وأعجب من ذلك حينما يعممون القاعدة في حق العالم جميعا، حتى من لم يؤمن بالمسيح – على طريقتهم – فهل تكفر خطايا جميع العالم بشفاعة المسيح من آمن به، ومن لم يؤمن به؟!

إذن فليفسد العالم، ولينتشر الفسق والفجور ما دام المسيح سيشفع للعالم عن خطاياه في نهاية الأمر!

أما الآية التي استدلوا بها على نفي شفاعة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فهي واردة في حق المنافقين، وهم قوم أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، والنفاق أشرس أنواع الكفر، وأخطر من الكفر الصريح، فحق عليهم ألا يغفر لهم، وهذا إخبار من الله لنبيه، ما لم يكن يعلمه في شأنهم.

وصدق الله – سبحانه وتعالى – القائل: )ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124)( (النساء).

إن الشفاعة لا تكون إلا لمن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ومن آمن فإن إيمانه حتما سيدفعه إلى شيء من العمل، فيتداركه الله بشفاعة الشافعين في بعض ما قصر بمنه وكرمه.

خامسا. ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوته للسلم في كل الأحوال مهانة ومذلة، لا يرضاها ذو مروءة وكرامة، فضلا عن نبي مرسل، فالأمر إذا اقتضى القتال فالعفو فيه تهاون وخذلان:

وهذه المفاضلة تدخل ضمن ترويج اتهام الإسلام بالإرهاب، وأنه انتشر بالسيف، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – سن لأمته الإرهاب، فكانوا إرهابيين، أما المسيحية فهي دعوة للمحبة والسلام. ويستدلون على منع يسوع أتباعه من استعمال السيف بقوله: “رد سيفك إلى مكانه؛ لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون”. (متى 26: 52) وبقوله: “سمعتم أن قيل: عين بعين، وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا”. (متى 5: 38، 39).

أما محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد حث أتباعه على استعمال السيف: )يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال( (الأنفال: ٦٥)، وهذه مغالطة ومناقضة، فهم لا ينقلون عن المسيح قوله: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني”. (متى 10: 34: 37).

“لكن المسيحية اضطرت في القرن الرابع – أي بعد أن أصبح لها دولة تحت قيادة الإمبراطور قسطنطين – أن تستأصل شأفة الوثنية من المملكة الرومانية بالحديد والنار؛ ثم لما حصلت الكنيسة على السلطة الزمنية، جعلت الحرب من وسائلها، فاتخذت الجيوش والأساطيل.. وهل يغيب عن ذاكرة أحد.. الحروب الصليبية أو ما ورد في الكتاب المقدس من أوامر بالقتل، والتدمير، والقهر، والاستئصال لسكان المدائن التي اختص بها بنو إسرائيل دون أهلها الأصليين”[6].

فكيف يلتقي هذا مع ما استدلوا به من ترك السيف؟! فإما أن يكون النصان متناقضين، وإما أن تكون تعاليم السيد المسيح مثل تعاليم النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الأمر، وإن أخطئوا في تصويرها؛ فيكون العفو في موضعه، والقتال في موضعه، فإذا كان الأمر يقتضي قتالا لعدو معتد باطش؛ فالعفو هنا تهاون وفتنة في الدين، ومهانة لدين الله وتابعيه، وإن كان العفو عند القدرة يقود إلى تذوق سماحة الإسلام؛ للانقياد له فهو عفو مطلوب.

لكن هذه المهانة والمذلة التي تقولوها على السيد المسيح لا يرضاها ذو مروءة وكرامة فضلا عن نبي مرسل، فمن من العقلاء إذا لطمه شخص على خده حول له خده الآخر، ليلطمه بدل اللطمة لطمتين؟! وهل يرضى مسيحي بهذا من مسيحي مثله فضلا عمن يخالفه في الدين؟! هل عمل بهذا مسيحي في تاريخهم؟ كم لطموا الأبرياء بغير حق لطمات تلوثت بها أيديهم، وتلوثت بها صفحات التاريخ الذي كتب مآسيهم.

الخلاصة:

من أراد أن يفاضل بين اثنين مفاضلة صحيحة، فلا بد أن يفاضل بينهما في نص واحد، لا في نصين متباينين، فالقرآن هم لا يؤمنون به ولا بنبيه، والإنجيل الذي بين أيديهم نحن لا نؤمن بأنه وحي من عند الله. وعبارة: “أني قلت إني ابن الله” مقابلة ومعارضة بتصريحات الأناجيل بأن عيسى – عليه السلام – ابن الإنسان، وعقلاء النصارى أنفسهم يعتقدون أن معتقد بني دينهم بأن الله ثلاثة – الأب، والابن، والروح – باطل؛ لأنه إله واحد.

لم يفعل المسيح المعجزات استقلالا، وإنما هي من فعل الله، أظهرها على يديه تصديقا له، ونسبتها إليه نسبة مجازية، كما ينسب الشيء الواحد إلى أكثر من ذات، كما نسب التوفي إلى الله، وإلى ملك الموت.

إن الآيات التي امتنع الله من إرسالها ليس مطلق المعجزات التي تؤيد الرسول في صدقه ودعواه النبوة، ولكن المراد هنا الآيات التي يطلبها المشركون، ولقد أيد الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات المبهرة، وأعظمها معجزة القرآن الكريم.

إن الذي يعلم الغيب ويعلم ما في القلوب هو الله – عز وجل – علام الغيوب وحده دون غيره، وعيسى – عليه السلام – ليس إلها ولا ابن إله حتى يوحي إلى أحد. والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم الغيب – حقا – من تلقاء نفسه، ولا غيره من البشر، ولكن الله – عز وجل – أظهر لنبيه – صلى الله عليه وسلم – من الغيب ما كان آية على صدقه، كإخباره – صلى الله عليه وسلم – بعلامات الساعة، والتنبؤ بانتصار الروم وغيرهما.

شفاعة عيسى – عليه السلام – في الخطايا تتعارض مع العقل والواقع النصراني؛ حيث إنها تحرض على ارتكاب كل الرذائل والمنكرات، بحيث لا تجدي مواعظ القساوسة في بني دينهم، والآية التي استدلوا بها على نفي شفاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – واردة في حق المنافقين.

ما نسب ولفق للمسيح – عليه السلام – من دعوة للسلم وإلقاء السيف في كل الأحوال مهانة ومذلة لا يرضاها ذو مروءة وكرامة فضلا عن نبي مرسل، فالعفو يوضع في موضعه والقتال في موضعه، فإذا كان الأمر يقتضي قتالا لعدو باطش فالعفو هنا تهاون، وفتنة في الدين، وتاريخ المسيحية المليء بالدم والحروب والمذابح خير شاهد – في الماضي والحاضر – على خطأ هذا التلفيق، وكذلك نصوص الكتاب المقدس التي تأمر صراحة بالقتل والإبادة والتدمير.

 

(*) الإسلام بدون حجاب، أبو عبد الله العربي، د. م، د. ن، د. ت.

[1]. محمد الرسالة والرسول، نظمي لوقا، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1959م، ص41.

[2]. تستأني: تتمهل.

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنه (2333)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[4]. سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1986م، ج9، ص555: 618، ج10، ص13: 900. دلائل النبوة، البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص57: 164.

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر (102).

[6]. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411 هـ/ 1991م، ص181، 182.

المصدر

ادعاء أن العزير – عليه السلام – ابن الله

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن العزير ابن الله، مستدلين على ادعائهم هذا بأنه كتب التوراة بعد ضياعها من صدور اليهود؛ ولذلك قالت اليهود: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله.

وجها إبطال الشبهة:

1)  إن اتخاذ الولد من قبل البشر للضعف المستحكم فيهم، فهم يتخذون الولد لإيجاد المعين، وتخليد الذكر بعد الوفاة، وإلى غير ذلك من الأسباب، والله – عز وجل – مستغن عن كل هذه الأسباب.

2)     إن أدلة النقل والعقل تنفي عن الله – عز وجل – اتخاذ الولد، وتثبت أنه محض افتراء.

التفصيل:

أولا. اتخاذ الأولاد يكون له أسباب، وليس هناك سبب لأن يتخذ الله ولدا:

إن هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله – سبحانه وتعالى – وكمال عظمته، ذلك أن متخذ الولد ضعيف يحتاج إلى معين، وقد تعددت الأسباب التي من أجلها اتخذ الإنسان الولد، وحصرت فيما يأتي:

أنه يريد أن يبقي ذكره في الدنيا بعد أن يرحل، والله – سبحانه وتعالى – هو الحي الذي لا يموت.

أنه يريد إعانة ابنه له عندما يكبر ويضعف، والله – سبحانه وتعالى – هو القوي.

أنه يريد أن يرث ماله وما يملك، والله – سبحانه وتعالى – يرث الأرض ومن عليها.

أنه يريد أن تكون له عزة ومنعة باستكثار الولد، والله – عز وجل – عزيز بلا ولد ولا عشيرة.

وكما هو ملاحظ فإن هذه الأسباب تتلبس بالضعيف المفتقر إليها، لا القوي الغني عنها، إذ كيف يستقيم القول عقلا بأن الله – عز وجل – المنزه عن كل نقص يتخذ ولدا، واتخاذ الولد نقص يطعن في كمال ألوهيته وربوبيته؟! وهذه آية جلية تدل على أن هذه العقيدة عقيدة باطلة افتراها قلب غير سليم، أنزل الإله من مقام الألوهية إلى مقام البشرية، ثم كيف لرسول معصوم موحى إليه أن ينقل عن ربه كلاما ينتقص من كمال صفاته؟! تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا[1].

ثانيا. الأدلة النقلية والعقلية تنفي بنوة العزير – عليه السلام – لله عز وجل:

الأدلة النقلية:

لقد رد الله – عز وجل – على اليهود زعمهم الباطل حيث يقول: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)( (التوبة)، أي يشابهون في قولهم: “إن عزيرا ابن الله” قول الأمم الوثنية القديمة التي كانت تقول بتعدد الآلهة، وهو محض زعم لا دليل عليه، بل هو تقليد أعمى وحقد دفين من قبل اليهود لرب العزة، قال سبحانه وتعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وهي سورة صريحة في نفي الولد، والوالد، والصاحبة عن الله عز وجل.

وقوله سبحانه وتعالى: )وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116)( (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون (91)( (المؤمنون).

إن هذه الآيات وغيرها تضافرت لتأكيد حقيقة نفي الولد عن الله – عز وجل – فآية البقرة السالفة تنزهه – عز وجل – عن ذلك وتستشكل حصوله، ولسان مقالها وحالها، كيف يتخذ الولد؟! وقد ملك السماوات والأرض وما فيهما. وكأنها تشير إلى سبب رئيسي في اتخاذ الولد، وهو ابتغاء المعين والمساعد، والله منزه عن ذلك؛ لأنه أغنى الأغنياء، وفي آية سورة مريم نلحظ أن القرآن الكريم قد تدرج في ذكر الأدلة الداحضة فالسماوات تمور، والأرض تتصدع، والجبال تندك؛ لهول هذا الادعاء وشدته، وهي آية كونية عظيمة تفيد أن الكون برمته عبد ذليل لله – عز وجل – وقد أحصاهم تعالى على كثرتهم – كما تؤكد الآية – وسيبعثهم يوم القيامة فرادى. ويستمر القرآن في عرض أدلته الداحضة في آية سورة المؤمنين، وهي تشتمل على دليل أقوى من سابقيه، ذلك أن الله – عز وجل – خاطب العقلاء ممن يتخذون لله الولد بما مفاده أنه لو اتخذ الولد – تعالى عن ذلك علوا كبيرا – لطمحت نفس الولد إلى الألوهية وزاحمته عليها، أو شاركته فيها، والمشاركة مظنة التنازع والتنافس والخصام لبغى أحد الشريكين على الآخر، ولو أجزنا لله ذلك – وحاشاه تعالى – لفسد الكون، وضاعت مصالح العباد، وتبددت الحكمة التي من أجلها خلق الله الناس في الأرض واستعمرهم فيها، ألا وهي العبادة.

الأدلة العقلية:

الشبهة تتنافى مع العقل والمنطق السليمين:

السبب الذي جعل اليهود يزعمون أن عزيرا ابن الله، هو أن عزيرا قد كتب التوراة بعد ضياعها من صدور اليهود؛ ولذلك قالت اليهود: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ فالله – عز وجل – ليس بحاجة إلى أحد من خلقه حتى يتخذ له ولدا، فالذي يبحث عن الولد ويتخذه لا بد أن يكون نتيجة شعوره بالحاجة، وحاجته بالفعل تتمثل في حاجته للوقوف بجانبه عند كبره، وحاجته لإبقاء ذكره من بعده.. وما إلى غير ذلك من صنوف الحاجات البشرية، لكن الغني مطلقا ما حاجته إلى الولد؟

والذي يتخذ له ولدا من الطبيعي أن يكون بينه وبين ولده تجانس وتشابه، فإذا كان الوالد إنسانا كان الولد كذلك، وإذا كان الوالد حيوانا كان الولد كذلك، وهكذا لو صح كلامهم لكان عزير إلها! ولو سلمنا بذلك الزعم، فهل يصح أن يكون للكون إلهان؟!

إن هذا ما لم يكن ولن يكون، إن ما في الكون من سنن ثابتة، وقوانين مطردة، ونظام محكم يدل على وحدانية الإله الخالق لهذا الكون؛ لأنه لو اشترك في الخلق أكثر من إله لفسد الوجود؛ لأن من شأن الإله أن يكون تام العلم نافذ الأمر مطلق الإرادة كامل القدرة؛ فإذا كان كل واحد منهما متصفا بهذه الصفات فلا بد أن تظهر آثارها في الوجود، وعندئذ يقع التنازع والاختلاف الذي يؤدي إلى الفساد، ويتفق هذا مع ما استقر في فطرة البشر من أن تعدد الرئاسة للشيء الواحد يؤدي إلى تضارب الآراء واختلاف الأهواء، فإذا كان هذا من صفات البشر الذين يتصور انقياد بعضهم لبعض، فكيف يكون الأمر بالنسبة للألوهية التي تقتضي الكبرياء والعلو والهيمنة والعظمة؟

وهكذا نجد أن التعدد يؤدي إلى الفساد، ولما كان الكون بريئا من الاختلاف منزها عن الفساد، فإن ذلك دليل على وحدة خالقه وصانعه، وهو الله – سبحانه وتعالى – وفي ذلك يقول القرآن: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)( (الأنبياء)،، وإذا كانت النتائج الملموسة في الواقع تصدق صحة الفرض، كان ذلك دليلا على أن الفرض صحيح، أما إذا كانت نتائجه فاسدة فإن ذلك يكون دليلا على فساد الفرض، وتسمى هذه الطريقة في المنطق بطريقة التفنيد، وقد بين القرآن أن افتراض تعدد الآلهة يؤدي إلى فساد الوجود، لكن الوجود غير فاسد، إذن فهذا الافتراض فاسد، والقول بوحدانية الإله هو الصحيح؛ ويسمى الدليل الذي استخلصه المتكلمون من الآية الأولى هنا دليل التمانع.. ومما قالوه في هذا الدليل: إننا إذا افترضنا وجود إلهين، وأراد أحدهما شيئا فإما أن يستطيع الآخر إرادة ضده أولا يستطيع، وكلا الأمرين محال، لما يترتب عليهما؛ لأنه إذا أراد أحدهما حركة شيء وأراد الثاني سكونه، فإما أن يقع الأمران معا، وهذا غير ممكن لأن الشيء لا يكون متحركا ساكنا في وقت واحد باعتبار واحد، وإما أن يتخلف الأمران معا فيكون الشيء لا ساكنا ولا متحركا وهذا باطل أيضا؛ لأن الشيء لا بد أن يوصف بواحد منهما فيكون متحركا أو ساكنا، فيلزم وصف الإلهين – على هذا الفرض – بالعجز؛ لعدم نفاذ إرادتهما، فإذا تحقق مراد أحدهما دون الآخر، فالذي تحقق مراده يكون هو الإله، أما العاجز فلا يوصف بالألوهية.

التوحيد والفطرة الإنسانية:

أوضح القرآن أن الإيمان بإله واحد هو الذي يستقيم مع الفطرة الإنسانية؛ لأن مثل هذا الاعتقاد يؤدي إلى استقامة الشعور، ووحدة الاتجاه، ووحدة الولاء؛ لأن صاحب هذه العقيدة يرجع الأمر كله لله: خلقا، ورزقا، وإحياء، وإماتة، وتصريفا، وتدبيرا، وإعطاء ومنعا، ورفعا وخفضا، فإذا آمن الإنسان بهذا إيمانا راسخا ثابتا في القلب والضمير، فإنه لن يتوجه – عندئذ – بقلبه ومشاعره وعبادته إلا لهذا الإله وحده، يرجو رحمته، ويخشى عذابه، لا يتوكل إلا عليه ولا يلجأ إلا إليه، ولا يطلب حوائجه إلا منه، تقر عينه بعبادته، ويهفو قلبه إلى قربه ومحبته، يصبر على بلائه، ويرضى بقضائه، يشكو إليه ضره، ويرجو منه خيره، فيزداد لله شكرا وطاعة وقربا، فإذا كان المؤمن – على هذا الحال – استقامت نفسه، واطمأن قلبه وتوحدت مشاعره، وتحددت قبلته: )إن ربي على صراط مستقيم (56)( (هود)، وأيقن أن لا إله للكون إلا إله واحد.

 وعلى هذا فلا نستطيع أن نصف عزيرا بأنه “ابن الله” لدليل واه لم يثبت أمام الأدلة النقلية والعقلية التي أوردناها، فضلا عن أن اليهود لهم هوى في إسباغ خصال البشرية على الذات الإلهية، والمطلع على التوراة يقف على صحة هذا الكلام.

الخلاصة:

لقد قامت الأدلة النقلية والعقلية على استحالة أن يكون لله – عز وجل – شريك أو ولد، والله تعالى ليس بحاجة إلى أحد من خلقه حتى يتخذ له ولدا، فالذي يبحث عن الولد ويتخذه لا بد أن يكون هذا نتيجة لشعوره بالحاجة، ولكن الغني غنى مطلقا ما حاجته إلى الولد؟!

ثم إن الكون ليس له إلا إله واحد وهو الله رب العالمين، ولو كان ما يقولونه صحيحا لثبت أن يكون عزير أيضا إلها، وهذا ما لا يستقيم عقلا: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)( (الأنبياء).

إن اليهود لهم هوى في إنزال الإله من مقامه العظيم إلى مقام البشرية الناقص، فهم لا يتركون أية مناسبة لإلصاق وصف الألوهية بعظمائهم بدون بينة ولا برهان.

 

(*) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي، د. أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزغبي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1998م.

[1]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص396 بتصرف.

المصدر

ادعاء أن موسى – عليه السلام – استهان بكلام الله واعتدى على نبي الله هارون عليه السلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن موسى – عليه السلام – أهان كلام الله وآذى نبيه، ويستدلون على زعمهم بقوله سبحانه وتعالى: )ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150)( (الأعراف). ففي إلقاء الألواح – وما فيها من كلام الله – إهانة لها، وإخلال بواجب تعظيمها – حتى على القول بعدم تكسرها – وفي الأخذ برأس هارون – عليه السلام – ولحيته إيذاء له، وهو نبي بدليل قوله سبحانه وتعالى: )قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)( (طه). ويتساءلون: كيف يصدر ذلك عن نبي؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  إلقاء الألواح لا يقتضي إهانتها، وليس في الأمر إلا العجلة في الوضع الناشئ عن الغيرة لله تعالى.

2) أخذ موسى – عليه السلام – بشعر رأس هارون – عليه السلام – ولحيته ليس ذنبا؛ لأنه لم يكن يجره إليه على سبيل الإيذاء، بل كان يدنيه إلى نفسه؛ ليتبين منه حقيقة الأمر في تلك الواقعة (عبادة العجل)، ويعرف منه كيف وقعت.

التفصيل:

أولا. إلقاء الألواح لا يقتضي إهانتها، وليس في الأمر إلا العجلة في الوضع الناشئ عن الغيرة لله تعالى:

فإلقاء الألواح لا يقتضي إهانتها، إذ كان السبب في إلقائها غضبه على قومه الذين عبدوا العجل، كما هو واضح من الآية الكريمة: )ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150)( (الأعراف). فإن العقل يقضي بأنه لا يستهين رسول بكلام ربه، وهو الذي يدعو إلى تعظيمه، والقيام بحقه.

و ينبغي فهم إلقاء موسى – عليه السلام – الألواح على أنه لما رأى قومه على ما رأى، غضب غضبا شديدا حمية للدين، وغيرة من الشرك برب العالمين، فعجل بوضع الألواح؛ لتفرغ يده، فيأخذ برأس أخيه، فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء؛ تفظيعا لفعل قومه الذي كان سببا له، وليس في وضع الألواح إهانة لكلام الله.

وعلى القول بأن بعض الألواح قد انكسرت، فلم يكن قصد موسى – عليه السلام – أن تنكسر، ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس ما في الأمر إلا العجلة في الوضع الناشئ عن الغيرة لله تعالى([1]).

ثانيا. أخذ موسى – عليه السلام – بشعر رأس هارون – عليه السلام – ولحيته ليس ذنبا؛ لأنه لم يكن يجره إليه على سبيل الإيذاء، بل كان يدنيه إلى نفسه؛ ليتبين منه حقيقة الأمر:

فقد كان خوف هارون – عليه السلام – أن يعتقد بنو إسرائيل أن موسى – عليه السلام – يؤذيه، ولهذا قال هارون إشفاقا على موسى: )لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي( (طه: ٩٤)، أي لئلا يظن القوم بك ما لا يليق، والأرجح أن أخذ موسى بلحية ورأس هارون – عليهما السلام – كان لشدة غضبه حين رأى قومه قد عبدوا العجل، ولظنه أن هارون ربما قصر في نهيهم عن ذلك، ولعدم لحاقه به حين رأى قومه قد ضلوا، ويكون إنكار موسى على هارون – عليهما السلام – لأن الواجب عليه – في نظر موسى – عليه السلام – أن يكف قومه عن عبادة العجل إن استطاع، أو يتبعه إلى جبل الطور إن لم يستطع كفهم عن عبادة العجل([2]).

والذي يقره العقل ويؤيده النقل أن هارون – عليه السلام – لم يقصر في نهي قومه عن اتخاذ العجل إلها وعبادة، وإنما بذل قصارى جهده للحيلولة دون ذلك؛ لأنه رسول مهمته الأولى الدعوة إلى عبادة الله وحده. فلا يعقل أن يسكت عن قومه، وهم ينكصون على أعقابهم – مرتدين بعد إيمانهم – والقرآن الكريم قد حكى عنه قوله لهم: )ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90)( (طه). ولكنهم لم يستجيبوا له، بل كادوا يقتلونه.

وأما أنه – عليه السلام – لم يتركهم بعد أن جاهد لردهم عن الضلال – ويتبع موسىعليه السلام؛ فلأنه لم يرد أن يخالف أمر موسى – عليه السلام – له في قوله: )اخلفني في قومي( (الأعراف)؛ ولأنه خشي – إن فارقهم – أن يلومه موسى – عليه السلام – على هذا؛ لأنه تفريق بين بني إسرائيل، ولهذا رد على موسى – عليه السلام – لما قال له: )قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92)( (طه) بقوله: )قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)( (طه).

أي الذي قلته لك حين استخلفتني فيهم، وعلى هذا فهارون – عليه السلام – لم يقصر في شيء مما كان عليه أن يفعله، وساحته بريئة من الذنب في هذا المقام كموسىعليه السلام.

واستغفار موسى عقيب ما تقدم لنفسه ولأخيه – عليهما السلام – لأن الأنبياء – عليهم السلام – يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم، ويندمون على مخالفة الأولى، ويستغفرون منه، حيث كان الأولى به رألا يروع أخاه هارون – عليه السلام – وألا يظن به التقصير، ولكن شدة الغضب، والغيرة لله على قومه في اتخاذهم العجل جعلته يفعل هذا وهارون – عليه السلام – خالف الأولى بتركه العجل، وكان الأولى أن يحرقه وينسفه([3]) في البحر، كما صنع موسىعليه السلام: )وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97)( (طه). ولكن مما يشفع لهارون – عليه السلام – أنه ليس بالقوة والشدة التي بهما موسىعليه السلام، فكان يخشى من القتل ما لايخشاه موسى([4]).

الخلاصة:

إلقاء الألواح لا يقتضي إهانتها، ولا إهانة كلام الله تعالى، وحاشا لنبي من الأنبياء أن يستهين بكلام الله، وكيف يستهين به وهو الذي يبلغه ويدعو إلى تعظيمه فهو أولى بالتعظيم له من غيره؛ ولكنه عندما رأى قومه على ما رأى من عبادة العجل غضب غضبا شديدا، فعجل بوضع الألواح تفظيعا لفعل قومه. فليس في الأمر إلا العجلة في الوضع الناشئ من الغيرة لله تعالى.

أخذ موسى برأس هارون – عليهما السلام – ولحيته ليس ذنبا؛ لأنه لم يكن يجره إليه على سبيل الإيذاء، بل كان يدنيه إلى نفسه؛ ليتبين منه حقيقة الأمر في تلك الواقعة، واستغفار موسى – عليه السلام – عقب ما تقدم لنفسه ولأخيه؛ لأن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم، ويندمون على مخالفة الأولى.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص341، 342.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص342.

[3]. ينسف: ينشر.

[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص343، 344.

المصدر

ادعاء أن النبوة مقصورة على إسحاق – عليه السلام – وولده دون إسماعيل عليه السلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن النبوة التي في ولد إبراهيم – عليه السلام – مقصورة على إسحاق – عليه السلام – وذريته دون إسماعيل – عليه السلام – وذريته، ويزعمون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يستطع أن يحدد من الذبيح، إسماعيل أم إسحاق – عليهما السلام -، ويهدفون من ذلك إلى تجريد العرب من كل فضل وشرف، وقصر النبوة على بني إسرائيل.

وجوه إبطال الشبهة:

1) النبوة في إسماعيل – عليه السلام – وولده ثابتة في القرآن الكريم والتوراة، رغم محاولة البعض طمس الحقائق أوتزييفها.

2) التوراة تنفي اختصاص بني إسرائيل بالنبوة، إذ إنهم يؤمنون بخمسة رسل من غير بني إسرائيل مثل: أيوب، ويونس – عليهما السلام – وهذا يناقض زعمهم ويسقط حجتهم في أنها مختصة في إسحاق – عليه السلام – وبنيه فقط.

3)  الوحي القرآني وضح قصة الذبيح،وليس النبي – صلى الله عليه وسلم – توضيحا لاخفاء ولا لبس فيه.

التفصيل:

أولا. نبوة إسماعيل – عليه السلام – ثابتة في القرآن الكريم والتوراة رغم محاولة طمس هذه الحقيقة:

إن نبوة إسماعيل – عليه السلام – وامتدادها في ولده وذريته – عليه السلام – ثابتة بالقرآن الكريم، فالآيات التي تثبت نبوة إسماعيل – عليه السلام – كثيرة، مثل قوله تعالى: )واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54 (مريم)، وقوله تعالى: )( وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان( (النساء: 163)، وقوله تعالى: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة)، وقوله تعالى: )قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران).

وكذلك فإن نبوة إسماعيلـ عليه السلام – ثابتة في نصوص التوراة، فمن ذلك: ما جاء في معرض الكلام عن إبراهيم عليه السلام: “وأثمرك كثيرا جدا، وأجعلك أمما، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك، وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك”. (التكوين 17: 6، 7).

ومعلوم أن نسل إبراهيم – عليه السلام – كل من جاء عن طريق أبنائه جميعا وذرياتهم وفي مقدمتهم ابنه الأكبر إسماعيل – عليه السلام – كما جاء في التوراة – العهد الأول – ما ينصرف إلى النبوة، فالنبوة ثابتة في إسماعيل – عليه السلام – وبنيه كما هي ثابتة في إسحاق – عليه السلام – وبنيه، لكن اليهود أرادوا إطفاء هذه الحقيقة، فقصروا العهد الإلهي على إسحاق – عليه السلام – وبنيه، وحرموا منه إسماعيل – عليه السلام – وبنيه عداء لهم، بعد أن جمعهم الله مع إسحاق – عليه السلام – وبنيه؛ فكلهم ذريته ونسله: “وقال إبراهيم لله: “ليت إسماعيل يعيش أمامك!” فقال الله: “بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق. وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا”. (التكوين17: 18ـ 20).

ثانيا. التوراة تنفي اختصاص النبوة في بني إسرائيل:

على أننا إذا رجعنا إلى التوراة نجد أن التوراة نفسها – على علاتها – تنفي دعوى اختصاص النبوة ببني إسرائيل، فقد ذكرت خمسة رسل من غير بني إسرائيل، وهم: ملكي صادق، ويثرون، وبلعان، وأيوب، ويونس[1].

إن الهدف من ذلك الادعاء هو تجريد العرب من كل فضل ومنقبة تنسب إليهم وليس في المناقب أعظم من وجود النبوة فيهم، وفي جدهم إسماعيل – عليه السلام – ونسبة كل فضل إلى اليهود وحدهم واسئثارهم بذلك الفضل، والتوراة التي حرفوها تدور في هذا الفلك، وهو بناء أمجاد بني إسرائيل، واستعبادهم العالم وتسلطهم عليه، لذا فهم عندما يسودونه تتحقق وعود الله المزعومة لشعبه المختار.

ثالثا. قصة الذبيح وضحها الوحي القرآني توضيحا شافيا، وليس النبي صلى الله عليه وسلم:

أما افتراء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يستطع أن يحدد من الذبيح أهو إسماعيل أم إسحاق عليهما السلام، فما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – ليحدد هذا الأمر أو غيره من تلقاء نفسه[2]، ولكنه وحي يوحى إليه، وقد امتحنه اليهود المعاصرون له في شأن أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح، وموسى – عليه السلام – والعبد الصالح، ولم يستطيعوا تكذيبه فيما أوحي إليه، والله تعالى أخبر عن الذبيح بما يفيد أنه غير إسحاق عليه السلام.

فجاء الحديث عن إسحاق – عليه السلام – بعد الحديث عن الذبيح، ما يفيد أنه ليس بإسحاق – عليه السلام – بل كانت البشرى نتيجة صبر إبراهيم – عليه السلام – على البلاء في تنفيذ أمر الله، وأخبرت التوراة أن الذبيح ابن إبراهيم – عليه السلام – الوحيد، ولم يكن إسحاق – عليه السلام – ابنه الوحيد، ولكنهم حشروا اسمه حشرا، فظهر ضلالهم.

الخلاصة:

النبوة في إسماعيل – عليه السلام – وولده ثابتة في القرآن الكريم والتوراة، رغم محاولة طمس الحقائق وتزييفها، لبناء أمجاد لبني إسرائيل، وتجريد العرب من كل فضل ومنقبة.

القرآن هو القول الحق في إثبات نبوة إسماعيل – عليه السلام – لأنه حجة ثابتة وقطعية الثبوت بالتواتر.

التوراة تنفي اختصاص النبوة في بني إسرائيل، فقد ذكرت خمسة رسل من غير بني إسرائيل، وهم: ملكي صادق، ويثرون، وبلعان، وأيوب، ويونس، وهذا يناقض زعمهم بأن النبوة مقصورة على بني إسرائيل، وبهذا التناقض يسقط زعمهم وتبطل حجتهم.

 

(*) هذا هو الحق، رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية،القاهرة، 1399هـ/ 1977م.

[1]. الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي، عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، د. ت، ص450.

[2]. تِلْقاء نفسه: من عند نفسه.

المصدر

ادعاء أن ذا الكفل – عليه السلام – ليس نبيا

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن القرآن أخطأ في النص على نبوة ذي الكفل – عليه السلام – وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)( (ص)، في حين أنه لم يرد ذكره في كتب التاريخ أو التوراة، وكذلك اختلف العلماء حول نبوته ولقبه، فذكر البيضاوي أنه كفل مائة من الأنبياء فروا من القتل، والصحيح عندهم أن الذي كفل مائة من الأنبياء هو عوبديا وزير الملك “أخاب” وليس ذا الكفل عليه السلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لا يعني عدم ذكر نبي في التوراة أنه لم يذكر في غيرها من الكتب السماوية الأخرى، فليست التوراة الحالية حجة فيما ذكرت، ولا حجة فيما لم تذكره، ولم يخبرنا التاريخ بكل الأسماء والأحداث حتى ننفي ما لم يذكره.

2) الظاهر من ذكر ذي الكفل – عليه السلام – في القرآن الكريم بالثناء مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي وهو الصحيح، والبيضاوي مفسر مجتهد يصيب ويخطئ وليس حجة على القرآن.

3) سمي بذي الكفل؛ لأنه تكفل للنبي اليسع – عليه السلام – بثلاثة أمور عظام: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب، فاستخلفه على الناس في حياته، ثم تكفل لقومه بتنفيذ أمر الله بإطالة أعمارهم. فمن هنا كان اسمه ذا الكفل.

التفصيل:

أولا. التوراة الحالية ليست حجة فيما ذكرته من أسماء الأنبياء وما لم تذكره:

لا يعني عدم ذكر نبي في التوراة الحالية أنه لم يذكر في غيرها من الكتب السماوية، فالتوراة ليست حجة فيما ذكرت ولا حجة فيما لم تذكر، وقد كتبت التوراة بعد موسى – عليه السلام – بزمن طويل، وبين أيدينا الأدله الكثيرة على أن التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى ليست من عند الله، ولكنها من وضع البشر.

وقد ذكر لنا القرآن الكريم بعض الأسماء لأنبياء ولأقوام دون أن يعرض التفاصيل عن حياتهم؛ ذلك لأن القرآن يتناول السابقين على مستويات متفاوتة، فمنهم من يذكره بالتفصيل، ومنهم من يتناوله إجمالا، ومنهم من يذكره باسمه فقط مثل: “ذو الكفل”. قال سبحانه وتعالى: )واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)( (ص)، ومنهم من لم يذكره إطلاقا.

أما بالنسبة لكتب التاريخ فهل أخبرنا التاريخ بكل الأسماء والأحداث، حتى ننفي ما لم يقدمه؟ وهل توقفت كلمة التاريخ والبحث فيه عندما عرفنا؟ أم أن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، ومع ذلك فإن أهل التاريخ قد ذكروه في بعض كتبهم، وإلا لما عرفنا أن اسمه بشر، وأنه ابن أيوب – عليه السلام – وقد بعثه الله بعد أيوبـ عليه السلام ـوسماه ذا الكفل وكان مقامه في الشام، وأهل دمشق يتناقلون أن له قبرا في جبل قاسيون، والقرآن الكريم لم يزد على ذكر اسمه في عداد الأنبياء، فثبت من ذلك صدق القرآن الكريم فيما قال بطلان ادعائهم فيما يقولون[1].

ثانيا. تفسيرات المفسرين ليست حجة على القرآن:

وأما عن اختلاف العلماء حول نبوته ولقبه، وما قيل عن تفسير البيضاوي فقد أشرنا سابقا إلى أن تفسيرات المفسرين ليست حجة على القرآن، فهي إن أخطأت فمرد ذلك إلى اعتمادها في هذا المجال على الإسرائيليات المليئة بالكذب، ومن ثم فمجال الرد لهذه التفاسير وعدم قبولها يظل قائما؛ لأنها من اجتهادات البشر.

ثم إنه يمكن أن يقال إن استخدام القرآن لهذا التعريف لا يعني بحال أن الرجل اسمه: ذو الكفل، فلربما أراد القرآن أن يخلد ذكر الرجل لما قدمه من عمل صالح في حياته مثل: صيام النهار وقيام الليل، وهذا كما جرت العادة في تسمية بعض الناس بذي المروءة أو أبي الجود أو أبي الفرسان، وكما هو معروف في تاريخ حضارتنا الإسلامية، عندما سمي عثمان بذي النورين، وأبي بكر بالصديق، وعمر بالفاروق، وليست هذه أسماء، بل هي ألقاب لأصحابها، وكذلك فإن هذا – ذا الكفل – ليس اسمه وإنما هو لقبه.

ثالثا. سبب تسمية نبي الله ذي الكفل – عليه السلام – بهذا الاسم:

وسمي بشر بذي الكفل؛ لأنه تكفل للنبي اليسع – عليه السلام – أمام الناس بأمور عظام منها: تنفيذ أمر الله بإطالة أعمارهم، ولذلك فإن قولهم بأن عوبديا وزير الملك “أخاب” هو الذي كفل مائة نبي لا يرفع لقب ذي الكفل عن بشر لعدة أسباب منها:

أن كلامهم هذا يحتاج إلى دليل منهم، ولو قالوا: إن هذا ورد في التوراة، فنحن نعلم أن التوراة التي بين أيدي اليهود ليست من عند الله بل من وضع البشر. فما الذي يمنع أن بشرا هو الذي كفل مائه من الأنبياء؟!

سمي بشر بذي الكفل ليس فقط لأنه كفل مائة من الأنبياء، ولكن – أيضا – لأنه تكفل للنبي اليسع – عليه السلام – بثلاثة أمور عظام: أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب فاستخلفه على الناس في حياته، ثم تكفل لقومه بتنفيذ أمر الله بإطالة أعمارهم، فمن هنا كان اسمه ذا الكفلـ عليه السلام -.

فسواء كان عوبديا هو الذي كفل أو كان “بشر” هو الذي كفل، فإن ذا الكفل – عليه السلام – هو لقب بشر في كلتا الحالتين[2].

الخلاصة:

لا يعني عدم ذكر نبي في التوراة أنه لم يذكر في غيرها من الكتب السماوية، وما ذكر فيها لا يعد حجة، فليست التوراة حجة فيما ذكرت ولا فيما لم تذكره، فقد ثبت بالأدلة أن التوراة التي بأيدي اليهود والنصارى ليست من عند الله، ولكنها من وضع البشر.

لم يخبرنا التاريخ بكل الأسماء والأحداث حتى ننفي ما لم يقدمه.

إن تفسيرات المفسرين ليست حجة على القرآن، فهي معتمدة في هذا المجال على الإسرائيليات المليئة بالكذب.

إن استخدام القرآن لهذا التعريف، لا يعني أن الرجل اسمه: ذو الكفل، فلربما أراد القرآن أن يخلد ذكره لما قدمه من عمل صالح.

 

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.islameyat.com

[1]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص268، 269 بتصرف.

[2]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص161: 163 بتصرف. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص268، 269 بتصرف. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص208، 209 بتصرف.

المصدر

ادعاء أن بنوة المسيح – عليه السلام – لله – سبحانه وتعالى – لا تنافي التوحيد

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن بنوة عيسى لله – سبحانه وتعالى – ليست بنوة جسدية تناسلية، وإنما هي بنوة روحية كبنوة الفكر للعقل، والأبوة عندهم لها معان عدة؛ فهي قد تكون مجازية كقولك “أبوالخير”، وقد تكون شرعية كـ “التبني” في زعمهم، وقد تكون جوهرية كـ “تولد النور من النار”، وقد تكون روحانية كـ “بنوة عيسى من الله”؛ ولذلك فإن بنوة المسيح لا تنافي التوحيد في زعمهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  لو كانت بنوة عيسى – عليه السلام – لله – عز وجل – بنوة روحانية – كما يزعمون – لكان من الأولى أن تكون هذه البنوة لآدم – عليه السلام – فهو أول من خلقه الله من البشر، ونفخ فيه من روحه.

2)  محاولة تفسير البنوة بأنها بنوة روحية محاولة باطلة؛ لأن عيسى – عليه السلام – مثل سائر الخلق في ذلك، هذا فضلا عن أن نسبة الولد لله – عز وجل – إنقاص من كمال عظمته.

3)  إقرار عيسى – عليه السلام – ببشريته في الكتاب المقدس وبكونه عبدا لله تأكيد منه على أن ادعاء البنوة لله ينافي التوحيد، فضلا عن أنها ذريعة للإشراك بالله.

التفصيل:

 أولا. إذا كانت بنوة عيسى – عليه السلام – لله – عز وجل – بنوة روحانية – كما يزعمون – لكان من الأولى أن تكون هذه البنوة لآدم – عليه السلام – فهو أول من خلق الله من البشر، ونفخ فيه من روحه:

لماذا لم يدع المدعون البنوة الروحانية هذه لآدم – عليه السلام – فمعجزة خلقه أعظم في النفوس البشرية من معجزة عيسى – عليه السلام – فقد خلق الله آدم من غير أب ولا أم، ثم نفخ فيه من روحه: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)( (الحجر)، وأما المسيح عيسى – عليه السلام – فقد خلقه الله من أم بلا أب، فأي المعجزتين أكبر؟! آدم الذي خلق من غير أب ولا أم، أم المسيح الذي خلق من أم بلا أب؟! )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران). ثم إن البشر جميعا نفخت فيهم الروح، وجاء في الحديث الصحيح: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة»[1].

إذن.. فكل إنسان لا بد أن يوكل به ملك فينفخ فيه الروح: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون: 14)، )الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه( (السجدة)، ومريم وكل بها ملك نفخ فيها روح عيسى – عليه السلام – فجعله الله خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقد اعترف النصارى أنفسهم ببشرية المسيح – عليه السلام – وعدم تميزه في الطبيعة عن غيره من البشر، فهذا النجاشي – وكان نصرانيا آنذاك – لما سأل جعفر بن أبي طالب قائلا: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قال له جعفر: هو عبد الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ورحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشي بيده في الأرض فأخذ عودا، ثم قال: والله، ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. فهذا ملك من ملوك النصارى، يعترف ببشرية المسيح، وصدق القرآن فيما أتى به عن عيسى عليه السلام.

ومن الجدير بالذكر أن الكتاب المقدس ذكر أن أبا عيسى هو يوسف النجار، ومن ذلك: “وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة”. (يوحنا 1: 45). “ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعي المسيح”. (متى 1: 55). “وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف”؟ (لوقا: 4: 22).

ثانيا. محاولة تفسير البنوة بأنها بنوة روحية محاولة باطلة؛ لأن عيسى – عليه السلام – مثل سائر الخلق في ذلك:

الأبوة الروحية إن قصد بها نفخ الروح، فالبشر جميعا منفوخ فيهم الروح، فلا فرق في ذلك بين سائر البشر وبين المسيح – عليه السلام – وإن قصد بها أنه مخلوق من أم بلا أب بشري، فإن آدم – عليه السلام – مخلوق من غير أب ولا أم، فأيهما أولى بالأبوة لو صحت؟!

وإن قصدتم بالأبوة الروحية أبوة الشيخ لمريديه، فهي أبوة روحية؛ لأنه يربي أرواحهم، وهم يتأثرون به في أخلاقهم، وصفاتهم المعنوية، لا أنهم يستمدون منه أسباب الحياة الجسدية، فلم يخرجوا من صلبه، ولكنهم نتاج عقله وتهذيبه، وتأثيره الروحي، إن قصد ذلك، فليس عيسى وحده ابنا روحيا لله – عز وجل – بل كل المؤمنين الذين تهذبهم وتربيهم تعاليم الإله الواحد أبناء روحانيون لله – عز وجل – بهذا المعنى.

لكن وصف النصارى للأبوة بأنها أبوة روحية، يتعارض مع عقيدتهم في التجسيد، فإنهم يقولون: إن الكلمة تجسدت فصارت إلها، وابنا لله، فكيف تكون روحية، وهي متجسدة وصارت جسد إنسان؟

إن عقيدتهم في يسوع – بإقرارهم – تقضي بأن المسيح – عليه السلام – يجب أن يكون إما مجنونا، أو سيئا، أو إلها[2]، وتعالى الله أن يكون العبد المخلوق إلها.

والأب والابن من الأمور المتلازمة، فإذا وجد أب، وجد ابن، وإذا وجد ابن وجد أب، فلا وجود لأحدهما بدون الآخر، وذلك في غير آدم، وحواء، وعيسى. والبنوة نتاج زوجين متزوجين شرعا، أو بطريقة مشروعة، أقرها الشرع وباركها، وقامت على شروط الشرع.

وأما البنوة بالتبني – كما زعموا – كبنوة زيد بن حارثة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذلك عرف كان سائدا، وهو عرف فاسد باطل، وليس شريعة متبعة، وما عدا الأبوة الحقيقية التي ذكرناها – الأبوة الشرعية الناتجة عن زواج مشروع – فأبوة وبنوة مجازية، ومن ذلك قولنا: النور ابن النار، أو أبو الخير.

 ثالثا. إقرار عيسى – عليه السلام – ببشريته في الكتاب المقدس، وبكونه عبدا لله:

يشير د. عبد المنعم فؤاد إلى أن الكتاب المقدس جاء فيه ما يقرر بشرية المسيح على لسان المسيح نفسه، وأنه ليس إلا عبدا لله، أرسله برسالته ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولكن القوم ضلوا، فعبدوه من دون الله، والمسيح منهم براء، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا.

)وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116)( (المائدة)، وجاء في سفر أعمال الرسل قول بطرس عن المسيح: “أيها الرجال الإسرائيليون، اسمعوا هذه الأقوال، يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم، كما أنتم أيضا تعلمون”. (أعمال الرسل 2: 22)، فلم يقل بطرس: إن المسيح إله، ولا ابن إله، وإنما قال: هو رجل أجرى الله على يده معجزات، وكذلك قال بطرس في السفر نفسه: “يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، لأن الله كان معه”. (أعمال الرسل 10: 38)، فقال: إن الله كان معه، كما أن الله مع جميع المرسلين، ولم يقل: إنه إله ولا ابن إله”، وكل هذا يبين لنا أن المسيح – عليه السلام – إنسان بشر، وأنه رسول الله، وأنه ليس إلا نبيا من أنبياء بني إسرائيل.

والمسيح دعا إلى التوحيد الخالص لله رب العالمين، فقد جاء في إنجيل لوقا أنه سأله رئيس المجمع قائلا: “أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله”. (لوقا 18: 18، 19).

لقد كان المسيح حريصا على نفي صفة الصلاح عن نفسه، وردها إلى الله وحده، فكيف يقال بعد ذلك: إن المسيح إله، أو ابن إله، ولما جاء رجل من الكتبة، وسمعهم يتحاورون رأى حسن إجابة يسوع، فسأله: “أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد”. (مرقس 12: 28، 29)، فلم يدع أنه إله يعبد، ولكن موقفه أمام الله كموقف كل أنبياء بني إسرائيل.

هذه هي اعترافات السيد المسيح – عليه السلام – من كتبهم، فهل بعد ذلك يثبتون للمسيح الألوهية، أو الربوبية أو حتى البنوة؟ )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)[3].

الخلاصة:

إنه لو كان أحد يستحق البنوة الروحانية من الله – عز وجل – لكان أحق الناس بذلك آدم – عليه السلام – إذ إنه أول من خلق من البشر، وأول من نفخ فيه الروح من الله عز وجل.

مثل عيسى – عليه السلام – في البنوة الروحية التي يزعمونها كمثل سائر البشر في ذلك، ولم يتميز عن أحد في ذلك؛ فالطبيعة البشرية طبيعة واحدة.

أقر عيسى – عليه السلام – ببشريته، وذلك بإخبار الكتاب المقدس، وإقرار المسيح على نفسه من كتبهم، وهذا صريح في كتاب الله سبحانه وتعالى: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116)( (المائدة).

 

(*) مناظرة بين الإسلام والنصرانية لمناقشة العقيدة الدينية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1412هـ.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ( (البقرة: ٣٠) (3154)، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه (6893).

[2]. يعترف موريس وايلز ـ أستاذ الإلهيات، والكتاب المقدس في كلية المسيح، بأكسفورد ـ بأن القساوسة كانوا يعلمونه هذه العبارة في وصف التثبيت للخدمة الكهنوتية انظر: أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح، جون هك، ترجمة: نبيل صبحي، دار القلم، الكويت، 1988م، ص31.

[3]. المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها، د. عبد المنعم فؤاد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص86 وما بعدها.

المصدر

ادعاء أن داود – عليه السلام – خائن وسفاك للدماء

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن داود – عليه السلام – كان خائنا وسفاكا للدماء، ويستدلون على ذلك بما فعله مع الفلسطينيين الذين أذلهم؛ حتى إنهم كانوا يقدمون له الهدايا؛ اتقاء لشره.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  حديث القرآن الكريم، والسنة المطهرة عن داود – عليه السلام – حديث صادق؛ آية صدقه أنه يقدر الأنبياء ويضعهم في منازلهم من التقوى والورع؛ لأنهم هم المصطفون الأخيار، والطعن فيهم طعن فيمن اصطفاهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

2)  من يطالع الكتاب المقدس يجد تناقضا كبيرا حول قصة داودعليه السلام؛ مما يؤكد عدم صحة ما جاء في هذا الكتاب عن داودعليه السلام.

3)  حديث الكتاب المقدس عن الأنبياء فيه العديد من التطاولات والافتراءات التي لا يمكن تصديقها في جانب خير خلق الله تعالى، أولئك الذين زكاهم الله واصطفاهم من خيرة عباده.

التفصيل:

أولا. حديث القرآن الكريم والسنة المطهرة عن داود – عليه السلام – حديث صادق؛ لأنهما وحي من قبل الله تعالى:

لقد تحدثت آيات القرآن الكريم عن صفات داود – عليه السلام – الحميدة وأخلاقه الكريمة، وحديث القرآن يدفع كل شبهة تثار عن مثل هذا النبي الكريم، الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض؛ ليحكم بين الناس بما أمر الله – عز وجل – به، وكان مما ذكره القرآن الكريم عنه قوله سبحانه وتعالى: )فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)( (البقرة)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: آتى الله داود الملك الذي كان بيد طالوت، والحكمة؛ أي: النبوة بعد شمويل، وعلمه مما يشاء من العلم الذي اختصه به، وهو العلم الذي ينبغي أن يعلمه الأنبياء[1].

وقال – سبحانه وتعالى – عنه أيضا: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)( (الأنبياء)، فهل يمكن تصديق مثل هذه الافتراءات في حق نبي سخر الله الجبال والطير معه؟!

وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشـراق (18) والطيــر محشـورة كـل لــه أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)( (ص)، فالصفات التي وصف بها داود – عليه السلام – لا يمكن أن يتأتى معها ارتكابه للمنكرات، فقد وصفه الله تعالى بعدة صفات؛ منها:

ذو الأيد: أي: القوة، ويقصد بها القوة في الدين، والعزم الشديد على أداء الواجبات، وترك المنكرات.

أواب: أي: الرجاع الذي يكثر من ذكر الله عز وجل.

تسخير الجبال والطير معه: واللائق بتسخير مثل هذه الأشياء لنبي من الأنبياء أن يشكر الله تعالى عليها ويبتعد عن الهوى.

وشددنا ملكه: أي: شددنا ملكه في أمور الدين والدنيا.

آتيناه الحكمة: والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا.

فصل الخطاب: قال ابن عباس: بيان الكلام؛ أي: معرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير صعوبة في ذلك. ومن كان هذا شأنه، كيف يجور على إنسان بريء، ويهضم حقه ويظلمه لمصلحة نفسه [2]؟!

وقد جاء نص من الله – عز وجل – يأمر فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يتبع الرسل من قبله، ومن ضمن هؤلاء داود – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )أولئك الذين هدى الله فبهداهـم اقتـده قـل لا أسألكـم عليـه أجـرا إن هـو إلا ذكـرى للعالميـن (90)( (الأنعام)، فكيف يأمر الله – سبحانه وتعالى – رسوله أن يتبع الرسل ويقتدي بهم، وهم – كما يدعي هؤلاء – يرتكبون المعاصي والمنكرات؟! هذا حديث القرآن عن سيدنا داود عليه السلام.

وإذا نظرنا في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نجد فيها كثيرا من الأحاديث التي تمدح أفعال داود عليه السلام؛ من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود – عليه السلام – كان يأكل من عمل يده»[3]، وكانت عبادة داود – عليه السلام – من أفضل العبادات التي يقوم بها المؤمن تجاه ربه؛ لذلك مدحها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قال: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه»[4].

وعلى هذا الأساس نجد أن الله – عز وجل – قد تكفل بالرد على الذين يتهمون داود – عليه السلام – ظلما وزورا، فإن الذي يستحق الزلفى وحسن المآب – كما جاء في القرآن – هو الذي يفعل الطاعة لا المعصية، والذي يجب أن يقتدى به هو الذي يطيع الله ولا يعصيه، والذي يمدح من قبل خير خلق الله تعالى – وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو من كان يعمل الأعمال الصالحات لا المنكرات، وكان مزكى من قبل الله عز وجل؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق إلا عن وحي في مثل هذا.

ثانيا. من يطالع الكتاب المقدس، يجد تناقضا حول قصة داود عليه السلام؛ مما يؤكد عدم صحة ما جاء في هذا الكتاب عنه عليه السلام:

من يطالع نصوص الكتاب المقدس الذي جاء فيه ذم داود – عليه السلام – يجد فيه أيضا دليل كذب هذا الافتراء، حيث نجد فيه نصوصا تؤكد على فضل داود ومكانته العالية عند الله تعالى، فكيف يحتج بكتاب يوجد فيه الشيء ونقيضه في وقت واحد؟!

ففي جانب ذم داود – عليه السلام – نجد الكتاب المقدس يقول: “قام داود وذهب هو ورجاله، وقتل من الفلسطينيين مائتي رجل، وأتى داود بغلفهم [5] فأكملوها للملك لمصاهرة الملك”. (صموئيل الأول 18: 27).

ويروى في الكتاب المقدس أن داود – عليه السلام – رقص حتى كشفت عورته، عندما فرح باسترجاع التابوت من الفلسطينيين، واحتقرته امرأته لهذا الفعل، ونص ذلك يقول: “وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب. وكان داود متنطقا بأفود من كتان. فأصعد داود وجميع بيت إسرائيل تابوت الرب بالهتاف وبصوت البوق. ولما دخل تابوت الرب مدينة داود، أشرفت ميكال بنت شاول من الكوة ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب، فاحتقرته في قلبها”. (صموئيل الثاني 6: 14 – 16).

ومن المنكرات التي تنسب لنبي الله داود – عليه السلام – زواجه من امرأة أحد رجاله، وقيامه بفاحشة الزنا معها، وإرسال زوجها إلى ساحة الحرب حتى يلقى حتفه، يقول الكتاب المقدس: “وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: «أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟». فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: «إني حبلى». فأرسل داود إلى يوآب يقول: «أرسل إلي أوريا الحثي». فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتي أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا: «انزل إلى بيتك واغسل رجليك». فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك. ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: «لم ينزل أوريا إلى بيته». فقال داود لأوريا: «أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟» فقال أوريا لداود: «إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر». فقال داود لأوريا: «أقم هنا اليوم أيضا، وغدا أطلقك». فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت”. (صموئيل الثاني 11: 2ـ 15)، “يا لها من خيانة عظمى أن يضحي القائد بجنده من أجل خسته ونذالته، وزناه مع امرأة أحد جنوده الشرفاء، الذي ضن على نفسه بالتنعم في فراشه، وأبى إلا أن يبيت الليل على باب نبي الله وقائده الأعلى لحراسته، ثم يتخلص منه نبي الله ويقتله!، أين القدوة التي أتى بها هذا النبي – على زعمكم – لشعبه”[6]؟

أما عن جانب مدح داود – عليه السلام – في الكتاب المقدس فنجد أيضا العديد من النصوص التي جعلت من داود مثلا أعلى ومقياسا يقاس عليه ملوك بني إسرائيل، فقد ذكرت الأسفار أن الله لم يمزق ملك سليمان – عليه السلام – إكراما لأبيه داود، الذي حفظ وصايا الله، فتقول: “ولا آخذ كل المملكة من يده، بل أصيره رئيسا كل أيام حياته؛ لأجل داود عبدي الذي اخترته، الذي حفظ وصاياي وفرائضي”. (الملوك الأول 11: 34)، ويؤكد الكتاب المقدس استقامة داود على فرائض الله، ويعتب على سليمان أنه لم يكن مثل أبيه الذي اتبع أوامر الله بالتمام، فتقول: “عمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه”. (الملوك الأول 11: 6).

فهل بعد ما ذكرناه من نصوص الكتاب المقدس الذي يؤمنون به يمكن التسليم بمثل هذه الافتراءات على رسول من أفضل رسل الله في الطاعة والعبادة والعمل؟!

ثالثا. حديث الكتاب المقدس عن الأنبياء فيه العديد من التطاولات والافتراءات التي لا يمكن تصديقها في جانب الأنبياء خير خلق الله عز وجل:

لم يقتصر اتهام الكتاب المقدس للأنبياء على داود – عليه السلام – فقط؛ بل يتعداه إلى غيره من الأنبياء الذين شهد لهم القرآن الكريم بالأفضلية حين قال: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)( (الأنعام)، ومن هذه الافتراءات ما يلي:

الأنبياء كذبة:

نجد ذلك على لسان إبراهيم – عليه السلام – في الكتاب المقدس: “وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك، وتحيا نفس من أجلك”. (تكوين 12: 11ـ 13).

الأنبياء كفرة:

جاء عن سليمان – عليه السلام – ما نصه: “وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين “. (الملوك الأول 11: 4 – 6).

الأنبياء زناة:

جاء عن لوط – عليه السلام – في الكتاب المقدس ما يلي: “وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل، وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: «أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: «إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت البكر ابنا ودعت اسمه «موآب»، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه «بن عمي»، وهو أبو بني عمون إلى اليوم”. (تكوين 19: 30 – 38).

فإبراهيم – عليه السلام – في الكتاب المقدس يكذب حتى يفدي نفسه من الموت، وسليمان كفر بالله – عليه السلام – بتأثير من زوجاته لكبر سنه، ولوط زنا بابنتيه دون علمه متأثرا بالخمر، وداود يقتل ويغتصب النساء دون وجه حق، وسليمان ولد زنا، وغير هذا العديد والعديد من الأكاذيب والأباطيل التي نسبت إلى خير خلق الله على وجه الأرض، الذين أرسلهم الله تعالى لهداية العالمين، فإن فعلوا مثل هذه المنكرات، فما هو الحال مع أتباعهم الذين أرسلوا لهدايتهم؟ وكيف يكونون قدوة لأقوامهم؟ وما موقف ذلك من عصمة الأنبياء التي نص عليها القرآن الكريم؟ فهل بعد هذا يمكن تصديق ما جاء في الكتاب المقدس؟! وهل بعد كل هذا نعد هذا الكتاب مصدرا من مصادر المعلومات والأخبار التي نعتمد عليها في إطلاق الأحكام ووصف الناس[7]؟

الخلاصة:

داود – عليه السلام – نبي من أنبياء الله تعالى، وأنبياء الله معصومون من الخطأ والكذب وكل الأعمال المنكرة، وذلك بنصوص من القرآن الكريم تؤكد هذا، فكيف يفعل داود – مع عصمته – ما نسب إليه من منكرات في الكتاب المقدس؟!

لقد خص الله تعالى داود – عليه السلام – بالعديد من الصفات التي قل أن نجد مثلها في واحد من البشر، وأكد النبي – صلى الله عليه وسلم – على أن عبادة داود هي أفضل العبادات، وصيامه هو أفضل الصيام، وهذا تفضيل من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – لنبي الله داود، فكيف يكون بمثل هذه الصفات الحميدة، وتصدر عنه هذه الأعمال المنكرة؟!

لقد تناقضت نصوص الكتاب المقدس حول داود عليه السلام، فتارة تصف داود بعدة صفات خبيثة، مثل: الزنا والقتل، وتارة أخرى تصفه بصفات الكمال، وتجعل منه مثلا أعلى يحتذى به، وتجعل منه مقياسا يقاس عليه ملوك بني إسرائيل، فكيف نقر بما جاء في هذا الكتاب المقدس في نظرهم وهو يحوي هذا التضارب المشين؟!

من يقرأ الكتاب المقدس يجد فيه العديد من الأعمال المنكرة المنسوبة إلى أنبياء الله عز وجل، من ذلك كذب إبراهيم عليه السلام؛ لكي يفدي نفسه من القتل، وكفر سليمان – عليه السلام – بسبب اتباع أزواجه، وزنا لوط – عليه السلام – بابنتيه متأثرا بالخمر، وقتل داود – عليه السلام – وسفكه الدماء واغتصابه النساء، وغير ذلك كثير؛ كيف يمكن أن نصدق مثل هذه الأكاذيب والأباطيل في حق أفضل خلق الله على وجه الأرض، الذين أمر الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – باتباع هداهم حين قال سبحانه وتعالى: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( (الأنعام: 90)؟!

 

(*) بنو إسرائيل من التاريخ القديم حتى الوقت الحاضر، د. محمد الحسيني إسماعيل، مكتبة وهبة، القاهرة، 1422هـ/ 2002م.

[1]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار الفكر، بيروت، 1401هـ، ج1، ص303.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص182.

[3]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب البيـوع، بـاب كسـب الرجـل وعملـه بيـده (1966).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبباء، باب أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام (3238)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر (2796).

[5]. الغلفة: الجلدة التي تقطع للختان.

[6]. البهريز في الكلام اللي يغيظ، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1426 هـ/ 2006م، ج2، ص288.

[7]. انظر: محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، القاهرة، 2003م.

المصدر

ادعاء أن معجزات عيسى – عليه السلام – سحر وشعوذة وخداع

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن معجزات عيسى – عليه السلام – لم تقع منه قبل الثلاثين من عمره، بينما يزعم آخرون أنها سحر وخداع، ويدعون أن رسالة عيسى – عليه السلام – باطلة؛ لأنها إنما تثبت بالمعجزة.

وجها إبطال الشبهة:

1) لم يصنع عيسى – عليه السلام – المعجزات، ولكنها ظهرت على يديه تأييدا من الله تعالى له، وابتدأت منذ البشارة به وهو جنين في بطن أمه.

2) ما جرى على يد عيسى هو ما أجري على يد موسى – عليهما السلام – من المعجزات، وادعاء أنها سحر وخداع مردود؛ لأن الساحر لا يقوى على الإتيان بمثلها.

التفصيل:

أولا. لم يصنع عيسى – عليه السلام – المعجزات، ولكنها ظهرت على يديه تأييدا له من الله تعالى، وابتدأت منذ البشارة به وهو جنين في بطن أمه:

آية النبي لا بد أن تكون خارقة للعادة، أي: تخالف مألوف عادات الناس وما درجوا عليه، فإن فقدت هذا الشرط فإنها حينئذ لا تكون مختصة بالنبي، بل مشتركة بينه وبين غيره، وبهذا احتج العلماء على أنه لا بد أن تكون المعجزة خارقة للعادة.

لكن ليس في هذا ما يدل على أن كل خارق للعادة آية، فالكهانة والسحر أمر معتاد للكهان والسحرة، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم، كما أن ما يعرفه أهل الطب، والنجوم، والفقه، والنحو معتاد لنظرائهم، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم.

ويجب في معجزات الأنبياء ألا يعارضها من ليس بنبي، فكل من عارضها وليس من جنس الأنبياء، فليس من آياتهم؛ ولهذا طلب فرعون أن يعارض ما جاء به موسى – عليه السلام – لما ادعى أنه ساحر، فجمع السحرة ليفعلوا مثلما ما يفعل موسى، فلا تبقى حجته مختصة بالنبوة، وأمرهم موسى أن يأتوا أولا بخوارقهم، فلما أتت، وابتلعتها عصاه التي صارت حية، علم السحرة أن هذا ليس من جنس مقدورهم، فآمنوا إيمانا جازما. ولما قال لهم فرعون: )ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا( (طه).

فكان من تمام علمهم بالسحر أن السحر معتاد لأمثالهم، وأن معجزة موسى – عليه السلام – ليست من جنس السحر[1].

وسيدنا عيسى – عليه السلام – لما بعث، وأظهر المعجزات كان الله – عز وجل – يخلق الحياة في الجسم بقدرته عند نفخة عيسى – عليه السلام – فهو – سبحانه وتعالى – القائل: )الذي خلق الموت والحياة( (الملك: ٢).

وما حدث من معجزات – على سبيل تأييد الرسل والأنبياء بها كانت كلها بقدرة الله – عز وجل – وبهذا اعترف عيسى – عليه السلام – بنفسه في قوله: )بإذن الله( (آل عمران: 49)؛ أي: بتكوين الله – عز وجل – وتخليقه لقوله سبحانه وتعالى: )وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله( (آل عمران: ١٤٥).

أي: إلا بأن يوجد الله الموت، وإنما ذكر عيسى – عليه السلام – هذا القيد إزالة للشبهة، وتنبيها على أنه لا يتعدى بعمله التصوير، فأما خلق الحياة فهو من الله – عز وجل – على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل.

وروي أن مداواته الأكمه والأبرص كانت بالدعاء وحده، وأنه – عليه السلام – أحيا عاذر – وكان صديقا له – ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، وقوله: )بإذن الله( رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلهية.

وهذا كلام الله – عز وجل – عن نبيه عيسى – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني( (المائدة: ١١٠). وهذا الكلام المنزل من عند الله في هذه الآية لم يخترعه المسلمون إنما هو وحي من عند الله – عز وجل – ولم يأت به المسلمون من تلقاء أنفسهم. وهذه المعجزات ليست إحياء للميت من قبل عيسى – عليه السلام – ولا نسبة الخلق له، فالآية تعني: أنه يخلق كهيئة الطير، أي يصنع من الطين ما يشبه الطير، كما أمره الله، وينفخ في هذا الذي صنع كما أمره الله – عز وجل – فيكون طيرا بإذن الله تعالى، فهو لم يفعل أكثر من مباشرة الأسباب، عندما أذن الله له بها، ولم يدع عيسى – عليه السلام – أنه يخلق الطير أو يوجد الحياة، ولكنه قال عليه السلام: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله( (آل عمران:٤٩).

والتعبير عن تشكيل الطين على هيئة الطير بالفعل “خلق” لا يفيد مشاركة عيسى – عليه السلام – لله – عز وجل – في الخلق؛ لأن “خلق” هنا بمعنى قدر، وليس بمعنى أوجد من عدم، وخلق بمعنى قدر، جاء في لغة العرب، قال الشاعر العربى:

فلأنت تفري ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري[2]

لقد أظهر الله – سبحانه وتعالى – المعجزات على أيدي الأنبياء؛ لتكون دليل صدقهم أمام أقوامهم، وبرهانا على نبوتهم، وعيسى – عليه السلام – في هذا كبقية الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فالمعجزات دليل نبوة لا دليل ألوهية.

ولقد بدأت معجزات سيدنا عيسى – عليه السلام – منذ البشارة به وهو جنين، فقد قيل: إن أمه لم تشعر بآلام الحمل والولادة كغيرها من النساء الحوامل، وكذلك تكلمه في المهد وهو لا يزال طفلا وليدا، بل إن المعجزة العظمى في ولادته بدون أب، فكيف يقال: إن معجزات عيسى لم تقع قبل الثلاثين؟! ولا يقال: إن الكلام في المهد وغيره لم يكن من معجزات عيسى – عليه السلام – بل كانت كرامات لأمه؛ لحمايتها من سوء الظن، فإن المعجزة تشمل مريم وعيسى – عليهما السلام – قال سبحانه وتعالى: )وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)( (المؤمنون)؛ حيث يوجد لفظ مفرد، ولكنه يشمل الطرفين جميعا، فقوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا ابن مريم وأمه( يفيد أن الآية ليست من واحد منهما، ولكنها من مجموع الاثنين معا؛ لأن الآية هنا أن عيسى ولد من غير أب، ومريم أنجبت من غير أن يمسسها بشر لا بزواج ولا زنا، فالمسألة متعلقة بكل منهما[3].

ثانيا. ما جرى على يد عيسى هو ما أجري على يد موسى – عليهما السلام – من المعجزات، وادعاء أنها سحر وخداع مردود:

إن دفاع المسلمين عن نبوة عيسى – عليه السلام – لا يقل درجة عن دفاعهم عن نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وغيره من الأنبياء والرسل؛ لأنهم مأمورون بالإيمان بهم جميعا، والكفر بعيسى – عليه السلام – وتكذيبه كفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – قال سبحانه وتعالى: )بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37)( (الصافات).

فاليهود يكفرون بعيسى – عليه السلام – والنصارى يكفرون بمحمد – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون يؤمنون بجميع رسل الله – عز وجل – وأنبيائه؛ قال تعالى على لسان المؤمنين: )لا نفرق بين أحد منهم( (آل عمران: 84)، وقال أيضا: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥).

وزعم بعضهم – ولا سيما اليهود – أن معجزات عيسى – عليه السلام – سحر وشعوذة زعم باطل؛ لأن السحر مهما بلغ لا يصل إلى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالغيب في أمور محدودة، ولو كان ما جرى على يد عيسى سحرا لكان الذي جرى على يد موسى – عليهما السلام – من قلب العصا ثعبانا، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، وانفلاق البحر، من قبيل السحر أيضا.

ولبطلت رسالة موسى بمثل ما أبطلوا به رسالة عيسى – عليه السلام – والمتواتر عن اليهود، هو تكذيبهم لعيسى – عليه السلام – وإيذاؤهم له، ومحاولة قتله، والمتواتر أيضا صدق عيسى – عليه السلام – وزهده وتقواه، بحيث لا يكذب على الناس، ولا على الله – عز وجل – ومن المتواتر أيضا تأييد الله – عز وجل – لعيسى – عليه السلام – بالمعجزات المبهرة التي تؤيد دعواه النبوة.

وأما زعم اليهود أن المعجزة تحصل بالعلم لمن باشرها، فهو زعم باطل؛ فالمعجزة لا يقتصر العلم بها على من باشرها، لكن يعلم بها العقلاء الذين يشاهدونها تظهر على يد نبي صادق، فيعرفون من معرفتهم حاله، وظهورها على يديه مع ادعائه النبوة أنه – مصدق – وكيف لا يحصل للأقوام العلم بالمعجزة، وهي موجهة إليهم؟ وإن أرادوا أنهم باشروا معجزات عيسى – عليه السلام – فهذا مردود بأنهم عادوه، ومنهم من آمن به: )فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة( (الصف: ١٤).

وما وافقت اليهود على ظهور الخوارق على يد عيسى – عليه السلام – فتارة يقولون: هي من قبيل السيمياء، وتارة يقولون: هي من قبيل الشياطين.

وعلى كل تقدير فجميع ما يقولونه يلزمهم في قلب العصا ثعبانا، واليد البيضاء، وفلق البحر، ونتق الجبل، وسائر معجزات رسلهم – عليهم السلام – هو نفسه الجواب عن معجزات عيسى – عليه السلام – حرفا بحرف.

إن نص التوراة يقتضي نبوته – عليه السلام – وأنه لا يزال الملك في اليهود من آل يهوذا، والرسل من ظهرانهيم إلى أن يأتي المسيح، وكذلك كان، فلم تزل لهم ممالك ودول إلى زمن المسيح – عليه السلام – حيث صاروا ذمة مخفورة، ورعية مأسورة، وهذا شيء لا ينكرونه.

وهذا دليل قاطع على نبوة عيسى – عليه السلام – وأن موسى – عليه السلام – أخبرهم أنهم يكونون في ذلك الوقت على باطل، وأن الحق يأتي مع المسيح – عليه السلام – فيدحض الباطل بالحق، وهذه سنن المرسلين أبدا، وسنة الله – عز وجل – في خلقه، ولذلك قال سبحانه وتعالى: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق( (الأنبياء: ١٨)، وفي هذا المقام كابرت اليهود واشتد عنادها، وقالت: هو المسيح الدجال الذي يأتي في آخر الزمان، ويزعمون أنه ينصر دين موسى – عليه السلام – ويظهر الحق على يده.

وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم إذ أثبت نبوة عيسى – عليه السلام – لم يتطرق إلى سن بعثته، وإن اتفق العلماء على أنه بعث في الثلاثين من عمره خصوصية له عليه السلام.

الخلاصة:

إن الله – سبحانه وتعالى – قد أظهر المعجزات على يد عيسى – عليه السلام – تأييدا له، وبهذا اعترف عيسى – عليه السلام – بنفسه، فنسب معجزاته التي أجريت على يديه إلى الله في قوله: )بإذن الله( وروي أن مداواته الأكمه والأبرص كانت بالدعاء وحده، فلم يدع عيسى – عليه السلام – أنه يخلق الطير، ويوجد الحياة، وإنما اعترف بأنه يباشر الأسباب فحسب، عندما يأذن الله – عز وجل – له بذلك.

ما أجري على يد عيسى – عليه السلام – هو ما أجري على يد موسى – عليه السلام – من المعجزات من حيث إنها تأييد من الله – عز وجل – لهما ولباقي الأنبياء، ودليل على صدق دعواهم عند أقوامهم، ولا يقتصر العلم بالمعجزة على من باشرها، لكن يعلم بها العقلاء الذين يشاهدونها.

في التوراة أدلة قاطعة على نبوة عيسى عليه السلام. ولقد أجمع المسلمون على نبوة المسيح – عليه السلام – فالمسلمون يؤمنون بجميع الرسل والأنبياء إيمانا جازما، ولا يفرقون بين أحد من رسله، وأن معجزات الأنبياء مختلفة عن السحر والشعوذة والخداع.

 

(*) مـوقع الكلمة. www.alkalema.net. الأجـوبـة الفـاخـرة عـن الأسئـلـة الفـاجـرة، الـقـرافي، تـحـقـيـق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م.

[1]. النبوات، ابن تيمية، تحقيق: الشحات الطحان، مكتبة فياض، المنصورة، ط1، 2005م، ص27، 28 بتصرف.

[2]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: خلق. المفردات، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، مادة: خلق.

[3]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص415.

المصدر

ادعاء أن عيسى – عليه السلام – هو الديان

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن الإسلام يشهد لعيسى – عليه السلام – بأنه الديان، مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا»[1]، وقوله: «لا تأتي الساعة حتى يأتي بينكم عيسى ابن مريم ديانا للعالمين»؛ وفي هذا دليل كاف على أن المسيح هو الإله.

وجوه إبطال الشبهة:

1) المقصود بالديان هو الحكم القاضي أو المقسط بين الناس، وليس ما ذهب إليه هؤلاء المتوهمون من دعوى الألوهية واردا في كلمة “ديان”.

2) المعنى الصحيح لحديثي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن عيسى ابن مريم – عليه السلام – سيكون حكما عدلا ومقسطا بين الناس، أي: يخضع الناس لحكمه؛ حتى يعيد الأمور إلى نصابها.

3) تناقض الأناجيل فيما بينها حول وصف المسيح – عليه السلام – بالديان، يبطل حجتهم ويسقط زعمهم، ويثبت بشرية المسيح عليه السلام.

التفصيل:

أولا. المقصود بالديان في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الحكم القاضي أو المقسط بين الناس:

قبل الحكم على عيسى – عليه السلام – بأنه “ديان” التي يستغلها النصارى لدعوى ألوهيته ينبغي أن نعرف معنى كلمة ديان.

جاء في لسان العرب[2]: الديان من أسماء الله – عز وجل – معناه “الحكم القاضي”، وسئل بعض السلف عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: كان ديان هذه الأمة بعد نبيها، أي: قاضيها وحاكمها. والديان: القهار، ومنه قول ذي الإصبع العدواني:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عني ولا أنت دياني فتخزوني

أي: لست بقاهري فتسوسني أو تقود أمري، والديان: الله – عز وجل – وهو فعال من دان الناس أي: قهرهم على الطاعة. يقال: دنتهم فدانوا، أي: قهرتهم فأطاعوا.

وبناء على ما سبق فما جاء من وصف عيسى – عليه السلام – بأنه: الديان يعني أنه هو الحكم القاضي أو المقسط بين الناس.

ثانيا. المعنى الصحيح لحديثي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن عيسى ابن مريم سيكون حكما عدلا ومقسطا بين الناس، أي: له حكم الطاعة، فيخضع الناس لحكمه:

هذا وصف يتناسب مع بشريته ورسالته، وليس صفة إلهية، فهو يحكم بين الناس بالقسط في آخر الزمان، كما أخبر نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه سيكون حكما ومقسطا، وقد يكون له حكم الطاعة والإخضاع؛ فيخضع الناس لحكمه بحكم قيادته يومئذ، حتى يعيد الأمور إلى نصابها، ويعلن للعالمين عن الحق ويبين أنه عبد الله ورسوله – وليس إلها ولا ابن إله – ويكسر الصليب، ويريق الخمر، ويقتل الخنزير، ويمحو تلك الجاهليات التي تفشت بين أتباعه، وأفشوها في العالمين، ويحكم بشريعة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – التي جاءت مصدقة للشرائع ومهيمنة عليها، ووارثة لها، وهو في هذا ليس إلها، ولكنه خليفة ينفذ شرع الله في الأرض؛ ليقيم شريعته، ويقضي بين الناس بها، وهذا شأن الأنبياء والرسل، وأتباعهم من الدعاة والقضاة، والمصلحين، كما قال الله – عز وجل – لنبيه داود عليه السلام: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق( (ص: ٢٦)، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله( (النساء: ١٠٥).

أما أن عيسى – عليه السلام – ديان يوم القيامة – كما يزعم النصارى – وأنه يأتي عن يمين الله ويقضي بين الخلائق، فهذا هراء؛ )الملك يومئذ لله يحكم بينهم( (الحج: ٥٦)، )يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16)( (غافر)، )إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93)( (مريم).

ثالثا. تناقض الأناجيل حول المقصود بالديان: إذا سلمنا جدلا بإدانة المسيح للأحياء والأموات، فهل في إدانة المسيح للأحياء والأموات أية ألوهية؟!

إذا عدنا إلى الأناجيل نجدها تصرح بأن المسيح ليس ديانا، “وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم. من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية: ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية. فما أتكلم أنا به، فكما قال لي الآب هكذا أتكلم”. (يوحنا 12: 47 – 50).

ومن خلال هذه النصوص نقول: إن الدينونة هي سلطان دفع للمسيح – عليه السلام – من الله، وإن هذا الكلام أعطاه الله للمسيح؛ ليكون الحكم بين العبد وأعماله، وأن المسيح لا حول ولا قوة له في إدانة العالم من غير دفع الله هذا السلطان له!

وجاء في إنجيل يوحنا: “وأعطاه سلطانا أن يدين أيضا؛ لأنه ابن الإنسان”. (يوحنا 5: 27)، وهذا السلطان دفع إلى كثيرين ممن سيدينون مع المسيح، ولو لزم من ذلك تأليه المسيح لأصبح تلاميذ المسيح آلهة يشاركونه في الملك، وهل هذا يعقل؟!

فقد جاء في إنجيل لوقا: “لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر”. (لوقا 22: 30)، انظر إلى هذا البهتان وهذا الكذب لترى العجب، والأعجب من ذلك أن بولس والقديسين سيشاركون في إدانة الملائكة والعالم بأسره مع المسيح!!

فالاستدلال بأن دينونة المسيح للعالم دليلا على ألوهيته استدلال باطل، وساقط للغاية، والأناجيل نفسها تنقضها، وها هو يوحنا يقول: “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم”. (يوحنا 3: 17).

وبهذا البيان يتضح لنا التناقض بين نصوص الأناجيل حول الزعم أن عيسى – عليه السلام – هو الديان المتأله، وبهذا التناقض يبطل زعمهم وتسقط حجتهم في تأليه المسيح – عليه السلام – إنما هو كما أخبر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – سوف ينزل إلى الأرض؛ ليملأها عدلا، ويعيد الناس إلى شريعة الحق، شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة:

الديان في اللغة: هو الحكم والقاضي، الذي يحكم بين الناس بالعدل، وقيل: هو الله – عز وجل – وقيل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه ديان العرب.

المقصود من حديثي النبي – صلى الله عليه وسلم – في وصف عيسى – عليه السلام – بالديان، أنه سوف ينزل ليحكم بين الناس بالعدل والقسط، ويكون له حكم الطاعة والإخضاع؛ لأنه يدعو الناس إلى طاعة الله، وإلى شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – فيخضع الناس لحكمه، بحكم قيادته يومئذ ويقتل المسيح الدجال، ويعيد الأمور إلى نصابها.

تناقض الأناجيل فيما بينها حول معنى الديان يبطل حجتهم، ويسقط زعمهم ويثبت بشرية المسيح – عليه السلام – وأنه سوف ينزل قبيل الساعة؛ ليملأ الدنيا عدلا ورحمة بعد أن ملئت جورا وظلما، ويعيد الناس إلى شريعة الله، ويدعو الناس إلى الحق الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

(*) مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، مصر، 1426 هـ/ 2005م. محاضرة عن ألوهية المسيح في كتب الآخرين، ميخائيل الإسكندر، تادرس يوسف، مؤتمر في شبين الكوم، مصر، د. ت.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب كسر الصليب وقتل الخنزير (2344)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (406).

[2]. لسان العرب، ابن منظور،مادة: دين.

المصدر

ادعاء أن سليمان – عليه السلام – ليس نبيا، وأنه ساحر

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المتوهمين نبوة سليمان عليه السلام، ويدعون أنه – عليه السلام – ساحر، ويستدلون على زعمهم هذا بأن الشياطين كتبوا السحر في كتاب، وختموه بخاتم سليمان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لقد أيد الله تعالى سليمان – عليه السلام – بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته؛ من ذلك: تسخير الجن والشياطين، ومعرفة منطق النمل والطير وتسبيحهم، وتسخير الريح، ولم تكن هذه المسخرات من تعاطي سليمان للسحر.

2) لقد أنزل الله – عز وجل – آيات يبرئ فيها سليمان – عليه السلام – من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضح الله – عز وجل – في تلك الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.

3) هناك كثير من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام؛ مما يدل علي أن هذه قصة نبي وليست قصة ساحر.

التفصيل:

أولا. لقد أيد الله – سبحانه وتعالى – سليمان – عليه السلام – بالآيات المعجزات التي تثبت صدق نبوته:

كان نبي الله سليمان – عليه السلام – بارا بوالديه مطيعا لهما، وقد حباه الله – سبحانه وتعالى – كثيرا من الخصال والصفات إثر دعوته لله – عز وجل – أن يهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فضلا عن وراثة النبوة عن أبيه داود عليه السلام، وعن هذا يحدثنا الأستاذ أحمد الصباحي فيذكر قول الله سبحانه وتعالى: )وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)( (النمل). فسليمان ورث أباه في نبوته وحكمه وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود – عليه السلام – أولاد أصغرهم سليمان، ومعلوم أن الأنبياء – عليهم السلام – لا يورثون مالا ولا جاها، وإنما يورثون العلم والحكمة.

قال سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)( (النمل)، وقال الله – سبحانه وتعالى – إخبارا عنه: )قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)( (ص)، فأجاب الله دعاءه وأكرمه بخصائص لم يكرم بها أحدا من قبله ولا من بعده؛ منها:

تسخير الريح: قال الله سبحانه وتعالى: )فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36)( (ص). أي: حيث أراد، وفي آية أخرى: )ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81)( (الأنبياء). أي: الريح العاصفة تجري بأمره رخاء.

تعلم منطق النمل: علمه الله منطق النمل والدواب؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: )وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمـل صالحـا ترضـاه وأدخلنـي برحمتـك في عبــادك الصالحين (19)( (النمل).

تعلم منطق الطير وتسبيحه: من آيات الله ونعمه على سليمان – عليه السلام – أن علمه منطق الطير؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: )وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطـق الطيـر وأوتينــا مــن كـل شيء إن هـذا لهــو الفضـل المبيـن (16)( (النمل). والمراد بقول: )من كل شيء( كثرة نعم الله عليه ومنها: تعليمه كلام الطير وتسبيحه.

تسخير الجن والشياطين: أخبر الله – عز وجل – في كتابه الكريم بأنه سخر الجن لسليمان – عليه السلام – إذ قال: )ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13)( (سبأ). فبعد أن ذكر الله تسخير الريح له تجري بأمره رخاء حيث أصاب، قال: )والشياطين كل بناء وغواص (37)( (ص)، وقال سبحانه وتعالى: )وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17)( (النمل). وذلك بأن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان – عليه السلام – ضربه ضربة أحرقته، فكانت الجن والشياطين تطيعه وتنفذ أمره، وكانوا يعملون له ما يشاء من أضخم المباني والعمائر والتماثيل والقدور الراسيات والجفان التي كأنها حياض السفن العظام[1].

ثانيا. بين الله تعالى أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر وليس من سليمان عليه السلام:

لقد أنزل الله تعالى آيات تبرئ سليمان – عليه السلام – مما زعمه المدعون من أنه صار ملكا وثريا بفضل ما تعلمه من السحر، كما أوضحت الآيات أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، وليس من سليمان عليه السلام.

ولما توفي سليمان – عليه السلام – وجدت فرقة من بني إسرائيل تعلم السحر بعده، بدعوى أن السحر كان علم سليمان ولا شيء سواه.

فالشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم استخرجوا علما يغيرون به الأشياء بسرعة أكبر من سرعة البشر وبدقة أكبر، فذلك مما علموه لهاروت وماروت، فكانا يعلمان الناس بدورهم أحاجي يفرقون بها بين المرء وزوجه. فهل كانت أحاجيهم تفعل فعلها وتؤتي ثمارها؟ يقول القرآن: )واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)( (البقرة)، إذن فلم يكن سليمان – عليه السلام – يستعمل السحر، ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه وكما قال الله سبحانه وتعالى: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا(؛ لأنهم بعده صاروا يعلمون السحر، وأما سليمان فكان التقي الورع.

ويعلق الشيخ الشعراوي على ذلك قائلا: “وهكذا يتضح لنا أن بعضا من بني إسرائيل قد ترك كتاب الله المصدق لما معهم من التوراة، ولم يقفوا عند الترك لآيات الحق، بل اتبعوا ما جاء به الباطل.. فالكتاب الذي كان يجب أن يتبعوه تركوه وخالفوه، والبهتان الذي كان يجب أن يجتنبوه اتبعوه، وهذا سلوك مخالف لقضية الحق بين الخير والشر.

والآية الكريمة تعرضت لأمر قد شاع عند بعض من بني إسرائيل، لقد قالوا: إن سليمان إنما صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من سحر، وهذا قول باطل برأ الله منه سليمان – عليه السلام – في قوله عز وجل: )وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا( إن سليمان لم يكفر، وإنما تلقى نعمة الله بالعرفان والشكر، وسخر الله له ما شاء من خلقه؛ تكريما له وإرادة الحق في ذلك لها حكمة بالغة، ومن حكمته تعالى أن يعطيه ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين، لقد شاءت إرادة الحق ذلك، ليكون سليمان رسولا له مكانه في قومه؛ أي: مكانة تليق بالزمن الذي جاء فيه سليمان.

إن المتأمل للموكب الرسالي يجد أن كل رسول قد صادف في قومه المكابرين والمعاندين والكافرين والمتربصين به الدوائر، لماذا؟ لأن الرسول لا يجيء إلا وقد استشرى الشر، وما دام الشر قد استشرى فلا بد أن يكون للشر قوم ينتفعون به، وحين يأتي رسول لينهي سيادة الشر في الأرض، فهو يواجه أول ما يواجه المنتفعين بالشر، ولا يتبع النبي إلا الضعفاء؛ ليخلصهم الرسول برسالته من شر الأقوياء، وقد أراد الله برسالة سليمان – عليه السلام – أن يبين لنا طبيعة الإنسان.. حين يؤيد رسولا بملك لا يمكن لأحد أن يخالفه، إنه رسول وملك من نوع خاص.

فالملوك يملكون ما يدخل تحت قدرتهم بالإمكانيات المادية، لكن الله أعطى سليمان – عليه السلام – ملكا لا ينبغي لأحد من العالمين؛ لأنه سخر له القوى التي لا يمكن أن تسخر لبشر عادي، فكأن الله يريد أن ينبه الإنسان أنه لو أراد حكما من السماء مسنودا بحكم ملكي، فلن يستطيع إنسان أن يرفع رأسه؛ لأن الخالق – عز وجل – قادر على أن يسخر لمثل ذلك الحكم ما يجعله يقهر الجميع على أن يذعنوا له، لكن الحق لا يريد ذلك، إنما يريد سبحانه طواعية الإيمان واختيارية اليقين؛ لذلك يترك الرسل ضعفاء ليعلم من يقبل عليهم بنداء الإيمان لا بمجرد القهر؛ ولذلك خير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكون نبيا ملكا فرفض لماذا؟ لأنه إذا كان ملكا نبيا ستكون له من أسباب القوة ما لا يستطيع أحد أن يخالف دعوته قهرا وعنوة، لذلك اختار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الرسالة والنبوة دون الملك… اختار أن يدعو الناس إلى الله فيأتونه رغبا في منهج الله لا رهبا من ملكه هو، ولقد اتهم بعض بني إسرائيل سليمان – عليه السلام – بأنه كفر، ويقرر الحق عدم كفره فيقول عز وجل: )وما كفر سليمان( ويدلنا على أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، ونكتشف من ذلك أن النبي سليمان لم يكن يعلم السحر وأن ملكه واستتباب الأمر له لم تكن قضية سحر إنما هي مشيئة الحق سبحانه وتعالى”[2].

ثالثا. هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان عليه السلام:

يشير الأستاذ محمد بسام الزين إلى أن قصة سليمان – عليه السلام – اشتملت على عديد من الحكم والمواعظ، منها:

المملكة الصالحة:

بنى نبي الله سليمان – عليه السلام – المملكة الصالحة، وكان للحضارة في مملكته جانبان:

أحدهما: صناعي وعمراني، وهذه تسمى في عصرنا بالمدنية.

الآخر: أخلاقي وروحي، وهذه تسمى في عصرنا بالإنسانية.

ولا يجوز بحال من الأحوال أن ينشغل الإنسان بالحضارة المدنية لذاتها دون أن يسخرها لخدمة الحضارة الإنسانية، وإن الدارس لسيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرى أنه – صلى الله عليه وسلم – أرسى أسس الحضارة الإنسانية دون أن يغفل العناية بالحضارة المدنية.

أما حضارة القرن العشرين فهي حضارة مدنية فيها قلوب الناس كالأحجار، تتسابق فيها الأمم بناطحات السحاب، والقصور المشيدة والصناعات الحربية والمدنية، غير أن الإنسان فيها مسحوق مظلوم، ليس له من الحقوق المقررة في الأمم المتحدة سوى الشعارات البراقة واللافتات الكبيرة، والنداءات التي لا يستجيب لها ضمير.

حسن استغلال الطاقات التي سخرها الله له بالبناء فملكة الصالحة:

استعمل نبي الله سليمان – عليه السلام – لبناء المملكة الصالحة كل الطاقات التي سخرها الله له؛ إذ استغل الريح وحركتها، واستغل البحار وغاص فيها، واستخرج المواد الخام وصنعها، واستغل الطير في جو السماء، وكان كل عضو أو جندي في مملكته له مكانه المناسب، حيث تتضافر الجهود في عملية البناء، وتتعاون الأيدي لتحقيق أهداف المملكة الصالحة، التي لا تؤذى فيها نملة، ولا تهدر فيها طاقة.

وقد ضل قوم سبأ إذ لم يضعوا الأشياء في مواضعها، فبدلا من أن يستغلوا منافع الشمس عبدوها من دون الله، كما ضل الإنسان قديما إذ عبد الرياح بدلا من الإفادة من حركتها!! والمشركون ضلوا أيضا إذ عبدوا الحجر بدلا من تسخيره في البناء، وإن الله أرسل الأنبياء والمرسلين لتخليص الناس من الوثنية، وإزالة التحجر عن عقولهم، وتطهير اعتقادهم من الضلال، وإرشادهم إلى وضع كل شيء في مكانه المناسب.

أما إنسان اليوم فعلى الرغم من أنه استفاد مما سخره الله للإنسان إذ تمكن من استغلال حركة الرياح، وأرسل الطائرة في جو السماء، واستفاد من الطاقة الشمسية واستخرج الحديد والمواد الخام وقام بتصنيعها، على الرغم من ذلك كله فإنه لم يضع الأشياء في مواضعها؛ إذ ما زال المال الغاية المنشودة عنده، يكنزه ويشعل الحروب ويفتعل الفتن لأجل تحصيل المزيد من الأموال والأرباح. ولذلك فهو لا ينعم بالسعادة وفي الحديث: «تعس عبد الدينار والدرهم»[3]؛ أي: لن يذوق السعادة.

مكاتبة الملوك:

ولو دققنا النظر في كتاب نبي الله سليمان – عليه السلام – إلى ملكة سبأ نجده يحتوي على كلمات قليلة ومركزة: )اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين (31)( (النمل)، وفي السنة السابعة للهجرة بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعبارات مختصرة مفيدة تشبه إلى حد كبير كتاب سليمان عليه السلام:

فقد أرسل كتابا إلى هرقل عظيم الروم، حمله دحية بن خليفة الكلبي، جاء فيه: «أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين»[4].

وأرسل كتابا إلى كسرى عظيم الفرس، حمله عبد الله بن حذافة السهمي جاء فيه “أسلم تسلم فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك “[5].

وأرسل كتابا إلى النجاشي ملك الحبشة، حمله عمرو بن أمية الضمري.

وأرسل كتابا إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، حمله العلاء بن الحضرمي.

وأرسل كتابا إلى المقوقس عظيم القبط، حمله حاطب بن أبي بلتعة.

وأرسل كتابا إلى جيفر بن الجلندي ملك عمان، حمله عمرو بن العاص.

الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون:

إن ضعاف النفوس يعيشون حياتهم في الأوهام، ويكثر حديثهم عن السحر والجن والربط والنفاثات في العقد؛ إذ تملأ رءوسهم الوساوس من الخناس، ويلقون أسباب الإخفاق في حياتهم الزوجية والمهنية والاجتماعية على الجن والشياطين، وقد يفسرون بعض الأمراض بأنها ناجمة عن جني أو شيطان!!

وللبيان نضع بين يدي القارئ الحقائق التالية:

الجن حقيقة غيبية أخبرنا الله بها، وحدثنا أنه يوجد عالم آخر غير عالم الإنس، وهم مخلوقات نارية، منهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد استمع نفر منهم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ القرآن، وقد سميت سورة في القرآن باسمهم، غير أن القرآن الكريم أكد على أمرين:

o       أن الجن لا سلطان لهم على المؤمنين، وذلك في قوله – سبحانه وتعالى – عن الشيطان: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)( (النحل). بل إن الله سبحانه قد جعل لنبيه سليمان – عليه السلام – سلطانا عليهم وسخرهم له كما ذكرنا آنفا.

o       أن الجن لا يعلمون الغيب الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، وقد حرس الله السماء بمبعث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن استرق السمع أتبعه شهاب ثاقب، وقد حكى القرآن عن الجن قولهم: )وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9)( (الجن). وهذه قصة سليمان – عليه السلام – فيها دليل قاطع على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ إذ قد مات سليمان وهم بين يديه ولم يعلموا بموته!

وبناء على ذلك فقد حرم الإسلام أن يذهب مسلم إلى كاهن أو عراف؛ ليسأله ويصدقه قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم»[6].

إن الله تعالى ذم فريقا من بني اسرائيل إذ نبذوا التوراة وراء ظهورهم، واتبعوا أوامر الشيطان، وضلالات السحرة؛ كما جاء في القرآن الكريم: )ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)( (البقرة)، وإن الله سبحانه قد أنزل في القرآن الكريم تشريعات صالحة لكل زمان ومكان، ذكر فيها أسس الحياة الاجتماعية السليمة؛ إذ بين كيفية العلاقة الزوجية الصحيحة، ووضع قوانين المعاملات المادية بين الناس، ووضح طريقة النجاح في الحياة الإنسانية. وإنه لمن الضلال أن ينبذ المسلم مبادئ القرآن وراء ظهره كأنه لا يعلمها، ثم يمضي إلى السحرة أو الكهنة أو المشعوذين ليستفتيهم في أمور حياته، أو ليسألهم عن أسباب إخفاقه[7]!!

انطلاقا مما سبق يتضح لكل ذي عقل وبصيرة أن سليمان نبي الله ورسوله اختصه الله بكثير من النعم والفضائل والمعجزات، وقابل – عليه السلام – هذه النعم بالشكر والإيمان وليس كما يدعي الواهمون من تعلمه السحر، بل هو الرسول المعصوم من ذلك؛ فعليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.

الخلاصة:

سليمان – عليه السلام – نبي من أنبياء الله تعالى، وقد أيده الله بالعديد من الآيات والمعجزات التي تدل على صدق نبوته منها: تسخير الجن والشياطين، وتعلم منطق الطير، ومنطق النمل، وتسخير الريح وغيرها.

الله – سبحانه وتعالى – برأ سليمان – عليه السلام – من الدعاوى التي زعمها الزاعمون من أنه صار ملكا ثريا بفضل ما تعلمه من السحر، فلم يكن سليمان يستعمل السحر ولا كان يتعلمه ولا كان يعلمه، كما أن سليمان – عليه السلام – لم يكفر وإنما تلقى نعمة ربه بالشكر والعرفان.

هناك العديد من العبر التي تستفاد من قصة سليمان – عليه السلام – منها خصائص المملكة الصالحة، وحسن استغلال الطاقات المختلفة لبناء تلك المملكة، وطريقة مكاتبة الملوك، وكذلك ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

 

(*) العنصرية اليهودية وآثارها في المجتمع الإسلامي، د. أحمد بن عبد الله الزغبي، مكتبة العبيكان، السعودية، ط1، 1998م.

[1]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص247: 253 بتصرف.

[2]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص383، 384.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2730).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، وفي مواضع أخري، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[5]. حسن: أخرجه الطبري في تاريخ الأمم والملوك (2/ 133)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (356).

[6]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9532)، وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[7]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام رشدي الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2001م، ص295: 299.

المصدر

ادعاء أن موسى – عليه السلام – تعدى على ملك الموت بلطمه، وفقأ عينه

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن موسى – عليه السلام – لم يطع أمر ملك الموت حين أرسله الله إليه ليقبض روحه، وتعدى عليه بلطمه، وفقأ عينه؛ ويستدلون على ذلك بما جاء في الصحيح من طريق طاوس عن أبي هريرة – رضي الله عنه – موقوفا قال: «أرسل ملك الموت إلى موسى – عليه السلام – فلما جاءه صكه[1] فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: ارجع إليه، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن…» الحديث [2].

وجها إبطال الشبهة:

1) موسى – عليه السلام – ما كان يعلم أنه ملك الموت حين لطمه؛ لأنه جاءه على صورة إنسان ودخل عليه بلا استئذان فكان فعله دفاعا عن نفسه.

2) كان لطم موسى لملك الموت لأنه لم يخبره، وقد ثبت أن ملك الموت لم يقبض نبيا من الأنبياء إلا بعد إخبار الله تعالى له.

التفصيل:

أولا. موسى – عليه السلام – ما كان يعلم أنه ملك الموت حين لطمه؛ لأنه جاءه على صورة إنسان ودخل عليه بلا استئذان فكان فعله دفاعا عن نفسه:

إن الله – عز وجل – لم يبعث ملك الموت لموسى – عليه السلام – وهو يريد قبض روحه في المرة الأولى، وإنما بعثه إليه اختبارا، وموسى – عليه السلام – ما كان يعلم حين لطمه أنه ملك الموت؛ لأنه جاءه على صورة إنسان فلما رأى موسى إنسانا يريد الاعتداء عليه دافعه، حيث إن الإنسان مأمور بدفع من يعتدي عليه.

وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط – عليهما السلام – في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم – عليه السلام – لما قدم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط – عليه السلام ـلما خاف عليهم من قومه.

قال الخطابي: إن موسى – عليه السلام ـدفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة وإن الله رد عين ملك الموت؛ ليعلم موسى – عليه السلام – أن الذي جاءه من عند الله، فلهذا استسلم حينئذ.

ثانيا. كان لطم موسى – عليه السلام – لملك الموت لأنه لم يخيره، فقد ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخبره الله تعالى:

 كان لطم موسى – عليه السلام ـلملك الموت وفقأ عينه؛ لأنه لم يخيره بين الموت والحياة؛ لأن هذه سنة الله – سبحانه تعالى – في قبض أرواح الأنبياء؛ فعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة»[3].

فلهذا لـما خير موسى – عليه السلام ـفي المرة الثانية أذعن[4] واستسلم لأمر الله سبحانه وتعالى.

ويرجح د. أبو النور الحديدي الجواب الأول لأنه يستبعد من موسى – عليه السلام ـأن يلطم ملك الموت حتى ولو أراد قبض روحه من غير أن يخبره، لأنه يعلم أن ملك الموت لا يقبض روح إنسان إلا بأمر الله تعالى، ولو كان موسى – عليه السلام ـيعلم أنه ملك الموت لقال له: كيف تقبض روحي، أو أني قبل أن تخيرني والأنبياء لا يقبضون إلا أن يخيروا؟

فالأصح أنه لم يعلم في المرة الأولى أنه ملك الموت، ومن حق الإنسان مدافعة المعتدى، بدليل استسلامه له لما عرف أنه ملك الموت جاء لقبض روحه[5].

الخلاصة:

موسى – عليه السلام – ما كان يعلم حين لطم – ملك الموت – أنه ملك الموت؛ لأنه جاءه على صورة إنسان، وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط – عليهما السلام – في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء، وما فعله موسى من لطم الملك كان دفاعا عن نفسه، إذ إن الإنسان مأمور بدفع من يعتدي عليه.

كان لطم موسي لملك الموت – عليهما السلام – لأن ملك الموت لم يخير موسى بين الحياة والموت، وسنة الله تعالى في قبض أرواح الأنبياء هو تخييرهم.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. صكه: دفعه بقوة وضربه.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من أحب الدفء ليلا في الأرض المقدسة أو نحوها (1274)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام (6297).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته (4171)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله عنها (6448).

[4]. أذعن: خضع.

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص350 بتصرف.

المصدر

ادعاء أن موسى – عليه السلام – قتل قبطيا لمجرد أن رجلا من شيعته استنصر به عليه

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المتوهمين عصمة موسى عليه السلام، ويستدلون على زعمهم بقوله سبحانه وتعالى: )ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16)( (القصص). ففي ظنهم أن موسى – عليه السلام – قتل قبطيا لمجرد أن رجلا من شيعته[1]استنصر به عليه.

وجها إبطال الشبهة:

1)  القبطي كان ظالما معتديا على الإسرائيلي، فتدخل موسى – عليه السلام – دفعا للظلم عن المظلوم لا أكثر.

2)  ما وقع من موسى – عليه السلام – كان قبل النبوة، فلا يطعن به في عصمته باعتباره نبيا من أنبياء الله.

التفصيل:

قبل الإجابة عن الشبهة نبين معنى الوكز، والدافع إليه، ومعنى الآيتين:

معنى الوكز: الضرب بالكف مضمومة أصابعها. وقيل: الوكز: الدفع بأطراف الأصابع. وفي القاموس: الوكز: الدفع، والطعن والضرب بمجمع الكف، وعلى هذا فالوكز ليس من باب الضرب المؤثر قتلا وإهلاكا، ومن يريد أن يقتل فإنه لا يكتفي بالوكز سبيلا موصلا إليه، وإنما يستخدم وسائل الضرب الأخرى، وأدواته المؤثرة مما يحقق القتل.

الدافع إلى الوكز: هو دفع ظلم هذا الذي من عدوه، فهو – كما قيل – كان يريد تسخير الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، وصنيع فرعون وقومه مع بني إسرائيل كان يتمثل فيه الظلم الصارخ لهم، فقد كان فرعون يستضعف بني إسرائيل، فيذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم[2] كما حكى القرآن الكريم: )إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)( (القصص).

أولا. القبطي كال ظالما معتديا على الإسرائيلي، فتدخل موسى – عليه السلام – دفعا للظلم عن المظلوم لا أكثر:

لما شب موسى وعقل أخذ يتكلم بالحق، وينكر على فرعون أعماله فأخافوه من فرعون، فكان لا يدخل المدينة إلا وأهلها في غفلة، وذات مرة وجد رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من القبط، فطلب الإسرائيلي من موسى غوثه ونصره على القبطي الذي يظلمه ويكلفه حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، فحاول موسى – عليه السلام – كف القبطي عن عدوانه، لكنه تمادى وقال لموسىعليه السلام: لقد هممت أن أحمله – الحطب – عليك، فاشتد غضب موسى – عليه السلام – فوكز القبطي – الذي تعدى أولا على الإسرائيلي، وأغضب موسى – عليه السلام – ثانيا – فوكزه موسى – عليه السلام – فقتله، فندم موسى – عليه السلام – وتضرع إلى الله، ليغفر له ذنبه إنه هو الغفور الرحيم.

إذن رأى موسى – عليه السلام – نفسه إزاء معتد لا يرعوي ولا يكف عن ظلمه، فرأى أن الوكز وسيلة مناسبة لدفعه، ذلك لأنه رجل لا تنفع معه النصيحة، ولا تردعه الملامة، ولا يكفه اللين ولا يجدي معه. والوكز كما أسلفنا ليس من باب الضرب المؤثر قتلا وإهلاكا، ومن يريد أن يقتل إنسانا، فإنه لا يكتفي بالوكز سبيلا موصلا إليه، وإنما يستخدم من وسائل الضرب الأخرى، وأدواته المؤثرة ما يحقق القتل. فما ترتب على الوكز من القتل غير مقصود، إنما المقصود دفع ظلم القبطي بوسيلة رآها موسى – عليه السلام – مناسبة؛ لم يجد معه أقل منها، ولا تؤدي في أصلها إلى القتل[3]. على أن موسى – عليه السلام – قد ندم؛ وقال: هذا القتل الحاصل بغير قصد من تزيين الشيطان الذي هو عدو ظاهر العداوة والإضلال ثم تضرع موسى إلى الله – عز وجل – طالبا مغفرة زلته، فغفرها الله له، فإنه هو الغفور الرحيم.

ثانيا. ما وقع من موسى – عليه السلام – كان قبل النبوة، فلا يطعن به على عصمته – عليه السلام – باعتباره نبيا من أنبياء الله:

يدل سياق الآيات على أن هذه الفعلة كانت قبل فرار موسى – عليه السلام – من مصر، وهجرته إلى مدين، تلك الهجرة التي تم فيها التعرف بشيخها الكبير، في أعقاب سقايته لبنتيه، ثم اتفاقهما على أن يعمل موسى – عليه السلام – أجيرا عنده ثماني حجج أو عشرا صداقا لإحدى ابنتيه وأتم موسى – عليه السلام – الأجل ورحل بزوجه، فإذا بالنداء من شاطئ وادي الطور الأيمن في البقعة المباركة من قبل الله – عز وجل – يحمله الرسالة، ويكلفه بدعوة فرعون وملئه إليه – عز وجل ـفيذكر موسى – عليه السلام – أنه قتل منهم نفسا، ويخشى أن يقتلوه به، فيؤمنه الله ويطمئنه بأنهم لن يقتلوه.

قال سبحانه وتعالى: )قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)( (القصص). وقوله – سبحانه وتعالى – حكاية عن موسى عليه السلام: )ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (21)( (الشعراء).

وعلى ذلك فإن ما وقع من موسى – عليه السلام – من الوكز الذي لا يقتل غالبا والذي كان لدفع الظلم والعدوان، فترتب عليه القتل خطأ قد وقع قبل النبوة فلا يطعن به على موسى – عليه السلام – سواء كان خلاف الأولى أو معصية صغيرة.

وأما وصفه نفسه بالكفر والضلال في فعلته هذه في قوله سبحانـه وتعالـى: )وفعلـت فعلتـك التي فعلـت وأنـت مـن الكافريـن (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)( (الشعراء). فإن معنى:)وأنت من الكافرين (19)( (الشعراء) أي لنعمتي، وحق تربيتي، فإن موسى – عليه السلام – قد تربى في بيت فرعون إلى أن كبر وبلغ.

ومعنى: )قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)( (الشعراء) أي الذاهلين عن أن الوكزة تأتي على النفس، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل، وقد يوصف الذاهل عن الشيء بأنه ضال عنه، أو من المخطئين، أي لم أتعمد القتل. ومع أن الوكز ليس ذنبا إلا أن موسى – عليه السلام – استعظمه نظرا لعلو شأنه فاستغفر منه، واعتذر به في مقام الشفاعة يوم القيامة.

قال القرطبي: لم يزل – عليه السلام – يعد ذلك على نفسه مع علمه بأنه قد غفر له حتى إنه في القيامة يقول:«إني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها»[4]. وإنما عده على نفسه ذنبا من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضا: فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم[5].

الخلاصة:

القبطي كان ظالما معتديا على الإسرائيلي، فتدخل موسى – عليه السلام – دفعا للظلم عن المظلوم لا أكثر. فلم تنفع معه النصيحة، ولم تردعه الملامة، ولم يكفه اللين، فارتأى موسى إزاء معتد لا يرعوي ولا يكف عن ظلمه – أن الوكز وسيلة مناسبة لدفعه. فقتل القبطي بالوكزة دون قصد ولا عمد وندم على تلك الزلة، فغفرها الله له، فإنه هو الغفور الرحيم.

ما وقع من موسى – عليه السلام – كان قبل النبوة، بدليل سياق الآيات التي وردت فيه الآية “ودخل المدينة… “، فلا يطعن بهذه الزلة في عصمته – عليه السلام – باعتبارلاه نبيا من أنبياء الله.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. الشيعة: الأتباع.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص337.

[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص338، 339.

[4]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب التفسيـر، بـاب سـورة بنـي إسرائيـل (2435)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (501).

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص339، 340.

المصدر

ادعاء أن يوسف – عليه السلام – أدان نفسه واتهمها بارتكاب الذنب

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن يوسف – عليه السلام – غير بريء مما نسب إليه، وأنه اعترف على نفسه بذلك؛ وأنه مدان بارتكاب ذنب يحتاج إلى طلب مغفرته من الله، ويستدلون على ادعائهم هذا بقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: )وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)( (يوسف). ويتساءلون: ألا يتعارض اعتراف يوسف – عليه السلام – على نفسه بارتكاب الذنب مع قول القرآن ببراءته؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  براءة يوسف – عليه السلام – ثابتة عقلا، ونقلا، وإجماعا؛ وعليه فلا يعقل أن يعترف على نفسه بالإدانة.

2) اختلف المفسرون في هذه الآية المستشهد بها، فمنهم من ذهب إلى أن الكلام في الآية ينسب إلى يوسف – عليه السلام – ومنهم من يرى نسبة الكلام إلى امرأة العزيز وهو الراجح، وفي كلا الحالتين فهي إثبات لبراءة يوسف – عليه السلام – لا إدانته.

التفصيل:

أولا. براءة يوسف – عليه السلام – ثابتة بالنقل والعقل والإجماع:

لقد ثبتت براءة سيدنا يوسف – عليه السلام – من الوقوع في الفحشاء بشهادة كل من علم بحاله، وهذا ما قرره القرآن الكريم، فقد أعلنت امرأة العزيز براءة يوسف – عليه السلام – من الهم بالمعصية، وأنه لم يجبها إلى طلبها إذ قالت: )ولقد راودته عن نفسه فاستعصم( (يوسف: 32)، وشهدت بعفته وصدقه إذ قالت: )أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف)، وقد شهدت النسوة بعفته وطهارته إذ قلن: )حاش لله ما علمنا عليه من سوء( (يوسف: 51). وشهد أيضا ببراءته الشاهد الذي رأى القصة يقولسبحانه وتعالى: )وقدت قميصه من دبر( (يوسف: 25)، حيث شهد بإدانتها، وشهد ببراءته أيضا العزيز يقول سبحانه وتعالى: )فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف)، )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف). وشهد يوسف – عليه السلام – نفسه ببراءته فقال: )هي راودتني عن نفسي( (يوسف: 26) [1].

وفي التوراة نفسها ما يؤكد براءة يوسف – عليه السلام – من الوقوع في الفحشاء: “فأمسكته بثوبه قائلة: “اضطجع معي!”. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج”. (التكوين 39: 12).

كذلك ورد في الكتاب المقدس قوله: “وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت: “اضطجع معي”. فأبى وقال لامرأة سيده: “هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ما له قد دفعه إلى يدي”. (التكوين 39: 7، 8).

كيف بهم يدعون ظلما وزورا إدانته لنفسه؟! وكيف يتفق هذا مع العقل في أن يثبت براءته كل من حوله ومن شهد الواقعة، ثم يدين هو نفسه؟! وكيف يشهد لنفسه بالبراءة ثم يعود فيدين نفسه مرة أخرى؟!!

ولذا رفض أن يخرج يوسف – عليه السلام – من السجن؛ حتى تثبت براءته أمام الناس جميعا ويعلم الناس ذلك.

ثانيا. ثبوت براءة يوسف – عليه السلام – وعدم إدانته، سواء نسب الكلام في الآية إليه أو إلى امرأة العزيز:

فعلى اعتبار أن الكلام في الآية )وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (53)( (يوسف).

فإن معنى: )وما أبرئ نفسي( (يوسف: 53) أي من الميل الطبيعي مع الامتناع، أو من حديث النفس، فأشار يوسف – عليه السلام – بذلك إلى أن عدم التعرض لامرأة العزيز لم يكن لعدم الميل الطبيعي؛ بل لخوف الله تعالى.

وقد يكون المعنى: لا أبرئ نفسي من العزم على دفعها، أي إيذائها، أو ما عبر عنه بـ “السوء” في قولهسبحانه وتعالى: )كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء( (يوسف: 24) لا من القصد إلى المعصية.

ويحتمل أن يوسف – عليه السلام – قال ذلك هضما لنفسه البريئة عن السوء، وتواضعا لله تعالى: أي لا أنزه نفسي من حيث هي هي، ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه، بل إنما ذلك بتوفيقه ورحمته[2].

فيوسف – عليه السلام – بقوله هذا أراد ألا يزكي نفسه، مع أنه على يقين من نفسه وكذلك يعلم غيره من الناس أنه بريء، وظهر ذلك ظهور الشمس وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوه اللاتي قطعن أيديهن.

قال الحسن: لما قال يوسف: )ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب( (يوسف: ٥٢)، كره نبي الله أن يكون زكى نفسه فقال: )وما أبرئ نفسي(؛ لأن تزكية النفس مذمومة، قالسبحانه وتعالى: )فلا تزكوا أنفسكم( (النجم: 32) [3].

وعلى اعتبار أن هذا القول من كلام امرأة العزيز فلا مجال لاتهام يوسف – عليه السلام – لنفسه؛ لأن كلامها حينئذ يعد اعتذارا عما وقع منها في حق يوسف – عليه السلام – واعترافا بعدم براءتها، ويكون يوسف – عليه السلام – بريئا – كل البراءة – مما نسب إليه.

ومعنى الآيتين: ذلك الذي قلت ليعلم يوسف – عليه السلام – أني الآن لا أكذب عليه في غيبته، وما أبرئ نفسي من الخيانة، فإني قد خنته حين ادعيت عليه زورا أنه هو الذي أراد بي سوءا، وقلت: )ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25)( (يوسف) وأودعته السجن، وإن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف، ثم استغفرت ربها مما ارتكبت: )إن ربي غفور رحيم (53)( (يوسف) [4].

والراجح أن هذا من كلام امرأة العزيز، وعود الضميرين على يوسف – عليه السلام – استنادا إلى ما يلي:

أن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف – عليه السلام – حاضرا في المجلس وقت هذا الكلام، وإنما استدعاه الملك بعد ذلك بدليل قوله بعد هذا الكلام: )وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي( (يوسف: 54).

إذا اعتبرنا أنه من كلام يوسف – عليه السلام – فيحتاج الكلام إلى حذف كثير وتقديرات كثيرة من رجوع الرسول إلى يوسف – عليه السلام – وإخباره بما قاله النسوة، ثم إجابة يوسف – عليه السلام – ورجوع الرسول إلى الملك ثانيا وإخباره إياه بمقالة يوسف – عليه السلام – ثم يقول الملك: )ائتوني به أستخلصه لنفسي( والحذف الكثير غير لائق في الكلام.

أن هذا مقام الاعتذار من امرأة العزيز، فإنها بعد أن اعترفت بمراودتها يوسف – عليه السلام – عن نفسه، وتجنيها عليه، يصبح من المناسب أن تعتذر عن هذا بأن ضميرها قد استيقظ، ونفسها قد صلحت بعد أن كانت أمارة بالسوء، وفي هذا ما يشفع لها عند الناس، وعند الله بمغفرة ذنبها: )إن ربي غفور رحيم (53)( والمغفرة تكون لمن أذنب واعتدى وثبتت إدانته، لا لمن كان بريئا معتدى عليه وثبتت عفته وطهارته.

جعل هذا الكلام من قول امرأة العزيز يتفق مع ما هو مقرر من عصمة الأنبياء من غير حاجة إلى تأويل، أو محاولة توفيق، أما جعله من كلام يوسف – عليه السلام – فيحتاج إلى تأويله بما يتفق وعصمة الأنبياء – عليهم السلام – وما لا يحتاج إلى تأويل أولي مما يحتاج.

وعود الضميرين على يوسف – عليه السلام – أقوى؛ لأن السياق يعضده، حيث إن الضمائر قبل ذلك راجعة إلى يوسف – عليه السلام – في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ما علمنا عليه من سوء(، و: )أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف) [5]؛ فبالأولى أن يعود عليه الضميران أيضا في قوله سبحانه وتعالى: )ذلك ليعلم أني لم أخنه(.

الخلاصة:

براءة يوسف – عليه السلام – ثابتة لامراء فيها، حيث شهد ببراءته كل من شهد الواقعة من النسوة وابن عمها الذي شهد ببراءته، وزوجها الذي طلب من يوسف – عليه السلام – أن يكتم هذا الحديث، وامرأة العزيز نفسها التي صرحت ببراءته، وأعلنت أمام الناس جميعا مراودتها له، وقد أكد هذا ما ورد في التوراة من نصوص تدل على براءة يوسف كما جاء في القرآن الكريم.

تفيد الآية التي استشهد بها المدعون براءة يوسف – عليه السلام – من الوقوع في الفاحشة، سواء نسب الكلام فيها ليوسف – عليه السلام – الذي أراد بذلك هضم نفسه البريئة، وإظهار تواضعه لله الذي نجاه من هذه الواقعة، فهو يشير إلى فضل الله عليه، ولا ينسب الفضل لنفسه، أو نسب إلى العزيز وهو الراجح؛ لأن سياق الكلام يوحي بذلك كما أن المقام مقام اعتذار واعتراف منها بالذنب، حيث طلبت من الله – سبحانه وتعالى – أن يغفر لها ذنبها. وهذا لا يحتاج إلى تأويل ويؤكد عصمة الله – سبحانه وتعالى – سبحانه وتعالى – لسيدنا يوسف – عليه السلام – وللأنبياء جميعا.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م.

[1]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص131، 132 بتصرف.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص321، 322 بتصرف يسير.

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص210.

[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص321.

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص222، 223.

المصدر

ادعاء أن موسى وهارون – عليهما السلام – لم يكونا مؤمنين، وأن موسى – عليه السلام – وصى قومه بسرقة المصريين

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن موسى وهارون – عليهما السلام – لم يكونا مؤمنين بالله، بدليل أن الله تعالى قال في التوراة لموسى عليه السلام: “إنكما لم تؤمنا بي ولم تقدساني على عيون بني إسرائيل؛ لذلك لا تدخلان أنتما وهؤلاء الجماعة الأرض التي أعطيها لهم”، لذا وصى قومه أن يسرقوا من المصريين حليهم وأمتعتهم[1]عند خروجه من مصر اعتمادا على ما ورد في سفر الخروج.

وجها إبطال الشبهة:

1)  دعوة الأنبياء قوامها الإيمان بالله – عز وجل – وتوحيده، ولا يعقل أن يدعو إلى الإيمان من لم يؤمن.

2) لم يثبت عن موسى – عليه السلام – أنه وصى قومه بالسرقة، وهذا التحريف واقع من اليهود؛ لإضفاء الشرعية على جرائمهم ضد غير اليهود.

التفصيل:

أولا. دعوة الأنبياء قائمة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، فكيف يصبح نبيا دون أن يؤمن بالله؟! وكيف يدعو إلى ما لم يؤمن به ويعتقده؟!

من المعلوم أن وظيفة الأنبياء هي دعوة البشرية إلى الإيمان بالله وحده، لا شريك له، وتخليص العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ويظهر هذا جليا في دعوة موسى وهارون – عليهما السلام – لفرعون إلى عبادة رب العالمين، فحينما سأل فرعون موسىعليه السلام: من ربك؟ من رب العالمين؟ قال موسى: ربنا الذي خلقنا وهدانا وجعل لنا الأرض ممهدة لنتخذ فيها مسالك وطرقا، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به أزواجا من نبات شتى، ربنا رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم مؤمنين، واستمر موسى – عليه السلام – في تعريف فرعون والحاضرين حقيقة الألوهية، ومن هو الله الذي تجب عبادته فقال: رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون[2].

فالله – سبحانه وتعالى – أرسل موسى وهارون – عليهما السلام – لفرعون وملئه ليدعواه إلى عبادة الله وحده عبادة رب العالمين، فكيف يرسلهما الله لهذه المهمة، وهما غير مؤمنين به؟! وكيف يدعوان إلى ما لم يؤمنا به، ويعتقدا صحته؟!

ونتساءل: كيف ينكر هؤلاء إيمان موسى – عليه السلام – وقد صرحت التوراة به؟!

فقد جاء في سفر الخروج ما نصه: “والآن هوذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إلى، ورأيت أيضا الضيقة التي يضايقهم بها المصريون، فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون، وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر”، فقال موسى لله: “من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر؟” فقال: “إني أكون معك، وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك: حينما تخرج الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل” فقال موسى لله: “ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي: ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟” فقال الله لموسي: “أهيه الذي أهيه” وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم”. (الخروج 3: 9ـ 14).

فهذا نص صريح على أن موسى – عليه السلام – دعا بني إسرائيل إلى الإيمان بالله رب العالمين، وكان ذلك هو السبب في اضطهاد فرعون له ولمن آمن معه، وتعذيبه لهم على النحو الذي صرح به القرآن الكريم في غير موضع، ومن تلك المواضع التي جمعت دعوة موسى – عليه السلام – لفرعون إلى الإيمان بالله وحده ووعيد فرعون لموسى – عليه السلام – لئن اتخذ إلها غيره ليسجننه، ثم وعيده لمن اتبع موسى ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف وليصلبنهم من تلك المواضع سورة الشعراء، قال الله تعالى حاكيا ما حدث: )قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قـال لمـن حولـه ألا تستمعـون (25) قـال ربكـم ورب آبائكــم الأوليـــن (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33) قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتـوك بكـل سحـار عليــم (37) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنـا نتبـع السحـرة إن كانـوا هـم الغالبيـن (40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50)( (الشعراء)، فهل يأتي أحد بعد ذلك وينكر إيمان موسى عليه السلام، ولو لم يكن موسى – عليه السلام – مؤمنا فلماذا عاداه فرعون وملؤه؟

ثانيا. لم يثبت عن موسى – عليه السلام – أنه وصى قومه بالسرق؛ فكيف يأمر بالسرقة وهو صاحب الرسالة الربانية التي تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر؟!

إن هذا الزعم – توصية موسى – عليه السلام – بالسرقة – أمر لا دليل عليه – نقلا أو عقلا – فهو لا يتفق مع مقام النبوة ومنزلة كليم الله وواحد من أولي العزم من الرسل.. إنه – عليه السلام – خرج بقومه من مصر مستخفين أحرص ما يكون على سرية هذا الخروج. فعندما أراد الله – عز وجل – إنقاذ بني إسرائيل من شر فرعون وقومه، أوحى إلى موسى – عليه السلام – بقوله: )ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77)( (طه) [3].

اتفق – عليه السلام – موسى مع بني إسرائيل على الخروج من مصر، والذهاب إلى الأرض المقدسة “فلسطين” التي كتبها الله لهم، وأعد عدته معهم، ثم سار بهم ليلا من أرض مصر مستخفين حريصين أن يكون خروجهم هذا سريا؛ حتي لا يشعر به فرعون وقومه، فتصيبهم ألوان من العذاب. فكيف يكون خروجهم بهذه الطريقة، ثم يأمر موسى – عليه السلام – قومه بسرقة أمتعة المصريين وحليهم، أليس هذا مخالفا للعقل؟!

لقد كتب الله في الألواح التي أعطاها له ولقومه هذه الوصايا العشر وهي معظم التوراة، وعليها مدار كل شريعة، وهي الأخلاق التي دعا الله إليها موسى وهارون – عليهما السلام – وبني إسرائيل، وهي:

“بسم الله؛ هذا كتاب من عند الله الملك العزيز القهار ورسوله موسى بن عمران، أن سبحني وقدسني، لا إله إلا أنا فاعبدني، ولا تشرك بي شيئا، واشكر لي ولوالديك إلي المصير؛ أحييك حياة طيبة، ولا تقتل النفس التي حرم الله عليك؛ فأضيق عليك السماء بأقطارها، والأرض برحبها، ولا تحلف باسمي كاذبا؛ فإني لا أطهر ولا أزكى من لا يعظم اسمي، ولا تشهد بما لا يعي سمعك ولا تنظر عينك ولا يقف عليه قلبك؛ فإني أوقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة وأسألهم عنها، ولا تحسد الناس على ما آتيتهم من فضلي ورزقي؛ فإن الحاسد عدو نعمتي ساخط لقسمتي، ولا تزن ولا تسرق؛ فأحجب عنك وجهي وأغلق دون دعوتك أبواب السماوات، ولا تذبح لغيري فإنه لا يصعد إلى من قربان أهل الأرض إلا ما ذكر عليه اسمي، ولا تفجر بحليلة جارك فإنه أكبر مقتا عندي، وأحب للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكرهه لنفسك”.

فقد نهى الله موسى – عليه السلام – في تلك الوصايا عن السرقة، وتلك الوصايا العشر، أو الأخلاق العشر، التي أعطاها الله لنبيه موسى – عليه السلام – قد أعطاها جميعها لنبيه وحبيبه العظيم محمد – صلى الله عليه وسلم – في ثلاث آيات من سورة الأنعام: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفـس التي حـرم الله إلا بالحـق ذلكـم وصاكـم به لعلكـم تعقلـون (151) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)( (الأنعام) وقد فصلها الله تبارك وتعالى في آيات أخر[4].

أبعد هذا كله يحق لهؤلاء أن يتهموا الأنبياء بهذه التهم الشنيعة التي لا يرضاها العقل والمنطق، فضلا عن أصحاب العقائد السليمة والفطر القويمة؟!

الخلاصة:

موسى وهارون – عليهما السلام – نبيان من عند الله – سبحانه وتعالى – ووظيفة النبي هي الدعوة إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له، وتوحيده – عز وجل – وقبل أن يدعو النبي إلى ذلك – لا بد أن يؤمن هو أولا بذلك ويقتنع به؛ لأنه لا يعقل أن يدعو أحد إلى شيء لا يؤمن به.

توصية موسى – عليه السلام – قومه بسرقة المصريين زعم لا دليل عليه، ولا تتفق مع مقام النبوة، ومنزلة كليم الله، وواحد من أولي العزم من الرسل. فضلا عن أنه خرج من مصر بقومه مستخفيا، هاربا من فرعون وقومه، فكيف يأمر بما يثير القوم، ويهيجهم؟!

جاء في الوصايا العشر لموسى – عليه السلام – من الله – عز وجل – ألا يسرق؛ فإن السرقة تحجب عن العبد وجه ربه، وتغلق دون دعواته أبواب السماء فلا ترفع.

 

(*) الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، د. محمود ماضي، دار الدعوة، مصر، 1996م.

[1]. الأمتعة: كل ما ينتفع به ويرغب في اقتنائه؛ كالطعام وأثاث المنزل.

[2]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص187.

[3]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص197.

[4]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص203، 204.

المصدر

ادعاء أن ناقة صالح – عليه السلام – خرافة تتنافى مع العقل

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن ناقة صالح – عليه السلام – خرافة غير معقولة؛ فليس من العقل أن تلد الصخرة ناقة تشرب كل ماء البئر ليوم كامل، ثم تسقي كل أهل المدينة من لبنها، ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في معجزة صالح – عليه السلام – التي أيده الله تعالى بها وإنكار نبوته عليه السلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) ناقة صالح – عليه السلام – معجزة إلهية، والله – عزوجل – يؤيد رسله بالمعجزات، فلم العجب والمؤيد هو الله عزوجل؟

2) المعجزة أمر خارق للعادة، وهذا ما حدث في قصة الناقة، وهي كغيرها من معجزات الأنبياء، مثل إحياء الموتى وخلق الطائر الناتج عن النفخ فيه، وهما معجزتان لعيسى عليه السلام، ومثل تفجير الحجر عيونا وفلق البحر، وهما معجزتان لموسى عليه السلام.

3) التشكيك في معجزة صالح – عليه السلام – التي أيده الله بها مرده القصور في عقول المنكرين، ولو نظروا في الكون لأبصروا العجب العجاب، والتقدم العلمي الحديث خير دليل على قدرة الله تعالى.

التفصيل:

أولا. الناقة معجزة إلهية، والله يؤيد رسله بالمعجزات، فمن أين العجب والمؤيد هو الله عزوجل؟

إن الله – سبحانه وتعالى – يؤيد رسله بالمعجزة؛ فالرسل مبعوثون من قبله تعالى إلى الناس، ودعواهم النبوة ليست دعاوى معتاده؛ لأن رسالتهم أتت من مصدر سماوي، وليس من مصدر أرضي معتاد؛ لذا كان لا بد من معجزة تؤيدهم فيما يقولون، وتدل على صدقهم؛ فأيدهم الله – سبحانه وتعالى – بهذه المعجزات؛ لتكون برهانا واضحا على صدقهم، وحتى لا يجد الجاحد سبيلا إلا الإيمان قال سبحانه وتعالى: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج).

ومن هنا عرف العلماء المعجزة: بأنها أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد من اصطفاه تصديقا له في دعوته، ولما كانت المعجزة فعلا من أفعال الله – عزوجل – فأي استحالة في وقوعها؟ إن وقوع المعجزة ليس أعجب من خلق السماوات والأرض وما فيها، وليس بأعجب من خلق الحياة المتجددة كل يوم.

وأي عجب في أن تخرج ناقة من صخرة على سبيل خرق العادة، ونحن نرى الكائنات الحية كالديدان تخرج من موات؟ ألا يقلب المرء صخرة أو يشق تمرة أو يقطع عودا من أعواد النبات، أو يضرب الأرض بفأس أو يشقها بمجراف فيجد في داخل هذه الأشياء ديدانا، وكائنات حية تخلقت من داخلها، ولم تأت في بدء أمرها من زوجين اثنين؟ إن الذي أوجد هذه الكائنات الحية الدقيقة في هذه الجمادات والنباتات، هو الذي يوجد كائنا حيا من صخرة، وليس في قدرته كبير وصغير، ومعلوم لدى العلماء أن الإعجاز والدقة في الكائن الصغير، لا تقل درجته عن الإعجاز والدقة في الكائن الكبير.

ومتى كان الشيء الغريب المخالف للمألوف مدعاة للحكم عليه بالاستحالة العقلية؟ إننا لو سلمنا بهذا؛ لحكمنا بالاستحالة العقلية على ما لم نألفه، بل لما ثبت شيء في الوجود أصلا!!، إذ كل واحد منا يعتاد أشياء لا يعتادها ولا يألفها الآخرون، وهكذا ينتهي بنا إنكار غير المألوف إلى إنكار كل شيء، فوجب علينا أن نثق ونؤمن بقصة الناقة؛ لأنها من فعل الله عزوجل.

ثانيا. الناقة معجزة الله تعالى لنبي الله صالح – عليه السلام – جاءت آية على صدق نبوته:

إن الله يؤيد أنبياءه بالبينات، والبينة هي: الدليل على الصدق في البلاغ عن الله تعالى، كما أنه – عزوجل – يؤيدهم بالمعجزات والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة.

والله قد أيد صالحا – عليه السلام – بالناقة؛ فحين قام سيدنا صالح – عليه السلام – بدعوته، تحداه السادة من قومه، وقالوا: نقف نحن وأنت، نستنجد نحن بآلهتنا، وأنت تستنجد بإلهك، فإن غلبت آلهتنا تتبعنا، وإن غلب إلهك نتبعك، وجلسوا يدعون آلهتهم، فلم يحدث شيء من تلك الآلهة وهنا قالوا لسيدنا صالح: إن كنت صادقا في دعوتك، فهذه صخرة منفردة أمامك في الجبل، اسمها “الكاثبة” فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء كالبخت – أحسن أنواع الإبل – فدعا الله عزوجل، وانشقت الصخرة عن الناقة، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالا للشك في أنها آية من الله ظهرت أمامهم.

إنها البينة الواضحة لقد انشقت الصخرة عن الناقة، ووجدوها ناقة عشراء، وبراء – أي كثيرة الوبرـ يتحرك جنينها بين جنبيها، تم أخذها المخاض، فولدت فصيلا، وهكذا تتأكد الآية بدون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها[1].

قال تعالى: )وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73)( (الأعراف). وهي كغيرها من معجزات الأنبياء، مثل: إحياء الموتى، وخلق الطائر الناتج عن النفخ فيه وهما معجزتان لعيسى عليه السلام، ومثل: تفجير الحجر عيونا، وفلق البحر وهما معجزتان لموسى عليه السلام، وغير ذلك من معجزات الرسل، وإذا كان النصارى قد اغتروا بما أجرى الله على يد عيسى – عليه السلام – من معجزات، وبالغوا في ذلك حتى جعلوه إلها بسببها، فلم ينكرونها في حق نبي الله صالح عليه السلام، وهو رسول مثل عيسى – عليه السلام – صدقه الله بمعجزة الناقة؟!

وهل يقبل من كل أحد إنكاره – بلا دليل – معجزة من المعجزات أو كرامة من الكرامات، ويقول: إنها خرافة من الخرافات، لا لشيء إلا لأنها استحالت في عقله القاصر؟

ثالثا. التشكيك في معجزة صالح – عليه السلام – ناتج عن ضيق أفق هؤلاء المنكرين، وعجزهم عن إدراك الأمور على حقيقتها:

فلو نظروا في الكون لوجدوا أشياء كثيرة كنا نعدها مستحيلة ولكنها الآن متاحة، وهذا من فعل البشر، وهم عاجزون، فما بالك بفعل الله – عزوجل – القادر العلي المتعال.

إننا نرى اليوم أجهزة تتحدث، ولو كان هذا في زمن السابقين لحكموا على ما يرونه أمامهم بأنه ضرب من السحر.

ولا سبيل إلى إنكار معجزة صالح عليه السلام؛ لأن ما يثبت من معجزات الأنبياء كمعجزة عيسى – عليه السلام – يثبت لمعجزة صالح – عليه السلام – وغيره من الأنبياء – عليهم السلام – أجمعين، فإذا كان هناك من يشكك في معجزة الناقة، ويؤمن بمعجزة إحياء الموتى لعيسى عليه السلام، فإن هذا مما يتنافى مع العقل السليم ويدخل في باب الإيمان بالهوى قال تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض( (البقرة: 85).

الخلاصة:

إن معجزة الناقة كانت تأييدا من الله – عزوجل – لنبيه صالح عليه السلام، فكيف يكون العجب، والصانع هو الله عزوجل؟ أليس الله بقادر على كل شيء؟! وهو الذي خلق السماوات والأرض والجبال والأنهار، فمن ينكر خلق الناقة – وهي من فعل الله عزوجل – فهل يستطيع أن ينكر باقي أفعاله تبارك وتعالى؟ إنه في هذه الحالة سينكر وجود نفسه ولن يستطيع، فتثبت المعجزة لسيدنا صالح عليه السلام؛ لأنها فعل من أفعال الله تعالى، وقوعها ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض وما فيها، وليس بأعجب من خلق الإنسان، كما أنه سبحانه هو الذي خلق أول ناقة، أليس بقادر على إخراج ناقة من الصخرة؟

هل يقبل قول كل من ينكر شيئا – بغير دليل – لمجرد الإنكار والحكم بالخرافة؟ ولو كان ذلك مقبولا؛ لأدخلنا في نفق مظلم من الخرافات التي لا نهاية لها. ولكننا نذكر هؤلاء المنكرين بمقولة هي: إذا كنت مدعيا فأين الدليل، وإلا فكلامك محض افتراء لا فائدة منه.

إن التطور العلمي في شتى المجالات، في عصرنا الحاضر ولا سيما في وسائل المواصلات والاتصالات لحري بأن يذهب بالألباب، وتنكره العقول لو كان في زمان الأولين، الذين لم يعهدوا مثل هذا قط، ولا خطر على بالهم طرفة عين، وليس ذلك إلا لقصور عقولهم عن تقدم البشر، فما بالنا بفعل الله – عزوجل – الذي خلق هؤلاء البشر؟!!

 

(*) موقع الكلمة. www.alkalema.net

[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج7، ص4217، 4218.

المصدر

ادعاء أن نبي الله أيوب – عليه السلام – كان غضوبا

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن أيوب – عليه السلام – كان غضوبا، وغضبه أدى به إلى الحلف على زوجته بأن يضربها مائة جلدة، ويستدلون بقوله عز وجل: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)( (ص). ويتساءلون: كيف يغضب أيوب – عليه السلام – على زوجته التي رعته وسهرت على تمريضه ومعالجته مدة طويلة، وهو البار الصبور الذي صبر على ضياع أولاده، وعبيده، ومواشيه؟!!

وجها إبطال الشبهة:

1) الآية المذكورة لم تثبت لأيوب – عليه السلام – غضبا شخصيا، بقدر ما أثبتت له غضبا لأجل الدين، فهو لم يقسم على ضربها إلا بعد أن علم أن الشيطان خادعها، وساومها على سلامة اعتقادها، وهذا لا يعني أنه لم يحفظ جميل زوجته.

2) أيوب – عليه السلام – لم يوصف في القرآن بالغضب، ولكنه وصف بالصبر وأنه أواب؛ فقد كان مؤمنا بالله عابدا تقيا صابرا؛ ولذلك خفف الله عليه البر بقسمه.

التفصيل:

أولا. الآية لم تثبت لأيوب غضبا شخصيا، بقدر ما أثبتت له غضبا لأجل الدين:

إن القرآن علم أتباعه أن يوقروا المرسلين جميعهم، ونهاهم عن أن يفرقوا بين أحد من رسل الله، واعتبر التفريق بينهم كفرا حقيقيا، فقال عز وجل: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)( (النساء). وجعل من صفات عباده المؤمنين أنهم يقولون: )لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة)، فالقرآن أدب أصحابه على الإيمان بجميع الرسل وعدم التفريق بينهم.

في ضوء ما سبق يجب أن نفهم سياق قوله تعالى في حق سيدنا أيوب عليه السلام: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث( (ص: 44). فالآيات لم تثبت لأيوب غضبا شخصيا، بقدر ما أثبتت له غضبا لأجل الدين، وانتهاك حرمات الله، وقد كانت هذه صفة مدح وصف بها النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد ثبت أنه ما كان يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله عز وجل.

إن الذي حدث أن أيوب – عليه السلام – حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائه جلدة؛ وقد قيل في سبب ذلك عدة أقوال، منها:

ما حكاه ابن عباس – رضي الله عنهما – أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال: أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه، قالت: نعم، فحلف ليضربنها، وقال: ويحك ذلك الشيطان.

ما حكاه سعيد بن المسيب – رحمه الله – أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز، فخاف خيانتها، فحلف ليضربنها.

ما حكاه يحيى بن سلام وغيره أن الشيطان أغواها، أن تحمل أيوب – عليه السلام – على أن يذبح سخلة ([1]) تقربا إليه وأنه يبرأ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها – إن عوفي – مائة([2]).

“ثم إن أيوب – عليه السلام – أصبح متحيرا في يمينه الذي حلفه وتوعد به، فأتاه جبريل – عليه السلام – وقال له: يا أيوب، خذ مائة عود من أعواد سنابل القمح، واجمعها حزمة واضرب بها رحمة ضربة واحدة خفيفة لطيفة، فتخلص من اليمين، ففعل ذلك أيوب وخلص من يمينه، وذلك قول الله تعالى: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث( (ص: 44)، وذلك لأن الله تعالى رحمها بسبب صبرها على بلاء زوجها، فخفف عنها؛ لأنها كانت تتكسب عليه([3])وتعمل للناس من أجله”([4]).

فأيوب – عليه السلام – ـ إذن – لم يغضب ويقسم أنه سيضرب زوجته التي صبرت على البلاء معه طويلا إلا بعد أن علم أن الشيطان خادعها، وساومها على سلامة اعتقادها في الله – عز وجل – حتى جعلها تظن أن شفاء زوجها فيما ينصحها به، مما يؤثر على سلامة اعتقادها، وهذا ما لم يرضه أيوب – عليه السلام ـمنها؛ فحلف أن يضربها لتسلم لها نفسها ويقينها، وتعلم أن الشفاء من ربها، لا دخل لبشر فيه ولا لغير البشر.

إن نبي الله أيوب – عليه السلام – لم يغضب لنفسه، وإنما غضب لله، والغضب لله ليس عيبا يلصق بالغاضب، وليت من يلمز([5]) القرآن بأنه ألصق الغضب بسيدنا أيوب – عليه السلام – يعرف كيف يحفظ القرآن أعراض الأنبياء وسيرهم؟ وترانا يقتلنا الحزن ونحن نسمع أنهم يلصقون بأنبيائهم قتل الرجال ليتزوجوا نساءهم، وينسبون إليهم أفحش ما ينسب إلى الناس من زنا المحارم، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تليق بآحاد الناس، فما بالنا بأفضل خلق الله!

فهل هذا من الأدب مع المصطفين الأخيار؟ وهل من يقتنع بهذا العار يزعم أنه يحفظ عرض أحد؟ كيف وقد نالوا من الأنبياء؟!

ثانيا. نبي الله أيوب – عليه السلام – لم يوصف في القرآن بالغضب، ولكنه وصف بالصبر:

لم يوصف أيوب – عليه السلام – في القرآن بالغضب، ولكنه وصف بالصبر، وأنه أواب، وأنه نعم العبد، فقد كان – عليه السلام -: امرأ حسن الخلق، مؤمنا بالله عابدا تقيا صابرا، راضي النفس طيب الفؤاد، عطوفا على الفقراء، رحيما بالمساكين يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، فأثنى الله عليه بقوله: )نعم العبد إنه أواب (44)( (ص)، وكان دائما يسبح لله بقوله: “سبحانك ربي صاحب الملكوت”، فكانت الملائكة تردد تسبيحه في السماء، فحسده إبليس وسلط عليه في ماله وأولاده وبدنه، فصبر أيوب صبرا جميلا، فخسئت الشياطين وانتصر الصبر مع الإيمان بالله”([6]).

وقصة ابتلاء أيوب – عليه السلام – وصبره ذائعة مشهورة، وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر، ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، “والحد المأمون في هذه القصة كما أشار صاحب الظلال أن أيوب – عليه السلام – كان كما جاء في القرآن عبدا صالحا أوابا، وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا”.

ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا، ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له.

وكان الشيطان يوسوس لخلصائه([7]) القلائل الذين بقوا على وفائهم له – ومنهم زوجته – بأن الله لو كان يحب أيوب – عليه السلام – ما ابتلاه، وكانوا يحدثونه بهذا، فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء، فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة، حلف لئن شفاه الله ليضربنها عددا حدده قيل: مائة.

وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه فقال: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته، وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته، إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه، فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب، فيشفى ويبرأ، فقال سبحانه وتعالى: )اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42)( (ص).

وأما قسمه ليضربن زوجه، فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده، فيضربها به ضربة واحدة، تجزئ عن يمينه، فلا يحنث فيه فقال: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)( (ص)، هذا التيسير وذلك الإنعام كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب – عليه السلام – من الصبر على البلاء، وحسن الطاعة والالتجاء إليه سبحانه([8])؛ حيث وصفه تعالى فقال: )إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44)( (ص).

فالمولى – عز وجل – يكافئ عباده المخلصين وما يتناسب مع إخلاصهم وصبرهم؛ لتكون لنا العظة والعبرة، ومن ثم فلا تعلق هنا لصاحب الشبهة بما ذكره في تلك القصة، فليس هناك انتقاص من قدر النبي – عليه السلام – وليس هناك غضب، ولا تنفيس لثورته وحدته.

الخلاصة:

الآية تثبت أن غضب أيوب – عليه السلام – غضب لأجل الدين، وارتكاب المحرمات؛ فهو – عليه السلام – لم يغضب إلا بعد أن علم أن الشيطان خادع زوجته وساومها على سلامة اعتقادها في الله عز وجل.

وصف القرآن أيوب – عليه السلام – بالصبر، وبأنه أواب وأنه نعم العبد، ولم يصفه بالغضب كما زعموا.

أقسم أيوب – عليه السلام – ليضربن زوجه، ولكن برحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها، خفف الله تعالى عليه البر بقسمه، فالمولى – عز وجل – يكافئ عباده المخلصين وما يتناسب مع إخلاصهم وصبرهم؛ لتكون لنا العظة والعبرة.

 

(*) موقع الكلمة. www.alklema.net

[1]. السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعز ساعة يولد.

[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج15، ص212 بتصرف يسير.

[3]. تتكسب عليه: تعمل وتنفق عليه.

[4]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص160.

[5]. يلمز: يعيب.

[6]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص149.

[7]. الخلصاء: المخلصين التابعين له.

[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص3021، 3022.

المصدر

ادعاء أن موسى – عليه السلام – كان وصيا على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن موسى – عليه السلام – كان وصيا على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته، ويستدلون على ذلك بما حدث ليلة الإسراء والمعراج من موسى – عليه السلام – بعد ما أخبره محمد – صلى الله عليه وسلم – بأن الله فرض على أمته خمسين صلاة، فأوصى موسى – عليه السلام – محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يرجع إلى ربه، ويسأله التخفيف، ففعل.

وجها إبطال الشبهة:

1) الأنبياء كلهم مبلغون عن الله رسالته، متآخون متناصحون. وما قاله موسى – عليه السلام – لمحمد – صلى الله عليه وسلم – كان من قبيل التناصح لا من باب الوصاية.

2) محمد – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا، وقد أخذ الله الميثاق على النبيين لئن بعث وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، فلو أدرك موسى – عليه السلام – زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباعه.

التفصيل:

أولا. ما كان بين موسى – عليه السلام – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – من ليلة الإسراء والمعراج كان من قبيل التناصح لا من باب الوصاية:

قبل كل شيء لا بد أن نوضح أن دين الأنبياء جميعا واحد، وهو الإسلام، وأن العلاقة بين رسل الله قائمة على التآخي والتناصح فكلهم مبلغون عن الله رسالته، وهي علاقة قائمة على أساس التأكيد والتتميم، وهذا ما أبرزه النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[1].

لذا نجد أن طريق الأنبياء واحد، وهدفهم واحد، وهو تبليغ رسالة ربهم إلى الناس، وقد جعل الله تعالى من ديدن الرسل أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به، وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به، قال تعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)( (آل عمران).

قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته، لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه”[2].

ولقد ضرب لنا النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلا يؤكد على علاقة الأخوة القائمة بين الأنبياء جميعا في قوله صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد»[3].

وانطلاقا مما سبق نستطيع أن نفسد حديث المراجعة الذي دار بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين موسى – عليه السلام – ليلة الإسراء والمعراج، والذي يتخذه بعض المتوهمين دليلا على وصاية موسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى أمته، ولكي تظهر الحقيقة جلية لا بد أن نذكر نص هذا الحديث كما روته كتب السنة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «.. ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت إلى موسى فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»[4].

إن المتأمل لهذا الجزء من حديث الإسراء والمعراج، لا يجد ما يدعيه هؤلاء من أن موسى – عليه السلام – جعل من نفسه وصيا على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته، وإنما يشير هذا الحديث إلى نصح موسى – عليه السلام – للنبي – صلى الله عليه وسلم – بحكم خبرته وتجربته مع بني إسرائيل ومعالجتهم، فأشفق على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – رحمة بهم في أن يقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل، قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في تعليقه على هذا الحديث: “والظاهر من السياق أن الذي حمل موسى – عليه السلام – على ما ذكر من طلب تكرار المراجعة هو رحمة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – والشفقة عليهم، فجزاه الله خيرا”.

ويقول القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى – عليه السلام – بمراجعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمر الصلاة لعلها لكون أمة موسى – عليه السلام – كلفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى – عليه السلام – على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – من مثل ذلك، ويشير إلى ذلك قول موسى – عليه السلام – في الحديث السابق: “وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة”.

وذكر السهيلي: أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم[5].

إذن فالأمر لم يكن أمر وصاية من موسى – عليه السلام – على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأمته كما يتخيل هؤلاء، بل هي الرحمة التي جعلها الله في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، فخشي أن تقع أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – فيما وقعت فيه أمته من التقصير في أداء حقوق الله تعالى، فنصح النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل ربه التخفيف، ولا شك أن هذا يدل على ما سبق أن ذكرناه من أن طريق الأنبياء واحد وغايتهم واحدة وهي الدعوة إلى الله، فلا عصبية لأمة ولا لجنس ولكن عصبية الأنبياء لا تكون إلا لله تعالى، وهو يدل أيضا على علاقة الأخوة بين الأنبياء جميعا، هذه العلاقة القائمة على الحب والتناصح لا التباغض والحسد وفرض الإرادة والوصاية كما يزعمون.

ثانيا. محمد – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا، ولو أدرك موسى – عليه السلام – زمنه – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباعه:

لقد أمر الله تعالى المسلمين في القرآن الكريم بالإيمان بكل الرسل وعدم التفريق بينهم: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة)، والتفريق المنهي عنه في الآية الكريمة هو التفريق في أصل النبوة لا في ذات الأنبياء؛ لأن منازل الأنبياء متفاوتة وقد فضل الله بعض النبيين على بعض كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم( (البقرة: 253).

والمتأمل في فضائل الأنبياء الكرام، وقصصهم مع أقوامهم، كما ذكرها القرآن الكريم والسنة المطهرة يجد أنه لا خلاف أن أولي العزم من الرسل هم أفضل من غيرهم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد – صلوات الله وسلامه عليهم – ولا خلاف أيضا أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – أفضل منهم جميعا قال سبحانه وتعالى: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب). فبدأ في هذه الآية بمحمد – صلى الله عليه وسلم – الخاتم؛ لشرفه وكرمه وفضله عند ربه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم[6].

وقد خص الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بست لم يعطها أحدا من الأنبياء قبله؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون»[7].

والمتأمل في الفضيلة السادسة التي أعطيها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي كونه خاتم الأنبياء يجد أن المعنى هو: أن الله لا يبعث رسولا من بعده يغير شرعه، ويبطل شيئا من دينه[8].

مما سبق نستطيع أن نقرر أن الله قد فضل محمدا – صلى الله عليه وسلم – على سائر الأنبياء، وجعل شريعته مهيمنة على سائر شرائعهم الأنبياء، بل لقد أخذ الله ميثاق جميع الأنبياء والرسل إن هم أدركوا زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يؤمنوا به وينصروه كما سبق أن أشرنا.

ومن ثم فإنه من العجيب حقا أن يتوهم بعضهم أن موسى – عليه السلام – وصي على محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلى أمته، والحق الذي لا مراء فيه أن موسى – عليه السلام – لو أدرك زمن محمد – صلى الله عليه وسلم – لما وسعه إلا اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»[9]، وكذلك روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله إني أمرت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال عبد الله – راوي الحديث – فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولا، قال: فسري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: «والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى – عليه السلام – ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين»[10].

فالرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء صلوات الله عليه وسلامه إلى يوم الدين، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر، لكان هو الواجب طاعته، المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان – صلى الله عليه وسلم – إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس[11].

ولا عجب في هذا، فلقد جمعت شريعته – صلى الله عليه وسلم ـالخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالا وجلالا، وهذا ما أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله سبحانه وتعالى: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل:89)، وقوله سبحانه وتعالى: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38).

وعليه فإن من الخطأ البين أن يوصف طلب موسى – عليه السلام – من محمد – صلى الله عليه وسلم ـمراجعة ربه في عدد الصلوات وسؤاله له التخفيف – بالوصاية؛ لأن الأمر لا يعدو كما قررنا أن يكون نصيحة من نبي لأخيه، إشفاقا منه على أمته ورحمة وضعها الله في قلبه.

الخلاصة:

إن العلاقة بين رسل الله جميعا قائمة على التآخي والتناصح، فدينهم جميعا واحد، وطريقهم واحد، وهدفهم واحد وهو تبليغ رسالة الله إلى الناس؛ لهذا نجد موسى – عليه السلام – بحكم تجربته مع بني إسرائيل ومعالجته لهم، يطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يسأل ربه التخفيف في عدد الصلوات، وهذا من باب النصح للنبي – صلى الله عليه وسلم – والشفقة على أمته، فقد جعل الله في قلوب أنبيائه رحمة لم يجعلها في قلوب غيرهم.

لا خلاف أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – هو أفضل الأنبياء جميعا وخاتمهم إلى يوم الدين، وقد أخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم لئن بعث – صلى الله عليه وسلم – وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه، فلو وجد – صلى الله عليه وسلم – في أي عصر لوجب اتباعه، ولو وجد أي نبي في عصره للزمه طاعته، لهذا قال – صلى الله عليه وسلم ــ كما تقدم: «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»[12]؛ ومن ثم فلا وصاية لأحد من البشر – وإن علا قدره – على النبي – صلى الله عليه وسلم – أو على أمته.

 

(*) المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410هـ/ 1990م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين (6101).

[2]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 1426هـ/ 2006م، ص54.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم:١6) (3259)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6281).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـإلى السموات وفرض الصلوات (434)، واللفظ للبخاري.

[5]. أضواء على أحاديث الإسراء والمعراج، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، ص73: 75 بتصرف.

[6]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير البشر وأمته خير الأمم، محمد أحمد محمد، مكتبة التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1419هـ/ 1998م، ص88، 89 بتصرف يسير.

[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1195).

[8]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م، ص218، 219 بتصرف.

[9]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (14672)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 199) برقم (176)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).

[10]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث عبد الله بن ثابت رضي الله عنه (15903)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).

[11]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير البشر وأمته خير الأمم، محمد أحمد محمد، مكتبة التراث الإسلامي، مصر، ط1، 1419هـ/ 1998م، ص90، 91 بتصرف.

[12]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه (14672)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 199) برقم (176)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).

المصدر

ادعاء أن موسى – عليه السلام – اعتذر عن حمل الرسالة، وطلب من الله أن يكلف بها هارون عليه السلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن موسى – عليه السلام – قد كلفه الله بدعوة فرعون وقومه إلى عبادته سبحانه وحده، فاعتذر موسى – عليه السلام – عن حمل الرسالة، وطلب من الله أن يكلف بها هارون، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قــوم فرعــون ألا يتقــون (11) قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14)( (الشعراء).

وجه إبطال الشبهة:

موسى – عليه السلام – لم يطلب إعفاءه من الرسالة، وتوجيهها إلى هارون عليه السلام، وإنما طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون؛ ليكون معه رسولا. وكان طلبه هذا مقبولا لأمرين:

أن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق الصدر، وضيق الصدر سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة[1]، أما هارون – عليه السلام – فهو أفصح لسانا.

أن لفرعون وقومه عند موسى – عليه السلام – ذنبا، فخاف أن يبادروا إلى قتله، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، أما هارون – عليه السلام – فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة.

التفصيل:

هل طلب موسى – عليه السلام – إعفاءه من الرسالة وإعطاءها لهارون عليه السلام؟!

يوضح د. محمد أبو النور الحديدي القول على هذا التساؤل قائلا: إن موسى – عليه السلام – لم يطلب إعفاءه من الرسالة، وتوجيهها إلى هارون عليه السلام، وإنما طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون فيكون كل منهما رسولا يتعاونان في دعوة فرعون وقومه إلى الله، وإصلاح حال بني إسرائيل؛ وذلك لأن موسى كان في لسانه لثغة [2]. قال سفيان: كان ذلك من أثر الجمرة التي وضعها في فمه وهو صغير، وكان مع هذا يفقه قوله[3]، وليس كما قال فرعون – لعنه الله – فيما حكاه عنه القرآن: )أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52)( (الزخرف) أي: ولا يكاد يفصح عن كلامه، فهو عي[4]حصر؛ لأنه سأل الله تعالى أن يحل عقدة لسانه ليفقه الناس قوله: )واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28)( (طه). فاستجاب الله له ذلك فقال: )قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36)( (طه)، فموسى – عليه السلام – تحقق له طلبه فتيسر له الإبلاغ والإفهام، ولا يعقل أن يرسل الله رسولا لا يستطيع إفهام غيره. ومن ثم كان طلب موسى الإعانة بأخيه هارون – عليهما السلام – طلبا مقبولا لثلاثة أمور:

الأول والثاني: لأن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة، فقد كان في لسان موسى – عليه السلام – لثغة لا يكاد يفصح عن كلامه، فسأل الله تعالى أن يحل عقدة لسانه، ليفقه الناس: )قال رب إني أخاف أن يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون (14)( (الشعراء). فاستجاب الله له )قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36)( (طه)، فتيسر له – عليه السلام – الإبلاغ و الإفهام، ولكن هارون – عليه السلام – كان أفصح من موسى عليه السلام، والأفصح يكون أكثر إبلاغا وإفهاما، ثم إن هارون – عليه السلام – بإرساله يكون معينا مقويا لأمر موسى – عليه السلام – ومصدقا له فيما يقوله، ويخبر به عن الله تعالى، لأن خبر الاثنين أوقع في النفس من خبر الواحد، قال سبحانه وتعالى: )قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)( (القصص)[5] والقول إجابة من الله لدعاء موسى عليه السلام.

الثالث: لأن القوم لهم عند موسى ذنب، فخاف أن يبادروا إلى قتله، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة، حيث إن موسى – عليه السلام – قد قتل من قوم فرعون نفسا، وهو الذي وكزه فقضى عليه، ويخشى أن يقتلوه به، فلا يتحقق المقصود من بعثته: )يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35)( (الشعراء)، أما هارون – عليه السلام – فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة.

ومما يدل صراحة على عدم استعفاء موسى – عليه السلام – من الرسالة – وإنما طلب مشاركة هارون – عليه السلام – له في مهمته الصعبة – قوله الذي حكاه عنه القرآن الكريم: )واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنـا بصيـرا (35) قـال قـد أوتيــت سـؤلك يـا موسـى (36)( (طه) [6][7].

وقد ذلل[8] الله له العقبة الأولى إذ أيده بالآيات الحسية الدالة على صدقه في دعوة النبوة والرسالة: )ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات( (الإسراء). فقال له الله: )وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18) قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20)( (طه)[9]، وهي في سرعتها وخفة حركتها كأنها جان: )فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب( (القصص: ٣١) فناداه الحق سبحانه وتعالى: )يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10)( (النمل: ١٠) فرجع موسى آمنا نحو العصا فقال له الله: )قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21)( (طه)، فوضع موسى – عليه السلام – يده بين أنيابها فعادت خشبة جامدة، ثم أعطاه الله آية أخرى وهي اليد البيضاء النقية من غير برص: )واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22)( (طه)، )اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين (32)( (القصص: ٣٢)، )وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء( (النمل:١٢).

وهاتان الآيتان من المعجزات الخارقة للعادة التي أيد الله بها موسى – عليه السلام – إذا ما كذبه فرعون وقومه.

وكان موسى – عليه السلام – قد دعا ربه لتذليل العقبة الثانية: )قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (31) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35)( (طه) وقد طلب موسى من الله أن يحل عقدة لسانه، وأن يرسل أخاه هارون معه نبيا؛ لما يتمتع به من فصاحة في اللسان: )وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34)( (القصص) [10].

وأما العقبة الثالثة فقد ذللها رب العالمين إذ أنزل السكينة على قلب موسى، ووعده بأن قوم فرعون لن يصلوا إليه، ولن يتمكنوا من قتله وأن الله سينصره عليهم: )قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون (35)( (القصص).

ومضى موسى إلى هارون – عليهما السلام – ليبلغه أمر الله، ويبشره بإرساله وزيرا مصدقا فصيح اللسان، يحمل معه الكتاب المستبين وفيه قول الله: )اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)( (طه)[11].

وقد كان التكليف شاقا، إذ طغى فرعون وبغى، وتجبر وعلا، ونسي الجبار الأعلى. ولا بد للطاغية من رسول يبلغه كلمات الله، ليهز طغيانه بالكلمة المؤثرة الهادئة، ويواجه جبروته بالحق واللين، وقد علم الله موسى وهارون – عليهما السلام – أسلوب الدعوة والتبليغ، المتمثل في القول اللين، وبين لهما أن مهمتهما التذكير بنعم الله وزرع الخشية من الله في قلب الطاغية وأعوانه[12].

الخلاصة:

موسى – عليه السلام – لم يطلب إعفاءه من الرسالة، وتوجيهها إلى هارون – عليه السلام – وإنما طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون ليكون معه رسولا. وكان طلبه هذا لأمرين:

الأول: لأن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة. وكان هارون – عليه السلام – أفصح من موسى – عليه السلام – والأفصح يكون أكثر إبلاغا وإفهاما.

الثاني: لأن القوم لهم عند موسى – عليه السلام – ذنب، وهو قتل نفس، فخشي أن يقتلوه به، فلا يتحقق المقصود من بعثته، أما هارون – عليه السلام – فليس كذلك؛ فيتحقق المقصود من البعثة.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. الحبسة: ثقل في اللسان يمنع من الإبانة.

[2]. اللثغة: تحول اللسان من النطق بحرف إلى النطق بحرف آخر؛ كنطق السين ثاءا.

[3]. يفقه قوله: يفهم.

[4]. عى: العجز عن التعبير اللفظي بما يفيد المعنى المقصود.

[5]. سنشد عضدك: سنقويك ونعينك.

[6]. أشدد به أزري: قو به ظهري.

[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص345، 346.

[8]. ذلل: أخضع وسهل.

[9]. أتوكأ: اعتمد عليها في المشي وحين التعب.

[10]. ردءا: عونا لي.

[11]. لا تنيا: لا تقصرا.

[12]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص196، 197.

المصدر

ادعاء أن يوسف – عليه السلام – خان إخوته وأساء إلى أبيه بحبسه أخاه بنيامين

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن يوسف – عليه السلام – خان إخوته، وأساء إلى أبيه. ويستدلون على ذلك بما فعله من جعل السقاية[1] في رحل[2] أخيه، ومن ثم اتهامه بالسرقة، ثم حبسه بهذه التهمة رغم علمه بتعلق أبيه به قال تعالى: )فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70)( (يوسف) [3]، ويتساءلون: كيف لنبي أن يفعل ما فعل يوسف عليه السلام؟!‍

وجها إبطال الشبهة:

1) طلب يوسف – عليه السلام – أخاه من إخوته، ثم حبسه عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن إنما هو وحي من الله تعالى، والدليل على ذلك قوله تعالى: )كذلك كدنا ليوسف( (يوسف: 76) [4] فالأمر أمر الله والصنع صنع يوسف – عليه السلام -.

2) أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول، وقد بان هذا في فعل يوسف – عليه السلام – ورد أبيه، إذ كان رده – على بنيه – رد المؤمن الواثق بالله: )عسى الله أن يأتيني بهم جميعا (83)( (يوسف).

التفصيل:

أولا. يوسف – عليه السلام – نبي من أنبياء الله – عز وجل – وتصرف الأنبياء لا يكون إلا بوحي، أو لحكمة قدرها الله:

يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل، من طلب أخيه من إخوته وحبسه عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن، كان بوحي من الله – عز وجل – إليه زيادة في امتحان أبيه، ولم يعلم أباه خبره – لتسكن نفسه ويزول حزنه – بأمر من الله إمعانا في الابتلاء لسيدنا يعقوب عليه السلام.

وأما جعل السقاية في رحل أخيه، فالغرض منه التسبب في احتباس أخيه عنده، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى.

ويذهب ابن حزم الظاهري إلى أن يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل ليعود إليه إخوته، ويكون ذلك سببا لاجتماعه بهم وجمع شملهم جميعا، وما قصد أن يحزن بهذا أباه عليهما الصلاة والسلام.

ولا يستبعد أن يكون يوسف – عليه السلام – قصد بهذا أمرين:

الأول: الرفق بأخيه الشقيق والحفاظ عليه، فهو يعلم أنه أثير[5] عند والده قريب إلى قلبه، وربما حمل هذا بقية الإخوة على الكيد له كما كادوا ليوسف، فأراد – عليه السلام – أن يضم إليه أخاه رفقا به، وحفاظا عليه.

الثاني: أن يجمع شمل الأسرة عنده باحتجاز أخيه الشقيق عنده، ثم مجيء الإخوة الباقين إليه راجين إطلاقه معهم فيعلمهم بنفسه، ويطلب إليهم إحضار أهلهم أجمعين، فتجتمع الأسرة بعد الفرقة.

وأما نداء المنادي بأنهم سارقون، فإما أن يكون من قبل المؤذن بناء على ظنه عندما فقد الصواع؛ وعليه فلا إشكال.

وإما أن يكون بأمر يوسف – عليه السلام – وهو الأرجح، ويراد بالسرقة أخذهم يوسف – عليه السلام – من أبيه على وجه الخيانة كالسرقة[6]، قال الزمخشري: “وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى المصالح، ومنافع دينية كقوله لأيوب عليه السلام: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث( (ص)؛ ليتخلص من جلدها ولا يحنث[7]، وكقول إبراهيم – عليه السلام – عن زوجته: هي أختي لتسلم من يد الكافر، وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد أعلم الله – عز وجل – في هذه الحيلة التي لقنها يوسف – عليه السلام – مصالح عظيمة فجعلها سلما وذريعة إليها فكانت حسنة جميلة، وانزاحت عنها وجوه القبح”[8].

ثانيا. أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول:

لما دخل إخوة يوسف – عليه السلام – عليه بعد أن أحضروا أخا لهم من أبيهم كما طلب منهم، رأى يوسف – عليه السلام – أمارات الحزن والأسى بادية على شقيقه، فشاركه بنفسه طعامه وشرابه، وأجلسه معه على فراشه، وجاذبه أطراف الحديث، فلما رأى أنه لا زال يعاني من الكرب والغربة، ولا يزال يأسف على فراق شقيقه يوسف – عليه السلام – أفصح له عن نفسه وأخبره بحقيقة أمره، وحدثه عما وقع منذ خروجه من بيت أبيه مع إخوته، حتى الساعة التي هو فيها الآن، ففرح بنيامين فرحا لم يفرح مثله قط، وتبدد حزنه وزال همه وأحس بالأمان. وفي ذلك يقول الله عز وجل: )ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69)( (يوسف).

احتياله في ضم أخيه إليه:

وقد طمع بنيامين في البقاء مع أخيه، وطمع يوسف – عليه السلام – فيما طمع فيه أخوه، فعلمه الله حيلة يحتال بها على تحقيق هذه الرغبة، تتمثل في وضع السقاية في رحل أخيه قبل انصراف إخوته من مصر، ثم يبعث مؤذنا ينادي في العير: )إنكم لسارقون (70)( (يوسف)، فإذا ما سمعوا هذه المقولة فسيعودون حتما إلى ساحة يوسف – عليه السلام – لإثبات براءتهم، فيبدأ يوسف في التفتيش عن السقاية – كما يسميها الخاصة – أو الصواع – كما يسميها العامة – بأوعيتهم، ثم يفتش وعاء أخيه بنيامين فيستخرج منه السقاية، فيكون بذلك قد جاز له أن يبقيه عنده على حسب ما تقضي به شريعة يعقوب – عليه السلام – فإن السارق يسترق[9]، فيكون جزاؤه عند المسروق منه عبدا رقيقا يتصرف فيه كيف شاء.

يقول الله عز وجل: )فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)( (يوسف) [10].

والجواب قد سجله الله في قوله: )كذلك كدنا ليوسف(، فالأمر أمر الله والصنع صنعه، فهو الذي دبر هذا الكيد، وقام يوسف – عليه السلام – بتنفيذه لحكمة يعلمها الله – عز وجل – ولعل الله أراد ذلك ليشفي صدر يوسف – عليه السلام – من هؤلاء الذين كادوا له كيدا تأباه الفطر السليمة، وتنفر منه الطباع المستقيمة.

وليعلم يعقوب – عليه السلام – ببصيرته وثاقب فكره[11]وحسن تقديره للأمور وجودة فهمه لقرائن الأحوال أن يوسف – عليه السلام – حي، ويتوقع أنه هو الذي يحكم مصر، ولو على سبيل الظن والتخمين، كما يدل عليه قوله عز وجل: )يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف).

ولا يقال: إن يوسف – عليه السلام – قد اتهم أخاه بالسرقة، وإنما جرت هذه التهمة على لسان المنادي، ولذلك أقبلوا عليه وعلى من معه فقالوا: ماذا تفقدون؟ ولم يقولوا: ماذا سرق منكم، وكأنهم بالعدول عن لفظ السرقة يريدون أن يعلموا هذا المنادي ما ينبغي أن يقال، إذ كان ينبغي عليه أن يقول: فقدنا صواع الملك، ولعله دخل في رحل واحد منكم سهوا أو نسيانا، وما أشبه ذلك من الكلام المقبول، ولقد تعلموا فعلا منهم ما ينبغي أن يقال، فقالوا: نفقد صواع الملك، ووعدوا من جاء به أن يعطى حمل بعير من الحبوب، وقال المنادي: أنا بهذا الحمل كفيل.

وقد يقال: إن يوسف – عليه السلام – هو الذي أمر المنادي أن يقول: إنكم لسارقون على سبيل التعريض، فقد كانوا سارقين فعلا عندما أخذوه من أبيه وألقوه في الجب، والله أعلم بما كان.

وقد رفع الله مكانة يوسف – عليه السلام – في العالمين بالحلم والتعفف والعلم والحكمة والنبوة والملك، ورد إليه أخاه تمهيدا لجمعه بأبويه وسائر أهله وذويه.

موقفه وموقف إخوته بعد استخراج السقاية:

ولما رأى الإخوة السقاية قد استخرجت من رحل بنيامين سقط في أيديهم، وتحركت الأحقاد القديمة في قلوبهم؛ فتفوهوا [12] بمقالة سوء ينفون بها عن أنفسهم العار الذي ظنوا أنه لاحق بهم، فاحتملها يوسف – عليه السلام – منهم، وأخفى وقعها من نفسه عنهم، وأنبأهم بما هم عليه من مكان لا يحمدون فيه، ومن شر هم مواقعوه، قال عز وجل: )قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)( (يوسف).

قالوا ذلك سبة لأمهما “راحيل” إذ أنجبت ولدين كلاهما سارق، يريدون أن يتنصلوا[13] بذلك من هذا العار الذي ظنوا أنه لاحق بهم جميعا، وهم على قمة الشرف والطهر.

وقعت هذه المقالة من نفس يوسف – عليه السلام – موقعا آلمه وأحزنه، لكنه تحلم وصبر واحتسب، واحتفظ بالرد المناسب في الوقت المناسب، وقال في نفسه: أنتم شر مكانا حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، وفعلتم به ما فعلتم، ثم طفقتم [14] اليوم تفترون على البريء فتتهمونه بما كان بكم ألصق، والله وحده هو الذي يعلم بما تنسبونه إليه ظلما وزورا.

وهذا الموقف يظهر لنا ما تحلى به يوسف – عليه السلام – من حلم ورباطة جأش[15]، وقدرة فائقة على كظم الغيظ [16]، والعفو عن المسيء وهو قادر على الانتقام؛ إذ أبت عليه نفسه الزكية أن يواجه إخوته بالحقيقة المرة في غير أوانها وهم في موقف كرب وبلاء ومعاناة نفسية بلغت بهم حدا لا يؤاخذون فيه على ما يصدر منهم.

وطمع الإخوة في إحسان يوسف – عليه السلام – فطلبوا منه أن يتجاوز إحسانه حد الوفاء في الكيل وإكرام النزلاء [17] إلى شيء أعظم عندهم من ذلك بكثير، وهو أن يرد إليهم أخاهم، ويأخذ منهم من يشاء عوضا عنه، رحمة بأبيهم الشيخ الكبير.

قال تعالى: )قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78)( (يوسف)، فهم لا يستشفعون لأخيهم في الحقيقة – كما يفهم من الآية – وإنما يستشفعون لأبيهم الذي بلغ من الكبر عتيا [18]، وهم من وراء ذلك أيضا يستشفعون لأنفسهم؛ ليكونوا أوفياء بالميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم.

وقد تلطفوا به فاسترحموه بقولهم: )إن له أبا شيخا كبيرا(، واستنزلوه عن حقه في استرقاق أخيه بقوله: )إنا نراك من المحسنين (78)(، لكن يوسف – عليه السلام – كان يريد أن يلقنهم درسا في الأخلاق الفاضلة، فقال كما حكى القرآن عنه: )قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)( (يوسف).

أي عياذا بالله أن نبرئ مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء، إن ذلك ظلم لا يلتقي أبدا مع الإحسان الذي تدعونني باسمه، فلما رأوا أن العزيز متمسك بمن وجد متاعه عنده كفوا عن التحدث معه في شأنه، وعكفوا على تدبير أمرهم، وتشاوروا فيما بينهم على كيفية مواجهة أبيهم بهذا الأمر الجلل الذي لم تكن لهم فيه إرادة ولا عزم.

قال تعالى: )فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82)( (يوسف).

وقوله عز وجل: )فلما استيأسوا( معناه: لما بلغ منهم اليأس مبلغا، بسبب استعاذته بالله مما طلبوه، وهذا التعوذ يدل على أنه أمر في غاية الكراهة عنده، وإنه ظلم ينبغي التعوذ منه، والاحتراز من فعله، فلما قطعوا الأمل من أخذ بنيامين، خلصوا نجيا [19]، أي خلص بعضهم إلى بعض، واجتمعوا بعيدا عن الناس يتناجون في أمرهم هذا.

فقد قال كبيرهم هذا: أنسيتم أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أن تأتوه بابنه سالما: )ومن قبل ما فرطتم في يوسف(؟ أي: هل نسيتم ما فعلتموه بيوسف من قبل؟ فكيف تواجهون أباكم، وبماذا تعتذرون إليه؟ وكيف يكون وقع الخبر عليه؟ إلى آخر ما وقع بينهم من همس ومشافهة، وأخذ ورد طواه القرآن لعدم جدواه.

وقول كبيرهم بعد هذا التذكير المفجع والكلام الموجع: )فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80)( (يوسف) [20]ـ يعد تنصلا من المسئولية، وخذلانا عن مواجهة الواقع، تخلصا من هذا الموقف العصيب، وإن بدا في كلامه حسن الاستسلام لأمر الله – عز وجل – وإظهار الرضا بقضائه وقدره.

إنه يريد أن يبقى مكانه فى أرض مصر بعيدا عن المواجهة القاسية التي سوف يلقاها إخوته، فقال لهم ما حكى القرآن عنه: )ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق( (يوسف: 81) إلى آخر هذه المقولة التي أوصاهم بها، وفيها خبر وشهادة، وإقرار واستيثاق.

فقولهم: )إن ابنك سرق( (يوسف: 81) إقرار بشيء لم يقع، وما كان ينبغي أن يقول لهم: قولوا ذلك؛ لما في هذا القول من جفاف وجفاء، وشدة وقع على نفس يعقوب – عليه السلام – إن قولهم: ابنك مات أو قتل أخف عليه من قولهم: إن ابنك سرق، لكنها الغلظة التي عرفت في طباعهم، لن يستطيعوا التخلي عنها أو التخلص منها.

وقال لهم كبيرهم: قولوا له معتذرين بعد أن تخبروه بهذا الخبر: )وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81)( (يوسف) أي فإن سألكم هل علمتم أنه سرق ببينة لا تقبل الجدل، أو كيف حكمتم بأنه سرق، وعلى أي شيء استندتم، فقولوا: ما أقررنا بذلك إلا حين رأينا العزيز، أو أحد فتيانه قد استخرج صواع الملك من رحله، وقد سئلنا قبل التفتيش عن الصواع عن حكم السرقة عندنا فأجبناهم بما علمنا من شريعتنا، فوقع لأخينا ما وقع بقضاء الله – عز وجل – و أمر مغيب عنا: )وما كنا للغيب حافظين (81)( (يوسف). أي ما كنا ندري عواقب الأمور، ولا بواطن الأحوال، فإن كنت في شك من أمرنا، فاسأل القرية التي كنا فيها، وهي عاصمة مصر، واسأل العير التي أقبلنا فيها لتعلم صدقنا وصحة قولنا.

وانظر إلى ما قالوه هنا، وما قالوه عند اعتذارهم عن فقد يوسف، لقد قالوا هنا: )وإنا لصادقون (82)( (يوسف)، فأكدوا قولهم بأن واللام والجملة الاسمية. وقالوا هناك بشيء من التمني والتحسر والشك والمدارة: )وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)( (يوسف)[21]. فانظر إلى موقفهم هنا وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله.

وكان من حقهم في هذه المرة أن يقولوا: )وإنا لصادقون (82)( (يوسف) بصيغة الجزم؛ لأنهم يعلمون أن أباهم لا يصدقهم لما عرف من كذبهم في المرة الأولى، ومن عرف بالكذب لم يصدقه أحد، وكان من حقهم أيضا أن يقيموا على صدقهم الشواهد والبينات، والحق أبلج [22] كما يقولون.

موقف أبيهم بعد سماع الخبر:

وما كاد يعقوب – عليه السلام – يسمع من أبنائه هذا الخبر المؤلم حتى واجههم بما واجههم به في المرة الأولى حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع في يوسف، إنهم متهمون عنده في الحالين؛ لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه [23] في يوسف – عليه السلام – وفي أخيه، ففي يوسف يقول لهم: )قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف).

وعن ابنه الآخر يقول لهم: )قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)( (يوسف). وهكذا يأخذهم بحدسه[24] فيهم وظنه بهم وقد صدقه حدسه في الأولى، وتحقق ظنه في الثانية، فوقع المكروه في الحالين: )قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)( (يوسف)[25]. هي كلمته ذاتها يوم فقد يوسف – عليه السلام – ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل.

ومن ثم تتضح لنا العظة والعبرة من هذه القصة، فسيدنا يوسف – عليه السلام – لما علم حال بنيامين وحال يعقوب عليهما السلام وما أصابهما من الحزن والقهر على غياب يوسف – عليه السلام – قرر أن يخفف عن أخيه الهم والكرب فكشف عن حاله، ثم إنه أراد أن يلقن إخوته درسا ويذكرهم بما فعلوه في يوسف – عليه السلام – وما كان من أمرهم، أضف إلى ذلك أن سيدنا يوسف فعل ذلك بوحي من الله – عز وجل – وحتى تكون هذه الأحداث سببا منطقيا في جمع شمل الأسرة مرة ثانية بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته من قبل.

الخلاصة:

يوسف – عليه السلام – نبي من أنبياء الله ولا يتصرف إلا بوحي أو حكمة يراها، والأنبياء بصيرتهم مشرقة، فهم يرون بنور الله، ومعلوم أن الطاعة سبب في ذلك حتى مع غير الأنبياء، فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول عن رب العزة عز وجل: «وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها»[26]، فالراجح أن يوسف – عليه السلام – فعل ما فعل بوحي من الله – عز وجل – والدليل قول الله عز وجل: )فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)( (يوسف) فتعبير: )كدنا ليوسف( يوحي بأن الأمر وحي من الله – عز وجل – له، والله أعلى وأعلم.

أحداث الموقف عظات وعبر لأصحاب العقول، لا تصيدا للأخطاء، وقد بان هذا في: فعل يوسف – عليه السلام – وفعل أبيه، ورده – رد المؤمن الواثق بالله – على بنيه: )عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)( (يوسف)، وموقف أخيهم الأكبر الذي تعلم الدرس وأبى الرجوع إلى أن يأذن له أبوه أو يحكم الله له، والموقف العصيب الذي وضع فيه إخوة يوسف – عليه السلام – وقد تعلموا منه الكثير.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. السقاية: وعاء من الذهب مرصع بالجواهر.

[2]. الرحل: المتاع.

[3]. العير: الدواب التي تحمل المتاع.

[4]. كدنا: دبرنا.

[5]. أثير: مفضل.

[6]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص327، 328.

[7]. حنث في يمينه: لم يوفها.

[8]. الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج2، ص383.

[9]. يسترق: يصير من العبيد.

[10]. دين الملك: سلطته.

[11]. ثاقب فكره: فكره البعيد الراشد الصائب.

[12]. تفوهوا: نطقوا.

[13]. يتنصلوا: يتبرأوا.

[14]. طفقتم: أخذتم.

[15]. رباطة الجأش: ثبات.

[16]. كظم الغيظ: عدم إظهار الغضب والتحكم فيه.

[17]. النزلاء: جمع نزيل، وهو الضيف.

[18]. عتى الرجل: كبر سنه.

[19]. خلصوا نجيا: انفردوا يتشاورون سرا ومناجاة.

[20]. أبرح: أذهب من هذه الأرض.

[21]. مؤمن: مصدق.

[22]. الأبلج: الواضح.

[23]. يسيء: يحزن.

[24]. الحدس: الفراسة.

[25]. سولت: حببت لكم, وأغرتكم, وهونت عليكم هذا الأمر.

[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع (6137).

المصدر

ادعاء خطأ يوسف – عليه السلام – بطلبه الإمارة(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن يوسف – عليه السلام – طلب الإمارة إذ قال: )قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف)، وطلب الإمارة مذموم ومنهي عنه، ولا سيما أنه طلبها من كافر، كما أنه زكى نفسه فقال: )إني حفيظ عليم (55)( (يوسف)، ولم يستأنس بالمشيئة ويتبع مقولته بالعبارة المأثورة: إن شاء الله. وذلك يعد خطأ يتنافى مع عصمته بزعمهم.

وجها إبطال الشبهة:

1) يجوز طلب الإمارة للمصلحة لمن كان أهلا لها، بل إن المصلحة إذا اقتضت ولاية إنسان بعينه صارت واجبة في حقه، كما أنه لا إثم في تولية العمل من يد كافر، ما لم يأت الإنسان المولى بمحذور شرعي.

2) إن مدح يوسف – عليه السلام – لنفسه ليس مذموما؛ لأنه لم يقصد منه التطاول والتفاخر، وإنما قصد إلى بيان اتصافه بالصفتين اللازمتين لمن ينوء بعبء الإمارة.

التفصيل:

أولا. يجوز طلب الإمارة للمصلحة لمن كان أهلا لها، بل تجب في حقه إذا لم يوجد غيره:

لقد ظهرت على يوسف – عليه السلام – الخصال التي تؤهله للقيام بهذه المهمة – القيام على خزائن الأرض – قبل أن يطلبها، وهذه الخصال رآها الملك عليه؛ ولذا وثق فيه فقال له: )إنك اليوم لدينا مكين أمين (54)( (يوسف) [1].

ومن هذه الصفات:

العلم: حيث فسر الرؤيا تفسيرا عجز عنه القوم ويشهد بصحته العقل.

الصبر والثبات: حيث كان في السجن، وطلب الملك خروجه منه، فلم يسرع إلى الخروج، وإنما توقف حتى تظهر براءته مما نسب إليه.

حسن الأدب: حيث ستر ذكر امرأة العزيز، وعرض أمر النسوة: )ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50)( (يوسف) مع أن البلاء وصل إليه من جهتها بالذات.

فلما ظهرت للملك هذه الفضائل من يوسف – عليه السلام – رغب في أن يجعله خالصا لنفسه، فطلب إحضاره إليه ليكون من خاصته، وأهل مشورته، كما هو واضح من قوله: )وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه (54)( (يوسف) أي: خاطبه، وتحقق من فضله وعلمه، وما هو عليه من كمال خلق قال له: )إنك اليوم لدينا مكين أمين (54)( (يوسف)، ذو مكانة ومنزلة، ومؤتمن على كل شيء، فعندئذ طلب يوسف – عليه السلام – من الملك أن يوليه خزائن مصر: )قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف)؛ لأن تولي الخزائن بالذات يمكن يوسف من أن يجتاز بالبلاد المحنة الخانقة، والمجاعة المهلكة.

فهو – عليه السلام – لم يرغب في الإمارة ويطلبها لذاتها، وإنما ليتوصل من خلالها إلى رعاية مصلحة الأمة، ودفع غائلة[2] القحط والجوع عنها، حتى يمكن القول إن هذا التصرف أصبح واجبا على يوسف؛ لأنه – وهو )حفيظ عليم (55)( (يوسف) – القادر على تجنيب البلاد خطر القحط، والضيق الشديد، وغيره ممن ليس على مثل صفاته هذه لا يستطيع ما يستطيعه يوسف، مما يجعل هذا التصرف واجبا عليه، ومن ثم يزول الاعتراض عليه في طلبه الإمارة[3].

قال الزمخشري: “إنما قال – يوسف – ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكين مما لأجله بعثت الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا”.

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: )قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف): والآية تدل على جواز أن يطلب الإنسان عملا يكون له أهلا، فإن قيل: قد جاء عن عبد الرحمن بن سمرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»[4]. وحديث أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لا نستعمل على عملنا من أراده”[5]. وذكر الحديث وغيره، فالجواب:

أن يوسف – عليه السلام – إنما طلب الإمارة؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك كما قال يوسف عليه السلام.

أما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلبها لقوله – صلى الله عليه وسلم – لعبد الرحمن: “لا تسأل الأمارة”، وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “وكل إليها” ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “أعينت عليها”.

أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم»[6]. ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: )إني حفيظ عليم (55)( فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال.

إنما قال ذلك عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله عز وجل: )فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (32)( (النجم).

أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره[7].

إن الظروف قد تأتي بما لا يحتمل التجربة مع الناس “فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه، ولنفترض أن قوما ركبوا سفينة، ثم هاجت الرياح وهبت العاصفة، وتعقدت الأمور، وارتبك القبطان وجاءه من يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويحسن إدارة قيادة المركب، وسبق القبطان أن علم منه ذلك، هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة “[8].

“وأما تولية العمل من يد كافر ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته، فإنه يجوز أن يتولى الإنسان المصلح عملا من قبل سلطان كافر أو جائر، إذا تعين ذلك سبيلا إلى الحكم بأمر الله، ودفع الظلم، وإذا لم يتم ذلك إلا بتمكين الملك الكافر، وأما الفاسق فلا مانع شرعا أن يستظهر النبي أو العالم به، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة والظلمة لهذا “[9].

وقد قيل: “كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض فيما يراه فكان الملك في حكم التابع ليوسف – عليه السلام – والمطيع له”[10].

ثانيا. لقد مدح يوسف – عليه السلام – نفسه ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر:

إن قول يوسف – عليه السلام – عن نفسه )إني حفيظ عليم (55)( ليس مدحا لنفسه بمقدار ما هو بيان لاتصافه بالصفتين اللازمتين لمن يقوم بهذا الأمر، إذ إن معنى “حفيظ”: أمين أحفظ ما تستحفظنيه، ومعنى “عليم”: عالم بوجود التصرف، وكأنه غلب على ظنه ضرورة ذكر اتصافه بهاتين الصفتين؛ ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر، وأهليته له.

على أن مدح الإنسان نفسه ليس مذموما إلا إذا قصد منه التطاول والتفاخر والتوصل إلى ما لا يستحق، ويوسف – عليه السلام – نبي الله لا يقصد هذا قطعا، فمدحه نفسه إذن ليس محرما، وإنما المحرم والمنهي عنه هو مدح النفس وتزكيتها وهي لا تستحق ذلك، أو ما كان على سبيل التطاول والتفاخر.

قال النسفي في معنى قوله: )فلا تزكوا أنفسكم(، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. وقال ابن كثير في تفسير قوله: )إني حفيظ عليم (55)( مدح نفسه، ويجوز للإنسان ذلك إذا جهل أمره للحاجة[11].

وأما ترك الاستثناء – أي عدم إتباع مقولته بقول: إن شاء الله – فقد علله الفخر الرازي بأنه لو ذكره لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي. ويصح أن السبب في ترك الاستثناء هو: علمه بأن الملك لكفره لا يستسيغ التعليق على مشيئة الله الواحد الأحد، ويوسف – عليه السلام – يحاول استمالة الملك بكل رفق ولين ليسند إليه هذا الأمر الذي في قيام يوسف به مصلحة الخلق[12].

الخلاصة:

إن للإمارة شروطا، وضوابط إن توافرت في شخص ما وجب إعطاؤها إياه، وجاز له أن يطلبها إن وجد في نفسه قدرة عليها ومصلحة للناس، وتلك الشروط والضوابط والخصال، قد توافرت في يوسف – عليه السلام – قبل أن يطلبها، ولا بأس في ذلك.

لا حرج في تولية الإمارة أو العمل من يد كافر مادام ذلك لا يؤدي إلى محذور شرعي، وثقة العزيز بيوسف – عليه السلام – جعلته يكله إلى تصرفه الشخصي؛ فامتنع إتيان المحذور من يوسف.

يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم ومن فضل، ويوسف – عليه السلام – إنما أراد أن يعرف نفسه للملك؛ ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. مكين: ذو مكانة عند الناس ومعظم لديهم.

[2]. الغائلة: الداهية.

[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص324 بتصرف.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده (6343)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (4370).

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، باب حكم المرتد والمرتدة (6525)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (4822).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله سبحانه وتعالى: ) لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) ( (يوسف) (3210)، وفي مواضع أخرى.

[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص215: 217.

[8]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج11، ص6998.

[9]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص325.

[10]. الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج2، ص329.

[11]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص326.

[12]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، 327 بتصرف يسير.

المصدر

ادعاء خطأ داود في حكمه في قضية الحرث والغنم(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن داود – عليه السلام – أخطأ في حكمه في قضية الحرث والغنم، وأن ابنه سليمان – عليه السلام – قضى بعده فأصاب القضاء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء). ويتساءلون: كيف يتناسب الاجتهاد الخاطئ في الحكم مع ما يتصف به الأنبياء من العصمة؟!

وجوه إبطال الشبهة:               

1)  قضاء داود – عليه السلام – بإعطاء الغنم لصاحب الحرث قضاء صائب؛ لأن الغنم أفسدت الحرث، ولا يعد حكمه خطأ ألبتة.

2)  قضاء سليمان – عليه السلام – بانتفاع صاحب الحرث بمنافع الغنم حتى تبلغ قيمة ما أفسدته، ثم ترد الغنم إلى صاحبها، غير متعارض مع حكم داود – عليه السلام – ولكل سنده من فقه الواقع.

3)  داود وسليمان – عليهما السلام – اجتهدا في الحكم، واجتهادهما مزكى بتوفيق الله، وكلاهما أصاب، ولكل أجره، لا سيما أنهما نبيان.

التفصيل:

 أولا. قضاء داود – عليه السلام – بإعطاء الغنم لصاحب الحرث قضاء صائب:

أخرج ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78)( (الأنبياء): أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا أرسل غنمه في حرثي، فلم تبق من حرثي شيئا. فقال له داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم كلها لك، فقضى بذلك داود، ومر صاحب الغنم بسليمان – عليه السلام – فأخبره بالذي قضى به داود، فدخل سليمان على داود فقال: يا نبي الله، إن القضاء سوى الذي قضيت. فقال: كيف؟ قال سليمان: إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام، فله من صاحب الغنم أن ينتفع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث، فإن الغنم لها نسل في كل عام. فقال داود: قد أصبت، القضاء كما قضيت، ففهمها الله سليمان[1].

وروي أن سليمان – عليه السلام – لما سمع حكم داود – عليه السلام – قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه، فقال: كيف تقضي؟ ويروى أنه قال: بحق النبوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين. قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فينتفع بدرها، ونسلها، وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت[2]، كما قال سبحانه وتعالى: )وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78)( (الأنبياء). أي: انتشرت الغنم في الزرع ليلا بغير راع، فأفسدته على صاحبه، وأكلته “وكنا لحكمهم شاهدين” أي: وكنا لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما حاضرين بعلمنا؛ فلم يخف علينا الحكم، بل علمناه.

وهذه الحادثة، وإن كان حكم سليمان – عليه السلام – أرجح من حكم أبيه داود – عليه السلام – فإن هذا لا يعني خطأ داود في الحكم، ومما يؤيد صحة حكم داود – عليه السلام – قوله تعالى في ختام الآيات التي حكت تلك القصة: )وكلا آتينا حكما وعلما( (الأنبياء: ٧٩)، وهذا يفيد أن قضاء داود – عليه السلام – كان عن حكمة وعلم.

ذكر الله بعد ذلك أنه سخر لداود – عليه السلام – كثيرا من المخلوقات، قال سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء). ولا يكون تسخير هذه المخلوقات لداود – عليه السلام – إلا لاستحقاقه وجدارته بمثل هذا، فلو كان داود – عليه السلام – أخطأ في حكمه، ما استحق ثناء الله عليه، وإنعامه عليه بما عدده من نعم بعد ذلك. وقد أخرج ابن جرير عن الحسن – رضي الله عنه – قال: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعب داود في حكمه[3].

يتساءل بعض المشككين: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا خص الله تعالى سليمان – عليه السلام – في قوله: )ففهمناها سليمان(.

وجواب ذلك: أن تخصيص سليمان – عليه السلام – بالذكر في الآية لا يدل على أن داود بخلافه، فإن دليل الخطاب في اللقب لا يقيد بإجماع المحققين؛ أي أن تخصيص سليمان – عليه السلام – بالذكر لا يعني اختصاصه بالفهم والحكمة دون غيره.

كما أن في هذا التخصيص فائدتين هما:

أن داود – عليه السلام – كان متوقفا؛ لتعارض الأمارات، وسليمان – عليه السلام – لم يكن كذلك، بل كانت الأمارات واضحة جلية أمامه، فأصدر حكمه بناء على هذه الأمارات.

أن داود – عليه السلام – كان عالـما بالحكم، لكنه أفتى امتحانا لابنه سليمان رجاء أن يفتي به ويستخرج حكمه.

وبالنظر إلى هذا التخصيص – ذكر سليمان – نلحظ أنه كان إقرارا لعين والده داود، وخاصة أن سليمان أفتى بحكم كان أرفق بالخصمين مما رفع قدره بين الناس، وإنما أعرض القرآن عن ذكر داود – عليه السلام – للعلم باشتهاره فيما بين الخلق بمعرفة الأحكام، ثم إن الله عقب على تخصيص سيدنا سليمان بقوله: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79)( (الأنبياء)؛ لئلا يتوهم أنه كان جاهلا به، وحاكما فيه بغير الصواب[4].

ثانيا. قضاء سليمان – عليه السلام – لا يتعارض مع قضاء داود:

على الرغم من اختلاف حكم داود – عليه السلام – عن حكم سليمان عليه السلام، إلا أن حكم كل واحد منهما لم يكن متعارضا مع الآخر، فكل منهما قد أصاب القضاء، ولكن حكم سليمان – عليه السلام – كان أكثر صوابا من حكم أبيه، ومما يدل على عدم تعارض الحكمين ما يأتي:

أن كل حكم من الحكمين قد وافقه مذهب فقهي من المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة؛ فوجه قضاء داود – عليه السلام – بأن الضرر لما وقع بالغنم سلمت بجنايتها إلى المجني عليه، كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي: يبيعه في ذلك أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الزرع.

ووجه قضاء سليمان – عليه السلام – بأنه جعل الانتفاع بالغنم مقابل ما فات من الانتفاع بالحرث، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان الذي أصابه.

ومن هذا القبيل ما قاله أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا، فأبق من يده، فله أن يضمن القيمة، فينتفع بها المغصوب منه مقابل ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد تراضيا.

وحكم هذه المسألة في شريعتنا أن يضمن أصحاب الماشية قيمة ما أتلفته مواشيهم ليلا؛ إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، كما قضى النبي – صلى الله عليه وسلم – لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته، فقال: “على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل”. وعلى هذا، فإن كلا من الحكمين له أصل شرعي يستند إليه، ومن ثم فلا تعارض بينهما، وإنما هو اختلاف وارد، لا يمنع صحة الحكمين.

قضاء سليمان – عليه السلام – كان أرفق بالفريقين من قضاء أبيه داود، وأحسن ما قيل في تفسير حكم داود وحكم سليمان أنهما ليسا حكمين متعارضين، فقضاء داود بإعطاء الغنم لصاحب الحرث؛ لأنه قوم الغنم والكرم – أي الحرث – الذي أفسدته الغنم، فكانت القيمتان سواء، فدفع الغنم إلى صاحب الكرم[5].

أما حكم سليمان باستفادة أصحاب الحرث بألبان الغنم وأصوافها ودفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الحرث إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه، فكان حكم سليمان هذا بالنظر إلى تساوي قيمة ما أفسدته الغنم بقيمة ما سيستفيده المتضرر من الغنم.

وهكذا قال النحاس: إنما قضى بالغنم لصاحب الحرث؛ لأن ثمنها كان قريبا منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل: كانت قيمة ما نال من الغنم، وقيمة ما أفسدت الغنم سواء أيضا.

وكان حكم سليمان أنفع للطرفين، فلو نفذ حكم داود – مع أنه حكم عادل – فسيحرم صاحب الغنم من ثروته التي ربما ليس له غيرها، ويوغر صدره على صاحب الحرث وهو يرى غنمه قد آلت إليه، ففائدة صاحب الحرث المتضرر من منتجات الغنم تعويض له، وإعادة زراعة ما تلف من قبل صاحب الغنم المعتدية تأديب له، ورد كل مال لصاحبه إبقاء لهما معا، وعودة للوضع إلى ما كان عليه.

وعلى هذا فإنه لا تعارض بين الحكمين، وإنما كان حكم سليمان – عليه السلام – أرفق بالفريقين من حكم داود عليه السلام، وقد دلل على هذا سليمان – عليه السلام – لما سمع حكم داود – بقوله: “غير هذا أرفق بالفريقين”، ثم صدقه داود – عليه السلام – بقوله: “القضاء ما قضيت”.

ثالثا. قضاء داود وسليمان – عليهما السلام – كان عن اجتهاد:

والسؤال المطروح الآن هو: هل كان قضاء داود وسليمان – عليهما السلام – عن اجتهاد منهما، أو عن وحي إلهي؟

ذهب بعض العلماء إلى أن القضاء كان بوحي من الله عز وجل، فقال قوم: كان داود وسليمان – عليهما السلام – نبيين يقضيان بما يوحى إليهما، فحكم داود بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، وعلى هذا “ففهمناها سليمان” أي: بطريق الوحي الناسخ لما أوحي إلى داود، وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود؛ ولهذا قال: )وكلا آتينا حكما وعلما( [6].

وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد، إلا أن اجتهاد سليمان أوفق وأرفق، وهذا هو الأرجح.

وهناك عدة أدلة ترجح أن هذا القضاء كان عن اجتهاد؛ وهي:

لو كان القضاء بنص عند داود – عليه السلام – لوجب أن يكون النص الناسخ له نازلا أيضا على داود، لا على سليمان عليه السلام.

أن الله – عز وجل – مدح كلا منهما عقب ذلك بقوله: )وكلا آتينا حكما وعلما(، ولو كان قضاؤهما عن طريق النص، ما استحقا هذا المدح؛ لأن استحقاق المدح إنما يكون على البراعة في الاستنباط، واستخلاص الحكم الذي ليس فيه نص.

قول سليمان – عليه السلام – عن حكم أبيه: “غير هذا أرفق”، وقوله في بعض الروايات: “أرى أن تدفع”، ومناشدة داود لسليمان – عليهما السلام – إظهار ما عنده، ولو كان عند سليمان نص فيها لأظهره من بادئ الأمر، ولما انتظر مناشدة والده له؛ إذ يحرم كتمان النص، وخاصة عند الحاجة إليه.

أن الظاهر أن سليمان – عليه السلام – لم يكن نبيا وقت هذه الحادثة، وإنما نبئ بعد ذلك، فقضاؤه كان باجتهاد، وقضاء داود – عليه السلام – باجتهاد أيضا؛ لأنه لايجوز نقض حكم النص بالاجتهاد[7].

وعلى هذا، يرجح أن قضاء داود وسليمان – عليهما السلام – كان عن اجتهاد منهما، أما القول بأنه عن وحي فهو مستبعد.

الخلاصة:

إن داود – عليه السلام – قضى في حادثة الغنم التي نفشت في الحرث فأصاب في حكمه، ثم قضى ابنه سليمان – عليه السلام – فخالفه في الحكم، لكنه كان أكثر صوابا منه.

يدل على صحة حكم داود – عليه السلام – قوله سبحانه وتعالى: )وكلا آتينا حكما وعلما(، فهو حكم قد بني على الحكمة والعلم الذي منحه الله له.

ويدل عليه أيضا إخبار الله – سبحانه وتعالى – أنه سخر لداود ما شاء من المخلوقات؛ كالجبال والطير وغير ذلك، قال سبحانه وتعالى: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80)( (الأنبياء)، وهذه النعم لا يهبها الله لأحد من عباده إلا لمن اصطفاهم، وارتضاهم قدوة لعباده.

إن تخصيص الله لسليمان – عليه السلام – بالذكر في قوله عز وجل: )ففهمناها سليمان( لا يدل على عدم فهم داود عليه السلام؛ وذلك لاختلاف موقف كل منهما، فداود – عليه السلام – كان متوقفا لتعارض الأمارات، وسليمان حكم لوضوح الأمارات.

لم يذكر القرآن الكريم أن داود – عليه السلام – أخطأ في حكمه، ولم ينتقص من قدره، بل قال: )ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما(، وفي الآية إبراز لبراعة سليمان – عليه السلام – وتوفيقه في الحكم الذي يسعد والده، ودأب الوالد أنه يحب أن يكون ولده أفضل منه، خاصة أنه سيرثه في الحكم: )وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)( (النمل).

حكم سليمان – عليه السلام – كان أرفق بالفريقين من حكم داود عليه السلام؛ لأنه أبقى على ملكية صاحب الغنم لغنمه، كما عوض صاحب الحرث عما أفسدته الغنم.

كان قضاء كل من داود وسليمان – عليهما السلام – عن اجتهاد، وليس عن وحي من الله عز وجل.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج18، ص475، 476.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م ، ص371.

[3]. جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص18، ص479.

[4]. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص119.

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص273.

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405 هـ/ 1985م، ج11، ص307 وما بعدها.

[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص374.

المصدر

ادعاء طرد آدم – عليه السلام – من الجنة لوقوعه في الخطيئة بأكله من الشجرة

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن آدم – عليه السلام – وقع في الخطيئة بأكله من الشجرة، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )وعصى آدم ربه فغوى (121)( (طه)([1])، ويتساءلون: كيف يتوافق هذا مع عصمة الأنبياء؟

وجها إبطال الشبهة:

1) استخلاف الله لآدم ونزوله إلى الأرض ظاهره العصيان، بيد أن حقيقته وقوع مراد الله – عز وجل – بخلق الحياة على ظهر الأرض، وهذا لا يتنافى مع العصمة.

2) ما فعله آدم بأكله من الشجرة، يعد خطأ وليس خطيئة وهو نسيان وغفلة أو فهم النهي على سبيل الإرشاد لا التحريم، وهذا لا يتنافى مع العصمة.

التفصيل:

أولا. الاستخلاف وانتقال آدم إلى الأرض حقيقته أن يقع مراد الله وليس بسبب عصيان آدم:

الأنبياء – عليهم السلام – هم أشرف الخلق وأزكاهم، وأتقاهم لله وأخشاهم له، ومقامهم مقام الاصطفاء والاجتباء، وواجب الخلق نحوهم التأسي والاقتداء بهم، فالواجب أن يحفظ لهم هذا المقام، وأن ينزهوا عن([2]) مد الألسن إليهم بالنقد والاتهام. غير أن نفوسا قد غلبها الفسق، مدت ألسنتها إلى الأنبياء بالعيب والتهم، فلم تدع نبيا دون أن ترميه بدعوى العيب والإثم تريد بذلك انتقاصهم، والحط من أقدارهم، بل والطعن في القرآن الكريم الذي ذكر أحوالهم، فكان الذب عن أنبياء الله – عز وجل – متعينا؛ صونا لدين الله، وحفظا لحق أنبيائه، عليهم السلام.

والعصيان هو مخالفة الأوامر سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، والاستشهاد بقوله عز وجل: )ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا (23)( (الجن) استشهاد فاسد؛ لأن إطلاق اللفظ على كبائر الذنوب لا ينفي إطلاقه على صغارها، ومثال ذلك: قوله عز وجل: )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)( (الأنعام)([3])، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «لما نزلت )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم( (الأنعام: ٨٢) شق([4]) ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه. قال: ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه)لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم( (لقمان:١٣)»([5]). وعلى هذا لا يكون آدم قد ارتكب كبيرة من الكبائر.

وهنا يثار سؤال مفاده: كيف يكون آدم نبيا معصوما وقد خالف أمر ربه؟ وقال الله فيه: )فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121)( (طه) ([6]). وليس هناك جواب أحسن من جواب الله سبحانه؛ إذ يقول: )ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115)( (طه) ([7]).

  ولعل آدم – عليه السلام – ظن صدق إبليس في قسمه فما جرب من قبل كذبا ولا خداعا، أو ظن أن النهي هو عن خصوص هذه الشجرة، لا عن جنسها ونوعها، ومع ذلك فإن هذا الامتحان كان قبل أن يهبط إلى الأرض، وقبل أن يصير رسولا مسئولا عن رسالته، ولله في هذه التجربة حكمة يجب أن نمسك ألسنتنا عن الخوض فيها كما جاء في الحديث المتفق عليه عن محاجة موسى لآدم – عليهما السلام – بقوله: «أنت أخرجتنا من الجنة، فكانت لآدم – عليه السلام – الحجة والغلبة عليه»([8])، فذلك قضاء الله وترتيبه، ولولاه ما كانت هذه الحياة([9]).

الهدف من خلق آدم – عليه السلام – الاستخلاف في الأرض:

من توهم أن آدم – عليه السلام – نزل إلى الأرض بسبب وقوعه في المعصية فقد أبطل مرادات الله من خلق آدم، فلم يقل الله إنه خلق آدم ليعيش في الجنة، بل خلقه ليعيش في الأرض وذلك مصداقا لقوله تعالى: )إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة: 30)، ولكن أدخله الجنة أولا وأمره بأوامر وحذره من الشيطان لتكون فترة تدريب عملي عما سيحدث في الأرض إذا أطاع أتبع هذا المنهج، وما سيحدث له إذا عصاه… هذه هي الحكمة من دخوله الجنة أولا.

ويوضح د. أبو النور الحديدي ذلك الأمر قائلا: “أمر الله – عز وجل – ملائكته أن يسجدوا لآدم عليه السلام، وذكر سبحانه أنه اختص آدم – عليه السلام – بعلم الأسماء دون الملائكة يقول تعالى: )وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)( (البقرة)، وعلم آدم بالأسماء مبرر لتفضيله، وإسجاد الملائكة له.

  فلا بد أن آدمـ عليه السلام ـقد شابه الملائكة في التخلق بخلقهم من فعل المأمورات، وترك المحظورات، ثم امتاز عليهم بعلم الأسماء دونهم؛ فلهذا كله استحق شرف إسجادهم له. وأما مخالفته – عليه السلام – النهي الموجه إليه من ربه بألا يأكل من الشجرة التي عينها له، فهي مخالفة من آدم تحقيقا لقضاء الله الكوني؛ لأن الحق – عز وجل – أخبر ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة – آدم وذريته – يخلف بعضهم بعضا، جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، ويكون منهم من يفصل فيما بين بعضهم من المظالم، ويردعهم([10]) عن المحارم، وعرفت الملائكة أن من هذا الجنس من سيفسد في الأرض، ويسفك الدماء.

  ولهذا سألت الملائكة ربهم سؤال استعلام فهم يعبدون الله ويسبحون بحمده، فأجابهم الحكيم الخبير بأنه يعلم من المصلحة في استخلاف البشر ما لا يعلم الملائكة وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) (البقرة) ([11]).

ومن ذلك: أن الإفساد في الأرض، وسفك الدماء لن يقع من جميع ذرية آدمعليه السلام، وإنما من بعضهم، وسيكون من ذرية آدم أنبياء ورسل يهدون الناس إلى التي هي أقوم، كما سيكون منهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعلماء العاملون كما أن بعضا ممن يخطئ ويفسد لا يلبث أن يعود إلى رشده فيتوب ويصلح أمره، فإذا كان من ذرية آدم العصاة، والطائعون، والخطاءون والتوابون، فهم ليسوا شرا محضا، ولا فسادا خالصا وإنما فيهم خير وشر، واستقامة واعوجاج، يقول البيضاوي في تفسيره: إن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره، فإن تركك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

كذلك من الحكمة في استخلاف آدم وذريته في الأرض كشف دفائنها([12])، وإخراج ما اختزن بين طبقاتها، واحتوته بطون جبالها، وضمته أعماق بحارها من خيرات لا تحصى، ونعم لا يبلغ العد منتهاها، وكنوز لا يأتيها الحصر، وثروات تفي بحاجات البشرية من مبدئها إلى منتهاها.

والبشر هم الذين تدفعهم الحاجة إلى الطعام والشراب، وتسوقهم الضرورة إلى اتخاذ المسكن والكساء، ويحثهم حب الراحة وكراهية الألم إلى السعي الدائب([13]) في ربوع الأرض، وبهذا تعمر الأرض، وتزدهر فوقها الحياة، أما الملائكة فهم مستغنون عن كل ذلك، غير محتاجين إلى طعام أو مسكن أو كساء، ولذا فلن يجهدوا في الأرض طلبا لخيراتها، وانتفاعا بثرواتها فلو استخلفوا فيها لبقيت كما هي يوم خلقها الله، لا يستعمر فيها قفر، ولا يكشف لها سر، ولا يستزرع فيها زرع.

وحكمة الحكيم الخبير تقتضي أن تظهر آلاؤه، وتكشف نعمه، وترى آثار قدرته وعظمته، وإنما يكون ذلك بعمارة الأرض وازدهارها على أيدي المحتاجين إلى هذا وهم آدم وذريته، فإذا أسكن آدم وزوجه الجنة فإنما هي سكن ظاعن ([14])، وإقامة راحل، حددت له غاية لا بد أن يبلغها، ومهمة لا مفر من القيام بها، وهي عمارة الأرض، وبعث الحياة في ربوعها ([15])؛ بعد ابتلاء محتوم ([16])، وامتحان مقدور، فإن سنة الله في خلقه أن ترتبط المسببات بأسبابها، وأن تؤدي إلى الغايات وسائلها؛ فليكن لانتقال آدم إلى الأرض – وهو لا بد منتقل إليها – بسبب يستدعيه، وداع يقتضيه، ظاهره المخالفة لله، والعصيان لأمره، وحقيقته أن يقع مراد الله، ويتم مقدوره.

ولله في خلقه أسرار، فالقرآن كون مسطور ينبئ عن الكون المستور، ولكن بالقدر الذي نحتاجه في شئون ديننا ودنيانا، أما الأسرار التي لا حاجة لنا بها فقد طواها ([17]) الله عنا فلا نكلف أنفسنا مؤنة ([18]) البحث عنها.

ولذلك يقول بعض الصالحين ممن ذاقوا حلاوة الإيمان: “رب معصية أورثت ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا “كأنهم عرفوا أن الخالق أوجد الذلة للنفس البشرية حتى يعتدل ميزانها، ولا تدخل في باب التيه بالعبادة.

ومن هنا كانت الحكمة من المعصية فهو أمر قدري أراده العلي القدير من خلق آدم عليه السلام. لذا لا يتوجه إلى آدم – عليه السلام – اللوم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى مرتين»([19]) ([20]).

ثانيا. ما فعله آدم يعد خطأ وليس خطيئة، وللعلماء في تأويل هذا الخطأ وجوه:

لم يكن الذي صدر عن آدم – عليه السلام – وهو الأكل من الشجرة خطيئة كما يصور النصارى؛ فإن الخطيئة ارتكاب محظور عن إصرار وعلم بأنه محظور. وبالتالي يستلزم التكرار والفساد في الأرض مثل: القتل وسفك الدماء…. إلخ. وهذا ما لم يحدث من آدم عليه السلام، أما ما وقع منه فهو عن غير تعمد وإصرار وللعلماء في ذلك تأويلات.

تأويلات العلماء لهذا الخطأ:

الأول: أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وإنما سمي ما أتاه ناسيا معصية وغواية؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس كأحد من الناس. فإذا نسي عد ذلك معصية في حقه، وإن كان – ما صدر منه – غير معصية إن صدر من غيره.

الثاني: أنه تأول فيما فعل؛ إذ فهم أن الأمر والنهي ليسا جازمين بحيث يترتب على المخالفة الغضب والمجازاة، بل فهمه على أنه إرشاد فقط، ونهي إرشاد، وما كان من هذا القبيل لم تحرم مخالفته، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد ولا إثم بتركه.

الثالث: أن ما حصل من الذنوب الصغيرة، وهذا لا يتأتى إلا على رأي من يقول: إن الأنبياء غير معصومين من الصغائر.

الرابع: أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية… ودليل ذلك قوله عز وجل: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) (طه)، والاجتباء: هو اصطفاء الله له بالرسالة، فتكون المعصية قد وقعت من آدم – عليه السلام – قبل النبوة([21]).

الخامس: أن آدم تأول في أكله من الشجرة؛ لأن الله أراه الشجرة التي نهاه عن الأكل منها، فتأول أنه نهاه عن عينها، ولم ينهه عن جنسها، فأكل من شجرة أخرى من جنسها([22]).

السادس: أن الذي حدث من آدم مرة واحدة؛ فلا يجوز نعته بأنه عاص أوغاو؛ فإنهما تطلقان على من تكررت منه المعصية والغواية.

  ولا يطلق عليه عاص أو غاو إذا كانت المعصية قبل النبوة؛ لتشريف الله له بالنبوة والرسالة، كما لا يطلق على من أسلم بعد كفره كافر، ولا يطلق عليه ذلك إن كانت بعد النبوة؛ لأن الله قبل توبته.

  إن كلمة عاص أوغاو تطلقان على من كثرت فيه المعصية، والغواية، وهما تطلقان بهذه الصيغة على آدم، وأطلقت عصى، وغوى، والمراد فيما حكاه القرآن عنه أي: في الواقعة المذكورة فقط([23]). ومما يؤكد ذلك قوله تعالى: )فلما ذاقا( (الأعراف: 22)، لم يقل: “فلما أكلا من الشجرة”؛ لأن الأكل يقتضي إعادة المعصية مرات ومرات، أما مجرد التذوق فيتبين منه أنها حدثت مرة واحدة فقط، أي أن المعصية لم تتكرر([24]).

الخلاصة:

الاستخلاف، وانتقال آدم إلى الأرض حقيقته أن يقع مراد الله، وتعمر الأرض التي من أجلها خلق الله الخلق فتلك إرادته سبحانه قبل بدء الخليقة.. ومعصية آدم لا تتنافى مع العصمة، فلا أكثر من تبرئة الله تعالى له؛ إذ قال جل شأنه فنسي ولم نجد له عزما (115) (طه)؛ فلا معصية ولا مؤاخذة مع النسيان، غير أن الله سمى ذلك معصية؛ لأنها على صورتها، وآخذه بها؛ لأن مقام النبوة غير مقام عامة الناس، وللحبيب مع حبيبه منزلة لا تكون لغيره. على أن آدم وقع في هذه المعصية قبل اختصاصه بالرسالة، وقد صدق إبليس حين أقسم له وظنه من الناصحين، فما جرب من قبل كذبا أو خداعا، ولله في ذلك حكمة يجب أن نمسك ألسنتنا عن الخوض فيها. فلله في خلقه شئون وعقولنا قاصرة عن إدراك مقتضى حكمته عز وجل.

كما أن الخطأ يختلف عن الخطيئة التي قال بها النصارى من ضمن عقائدهم الفاسدة؛ فالخطيئة: ارتكاب محظور عن إصرار، وعلم بأنه محظور وبالتالي يستلزم التكرار والفساد في الأرض مثل القتل، وسفك الدماء. أما الخطأ: فهو ناتج عن الغفلة والنسيان، وهو ما حدث مع سيدنا آدم عليه السلام.

للعلماء تأويلات في هذا الخطأ الذي وقع فيه آدم – عليه السلام – بأكله من الشجرة. فبعضهم قال: إن هذا الخطأ ناتج عن النسيان ونسيانه في حد ذاته معصية؛ لأن مقام الأنبياء يختلف عن غيرهم، وبعضهم قال: إن آدم ظن أن أمر الله ونهيه أمر إرشاد فقط، ونهي إرشاد فقط.. وهذا لا يحرم مخالفته.. وآخرون قالوا: إن ما حصل يعد من صغائر الذنوب، وأن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية.

 

(*) إظهار الحق، قساوسة وعلماء مستشرقون أشهروا إسلامهم، محمد عبد الحليم عبد الفتاح، القاهرة، 2005م.

[1]. غوى: ضل سبيل الرشاد.

[2]. ينزهوا عن: يبعدوا عن.

[3]. لم يلبسوا: لم يخلطوا.

[4]. شق: صعب.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله سبحانه وتعالى: ) ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ( (لقمان: ١٢) (3246)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب صدق الإيمان وإخلاصه (342).

[6]. طفقا يخصفان: جعلا يلصقان الورق على جسديهما ليسترا عوراتهما.

[7]. العزم: التصميم.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله (6240)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى ـ عليهما السلام ـ (6912).

[9]. المصطفون الأخيار، عطية صقر، دار مايو، القاهرة، 1997م، ص46، 47.

[10]. يردع: يزجر ويمنع.

[11]. يسفك الدماء: يقتل.

[12]. الدفائن: ما هو موجود في باطن الأرض.

[13]. الدائب: المستمر.

[14]. الظاعن: الراحل.

[15]. الربوع: الأنحاء، جمع ربع.

[16]. المحتوم: الواجب واللازم.

[17]. طوى: أخفى.

[18]. المؤنة: الجهد.

[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى عليه السلام، وذكره بعد (3228)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام (6915)، واللفظ للبخاري.

[20]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص143: 145.

[21]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص62.

[22]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص19، 20 بتصرف.

[23]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسير الآية 121 من سورة طه.

[24]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص20.

المصدر

ادعاء كفر سليمان – عليه السلام – وعبادته الأصنام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن سليمان – عليه السلام – كفر في أخريات حياته؛ إذ قادته زوجاته إلى عبادة الأصنام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) مصدر هذا الكلام هو الكتاب المقدس الذي أصابه التحريف والتغيير، فهو ليس ثقة، وفضلا عن هذا فمعلوم أن اليهود لا يتركون نقيصة صغيرة ولا كبيرة إلا ألصقوها بالأنبياء.

2) الثابت عند العلماء أن القرآن مصدر ثقة غير محرف، فما ورد به فهو الصحيح الذي تزكيه الأدلة التاريخية، والمنطق العقلي السليم.

3)  العقل يستنكر أن يفعل ذلك إنسان مؤمن، فما بالنا بالنبي سليمان عليه السلام.

التفصيل:

أولا. مصدر هذا الكلام هو الكتاب المقدس، وهو غير ثقة فقد أصابه التحريف والتغيير:

إن افتراءات اليهود على الأنبياء لم تتوقف عند سليمان – عليه السلام – فأنبياء التوراة كلهم لصوص ومجرمون وزناة ومفسدون في الأرض، فكيف يؤخذ من هذا الكتاب معلومة أو حكم؟ وكيف يكون مصدرا لسير الأنبياء؟ وياليت الأمر وقف عند الأنبياء، بل إن الأدهى من ذلك أن نصوص الكتاب المقدس تصف الله – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – بالجهل والعجز والغفلة والنسيان وتنعته بصفات النقص وأنه – عز وجل – يعتريه كل ما يعتري البشر من النقص، فهل هذا يصح أن يكون إلها؟!

ولقد شهد علماء الأديان والدراسات المقارنة ودائرة المعارف الأمريكية بأن نصوص الكتاب المقدس تم تحريفها، وأن معظمها من وضع البشر النساخ للكتاب المقدس، والنقلة له على مر التاريخ، وهي مليئة بالأخطاء والتناقضات والاضطرابات[1].

والقرآن لم يذكر قصة كفر سليمان – عليه السلام – التي قادته إليه إحدى نسائه المزعومة، بل نفى عنه الكفر والسحر؛ لأن بعض بني إسرائيل اتهم سليمان بأنه كفر، ويقرر الحق عدم كفره في قوله سبحانه وتعالى: )واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر( (البقرة: 102)، ويدلنا الحق أن الكفر كان من الشياطين الذين يعلمون الناس السحر ونكتشف من ذلك أن نبي الله سليمان – عليه السلام – لم يكن يعلم السحر، وأن ملكه واستتباب الأمر له لم تكن له علاقة بقضية سحر إنما هي مشيئة الحق سبحانه[2]، فإن نقل أحد من المفسرين مثل هذه الروايات الواهية المكذوبة على نبي الله سليمان – عليه السلام – فالقرآن منها براء ولا تنسب إلى القرآن ما دامت غير واردة به.

ثانيا. الثابت عند العلماء أن القرآن مصدر موثوق به؛ لأنه غير محرف، فكل ما ورد به الصحيح:

ما أشد الفارق وأبعده بين ما جاء في القرآن الكريم عن سليمان – عليه السلام – وما جاء في التوراة المحرفة!! فالقرآن ثبتت حجته تاريخيا، والتوراة والإنجيل لم تثبت حجتهما.

فهو – عليه السلام – في القرآن الكريم من رسل الله – عز وجل – أيده الله بالملك فآتاه الله ملكا لم يهبه لأحد من بعده: )قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35)( (ص)، وكان – عليه السلام – يقابل هذه النعم العظيمة بالمزيد من الشكر لله تعالى، فقال الله عنه في القرآن: )ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)( (النمل).

وفي القرآن الكريم نفي صريح لكفر سليمان – عليه السلام – وكأنه رد مباشر على من اتهمه بهذا الجرم الشنيع من أهل الكتاب؛ قال سبحانه وتعالى: )وما كفر سليمان( وكيف يتفق الكفر وعبادة الأوثان مع نبي ورسول كرس كل حياته للإسلام، ولدعوة التوحيد، ومقاومة الوثنيات؟! وقصته مع ملكة سبأ وقومها في دعوتهم إلى عبادة الله تعالى وعقيدة التوحيد مشهورة، حيث كانوا يعبدون الشمس من دون الله، فدعاهم إلى التوحيد، وأخرجهم من هذه العبادة الوثنية إلى عبادة الله وحده، والقصة واردة في سورة النمل: )وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21) فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين (22) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25)( (النمل).

ثالثا. العقل يستنكر أن يفعل ذلك إنسان مؤمن فما بالنا بالنبي سليمان عليه السلام:

كيف يليق بمن وصفتموه بالحكمة، والعلم، والفلسفة، والشعر عندكم في كتابكم، وهو عن سائر الأنبياء مفضل عندكم بكل صفات الكمال البشري، كيف بمن هذه صفته أن يسقط في عبادة الأصنام، ويترك التوحيد؛ استجابة لرغبة نسائه، وانسياقا وراء شهواته؟!

فهل بقيت بعد ذلك حكمة؟ ومن من العقلاء يصدق أن رجلا واحدا يتزوج في وقت واحد بمئات الزوجات بالإضافة إلى الجواري؟! ومتى يتفرغ من هذا شأنه – لو صدقنا جدلا – لشئون الحكم؟

وإذا كانت هذه تصرفات أحكم ملك في تاريخ بني إسرائيل، فكيف تكون تصرفات ملوكهم من دونه؟ وكيف تكون تصرفات عامتهم؟!

الخلاصة:

إن ما ورد في التوراة بشأن عبادة سليمان – عليه السلام – للأصنام وكفره بالله استجابة لرغبة نسائه – باطل ولا يوثق به؛ لأن مصدره محرف ومغير لعبت فيه أيدي العابثين والمفسدين من اليهود.

الصحيح ما ورد في القرآن الكريم؛ لأنه كتاب مجمع على أنه غير محرف، وثابت الحجة، وقد ذكر القرآن: )واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر( (البقرة: 102).

العقل الصحيح يستنكر أن يفعل ذلك إنسان مؤمن فكيف يقبل أن يصدر ذلك عن نبي الله ورسوله سليمان عليه السلام؟!

 

(*) بنو إسرائيل من التاريخ القديم وحتى الوقت الحاضر، د. محمد الحسيني إسماعيل، مكتبة وهبة، القاهرة، 1422هـ/ 2002م. الوحي القرآني من المنظور الاستشراقي، د. محمود ماضي، دار الدعوة، القاهرة، 1416 هـ/ 1996م.

[1]. رد القرآن والكتاب المقدس على أكاذيب القمص زكريا بطرس، إيهاب حسن عبده، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ج1، ص94.

[2]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص384.

المصدر

ادعاء وقوع إبراهيم – عليه السلام – في الشرك

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – عبد الكواكب والقمر والشمس، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام).[1]كما يستدلون على وقوعه في الشرك أيضا بأنه نظر في النجوم ليتعرف على حاله وما يحدث له، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: )فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إني سقيم (89)( (الصافات). ويتساءلون: كيف يغفر الله هذا الشرك، مع أنه سبحانه قال: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)( (النساء). ويرمون من وراء ذلك الادعاء إلى الطعن في عصمة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) قول إبراهيم عليه السلام: (هذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها. وقيل: إنه كان مناظر، ولم يكن ناظرا.

2) لم يقع شرك من إبراهيم عليه السلام، وإنما استخدم ما يسمى في الجدل بـ “مجاراة الخصم” للوصول إلى الإقناع بالصواب.

3) نظر إبراهيم – عليه السلام – في السماء كان للتفكر والتدبر وليس اعتقادا منه في تأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

التفصيل:

أولا. قول إبراهيم عليه السلام: (هـذا ربي) على كل من: الشمس، والقمر، والكواكب من باب النظر والاستدلال ومحاجة قومه، وليس من باب الإقرار بعبوديتها:

إن الله تعالى اصطفى سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وآتاه رشده[2] قبل أن يبعثه فكان حنيفا مسلما مخلصا لله رب العالمين، وبدأ دعوته مع قومه بالحكمة والموعظة الحسنة فبين لهم مدى الضلال والفساد العقلي، حين يعبد الإنسان أصناما لا تضر ولا تنفع وأن المستحق للعبادة وحده هو الله الخالق المتفضل عليهم بسائر النعم، واتخذ معهم طرقا كثيرة في سبيل إقناعهم بالعقل والحجة والمنطق والبرهان، وكان من بين هذه الطرق تلك المحاجة التي استخدم فيها أسلوبا من أساليب المناظرة في الاستدلال على قوله وإلزامهم الحجة.

ويبدو أن إبراهيم – عليه السلام – كان سائرا مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب، وكان قوم إبراهيم – عليه السلام – من الصابئة الذين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناما وكانت تلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم عليه السلام، فرأى كوكبا ظاهرا بإشراقه عن سائر الكواكب فأراد أن ينتهز تلك الفرصة السانحة في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام أمام قومه بالدليل العلمي المنطقي من الواقع فقال على سبيل الفرض جريا على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم: )هذا ربي(، فأظهر أنه موافق لهم ليهشوا[3] إلى ذلك ثم يكر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلب الحق، ولا يريبك في هذا صدور ما ظاهره كفر على لسانه عليه السلام؛ لأنه لما رأى أن ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم، ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحق وهو لا يعتقده، ولا يزيد قوله هذا قومه كفرا، كالذي يكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من الناس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى، وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي[4].

والدليل على ذلك أن الله تعالى وصفه قبل هذه الآية مباشرة بقوله: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام) والموقن هو العالم علما لا يقبل الشك، والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته، وقوله: )نري إبراهيم( فهذه الرؤية الخاصة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب في إبكاته [5] لقومه ملجئ إياهم للاعتراف بفساد معتقدهم هي فرع من تلك الإرادة التي عمت ملكوت السموات والأرض[6].

فإبراهيم لم يقل ذلك إخبارا، وإنما قاله فرضا واستدراجا لقومه ليظهر لهم الحقيقة، حتى أوصلهم لفساد هذا الفرض قال: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام)، ويفصل د. الحديدي القول في هذه القضية مختارا هذا الرأي من آراء العلماء لأدلة منها[7]:

الأول: أن القول بربويية الكواكب كفر، والكفر غير جائز على الأنبياء بالإجماع. قال الخطيب الشربيني: لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو له موحد، وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء.

الثاني: أن الله تعالى أخبر عنه قبل هذه الواقعة أنه قال لأبيه آزر: )أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74)( (الأنعام)؛ فهذا يدل على أن إبراهيم – عليه السلام – قد عرف ربه قبل هذه الواقعة.

الثالث: أنه دعا أباه إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام برفق، قال تعالى: )إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)( (مريم).

وفي هذه الواقعة دعاه إلى هذا بالكلام الحسن، والرفق يقدم عادة على العنف؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مرارا، وهو لا يدعو غيره إلى الله إلا إذا كان عارفا به، فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف ربه بمدة.

الرابع: أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض، وقد أكسبته تلك الرؤية يقينا؛ قال تعالى: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، أي: ليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين، ثم قال تعالى: )فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام)، والفاء تقتضي الترتيب؛ فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم – عليه السلام – من الموقنين العارفين بربهم.

الخامس: النص في أكثر من موضع في القرآن الكريم على أن هذه المحاجة كانت مع قومه، وذلك يتضح من قوله لهم: )يا قوم إني بريء مما تشركون (78)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80)( (الأنعام)، وفي قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام)، فهذا يدل على أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا عليه من الشرك، وليس متأملا أو متحيرا.

السادس: إخبار الله تعالى عنه بأنه آتاه رشده من قبل، وكان عالما باستحقاقه الرسالة لتجنبه الشرك وسوء الفعال([8])، وقبيح الصفات، قال تعالى: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)( (الأنبياء) [9]، وقال عنه أيضا:)إذ جاء ربه بقلب سليم (84)( (الصافات) [10]، أي: لم يشرك قط – كما قال القرطبي.

وقال تعالى عنه: )إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)( (النحل).

فهذه الأدلة على أن إبراهيم – عليه السلام – كان في هذا المقام مناظرا قومه، ومعنى هذا أن قول الخليل عن كل من الكواكب والقمر والشمس: “هذا ربي” ليس عن اعتقاد؛ لأنه من قبيل استدراج الخصم بإظهار موافقته؛ ليسمع الحجة، ويتم إلزامه؛ فإنك عندما ترى الخصم عنيدا لا يسمع لقولك ودليلك لو صرحت بمقصودك يكون من الأوفق – لتصل إلى هدفك – أن تتكلم بما يوهم في الظاهر أنك توافقه على مذهبه – وأنت تخالفه باطنا – لكنك فعلت هذا استدراجا له؛ حتى يأنس إليك، ويستمع لقولك، وحجتك التي تتمكن بها من إبطال مذهبه، وقول الخليل عليه السلام: “هذا ربي” من هذا القبيل، فإنه أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه كان قد عرف – من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الحق – أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا إلى ما يقول؛ فمال إلى طريقة تقبل بهم إليه، وعمد إلى أسلوب يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن يتكلم بما يوهم أنه موافق لهم وعلى منهجهم – مع أن قلبه مطمئن بالإيمان – ومقصوده من ذلك أن يتمكن من إقامة الدليل على إبطال معتقدهم.

ومعلوم أثر أسلوب الاستدراج في انقياد الخصم، وتعريفه خطأه، وقوم إبراهيم – عليه السلام – على خطأ فاحش، وضلال مبين، ولا يقبلون المصارحة بخطئهم وضلالهم؛ فلا مناص من اللجوء إلى أسلوب الاستدراج؛ فإنه الأسلوب الأمثل – حينئذ – في تسكين الخصم، وانتزاع عناده، حتى إذا سلس[11] قياده، وأنس إلى من يحاجه، واستمع إلى قوله أمكن إقامة الدليل على بطلان مذهبه ومعتقده؛ فيتم المراد من إبطال باطله، وإظهار الحق الذي يلزمه.

ومحاجة الخليل – عليه السلام – لقومه المعاندين لا تستغني عن هذا الأسلوب، ولا يجدي معهم غيره، وكما قال العلامة أبو السعود: لو صدع إبراهيم – عليه السلام – بالحق من أول الأمر لتمادوا في المكابرة، والعناد، ولـجوا في طغيانهم يعمهون[12] [13].

ثانيا. لم يقع من إبراهيم شرك، وإنما هو مجاراة للخصم [14] للاستدلال عليه:

فلو أن إبراهيم – عليه السلام – بادرهم بالنقد والتقريع والتأنيب لما اهتموا به ولا سمعوا له، بل أعرضوا عنه، لكن إبراهيم – عليه السلام – استخدم ما يسمى في الجدل بـ “مجاراة الخصم”؛ ليستميل[15] آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر فيأخذ بأيديهم معه، فكأنه قال: سلمنا – جدلا – أنه ربكم، ولكنه يأفل ويغيب عنكم فقوله: )لا أحب الآفلين (76)( (الأنعام) يعني أنه غير متعصب ضدهم، وهكذا يثبت لهم أن كل كوكب – حتى الشمس – مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق به نيته أن ينكر هذه الربوبية ويستأنس به آذان من يسمعه[16].

والقرآن يؤكد حنيفية إبراهيم – عليه السلام – وإسلامه، قال تعالى: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، والحنيف: هو المائل عن كل باطل إلى الحق. والله – عزوجل – يخبر عن نبيه إبراهيم – عليه السلام – أنه آتاه رشده من قبل أي: من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال عزوجل: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام). والمقصود هنا: أن الله – عزوجل – أخبر أنه آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك وقال عزوجل: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51)( (الأنبياء)؛ أي: أنه أهله لذلك.

فإذا كان الله – عزوجل – آتاه رشده منذ الصغر، وأهله من بواكير حياته لحمل الرسالة، وإقامة الحجة على بطلان الشرك بكل صوره، فهل يتفق مع ذلك وصفه بالشرك، وهو الذي أوتي الحجة والرشد على بطلان الشرك منذ الصغر؟!

والله – عزوجل – ذكر الآيات التي استدلوا بها على شرك إبراهيم – عليه السلام – خطأ، وذكر قبلها وبعدها ما يبرئ ساحة إبراهيم – عليه السلام – من الشرك، ويجعلنا نجزم أنه أراد بقول: “هذا ربي” الاستدراج للخصم لإبطال زعمه الفاسد.

فقبل هذه الآيات يقول الله: )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، وبعد هذه الآيات يقول تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام). فكيف ينكر إبراهيم على أبيه الشرك ويقع فيه[17]؟!

ثالثا. نظر إبراهيم – عليه السلام – في السماء للتفكر والتدبر ولم يكن اعتقادا منه بتأثير أوضاع النجوم في حاله وما يحدث له؛ إذ كيف ينهاهم عن الشرك ثم يقع فيه؟!

إن نظر إبراهيم – عليه السلام – في النجوم لم يكن ليتعرف حاله من تأثيرها وإنما للتفكر والتدبر فيها، وهذا طاعة لله تعالى، قال سبحانه وتعالى: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض( (يونس: 101). بالإضافة إلى أنه في هذا الوقت خاصة كان ينظر في النجوم تفكرا فيما يلهم به.

وفيما يعتذر به عن الخروج معهم، قال النسفي: نظر في النجوم راميا بصره إلى السماء متفكرا في نفسه كيف يحتال.

وقد ذكر بعضهم أن إبراهيم – عليه السلام – نظر في النجوم ليوهم قومه بهذا النظر – بطريق التعريض – أنه ينظر فيها ليتعرف حاله من تأثيرها على حسب زعمهم واعتقادهم بتأثير أوضاع النجوم في أحوالهم، وما يحدث لهم؛ لكي يتوصل بذلك إلى مقصده من الانفراد بالأصنام وتكسيرها، وهذا وإن كان يبدو مقبولا لتنزيه إبراهيم عن الشرك ولأن المعاريض[18] هنا جائزة وفيها مندوحة عن الكذب من أجل إحقاق الحق، فإن الحق الذي تؤيده أدلة القرآن من الأمر بالتفكر في السموات والأرض وجعله من سمات أولى الألباب النابهين، وكذلك ما هو معلوم من سيرة أبي الأنبياء – عليه السلام – في القرآن الكريم وتفكره في ملكوت السموات والأرض، كل ذلك يدل على أنه نظر في النجوم متفكرا كيف يحتال لا أن يقع فيها؟!

وهذا ما يرجحه محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره وينقل في تأييده كلام المفسرين والعلماء، فقد قال ابن كثير في تفسيره: قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا كيف يلهيهم بها. وفي تفسير القرطبي عن الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره؛ لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلا بل المراد أنه نظر في السماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم.

وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر، أي أنه نظر فيما نجم له من الرأي، يعني أن النجوم مصدر نجم بمعنى ظهر.

وعن ثعلب: نظر هنا، أي: تفكر في كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة. والمعنى: ففكر في حيلة يخلو بها بأصنامهم، فقال: )فقال إني سقيم (89)( (الصافات) ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريبهم[19] بقاؤه حول أصنامهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل[20]. فلم ينطق إبراهيم بأن النجوم دلته على أنه سقيم[21] ولكنه لما جعل قوله: “إني سقيم” مقارنا لنظره في النجوم ربما توهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.

ويقول الطاهر ابن عاشور أيضا: وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يستقيم لدى أصحاب العقول والأفهام، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضل دينا، واختل نظرا وتخمينا، وقد دونوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم[22].

وبهذا يتبين أن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – لم يقع في الشرك سواء عند محاجة قومه أو عندما نظر في النجوم وكيف يشرك بالله وهو ينهى أباه وقومه عن الشرك؟!

الخلاصة:

إبراهيم – عليه السلام – لم يقر عبادة الأصنام، وإلا فلماذا كان ينكر على أبيه وقومه عبادتها: )إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)( (الأنبياء)؟

استخدم إبراهيم أسلوب الاستدراج والاستدلال في محاجه قومه؛ ليظهر بطلان معتقداتهم وهو ما يسمى في علم الجدل بـ “مجاراة الخصم” فأظهر أنه يوافقهم لينصتوا ثم كر عليهم بالإبطال إظهارا للإنصاف وطلبا للحق: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)( (الأنعام).

إبراهيم – عليه السلام – حينما نظر في النجوم كان نظره للتفكر فيما يحتال به على قومه أو كيف يدبر لهم حجة يلهيهم بها عنه حتى يتولوا عنه ويخلو هو إلى معبوادتهم فيبطلها بالفعل تحطيما، ولم يكن نظره في النجوم اعتقادا منه بتأثيرها في حاله؛ إذ إن الاعتقاد بتأثير أوضاع النجوم أو أدلتها على حدوث شيء من حوادث الأمم والأشخاص كفر وشرك وهو معتقد قومه الذي يحاربه ويحاجهم من أجلهم؛ فكيف يقع فيه ولو على سبيل الخطأ وهو ينهاهم عنه؟!

 

(*) موقع المتنصرين. mutenusserin.net

[1]. جن: أظلم.

[2]. الرشد: تمام العقل.

[3]. يهش: ينشرح صدره.

[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص219، 220.

[5]. إبكاته: تقريعه وتوبيخه.

[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص317.

[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص270: 276.

[8]. سوء الفعال: الأفعال السيئة.

[9]. عاكفون: مقبلون على عبادتها.

[10]. قلب سليم: خال من العيوب, خالص من الذنوب.

[11]. سلس: لان وسهل وانقاد.

[12]. لجوا في طغيانهم يعمهون: تمادوا في ضلالهم يتحيرون.

[13]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص273: 276.

[14]. مجاراة الخصم: طريقة جدلية يستخدمها المناظر لإبطال حجة خصمه؛ وذلك بإظهار موافقته على قوله استدراجا له ليسلم بالحق بعد ذلك.

[15]. يستميل: يستعطف.

[16]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج6، ص3750.

[17]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص275، 276.

[18]. المعاريض: جمع معراض، وهو الستر والتورية، خلاف التصريح.

[19]. يريب: يشكك.

[20]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج23، ص142 بتصرف.

[21]. السقيم: المريض.

[22]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج23، ص143 بتصرف يسير.

المصدر

ادعاء كتمان يوسف – عليه السلام – للحق بعدم إظهار حريته عند بيعه

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن يوسف – عليه السلام – لم يظهر حريته عند بيعه، ويرون أن هذا كتمان للحق، وكتمان الحق معصية. ويتساءلون: كيف يصدر هذا من أحد الأنبياء مع ما قيل عن عصمتهم؟

وجه إبطال الشبهة:

يوسف – عليه السلام – لم يكن نبيا في ذلك الوقت، وسكوته عن إظهار حريته عندما بيع كان خوفا من أن يقتله إخوته، أو خوفا من أن يتركه الواردون فيهلك في الصحراء، وربما يكون قد أخبرهم بحريته، ولكنهم لم يعيروه اهتماما طمعا في ثمنه.

التفصيل:

لقد كان يوسف – عليه السلام – صبيا صغيرا عندما بيع، وهذا يعني أنه لم يكن نبيا في ذلك الوقت، وإنما نبئ بعد ذلك:

وعلى هذا يحمل قوله تعالى: )وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا( (يوسف: 15)، أي على وقت آخر، أو على احتمال عود ضمير “إليه” على يعقوب عليه السلام.

وأما سكوت يوسف – عليه السلام – عن إظهار حريته فلعله خاف أن يقتله إخوته، وهذا إذا اعتبرنا أن إخوته هم الذين قاموا ببيعه بعد أن ألقوه في الجب واستخرجته السيارة – أي القافلة – وعلى هذا يكون الضمير “الواو” في قوله تعالى: )وأسروه بضاعة( (يوسف: 19) عائدا على إخوته.

وقد نقل ابن كثير عن العوفي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله: )وأسروه بضاعة( يعني إخوة يوسف – عليه السلام – أسروا شأنه، وكتموا أن يكون أخاهم، وكتم يوسف – عليه السلام – شأنه مخافة أن يقتله إخوته، واختار البيع، فذكره إخوته لوارد القوم، فنادى أصحابه: )يا بشرى هذا غلام( أي يباع، فباعه إخوته.

وقال النسفي: إن إخوة يوسف – عليه السلام – قالوا للرفقة: هذا غلام لنا أبق فاشتروه منا وسكت يوسف – عليه السلام – مخافة أن يقتلوه1.

وإذا اعتبرنا أن الضمير للواردين يكون المعنى: وأسره الواردون من بقية السيارة، وقالوا: اشتريناه من أصحاب الماء حتى لا يشاركوهم فيه إذا علموا شأنه، أو لعلهم أسروا أمره – أي خبر التقاطه – خشية أن يكون من أولاد بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم؛ لأنهم توسموا[1] فيه مخائل[2] أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرفوا من كان قريبا من ذلك الجب، ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللقطة[3]. وعلى هذا لا يخلو أمر يوسف – عليه السلام – من إحدى اثنتين:

الأولى: أنه سكت عن إظهار حريته طمعا في النجاة:

إذ كان يوسف – عليه السلام – في صحراء مقفرة، فلو أخبرهم بحريته لتركوه في الصحراء، حيث لا يكون لأخذه فائدة، وربما عرضه ذلك للهلاك، أما الذهاب معهم ولو عبدا يباع ويشتري ففيه نجاة له من أخطار الصحراء، ولذا آثر يوسف – عليه السلام – ألا يخبرهم بحريته.

الثانية: أنه ربما يكون قد أخبرهم بحريته، ولكنهم لم يعيروه اهتماما طمعا في ثمنه، وهذا هو الذي حملهم على أن يبيعوه بثمن قليل، وأن يرغبوا عنه: )وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20)( (يوسف) [4] ويؤكد هذا قوله )وأسروه( إذ يشعر أن يوسف – عليه السلام – أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعا في أن يبيعوه، وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين[5].

وربما يكون إظهار الحرية أمرا مختلفا باختلاف الشرائع، فلعله أمر بالسكوت عنه، وعدم إظهاره امتحانا له – عليه السلام – وتحقيقا لرؤياه التي بشرت بما سيكون له من شأن عظيم، وسيادة على قومه بما فيهم أهله. وعليه فلا ذنب ولا معصية على يوسف عليه السلام[6].

الخلاصة:

كان يوسف – عليه السلام – وقت أن بيع صبيا صغيرا، وعلى هذا فلا تكليف عليه، بالإضافة إلى أنه لم يكن قد نبئ بعد.

لم يظهر يوسف – عليه السلام – حريته عند بيعه؛ لخوفه من أن يقتله إخوته – إذا كانوا هم من باعه – كما أنه كان في صحراء مقفرة وربما لو اعترف بحريته لتركه الواردون فيها فيتعرض للهلاك.

من المحتمل أن يوسف – عليه السلام – قد أخبرهم بحريته، ولكنهم لم يأبهوا[7] لكلامه، ولم يعيروه اهتماما طمعا في ثمنه، ولهذا أسروا خبر التقاطه؛ ومن ثم فلا يعد يوسف – عليه السلام – كاتما للحق كما يدعي المتوهمون، لأنه إن كان قد سكت فلعلة، وإن كان قد تحدت بحقيقة أمره فقد تجاهله القوم.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م

عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص304، 305 بتصرف يسير.

[1]. توسموا: ظنوا.

[2]. مخائل: جمع مخيلة، وهي مظهر النعمة.

[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 6، ج12، ص242، 243.

[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص74.

[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص243.

[6]. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص74.

[7]. يأبهوا: يهتموا.

المصدر

ادعاء طمع داود – عليه السلام – في زوجة قائد جيشه، والتآمر على قتله

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن داود – عليه السلام – أعجب بزوجة قائد جيشه، فزج به في مقدمة الجيش؛ حتى يقتل، فيظفر بزوجته، ويضمها إلى نسائه.

وجوه إبطال الشبهة:

1) ألصقت التوراة بداود – عليه السلام – نقائص يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يأتيها نبي اصطفاه ربه واختاره ليصلح به المفسد؟!

2) الآيات التي سبقت قصة الخصمين اللذين تسورا المحراب، والآيات اللاحقة لها، تقضي لداود – عليه السلام – بالبراءة مما نسب إليه مما لا يليق بنبي من أنبياء الله عز وجل.

3) لم يرد حديث صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجب اتباعه فيما نسب إلى داود – عليه السلام – من التآمر لقتل قائد جيشه والظفر بزوجته.

التفصيل:

أولا. ألصقت التوراة بداود – عليه السلام – نقائص يأبي كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يرتكبها نبي اصطفاه ربه واختاره؟!

من أجل الأعمال وأعظمها مثوبة عند الله الجهاد في سبيله والقتال لإعلاء كلمته، ولا أقل من أن يكافأ المجاهد – الذي باع نفسه لله – بتوفير الأمن لأهله، والحفاظ على عرضه. ولكن العهد القديم ينسب إلى داود – عليه السلام – أنه لم يراع أقل واجب نحو مجاهد مخلص لدينه وأمته، بل جازاه بالتي هي أسوأ، حيث خانه في عرضه، واعتدى على شرفه؛ ولم يكتف بذلك، بل كاد له ليقتل من أجل الظفر بامرأته، والاستيلاء على زوجته.

من يقرأ القصة التي أوردتها التوراة عن سيدنا داود وقائد جيشه نجد أنها تلصق بداود – عليه السلام – عدة نقائص:

النظر إلى امرأة غيره، فضلا عن كونه ينظر إليها وهي عارية.

حسد زوجها عليها.

الزنا بها.

سقي زوجها خمرا.

التسبب في قتله، وقتل بعض الجنود معه.

وهذه الذنوب يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فما بالك بها جميعا إذا صدرت من نبي اصطفاه ربه واختاره ليصلح به المفسد، ويقوم به المعوج، إن هذا غير معقول!! كما أنه ليس من المعقول كذلك أن يكون العقاب الذي عاقب به الرب داود – عليه السلام – كما أوردت التوراة – هو تسليط أبشالوم بن داود على نساء أبيه يزني بهن، ويهتك أعراضهن علانية أمام جميع بني إسرائيل كما زعم ذلك سفر صموئيل الثاني: “فقال ناثان لداود: «أنت هو الرجل! هكذا قال الرب إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكا على إسرائيل وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيدك ونساء سيدك في حضنك، وأعطيتك بيت إسرائيل ويهوذا. وإن كان ذلك قليلا، كنت أزيد لك كذا وكذا. لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأته لك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون. والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد، لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة. هكذا قال الرب: هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريبك، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس. لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس». فقال داود لناثان: «قد أخطأت إلى الرب». فقال ناثان لداود: «الرب أيضا قد نقل عنك خطيتك. لا تموت. غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون، فالابن المولود لك يموت»”. (صموئيل الثاني 12: 7 – 14).

بيد أن السؤال المطروح الآن على أولئك المؤمنين بهذا الكتاب المقدس هو: ما عقوبة الزاني عندكم؟ أليس هو الرجم؟ يقول الكتاب المقدس: “وإذا زنى رجل مع امرأة، فإذا زنى مع امرأة قريبه، فإنه يقتل الزاني والزانية. وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه، فقد كشف عورة أبيه. إنهما يقتلان كلاهما. دمهما عليهما”. (اللاويين 20: 10 – 12)، ولماذا لم ينفذ هذا الحد فيه لو صح وقوع هذه الجريمة منه؟ ومن ثم فعدم تطبيق حد الفحشاء على سيدنا داود – عليه السلام – وحاشاه ذلك – دليل على كذب دعواهم وبطلان افترائهم.

ولذا فإن ما ينسب إلى داود – عليه السلام – كذب وافتراء، إذ لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يطمع في امرأة متزوجة، ويتحايل في ضمها إلى ما عنده من نساء، لا شك أن داود – عليه السلام – يستحي من ربه أن يراه طامعا في امرأة متزوجة، ويستحي من الناس أيضا أن يجدوا نبيهم الذي يدعوهم إلى القناعة وملكهم الذي يزجرهم عن الاعتداء على حقوق الآخرين غير قنوع وغير مراع حقوق غيره. ومعلوم أن الله – عز وجل – ملأ قلوب الأنبياء – عليهم السلام – غنى وقناعة بما عندهم[1].

ثانيا. الآيات السابقة واللاحقة لقصة الخصمين تقضي لداود – عليه السلام – بالبراءة مما نسب إليه:

وذلك من عدة أوجه هي:

أنه قبل ذكر نبأ الخصم أمر الله – عز وجل – نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يصبر على ما يفتريه عليه كفار مكة، وأن يقتدي بداود وغيره من الرسل في الصبر على مشاق تبليغ الدعوة: )اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب (17)( (ص). ولو أن داود – عليه السلام – ارتكب الكبائر ما أمر نبينا بالاقتداء به في الصبر؛ إذ كيف يقتدي في الصبر بمن لم يصبر – صلى الله عليه وسلم – عن المعصية؟!

أنه لو صحت هذه الحادثة يكون داود – عليه السلام – باحتياله على قتل أوريا قاتلا له، ولو كان هذا لندم داود واستغفر منه، والقرآن لم يحك له استغفارا من قتل أوريا. وإنما استغفاره – على فرض صحة هذه الحادثة – من الاستيلاء على زوجته، فهل يترك الاستغفار من الذنب الأشد، ويستغفر مما هو أقل منه؟!

أن الله – عز وجل – مدح داود – عليه السلام – قبل ذكر الخصمين اللذين تسورا المحراب بأوصاف حميدة لا يتناسب معها صدور هذه المعصية منه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )اصبـر على مـا يقولـون واذكـر عبدنـا داوود ذا الأيـد إنـه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20)( (ص). ومن كان بهذه الصفات لا يجور على إنسان – مهما كان – ولا يهضم حقه.

ما ذكر بعد قصة نبأ الخصمين يدل على براءة ساحة داود – عليه السلام – مما نسب إليه؛ إذ إن داود قال: )وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا( (ص: ٢٤)، فاستثنى الذين آمنوا من البغي، ولو كان مرتكبا ما ذكرته القصة لكان باغيا، فيلزم الحكم على نفسه بعدم الإيمان – أو نقصه – ولا يجوز هذا على نبي. وقال الله – عز وجل – في حقه أيضا: )وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25)( (ص)، فهذا إنما يستقيم لمن يفعل المأمورات، ويجتنب المنهيات، أما من يسعى في قتل غيره والعدوان عليه في زوجته، فلا يستحق القربى وحسن المرجع في الجنة؛ إذ كيف يبتعد عن الله بمعصيته ويزيده الله رفعة ومثوبة؟!

قبل هذه القصة صفات مدح، وبعدها صفات مدح، فلو كانت تقتضي الذم؛ لاختلط المدح بالذم بطريقة لا تتفق وما عرف عن القرآن الكريم من حسن الترتيب، وروعة التنسيق.

ومن هذا يتضح بطلان القصة – على النحو السابق – ويتعين براءة داود – عليه السلام – مما نسب إليه فيها[2].

ثالثا. لم يثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما نسب إلى داود – عليه السلام – حديث يجب اتباعه وتصديقه؛ ولذا لم يذكر هذه القصة أحد من أصحاب الكتب الستة:

لم يثبت في أي من كتب السنة الصحيحة خبر يؤكد هذه القصة المفتراة، أما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم فغير صحيح السند؛ لأن في إسناده ابن لـهيعة، ويزيد الرقاشي وكل منهما ضعيف؛ قال السيوطي: “القصة التي يحكونها في شأن المرأة، وأنها أعجبته، وأنه أرسل زوجها مع البعث حتى قتل أخرجها ابن أبي حاتم من حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعا، وفي إسناده ابن لهيعة – وحاله معروف – عن ابن صخر عن يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، وأخرجها من حديث ابن عباس موقوفا”.

وعلى هذا يكون من ذكرها من المفسرين إنما أخذها عن الإسرائيليات. قال ابن كثير: “قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله عز وجل؛ فإن القرآن حق، وما تضمنه حق أيضا. وما ذكر موقوفا منها على بعض الصحابة – كابن عباس – فلا يستبعد – لو صح السند إليه – أنه أخذه عن التوراة، أو عمن حكى عنها”.

وجدير بالذكر أن اليهود يتعمدون هذا في حق داود رضي الله عنه؛ ليصلوا من ذلك إلى الطعن في عيسى عليه السلام؛ لأنه من ذريته. قال البقاعي في تفسيره: “وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام؛ لأن عيسى – عليه السلام – من ذريته؛ ليجدوا سبيلا إلى الطعن فيه”.

وعلى هذا فهذه القصة – على النحو السابق – لم ينص الله – عز وجل – في القرآن الكريم عليها، ولم ترد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حديث صحيح ولا حسن، فهي – إذن – مـختلقة مفتراة للنيل من نبي الله داود – عز وجل – فلا يصح أن ننخدع بها، وإنما نتشدد على من يروجها ويشيعها كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال أبو السعود: “وأما ما يذكر من أن داود – عليه السلام – دخل ذات يوم محرابه… إلى آخر القصة – فإفك مبتدع مكروه، ومكر مـخترع مكروه، تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويل لمن ابتدعه وأشاعه، وتبا لمن اخترعه وأذاعه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: من حدث بحديث داود – عليه السلام – على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين، وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم [3].

وأما من ناحية المضمون: فهذه القصة تضمنت نسبة هذه المعاصي الكبيرة إلى داود عليه السلام:

نظره إلى زوجة رجل آخر بقصد سيئ.

حسده الرجل على زوجته، والرغبة فيها لنفسه.

الاحتيال لقتل زوجها حتى قتل بغير حق.

وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من الكبائر، مما يحكم بالبطلان على أي قصة تتضمن وقوع كبيرة من أحدهم.

وتأسيسا على ما سبق نخلص إلى نتيجة مفادها أن داود – عليه السلام – بريء مما نسبه إليه اليهود من المعاصي والأفعال السيئة، والشواهد التي سبقت والأدلة العقلية كذلك خير من يبرئ ساحة هذا النبي النقي الأواب.

الخلاصة:

ألصقت التوراة بداود عدة نقائص هي: النظر إلى امرأة غيره وهي عارية، وحسد زوجها عليها، والزنا بها، وسقاية زوجها خمرا، والتسبب في قتله، وقتل بعض الجنود معه، وهذه الذنوب يأبى كثير من عامة الناس أن يرتكب بعضها، فكيف يأتيها نبي اصطفاه ربه واختاره؛ ليصلح به المفسد ويقوم به المعوج؟!

الآيات التي سبقت قصة الخصمين اللذين تسورا المحراب، من أمر النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يصبر على ما يفتريه عليه كفار مكة، وأن يقتدي بداود وغيره من الرسل في الصبر، تدل دلالة عقلية على كذب وافتراء القوم، وبطلان ادعائهم، وأن القرآن لم يحك له استغفارا من قتل أوريا، وأن الله – عز وجل – مدحه بصفات حميدة لا يتناسب معها صدور هذه المعاصي.

لم ينص الله – عز وجل – في القرآن الكريم، ولم ترد عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – في حديث صحيح ولا حسن، قصة داود وامرأة أوريا، فهي – إذن – مختلقة للنيل من نبي الله داود عليه السلام، وهذه القصة تضمنت نسبة هذه المعاصي الكبيرة إلى داود عليه السلام، وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من الكبائر.

 

(*) عصمة الأنبياء، الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1986م.

[1]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص214: 218 بتصرف.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص356، 357.

[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص353: 355.

المصدر

ادعاء وجود صراع بين إسماعيل وإسحاق عليهما السلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – كانا في صراع دائم، وكان يحسد كل منهما الآخر على ما آتاه الله – عز وجل – من فضله، ويتمنى أن يعلو المنازل[1]على حساب أخيه، وهذا حسبما ورد في الكتاب المقدس، هادفين من وراء ذلك إلى تكريس حالة الصراع بين العرب واليهود بتأصيلها تاريخيا.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  الكتاب المقدس – بعد ثبوت تحريفه – ليس مصدرا موثقا ولا يعتمد عليه في نقل الأخبار ولا تؤخذ منه الأحكام.

2) ليس غريبا على الكتاب المقدس أن يصف إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – على هذا النحو الشائن، فقد فعلوا أكثر من هذا في حق الله – عز وجل – وفي حق أنبيائه عليهم السلام.

3)  أخبار الأنبياء وأخلاقهم لا تؤخذ إلا من الكتاب المعصوم، وهو القرآن الكريم الذي يصفهم بما يليق بعصمتهم.

التفصيل:

أولا. الكتاب المقدس – بعد ثبوت تحريفه – ليس مصدر ثقة ولا يعتمد عليه في نقل الأخبار ولا تؤخذ منه الأحكام:

لقد أخبر الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العزيز عن تحريف أهل الكتاب لكتابهم فقال سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم عن مواضعه( (النساء: 46)، وقال أيضا: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله( (البقرة: 79). والآيات على ذلك كثيرة، هذا وقد أثبتت الدراسات العلمية المحايدة أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كتاب محرف، وليس هو المنزل من عند الله – عز وجل – بعدما لعبت به أيدي البشر وعبثت به أقلامهم؛ فانتقصوا منه وزادوا عليه ما ليس منه، وغيروا وبدلوا حسبما أملته عليهم أهواؤهم.

فلقد تعرضت التوراة إلى عمليات سطو[2] من قراصنة اليهود، وإلى عوامل بتر[3] بشرية وعوامل تغيير جسيمة[4] وخطيرة للغاية، كما تعرضت في إعادة التدوين إلى اللامبالاة وإضافات توحي بمذاهب وعقائد المحررين والنساخ…، وأخيرا شهدت المجامع المسكونية موجة رهيبة لتدوين المخطوطات المقدسة، والأدلة كثيرة على ما أصابها من تحوير وتنقيح وزيادة ونقص وحذف وإقحام، فكانت هذه البصمات البشرية في تدوين الكتاب المقدس غشاوة سميكة تخفي الحقيقة.

يقول cutkuhl في كتابه “The old testament: its original composition, London, 1061 pp 47, 51 52”: إن الكتاب المقدس المتداول حاليا لا يحتوي على التوراة والإنجيل المنزلين من الله، ولقد اعترف علماء وباحثون باللمسات البشرية في إعداد هذا الكتاب… [5]، ونشرت مجلة “لوك” مقالة بعنوان “الحقيقة عن الكتاب المقدس” وكتب على الغلاف “خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس”، وهذه المقالة بالنص عن مجلة Awake عدد 8 سبتمبر 1957م، وقد جاء فيها أنه في عام 1920م قامت هيئة من الخبراء الإنجليز بتقدير عدد الأخطاء في الكتاب المقدس، وأثبتت أنها تصل إلى خمسين ألف خطأ، وذلك بعد عكوف الدارسين على الدراسة الجادة للمخطوطات القديمة[6].

وبناء عليه فليس الكتاب المقدس مصدر ثقة، ولا يعتمد عليه في نقل أي أخبار، خاصة إذا تعارضت مع القرآن الكريم.

ثانيا. ليس غريبا على الكتاب المقدس أن يصف إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – على هذا النحو الشائن، فقد فعلوا مثل هذا في حق الله – عز وجل – وأنبيائه:

لقد حوى الكتاب المقدس بعض الصفات التي لا تليق بالله ولا برسله ولا بملائكته، فلقد وصفوا الرب بأنه يغفل وينام وينسى ويندم على خلق الإنسان، بل يصارعه يعقوب ويغلبه ولا يفكه إلا بعد أن يباركه…. وأوصاف عديدة لا تليق بالله تعالى يصفون بها إلههم – سبحانه وتعالى – عما يقولون علوا كبيرا – ولكن المجال لا يتسع لذكر ذلك، غير أننا نود الإشارة السريعة إلى أخلاق الأنبياء وصفاتهم – حسب زعمهم الباطل – في كتابهم المحرف، حيث نجد أنبياء الكتاب المقدس عبارة عن مجرمين وسفاحين وقتلة وزناة وخونة ولصوص!!

وإن تعجب من أمر، فما أعجب من قصص وقصاص التوراة، الذين أطلقوا العنان لخيالهم المريض، وأفكارهم الخبيثة، التي تبث[7] سمومها وأمراضها على صفحات كتاب يفترض أن يكون مقدسا، ولا ندري مصدر القداسة في هذه القصص القبيحة، أو الحكايات الأسطورية الفاضحة، أو الخيالات الماجنة [8] عن أشخاص أكمل الله لهم الخلق والخلق، وجعلهم للناس قادة وللبشر سادة، فما بال هؤلاء القوم يجعلون منهم أضحوكة الأجيال إلى الحد الذي دعا مؤلفو قاموس الكتاب المقدس إلى أن يقولوا: وقد ارتكب داود خطيئته الشنيعة ضد أوريا الحثي – حيث قتله غدرا لتحل له امرأته – أثناء حربه مع العمونيين، وقد وبخه النبي ناثان على هذه الخطيئة، بل أعلن لهم العقاب السماوي الذي يحل به، وحتى بعد أن أعلن داود توبته فلم تكن توبته كاملة، وإنما خفضت ذنبه إلى حد ما. يقول المؤرخ ليوتاكسل في كتابه “التوراة”: “وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: “أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟” فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: “إني حبلى”. فأرسل داود إلى يوآب يقول: “أرسل إلي أوريا الحثي”. فأرسل يوآب أوريا إلى داود”. (صموائيل 11: 2 – 6).

وتذكر التوراة كذلك أن لوطا زنا بابنتيه، فحملنا منه سفاحا، وذلك بعد أن لعب الخمر برأسه، وسلبه عقله ورشده.

ويكمل ليوتاكسل شرح النص فيقول: أما تقديم لوط ابنتيه البريئتين بدلا من الملاكين أو الإلهين، فهو أمر أكثر خسة[9] وإثارة للاشمئزاز[10]، فكل ما في هذه الرواية يدل على دناءة هذا القديس. فهل زنا داود بزوجة القائد أوريا، وجره عشقه لها وهيامه بها أن دفع زوجها إلى الجيش حتى قتل غدرا بوشية من داود إلى أحد قادته في جيش أوريا[11]؟! إلى غير هذا من الافتراءات التي افتراها هؤلاء على أنبياء الله تعالى. هل يقبل هذا عقل سليم؟ ألا ينكر هذا على غير الأنبياء؟ فما بالنا بصفوة الخلق؟!

أما وصف الكتاب المقدس لإسماعيل – عليه السلام – فيقول: “إنه يكون إنسانا وحشيا. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه”. (التكوين: 16: 12).

فهكذا تصف التوراة إسماعيل – عليه السلام – بالوحشية والغلظة التي لا تليق به كنبي كما أخبر القرآن الكريم عنه.

وبمثل ما وصف الكتاب المقدس إسماعيل فقد وصف إسحاق عليهما السلام يقول: “فقدم له فأكل. وأحضر له خمرا فشرب”. (التكوين 27: 25).

فهي تصف إسحاق – عليه السلام – بأنه بعدما قدم له ابنه الطعام شرب الخمر، وهذا يخالف – أيضا – ما جاء في القرآن من صفات إسحاق – عليه السلام – فما كان ليشرب شيئا حرمه الله عليه.

إن وصف الكتب المقدسة للأنبياء وصفا تنكره الفطرة السليمة، إذ راح هؤلاء الفاسقون يصفون الأنبياء بأوصاف قبيحة، ويتجرءون عليهم بما لا يليق بالبشر العاديين، فضلا عن الأنبياء، وما كان عليه إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – من الصدق، والإخلاص، والأمانة والصلاح، والتقى وحب الآخرين، وحسن الخلق، والعشرة، والحلم، والعلم، يتنافى مع كونهما يتصارعان غيرة من بعضهما البعض، فالمؤمنون – لا سيما الأنبياء منهم – يمتازون بصفاء القلب، وسلامة الضمير، ونقاء الفكر، ويتصفون بكل الصفات الحميدة التي تؤهلهم ليكونوا دعاة إلى الله يجمعون شمل الناس حولهم، ويوحدون صفهم؛ ليكونوا يدا واحدة. وصدق ربنا لما قال في صفات أحبائه: )إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4)( (الصف)، وقال – عز وجل – عن إسماعيل وإسحاق: )وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)( (الصافات).

وليس من العدل ولا من الإنصاف أن يأتي المدعون، وينسبون إلى هذين النبيين الكريمين التشاجر[12] والضغينة[13]؛ ليثبتوا أن العداوة بين العرب واليهود قديمة متأصلة. وإنما نبع هذا الاتهام من فهم المدعين للنبوة وبنظرتهم إلى الأنبياء فالنبوة في التوراة – وكذا في الإنجيل – نبوة كهانة، وعرافة، ورؤى، وأحلام، وتنجيم، ونبوة شعر، وخطابة، ونبوة تهويمات، وتـمويه[14]؛ بل نبوة شعوذة ودجل، وكذب، ونبوة افتراء، وتقول على الله[15].

فإن كان هذا تصورهم للنبوة والأنبياء، فلا غرابة أن يصفوا إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – بالصراع الدائم، وإن لم يفصحوا لنا عن أسباب هذا الصراع، وعلى أي شيء كان.

ولو أن هؤلاء الزاعمين احتكموا إلى تصور الإسلام للنبوة والأنبياء لما اجترءوا على هذين النبيين الكريمين بهذا الوصف.

فالأنبياء في الإسلام أصحاب رسالة واحدة، هي البلاغ لكل ما جاء من عند الله، والدعوة إلى الحق والخير، وأهل الحق لا يتصارعون، ولا يتنازعون، بل يتعاونون ويتكاملون، ويعضد بعضهم بعضا.

ولم يقدم لنا القرآن الكريم صورة واحدة لنبيين متعاصرين يتصارعان، بل قدم لنا صورا لأنبياء عاشوا في عصر واحد فتعاونوا على أداء رسالة الله، التي كلفوا ببلاغها والجهاد في سبيل إعلائها، مثل هارون وموسى، ولوط مع إبراهيم، ومثل ما جاء في السنة عن يحيى وعيسى – عليهم السلام جميعا -، ولم يكن للأنبياء طموحات دنيوية كما تصور التوراة الأنبياء، حتى ينشب بينهم صراع حولها، بل أخلصوا للحق دعوة واتباعا، فهم عباد الله المخلصون وقد وصف الله إسماعيل – عليه السلام – بالحلم: )فبشرناه بغلام حليم (101)( (الصافات)، ووصف إسحاق – عليه السلام – بالعلم: )فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28)( (الذاريات).

ثالثا. أخبار الأنبياء وأخلاقهم لا تؤخذ إلا من الكتاب المعصوم وهو القرآن الكريم الذي يصفهم بما يليق بعصمتهم:

لقد وصف القرآن الكريم الأنبياء الأبرار الأطهار بالصفات التي تليق بهم، وجعل الإيمان بهم وبرسالتهم من شعب الإيمان الأصيلة، فمن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، والتي يكفر منكرها، أن صفات جميع الأنبياء والرسل من: كمال الخلق، وحسن الخلق، وجمال الصورة، وشرف النسب، وقوة العقل، وصحة الفهم، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وعزة القوم، وكرم المنبت[16]… إلخ – من المعلوم أن مثل هذه الأوصاف مما أفاء الله – سبحانه وتعالى – عليهم به معونة لهم على مهمتهم وتعريفا بمكانتهم؛ إذ إن رتبتهم أشرف الرتب ودرجاتهم أرفع الدرجات، ويستحيل أن يتصفوا بضد هذه الصفات، أو ببعضها مما يتنافى مع الاصطفاء والاجتباء والاختيار.

يقول الله سبحانه وتعالى: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75)( (الحج) )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)( (آل عمران)، وعرفنا بمقامهم الكريم عنده فقال سبحانه وتعالى: )وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47)( (ص)، ويكفيهم شرفا ويزيدهم كرما قول الله سبحانه وتعالى عنهم: )ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)( (الدخان)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله تعالى من بعده – أي لوط – عليه السلام – ـ نبيا إلا في ذروة من قومه»[17] [18]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله تعالى نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم حسن الصوت وكان لا يرجع»[19] [20].

كل هذه الصفات وغيرها من صفات أنبياء الله تعالى، وردت في القرآن والسنة الصحيحة، وهي صفات إجلال وإكرام، وفيما يلي بعض صفات نبي الله إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام – التي جاءت في القرآن الكريم:

أخلاق إسماعيل – عليه السلام – تنفي ما يدعون:

دعا الله تعالى إسماعيل – عليه السلام – بعشرين صفة في القرآن الكريم فهو: الغلام، والعليم، والحليم، والمسلم، والمستسلم، والآمر، والصابر، والمرضى، وصادق الوعد، والرسول، والنبي، والمذكور، والذبيح، والمطهر، والرافع، والمفضل على العالمين، والموهوب، والبار، والمصطفى من ولد إبراهيم – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام)، وقد ذكر في القرآن في اثني عشر موضعا[21].

وكان إسماعيل – عليه السلام – مطيعا لأبيه، منفذا لوصاياه، صابرا محتسبا راضيا بقضاء الله مسلما بقدره، فعندما أخبره أبوه أنه رأى في المنام أنه يذبحه فأجابه: )قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102)( (الصافات)، وكان إسماعيل – عليه السلام – رجلا صالحا تقيا ورعا، يأمر أهله بعبادة الله من صلاة وزكاة وصوم وحج إلى شكر نعم الله، وإلى الصبر على الشدائد، وتحمل المكاره؛ فكان عند ربه مرضيا وعند الناس مطاعا[22]. وكان سيدنا إسماعيل – عليه السلام – فصيحا حتى في أسلوبه ولغته. فكانت اللغة العربية من قبله يتحدث بها كلغة تفاهم، فطوعها سيدنا إسماعيل – عليه السلام – للشاعرية والخيال، وللكناية والمجاز، ولذلك يقولون: إنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، ويقولون: إنه أول من تكلم العربية البينة.

ولعل مما يرجع إلى شهامته، ونبل أخلاقه، هذه الصفة الكريمة التي تحلى بها طيلة حياته، والتي هي من أخص خصائص الرجولة الحقة، ألا وهي صدق الوعد؛ يقول سبحانه وتعالى: )واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54)( (مريم)، ثم يذكر الله تعالى عملين لهما مغزاهما العميق، فيقول عز من قال: )وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55)( (مريم) لقد كان يتحلى بالصلاة ويأمر بها أهله، ويتحلى بالزكاة ويأمر بها أهله، أي أنه كان حريصا على حسن صلته بالمجتمع ومظهر ذلك الزكاة، والزكاة هنا معناها: البذل والتضحية في سبيل الله في أعم صورة وأوسع نطاق[23].

لقد كان حسن الصلة بالله، حسن الصلة بالمجتمع، ومن أجل ذلك عقب الله تعالى على صفاته وأعماله بقوله سبحانه وتعالى: )وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا (55)( (مريم).

إسحاق – عليه السلام – في القرآن الكريم:

من يقرأ الآيات التي تحدثت عن إسحاق – عليه السلام – يجد أن الله تعالى وصفه بالعديد من الصفات الحميدة، منها: الموهوب، والمبارك، والمبشر به، والنافلة، والمهدي، والموحى إليه، والبشرى، قال سبحانه وتعالى: )وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)( (الصافات) [24].

ويبين القرآن أخلاق سيدنا إسحاق – عليه السلام – من خلال قصته في القرآن الكريم:

فقد كان رجلا صالحا صادقا مباركا لقوله سبحانه وتعالى: )وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113)( (الصافات)، وقوله سبحانه وتعالى: )وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا (50)( (مريم).

وكان حليما عليما فقال لابنه العيص حينما غضب على أخيه يعقوب لفوزه بدعوة أبيه إسحاق وتهديده له بالقتل: “يا بني لا تغضب، فقد بقيت لك عندي دعوة فهلم[25] أدع لك بها فتقدم إليه ودعا له بها”[26].

هل بعد ذلك العرض لأخلاق وصفات هذين النبيين يأتي متوهم ويقول بأنهما كانا يتصارعان ويتناضلان.

وبناء عليه فإن أنبياء الله أبعد ما يكونون عن هذه الأخلاق الذميمة أو ذلك الصراع البغيض، فهم أناس أصحاب رسالة سامية راقية وقد عصمهم الله – سبحانه وتعالى – من كيد إبليس ووساوسه في قلوبهم وعقولهم، ولكن هذه الأفكار القبيحة من اختراع اليهود، يريدون من ورائها تأصيل العداوة بينهم وبين المسلمين؛ ليصلوا إلى أهدافهم الخبيثة ومراميهم البغيضة التي وجدوها في كتبهم المحرفة.

الخلاصة:

أخبرنا الله – سبحانه وتعالى – في القرآن الكريم عن تحريف أهل الكتاب لكتبهم في غير ما آية من كتاب الله – عز وجل – وقد أكد ذلك ما توصل إليه بعض علماء الغرب في العصر الحديث، حيث وجدوا أن الكتاب المقدس يحتوي على أكثر من خمسين ألف خطأ ومن ثم فلا يصح أن نثق في أخبار الكتاب المقدس ولا في أحكامه.

فإذا ثبت تحريف الكتاب المقدس باعتراف من يدينون به، فلا غرابة أن نجد مثل هذه الأوصاف التي لا تليق بهذين النبيين العظيمين، فقد تعدوا ذلك بمراحل فوصفوا الله – سبحانه وتعالى – بصفات لا تليق ببشر عادي، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ووصفوا أيضا ملائكته الأبرار الأطهار بصفات لا تليق بهم، وهاهم يصفون أنبياء الله ورسله بصفات قبيحة من غل وحقد وزنا وعشق وشدة ووحشية لا تليق بهم كأصحاب رسالات ودعوات.

ولذلك فإن أخلاق الأنبياء وصفاتهم ومكانتهم ومنزلتهم عند الله – سبحانه وتعالى – لا تؤخذ إلا من القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه، وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم وجدنا أنه يصف جميع الأنبياء بصفات الجلال والعظمة والتواضع، وحسن الخلق وكماله، ومن هؤلاء الأنبياء الذين وصفهم بهذه الصفات إسماعيل وإسحاق عليهما السلام. فإسماعيل – عليه السلام – وصفه الله بأنه كان صادق الوعد، وبأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند الله مرضيا, وإسحاق – عليه السلام – وصفه الله بأنه كان رجلا صالحا حليما عليما رحيما كما أخبر عنه القرآن.

إن فكرة الصراع التي اخترعها اليهود لتأصيل العداوة بينهم وبين المسلمين، والتي أخذوها من كتبهم المحرفة ليس لها وجود أصلا، ولا تليق أن تكون بين نبيين عظيمين من أمثال إسماعيل وإسحاق.

 

(*) موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق بحث من المستشرقين، ترجمة نخبة من الأساتذة، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، 1418هـ/ 1998م.

[1]. المنازل: المناصب.

[2]. السطو: الاستيلاء والسرقة.

[3]. البتر: النقص والتغيير.

[4]. الجسيمة: الكبيرة بشكل مهول.

[5]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص13، 14 بتصرف يسير.

[6]. مؤلفات أحمد ديدات: المجموعة الثالثة، الشيخ أحمد ديدات، ترجمة: محمد مختار، رمضان الصفناوي، علي عثمان، مطبعة كتاب المختار، القاهرة، د. ت، ص5 بتصرف.

[7]. تبث: تنشر.

[8]. الماجنة: المازحة التي تخلط الجد بالهزل.

[9]. الخسة: الحقارة والدناءة.

[10]. الاشمئزاز: الضيق بالأمر والنفور منه.

[11]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص30: 33 بتصرف.

[12]. التشاجر: التنازع والتخالف.

[13]. الضغينة: الحقد الشديد.

[14]. التمويه: الزخرفة وخلط الحق بالباطل.

[15]. الإسلام في مواجهة الاستشراق العالمي، عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، د. ت، ص198.

[16]. كرم المنبت: أصالة النبت وشرفه.

[17]. الذروة من قومه: من أعلاهم وأحسنهم نسبا.

[18]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة يوسف (3116)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1686).

[19]. صحيح: أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، باب ما جاء في قراءة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (321)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (274).

[20]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص36، 37 بتصرف.

[21]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص40، 41 بتصرف يسير.

[22]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص111 بتصرف.

[23]. مع الأنبياء والرسل، د. عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1990م، ص197، 198.

[24]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص41 بتصرف يسير.

[25]. هلم: تعال.

[26]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص15 بتصرف يسير.

المصدر

ادعاء وقوع السرقة من يوسف عليه السلام

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن يوسف – عليه السلام – قد سرق، ويستدلون على ذلك بقول إخوته: )قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل( (يوسف: 77) إذ أطلقوا لسانهم بهذا حينما دبر يوسف – عليه السلام – مع أخيه حيلة استبقائه بادعاء أنه سرق، فقالوا: إن كان سرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف – عليه السلام – من قبل، ويتساءلون: إذا كان يوسف لم يسرق فلماذا لم يكذب إخوته فيما ادعوه ويدفع عن نفسه هذه التهمة؟ وهم بذلك يشككون في عصمة يوسف عليه السلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) اتهام إخوة يوسف – عليه السلام – له بالسرقة لا أساس له من الصحة، وإنما كان بدافع الحسد والرغبة في الانتقاص من شأنه، وما رواه بعض المفسرين من سرقته صنم جده – أبي أمه – وكسره، إسرائيليات، وحتى لو افترضنا صحة هذه الأخبار فليس ذلك سرقة يمكن أن تصم[1] يوسف وتحط من شأنه.

2) اتصف يوسف – عليه السلام – بالحلم والعفو؛ لهذا كتم غيظه واكتفى بتكذيب إخوته على سبيل التلميح لا التصريح؛ وقد كانت الحكمة تتطلب ألا يكاشفهم بحاله في هذا الوقت.

التفصيل:

أولا. ما وقع من يوسف – عليه السلام – لم يكن سرقة، ولكن إخوته عدوها سرقة للانتقاص من شأنه كيدا وحسدا:

بداية نشير إلى أن بعض المفسرين قد تناقلوا روايات عدة عن أهل الكتاب في سرقة يوسف – عليه السلام – وهي روايات لا سند لها، وعلى فرض صحتها فهي لا تحمل معنى السرقة الحقيقي، ومن هذه الروايات التي فندها د. محمد أبو النور الحديدي:

روي عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف – عليه السلام – من البلاء فيما بلغني أن عمته بنت إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق – عليه السلام – وكانت إليها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر، فكان من أختانها من وليها كان له سلما لا ينازع فيه يصنع فيه ما شاء، وكان يعقوب – عليه السلام – حين ولد له يوسف – عليه السلام – قد كان حضنته عمته، فكان معها واليها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء حبها إياه. حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ووقعت نفس يعقوب عليه، أتاها، فقال: “يا أخية أسلمي إلى يوسف – عليه السلام – فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة” فقالت: فوالله ما أنا بتاركته فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه أو كما قالت، فلما خرج – عليه السلام – من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف – عليه السلام – من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة أبي – إسحاق – فانظروا من أخذها، ومن أصابها فالتمست، ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف – عليه السلام – فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، وأتاها يعقوب – عليه السلام – فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ما أستطيع عند ذلك، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب – عليه السلام – حتى ماتت[2].

وقال سعيد بن جبير عن قتادة: سرق يوسف – عليه السلام – صنما لجده – أبي أمه – من ذهب وفضة – كسره، ثم ألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته[3].

وقال مجاهد: إن سائلا جاءه يوما، فأخذ بيضة فناولها إياه.

وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة وأعطاها السائل.

وقال وهب: كان – عليه السلام – يخبئ الطعام من المائدة للفقراء، وقيل غير ذلك.

وعلي أي من هذه الأقوال فيوسف – عليه السلام – لم يسرق في الحقيقة، ولا شيء مما ذكر يعود عليه بالذم والانتقاص[4]، هذا إذا افترضنا صحة هذه الأقوال التي نقلها المفسرون عن أهل الكتاب، أما إذا افترضنا عدم صحتها فإن المتفق عليه أن يوسف – عليه السلام – ليس له سرقة من قبل، وإنما قال إخوته: “قد سرق أخ له من قبل” بهتانا ونفيا للمعرة عن أنفسهم، فإنهم لما بهتوا[5] بوجود الصواع في رحل أخيهم اعتراهم[6] ما يعتري المبهوت، فاعتذروا بدعوى تنزههم عن السرقة، إذ قالوا – قبل ذلك: “وما كنا سارقين” عذرا بأن أخاهم قد تسربت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم، فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبل، وقد علم فتيان يوسف – عليه السلام – أن المتهم أخ من أم أخرى، فهذا اعتذار بتعريض بجانب أم أخويهم وهي زوجة أبيهم وهي راحيل ابنة لابان خال يعقوب عليه السلام[7].

وكأنهم بهذا أرادوا أن يقولوا: إنا لسنا على طريقة بنيامين هذا في السرقة، وإنما هو وأخوه يوسف المختصان بها؛ لأنهما من أم أخرى، وهذا الدافع لإخوة يوسف أن يقولوا ما قالوا لا يعفيهم من مسئولية التجني على يوسف – البريء – والافتراء عليه أخيرا بعد أن كذبوا أولا في قولهم لأبيهم: )قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين (17)( (يوسف)، وكذبوا ثانيا في أمر الدم الذي وضعوه على القميص: )وجاءوا على قميصه بدم كذب( (يوسف: 18) [8].

وعليه فما يدرينا أنهم كانوا صادقين في قولهم هذا، فربما يكونون قد كذبوا في هذه المقالة أيضا، كما كذبوا على أبيهم من قبل.

ثانيا. الحكمة تقتضي عدم تصريح يوسف – عليه السلام – بتكذيب إخوته فيما نسبوه إليه من السرقة:

سبق أن بينا أن يوسف – عليه السلام – لم يكن له سرقة من قبل كما زعم إخوته، وهنا يثار سؤال: إذا كان إخوة يوسف – عليه السلام – قد كذبوا في قولهم: “إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل” فلماذا لم يدافع يوسف عن نفسه وينفي هذه التهمة التي رماه بها إخوته؟ ولماذا لم يكاشفهم بحاله ويبين لهم زيف دعواهم؟

ونحن نجيب على هذا السؤال قائلين: ليس صحيحا أن يوسف – عليه السلام – قد أقر إخوته على اتهامهم له بالسرقة، بل إنه – عليه السلام – قد كذبهم في ادعائهم هذا، وقد جاء هذا التكذيب على سبيل التلميح والتعريض لا التصريح في قوله سبحانه وتعالى: )فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون (77)( (يوسف). فهذا الكلام قابل للحمل على معنى: أنكم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله؛ لأنهما بريئان مما رميتموهما به، وأنتم جائرون عليهما إذ قذفتم أولهما في الجب، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة وهو بريء منها، ثم ذيل كلامه بجملة )والله أعلم بما تصفون( وهو كلام جامع، أي: الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم، والمراد: أنه يعلم كذبهم فيما ادعوه.

أما لماذا لمح – عليه السلام – لإخوته بكذبهم ولم يصرح لهم، فذلك لحلمه – عليه السلام – وعظيم عفوه، وكظمه للغيظ، فلم يظهر لإخوته غضبا أو انتقاما، أو حتى مجرد زجر عن قولهم، بل بالغ في كتم غيظه)فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم( (يوسف: 77) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلم يشأ يوسف – عليه السلام – أن يكاشف إخوته بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم في ذلك الوقت: إما لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعا إلى أبيهم، فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق، وإما لأنه قد كان بين القبط[9] وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوة فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر، فتريث إلى أن يجد فرصة لذلك، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهله لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم في الوقت المناسب[10].

الخلاصة:

ليس صحيحا أن يوسف – عليه السلام – قد سرق من قبل كما زعم إخوته، بل كان قولهم هذا كذبا وافتراء عليه، دفعهم إليه الحسد ومحاولة الانتقاص من شأنه، أما ما نقله بعض المفسرين من أقوال عن بعض الإسرائيليات سواء كانت هذه الأقوال صحيحة أم ضعيفة – فهي لا تصح أن تكون دليلا على سرقة يوسف عليه السلام.

اتصف يوسف – عليه السلام – بالحلم والأناة[11] والحكمة، فلم يصرح بتكذيب إخوته، بل اكتفى بالتعريض بهم، وأسر قولهم في نفسه، إذ رأى أن الحكمة في تأخير إخبارهم بكونه أخاهم – يوسف – الذي ألقوه في الجب قبل ذلك.

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. تصم: تعيب.

[2]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (16/ 196،197) تفسير سورة يوسف، آية (77)، برقم (19605).

[3]. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره, تفسير سورة يوسف (12666).

[4]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص329، 330.

[5]. بهتوا: دهشوا وأخذوا بالحجة فتغير لونهم.

[6]. اعتراهم: أصابهم.

[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج13، ص34.

[8]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص330.

[9]. القبط: كلمة يونانية الأصل؛ بمعنى: سكان مصر، ويقصد بها اليوم: المسيحيون من المصريين.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج13، ص34: 38 بتصرف.

[11]. الأناة: الحلم والوقار.

المصدر

ادعاء وقوع الفحشاء في بيت لوط عليه السلام

مضمون الشبهة:

يلصق الجاهلون التهم الشنيعة بأنبياء الله – عز وجل – وهم المعصومون من الخطأ والزلل، ومن الأنبياء الذين أصابهم أذى هؤلاء الفسقة، سيدنا لوط – عليه السلام – فقد اتهمه الجاهلون زورا وافتراء، بأنه زنى بابنتيه كما جاء في كتابهم المحرف، ويدعون كذلك أن زوجته خانته بارتكاب الفحشاء، ويستدلون على ذلك بقول الله – عز وجل – حكاية عن امرأة نوح ولوط: )كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (10)( (التحريم).

وجوه إبطال الشبهة:

1) أنبياء الله عز وجل جميعا هم خير البرية، ولوط – عليه السلام – نبي من أنبياء الله تعالى، ومن ثم فلا يجوز في حقه ما يخدش هذه الخيرية.

2) تناقض نصوص الكتاب المقدس حول نبي الله لوط – عليه السلام – يدحض تلك الافتراءات، وينفي هذا الزعم الباطل، ويثبت صدق القرآن الكريم.

3)  خيانة زوجته له لا تعني أنها زنت – كما يدعون – بل تعني أنها أبت اتباعه وخالفته في العقيدة.

التفصيل:

أولا. أنبياء الله تعالى جميعا هم خير البرية:

اختار الله تعالى أنبياءه؛ لأنهم أفضل البشر وأخيرهم، فهذا أبوهم آدم – عليه السلام – أول البشر، كم تحمل من عناء وتعب لراحة أبنائه في الدين والدنيا. وهذا نبي الله نوح – عليه السلام – يلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، كما ذكر القرآن الكريم، فما كانت حصيلة تلك السنين الطوال إلا كما وصف القرآن: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنيـن وأهلك إلا مـن سبـق عليـه القـول ومـن آمـن ومـا آمن معه إلا قليل (40)( (هود). وهذا القليل لا يتجاوز ثمانين رجلا على أكثر تقدير.

وهذا إبراهيم خليل الرحمن – عليه السلام – يأبى السجود لصنم طيلة حياته، ويبدأ رحلة الإيمان من بدايتها يتفكر في خلق الكون باحثا عن ربه حتى هداه الله تعالى إليه، ثم يبدأ رحلة جهاده في تبليغ دين الله إلى الناس.

وهذا نبي الله لوط عليه – عليه السلام – أرسله الله تعالى إلى أقبح قوم على ظهر الأرض وقتها أهل سدوم، قوم ما أشد بغيهم، وما أعظم تبجحهم، يجهرون بالفحشاء والمنكر، هكذا دون أدنى خجل أو حياء؛ لذلك استحقوا وصف الله لهم بالإجرام: )وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84)( (الأعراف)، وبالفسق: )ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانـت تعمـل الخبائـث إنهـم كانـوا قـوم سوء فاسقيـن (74)( (الأنبياء)، وبالإسـراف: )مسـومـة عنـد ربـك للمسرفين (34)( (الذاريات)، وبالظلم: )ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلهـا كانـوا ظالميـن (31)( (العنكبوت).

وكان قوم لوط – عليه السلام – يعملون الخبائث حتى فشت الرذيلة في القرية بأسرها عدا بيت واحد هو بيت لوط عليه السلام: )ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74)( (الأنبياء).

فقد كانوا يأتون الرجال، ويقطعون السبيل، ويأتون في ناديهم المنكرات والفواحش جهارا نهارا: )أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29)( (العنكبوت).

ويبدأ نبي الله لوط – عليه السلام – دعوته لقومه من منطلق الأخوة الإنسانية: )إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161)( (الشعراء)، فإنه – عليه السلام – لم يكن عدوا لأشخاصهم، بل كان مصلحا لعقيدتهم، مصلحا لأخطائهم، مصوبا لسلوكهم[1]. فكان شأنه – عليه السلام – شأن الطبيب الرحيم بمرضاه، الصبور على امتناعهم عن تناول الدواء، دواء رباني وصفه له ربـه – عز وجل – فحملـه بأمانــة إلى قومـه: )إنـي لكم رسول أمين (162)( (الشعراء).

وكان من دواعي خيريته وأمانته أنه ابتدأ العلاج معهم بداية صحيحة حيث قال: )فاتقوا الله وأطيعون (163)( (الشعراء). بدأ بتقوى الله والتي هي رأس كل طاعة، فما من طاعة تصدر عن البشر إلا وانبعاثها عن تقوى الله، فحسن الأخلاق مصدره تقوى الله، والتعبد اللذيذ مصدره تقوى الله، والصبر الجميل مصدره تقوى الله، والبعد عن الفحش والبذاءة والدناءة مصدرها تقوى الله.

لقد وفق نبي الله لوط – عليه السلام – أعظم التوفيق لما ابتدأ بتقوى الله، ثم وفق أيضا لما ثنى بدعوة قومه إلى طاعته، فحق على المريض أن يطيع طبيبه، وحق على الطالب أن يطيع أستاذه.

ثم إنه بتقديمه تقوى الله تعالى على طاعته، قد جعل طاعته مشروطة بموافقة تقوى الله عز وجل. وكيف لا يكون كذلك، وقد آتاه الله العلم والحكمة؟!)ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائــث إنهـم كانـوا قـوم سـوء فاسقيــن (74)( (الأنبياء). لقد أجهد نبي الله لوط – عليه السلام – نفسه في دعوة قومه إلى الله تعالى ولم يكن ينتظر من وراء ذلك أجرا أو مثوبة من أحد، بل ذاك مردود من الله له: )وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164)( (الشعراء).

ولعله من نافلة القول أن نذكر أن كلمة بني أو رسول تعني أنه رجل كلفه ربه بدعوة الناس إليه والعقل يقول: إن من ضرورة ذلك أن يكون قدوة لهم، وإلا فكيف يدعوهم إلى خير الخصال وهو يأتي أقبحها؟! وكيف يدعوهم إلى حسن الخلق وليس عنده هذا الخلق؟! تخيلوا أن رجلا يفعل ذلك، فهل تعتقدون أن يتبعه أحد؟!

بالطبع لا. إذن غاية تكليفه لم تتحقق، وهنا نجد أنفسنا أمام أحد احتمالين لا ثالث لهما:

الأول: أن لوطا – عليه السلام – ليس نبيا فكونه يزني بابنتيه ويشرب الخمر ينفي عنه صفة النبوة.

الثاني: أن لوطا – عليه السلام – نبي من أنبياء الله تعالى وما أثير عنه من افتراءات وأباطيل لا سند لها من عقل أو نص صحيح لم يحرف، فكتابكم المقدس يقول إنه نبي والقرآن الكريم – كتاب الله المحفوط – يقول إنه نبي )وإن لوطا لمن المرسلين (133)( (الصافات). وطهارة سيدنا لوط – عليه السلام – شهد له بها قومه قال سبحانه وتعالى )فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56)( (النمل).

ثم إن طهارته قد تمثلت كذلك في إنكار الفواحش التي كان القوم يقترفونها والتي تمثلت فيما يلي[2]:

إتيان الذكران دون الإناث، فأنكر عليهم قائلا: )أتأتون الذكران من العالمين (165)( (الشعراء)، وبين لهم أن هذه الفعلة فاحشة لا تنسجم[3] مع الفطرة الإنسانية، إذ إنها تشكل سابقة خطيرة تهدد المجتمع بالانهيار، وتنذر النسل بالفناء فقال: )ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80)( (الأعراف)، وأوضح لهم أن الإنسان يميل بفطرته نحو الزواج المنظم المقنن للحفاظ على النسل، واستمرار الحياة: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم)، وأن الخروج على هذه الفطرة شـذوذ واعتـداء، ولهـذا جـاء على لسـان لــوط عليـه السـلام: )أتأتون الذكران من العالمين (165(

وقد أرجع نبي الله لوط – عليه السلام – هذا الشذوذ عن الفطرة إلى أمرين:

الأول: الإسراف في الملذات فقال لقومه: إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81)( (الأعراف).

الثاني: الجهل بإحدى وظائف الشهوة لدى الإنسان، وهي الحفاظ على التناسل في الجنس البشري، وقد جاء على لسان لوط: )أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون (55)( (النمل).

كان قوم لوط يقترفون منكرات أخرى، إذ كانوا يقطعون الطريق على المارة ويستلبون أموالهم، ويغتصبون أولادهم، كما كانوا يجتمعون في النوادي العامة ويفعلون المعاصي بشكل جماعي، فتوجه نبي الله لوط إليهم منكرا أفعالهم: )أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين (29)( (العنكبوت) [4].

وحيث إننا احتكمنا إلى العقل، فالعقل يشهد عند الأسوياء بأن رجلا مثل هذا، يقف في وجه الرذيلة ويقاومها، ويقف في وجه المنكرات السائدة في قومه، رجل يصح فيه القول: إنه موصول بالسماء، هذا فضلا عن أن كتابكم المحرف يشهد بأنه نبي، ويؤكد هذه الحقيقة كتاب ربنا – القرآن الكريم – ومن ثم فلا صحة لما يدعيه هؤلاء الجاهلون.

ثانيا. تناقض نصوص الكتاب المقدس حول نبي الله لوط – عليه السلام – يدحض تلك الافتراءات ويثبت صدق القرآن:

تحكي التوراة عن لوط – عليه السلام – قائلة: “وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: “اهرب لحياتك لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل، لئلا تهلك”. فقال لهما لوط: “لا يا سيد. هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. هوذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة أهرب إلى هناك أليست هي صغيرة؟ فتحيا نفسي”. فقال له: “إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع أهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجيء إلى هناك”. لذلك دعي اسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء. وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض… حين قلب المدن التي سكن فيها لوط. وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: “أبونا قد شاخ ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي آبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا”. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: “إني قد اضطجعت البارحة مع أبي نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا”. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا وقامت الصغيرة واضطجعت معه ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم”. (تكوين 19: 16 – 38).

لاحظ الاضطراب في تدوين القصة؛ ففي البداية خاف أن يسكن الجبل وسكن في صوغر؛ لأنها مدينة صغيرة، ثم جعله كاتب هذه الأسطورة يهرب من المدينة المأهولة إلى الجبل لتهيئة المسرح لجريمة الزنا بابنتيه.

والغرض من ذلك هو السياسة الصهيونية التي تهدف إلى استبعاد أي نسل آخر خلاف نسل يعقوب – عليه السلام – من مشاركتهم في عهد الله مع إبراهيم – عليه السلام – والمؤمنين به ومنعهم من الحصول على أية ميزة، واعتبار أن الله قد خلق العالم من أجل أن يرث – فقط – بنو إسرائيل أرض الميعاد.

والدليل على كذب هذه الرواية يأتي من عدة وجوه:

خوف لوط أن يسكن في الجبل لعل الشر يدركه فيموت، وفضل السكن في مدينة صوغر. (تكوين 19: 19 – 20)، ثم تضارب الكاتب مع نفسه فقال: “وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو وابنتاه”. (تكوين 19: 30).

وقد عاش لوط في صوغر 14 سنة – قبل مولد إسماعيل إلى أن بلغ إبراهيم من العمر 100 سنة – وهو يعرف هذه المنطقة وسكانها جيدا، ولو كان أهلها من الأشرار لأهلكهم الله، كما أهلك سدوم وعمورة، ولما عاش معهم 14 سنة! فكيف يخاف الجبل، ثم يسكن فيه، ويترك القرية وأهلها الذين نعم بالعيش معهم 14 سنة؟ فقد سكن الجبل الذي يخاف منه لا لشيء إلا لرغبة كتبة التوراة في ذلك لاستكمال هذه القصة المختلقة.

كان لسيدنا لوط – عليه السلام – أبناء ذكور قبل تدمير سدوم وعمورة. وهم يعيشون في نفس المكان، وقد أبلغهم لوط بما سيحدث للقرية قبل تدميرها، كما أبلغ بناته وأصهاره، ولا شك أن الكل صدقه وهرب معه، وإخفاء هذا الخبر في التوراة كان متعمدا؛ لقطع نسب لوط من أبنائه ولاستكمال القصة، وقال الرجلان للوط: “من لك أيضا ههنا؟ أصهارك وبنيك وبناتك، وكل من لك في المدينة أخرج من المكان؛ لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه”. فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: “قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة”. فكان كمازح في أعين أصهاره. ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين: “قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة”. (تكوين19: 12 – 15).

ولو صدقنا خبر تكذيب أصهاره فهل لم تصدقه إحدى بناته المؤمنات اللواتي تربين في بيت النبوة؟ بالطبع حبك الكاتب هذا السيناريو؛ لتنفرد الابنتان بأبيهما.

كذب القول المنسوب لابنتي لوط – عليه السلام – بأنه ليس من الأرض رجل ليدخل عليهما كعادة كل الأرض، فهل كانت القرية القريبة من الجبل صوغر ليس بها رجال؟ وهل لم تتزوج ابنتاه العذراوتان لمدة 14 سنة بعد هروبهم من سدوم وعمورة؟

مع العلم أنهم كانوا يسكنون في منطقة قريبة، لا تبعد عن المنطقة التي هربوا إليها إلا ساعتين سيرا على الأقدام، فقد خرجوا في الفجر ووصلوا إلى صوغر عند شروق الشمس، والجبل وصوغر كلاهما كانا قريبين من سدوم، وكانت هناك مدن أخرى قريبة من صوغر كالتي وردت عندما أنقذ إبراهيم لوطا – عليهما السلام – من الأسر، ولم يذكر أن الرب قد دمرها.

ومما يثبت وجود شعوب أخرى في المنطقة التي عاش فيها لوط ما ورد بعد ذلك في (التثنية 2: 9 – 12) من أن الله قد أورث بني لوط – عليه السلام – أرض الإيميين والرفانيين الذين يسكنون المكان الذي أقام فيه لوط، وعلاوة على ذلك فالمسافة بين صوغر و حيرون التي يقيم فيها إبراهيم – عليه السلام – لا تتعدى 70 كيلومتر، وقد رأى إبراهيم – عليه السلام – بعينيه النار المشتعلة في سدوم القريبة من صوغر وهو في مكانه.

ولا يمكن أن يقال بأي حال من الأحوال إن لوطا – عليه السلام – قد عاش منفردا هو وابنتاه بدون مخالطة شعب آخر، فهذا ما لا يطيقه الشباب فضلا عن شيخ عجوز.

أما فيما يختص بحادثة الزنا؛ فالتلفيق واضح فيها وبيان ذلك بالآتي:

أن المخمور الذي لا يستطيع أن يفرق بين بناته والأجنبيات لشدة سكره، لا يكون في هذا الوقت قابلا للجماع، والغريب في باقي القصة أن الأب لم يسأل ابنتيه العذراوتين عن سبب الحمل؟ ومثل هذا الوضع لو وقع لبعض آحاد الناس لضاقت عليه الأرض بما رحبت حزنا وغما، فهل لم يهتم نبي الله بابنتيه وشرفه؟

فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه “موآب”، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه “بن عمي”، وهو أبو بني عمون إلى اليوم”. (تكوين 19: 36 – 38). لو كان الموآبيون والعمونيون من الزنا لغضب الله عليهم أو حتى أهمل شأنهم، ولكننا نرى في سفر التثنية أن الله قد أعطى أرض الإيميين للموآبيين ميراثا: “فقال لي الرب: لا تعاد موآب ولا تثر عليهم حربا؛ لأني لا أعطيك من أرضهم ميراثا، لأني لبني لوط قد أعطيت عار ميراثا. الإيميون سكنوا فيها قبلا شعب كبير وكثير وطويل كالعناقيين”. (التثنية 2: 9، 10)، كما أعطى أرض الرفائيين لبني عمون ميراثا: “فمتى قريب إلى تجاه بني عمون لا تعادهم ولا تهجموا عليهم؛ لأني لا أعطيك من أرض بني عمون ميراثا؛ لأني لبني لوط قد أعطيتها ميراثا، هي أيضا تحسب أرض رفائيين. سكن الرفائيون فيها قبلا لكن العمونيين يدعونهم زمزميين”. (تثنية 2، 19، 20).

وقد أعطى الله الموآبيين والعمونين ميراث الأرض قبل أن يورث بني إسرائيل وقبل أن يدخلوا أرض الميعاد، بل وحرم أرض الموآبيين والعمونيين على بني إسرائيل كما ورد في (التثنية 2: 19) ولو كان الإرث يستلزم عهدا من الرب فقد حصل عليه العمونيون والموآبيون، وبذلك يكونون قد دخلوا في جماعة الرب؛ لأن الرب لا يعطي عهدا لأبناء الزنا “لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب”. (تثنية 23: 2)، وبذلك يكون الموآبيون والعمونيون ليسوا من أبناء زنى ويكون كتبة هذه القصة من الكاذبين، ويكون بني إسرائيل قد ادعوا وجوب هذا العهد من الله ويكونون أيضا من الكاذبين.

ولو صدقنا قول التوراة أن العمونيين والموآبيين من نسل الزنا، وقد حصلوا على عهد من الله وعلى إرث، يكون قد نال عهد الله أبناء الزنا والأطهار (بني إسرائيل)، فلا ميزة إذن للأطهار عن أبناء الزنا، ويصبح قول التوراة بأن بني إسرائيل شعب الله المختار؛ لأنهم أخذوا عهدا من الله بتملك الأرض، قولا كاذبا.

وإذا كان هذا شأن الله مع أبناء الزنا وهم أبرياء مما اقترفه آباؤهم، فكيف يكون شأنه مع المحتالين واللصوص؟ فجاء في سفر التكوين: “وحدث لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: “يا ابني”. فقال له: “هأنذا”. فقال: “إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي. فالآن خذ عدتك: جعبتك وقوسك، واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وأتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت”. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو ابنه. فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدا ليأتي به. وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: “إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلا: ائتني بصيد واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتي. فالآن يا ابني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به: اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى، فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته”. فقال يعقوب لرفقة أمه: “هوذا عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس. ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنة لا بركة”. فقالت له أمه: “لعنتك علي يا ابني. اسمع لقولي فقط واذهب خذ لي”. فذهب وأخذ وأحضر لأمه، فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى. وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها. فدخل إلى أبيه وقال: “يا أبي”. فقال: “هأنذا. من أنت يا ابني؟” فقال يعقوب لأبيه: “أنا عيسو بكرك. قد فعلت كما كلمتني. قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك”. فقال إسحاق لابنه: “ما هذا الذي أسرعت لتجد يا ابني”؟ فقال: “إن الرب إلهك قد يسر لي”. فقال إسحاق ليعقوب: “تقدم لأجسك يا ابني. أأنت هو ابني عيسو أم لا”؟ فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه، فجسه وقال: “الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو”. ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه. وقال: “هل أنت هو ابني عيسو”؟ فقال: “أنا هو”. فقال: “قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي”. فقدم له فأكل، وأحضر له خمرا فشرب. فقال له إسحاق أبوه: “تقدم وقبلني يا ابني”. فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: “انظر! رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء ومن دسم الأرض. وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل. كن سيدا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين”. وحدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أن عيسو أخاه أتى من صيده، فصنع هو أيضا أطعمة ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه: “ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك”. فقال له إسحاق أبوه: “من أنت”؟ فقال: “أنا ابنك بكرك عيسو”. فارتعد إسحاق ارتعادا عظيما جدا وقال: “فمن هو الذي اصطاد صيدا وأتى به إلي فأكلت من الكل قبل أن تجيء، وباركته؟ نعم، ويكون مباركا”. فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا، وقال لأبيه: “باركني أنا أيضا يا أبي”. فقال: “قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك”. فقال: “ألا إن اسمه دعي يعقوب، فقد تعقبني الآن مرتين! أخذ بكوريتي، وهوذا الآن قد أخذ بركتي”. ثم قال: “أما أبقيت لي بركة؟” فأجاب إسحاق وقال لعيسو: “إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع إليك يا ابني”؟ فقال عيسو لأبيه: “ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضا يا أبي”. ورفع عيسو صوته وبكى. فأجاب إسحاق أبوه: “هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش، ولأخيك تستعبد، ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك”. فحقد عيسو على يعقوب من أجل البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في قلبه: “قربت أيام مناحة أبي، فأقتل يعقوب أخي”. فأخبرت رفقة بكلام عيسو ابنها الأكبر، فأرسلت ودعت يعقوب ابنها الأصغر وقالت له: “هوذا عيسو أخوك متسل من جهتك بأنه يقتلك. فالآن يا ابني اسمع لقولي، وقم اهرب إلى أخي لابان إلى حاران، وأقم عنده أياما قليلة حتى يرتد سخط أخيك. حتى يرتد غضب أخيك عنك، وينسى ما صنعت به. ثم أرسل فآخذك من هناك. لماذا أعدم اثنيكما في يوم واحد”؟ (التكوين27: 1ـ 45).

 فكيف يكون شأنه مع من صارعوه وقهروه؟ فهل هؤلاء أيضا لهم عهد من الرب وميراث؟ أم أن هذه القصة من وحي خيال كاتب مخمور؟ فقد جاء في سفر التكوين أن يعقوب – عليه السلام – صارع الرب: “فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال: “أطلقني، لأنه قد طلع الفجر”. فقال: “لا أطلقك إن لم تباركني”. فقال له: “ما اسمك؟” فقال: “يعقوب”. فقال: “لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت”. وسأل يعقوب وقال: “أخبرني باسمك”. فقال: “لماذا تسأل عن اسمي”؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان “فنيئيل” قائلا: “لأني نظرت الله وجها لوجه، ونجيت نفسي”. (التكوين 32: 24 – 30).

“لا يدخل ابن زنا في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لا يدخل منه أحد في جماعة الرب”. (التثنية 23: 2)، ومعنى “حتى الجيل العاشر” أي: للأبد. ومع ذلك فإننا نجد أن راعوث كانت مؤابية وهي أم نبي الله داود الذي كان من ذريته كل ملوك يهود حتى السبي، والذي قال عنه الرب: “أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا إن يعوج أؤدبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم. ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول الذي أزلته من أمامك. ويأمن بينك ومملكتك إلى الأبد أمامك. كرسيك يكون ثابتا إلى الأبد”. (صموئيل الثاني 7: 14ـ 16).

فلا يمكن لمن شرفه الله بهذا الشرف أن يكون من سلالة زنا، كما أن سليمان قد تزوج من نعمة العمونية وأنجب منها رحبعام (ملوك الأول 14: 21)، ولا يمكن أن يكون رؤوس جماعة الرب من أمهات زنا، فضلا عن أنهم من نسل الرب تبعا للتشريع النصراني. فلا بد أن يكون هذا التشريع مدسوسا علي التوراة. لكن ما أسباب ذلك؟

يقول السموءل بن يحيى المغربي صاحب كتاب “إفحام اليهود” وأحد أحبار اليهود الذين هداهم الله للإسلام وقد كان أبوه حبرا يهوديا كبيرا وإماما ضليعا في اليهودية، وكذلك كانت أمه، مما جعله قادرا على الحكم على التوراة: “وأيضا فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة في الهارونيين، فلما ولي طالوت – شاول – وثقلت وطأته على الهارونيين وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود، بقي في نفوس الهارونيين التشوق إلى الأمر الذي زال عنهم، وكان عزرا هذا خادما لملك الفرس، حظيا لديه، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعلم لهم هذه التوراة التي بأيديهم، فلما كان هارونيا، كره أن يتولى عليهم في الدولة الثانية داودي. فأضاف في التوراة فصلين للطعن في نسب داود، أحدهما قصة بنات لوط، والآخر قصة ثامار مع يهودا، ولقد بلغ – لعمري – غرضه، فإن الدولة الثانية كانت لهم في بيت المقدس، لم يملك عليها داوديون، بل كان ملوكهم هارونيين”[5].

ومن ثم فهل يصدق عاقل ما قاله الكتاب المحرف عن سيدنا لوط – عليه السلام – وهو كما سبق أن علمنا مملوء بالمغالطات والتناقضات فضلا عن شهادة المتخصصين في اليهودية بالتحريف المتعمد من قبل من سطروا هذه التوراة لأغراض سياسية وسعيا منهم للملك والسيادة.

ثالثا. خيانة زوجة لوط – عليه السلام – لم تكن في أمر البغاء والفحشاء، بل مخالفة في العقيدة:

وأما عن خيانة زوجة نبي الله لوط – عليه السلام – فإننا نقول لمن يدعي أن خيانتها كانت بغاء وارتكابا للفاحشة: لا بد لكم بداية أن تسألوا أهل الذكر والعلم إن كنتم تبغون الحق وما هي أقوال أهل العلم في قول الله سبحانه وتعالى: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (10)( (التحريم).

فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله: “فخانتاهما” قال: «ما زنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت قولها للناس عن زوجها: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتها»[6]. وروي عن ابن عباس أنه قال: “ما بغت امرأة نبي قط”[7]. ووجاء عن الضحاك – رضي الله عنه – في قوله: “فخانتاهما” أنه قال: “كانتا كافرتين مخالفتين ولا ينبغي لامرأة تحت نبي أن تفجر”.

وجاء عن قتادة – رضي الله عنه – في قوله )ضرب الله مثلا( (التحريم: 10) أنه قال: لن يغني صلاح هذين عن هاتين – المرأتين – شيئا، وامرأة فرعون لم يضرها كفر فرعون، والله أعلم[8].

أضف إلى ذلك أن أنبياء الله – عز وجل – جميعا معصومون، وزنا زوجاتهم يقدح في هذه العصمة؛ لأن عصمتهم منع وحفظ من الوقوع في الخطأ والمعاصي وخاصة الكبائر، ومن ثم فاختيارهم لزوجاتهم يندرج تحت هذا الحكم، ومن هنا نتساءل: كيف اختار نبي الله لوط – عليه السلام – زوجة بغيا [9] زانية، أما كانت في النساء صالحة فيتزوجها؟! والجواب لم تكن كذلك، بل خيانتها له كفرها به. ثم إن بيوت الأنبياء هي ملاذ[10] المؤمنين به ودار أمنهم وراحتهم، فكيف تكون كذلك، وفيها زوجة باغية، فالعقل لا يقبل ذلك؛ حيث إن من أشد الأمور وطأة[11] وتأثيرا بالسلب في نفس الرجل خيانة زوجته له بالمعنى الذي يتوهمون.

وختاما نقول: لولا القرآن لهلك الناس؛ لأن منهم من يريد أن يهدم كل فضيلة ويقيم كل رذيلة ونقيصة، من المؤسف أن هؤلاء خاضوا في أطهر الخلق وخير البرية (الأنبياء) لذلك جاء هذا القرآن ليقوم المعوج ويصحح المسار ويري الناس حقيقة الأنبياء دحضا لشبهات أصحاب الأهواء ومن لا يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.

الخلاصة:

أنبياء الله – عز وجل – هم خير البرية؛ فهم المكلفون بتوصيل رسالات الله إلى خلقه فكان حقا لهم أن يكونوا كذلك لإتمام المهمة التي خلقهم الله من أجلها، ومن ثم فليس لهم أن يكونوا كما يصفهم المدعون بأوصاف لا يوصف بها إنسان عادي، فضلا عن أن يوصف بها نبي.

إن الكتاب المقدس كتاب مزيف لتناقض نصوصه؛ لأنه إذا سلمنا بصحة زعمهم من أن لوطا – عليه السلام – زنا بابنتيه؛ لاستوجب ذلك أن من أنبياء الله تعالى من جاء من نسل زنا وبغاء، والفطرة والعقل والشرع يأبون ذلك كل الإباء، وهنا يأتي دور القرآن العظيم كتاب الله المحفوظ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يدافع عن أنبياء الله – عز وجل – ويضع الحقيقة التي زيفت ويبرز الصدق الذي كذب وحرف. ومن ثم نقول: لولا القرآن لهلك الناس؛ لأنه لن تكون القدوة الصالحة قائمة بين البشر إذا سقط الأنبياء من عيون الناس.

 

(*) قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ.

[1]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص111.

[2]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص112.

[3]. لا تنسجم: لا تتوافق.

[4]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص112، 113.

[5]. إفحام اليهود، السموأل بن يحيى المغربي، د. م، د. ن، د. ت، ص151، 152.

[6]. إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب سورة التحريم (3833)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.

[7]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (15/ 343)، تفسير سورة هود، الآية 46 (18224).

[8]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (8/ 238)، تفسير سورة التحريم، آية 10.

[9]. البغي: الفاجرة التي تتاجر بعرضها.

[10]. الملاذ: الملجأ والمقر.

[11]. وطأة: حملا.

المصدر

ادعاء وقوع نوح في الخطأ؛ بسؤاله المولى – عزوجل – أن ينجي ابنه الكافر من الغرق

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن نوحا – عليه السلام – قد أخطأ عندما سأل ربه نجاة ابنه الكافر، مع أن الله قد نهاه أن يطلب منه نجاة أحد من الكافرين، ويستدلون على ذلك بقوله: )ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)( (هود). ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة سيدنا نوح عليه السلام.

وجه إبطال الشبهة:

إن سؤال نوح – عليه السلام – ربه أن ينجي ابنه لا يخلو من حالين:

أن ذلك بعد الغرق فيكون سؤال كشف واستعلام عن حال ابنه، وقيل: دعاء بالمغفرة في الآخرة فلم يكن ثمة نهي عن الدعاء.

أن ذلك قبل الغرق فيكون دعاؤه ليتوب الله على ابنه ويهديه للإيمان فينجو.

وليس في كلا الحالين أي معصية أو مخالفة تقدح في عصمة نبي الله نوح عليه السلام.

التفصيل:

أولا. إذا كان سؤال نوح – عليه السلام – بعد الغرق، فهو سؤال استعلام عن حال ولده، وقيل: دعاء لابنه بالمغفرة في الآخرة:

سؤال كشف واستعلام عن حال ولده:

  ذهب بعض المفسرين إلى أن سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه كان بعد الغرق ومنهم ابن كثير الذي قال: هذا سؤال استعلام وكشف من نوح – عليه السلام – عن حال ولده الذي غرق: )ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)( (هود). أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟ )قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)( (هود). أي: ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم؛ لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40)( (هود). فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره، ومخالفته أباه نبي الله نوحا عليه السلام.

دعاء بالمغفرة في الآخرة:

وذلك تأسيسا على أن ابنه قد غرق مع من غرق من الكافرين فلم يبق إلا الدعاء بالمغفرة والرحمة والنجاة من عذاب الآخرة، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: “موقع الآية يقتضي أن نداء نوح – عليه السلام – هذا كان بعد استواء السفينة على الجودي نداء دعاه إليه داعي الشفقة؛ فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدنيا؛ لأن الله أعلمه أنه لا نجاة إلا للذين يركبون السفينة، وقد علم أنه لا وسيلة إلى نجاته، فكيف يسألها من الله، فتعين أنه سأل له المغفرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: )فلا تسألن ما ليس لك به علم(… والنداء هنا نداء دعاء فكأنه قيل: ودعا نوح ربه؛ لأن الدعاء يصدر بالنداء غالبا، والتعبير عن الجلالة بوصف الرب مضافا إلى نوح – عليه السلام – تشريف لنوح – عليه السلام – وإيماء[1] إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهي عتاب…

فالمعنى أن نوحا – عليه السلام – لا يجهل أن ابنه كافر، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر، ولكنه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به، فسؤاله له المغفرة؛ بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى، وذلك أخذا بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه.

وقرينة ذلك كله قوله سبحانه وتعالى: )وأنت أحكم الحاكمين (45)( (هود) المفيد بأنه لا راد لما حكم به وقضاه، ولكنه مقام تضرع وسؤال ما ليس بمحال.

وقد كان نوح – عليه السلام – غير منهي عن ذلك، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين، فكان حال نوح – عليه السلام – كحال النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قبل أن ينزل قوله تعالى: )ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)( (التوبة).

والاقتصار على هذه الجمل الثلاث: “إن ابني من أهلي – وإن وعدك الحق – وأنت أحكم الحاكمين “في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسئول استغناء بعلم المسئول كأنه يقول: أسألك أم أترك كقول أمية بن أبي الصلت.

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إن شيمتك الحياء[2]

ثانيا. السؤال كان دعاء إلى الله بهداية ابنه للإيمان حتى ينجو: 

وذهب آخرون إلى أن سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه كان قبل الغرق، ومنهم المفسران أبو السعود، والألوسي اللذان عللا ما ذهبا إليه، بأنه لو كان السؤال بعد الغرق عن موجب إغراقه لما نهى الله نوحا – عليه السلام – عن استفسار ما لم يعلم: )ما ليس لك به علم( فإن النهي عن استفسار ما لم يعلم غير موافق للحكمة؛ إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه.

وعلى هذا الرأي فالأمر في سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه لا يخلو من ثلاثة أوجه عقلية:

الوجه الأول: سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه وهو يعتقد إيمانه، وقد ذهب إلى هذا القول بعض العلماء منهم الماتريدي الذي قال: ظن نوح – عليه السلام – أن ابنه على دينه، إذ كان يظهر له ذلك، ويبطن كفره نفاقا – هنالك – وإلا لما تأتى له أن يقول: )إن ابني من أهلي( (هود: 45).

وذكر هذا أيضا الشهاب الخفاجي، وعلي القاري، والزمخشري، والقرطبي، وابن المنير الذي قال: لم يكن نوح – عليه السلام – كاشفا لحال ابنه، ولا مطلعا على باطن أمره، بل معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن. وحجتهم في ذلك: أن الله تعالى نهى نوحا – عليه السلام – قبل سؤاله هذا أن يسأله نجاة أحد من الكافرين: )واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)( (هود)، فلا يليق بنوح – عليه السلام – أن يسأل ربه نجاة ابنه مع علمه بكفره.

ويرى هؤلاء العلماء أن قوله: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود) لا يدل على أنه كافر عنده، بل المقصود به النهي عن الدخول في غمارهم، والقطع بأن ذلك يوجب الغرق وأن اعتزال ابن نوح – عليه السلام – عنه، وقصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر؛ لجواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه.

ويكون معنى قوله تعالى: )قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)( (هود). على هذا هو: فلا تطلب مني نجاة ابنك بناء على أنه مؤمن – فليس لك علم بحاله، إذ هو كافر، وأنا الذي أعلم كفره.

وعلى هذا فسؤال نوح – عليه السلام – نجاة ابنه – بناء على اعتقاده بإيمانه – الذي هو غير الواقع فيه ترك للأولى، إذ كان عليه – وقد ظل يدعو إلى الله سنين كثيرة – أن يعرف من آمن حقيقة، ومن لم يؤمن، وخاصة ابنه الذي يخالطه كثيرا فالقرائن، والأمارات الكاشفة عن أحوال الناس في الإيمان والكفر لا تخفى على من خالطهم، مثل هذه المدة الطويلة، فلما خفي عليه هذا كان مخالفا للأولى فيه، وسماه البعض خطأ في الاجتهاد، كالخطيب الشربيني الذي ذكر أن قوم نوح – عليه السلام – كانوا على ثلاثة أقسام: كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر.

  وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة، وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوما، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفيا، وكان ابن نوح – عليه السلام – فيهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمنا، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرا، بل على الوجوه الصحيحة، فأخطأ في ذلك الاجتهاد.

ورغم كثرة القائلين بهذا الرأي – وهو نفاق ابن نوح عليه السلام – فإننا نرى ضعفه والحديث للدكتور أبو النور الحديدي، وذلك للأسباب الآتية:

أن نوحا – عليه السلام – وهو في معرض الإرشاد، والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا يشتبه عليه أمر ابنه، ولا يفوته العلم بحاله من إيمان أو كفر، ولكل منهما ما يدل عليه.

أن اعتزال ابن نوح – عليه السلام – عنه، وقصده الالتجاء إلى الجبل، وتصميمه عليه بعد أن قال له أبوه: )قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود). يرجح مجاهرة الابن بالكفر والإصرار عليه، خلافا لما يراه بعض المفسرين من أنه ليس بنص في الإصرار على الكفر.

أن قول نوح – عليه السلام – لابنه: )ولا تكن مع الكافرين (42)(واضح في أن الابن كان مجاهرا بالكفر، والقول بأنه لا يدل على أنه كافر عنده، بل هو نهي عن الدخول في غمارهم – قول ضعيف.

لو كان نوح – عليه السلام – يعتقد إيمان ابنه لقال وهو يسأل ربه نجاته: رب إن ابني مؤمنا، والله قد أعلمه بنجاة المؤمنين من أهله ومن غيرهم في ضمن الأمر بحملهم في الفلك في قوله تعالى: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40)( (هود)، ولو كان ابنه منافقا لقال له الله: )إنه ليس من أهلك( (هود: 46) إنه منافق – بدل: )إنه عمل غير صالح( وبهذا ظهر ضعف القول: إن ابن نوح – عليه السلام – كان منافقا، وثبت رجحان أنه كان كافرا، مجاهرا بكفره.

الوجه الثاني: سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه لمجرد أنه من أهله: )رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق( (هود: 45)، يفيد أن المبرر لنوح – عليه السلام – في سؤال نجاة ابنه الكافر هو: أنه من أهله، وقد وعده ربه إنجاء أهله، فهو يستنجز وعد الله بذلك.

ويعتذر لنوح – عليه السلام – بأنه أخذ بظاهر لفظ الأهل من غير نظر لحقيقته، وفهم أنه يشمل الابن الكافر، فكان ما وقع منه خطأ في الاجتهاد، وأن أهل المؤمن من كانوا مؤمنين، أما الكافر منهم فليس بأهل ولا قريب للمؤمن، والكفر يقطع القرابة القريبة.

وهذا القول مستبعد؛ إذ كيف يغيب هذا عن نوح – عليه السلام – ويطلب نجاة ابنه الكافر، وقد نهاه الله عن طلب رفع العذاب عن الكافرين: )ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)( (هود)، وأمره أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين وأهله إلا من سبق عليه القول ومن آمن: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40)( (هود).

وذلك واضح في أن من سبق عليه القول بالكفر لا يحمل في السفينة ولا يحق لنوح – عليه السلام – أن يطلب نجاته، ابنا كان أو غير ابن.

الوجه الثالث: سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه كان بشرط الإيمان وقد ذكره الفخر الرازي بقوله: لا نسلم أنه دعا لابنه مطلقا. بل بشرط الإيمان وهذا القول هو الأرجح عندنا. على هذا الرأي الثاني القائل بأن سؤال نوح – عليه السلام – كان قبل الغرق؛ وذلك لأن الله تعالى نهى نوحا – عليه السلام – أن يسأله نجاة الكافرين في قوله: )ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37)( (هود) بعد أن سأل نوح – عليه السلام – ربه أن يهلك الكافرين جميعا بقوله: )وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26)( (نوح)، واللائق بنوح – عليه السلام – ألا يخالف هذا النهي الصريح، ويكون معنى قوله: )يا بني اركب معنا( أسلم واركب معنا، وممن فسر بهذا النسفي، وابن كثير الذي قال: وقوله: )ونادى نوح ربه( هذا هو الابن الرابع واسمه يام، وكان كافرا، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثلما يغرق الكافرون.

وهذا المعنى هو المناسب، إذ لا يليق بنوح أن يدعو ابنه للركوب مع كفره المستمر، ويكون المقصود من قوله: )ابني من أهلي( طلب هدايته للإيمان ونجاته، فكأنه قال: رب إن ابني من أهلي فاهده للإيمان ونجه، فالإنسان يحب الخير لأهله، ولا خير أحسن من الهداية والنجاة، وقد وعدتني إنجاء أهلي، ومن آمن، وعلى هذا يكون معنى )إنه ليس من أهلك( إنه ليس من أهلك الذين يؤمنون، فيستحقون النجاة؛ لأنه كفر كفرا مستمرا لا ينتهي حتى يهلك، لسبق القول عليه بذلك، ويكون النهي المتوجه إلى نوح – عليه السلام – في قوله: )فلا تسألن ما ليس لك به علم( لتحذيره من طلب الهداية والنجاة لابنه في هذا الوقت، فلن يجاب له هذا المطلب، حيث إن الابن ممن سبق عليه القول بعدم الإيمان في علم الله، ونوح – عليه السلام – لا يعلم بذلك فنهاه الله أن يسأل إيمان ونجاة من لا يعلم، إن كان ممن سبق عليه القول أنه لا يؤمن، أو كان ممن يمكن إيمانهم[3].

وبهذا يتبين أن سؤال نوح – عليه السلام – ربه أن ينجي ابنه ليس فيه أي مخالفة تقدح في عصمته بل هو أمر مشروع، سواء كان هذا السؤال قبل الغرق أم بعده كما بينا.

الخلاصة:

لقد سأل نوح – عليه السلام – ربه تعالى أن ينجي ابنه، وهذا الأمر من حيث زمنه لا يخلو من حالين:

أن ذلك بعد الغرق فيكون السؤال حينئذ إما: سؤال استعلام وكشف عن حال ولده الذي غرق، أو هو دعاء بالمغفرة لمن مات على الكفر، ولا سيما وأن صيغة الكلام “إن ابني من أهلي وأنت أحكم الحاكمين” تحتمل كلا الوجهين، فليست صريحة في النص على أيهما.

أن ذلك قبل الغرق؛ فيكون السؤال هنا دعاء من نوح – عليه السلام – إلى الله تعالى أن يهدي ابنه للإيمان حتى تحقق له النجاة مع المؤمنين وهذا ما عناه بعضهم بقولهم: إن سؤال نوح – عليه السلام – ربه نجاة ابنه كان بشرط الإيمان.

وعلى كلا الرأيين يكون السؤال مشروعا وليس فيه أي مخالفة أو معصية تقدح في عصمة نبي الله نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

 

(*) عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م.

[1]. الإيماء: الإشارة.

[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص83: 85 بتصرف.

[3]. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص265: 270.

المصدر

التشكيك في أبوة نوح – عليه السلام – لابنه

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المتوهمين في أبوة نوح – عليه السلام – لابنه، الذي هلك في الطوفان، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( (هود: 46)، بل يدعي بعضهم أنه ابن زنا؛ لقوله تعالى: )إنه عمل غير صالح(؛ ولأن أمه كانت خائنة كما ذكر القرآن عنها وعن امرأة لوط: )فخانتاهما( (التحريم: 10). ويتساءلون: كيف يدعي نبي معصوم الكذب وينسب إليه ابنا ليس من صلبه إذ قال:)إن ابني من أهلي( (هود: 45). ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة نبي الله نوح عليه السلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) القرآن الكريم ينفي أن يكون ابن نوح من أهله المؤمنين الذين وعد الله بإنجائهم، ويثبت كونه من صلبه حقيقة لقوله تعالى: )ونادى نوح ابنه( (هود: 42)، وعليه فلم يكذب نوح – عليه السلام – في قوله: )رب إن ابني من أهلي( (هود: 45) كما يدعي هؤلاء.

2) قوله تعالى: )إنه عمل غير صالح( يعني الكفر، والخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( راجعة إلى مخالفة الدين والعقيدة لا إلى خيانة الفراش.

التفصيل:

أولا. ابن نوح ليس من أهله الناجين:

القرآن الكريم يثبت الأبوة لنوح – عليه السلام – وأن هذا الابن من صلبه؛ لقوله سبحانه وتعالى: )ونادى نوح ابنه( فلو لم يكن ابنه لما صرح بالبنوة، وإنما ينفي الصلة الإيمانية بين نوح – عليه السلام – وابنه، فأهل الإيمان تجمعهم صلة ا لعقيدة والدين، وهذا الولد وإن كان ابنه فليس من أهل الإيمان أو ليس من أهله المؤمنين الناجين؛ لكفره وخروجه عن دين الله وعدم اتباعه أباه الذي هو رسول الله، ولو كان المقصود نفي بنوة النسب لقال: إنه ليس ابنك جوابا على قول نوح: إن ابني من أهلي، ولكن قال: “إنه ليس من أهلك” فنفى دخوله معه في مجموع أهل الإيمان لم ينف البنوة؛ لأن المقصود “بأهلك” في قوله تعالى: )قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح( (هود: 46)، ليس أهل بيتك وعشيرتك، بل هم أهل دينك وعقيدتك، وعلى هذا لم يكذب نوح – عليه السلام – في قوله “إن ابني من أهلي” فهو ابنه حقيقة لصلبه لقوله تعالى: )ونادى نوح ابنه( (هود:42).

وأما قوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( (هود: 46)؛ فمعناه: إما أنه ليس من أهل دينك، فمدار الأهلية هو الصلة الدينية، وقد انقطعت بالكفر، فلا علاقة بين مسلم وكافر؛ ولذا لا يتوارثان[1]، وحكي هذا عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وإما أنه ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة.

وعلى هذين القولين فالمعنى: “ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم”[2].

نعم، كان ابنه ولكن كان مخالفا له في النية والعمل والدين… وهذا يدل على أن الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب[3].

وعلى هذا المعنى يؤكد الشيخ الطاهر ابن عاشور إذ يقول: “ومعنى قوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( نفي أن يكون من أهل دينه، ولكنه إعلام بأن قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة، وهذا المعنى شائع في الاستعمال قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن:

إذا حاولت في أسد فجورا

فإني لست منك ولست مني

وقال سبحانه وتعالى: )ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56)( (التوبة) “[4].

ويوضح الشيخ الشعرواي أن النبوة ليس لها بنوة، بل لها أتباع فيقول: “وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتباع نجد المثل في إبراهيم – خليل الرحمن – عليه وعلى نبينا أفصل الصلاة والسلام – حين قال الحق فيه: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة).

… ويريد الحق سبحانه أن يلفت نبيه نوحا – عليه السلام – إلى أن أهلية الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتباع، وإذا قاس نوح – عليه السلام – ابنه على هذا القانون فلن يجد ابنا له.

إذن فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتباع لا بنوة نسب، وانظر إلى دقة الأداء في قوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( ثم يأتي الحق سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله: )إنه عمل غير صالح( فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتا، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح – عليه السلام – جعله غير صالح أن يكون ابنا لنوح. وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس اللحم، إنما هو الاتباع بدليل أن الحق وصف ابن نوح – عليه السلام – بقوله: )إنه عمل غير صالح( ولو كان عملا صالحا لكان ابنه”[5].

وجاء في “ظلال القرآن”: رب إن ابني من أهلي، وقد وعدتني بنجاة أهلي وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير.. قالها يستنجز ربه وعده، ويستنجز حكمته في الوعد والقضاء.. وجاء الرد بالحقيقة التي غفل عنها، فالأهل – عند الله وفي ميزانه ودينه – ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة، وهذا الولد لم يكن مؤمنا، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن، جاء الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد، وفيما يشبه التقريع[6] والتأنيب والتهديد: “إنه ليس من أهلك..” إنها الحقيقة الكبرى في هذا الدين، حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا، عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة، “إنه ليس من أهلك..” فهو منبت[7] عنك وأنت منبت عنه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ولا وشيجة[8] [9].

ومما يؤكد نسبة هذا الولد لسيدنا نوح – عليه السلام – أن المؤرخين والمفسرين ذكروا أن ابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زوج ثانية لنوح كان اسمها “واعلة” غرقت، وأنها المذكورة في آخر سورة التحريم، قيل: كان اسم ابنه “ياما”، وقيل: اسمه “كنعان”، وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين[10].

وبهذا البيان تحقق أن نوحا – عليه السلام – لم يكذب – وحاشاه أن يكذب – وهو نبي معصوم، إنما كذب المدعون.

ثانيا. قوله تعالى: )إنه عمل غير صالح( يعني الكفر، والخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( (التحريم: 10) راجعة إلى مخالفة الدين والعقيدة لا إلى الفراش:

فمعنى العمل غير الصالح هو الكفر وليس الزنا كما قد يدعي بعضهم، وأطلق على الكفر “عمل”؛ لأنه عمل القلب ولأنه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان[11].

وقرأ بعضهم: “إنه عمل غير صالح” أي من الكفر والتكذيب، وقرئ “عمل” أي: ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف[12].

وأما قوله تعالى عن امرأة نوح – عليه السلام – وامرأة لوط عليه السلام: )فخانتاهما( فليس المعنى: أنهما خانتا زوجيهما بالزنا، فما زنت امرأة نبي قط، وقد اتفق أئمة التفسير على أن الخيانة راجعة إلى الدين، لا إلى الفراش.

قال القرطبي: “والمقصود الخيانة في الدين، لا في الفراش؛ وذلك أن امرأة نوح – عليه السلام – كانت تقول للناس: إنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور. فخرجت تقول لقومها: يا قوم، والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور. فهذه خيانتها، وخيانة امرأة لوط أنها كانت تدل قومها على الأضياف إذا نزلوا عند لوط”[13].

وتعقب الرازي الزعم أن ابن نوح ولد زنا قائلا: “وهذا قول خبيث يجب صون مكانة الأنبياء عنه، لا سيما وهو على خلاف نص القرآن، أما قوله تعالى: )فخانتاهما( فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه، قيل لابن عباس: ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح – عليه السلام – تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط – عليه السلام – تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به”[14].

والدليل القاطع على فساد القول بأن المقصود هو خيانة الفراش قوله تعالى: )الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم (26)( (النور)، وأيضا قوله تعالى: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)( (النور).

وقال أبو السعود: وما يقال من أنه كان لغير رشده – أي: ولد زنا – لقوله تعالى: )فخانتاهما( فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها، فإن جناب الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – أرفع من أن يشار إليه بأصبع الطعن، وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين. ومثل هذا ذكره أيضا البيضاوي، والألوسي وغيرهما.

فهذه أقوال عدد من أئمة التفسير تستبعد أن تزني إحدى نساء الأنبياء. ومستند عدم وقوع الزنا من إحدى نساء الأنبياء النقل والعقل:

أما النقل: فالآيات القرآنية الدالة على هذا كثيرة، ومنها الآيات التي نزلت ببراءة السيدة عائشة – رضي الله عنها – مما رميت به زورا وبهتانا؛ قال تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)( (النور) [15].

وأما العقل: فلأن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – مبعوثون إلى الكفار لدعوتهم إلى الله؛ فلزم ألا يكون معهم ما ينفر الكفار منهم، ومن أعظم المنفرات عن الإنسان أن تكون زوجته مسافحة، فزنا نساء الأنبياء – لو وقع – ينفر اتباعهم ويخل بحكمة البعثة، لهذا حفظ الله تعالى نساء الأنبياء من الزنا؛ حتى لا يعود ذلك بالانتقاص والإخلال بمهمتهم في دعوة الناس إلى الله[16].

وبهذا يتبين لنا ضلال هذا الادعاء الذي يزعم أصحابه أن نبي الله نوحا – عليه السلام – قد وقع في الكذب مما يقدح في عصمته كنبي، كما تبطل الحجة التي يستند إليها هؤلاء من أن ابنه كان ابن زنا وليس من صلبه فهو ابنه بشهادة القرآن، وخيانة زوجته كانت في الدين لا في الفراش.

الخلاصة:

القرآن الكريم يثبت أن ابن نوح – عليه السلام – هو ولده من صلبه؛ لقوله تعالى: )ونادى نوح ابنه( وعليه فلم يكذب نوح – عليه السلام – في قوله: )إن ابني من أهلي(؛ فهو ابنه حقيقة لصلبه؛ لقوله تعالى: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود). أما المراد بقوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( إما إنه ليس من أهل الإيمان، وإما إنه ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك، وعلي القولين: ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم، وبهذا تحقق أن نوحا لم يكذب حتى يكون قد ارتكب المعصية.

الخيانة في قوله تعالى: )فخانتاهما( عند امرأة نوح وامرأة لوط – عليه السلام – راجعة إلى الخيانة في الدين والعقيدة، لا إلى الخيانة في الفراش، وليس معناه أنهما خانتا زوجيهما بالزنا، فما زنت امرأة نبي قط.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. لا يتوارثان: لا يرث أحدهما الآخر.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص260.

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص46.

[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص85، 86.

[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج11، ص6481: 6484 بتصرف.

[6]. التقريع: التوبيخ.

[7]. المنبت: منقطع الصلة.

[8]. الوشيجة: القرابة المشتبكة المتصلة.

[9]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص1880.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص85، 86.

[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص86.

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص46.

[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص46، 47. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص262.

[14]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (23/ 497) سورة التحريم، آية 10.

[15]. الإفك: أسوأ أنواع الكذب والبهتان. العصبة: الجماعة. تولى كبره: تحمل معظم هذا الإفك.

[16]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص261: 263.

المصدر

استنكار تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر

مضمون الشبهة:

يستنكر بعض المتوهمين أن يكون موسى – عليه السلام – قد تعلم من الخضر؛ لأن هذا – في ظنهم – يعني أن الخضر أفضل منه، ويتساءلون: كيف يتعلم نبي يتلقى العلم من الله وحيا دون واسطة بشرية، من بشر عادي؟!

وجها إبطال الشبهة:

1) لقد اختص الله الخضر بعلم لم يعط لموسى عليه السلام، فأراد موسى – عليه السلام ـبهمته العالية أن يزداد من العلم النافع، وهذا لا يعد انتقاصا من قدر موسى عليه السلام.

2) على الرغم من اختلاف آراء العلماء حول حقيقة الخضر بين كونه عبدا صالحا أو وليا أو نبيا، فهو على كل حال ليس بشرا عاديا؛ إذ إن أفعاله كلها صادرة عن وحي إلهي.

التفصيل:

أولا. تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر لا يعني تفضيل الخضر عليه:

بداية نشير في عجالة إلى أن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن يقدح في فضل نبي الله موسى – عليه السلام – أو أن يشكك في مكانته، ويكفي أنه أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن الكريم، فقد ورد اسمه في القرآن (166) مرة، وذكرت قصته في ست وثلاثين سورة في القرآن، وهو من أولي العزم من الرسل الذين أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يقتدي بهم، ويصبر كما صبروا: )فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل( (الأحقاف: 35)، وقد آتى الله موسى مقام المخلصين الذين لا سبيل للشيطان عليهم: )واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51)( (مريم)، وقد خصه الله بمقام التكليم المباشر من وراء الحجاب؛ إذ ناداه من جانب الطور الأيمن، وقربه نجيا، وقال له: )قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي( (الأعراف: 144)، وقد أنزل الله عليه التوراة فيها هدى ونور[1]:)إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وكذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه أن يفضلوه على موسى – عليه السلام – بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تخيروني على موسى»[2].

وإذا أردنا أن نتتبع كل فضائل موسى – عليه السلام – كما وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، لاحتجنا إلى مصنفات طوال، ولكن يكفي ما ذكرنا للتمهيد لحقيقة تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر، وبيان أنها لا تعني بحال من الأحوال الانتقاص من شأن موسىعليه السلام، أو القول بأن الخضر أعلى منه منزلة كما فهم بعضهم خطأ.

 وبداية قصة التقاء موسى – عليه السلام – بالخضر رواها أبي بن كعب حيث قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن موسى – عليه السلام – قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يارب، فكيف لي به. قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل[3]، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم»[4] [5].

من هذه الرواية يتبين لنا أن موسى – عليه السلام – لما لم ينسب العلم إلى الله، أوحى الله إليه أن هناك من هو أعلم منه، وكان هذا الوحي أمرا إلهيا أن يلحق موسى – عليه السلام – بمن هو أعلم منه، ويطلب العلم على يديه، فرضي موسى – عليه السلام – بذلك، وأحب أن يزداد علما على علمه، فسأل الله أن يدله على مكانه ليهاجر إليه، ولو طوى لأجل ذلك المسافات الشاسعة، ولو طالت به الرحلة أحقابا مديدة [6]:)لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا (60)( (الكهف)، ولا يعني أن الخضر أعلى منه منزلة؛ لأن طلب العلم أسمى ما يبتغيه الإنسان، ولا يمل من طلبه امرؤ عرف قدره وذاق حلاوته [7].

لهذا “تشوقت نفس موسى الفاضلة، وهمته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه أعلم منك “[8]، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العلم الذى سأل موسى – عليه السلام – تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى – عليه السلام – مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله، وإنما رام [9]موسى – عليه السلام – أن يعلم شيئا من العلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير، وقد قال تعالى تعليما لنبيه: )وقل رب زدني علما (114)( (طه)[10]، وعليه فلا غضاضة[11] في أن يطلب نبي الله موسى – عليه السلام – العلم على يد غيره، وخاصة إذا علمنا أن هذا العلم الذي كان عند الخضر هو مما اختص الله به الخضر كما اختص الله موسى – عليه السلام – بعلم لا يعلمه الخضر، فالتفضيل في قوله: «أعلم منك» ليس مطلقا بدليل قول الخضر لموسى عليه السلام: «إنك على علم علمك الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت» وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر[12].

ولكن هل كان العلم الذي لدى الخضر أفضل من العلم الذي لدى موسى – عليه السلام – حتى يطلبه موسى عليه السلام؟ بالطبع لا؛ لأن العلم الذي أوتيه الخضر “هو علم سياسة خاصة غير عامة تتعلق بمعينين لجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأحوال لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة، فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده، كما جعل محمدا – صلى الله عليه وسلم – رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسة التشريع العامة “، ولهذا كان موسى – عليه السلام – فى غناء عنه بما أعلمه الله من أمور الشريعة، ولكن أراد الله أن يعلم موسى – عليه السلام – ألا يغتر بعلمه، وأن الإنسان مهما وصل من العلم فعلمه قليل بالقياس إلى علم الله، وهذا ما قاله الخضر لموسى – عليه السلام – كما جاء من حديث البخاري رحمه الله حينما جاء عصفور فوقع على حرف السفينة التي كانا يركبانها فنقر في البحر نقرة: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر»[13]، ولعل مما يدل على أن العلم اللدني الذي اختص الله به عبده الصالح الخضر لم يكن واجبا على موسى – عليه السلام – تعلمه هو اشتراط العبد الصالح على موسى أن يضبط نفسه إذا أراد صحبته، فلو كان واجبا ما اشترط عليه الخضر، ولما فارقه لأي سبب من الأسباب.

وخلاصة ما قررناه من حقائق أن تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر لا يقدح في مكانة موسى – عليه السلام – وفضله كما يتوهمون، كما لا يعني بحال من الأحوال أن يكون الخضر أعلى منزلة من موسى عليه السلام.

ثانيا. لم يكن الخضر في تصرفاته يتصرف باعتباره بشرا عاديا، بل كانت أفعاله صادرة عن وحي إلهي:

سبق أن وضحنا حقيقة تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر، ونود هنا أن نوضح أن الخضر لم يكن رجلا عاديا كما يزعمون، بل كانت أفعاله كلها صادرة عن وحي من الله تعالى، وعلى الرغم من أن اسمه لم يرد صراحة في القرآن الكريم، إلا أن الله قد وصفه بأحب الصفات، ونسب له العديد من الخصال نذكر منها:

حاز شرف العبودية لله، إذ شهد الله له بقوله: )فوجدا عبدا من عبادنا( (الكهف:65).

آتاه الله رحمة من عنده، وقد وصفه الله بقوله: )آتيناه رحمة من عندنا( (الكهف:65).

علمه الله علما لدنيا عرف من خلاله حكمة الأقدار والأفعال كما جاء في وصفه: )وعلمناه من لدنا علما (65)( (الكهف).

كانت أفعاله صادرة عن وحي من الله، ولهذا قال لموسى عليه السلام: )وما فعلته عن أمري( (الكهف: ٨٢) وقد اختلف العلماء والمفسرون في حقيقة الخضر، فمن قائل: إنه نبي، ومن قائل: إنه عبد صالح أوتي علم الباطن[14]، وقد رجح ابن كثير القول بنبوته لما يلي:

وصفه الله بالعبودية له – سبحانه وتعالى – بقوله: )فوجدا عبدا من عبادنا( وهذا المقام وصف الله به الأنبياء في القرآن فقال عن نوح عليه السلام: )ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا (3)( (الإسراء)، وقال عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليه السلام: )واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45)( (ص)، وقال عن داود عليه السلام: )واذكر عبدنا داوود( (ص: 17) وكذلك قال عن أيوب وزكريا والمسيح عليهم السلام، وقد قال عن خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا( (الإسراء: 1).

آتاه الله رحمة من عنده فقال: )آتيناه رحمة من عندنا( والرحمة تأتي بمعنى النبوة، كما جاء على لسان صالح عليه السلام: )قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة( (هود: 28)، فالرحمة هنا النبوة، وكذلك في قوله عن موسى عليه السلام: )ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة( (الأحقاف: 12) وقوله عن عيسى عليه السلام: )ولنجعله آية للناس ورحمة منا( (مريم:21). فهذه الآيات تدل على أن الرحمة قد وردت بمعنى النبوة أو الرسالة.

علمه الله علما من لدنه فقال: )وعلمناه من لدنا علما(. وقد ذكر القرآن الكريم أن الله تولى بنفسه مهمة تعليم الأنبياء، فقال عن آدم: )وعلم آدم الأسماء كلها( (البقرة: 31)، ووصف يعقوب – عليه السلام – بقوله: )وإنه لذو علم لما علمناه( (يوسف: 68)، وقال عن داود: )وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل( (المائدة: 110) وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )وعلمك ما لم تكن تعلم( (النساء: 113).

إنه بعد أن فسر لموسى – عليه السلام – حقيقة الأحداث الثلاثة قال لموسى: )وما فعلته عن أمري(، وهذا أقوى دليل على نبوته؛ إذ إن الأنبياء والمرسلين لا يتصرفون في شيء إلا بأمر الله، إن يتبعون إلا ما يوحي إليهم من الله، كما جاء في القرآن على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )إن أتبع إلا ما يوحى إلي( (يونس: ١٥).

أضف إلى ما سبق أن ما أقدم عليه الخضر من أفعال، وخاصة قتل الغلام، يخالف نصوصا إلهية أنزلها الله على موسى عليه السلام، فلو لم يكن نبيا يتصرف عن وحي الله لكان عقابه القتل وفق ما أنزل الله، وليس عجبا أن يوحي الله إليه بأن يقتل الغلام لحكمة يعلمها الله، فقد ورد أن الله أوحى إلى إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل عليهما السلام[15].

وبعد عرض هذه الحقائق نستطيع أن نقول: إن موسى – عليه السلام – لم يتلق العلم على يد بشر عادي كما يزعمون، بل هو وإن افترضنا أنه ليس نبيا فهو عبد صالح لا تصدر أفعاله تبعا لهواه، بل إن أفعاله كلها صادرة عن وحي إلهي كما قلنا.

ولكن لا ينبغي أن يظن أحد أنه أفضل من موسى عليه السلام؛ لأنه وإن كان عبدا صالحا فموسى – عليه السلام – نبي ورسول، وإن كان نبيا فموسى – عليه السلام – أفضل منه كذلك؛ لأن موسى – عليه السلام – رسول وصاحب شريعة بل هو من أولي العزم من الرسل.

الخلاصة:

لا يستطيع مسلم أن يشكك في فضل موسى – عليه السلام – فهو كليم الله، ومن أولي العزم من الرسل، وقد أنزل الله عليه التوراة فيها هدى ونور، وقد أثنى الله عليه في كثير من آيات القرآن الكريم.

إن تعلم موسى – عليه السلام – من الخضر لا يقدح في منزلة موسى – عليه السلام – فقد أراد الله أن يعلم موسى أن علم الإنسان مهما بلغ فهو قليل إلى علم الله، وقد أراد موسى – عليه السلام – أن يزداد من العلم والخير ويقابل من قيل عنه: “أعلم منك”. وليس في هذا انتقاص لموسي – عليه السلام – ولا لقدره.

لقد اختص الله الخضر بعلم لم يكن يعلمه موسى، واختص موسى بعلم لم يكن يعلمه الخضر، وعليه فقد كان كل واحد منهما أعلم من الآخر فيما يعلمه.

لم يكن العلم الذي اختص به الخضر أفضل من العلم الذي اختص به موسى عليه السلام، فقد كان علم الخضر هو سياسة خاصة تعود بالنفع على أفراد معينين لجلب مصلحة لهم أو دفع مفسدة عنهم، بخلاف علم موسى – عليه السلام – العام الذي يهتم بمصالح الناس كافة في زمان ومكان أمته المبعوث لهم.

اختلف العلماء في حقيقة الخضر، فمن قائل: إنه عبد صالح، ومن قائل: إنه ولي عنده علم الباطن، ومن قائل: إنه نبي، وعلى كل فهو بشر غير عادي، فقد كانت أفعاله صادرة عن وحي إلهي لا هوى شخصي كما يزعمون.

 

(*) موقع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية. موقع المعرفة. www.Marefa.org

[1]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص180، 181.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة (2280)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام (6302).

[3]. المكتل: السلة أو القفة الضخمة، تصنع من أوراق النخيل، يحمل فيها التمر وغيره.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله (122)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضرعليه السلام (6313).

[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص9، 10.

[6]. الأحقاب: جمع حقبة، وهي فترة زمنية طويلة.

[7]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص214 بتصرف.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص10.

[9]. رام: أراد.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج15، ص370، 371 بتصرف يسير.

[11]. غضاضة: كراهة.

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص10.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى عليه السلام (3220)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضرعليه السلام (6313).

[14]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص255 بتصرف يسير.

[15]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص260: 262 بتصرف يسير.

المصدر

التشكيك في توكل لوط- عليه السلام – حق التوكل على الله

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن لوطا – عليه السلام – لم يكن متوكلا على الله حق التوكل، ويستدلون على ذلك بقول الله سبحانـه وتعالـى: )قال لو أن لي بكـم قـوة أو آوي إلى ركـن شديـد (80)( (هود). ويتساءلون: هل يصح ذلك عن نبي من أنبياء الله تعالى؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  التوكل على الله تعالى لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب المشروعة التي خلقها الله وأودعها في الكون.

2) لا يقدح في عصمة نبي مثل لوط – عليه السلام – طلب النصرة، ما دامت في الحق، بل إن الاجتماع والتناصر من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي.

التفصيل:

أولا. التوكل على الله لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب المشروعة:

لو لم يكن لوط – عليه السلام – متوكلا على الله حق التوكل لما قال: )قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( (هود)، لما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، والذين هم في الحقيقة ملائكة أرسلهم الله تعالى لإهلاك قوم لوطـ عليه السلام – ولوط – عليه السلام – لا يعلم ذلك.

والذي يتأمل مقولة لوط – عليه السلام – يجد توكلا على الله ما أكمله وما أعظمه؛ وذلك لأن التوكل له معنى قد جهله هؤلاء الذين يتجرءون على أنبياء الله – تعالى ورسله ونوضح هذا المعنى لهؤلاء الغافلين في النقطة التالية:

معنى التوكل ومفهومه في الإسلام:

التوكل لغة: وكل بالله يكل وكلا: استسلم إليه، ووكل إليه الأمر: سلمه إليه، وفوضه إليه. أوكل على الله وكل به، ووكل على فلان العمل: خلاه كله عليه. وكله: استكفاه أمره ثقة به، ووكله في الأمر فوضه إليه. اتكل على الله: استسلم إليه، واتكل على فلان في أمر: اعتمد ووثق به. تواكل: اتكل بعضهم على بعض، وتواكل القوم فلانا: تركوه ولم يعينوه فيما نزل به.

وبعقد مقارنة سريعة بين التوكل والتواكل من خلال المعنيين السابقين يتضح أن التوكل أخذ بالأسباب واستنفاد للجهد والطاقة، والتواكل عكس ذلك أي أن يكون الإنسان بمقدوره أن يبذل جهدا, وطاقة ثم نجده لا يفعل، وعليه فهو متواكل لا متوكل على الله.

أما التوكل اصطلاحا: فهو الاعتماد على الله والرضا بقضائه وقدره، والرجوع إليه في كل شيء مع الأخذ بالأسباب؛ فالتوكل هو الأخذ بالأسباب، ثم الاعتماد على الله في تحصيل النتائج، وحث الله على ذلك حيث قال تعالى: )إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201)( (الأعراف) [1].

يقول الإمام أحمد: التوكل عمل القلب، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات[2].

وقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب.

ويريد بذلك أن يتحرك العبد في الأسباب بالظاهر والباطن، وأن يسكن إلى المسبب ويركن إليه، وقد أجمع علماء الأمة على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب[3].

 والتوكل هو صفة الأنبياء والمرسلين وجميع الصالحين، والتواكل هو صفة الكسالى منهم والعجزة؛ ومثال ذلك الرجل الذي دخل عليه الفاروق في المسجد فوجده يتعبد دون أن يغادر المسجد، فسأله عمن يطعمه، فقال: أخي يطعمني، فحكم الفاروق حكما حاسما بينا لا لبس فيه ولا غموض حيث قال: “أخوك أعبد لله منك”.

وإذا أسقطنا هذا الكلام على موقف نبي الله لوط – عليه السلام – لاتضح لنا كيف كان هذا النبي متوكلا على الله حق التوكل.

إن المتأمل في موقف نبي الله لوط – عليه السلام – مع قومه لما راودوه عن ضيفه، يتبين له رجولة هذا النبي واستماتته في الدفاع عن أضيافة أمام هؤلاء الفسقة، على الرغم من أنه كان يقف وحده أمام هذه الجموع، إلا أنه دافعهم وحده؛ لأنه يعلم حقيقة التوكل على الله، قال تعالى: )وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكـم فاتقـوا الله ولا تخـزون في ضيفـي أليـس منكـم رجـل رشيـد (78)( (هود).

فسيدنا لوط – عليه السلام – يعلم مدى فسق قومه ومدى دنسهم، ومع ذلك يعرض عليهم بناته ليتزوجوا بهن، إنها قمة التوكل أن يستنفد الإنسان طاقته مع ركون قلبه وثقته في الله تعالى، وهل يعقل أن يكون قلب نبي من أنبياء الله – عز وجل – غير ذلك؟!

ويتساءل العقلاء: كيف يكون لوط – عليه السلام – غير متوكل على الله، وجميع أنبياء الله – عز وجل – معصومون من الزلل[4] والخطأ؟! كيف يكون غير متوكل على الله والأنبياء هم الأسوة الحسنة للناس وبهداهم يقتدي الناس؟ قال سبحانه وتعالى: )لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (6)( (الممتحنة)، وقال سبحانه وتعالى: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90)( (الأنعام).

والراجح أن الخطاب في قوله: )قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( (هود) موجه إلى أضيافه؛ كأنه تمنى لو كان عدد ضيفه كثيرا ليجد بهم قوة على مجاهدة قومه وكفهم والإيقاع بهم، ولذلك ردوا عليه بقولهم: )قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك( (هود:81)[5].

أما عن مفهوم قوله سبحانه وتعالى: قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( (هود) في ظل الحديث الصحيح: «ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد»[6]. فيمكن توجيه وتفسير الآية مع الحديث والربط بينهما على النحو الآتي:

أنه لا جناح على لوط – عليه السلام – في طلب قوة من الناس تدفع عن أضيافه؛ إذ لا حرج على إنسان يرى الحق مضيعا، والباطل سائدا في أن يستعين بأناس يحق بهم الحق، ويبطل الباطل؛ فقوة جند الحق من قوة الله.

قال ابن حزم: لا جناح على لوط – عليه السلام – في طلب قوة من الناس؛ فقد قال سبحانه وتعالى: )ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض( (البقرة: 251)، وقد طلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأنصار والمهاجرين منعه حتى يبلغ كلام ربه… وإنما أخبر – صلى الله عليه وسلم – أن لوطا – عليه السلام – كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط – عليه السلام – علم بذلك، ومن اعتقد أن لوطا كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر؛ إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضا ظن سخيف؛ إذ من الممتنع أن يظن نبي برب أراه المعجزات، هذا الظن[7].

إن لوطا – عليه السلام – التجأ إلى الله في باطنه، وهو ما يخبر عنه الحديث، وإنما قال: )آوي إلى ركن شديد (80)( (هود) أمام الأضياف اعتذارا.

وقد نقل ابن حجر عن النووي قوله: إنه التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارا!

ويرجح د. الحديدي، الجواب الثاني لأمرين:

الأول: أن اللائق برسول الله أن يركن إلى الله لا إلى الناس، وكل رسول كان يقف وحده في مواجهة الكثرة الكثيرة من خصومه ومناوئيه[8]، فعلى من كان يعتمد؟

والرسل عليهم الصلاة والسلام حين كلفهم ربهم بالدعوة إلى سبيله، أعلمهم أنه معهم بتأييده وعنايته حتى لا يخافوا سطوة أقوامهم عليهم، وهل كان مثل فرعون في الناس تجبرا وطغيانا، لقد طمأن الله موسى وهارون – عليهما السلام – عندما وجههما إليه أنه معهما: )اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) قال لا تخافـا إننـي معكمـا أسمــع وأرى (46)( (طه). والرسل عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يلتجئون إلا إلى الله قال الله على لسان يعقوب عليه السلام: )قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86)( (يوسف).

الثاني: أن لوطا – عليه السلام – قدر في نفسه في هذه اللحظة أن أضيافه – وهو لا يعلم أنهم ملائكة – سيتساءلون ولو في أنفسهم: أما لهذا الرجل ولد وعشيرة تدفع عنه؟!، فقال هذا القول اعتذارا لهم بأن لا ولد له ولا عشيرة تحميه، أما في الباطن فكان ملتجئا إلى الله تعالى متوكلا عليه[9].

ثانيا. لا يقدح في عصمة النبي طلب النصرة للحق، بل هو واجب شرعي:

أنبياء الله تبارك وتعالى مصطفون منه – عز وجل – وهذا الاصطفاء جاء لأشياء أودعهما الله فيهم يتميزون بها عن غيرهم حيث قال تعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران). فالآية تخبرنا أن الله اختار آدم ونوحا، وآل إبراهيم، وهم إسماعيل وإسحاق، والرسل من ذريتهما، وآل عمران – وهم موسى وهارون ابنا عمران – عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين – على العالمين – بالرسالة[10].

وينقل أبو السعود قولا في توضيح اصطفاء آدم ونوح – عليهما السلام – هو: اصطفى الله آدم – عليه السلام – بأن خلقه بيده في أحسن تقويم وبتعليمه الأسماء، وإسجاد الملائكة له، وإسكانه الجنة، واصطفى نوحا – عليه السلام – بكونه أول من نسخ الشرائع، إذ لم يكن قبله تزويج المحارم حراما، وبإطالة عمره، وجعل ذريته هم الباقين، واستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين، وحمله على متن الماء[11] [12].

ومن اصطفاه الله جعله على هدى وصلاح، وجعله عبدا شكورا لا تصدر عنه المعصية؛ لأن الله – عز وجل – لا يختار العصاة ليهدي بهم عباده، فإنهم يصيرون قدوة في الضلال والإضلال، فكيف يختارهم لهداية الناس[13]؟

وأما عن آل إبراهيم – عليه السلام – وآل عمران، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله: “وآل إبراهيم وآل عمران” قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد صلى الله عليه وسلم[14].

والذي ينظر فيما تقدم يوقن أن أنبياء الله تعالى – ومنهم لوط – عليه السلام – قد اصطفاهم الله على البشر لأداء مهمة محددة ألا وهي مهمة هداية البشر إلى الله تعالى وهذا يستوجب أن يكونوا معصومين من كل زلل وخطأ، وإلا لما تحققت الغاية من مبعثهم وتلك نعمة أنعم الله تعالى بها على البشرية جمعاء، فكون الأنبياء والمرسلين نموذجا بشريا يحتذى به ويقتفي أثره[15] – لأنهم المعصومون – يضيء الطريق للمهتدين، ويقيم الحجة على الضالين.

فكم من أناس في هذه الحياة يبحثون عن نموذج يقتفى أثره وتتلمس خطواته فلا يجدون إلا أناسا لا يمكن بحال من الأحوال أن يكونوا أسوة في الخير، أو قدوة في الصلاح، فيصيبهم من الهم والكرب نصيب عظيم، وتلك نفوس الأسوياء، ونحسب أن الله – سبحانه وتعالى – رأفة[16] بهؤلاء – جعل هناك أنبياء ومرسلين ودعاة إلى الخير من أجل الاقتداء بهم والتأسي بأخلاقهم.

الخلاصة:

إن الأنبياء هم أعظم الناس إيمانا بالله وأقواهم يقينا على الله وأشدهم توكلا عليه، ولا يقدح في عصمة نبي منهم أن يطلب النصرة على الحق، أو دفع المنكر بل إن ذلك واجب شرعي.

لا حرج ولا جناح على نبي الله لوطـ عليه السلام – في طلب قوة من الناس لدفع الباطل وإحقاق الحق فقد قال الله تعالى: )ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض( (البقرة: 251) فهذا ما فعله لوط – عليه السلام – ولم يزد عليه.

أما قوله تعالى حكاية عن لوط: )لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( (هود) فكان اعتذارا من لوط – عليه السلام – أمام أضيافه، أما باطنه فهو مع الله دائم الالتجاء إليه وهذا ما يوضحه قول رسولنا – صلى الله عليه وسلم – في الحديث المتقدم: «يرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن رشيد».

 

(*)عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. دراسات في العقيدة الإسلامية، د. محمد أحمد الخطيب، د. محمد عوض الهزايمة، دار عمار، الأردن، ط5، 1997م، ص21.

[2]. في الطريق إلى الله: التوكل، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص17.

[3]. في الطريق إلى الله: التوكل، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص18.

[4]. الزلل: الخطأ.

[5]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص150.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل: ) ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) ( (الحجر) (3192)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام (6291).

[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص301.

[8]. مناوئيه: أعداؤه.

[9]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص302.

[10]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص147.

[11]. متن الماء: ظهره.

[12]. إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود محمد بن محمود العمادي، دار إحياء التراث، بيروت، د. ت، ج1، ص229.

[13]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص148.

[14]. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ج2، ص180.

[15]. يقتفي أثره: يتبعه ويقتدي به.

[16]. الرأفة: الرحمة.

المصدر

الزعم أن إبراهيم – عليه السلام – شك في قدرة الله على إحياء الموتى

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين وقوع الشك في قلب سيدنا إبراهيم – عليه السلام – حين سأل ربه عن كيفية إحياء الموتى؛ ليطمئن قلبه، وذلك في قوله تعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي( (البقرة: 260). ويتساءلون: كيف يصدر ذلك عن نبي من أنبياء الله؟ قاصدين بذلك النيل من عصمة إبراهيم عليه السلام.

وجه إبطال الشبهة:

إبراهيم – عليه السلام – لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولكن سأل عن الكيفية فقط؛ ليصل بها من علم اليقين إلى عين اليقين.

التفصيل:

إبراهيم – عليه السلام – لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، ولكن سأل عن الكيفية فقط؛ ليصل بها من علم اليقين إلى عين اليقين:

لقد عصم الله – سبحانه وتعالى – أنبياءه ورسله من كيد الشيطان ووساوسه التي قد تنال من عمق إيمانهم ودرجة قربهم من الله – سبحانه وتعالى – ومن أشهرهم سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء – عليه السلام – كما أخبر القرآن الكريم: )إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121)( (النحل).

وقوله “أمة “أي قدوة إماما مهتديا داعيا إلى الخير، يقتدى به: )قانتا لله( أي خاشعا له في جميع حالاته وسكناته )حنيفا( أي مخلصا على بصيرة )شاكرا لأنعمه( (النحل: ١٢١) أي قائما بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله؛ فكيف بمن هذا حاله، أيشك في قدرة المولى – عز وجل – على إحياء الموتى؟!!

وكيف يشك في هذا الأمر، وقد حاج طاغية عصره في هذه القضية، قال تعالى: )إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258)( (البقرة)، ومن ثم فكيف يسوغ لمن حاج خصمه بقضية الإحياء والموت، أن يشك فيها بعد ذلك؟! ألا يدل ذلك على جهل هؤلاء المدعين وكذبهم على أنبياء الله تعالى؟! إن إبراهيم – عليه السلام – لا يتكلم في الإحياء، وإنما كان شكه في أن الله سبحانه قد لا يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى، ولنضرب مثالا على ذلك، ولله المثل الأعلى. إن الواحد منا يقول للمهندس: كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلى محدث وهو البيت الذي تم بناؤه. فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة الإيمان؟ لا. إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات مقصورة ومتخيلة[1].

واستنادا إلى ما سبق فقد كان سؤال إبراهيم – عليه السلام – عن كيفية إحياء الموتى، وكيفية جمع الأجزاء لا عن الإحياء نفسه، فإنه ثابت ومقرر، ويدل على ذلك وقوع السؤال بكيف التي تسأل عن الهيئة والكيفية، والإنسان يؤمن بما لا يعرف كيفيته، وفي فطرته الرغبة في استكناه أشياء هو مؤمن بها، ولكنه يود لو يقف على أسرارها وخفاياها، وطلب الخليل – عليه السلام – رؤية كيفية إحياء الموتى من هذا القبيل، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل الإيمان بالبعث، الذي عرفه بالوحي والبرهان، دون المشاهدة والعيان[2].

فالمعرفة التفصيلية أقوى وأرسخ من المعرفة الإيمانية المفضية إلى[3] التردد بين الكيفيات المتعددة مع الطمأنينة إلى القدرة على الإحياء.

يقول الشيخ محمد عبده في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: )أولم تؤمن( – وهو أعلم بإيمانه ويقينه – إرشاد إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، ويكتفي به في هذا المقام، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه، كأنه يقول: إن الإيمان بهذا السر الإلهي، والتسليم فيه لخبر الوحي، ودلالته، وامتثاله هو منتهى ما يطلب من البشر، فلو كان وراء الإيمان والتسليم مطلع لناظر لبينه الله تعالى لك، وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن – عليه السلام – تأديب للمؤمنين كافة، ومنع لهم عن التفكر في كيفية التكوين وإشغال العقول بما استأثر الله تعالى به، فيما لا يليق بهم البحث عنه[4].

إذن، فالسؤال ليكف الفكر عن تخيل كيفيات الإحياء؛ إذ تتعين عنده كيفية إحياء الموتى [5].

ذلك، وقد وردت في الآية أقوال عديدة، تنفي الشك عن إبراهيم – عليه السلام – وأول هذه الأقوال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى…»[6].

والحديث ينفي الشك عن إبراهيم – عليه السلام ـ؛ حيث إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سمع من يقول: إن إبراهيم – عليه السلام – شك، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – لم يشك؛ فرد عليهم بهذا الحديث، أي: إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى ألا يشك.

فالسؤال كان لزيادة الإيمان واليقين؛ لأن درجاته تتفاوت بالمعاينة، [7] ينتقل الإنسان فيه من علم اليقين إلى عين اليقين، والعلم ينقسم إلى ضروري – وهو الحاصل من غير استدلال لظهوره – ونظري – يتوقف على نظر واستدلال لكونه غير بدهي[8]، والشك ممتنع في الضروري، ومحتمل في النظري، وقد أراد الخليل أن ينتقل من النظري إلى الأعلى منه وهو الضروري. وليس معنى هذا أن إبراهيم – عليه السلام – وقع منه شك في علمه النظري، بل إن النظري من حيث هو يجوز جريان الشك عليه، وفرق بين الشك وجوازه[9].

وبهذا يتبين لنا أن سؤال إبراهيم – عليه السلام – عن كيفية إحياء الموتى كان من أجل أن ينتقل من علم اليقين، الذي يؤمن به إيمانا لا شك فيه ولا تردد إلى عين اليقين الذي يزيد القلب اطمئنانا بما يراه ويشاهده.

الخلاصة:

لم يشك سيدنا إبراهيم – عليه السلام – في قدرة الله – عز وجل – على إحياء الموتى، ولكنه أراد أن يتحول من علم اليقين الذي أوحاه الله – عز وجل – إليه إلى عين اليقين وهو ما تراه العين وتشاهده، حتى يزداد القلب اطمئنانا على ما به من إيمان، وكيف يشك إبراهيم – عليه السلام – في إحياء الله الموتى، وقد حاج الملك وبرهن له على قدرة الله تبارك وتعالى – على كل شيء ومنها إحياء الموتى، فكيف يحاجج الملك بما يشك فيه؟! إن هذا إن دل فإنما يدل على كذبهم في دعواهم وافترائهم على أنبياء الله ورسله، الذين عصمهم الله سبحانه وتعالى في عقولهم وقلوبهم وأجسامهم.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج2، ص1139، 1140 بتصرف.

[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص282.

[3]. المفضية إلى: المؤدية إلى.

[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج3، ص53، 54.

[5]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص283.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله عز وجل: ) ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) ( (الحجر) (3192)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام (6291).

[7]. المعاينة: رؤية بالعين لا شك فيها.

[8]. البدهي: الطبيعي.

[9]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص281، 282.

المصدر

الزعم أن آدم وحواء – عليهما السلام – قد أشركا بالله تعالى

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن آدم – عليه السلام – قد أشرك بالله تعالى هو وزوجه حواء – عليهما السلام – حينما جاءهما الشيطان ونصحهما أن يسميا ولدهما عبد الحارث(1)؛ كي يحيا، وكان لا يعيش لهما ولد.. ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (189) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)( (الأعراف)، كما يستدلون بحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه: «لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسموه عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره»([2]). ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في عصمة آدم عليه السلام.

وجه إبطال الشبهة:

اتفق العلماء على تنزيه آدم – عليه السلام – وعصمته من الشرك واختلفوا في قبول الحديث وتأويل الآية على مذهبين:

قبول الحديث والآية على ظاهرهما في قصة آدم وحواء – عليهما السلام – والقول أن الشرك لم يكن شركا في العبادة بل شركا في التسمية أو الطاعة.

تضعيف الحديث وتأويل الآية في غير آدم وحواء، وإنما للجنس البشري عموما, فالشرك لم يقع منهما ولكن كان في ذريتهما من بعدهما.

التفصيل:

مذاهب العلماء في تفسير الآية والحديث:

اتفق العلماء على تنزيه مقام آدم – عليه السلام – من الشرك، وأن ذلك لم يقع منه، ولا من الأنبياء قط، وقد عدوا هذه الآية والحديث الوارد في تفسيرها من مشكلات التفسير، ولهم في تأويلها أقوال خلاصتها راجعة إلى مذهبين:

الأول: مذهب قبول الحديث، والآية على ظاهرهما في قصة آدم وحواء:

وهذا رأي الجمهور من المفسرين، حيث ذهبوا إلى أن الآية معني بها آدم وحواء – رضي الله عنهم جميعا – حيث سميا ابنهما عبد الحارث. وروي ذلك عن: أبي بن كعب، وسمرة بن جندب، وابن عباس. وهو اختيار جمع من المفسرين كما سيأتي ذكرهم. واختلف هؤلاء في معنى الشرك المضاف إلى آدم وحواء – عليهما السلام – على أقوال:

القول الأول: أنه كان شركا في التسمية، ولم يكن شركا في العبادة كما روي عن قتادة، والسدي، واختاره الطبري، والبغوي، والألوسي… وغيرهم([3]).

قال البغوي: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، ولم يكن هذا إشراكا في العبادة، ولا أن الحارث ربهما؛ فإن آدم – عليه السلام – كان نبيا معصوما من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من يراد به أنه معبود هذا، كالرجل إذا نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف، على وجه الخضوع، لا على وجه أن الضيف ربه، ويقول للغير أنا عبدك، وقال يوسف – عليه السلام – لعزيز مصر:)) وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23) (يوسف) ([4])، ولم يرد به أنه معبوده، كذلك هذا.

القول الثاني: أنه كان شركا في الطاعة، ولم يكن شركا في العبادة. وهذا هو المروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وقتادة.

القول الثالث: أن أي إشراك وقع من حواء لا من آدم – عليه السلام – ولم يشرك آدم قط، وأما قوله: “جعلا له شركاء فيما آتاهما” بصيغة المثنى فلا ينافي ذلك؛ لأنه قد يسند فعل الواحد إلى الاثنين، بل إلى جماعة، وهو شائع في كلام العرب وهذا قول القنوجي([5]).

واعترض عليه من قال: بأن الله تعالى قال: “جعلا” حيث نسب الجعل إليهما، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، وبأن آدم – عليه السلام – قد أقر حواء على ذلك، وبأنه في حديث سمرة – رضي الله عنه – التصريح بأنهما سمياه بذلك معا([6]).

أدلة هذا المذهب:

استدل القائلون بأن الآية معني بها آدم وحواء بأدلة منها:

حديث سمرة رضي الله عنه، وقد صرح بعضهم بصحته، والآخر سكت بما يشعر بإقراره بصحة الحديث.

أن هذا المذهب هو المروي عن سمرة، وأبي بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهم، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فدل على أن للقصة أصلا؛ فيكون لها حكم الرفع.

الاعتراض على هذا المذهب:

اعترض على هذا المذهب بقوله تعالى في آخر الآية:)) فتعالى الله عما يشركون (190) (الأعراف) بصيغة الجمع، فلو كان المراد آدم وحواء عليهما السلام لقال: يشركان، بصيغة التثنية وفي هذا دلالة واضحة بأن الآية معني بها الذرية لا آدم وحواء – عليهما السلام -.

ردهم على الاعتراض:

وقد أجابوا بأن آخر الآية معني بها مشركو العرب من عبدة الأوثان، وأن الخبر عن آدم وحواء – عليهما السلام – قد انقضى عند قوله: )جعلا له شركاء( وهذا رأى الطبرى، والسيوطى وغيرهم([7]).

المذهب الثاني: مذهب تضعيف الحديث، وتأويل الآية في غير آدم وحواء.

حيث ذهب آخرون إلى تضعيف حديث سمرة رضي الله عنه، وأن الشرك المذكور في الآية معني به غير آدم وحواء عليهما السلام، واختلفوا في المعني به على أقوال:

القول الأول: أن الشرك نسب إلى آدم، وحواء ظاهرا، والمعني به أولادهما، كاليهود، والنصارى، والمشركين. وآدم وحواء – عليهما السلام – بريئان من الشرك، والآية فيها انتقال من ذكر النوع إلى الجنس؛ فإن أول الكلام في آدم وحواء عليهما السلام، ثم انتقل الكلام إلى الجنس من أولادهما.

وقد اشتهر هذا القول عن الحسن البصري – رحمه الله – وروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في إحدى الروايات عنه([8]).

قال الحسن البصري في تفسير الآية: “كان هذا في بعض أهل الملل([9]) ولم يكن بآدم”، وعنه قال: “عني بهذا ذرية آدم من أشرك منهم بعده”. وعنه قال: “هم اليهود، والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا، ونصروا”.

واختار هذا القول جمع من المفسرين منهم: النسفي، والقرطبي، وابن القيم، وابن كثير، والسعدي،… إلخ.

قال الزمخشري: في قوله عزوجل: )جعلا له شركاء(: أي جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما، أي آتى أولادهما.

وآدم وحواء عليهما السلام بريئان من الشرك، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله: تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، فكان عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم([10]).

وقال الحافظ ابن كثير: وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري – رحمه الله – في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء – عليهما السلام -، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته، فذكر آدم وحواء – عليهما السلام – أولا كالتوطئة ([11]) لما بعدهما من الوالدين وهي كالاستطراد ([12]) من ذكر الشخص إلى الجنس، كما في قوله عزوجل: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)( (المؤمنون)، وقوله عزوجل: )ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5)( (الملك).

ومعلوم أن المصابيح، وهي النجوم التي زينت بها السماء، ليست هي التي يرمى بها، وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها، ولهذا نظائر في القرآن، والله أعلم”.

الاعتراض على هذا القول:

اعترض على هذا القول بأن فيه تشتيتا للضمائر، والأصل اتساق الضمائر، وعودها لمذكور واحد.

أي أن الضمائر في الآية للمثنى فكيف يقصد بها الجمع.

القول الثاني: أن الآية معني بها المشركون من بني آدم عموما، وليس فيها تعرض لآدم وحواء – عليهما السلام – بوجه من الوجوه. وهذا اختيار: ابن حزم، والرازي، والقفال، وابن عثيمين… وغيرهم.

قال القفال: “ذكر الله تعالى هذه القصة على سبيل ضرب المثل، وبيان أن هذه الحالة صورة من حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام، كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل؛ دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولدا صالحا سويا لنكونن من الشاكرين لآلائك([13])؛ فلما آتاهما الله ولدا صالحا سويا جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، ثم قال تعالى: “فتعالى الله عما يشركون”: أي تنزه الله عن ذلك الشرك”([14]).

واعترض على هذا القول:

بأن قوله عزوجل هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها (الأعراف:189) لا يصح حمله على غير آدم وحواء – عليهما السلام؛ فهي ضمائر تثنية عائدة على المذكورة في أول الكلام وهي آدم وحواء.

وبقوله: “دعوا الله ربهما” فإن كل مولود يولد من الجنسين لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء([15]). أي أن الزوجين وخاصة الكفار لا يكون منهما هذا الدعاء قبل وضع الولد.

القول الثالث: أن المشركين كانوا يقولون: إن آدم – عليه السلام – كان يعبد الأصنام ويرجع إليها في طلب الخير ودفع الشر، فذكر تعالى قصة آدم وحواء – عليهما السلام – وحكى عنهما أنهما قالا:)لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين( (الأعراف: 189) أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: )فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)( (الأعراف) فقوله: “جعلا له شركاء” ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار، والتبعيد، والتقرير، والمعنى: أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: “فتعالى الله عما يشركون” أي: تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام.

ذكر هذا التأويل: الفخر الرازي في تفسيره([16]).

ويرده أن الآية وردت بصيغة الخبر، وحملها على معنى الاستفهام يفتقر إلى دليل، وليس ثمة دليل.

القول الرابع: أن الخطاب لقريش، الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي.

والمراد من قوله:)) هو الذي خلقكم من نفس واحدة أي قصي وجعل من جنسها زوجها، عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في “يشركون” لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. ذكر هذا التأويل: الزمخشري، والبيضاوي.

الاعتراض على هذا القول:                   

قال ابن جزي: وهذا القول بعيد لوجهين:

أحدهما: أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش، والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم.

والآخر: أن قوله: “وجعل منها زوجها” فإن هذا يصح في حواء؛ لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي.

القول الخامس: أن الضمير في قوله: “جعلا” راجع إلى الولد الصالح، والمعنى جعل ذلك الولد الصالح – الذي رزقهما الله إياه – جعل لله شركاء، وإنما قال: “جعلا” لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى. ذكره ابن الجوزي، والجصاص([17]).

الترجيح([18]):

الراجح لدينا – والله تعالى أعلى وأعلم – أن الآية ليست في آدم وحواء – عليهما السلام -، وإنما هي خطاب للمشركين من قريش وغيرهم، والمقصود بها ضرب المثل، وأن هذه حالة المشركين، فهو سبحانه يذكر أنه خلق كل واحد منهم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها، ولما كان من طبيعة البشر حب الولد ذكر الله تعالى أن هذين الزوجين كانا حريصين على أن يرزقا بولد صالح لينتفعا به، وأنهما قد عاهدا الله لإن آتاهما صالحا ليكونن من الشاكرين، فلما آتاهما صالحا جعلا لله شركاء فيما آتاهما، حيث نسبا هذه النعمة لغير الله، وعبدا أولادهما لغير الله، ثم أخبر سبحانه أنه بريء مما يشرك به هؤلاء، وغيرهم؛ فقال: )فتعالى الله عما يشركون (190)( (الأعراف).

والآية مراد بها ذكر الجنس لا النوع؛ فقوله عزوجل: )خلقكم من نفس واحدة( أي من جنس واحد، وقوله: “وجعل منها زوجها” أي وجعل من هذا الجنس زوجة هي على شاكلته، ولم يجعلها من جنس آخر، ولفظ النفس قد يطلق ويراد به الجنس كما في قوله عزوجل:)) لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164) (آل عمران)، أي من جنسهم.

أدلة هذا المذهب:

الدليل الأول: قوله تعالى في آخر الآية: )فتعالى الله عما يشركون (190)( (الأعراف)، وهذا يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة، ولو كان المراد آدم وحواء – عليهما السلام -، لعبر عنهما بصيغة التثنية.

الدليل الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) (الأعراف)، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وليس المراد بها آدم وحواء – عليهما السلام -.

الدليل الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركون “من” لا يخلق شيئا ولم يقل “ما”؛ لأن العاقل إنما يذكر بصيغة “من” لا بصيغة “ما”.

  الدليل الرابع: أن هذا القول فيه تنزيه لمقام آدم – عليه السلام – من الشرك والقول الذي فيه تنزيه وإجلال لمقام الأنبياء، مقدم في التفسير على القول الذي فيه قدح بعصمتهم، وحط من منزلتهم.

  الدليل الخامس: أن المروي عن سمرة – رضي الله عنه – في تفسير الآية لم يثبت بسند صحيح، وعليه فلا يصح حمل الآية على أمور مغيبة لم يثبت فيها دليل من كتاب أو سنة.

الدليل السادس: أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء – عليهما السلام -، لكان حالهما إما أن يتوبا من ذلك الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا ماتا عليه، كان في هذا القول فرية عظيمة؛ لأنه لا يجوز موت أحد من الأنبياء على الشرك.

وإن كانا قد تابا من الشرك، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء – عليهما السلام – وقد تابا، ثم لا يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم عنها، كما في قصة آدم نفسه – عليه السلام – حين أكل من الشجرة هو وزوجه – عليهما السلام – وتابا عن ذلك.

الدليل السابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم – عليه السلام – يطلبون منه الشفاعة فيعتذر بأكله من الشجرة التي عصى الله تعالى بالأكل منها في الجنة، فلو كان وقع منه الشرك، لكان اعتذاره منه أقوى وأولى وأحرى.

الدليل الثامن: أن الله تعالى أسند فعل الذرية إلى آدم وحواء – عليهما السلام ـ؛ لأنهما أصل لذريتهما، كما في قوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11) (الأعراف)، أي بتصويرنا لأبيكم آدم عليه السلام؛ لأنه أصلكم، بدليل قوله بعده: “ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم”.

الدليل التاسع: أن الله تعالى قال في هذه الآية )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)( (النساء:1)، وآية النساء معني بها آدم، وحواء – عليهما السلام – باتفاق، وعبر بقوله: )وخلق منها زوجها(؛ لأن حواء مخلوقة من نفس آدمعليه السلام، وأما في آية الأعراف فقال: )وجعل منها زوجها( (الأعراف: 189) لأن المراد ذكر الجنس، لا ذكر النوع وهو آدمعليه السلام، والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق هو ابتداء الشيء من غير مثال سابق، وأما الجعل فهو إيجاد شيء وتكوينه منها([19])، وهذا هو حال كل فرد من بني آدم؛ فإنهم يتناسلون ويتوالدون من بعضهم البعض، وأما حواء فإنها خلقت ابتداء من آدم – عليه السلام – من غير أم ولا أب.

وقد وردت عدة آيات تدل على أنه إذا ورد لفظ “جعل” فالمراد به الجنس، منها: قوله عزوجل:)والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون (72)( (النحل) ([20])، وقال عزوجل: )خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر) ([21])، وقال عزوجل )فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).

الدليل العاشر: ومما يؤكد أن الآية معني بها المشركون على وجه العموم: أنه لم يصرح بذكر آدم وحواء – عليهما السلام – في الآية، والمتأمل في قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم يلاحظ التصريح بذكر أسمائهم، ومن هؤلاء آدم عليه السلام؛ فإنه إذا ذكرت قصته يذكر باسمه الصريح غالبا.

الدليل الحادي عشر: ويدل على أن الآية في المشركين عامة: الاستطراد في الآيات التي بعد هذه الآية في وصف حال مشركي العرب، وهي صريحة بأنهم هم المرادون بهذا الشرك، وليس آدم وحواء – عليهما السلام -.

قال عزوجل)أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون (193) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194)( (الأعراف).

الدليل الثاني عشر: أنه لم يثبت دليل على أن الآية معنى بها آدم وحواء – عليهما السلام – إلا ما روي من حديث سمرة رضي الله عنه، وهو ضعيف – كما تقدم – وما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في الآية يعد من الإسرائيليات ([22]) الملفقة التي أخذت عن أهل الكتاب، وإنما التبس على كثير من المفسرين الأمر، وظنوا أنها في آدم وحواء – عليهما السلام – بسبب هذه الروايات، وهذه آفة من آفات الإسرائيليات والتي تعتبر من الدخيل السيئ في التفسير([23]).

وفي هذا الصدد يقول الأستاذ سيد قطب: “إن بعض الروايات في التفسير تذكر هذه القصة على أنها قصة حقيقية وقعت لآدم وحواء – عليهما السلام – إذ كان أبناؤهما يولدون مشوهين، فجاء إليهما الشيطان فأغرى حواء أن تسمي ما في بطنها “عبد الحارث”… والحارث اسم لإبليس؛ ليولد صحيحا ويعيش؛ ففعلت وأغرت آدم – عليه السلام – معها. وظاهر ما في هذه الرواية من طابع إسرائيلي، ذلك أن التصور الإسرائليي المسيحي – كما حرفوا ديانتهم – هو الذي يلقي عبء الغواية على حواء وهو مخالف تماما للتصور الإسلامي الصحيح… ولا حاجة بنا إلى هذه الإسرائيليات لتفسير هذا النص القرآني… فهو يصور مدارج الانحراف في النفس البشرية… ولقد كان المشركون على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقبله، ينذرون بعض أبنائهم للآلهة أو لخدمة معابد الآلهة تقربا وزلفى([24]) إلى الله! ومع توجههم في أول الأمر لله، فإنهم بعد دحرجة قمة التوحيد إلى درك الوثنية كانوا ينذرون أبناءهم لهذه الآلهة لتعيش وتصبح وتوقى المخاطر”([25]).

الخلاصة:

اتفق العلماء على تنزيه مقام آدم – عليه السلام – من الشرك وأن ذلك لم يقع منه ولا من الأنبياء قط، وقد عدوا هذه الآية والحديث الوارد في التفسير عند بعضهم من مشكلات التفسير، ولهم في تأويلها أقوال خلاصتها راجعة إلى مذهبين:

الأول: مذهب قبول الحديث والآية على ظاهرهما في قصة آدم وحواء – عليهما السلام – مع القول الشرك المضاف إليهما هنا ليس شركا في العبادة، وإنما هو شرك في التسمية أو الطاعة.

الثاني: مذهب تضعيف الحديث وتأويل الآية في غير آدم وحواء – عليهما السلام -، وإنما هي في أولادهما والمعني بها المشركون من بني آدم عموما وليس فيها تعرض لآدم وحواء – عليهما السلام – بوجه من الوجوه، وهذا هو الراجح.

كلا المذهبين يبرئ آدم – عليه السلام – من الشرك؛ لأنه لا يصح أن يقع من نبي من أنبياء الله، فهم معصومون بعصمة الله من ذلك وغيره، مما لا يليق بمقام الأنبياء.

 

(*) مكتبة شبكة التفسير، والدراسات القرآنية. www.tafsir.com

الحارث: هو اسم إبليس.

[2]. ضعيف: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم (20129)، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة الأعراف (3077)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (342).

[3]. مكتبة شبكة التفسير والدراسات القرآنية. www.tafsir.com. وانظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص338.

[4]. هيت لك: هلم وأقبل علي.

[5]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الفكر، بيروت، 1971م، 8/ 367.

[6]. روح المعاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، 9/ 189.

[7]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، دار إحياء العلوم، بيروت، 1987م، 1/ 281.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص338، 339.

[9]. الملل: جمع ملة، وهي الشريعة والدين، وهي اسم لما شرع الله لعباده بواسطة أنبيائه؛ ليتوصلوا به إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وتطلق كذلك على الطائفة الدينية، وهي المجموعة المتحدة بعقيدة مشتركة، وتحت اسم واحد، قال تعالى:) إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ( (الكهف: ٢٠).

[10]. الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، 2/ 180.

[11]. التوطئة: التمهيد.

[12]. الاستطراد: الخروج.

[13]. الآلاء: جمع الألى أو الإلى، أي النعمة.

[14]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، 15/ 71. محاسن التأويل، القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ص240.

[15]. فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، 2/ 401.

[16]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، 15/ 17.

[17]. أحكام القرآن، الجصاص، دار إحياء التراث، بيروت، د. ت، 3/ 49. زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ، 3/ 231.

[18]. التحقيق فيما نسب إلى آدم وحواء، أحمد بن عبد العزيز القصير، شبكة التفسير والدراسات القرآنية، في تفسير سورة الأعراف، آية 190: ) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء (.

[19]. انظر تفاسير: الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م. تفسير النسفي، النسفي،دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، د. ت، عند تفسير آية الأعراف التي نحن بصددها.

[20]. حفدة: حفدة الرجل: أولاد أولاده.

[21]. فأنى تصرفون: عجبا! كيف تصرفون عبادتكم لغيره؟

[22]. الإسرائيليات: الأخبار المنقولة عن اليهود في كتب التفسير أو التاريخ وغيرهما.

[23]. للمزيد انظر: التحقيق فيما نسب إلى آدم وحواء، عبد الرحمن بن عبد العزيز القصير، شبكة التفسير والدراسات القرآنية، في تفسير آية 190 من سورة الأعراف.

[24]. الزلفى: القربى.

[25]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج3، ص1412.

المصدر

التشكيك في مادة خلق المسيح عليه السلام

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المغرضين في حديث القرآن عن مادة خلق عيسى – عليه السلام – ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب( (آل عمران: 59)، وقوله سبحانه وتعالى: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح( (آل عمران: 45)، وقوله: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171)، ويتساءلون: هل خلق المسيح من تراب، أو هو كلمة الله وروحه؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  كل مخلوق خلق بكلمة الله )كن(، فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فهي أمر الله كما أخبر سبحانه وتعالى )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)( (يس)، ولا يتنافى ذلك مع مادة أصل خلق عيسى – عليه السلام – التي هي التراب.

2)  المراد بالآية: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( أن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل – عليه السلام – إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فعيسى قد نشأ عن الكلمة التي قالها له “كن” فكان.

التفصيل:

أولا. كل مخلوق خلق بكلمة “كن” فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها:

يقول الله سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران)، ولقد أثارت ولادة عيسى ابن مريم – عليه السلام – من غير أب شبهات عند النصارى جعلتهم يقولون: إنه ابن الله، تعالى الله عما يشركون.

فإن ولادة عيسى – عليه السلام – من أم بلا أب تعد معجزة دالة على طلاقة قدرة الله التي لا تحدها حدود، ولا يقف أمامها مانع ليظهر للناس أنه – عز وجل – على كل شيء قدير، وقد أوضحت مريم – عليها السلام – هذه الحقيقة بقولها لابن عمها: فمن خلق الإنسان الأول؟ ومعنى هذا أن الله سبحانه قد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وكانت مادة خلقه الأولى التراب: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71)( (ص)، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، فقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها( (النساء: 1)، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر البشر من ذكر وأنثى، وفي ذلك يقول: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)(.

وهذا دليل على أن الله – عز وجل – لا يعجزه شيء، وأن قانون الأسباب والمسببات من وضعه – سبحانه وتعالى – يجريه كيف شاء ومتى شاء، ويلغيه كذلك وفق مشيئته وإرادته، وقد أثارت هذه الشبهة وفد نصارى نجران عندما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من أبو عيسى؟ فأنزل الله هذه الآية: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)(.

وواضح أن الآية قد ردت عليهم بأمر قد سلموا له سابقا، بأنه لو لزم من وجود عيسى من أم بلا أب أن يكون ابنا لله، للزم أن يكون آدم ابنا لله بطريق الأولى، فإنه وجد من غير أم ولا أب، باعتراف النصارى!! ثم إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟! وهذا الدليل ملزم لهم، إذ لم يقولوا بألوهية آدم ولا بنوته لله – تعالى الله عما يفترون – وبهذا الإلزام قطع القرآن الجدال بعد إقامة الحجة[1].

وبذلك يتضح أن كل مخلوق خلق بكلمة الله )كن(، فآدم – عليه السلام – خلق بها، وعيسى – عليه السلام – خلق بها، فأمر الله كما أخبر سبحانه وتعالى: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)( (يس).

فلا يعقل أن يدعي أحد عدم اتساق هذه الآية مع حال عيسى ابن مريم، فقد شاء الله وجوده، فأرسل الملك ليبشر أمه، فلما استعظمت أن يكون لها ولد ولم يمسسها بشر قال لها: )قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)( (مريم).

وقد قال صاحب “الظلال” في تعليقه على هذه الآية: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران) ما يلي: “إن ولادة عيسى لعجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر، ولكن أي غرابة فيها حين تقاس بخلق آدم أبي البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى بسبب مولده، ويصوغون حوله الأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب، وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه الكائن الإنساني، دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى، ودون أن يقولوا عن آدم: إن له طبيعة لاهوتية، على حين أن العنصر الذي صار به آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب، عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك، وإن هي إلا كلمة “كن” تنشئ ما يراد له النشأة فيكون”[2].

ويعلق د. عبد المنعم فؤاد على ذلك قائلا: وهنا نلمس أن القرآن الكريم تحدث عن شيء لدى العقل معلوم، ولم يبدأ ببرهانه من مجهول، وهذا ما يرضاه المنطق السليم. وإذا كان الله – عز وجل – أوجد هذه الأكوان الرهيبة بعجائبها وعظائمها من العدم؛ أي: من لا شيء؛ فإنه أوجد آدم من شيء وهو التراب، والتراب لا روح فيه فهو جماد، ومع ذلك خلق منه آدم ونفخ فيه الروح، وإذا أوجد آدم من جماد لا حياة فيه؛ فإنه أوجد عيسى من امرأة ذات حياة وروح، وهي مريم – عليهما السلام – فأمر عيسى أمر سهل إدراكه على العقل البشري إذا تطرق إلى خلق الأشياء في الكون، ومن ثم لا يصح على أصحاب العقول النيرة أن يذهبوا بعيسى بسبب ميلاده إلى مرتبة الألوهية، ولا يصح أن يكون ميلاده هو مفتاح بنوته لله تعالى، بل هو مفتاح التفكر في كمال قدرة الله عز وجل.

ويقول أبو عبيدة الخزرجي: أليس من الواضح عند ذوي العقول أنه لا يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم – عليه السلام – أن يكون ابنا لله؟ ولما لم يستبعد خلق آدم من التراب، لم يستبعد خلق عيسى – عليه السلام – من الدم الذي كان يجتمع في رحم أمه.

نعم إن الذي خلق الرحم، وجعل الدم يسير فيه هو الذي يجعل الوليد يتحرك في أحشائه، وينفخ فيه من روحه، حتى وإن خالف ذلك مألوف البشر؛ لأن قدرته تفوق عقولهم، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يعلن عن قدرته متى شاء، وكيف شاء، ولمن شاء، ويوم أن تنتبه العقول أمام حدث غريب – كميلاد المسيح – تظهر نداءات الله للمؤمنين قائلة: )لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء( (الشورى: ٤٩).

وعن المثلية بين آدم والمسيح، يقول ابن تيمية: إن الله – سبحانه وتعالى – خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال سبحانه وتعالى: )وخلق منها زوجها( وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم أعجب من هذا وذاك، وهو أصل خلق حواء، فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلقه.

وهذا التشابه بين آدم والمسيح الذي أثاره القرآن يمكن حصره في أمرين:

أولهما: النفخ من روح الحق، وهذا كان لآدم عليه السلام: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72)( (ص).

وثانيهما: في كلمة )كن(. وهذان الأمران نجدهما في المسيح، فهو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم وهي “كن” وروح منه، وهي النفخة عن طريق الملاك، وهذا قياس واضح على مثلية الخلق بينهما[3].

والمماثلة بين المشبه والمشبه به تكون في بعض الأوصاف، وليس بلازم أن تكون في كل الأوصاف، كمن يشبه الجندي بالأسد في الشجاعة فقط، والذي يفهم من الجملتين من وجه شبه هو أن عيسى شبه بآدم في أنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران؛ ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم، وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه: )خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران).

ثانيا. المراد بالكلمة في قوله: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته( (النساء: 171) أن عيسى – عليه السلام – قد نشأ عن الكلمة التي قالها الله – عز وجل – له “كن” فكان بإذنه تعالى:

وإذا عدنا إلى الآيات التي تتحدث عن كون عيسى – عليه السلام – هو كلمة الله مثل: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم( (آل عمران: ٤٥) نجد أنه من الثابت عقلا أن الله قديم، لا يجوز عليه الحدوث، كما ثبت أنه – سبحانه وتعالى – واحد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فذاته ليست مركبة من أجزاء كما يزعم النصارى، ولا تقبل الانقسام. وإن القول بأن الكلمة جزء من الذات يوصل إلى القول بالتركيب، وهو من صفات الحوادث، وبناء على ذلك فلا يجوز تفسير أن عيسى كلمة الله بمعنى أنه جزء من ذات الله، وأن الله خلق عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل – عليه السلام – إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى – عليه السلام – ناشئ عن الكلمة التي قالها له )كن( فكان. وقال شاذ بن يحيى: “ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى”[4].

وقد تكون الكلمة بمعنى: الآية، وفي هذا الإطار يكون معنى أن “عيسى كلمة الله” هو آية دالة على قدرة الله، ويؤيد هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا ابن مريم وأمه آية( (المؤمنون:50)، وقوله: )ولنجعله آية للناس( (مريم: ٢١)[5].

وعلى ضوء هذا الفهم الصحيح لهذه الآيات يتضح لنا، ولكل ذي عقل وبصيرة أنه لا تناقض بين الآيات؛ فهي تتحدث عن نفاذ كلمة الله تعالى نفاذا بلا سبب مألوف، ناسبة إطلاق الكلمة على عيسى إطلاقا غير مألوف، وفي النهاية كل الخلق أثر لنفاذ كلمة الله تعالى.

الخلاصة:

كل مخلوق خلق بكلمة الله )كن( فآدم خلق بها، وعيسى خلق بها، فقال سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران). فآدم خلق من طين جماد بلا روح، وعيسى خلق من مريم، وفيها روح؛ فلذلك شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح؛ فلا عجب من خلق المسيح بهذه الطريقة.

المراد بالآية: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171) أن الله خلق عيسى – عليه السلام – بالكلمة التي أرسل بها جبريل – عليه السلام – إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى – عليه السلام – ناشئ عن الكلمة )كن( فكان.

ومن سياق الآيات ومعانيها الصحيحة والمراد بها يتضح جليا أنه لا تناقض ولا تعارض بين الآيات، بل هناك تشابه ومماثلة بين خلق آدم – عليه السلام – وعيسى – عليه السلام – فكلاهما خلق بكلمة )كن( الدالة على قدرة الله تعالى.

 

(*) أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة.

[1]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص330، 331.

[2]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص404، 405 بتصرف.

[3]. المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها، د. عبد المنعم فؤاد، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1422 هـ/ 2002م، ص59، 60.

[4]. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 453) برقم (6343).

[5]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص331، 332.

المصدر

الزعم أن الله لم يكرم آدم – عليه السلام – ولم يأمر الملائكة بالسجود له

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغالطين أن الله – عز وجل – لم يأمر ملائكته بالسجود لآدم عليه السلام، ولم يرد تكريمه ولا تشريفه، بل إن الملائكة هي التي أرادت أن تشرفه بسجودها له دون أمر من الله، فحال بينهم وبين ذلك أن الله – عز وجل – جعل آدم عليه السلام ينام؛ فلم يتمكنوا من السجود له، ذاهبين من وراء ذلك إلى تجريد نبي الله آدم – عليه السلام – مما شرفه الله به من سجود الملائكة له.

وجها إبطال الشبهة:

1) الملائكة لا تفعل شيئا دون أمر من الله عز وجل، وسجودهم لآدم – عليه السلام – أمر إلهي، وهو سجود تكريم، لا سجود عبادة.

2) القرآن الكريم لم يذكر – وهو الحق المبين – أن آدم – عليه السلام – كان نائما، وماذا يجدي نومه من عدمه في شأن إثبات السجود ونفيه؟! وما تذكره التوراة من ذلك؛ لتحليل الخطيئة، وارتكاب المعاصي لا دليل عليه.

التفصيل:

 أولا. الملائكة لا تفعل شيئا دون أمر من الله سبحانه وتعالى، وسجودهم لآدم أمر إلهي، فضلا عن كونه سجود تكريم لا سجود عبادة:

ما كان للملائكة أن تفعل شيئا لم تؤمر به، فهم مجبولون [1] على الطاعة، مفطورون عليها، لكن أمرهم الله بالسجود تتمة لصور التكريم التي خص الله بها آدم، وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتعظيم، كما أننا يجب أن نعلم أن الحديث عن آدم والملائكة لا يخضع لاجتهاد عقلي ولا لعلم تجريبي ولا لاستقراء تاريخي، ولا طريق لمعرفته إلا النقل الصحيح من رسول موحى إليه، ولا يتحقق ذلك إلا فيما جاءنا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من القرآن الكريم، المقطوع بثبوته عن رسول الله، والمنقول إلينا بالتواتر القطعي الثبوت.

 والقرآن الكريم صريح في أن الله – عز وجل – أمر الملائكة بالسجود لآدم، وأن الملائكة استجابوا لأمر الله فسجدوا، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)( (البقرة:34)، وسجود الملائكة لآدم هو عين طاعة الله وعبادته، فقد سجدوا؛ لأن الله أمرهم بالسجود، فأطاعوا أمر الله، وهذا يتفق مع طاعة الملائكة المطلقة لأمر ربهم؛ لأنهم )يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50) ( (النحل).

وليس للملائكة هوى واجتهاد من قبل أنفسهم، فهذا يتناقض مع طبيعة جبلتهم وعبوديتهم لخالقهم، فهم ينتظرون أمر الله، فحق فيهم قول الله سبحانه وتعالى:) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) ((التحريم).

فما كان للملائكة أن تفعل ما لم تؤمر به، وما سجدت الملائكة إلا استجابة لأمره عز وجل، وهذه كرامة أخرى من كرامات الله لآدم عليه السلام، وهو – سبحانه وتعالى – القائل: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)( (البقرة).

والسجود في اللغة: التذلل والخضوع، ويطلق أيضا على الانحناء من أجل التحية والتكريم كما في قوله تعالى في حكايتة عن إخوة يوسف عليه السلام: )ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا( (يوسف: 100).

ويطلق السجود في الشرع على وضع الجبهة واليدين، والركبتين، والقدمين على الأرض، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.

وسجود الملائكة لآدم – عليه السلام – ليس من باب السجود لغير الله، ولا عبادة آدم من دون الله، إنه سجود لله في الحقيقة؛ لأن الله هو الذي أمرهم أن يسجدوا لآدم، أي هو الذي كلفهم بذلك، ولو كان عبادة لغيره لما أمرهم به سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يأذن لأي مخلوق أن يعبد غيره، وعندما سجد الملائكة لآدم كانوا عابدين لله[2].

ولكي نفهم معنى العبادة نقول: “إن العبادة هي طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه، فما قال الله لنا: افعلوا، فإننا نفعل، وما قال: لا تفعلوا، فإننا لا نفعل؛ لأن العبادة هي طاعة الخلق لخالقهم في أوامره ونواهيه؛ ولذلك عندما نذهب إلى الحج، فإننا نقبل الحجر الأسود في الكعبة، ونرجم الحجر الذي يمثل إبليس في منى، نقبل حجرا، ونرجم حجرا، هذا هو معنى عبادة الله واتباع منهجه، كما أمرنا نفعل، لا شيء مقدس عندنا إلا أمر الله ومنهجه؛ فالملائكة لم يسجدوا لآدم، ولكنهم سجدوا لأمر الله بالسجود لآدم، وفرق كبير بين السجود لشيء، وبين السجود لأمر الله”[3].

بيد أننا نوضح الأمر لمن التبس عليه قائلين: إن سجود الملائكة لآدم كان أمرا إلهيا وفي هذا إظهار لعلو شأنه عليه السلام، كما أن فيه تكريما لهذا النوع البشري حيث أسجد الملائكة لأبيهم آدم عليه السلام، وقد خص الله آدم بأربع مزايا، هي آية الفضل وعنوان الشرف الرفيع وهي: خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وعلمه أسماء كل الأشياء[4].

والسجود الذي فعلته الملائكة هو الانحناء على هيئة مخصوصة حسب طبيعة خلقتهم، وقد أمروا به تعظيما له وتحية، وفي تعظيمه تشريف لذريته – أيضا – وفيه تنبيه لأولى الألباب على وجوب شكرهم لله على هذه المنة[5].

ويدل هذا على أن السجود كان أمرا إلهيا، ولم تفعله الملائكة من تلقاء ذاتها أو على هواها.

ثانيا. لم يذكر القرآن الكريم – وهو الحق المبين – أن آدم عليه السلام كان نائما، ثم ماذا يجدي نومه من عدمه؟!

هذا، وقد أغفلت التوراة أمورا حدثت بالفعل، منها: توبة آدم واستغفاره لتحليل الخطيئة، وارتكاب المعاصي. فأيهما نصدق: القرآن الكريم أم الترهات التوراتية؟!

فمن أخبرهم أن آدم – عليه السلام – حينما أراد الملائكة أن يسجدوا له كان نائما؟ وأي فائدة في نومه أو عدم نومه؟ أكان يمنعهم نومه من أن يسجدوا له؟! ثم إنه لا عبرة بما جاء في التوراة أو غيرها من الكتب السابقة إذا خالف القرآن الكريم، أو لم يذكر فيه، فليست هذه الكتب هي التي أنزلها الله تعالى على رسله الأكرمين ولكنها أوهام سطرتها أيدي البشر، وهذا بشهادة أهل هذه الكتب، واقرأ إن شئت نقد اسبينوزا للكتاب المقدس.

وكيف نؤمن بكتب لعبت بها الأيدي تبديلا وتحريفا فهؤلاء لم يسلم من عبثهم وافتراءاتهم[6] أي من أنبياء الله تعالى؛ فهذا آدم – عليه السلام – قد ذكر العهد القديم أنه بسبب مخالفته أمر ربه له بالامتناع عن الأكل من الشجرة لعنت الأرض “ملعونة الأرض بسببك”. (التكوين 3: 17)، فكيف يلعن الله الأرض بسبب مخالفة آدم وهي لم تقع منه وهو في الأرض، وإنما وهو في الجنة، وما ذنب الأرض في أن تصيبها لعنة بسبب معصية وقعت في غير عالمها؟!

لقد كان نزول آدم إلى الأرض وخروجه من الجنة جزاء معصيته، بقدر كوني سابق، فإنه – عز وجل – ما خلق آدم ليسكن الجنة، بل خلقه ليعمر [7] الأرض هو وذريته؛ قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة( (البقرة: 30) والجزاء إنما يستحقه من تقع منه المعصية دون غيره من البشر) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18) ( (فاطر) [8].

ثم إذا كانت اللعنة قد أصابت الأرض بسبب مخالفة آدم، ألا تستحق أن ترفع عنها اللعنة من أجل طاعات البشر، ممن عاشوا فيها من الأنبياء والصديقين والصالحين، والعلماء العاملين، وكل من أطاع الله فوقها؟!

وكيف تلعن الأرض بسبب معصية آدم وقد اختاره الله وذريته لسكناها وعمارتها دون الملائكة، وهم يسبحون بحمده ويقدسونه عز وجل؟!

والتوراة التي بأيديهم لم تذكر شيئا عن توبة آدم عليه السلام، واستغفاره ربه من مخالفته ومغفرة الله له، في حين أن ذلك موضح في القرآن الكريم وهو ما تقبله العقول السليمة إذ كيف تقع المخالفة من نبي ولا يندم عليها ولا يتوب منها؟!

ثم إنه في إغفال التوراة توبة آدم تشجيع لذريته من بعده على التمادي في عصيانهم، وعدم الرجوع بالتوبة إلى ربهم، وهل بهذا تصلح الحياة؟ كلا[9]!

نخلص مما سبق إلى أن التوراة أغفلت ما يفيد ذكره وذكرت ما لا يفيد، وهذا يدلنا على أنها من صنع البشر، فلا ينبغي أن نصدق كل ما جاء بها خاصة إذا خالف القرآن الكريم؛ لأن القرآن هو الحق من الله المصدق لما سبقه من كتب قبل تحريفها وتبديلها من قبل البشر.

الخلاصة:

ما كان للملائكة أن تفعل شيئا لم تؤمر به، فهم مجبولون على الطاعة: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(6)( (التحريم)[10].

ولكن أمرهم الله بالسجود تتويجا لصور التكريم التي خص الله بها آدم – عليه السلام – فقد جعله خليفته في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأمر ملائكته بالسجود له إجلالا وتعظيما لشأنه، ولنسله من بعده، كما علمه الأسماء كلها. والحديث عن آدم، والملائكة لا يخضع لاجتهاد عقلي، ولا استقراء تاريخي، بل السبيل إلى معرفته هو النقل الصحيح من رسول موحى إليه.

لم يذكر القرآن الكريم – وهو الحق المبين – أن آدم كان نائما، ثم ماذا يجدي نومه من عدمه؟! هذا وقد أغفلت التوراة أمورا حدثت بالفعل منها: توبة آدم واستغفاره لتحليل الخطيئة وارتكاب المعاصي من قبل نسله، كما ذكرت خطأ أن الله لعن الأرض بمخالفة آدم، وهذا ظلم ومحال على الله تعالى الظلم؛ لقوله في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما»[11].

فأيهما نصدق؛ القرآن الكريم المصون عن التحريف أم الترهات التوراتية المحرفة؟! والتي أقر بتحريفها أهلها ودارسوها من أمثال اسبينوزا وغيره.

 

(*) موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق بحث من المستشرقين، ترجمة نخبة من الأساتذة، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، 1418هـ/ 1998م.

[1]. المجبول: المطبوع.

[2]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 2007م، ص308.

[3]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج1، ص254.

[4]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة، 1290هـ، ص119.

[5]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م.

[6]. الافتراء: الكذب والاختلاف.

[7]. يعمر: يعيش فيها ويسكنها.

[8]. ولا تزر وازرة وزر أخرى: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. المثقلة: النفس التي أثقلتها الآثام.

[9]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص197: 199.

[10]. قوا أنفسكم: احفظوها.

[11]. أخرجــه مسلـم في صحيحــــــه، كتـــاب البـر والصلـة والآداب، بـاب تحريـم الظلـم (6737).

المصدر

الزعم أن داود – عليه السلام – قد حكم ظلما بين المتخاصمين لديه؛ لاستغفاره بعد الحكم

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن اللذين تسورا المحراب على داود من الملائكة، أرسلهما الله – عز وجل – ليعرضا عليه قضية ليس لها وجود حقيقي، وإنما قصد بها تدريبه على القضاء. ولما حكم داود – عليه السلام – على المدعى عليه – قبل أن يسمع منه – أدرك أنه امتحن بما عرض عليه؛ فاستغفر ربه؛ لذا أمره الله – عز وجل – أن يحكم بين الناس بالحق في قوله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)( (ص). ويتساءل هؤلاء: ألا يتنافى هذا مع ما يقال عن عصمة الأنبياء؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)     الخصمان اللذان تسورا المحراب على داود – عليه السلام – كانا من البشر، ولم يكونا من الملائكة.

2)     الخصومة بين الخصمين كانت حقيقية في أغنام لهما؛ لأن القرآن الكريم لا يمكن أن يذكر أشياء لم تقع.

3)     حكم داود – عليه السلام – كان حكما عادلا، لأنه بني على مقدمات أدت إليه، ولم يكن مجرد حكم عار من الأدلة.

4)     استغفار داود – عليه السلام – كان لظنه – خطأ – أن الرجلين أتيا لقتله.

التفصيل:

أولا. الخصمان اللذان تسورا المحراب على داود – عليه السلام – كانا من البشر، ولم يكونا من الملائكة:

لا شك أن الادعاء بأن الخصمين من الملائكة يتنافى مع ما ورد في القرآن الكريم، وفي الروايات الصحيحة التي تثبت أن اللذين تسورا المحراب على داود كانا من البشر؛ حيث يقول الله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذيـن يضلـون عـن سبيـل الله لهـم عـذاب شديـد بمـا نسـوا يـوم الحسـاب (26)( (ص).

يقول الشنقيطي في “أضواء البيان”: “قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: )فاحكم بين الناس بالحق( قد أمر نبيه داود – عليه السلام – فيه بالحكم بين الناس بالحق، ونهاه فيه عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله”[1].

وهناك عدد من الروايات التي تؤيد القول بأن الخصمين اللذين تسورا المحراب كانا من البشر، ومنها:

قول الألوسي: “والذي يذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين للمحراب كانا من الإنس، دخلا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه… “[2].

قول ابن حزم: “كان هذا الخصم قوما من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم، بغى أحدهما على الآخر على نص الآية. ومن قال: إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله – عز وجل – وتقول عليه لم يقل، وزاد في القرآن ما ليس فيه، وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة؛ لأن الله تعالى يقول: )وهل أتاك نبأ الخصم( (ص:21) فقال هو: أي من ادعى أنهم ملائكة، لم يكونا قط خصمين، ولا بغى بعضهما على بعض، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة، ولا كان للآخر نعجة واحدة، ولا قال له: اكفلنيها؛ فاعجبوا لما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم، ونعوذ بالله من الخذلان، ثم كل ذلك بلا دليل”[3].

فالحق – عند المحققين – إذن أن الخصمين كانا رجلين من بني البشر، وهو ما يدل عليه ظاهر الآيات.

ثانيا. الخصومة كانت حقيقية، وليست مفتعلة:

بناء على ما سبق إثباته من أن الخصمين كانا من بني البشر، فإن الخصومة التي كانت بينهما لا شك حقيقية على أغنام لهما، وليس كما قيل من أنها كانت خصومة وهمية أراد بها الملكان تدريب داود – عليه السلام – على القضاء، فلا يحكم بين المتخاصمين من الناس بعد ذلك إلا بالحق.

وأثبت ما ورد في هذا الموقف: أن الخصومة حقيقية في شركة على أغنام، وأن المتخاصمين أرادا التحاكم إلى داود – عليه السلام – حتى يحسم النزاع، غير أن داود كان إذ ذاك في خلوته الخاصة يعبد ربه… ولم يجد الخصمان وسيلة للوصول إليه إلا تسور المحراب الذي يتعبد فيه، فظن داود أن مجيئهما في هذا الوقت، وبهذه الصورة يراد به شر، فطمأناه وطرحا أمامه الموضوع، وبدأ أحد الخصمين بتوجيه الاتهام إلى الآخر، فنطق داود بالحكم بإدانة صاحب الغنم الكثيرة قبل أن يدلي بحجته، وهنا أحس داود بأنه كان على غير صواب في ظنه أن هذين يريدان به شرا، وأن الله امتحنه بالخوف منهما، فاستغفره مما حدثته به نفسه، ومن الله عليه بقبول استغفاره، وأنزله عنده منزلا كريما[4].

وذكر بعض المؤرخين أن الخصمين كانا من الأعراب – رعاة الغنم – لهما من الجرأة ما دفعهما لتسور المحراب على داود عليه السلام؛ لكي يعرضا عليه خصومتهما.

ثالثا. حكم داود – عليه السلام – كان حكما عادلا:

ويتساءل المشككون: كيف يكون داود – عليه السلام – عادلا في حكمه، وقد نطق بالحكم على أحد الخصمين قبل أن يسمع منه؟

ويتخذ هؤلاء هذا الأمر ذريعة لإلصاق تهمة أخرى بداود عليه السلام، وهي أنه كان ظالما في حكمه على المدعى عليه، ولكن ما عليه ظاهر الآيات من امتداح لداود – عليه السلام – لا يوحي بذلك، وإنما يمكن حمل حكم داود – عليه السلام – قبل سماع الطرف الآخر على عدة احتمالات:

أن هذا من باب ترك الأولى، وهو ما ذهب إليه الفخر الرازي؛ حيث عد هذا من باب ترك الأفضل والأولى، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن اعتبار قضاء داود – عليه السلام – لأحد الخصمين قبل سماع كلام الثاني من باب ترك الأولى فيه مضيعة للحقوق، كما أنه يتعارض مع أوليات القضاء بين الناس، وإذا فعل ذلك قاض ليس بنبي، فإنه يعاب عليه ويطعن به في حقه، والأولى ألا يجوز هذا في حق الأنبياء[5].

أن داود – عليه السلام – لما حكم على المدعى عليه قبل أن يسمع منه، واكتفى بما قاله المدعي، فربما كان ذلك لأنه سكت ولم يتكلم؛ فكان سكوته هذا بمثابة الإقرار والاعتراف بما نسب إليه، كما أنه ليس في القرآن ما يثبت أنه صدق المدعي من غير ظهور الحجة؛ فيكون المراد: إذا كان الأمر كما ذكرت؛ فقد ظلمك، ومن ثم لا يكون داود – عليه السلام – مخطئا في حكمه، بل بنى حكمه على مقدمات ودلائل سيقت إليه.

أن حكم داود – عليه السلام – هذا، إنما كان بعد سؤال المدعى عليه، وإقراره بما نسب إليه، ولكن القرآن الكريم لم يحك هذا؛ لأنه معلوم، حيث لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه[6].

وهذا يعني أن داود – عليه السلام – استمع لقول المدعي، ثم استمع لقول المدعى عليه، ثم حكم بقوله: “لقد ظلمك… “[7].

وهذا هو أرجح الاحتمالات، وأكثرها توافقا مع ظاهر الآيات، وأكثرها تناسبا مع عصمته – عليه السلام – وتنزيهه عن الذنوب والمعاصي[8].

وهنا يثار تساؤل آخر: إذا كان داود – عليه السلام – عادلا في حكمه، فلماذا إذن أمره الله باتباع الحق، وعدم الميل مع الهوى على الرغم من صوابه؟ حيث قال سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)( (ص).

والجواب: أن ذلك لا يدل على ظلمه أو ميله مع العواطف، وإنما يعد هذا توجيها له بالاستمرار على ما هو عليه من اتباع للحق، وبعد عن الهوى، أي: استمر على ما أنت عليه من الحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى، ويدل على هذا المعنى:

قوله – سبحانه وتعالى – لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1)( (الأحزاب)، فهو لا يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتقي الله، أو أنه كان يتبع الكافرين والمنافقين، وإنما هو أمر بالاستمرار على ما هو عليه من تقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، ومثل هذا يقال في داود عليه السلام.

ويدل أيضا على عدل داود – عليه السلام – في حكمه وعلى أن هذه الآية من باب الحث على الاستمرار على ما هو عليه، وصف الله تعالى له بالاستخلاف في قوله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض(، ومعلوم أن الاستخلاف على شيء لا يتم إلا بعد التحقق من استحقاق الشخص المستخلف لهذا الأمر العظيم، ولا يكون إلا بعد ثبات عدله في الحكم.

وقد جاء في “الدر المنثور للسيوطي” عن معنى “خليفة”: أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال: حدثني رجل من قومي شهد عمر – رضي الله عنه – أنه سأل طلحة والزبير، وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟

قال طلحة والزبير: ما ندري! فقال سلمان رضي الله عنه: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بكتاب الله تعالى. فقال كعب: ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري [9].

رابعا. فتنة داود واستغفاره:

اختلفت الآراء حول فتنة داود – عليه السلام – على عدة أقوال، منها [10]:

أن المراد بفتنة داود – عليه السلام – في قوله سبحانه وتعالى: )قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24)( (ص) أن داود – عليه السلام – قد ظن أن يكون ما آتاه الله – عز وجل – من سعة الملك العظيم فتنة؛ فاستغفر الله تعالى من هذا الظن، فغفر له ظنه؛ إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة.

وهذا القول ضعيف، وإن كان يجري في تفسير الآيات على الظاهر، إلا أنه كذلك خلاف الظاهر من أن الآيات كلها تحكي قصة واحدة، وأن فتنة داود – عليه السلام – إنما هي فيما جاء الخصم من أجله

أن المراد أن داود – عليه السلام – لما ظن أن الخصمين إنما أتيا لقتله عزم على أن ينتقم منهما، ثم عفا عنهما واستغفر ربه، وأن الاستغفار لأمر من أمور أربعة:

لما عزم عليه من الانتقام منهما، وغضبه لنفسه.

لما دخل قلبه من العجب؛ حيث إنه عفا عنهما مع إرادتهما قتله، وقدرته على الانتقام منهما، ثم أناب إلى الله، واعترف بأن إقدامه على العفو لم يكن إلا بتوفيق الله، فغفر الله له ذلك الخاطر.

أن يكون من همه الانتقام منهما، ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أنهما أرادا به سوءا؛ فعفا عنهما، ثم استغفر من همه ذلك.

أن يكون استغفاره لمن قصدا قتله؛ حيث تابا إلى الله، وطلبا منه أن يستغفر الله لهما، فاستغفر لأجلهما، وعليه فمعنى قوله تعالى “فغفرنا له” أي: فغفرنا ذنبهما لأجله، وبسبب دعائه لهما[11].

وقد ذهب إلى هذا القول الرازي، وكذلك الألوسي والنيسابوري، وهو ضعيف كذلك؛ لأنه مبني على أن الخصمين لم يكونا كذلك، وإنما كانا أعداء، وأن الخصومة كانت مفتعلة منهما، وقد أثبتنا أن الخصومة كانت حقيقية، وعليه فهذا الرأي ضعيف أيضا.

أن المراد أن فتنة داود كانت في تعجله في الحكم، قبل سماع المدعى عليه، مستدلين بقوله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)(، وقد أجاب عن هذا القاضي ابن العربي بقوله: “وأما قول من قال: إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر – فلا يجوز على الأنبياء”[12]، كما أن هذا يتنافى مع ما وصف به من أنه أوتي فصل الخطاب.

وأرجح هذه الأقوال: أن داود – عليه السلام – كان منفردا في محرابه للعبادة، وأن وقته هذا لا يدخل فيه عليه أحد، فلما دخل عليه الخصمان من غير المدخل – حيث تسورا المحراب – وفي غير وقت جلوسه للحكم، فزع منهما ظانا أنهما جاءا لقتله، فلما اتضح له أنهما جاءا في خصومة، ولم يقع ما كان ظنه استغفر من ذلك الظن، وخر ساجدا؛ فغفر الله له ذلك الظن، وهذا هو أرجح الأقوال؛ لأنه ينزه نبي الله داود – عليه السلام – عن كل مالا يتلاءم مع النبوة، كما أنه يتفق مع ما وصفه الله به، قبل ذكر نبأ الخصم من الصفات الحميدة.

يرى ابن كثير أن قصة داود – عليه السلام – مأخوذة من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم – صلى الله عليه وسلم – حديث يجب اتباعه. وفسر قوله تعالى: )فتناه( بقوله: عن ابن عباس بمعنى: ابتليناه واختبرناه، ولم يوضح حقيقة الابتلاء، وفسر قوله تعالى: )فغفرنا له ذلك( بقوله: ما كان منه مما يقال فيه: إن حسنات الإبرار سيئات المقربين[13].

والمعنى أن استغفار داود – عليه السلام – كان لظنه خطأ أن الرجلين أتيا لقتله، فلما تيقن أنهما إنما أتيا في خصومة بينهما، وأنه ظن بهما خطأ استغفر ربه، فغفر له[14].

الخلاصة:

أن اللذين تسورا المحراب على داود – عليه السلام – كانا رجلين من بني البشر، ولم يكونا ملكين – كما ادعى المدعون – ويدل على هذا قوله سبحانه وتعالى: )فاحكم بين الناس بالحق( (ص: 26)؛ حيث دلت على أن ما عرض عليه كان من قبيل الحكم بين الناس.

الخصومة التي كانت بين الرجلين خصومة حقيقية واقعية في أغنام لهما، وليس كما قيل من أنها كانت خصومة مفتعلة من الملائكة، أريد بها تدريبه على القضاء؛ حتى يحكم بين الناس بالحق فيما يعرض له بعد ذلك.

أن داود – عليه السلام – كان عادلا في حكمه، وهو ما تدل عليه ظاهر الآيات، والتي تمتدح داود عليه السلام.

أن حكم داود – عليه السلام – كان بعد سؤال المدعى عليه، وإقراره بما نسب إليه، ولكن القرآن لم يحك هذا؛ لأنه معلوم، حيث لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه، والتحقق من قول كلا الخصمين.

أمر الله تعالى لنبيه داود – عليه السلام – بأن يحكم بالحق ولا يتبع الهوى في قوله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)(

ليس إلا توجيها له بالاستمرار على ما هو عليه من اتباع للحق، بعد عن الهوى؛ وذلك مثل قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1)( (الأحزاب).

فتنة داود – عليه السلام – كانت في ظنه الخاطئ بأن الخصمين إنما أتيا لقتله، ولما علم أن مجيئهما بسبب خصومة حقيقية بينهما، استغفر ربه، فغفر له ذلك الظن الخاطئ.

 

(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.

[1]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م، عند تفسير الآية.

[2]. روح المعاني، الألوسي، د