تعزيز اليقين وهداية الحيران

الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

الرئيسية / بنك المعلومات / الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

الكتب

أوهام الملحدين أوهى من بيت العنكبوت

حاول المؤلف من خلال هذا الكتاب الدفاع عن الإسلام، ومناقشة نظريات الملحدين، والرد عليها بالأدلة العقلية والمنطقية. وفي مقدمة الكتاب يقول المؤلف: "لولا واجب حماية المسلمين من تضليلات المضلين، حتى السخفاء والتافهين، لما كانت أفكار الملحدين تستحق النظر فيها، ولا الالتفات إليها".
تحميل

معركة الوجود بين القرآن والتلمود

يتناول هذا الكتاب دراسة علمية تكشف لنا الكثير من أسرار الإعجاز القرآني العظيم، ويبرز لنا دوره المتفرد في المعركة العالمية بين الإسلام واليهودية
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

القرآن أنقذ العلم التجريبي

تشغيل الفيديو

الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في علم الأجنة

تشغيل الفيديو

خوارق العادات

تشغيل الفيديو

موقف العلم التجريبي

تشغيل الفيديو

بين التدبير الإلهي والعناية الإلهية

تشغيل الفيديو

مغالطة المسخ وانشقاق القمر ووكالة ناسا

تشغيل الفيديو

معجزة القرآن – مناقشة عقلية

تشغيل الفيديو

معجزة القرآن وعجز العرب عن مضاهاته

تشغيل الفيديو

مسألة مذهلة في التشابه بين معجزة موسى ومعجزة القرآن

المقالات

التشكيك في إعجاز القرآن الكريم عن الإتيان بمثله

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم ليس معجزة لغوية؛ فمن مارس شيئا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارا في البيان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن**.

وجوه إبطال الشبهة:

القرآن الكريم كتاب الله الذي أعجز البشر أن يأتوا بمثله، وإعجازه لهم من وجوه عدة: لغته، ومعانيه، وبلاغته، وبيانه، وما فيه من تشريعات سنها الله لعباده، وما فيه من حقائق علمية يؤكدها العلم كلما تطورت البشرية.

ويزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم ليس معجزا في لغته ولا بيانه، ويدعون أن من يتمكن من اللغة العربية وفنونها الأدبية شعرا أو نثرا، ويدرك قدراتها في التعبير يستطيع أن يأتي بمثل القرآن الكريم في نظمه وأسلوبه ولغته، وقد أوقعهم في هذا الوهم الباطل ما لمسوه في القرآن الكريم من وضوح ويسر، وسلاسة في التعبير والبيان.

ويمكننا إبطال هذه الشبهة من وجوه:

1)  لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – مادية، وهي في عالم المحسوس “الظاهرة التبعية المعجزة”، أما بالنسبة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت معجزته الخالدة هي القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بمثل أصغر سورة منه.

2)  إن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة باد عواره، باق عاره، ولقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم عن ذلك في عصر نزول القرآن نفسه، – وما أدراك ما عصر نزول القرآن – وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي – وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؛ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم لها بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.

3)  إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما، وعلى الرغم من التقدم الهائل في شتى المعارف البشرية لا يجرؤ أحد على قبول هذا التحدي.

التفصيل:

أولا. لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – مادية في عالم المحسوس، أما بالنسبة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت معجزته الخالدة في القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بأصغر سورة من سوره.

فسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت معجزته الخالدة هي القرآن نفسه؛ أي أن القرآن هو التصديق وهو النبوة معا، ولم تأته النبوة والآيات البينات منفصلا بعضها عن بعض، وبما أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء، فيجب أن تبقى معجزته خالدة، وكلما تقدمت الإنسانية في المعارف والعلوم يظهر إعجاز القرآن بشكل أوضح، ويتضح ذلك في عدة نقاط وهي:

نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – التي هي القرآن والسبع المثاني سبق فيها الطرح العام المعقول عن المدرك من المحسوس بصياغة مشابهة لما يفهمه أهل ذلك العصر ويعقلونه، فكلما تقدم الزمن تدخل طروحات القرآن ضمن المحسوسات المدركة، وهذا ما يسمى بـ “التأويل المباشر”؛ أي: مطابقة المدرك من المحسوس مع النص، وهذا ما يصدق قول الله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت)، وهذا هو السبب الثاني في أنه سمي “قرآنا” من الاستقراء؛ حيث إن السبب الأول: هو المقارنة؛ أي قرن أحداث الطبيعة بأحداث التاريخ؛ فقوله تعالى: )كل في فلك يسبحون (33)( (الأنبياء)، والفلك هو الاستدارة، فكل شيء في هذا الكون – من أصغر الجزيئات إلى أكبرها – يتحرك ضمن أفلاك؛ أي: حركة منحنية، هذا ما عرفناه الآن ووصفه القرآن قبل أربعة عشر قرنا في عالم المعقولات، والآن أصبح في عالم المحسوسات والمعقولات معا.

لقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة للوجود؛ بحيث تفهم فهما نسبيا حسب الأرضية المعرفية للعصر الذي يحاول فهم القرآن فيه، فقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة، والفهم النسبي لهذه الحقيقة في آن واحد، وهذا ما لا يمكن لإنسان أيا كان أن يفعله.

أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز فهو: أننا نعلم الآن أن هناك نوعين من الصياغة اللغوية: الصياغة العلمية الموضوعية؛ كصياغة إسحاق نيوتن، وألبرت أنشتاين، وابن الهيثم لنظرياتهم، وهناك الصياغة الأدبية الخطابية والشعرية الغنية بالصور الفنية؛ كصياغة شكسبير، وبوشكين، والمتنبي، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن صياغة نظريات نيوتن، وأنشتاين، وابن سينا، وابن الهيثم، صياغة كصياغة المتنبي وبوشكين، وشكسبير، دون أن تؤثر هذه الصياغة على الدقة العلمية، ودون أن تكون على حسابها؟

إلى يومنا هذا لم نر هذا النوع من الصياغة، وهذا هو الوجه الثالث من الإعجاز.

إن كل ما كتب عن إعجاز القرآن عند السلف، إنما يتعلق بالجزء الأدبي من الوجه الثالث للإعجاز. نقول: إنه لو كان الإعجاز فقط أدبيا، وافترضنا أنه لا يمكن تقليد صياغة القرآن من الناحية الأدبية الفنية، فهذا يعني أن الإعجاز واقع على العرب فقط دون غيرهم؛ لأن الصياغة القرآنية جاءت بلسان العرب.

والحقيقة أن هذا الإعجاز واقع على العرب وعلى غيرهم من الأقوام؛ لأن المطلوب هو إتيان الناس بمثله، كل في لغته؛ العربي بالعربية، والفارسي بالفارسية، والإنكليزي بالإنكليزية، وهكذا دواليك. فلو كان المقصود بالإعجاز الصياغة فقط دون المضمون، لأمكن للناس صياغة بعض القطع الأدبية التي تشبه القرآن من الناحية اللفظية فقط[1].

وعلى ذلك: فإن معجزة القرآن اللغوية خالدة على مر الأزمان، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله على الإطلاق.

لقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن – وما أدراك ما عصر نزول القرآن -، وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؟ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.

ورغم ذلك التفوق تحداهم القرآن أفرادا وجماعات، وكرر التحدي في صور شتى متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم – بل ورمى العالم كله – بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، وقال عز وجل: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة)، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز: لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله: )ولن تفعلوا(، ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الأعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلما يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ: )فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)( (الكهف)، حتى استيأسوا من قدرتهم، واستيقنوا عجزهم، وما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الخوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، وتلك حيلة يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعا عن القلم واللسان.

ومضى عصر القرآن والتحدي قائم ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا على هذا الدين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، قال تعالى: )وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل( (سبأ:٥٤).

ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد كانوا أشد عجزا، وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز فكانت شهادتهم على أنفسهم، مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائما أمامهم من الوجدان والبرهان ولا يزال هذا دأب القرآن إلى أن تقوم الساعة[2].

ثانيا. وإن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة، فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة، باد عواره، باق عاره وشناره، فمنهم عاقل استحيى أن يتم تجربته فحطم قلمه وصحيفته[3]، ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافة، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين، ومنهم طائش برز بها إلى الناس فكان سخرية للساخرين ومثلا للآخرين.

ومن هذه المحاولات ما ظهر منذ فترة على “الشبكة الإلكترونية” من كلام مسجوع من تأليف عربي يدين بالإسلام، يعيش في أمريكا، يحاول فيه أن يقلد النسق القرآني، من حيث تقسيم الكلام إلى عبارات مسجوعة تنتهي بحرف الميم أو النون مسبوقة بمد يائي، أو واوي، وظن المسكين أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، كما ظن أنه بعلمه هذا قد أبطل التحدي الذي تحدى الله به الإنس والجن، حين قال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).

وكأنه يقول: هاأنذا قد أتيت بمثله، وإذا فقد أبطلت التحدي، وأبطلت دعوى إعجاز القرآن الذي قامت عليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا فالإسلام ليس من عند الله، إنما هو صناعة بشرية قام بها محمد صلى الله عليه وسلم.

ولعل المسكين لم يعلم أن مسيلمة الكذاب قد قام بمثل هذا العمل من قبل، وأتى بسجعات مثل سجعاته قال إنها مثل القرآن.[4] وكما مر الزمان، وبطلت سجعات مسيلمة، سيظل القرآن هكذا يتحدى الإنس والجن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن حدث نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر، وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.

ومما سبق ذكره يتبين أن العرب ببلاغتهم وفصاحتهم لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله، مع أن القرآن نزل بلغتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).

ومن الآية يتضح التحدي العظيم الذي تحداه القرآن لأعدائه.

وعلى غرار ما ذكر يبرهن القرآن على مدى إعجازه، وأنه لا يمكن لأي مغرور أن يأتي بسورة من مثله، ولو أصر هذا المغرور بما ملك من ملكات أدبية، وكبر عليه أن يقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان؛ ليجرب نفسه، ويبرز قوته، قائلين له: أخرج لنا أحسن ما عندك؛ لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، غير أننا نعظه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الرؤية، ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة فإن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه، ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها.

وفي صفحات التاريخ بعض الوقائع غر أصحابها الغرور؛ فانطلقوا يواجهون هذا التحدي، وأولى هذه الوقائع ما حدث مع الشاعر العربي لبيد بن ربيعة، الشهير ببلاغة منطقه، وفصاحة لسانه ورصانة شعره، فعندما سمع بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات ردا على ما سمع وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، – ولم يكن قد أسلم بعد -، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى أنه صرخ من فوره قائلا: “والله ما هذا بشر، وأنا من المسلمين”[5].

وكذلك نجد أن القرآن الكريم تحدى الملحدين في بعض من سوره، وفي هذا التحدي ينهج القرآن نهجا تنازليا مع الملحدين؛ حيث يتنزل معهم إلى أقل قدر ممكن من التحدي؛ حتى لا تكون لهم حجة.

ومن هذا المنطلق، يتحدى القرآن كل من تسول له نفسه محاولة الإتيان بمثله، وليستعن على ذلك بمن يستطيع معاونته من البشر.

إن سورة الإسراء تؤكد تلك الحقيقة الناصعة في الإعجاز القرآني، وأن الإنس والجن معا لو اجتمعوا على قلب رجل واحد منهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلن يأتوا بمثله، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).

ولما عجز المشركون عن الإتيان بمثل القرآن تراه يتنزل معهم إلى الأدنى من مثله، فيتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله.

فها هي سورة هود تعرض لذلك التحدي في سخرية ومشاكلة عجيبة تقول: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)( (هود).

ومن البدهي أن يعجز الماديون المشركون عن مواجهة ذلك التحدي الأدنى، ورغم ذلك يدفعهم العناد، والإصرار على المكابرة، إلى توالى افتراءاتهم وأكاذبيهم على الله، حتى بعد أن تنزل القرآن معهم إلى أقل قدر ممكن يتحقق معه الإعجاز، ومن ثم طلب منهم أن ياتوا بسورة من مثله، أية سورة ولو كانت قصيرة.

وذلك تقول سورة يونس: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).

كما تؤكد سورة البقرة هذا التحدي فتقول: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).

ثالثا. يقول – عز وجل – عن القرآن الكريم: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).

إن التحدي الوارد في هذه الآية الكريمة لا يشمل العرب في زمن نزول القرآن وحدهم، إنما يشمل الإنس والجن في كل مكان وزمان، حتى في وقتنا الحالي وإلى يوم الدين، وهذا التحدي الوارد في الآية والذي يشمل القرآن كله، قد خففه الله تعالى، واكتفى أن يأتي المخالفون بسورة واحدة فقط تماثل سور القرآن المجيد.

يقول تعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثلـه وادعــوا شهداءكـم مـن دون الله إن كنتــم صادقيـن (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).

وفي واقع الأمر إننا نجد أن هذا التحدي المذكور في هذه الآية يمثل أقل بكثير من 1% من القرآن، فالتحدي لا ينص على ضرورة الإتيان بسورة طويلة، بل يمكن للمعارضين والمتشككين أن يأتوا بسورة تماثل السور الصغيرة، وإن أصغر السور وأقصرها هي سورة الكوثر التي تتكون من عشر كلمات عدا البسملة. ولكن القرآن يؤكد على أن المعارضين والمتشككين لن يستطيعوا أن يأتوا حتى بسورة قصيرة من عشر كلمات تماثل سورة الكوثر القصيرة. فإذا عرفنا أن القرآن بأجمعه يتكون من 77845 كلمة، فإن تحدي المعارضين أن يأتوا ولو بسورة واحدة تتكون من عشر كلمات لهو أمر في غاية السهولة واليسر؛ إذ إنه يمثل نسبة 77845: 10، ومع هذا.. فإن الله تعالى يؤكد بكل اليقين على أن الذين في قلوبهم ريب.. لن يستطيعوا أن يقبلوا هذا التحدي البسيط في حجمه.. العظيم في مضمونه[6].

إن هذا هو التحدي الذي ذكره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن شاعرا ولا أديبا، ولم يحضر ندوات الشعر ولا منتديات الأدب، بل إنه حتى لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، ومع ذلك تحدى جميع مفكري العالم من الأدباء والشعراء والعلماء والحكماء.. أن يتكاتفوا سويا ويجمعوا جهدهم ويوحدوا طاقتهم ليأتوا بسورة قصيرة.. تتكون من عشر كلمات تماثل أقصر سورة من سور القرآن الكريم، ثم يقول لهم بكل جرأة وبأتم يقين: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)(.

إن الأمر إذا ليس مجرد طفرة بشرية.. وليس بسبب تقدم علمي أو تأخر تقني، فرغم اختراع القواميس الإلكترونية التي هي في حجم الكتيب الصغير، والتي تستطيع أن تترجم أية كلمة إلى عدة لغات بمجرد الضغط على بعض الأزرار، فإن الإنسان لم ولن يتمكن من أن يؤلف سورة تضارع سورة صغيرة من سور القرآن الكريم.. حتى ولو كانت تتكون من عشركلمات فقط.

يقول صاحب الظلال: عند تفسير قوله تعالى: )الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات( (البقرة:257).

“إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء جيئة من هنا وذهابا من هناك، بدلا من التعبير الذهني المجرد؛ إذ لا يحرك خيالا، ولا يلمس حسا، ولا يستجيش وجدانا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.

فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا ذهنيا أيا كان. لنقل مثلا: الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران.. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع”[7].

إن بعض الناس يظن أن القرآن معجزة لغوية فحسب؛ ولذلك فإنهم يتصورن أنه لا يمكن الإتيان بما يشابهه من الناحية البلاغية، وهذا ظن خاطئ عن القرآن المجيد. إن الله تعالى لم يصف أبدا القرآن الكريم بأنه معجزة بلاغية فحسب، بل هو معجزة بلاغية وأدبية وعلمية وتربوية. إنه معجزة من حيث إنه كتاب سماوي يهدف إلى هداية الإنسان إلى طريق الله تعالى. نعم إن البلاغة جزء من الإعجاز ولكنها ليست كل الإعجاز، والتحدي القرآني لا يقتصر فقط على الأسلوب البليغ. إن الأمر ليس مجرد مقارنة كلمات متماثلة، فالقرآن ليس مجموعة من الكلمات البليغة والأساليب البيانية مرصوصة بدون معنى أو بغير مضمون.

إن القرآن كتاب، وهو بهذه الصفة يقدم لنا مضامين، ويبرز معاني، ويتناول بالبحث موضوعات. وحين قسم القرآن إلى سور – كما يقسم الكتاب إلى فصول – صارت كل سورة تعكس في جوهرها القرآن ككل، فهي أيضا تحتوي على مضامين تهم الإسلام والمسلمين، وتشتمل على موضوعات تبحث في أمور المؤمنين، وتمتلئ بالمعاني والأنباء عما تأتي به الأيام في مستقبل أتباع هذا الدين… فالتماثل الذي يطلبه التحدي القرآني ليس فقط في الأسلوب البليغ، بل في المعاني التي تبينها آ يات القرآن، وفي النبوءات التي تحتويها تلك الآيات، والتي بتحققها… ولو بعد زمن طويل… يتبين أنها أعظم دليل على أنها فعلا آيات من عند الله تعالى، وليست مجرد كلمات بليغة من قول البشر[8].

ولنعد الآن إلى سورة الكوثر.. إن الآية الأولى فيها تقول: )إنا أعطيناك الكوثر (1)( (الكوثر)، و “الكوثر” اسم مشتق من الكثرة، وليس “الكوثر” اسما فقط لنهر في الجنة لم يره أحد، ولكن الكوثر يدل على الكثرة التي قضى الله تعالى أن يعطيها للنبي صلى الله عليه وسلم.. الكثرة من المؤمنين. فهذه الآية تتضمن نبأ غيبيا للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سوف يتبعه جمع غفير من الناس، وسوف يؤمن به كثرة عظيمة من الأتباع، رغم أن الكثرة من الناس كانت تعارضه عند نزول هذه السورة التي نزلت في مكة أثناء عصر الاضطهاد والمعاناة في أول مراحل الدعوة. وإذا كان الكوثر اسما لنهر في الجنة أيضا.. فلا يجوز الاعتراض أو الإيماء بأن أحدا لم ير ذلك النهر ولا يعرف ما إذا كان هذا الوجود حقيقيا أم لا؛ لأن تحقق النبوءة التي تحتويها الآية عن نوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – للكثرة من الأتباع هو الدليل على وجود ذلك النهر فعلا في الجنة. فالله سبحانه يقول إن في هذه الآية نبأين من أنباء الغيب.. أحدهما أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – الكثرة من الأتباع والأنصار، والثاني هو أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهرا في الجنة، ويمكن الاستدلال على تحقيق النبأ الثاني الذي لا يمكن أن يراه أحد الآن.. من تحقق النبأ الأول الذي سوف يرى الناس تحققه في مستقبل الأيام، فالذي حقق النبأ الأول هو الذي سوف يحقق أيضا النبأ الثاني.

فالأمر إذن ليس مجرد كلمات مرصوصة، وليست هي أسطورة تحتوي على الأنهار أو البحار التي لم يرها أحد ولا هي مجرد وعود بأمور في الغيب تساق بغير دليل على تحققها، وإنما هي “آية” من آيات الله تعالى.. آية من آيات القرآن الكريم، آية تحتوي على مضمون وموضوع وأنباء غيبية، آية من صنع الله تعالى وليست مجرد كلمات بليغة مرصوصة من صنع البشر[9].

والآية الثانية: )فصل لربك وانحر (2)( تحتوي على نبأ غيبي بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – سوف يتمكن من أداء فريضة الحج، وسوف يصلي في مكة وينحر الذبائح التي هي منسك من مناسك الحج، الأمر الذي يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يكون له الأمر في مكة، وسوف يستتب له الأمر فيها، رغم أنه حين نزلت هذه الآية كان يلقى اضطهادا شديدا من أهل مكة.. هو والقلة التي آمنت معه. وقد تحققت كل هذه الأنباء الغيبية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهد الناس تحققها. بل إن فتح مكة وخضوعها لأمر الرسول كان سببا جعل معظم الناس يصلون إلى اليقين بمصداقيته وبحقيقة دعواه، فإنهم سمعوا منه هذه الأنباء الغيبية في أول الدعوة، وظنوا أنها ليست سوى أحلام وأوهام لا يمكن أن تتحقق أبدا، فلما رأوا تحققها بأعينهم.. أدركوا أنها حقائق وآيات من قول الله وليست من قول البشر.

والآية الثالثة: )إن شانئك هو الأبتر (3)( تحتوي أيضا على أنباء غيبية.. فهي تشير إلى أن أعداء الرسول – صلى الله عليه وسلم – سوف يموتون دون أن يكون لهم ولد من الذكور يخلفهم ويخلد ذكراهم، فسوف ينمحي أثرهم، ولا يكون لهم نسل يفخر بالانتساب إليهم، بينما يزيد نسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باعتباره الأب الروحي لكل أمته. كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل من ألد أعدائه الذين ماتوا وهم كفار.. وكلاهما كان له ولد من الذكور عندما نزلت هذه السورة. الأول كان ابنه خالد بن الوليد، والثاني كان ابنه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، ولكن كلاهما دخل في الإسلام، وكلاهما قطع كل الروابط مع أبيه، وصار لا ينتسب إليه إلا بالاسم فقط؛ لأنه أصبح ينتسب إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام باعتباره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول – صلى الله عليه وسلم – هو أب لكل أمته.. كما يبين القرآن أن أزواجه أمهات للمؤمنين يقول تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( (الأحزاب: ٦).

ولقد تحققت كل تلك الأنباء الغيبية، وفي تحققها أبلغ دليل وأقوى برهان على أن آيات سورة الكوثر إنما هي – بحق – من عند الله تعالى، وأنها آيات في كتاب عزيز.. )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).

وهكذا يظهر للعيان كيف أن آيات سورة الكوثر هي فعلا آيات من عند الله عز وجل، وهي آيات القرآن الكريم التي تتضمن الكثير من أنباء الغيب؛ ولذلك فقد وصفه سبحانه بقوله تعالى: )إن هـو إلا ذكر للعالميـن (87) ولتعلمـن نبـأه بعـد حيــن (88)( (ص).

والآن.. إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما..

فهل يجرؤ أحد على قبول تحدى القرآن الكريم؟ وهل يستطيع أحد أن يقدم لنا من كتابه المقدس تحديا مثلما قدم القرآن الكريم؟ )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)( (البقرة)[10]!

ولعله يحسن بنا أن نؤكد أن القرآن ليس مجرد كلام قد يؤتى بمثله، فهو ليس بكلام بشر، بل هو كلام رب البشر، وإن كان يحلو للمتحذلقين أن يدعوا أن بإمكانهم الإتيان بمثل القرآن في نظمه الذي يخيل لهم أنه سهل المنال، فعليهم أن يعلموا أن معجزة القرآن فاقت معجزة اللغة – وإن كانوا عاجزين عنها وحدها – فاقت ذلك إلى معجزة كلام يستشفى بتلاوته من الأمراض البدنية والنفسية، وإلى معجزة كلام يؤثر في النفوس التي تسمعه، وإن كانت لا تؤمن به، بل ومن لا يفقهون العربية أصلا، وإلى معجزة كلام يؤثر على الجن والشياطين؛ فلا يستطيعون أن يخترقوا حجبه، ولا أن يصمدوا في مواجهته، هذا كله فضلا عن كونه كلاما ينبئ عما يجهله علماء القرن الواحد والعشرين من الأمور العلمية الصرف، هذا بالإضافة إلى ما فيه من الأنباء بالغيب مما مضى ومما يستقبل من الزمان.

فإن استطاع أحد الزاعمين أن يأتي بمثله ولو في سورة واحدة، فقد سلمنا له بأن القرآن ليس بمعجزة، وإن لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، فحري بالمرء أن يعرف قدره، وأن يقف عند حده.

(*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1397هـ/ 1977م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420 هـ/ 2000م. www.islamyat.com

[1]. الكتاب والقرآن، محمد شحرور، الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، د. ت، ص186 وما بعدها.

[2]. النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1397هـ/ 1977م، ص113، 114.

[3]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، مصر، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص7.

[4]. ومن ذلك أيضا ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء فرقتي “القاديانية” و “البهائية”؛ لتكون دستورا دينيا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقا ركيكا من آيات قرآنية وكلمات عامية، وبدلوا فيها أصول الإسلام، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية، ولكن أتباعهم لم يجرءوا أن يذيعوا تلك الكتب، وشمس العلم طالعة، فأخفوها إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول أمثالهم، فلينظروا آخر الدهر.

وفي عصرنا هذا برز علينا من يزعم أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، فألف هذه السورة ـ إن جاز التعبير ـ “قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقا، فآمنوا بي ولا تخافوا، وإن لكم عند الله جنات نزلا فلاأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى، إنكم لتقوموا السبيل إلى قيلتي العليا، فقال لهم توما الحواري: مولانا إنا لا نملك من ذلك علما، فقال عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلا، ومن عرفني فكأنما عرف الله، وإنكم منذ الآن تعرفونه وتنصرونه يقينا “.

ولا يخفي على القارئ ما في النصمن تلفيق، فضلا عن ركاكة الأسلوب وفساد العبارة، فأما التلفيق فواضح حيث إننا نقول لصاحب هذا النصالمنحل: هل كان النصزمن عيسى ـ عليه السلام ـ فإذا كان كذلك فكيف يتحدى القرآن الناس ولم يخرج هذا الذي يفوق القرآن من أتباع عيسى عليه السلام ؟!، وإذا لم يكن، فقد حرنا في فهم هؤلاء، فمرة يقولون: صلب عيسى، فكيف بمن صلب قبل مولد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأكثر من خمسمائة سنة يقول بعده بأكثر من ألف سنة ما يتحداه به، وإذا كان، فمن الذي أخذ عن عيسى ـ عليه السلام ـ هذا الكلام؟ وكيف بنبي من أولي العزم من الرسل أن يتحدى نبيا مثله تمنى أن يكون من أتباعه؟!

إنه لا يخفى أن المحاولات التي حاولت أن تأتي بمثل القرآن ساذجة، وليست من المعارضة في شيء؛ لأن المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد، ومن يحاول ذلك في القرآن، فإن ذلك محال، والتجربة أصدق شاهد وخير برهان.

[5]. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة: د. عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط22، 1424هـ/ 2001م، ص124.

[6]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص21.

[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج3، ص292، 293 بتصرف.

[8]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص26.

[9]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص28.

[10]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص330 بتصرف.

المصدر

الزعم أن وجود المتشابه في القرآن الكريم ينافي إعجازه وبلاغته، ولا فائدة منه

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المشككين أن المتشابهات في القرآن الكريم تنافي بلاغته، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( (آل عمران: ٧).

ويتساءلون: ألا يعد وجود هذه المتشابهات نقصا في البلاغة والإحكام**؟!

وجوه إبطال الشبهة:

من أصول البلاغة أن يكون الكلام محكما موجزا بعيدا عن التكرير والإعادة؛ حتى يصيب معانيه في قوة ورصانة.

ويتوهم بعض أصحاب الشبهات أن المتشابهات من آيات القرآن تقلل من بلاغته وإحكامه، وتبعد به عن القوة والرصانة، ويدعون بأن قوله تعالى: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( دليل على أن المتشابهات لا فائدة منها، ولا تحقق فهما دقيقا محكما لمعاني القرآن كما يتوهمون.

وقد رد اللغويون وعلماء البلاغة على هذه الشبهة بالوجوه الآتية:

1) أن آيات القرآن، إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.

2) أن الحكمة من إنزال المتشابه في القرآن أن القرآن نزل بلغة العرب، وتبعا لمعانيها ومذاهبها، وهي لغة فيها الإيجاز والإطناب، والاختصار والإطالة، والتوكيد والتجريد، والتلميح والتصريح، والخفي والجلي.

3) أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادها وطلبها، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء).

التفصيل:

أولا. آيات القرآن: إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.

المحكم والمتشابه في القرآن:

يوصف القرآن كله بأنه محكم؛ كما في قوله تعالى: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود) والمراد بالإحكام هنا: اتفاقه وعدم تطرق النقص والخلل إليه.

ويوصف كذلك بأنه كله متشابه، كما في قوله تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم( (الزمر: ٢٣). ومعنى متشابه: أنه يشبه بعضه بعضا في صدق أخباره، وعدالة أحكامه، وسمو بلاغته، وروعة نظمه، ونصوع حقائقه، وتصديق بعضه بعضا؛ فلا تناقض فيه ولا تضارب.

ويوصف القرآن أيضا بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه، وهو ما جاء في قوله عز وجل: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)؛ فقسمت الآية الكريمة آيات الكتاب قسمين: محكمات هن أم الكتاب وأساسه ومعظمه، وأخر متشابهات، والمراد بالمحكم هنا: البين بنفسه، الدال على معناه بوضوح، فلا يعرض له شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى؛ كما قال الراغب في “مفرداته”[1].

معنى المتشابه ومظاهر تشابهه وأسبابه:

والمراد بالمتشابه هنا: ما أشكل تفسيره؛ لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى؛ فلذا قيل: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.

قال الراغب: وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:

محكم على الإطلاق.

متشابه على الإطلاق.

محكم من وجه ومتشابه من وجه آخر[2].

والمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:

متشابه من جهة اللفظ فقط.

متشابه من جهة المعنى فقط.

متشابه من جهتيهما.

وبين الراغب أن المتشابه من جهة اللفظ ضربان: منه ما يرجع إلى غرابة اللفظ أو اشتراكه، ومنه ما يرجع إلى جملة الكلام المركب.. إلخ.

والمتشابه من جهة المعنى: ما يتعلق بأوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.

ثم ذكر الإمام الراغب المتشابه من جهة اللفظ والمعنى جميعا بأضربه الخمسة، ومثل لها من جهة الكمية؛ كالعموم والخصوص، أو من جهة الكيفية؛ كالوجوب والندب، أو من جهة الزمان؛ كالناسخ والمنسوخ، أو من جهة المكان؛ كالأمور المتصلة بعادات الجاهلية، وما كان عليه العرب، أو من جهة الشروط التي يصلح بها العمل أو يفسد. ثم جمع المتشابه على ثلاثة أضرب:

ضرب لا سبيل للوقوف عليه؛ كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته؛ كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة.

وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم. ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه في قوله – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس رضي الله عنهما: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.

قال: وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله: )وما يعلم تأويله إلا الله( ووصله بقوله: )والراسخون في العلم( جائز، وأن لكل واحد منهم وجها، حسبما دل عليه التفصيل المتقدم.

وخلاصة هذا الكلام: أن في القرآن آيات محكمات واضحات الدلالة، بينات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أم الكتاب، وأصله الذي يجب أن يرد إليه ما سواه؛ ليفهم في ضوئه.

وهناك آيات متشابهات تشابها كليا حقيقيا فلا يمكن أن يعلمها إلا الله – ولا يحاول أن يعرف حقيقتها إلا الذين في قلوبهم زيغ وانحراف – أو تشابها جزئيا إضافيا وهذا هو أكثر المتشابه، وهو الذي يعلمه الراسخون برده إلى المحكمات التي هي الأصل[3].

يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في “الإتقان”: “قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب؛ لأنه إليها ترد المتشابهات، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله في كل ما تعبدهم به من معرفته، وتصديق رسله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وبهذا الاعتبار كانت “أمهات”. ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.

ومعنى ذلك: أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات. ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم، لم تبال بما أشكل عليك.

ومراد هذا الذي في قلبه زيغ: التقدم إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع.

وهذا كما يوجد في كتاب الله، يوجد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لوازم الكلام، ومقتضيات الخطاب، فإذا وجد في كلام الله المعجز؛ فلأن يوجد في كلام رسوله من باب أولى[4].

ثانيا. ربما يسأل أحدهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن من أراد لعباده الهدى والتبيان؟

والجواب: أن القرآن نزل بلغة العرب ومعانيها ومذاهبها، فلا حرج من وجود المتشابه في القرآن.

فالقرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز، والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء وإغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليها إلا اللقن[5] وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.

ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا؛ حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس.

 وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، منه ما يجل ومنه ما يدق؛ ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه؛ ولتكون للعالم فضيلة النظر وحسن الاستخراج؛ ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.

ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا لم يكن عالم ومتعلم، ولا خفي ولا جلي؛ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها؛ فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.

وعلى هذا المثال كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف، الذي يتحير فيه العالم المتقدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز[6].

وأصل التشابه: أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان؛ قال الله – عز وجل – في وصف ثمر الجنة: )وأتوا به متشابها( (البقرة: ٢٥)؛ أي: متفق المناظر، مختلف الطعوم، وقال: )تشابهت قلوبهم( (البقرة: ١١٨)؛ أي: يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة.

ومنه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره؛ وشبهت علي: إذا لبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه؛ لأنهم يشبهون الحق بالباطل.

ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها[7].

ثالثا. القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادهـا وطلبهـا، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) ( (النساء).

 ففي قوله تعالى: )منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران:٧)، دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: )كتاب أحكمت آياته( (هود: ١)، وقال: )تلك آيات الكتاب الحكيم (1)( (يونس: ١)، والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣)، والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى:،)ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء: ٨٢)، فلا تعارض بين هذه الآيات؛ لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.

وسبب وقوع المتشابه في القرآن: هو كونه دعوة وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة. وقد خوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع؛ فجاء على أسلوب مناسب لجميع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم[8] الخطابة والمقالة؛ فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة. وإعجاز القرآن منه إعجاز نظمي، ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز؛ فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها – فيما تعرض إليه – جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر، وربما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم[9].

على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:

أحدهما: كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين؛ حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.

 والآخر: تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة؛ حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة – في كل زمان – لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة؛ من أجل هذا كانت الشريعة صالحة لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.

 فإذا أدركت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بـ “المتشابه” في القرآن[10].

الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:

في قوله تعالى: )هن أم الكتاب(، قال الشريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأن سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها؛ كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إليها في همه[11].

قوله تعالى: )الراسخون في العلم( استعارة، والمراد به: المتمكنون في العلم تشبيها لهم برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوارة، وهو أبلغ من أن يقال: والثابتون في العلم.

في قوله تعالى: )كل من عند ربنا( زيدت كلمة “عند” للدلالة على أن “من” هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي؛ أي: هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه، وليس كقوله تعالى:)ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك( (النساء: ٧٩).

)وما يذكر إلا أولو الألباب( (آل عمران: ٧) تذييل – ليس من كلام الراسخين – مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم[12].

(*) www.islameyat.com.

[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص254.

[2]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص267، 268.

[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص268: 270 بتصرف.

[4]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج3، ص682.

[5]. اللقن: سريع الفهم.

[6]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص87.

[7]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص100: 103 بتصرف.

[8]. هجيراهم: أي عادتهم ودأبهم.

[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص156، 157.

[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص158.

[11]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص169، 170 بتصرف يسير.

[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ص168.

المصدر

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

اعجازات القرآن

الله سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزة باقية إلى يوم القيامة، ولذلك وضع فيه الدليل تلو الدليل على ما يتحدى به غير المؤمنين ليرد على ادعاءاتهم، ولقد قيل إن عصر المعجزات انتهى، ولكن معجزات القرآن لا تنتهي حتى تقوم الساعة، ومعاني الآيات لا تتضح في عصر واحد.

بل كل عصر نصل إلي معنى لم نكن قد وصلنا إليه، والقرآن معجزة ومنهج، المنهج وهو ما رسمه الله لنا كطريق للعبادة والحياة ثم تفسيره وبيانه كاملا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل ب ” افعل” و ” لا تفعل” بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالصلوات المفروضة فيه مثلا خمس لا تزيد ولا تنقص إلى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلق بمنهج السماء، كلها أشياء حسمت وبينت تماما، ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت لتعطي كل جيل معنى اعجازيا لم يصل إليه الجيل الذي قبله.

ولو أن معجزة القرآن توقفت عند نزول القرآن لجمد القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديدا، ولكن لأن هذا الكتاب معجزة باقية متجددة، فهو يعطي لكل جيل عطاء جديدا، وهكذا نجد في كل عصر عطاء للقرآن لم يكن موجودا في العصر الذي قبله.

فإذا قرأنا مثلا الآية الكريمة: ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) الروم 1 /3

وجدنا أن أدنى حين نزل القرآن كانت ” كما قلنا” بمعنى المكان القريب من أرض العرب، ولما تقدم العلم واستطاع الإنسان أن يصور سطح الأرض بالأقمار الصناعية، وجد أن مكان المعركة بين الروم والفرس هو أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض، وإذا قرأنا الآية الكريمة: ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم) الأنفال 42

نجد أن الله سبحانه وتعالى قد حدد ثلاثة مواقع: موقع المؤمنين وهم قريبون إلى المدينة المنورة، وموقع الكفار وهم بعيدون عن مكة المكرمة، أي أن المؤمنين أقرب إلى مدينتهم وأهلهم، والكفار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم، ثم قال تعالى: ( والركب أسفل منكم ) . والركب هو قافلة أبو سفيان التي أفلتت من المؤمنين.

والمعروف إن أبا سفيان لكي يفلت من المؤمنين غي ر مساره واتخذ طريق الساحل وهنا يجب أن نلتفت إلى قول الله تعالى: ( أسفل منكم ) . أي موقع منخفض عنكم.

والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن انخفاضا في الأرض، ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر، فيقال: هذا المكان يعلو ألف متر مثلا عن سطح البحر أو مائة متر أو غير ذلك.

إذن فسطح البحر المقياس الذي اتخذه العالم كله بيساوي صفرا في الارتفاع، تقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا، ولذلك قوله تعالى:{ أسفل منكم} يلفتنا إلى هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بأن يبين هذا، بل بين لنا أن هناك بقعة على سطح الأرض هي أكثر انخفاضا على سطحها، وهي التي دارت عليها المعركة بين الفرس والروم.

وإذا قرانا القرآن الكريم، نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد لفتنا إلى مصدر العلم للبشرية كلها، فقال سبحانه وتعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين( البقرة 31.

وهكذا حدد القرآن الكريم في إعجاز مذهل مدخل العلم للبشر، فأنت حين تريد أن تعلم طفلك عندما يبدأ يميز الأشياء، لا بد أن تعلمه الأسماء أولا، فتقول له: هذا كوب، وهذا قلم وهذا كرسي، وهذا طعام إلى غير ذلك.

ونحن نقول إذا لم نعلم الطفل هذا فانه لا يستطيع أنيفهم شيئا ولكنه إذا تعلم الأسماء أصبح بعد ذلك قادرا على استيعاب العلم، ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشرية كلها، لا بد أن نبدأ بأن نعلم أطفالنا أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك تختلف نظم التعليم من دولة إلى أخرى ومن طريقة إلى طريقة، ولكنها كلها لا بد أن تبدأ بتعليم الأسماء، وهكذا نعرف أن بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.

فقد بدأ الحق جل جلاله بتعليم الإنسان الأسماء، وما زالت هذه البداية موجودة حتى الآن في كل نظم التعليم، الأسماء أولا، فإذا تعلم الطفل الأسماء بدأ يستوعب أي شيء آخر، ونحن لا نعلم الطفل الأسماء في المدرسة فقط.

ولكن هذا هو علم الفطرة، تبدأ الأم مع طفلها قبل أن يذهب إلى المدرسة، والأم المتعلمة وتلك التي لم تنل حظا من التعليم، كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء، لأن علم الفطرة تكون منه البداية دائما، ثم بعد ذلك يتطور ويتبدل، ولا يمكن أن يتم التفاهم بين الأم وطفلها ولا بين طفل وطفل آخر إلا إذا تعلما الأسماء أولا، والعلم في الدول المتقدمة والدولة المتخلفة أيضا لا بد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس التفاهم في الحياة، ولكن هناك إعجاز آخر بالعلم البشري لا بد أن نلتفت إليه، وهو يحمل ألينا الدليل اللغوي على وجود الله.

المصدر

دعوى اقتباس الإسلام علم الأجنة من الأمم السابقة

مضمون الشبهة:

لما عجز أعداء الإسلام عن الطعن في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ولم يجدوا بدًّا من الاعتراف بوقوعه بعد إقرار العلم الحديث له ـ راحوا يزعمون أن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من حقائق ومعلومات في علم الأجنة مأخوذ من الأمم السابقة؛ كاليونانيين والأطباء العرب وأصحاب الكتب المقدسة.

ويستدلون على ذلك بأن أبقراط وأرسطو وجالين قد نصوا على المراحل التي يمر بها الجنين، وهي المراحل نفسها التي ذكرها القرآن، كما أن الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث كانا على علم واسع بالطب وعلم الجنين، هذا بالإضافة إلى أن الكتاب المقدس قد ذكر مراحل تكوّن الجنين؛ فقد جاء في العهد القديم: “يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعًا. أفتبتلعني. اذكر أنك جبلتني كالطين. أفتعيدني إلى التراب، ألم تصبني كاللبن وخثّرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب…” (أيوب 10: 8 ـ 12).

ويتساءلون: أي إعجاز علمي عن الأجنة في القرآن والسنة يتحدث عنه المسلمون، وما هي إلا إشارات أخذها الإسلام عن الأمم السابقة عليه؟

وجوه إبطال الشبهة:

1)إن ما جاءت به الحضارات السابقة على الإسلام من تصورات تخص الجنين وتخلقه، هي في معظمها لا تعدو أن تكون خرافات وتخمينات لا تنبني على متابعة ودراسة لأطوار الجنين ومراحله؛ نظرًا لانعدام التقنيات العلمية الحديثة لديهم، ومن أوضح ما يدل على ذلك ما ذكره أبقراط وأرسطو وجالين من أخطاء، مثل إخبارهم بأن الجنين يتكون من دم الحيض ومنيّ الرجل، وأن اللحم يخلق قبل العظام، ثم جاء القرآن وقرر أن الجنين يتكون من النطفة الأمشاج التي تشمل نطفتي الرجل والمرأة، وأن العظام تخلق ثم تكسى باللحم، فلو كان القرآن قد استقى معلوماته من هذه الحضارات لما ساغ أن يأتي بخلافها.

2)لقد كان علم الطب في قوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته من أضعف العلوم عندهم، وإن اشتهر منهم الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث؛ إذ كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية؛ مثل الكي والبتر والفصد، أما علم الأرحام والأجنة فلم يعرف منه العرب إلا ما تعلموه من اليهود على ما به من اعتقادات خاطئة، فإذا كان هذا هو حال القوم الذين نشأ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يستقي منهم أدق تفاصيل الجنين التي لم يُتوصل إليها إلا بأحدث الأجهزة والتقنيات في القرن السابق؟!

3)لقد نص الكتاب المقدس على أن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المنيّ بعقده مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن، ونص أيضًا على أن الجنين يخلق جلده ولحمه ثم بعد ذلك تخلق العظام، وقد خالف القرآن ذلك في عدد من المواضع، بالإضافة إلى أنه قضى على خرافة اليهود في أن إتيان المرأة من ورائها يجعل الولد أحول؛ فقال عزوجل: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم((البقرة: ٢٢٣)، كذلك لم يشر الكتاب المقدس إلى تقديم السمع على البصر، وفضل رضاعة الطفل من أمه لمدة حولين، وقد أثبت العلم الحديث إعجازًا علميًّا في هذين الأمرين.

التفصيل:

أولا. مخالفة القرآن والسنة للحضارات السابقة في علم الأجنة:

إن الباحث في تاريخ العلوم يقابل كثيرًا من النظريات العلمية التي آمن العلماء بصحتها زمنًا طويلًا، وخالفت ما جاء في القرآن والسنة، وجاء بعد ذلك زمن اكتشف العلماء فيه أن تلك النظريات لم تكن صحيحة البتة، وأن ما جاء في القرآن والسنة هو الحق والصدق واليقين؛ ومن أوضح الأمثلة على ذلك حقائق علم الأجنة([1]).

وقد شغل الإنسان منذ أن وطأت قدماه الأرض بقضية التناسل، وحاول تفسيرها بتصورات متعددة وجدت إشارات إليها في معظم الحضارات القديمة، ومن خلال هذه الإشارات يمكن دراسة تاريخ علم الأجنة وتطوره، لنتبين الصواب فيه من الخطأ، ولنعلم الفرق بين هذه النظريات وبين ما أخبر به القرآن الكريم والسنة النبوية من حقائق؛ لنقرر ما إذا كان القرآن قد اقتبس ما ذكره عن علم الأجنة من الأمم التي سبقته أم لا.

تاريخ علم الأجنة:

تعود بداية علم الأجنة إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد، وقسم علماء الأجنة هذا العلم إلى ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: المرحلة الوصفية، وتستمر منذ بدايته حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية: مرحلة علم الأجنة التجريبي، وتبدأ من نهاية القرن التاسع عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة، وهي التي نعيشها الآن.

والذي يعنينا من هذا التاريخ هو فترة ما قبل الإسلام، حتى تتبين لنا علاقة الإسلام بهذه الأمم السابقة عليه، ومدى اتفاقه أو اختلافه معهم فيما يخص علم الجنين.

علم الجنين عند المصريين القدماء:

من الثابت قطعًا أنه لم يكن هناك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قريبًا منه ما يمكن أن تستقى منه بالخبرة البشرية هذه المعلومات العلمية الخاصة بعلم الأجنة، والموجودة في القرآن والسنة، فلم يكن إلا بعض التخمينات والخرافات عن هذا العلم، والتي ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بأصوله، أو انتقال الصفات، أو حدوث التشوهات الجنينية.

وقد تكلم في ذلك الفلاسفة والأطباء والحكماء من الإغريق والمصريين القدماء وغيرهم، وكان كلامهم في ذلك ضربًا من التخمين والتخرُّ ص، انبنى على السحر والشعوذة أو قياس الجنين البشري على أجنة الحيوانات والطيور؛ فقد وجدت بعض السجلات المدونة من فترة السلالات الفرعونية الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة، وقد حمل ما لا يقل عن عشرة أشخاص متعاقبين اللقب الرسمي “فاتح مشيمة الملك”، واقتضت المراسيم فيما بعد أن تحمل راية تمثل “مشيمة الملك” أمام موكب الفراعنة.

راية تمثل “المشيمة الملكية” لفرعون (kleiss1964م)

وكانت تُعزى إلى خواص المشيمة قوى سحرية خفية في اختلاط ظاهر بين العلم والسحر، وكانت للنساء رقى وتمائم يتلونها عند الحمل والولادة، فلكي تضمن المرأة الحامل الحصول على ولادة سهلة وطبيعية كانت تستعين بتميمة تصور امرأة راقدة على سريرها في هدوء وراحة شديدتين، وإلى جوارها طفلها الذي وضعته في يسر وبلا معاناة، في تعلق واضح بالقوى السحرية والخفية، ودام ذلك الاعتقاد حتى عهد اليونانيين القدماء؛ حيث كان لعلم المنطق اليوناني أثره في فهم علم الأجنة.

وأقدم الوصفات المدونة للوقاية من الحمل، مدونة بالخط الهيري (لغة مصر القديمة قبل الهيروغليفية) على ورق البردي، ومن العناصر الأساسية المكونة للوصفة روث التماسيح إلى جانب عناصر أخرى([2]).

وكان المصريون القدماء يجهلون دور المنيّ في تخلق الجنين، وإن كانوا يعتقدون أن هناك علاقة ما بين العضو الذكري والمنيّ والحمل، وكان الرأى العلمي لديهم أن المنيّ ينبع من الحبل الشوكي، وربما يكون مرجع ذلك إلى الكهنة الذين كانوا يذبحون القرابين، وكانوا يعتقدون أن قضيب الثور امتداد لعموده الفقري؛ ومن هنا كان اهتمامهم بالعظمة الموجودة في آخر أربع أو خمس فقرات من العمود الفقري، عند العجز باعتبار أنها المسئولة عن الحفاظ على منيّ الرجل.

علم الأجنة عند الهنود:

وقد وجد ـ أيضًا ـ في مجال طب الأجنة الهندي رسالة سنسكريتية تعود إلى 1416 سنة قبل الميلاد، هذه الرسالة تسمى: غربها أوبانيشاد (Garbha Upanishad)، وتصف الأفكار القديمة المتعلقة بتطور الجنين.

وتشير هذه الرسالة إلى ما يأتي:

من اتحاد الدم والمنيّ يأتي الجنين إلى الوجود.

وبعد التزاوج الجنسي يصبح الجنين بما يسمى “كلادا” (Kalada)؛ أي جنين في اليوم الأول من عمره.

وبعد مرور سبع ليال يصبح الجنين بذرة.

وبعد مرور أسبوعين يصبح الجنين كتلة مستديرة.

وبعد مرور شهر يصبح كتلة متماسكة.

وبعد مرور شهرين يتخلق الرأس.

وبعد مرور ثلاثة أشهر تظهر منطقة الأوصال.

وظاهر أن هذا يتنافى تمامًا مع الحقيقة، ويدل على دور الخيال في فهم مراحل تطور الجنين، وأن ما ذكره القرآن لا يمت إلى ذلك بصلة.

علم الأجنة عند اليونانيين:

أما اليونانيون القدماء، فهم أول من ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلهم لملحوظاتهم بالمنطق العقلي لا بالقوى السحرية الغامضة، ولكن مع هذا التقدم لم ينسجم منطقهم مع الحقائق الثابتة، وظلت التعليلات بعيدة عن الحقيقة؛ وذلك لأن العقل لا يستطيع وحده الوقوف على الحقائق، وإلا فإن الظنون تجتاحه ويتحول منطقه مملوءًا بالخرافات.

فكان أول من تكلم في هذا المجال أبقراط، ثم اشتهر أرسطو (384 – 322 ق. م) بأبحاثه عن علم الأجنة، ثم كان جالين في القرن الثاني بعد الميلاد.

وجاء بعض منكري الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، وادّعوا أن كل ما جاء به القرآن والسنة من معلومات حول علم الأجنة ما هو إلا إشارات مأخوذة من هؤلاء العلماء الذين سبقوا الإسلام، واستدلوا على ذلك بأن هؤلاء العلماء الثلاثة (أبقراط، أرسطو، جالين) ذكروا مراحل نمو الجنين وتطوره كما ذكرها القرآن؛ لذلك نذكرها كما ذكروها هم؛ حتى يتبين لنا الفرق بين ما ذكروه وما جاء به القرآن.

أولا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند أبقراط:

نص كلامهم

ترجمته باللغة العربية

Stage 1: sperm

المرحلة الأولى: الحيوان المنوي.

Stage 2: mother´s blood desceds around the membrane

المرحلة الثانية: دم الأم ينحدر حول الغشاء.

Stage 3: flesh,fed through umbilicus

المرحلة الثالثة: اللحم، يتغذى عن طريق السرة.

Stage 4: bones

المرحلة الرابعة: العظام.

ثانيا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند أرسطو:

نص كلامهم

ترجمته باللغة العربية

Stage1: sperm

المرحلة الأولى: الحيوان المنوي.

Stage2: Catamenia menstrual blood

المرحلة الثانية: دم الحيض.

Stage3: flesh

المرحلة الثالثة: اللحم.

Stage4: bones

المرحلة الرابعة: العظام.

Stage5: around the bones grow the fleshy parts

المرحلة الخامسة: حول نمو العظام أجزاء سمين([3]).

ثالثا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند جالين:

نص كلامهم

ترجمته باللغة العربية

Stage1: the two semens

المرحلة الأولى: مني من الاثنين.

Stage1(B): plus menstrual blood

المرحلة الأولى (ب): بالإضافة إلى دم الحيض.

Stage2: unshaped flesh

المرحلة الثانية: لحم غير مميز الشكل.

Stage3: bones

المرحلة الثالثة: العظام.

Stage3(B): flesh grows on and around the bones

المرحلة الثالثة (ب): نمو اللحم على العظام وحولها.

رابعا. مرحلة نمو الجنين في القرآن الكريم كما ذكر المدعي:

نص كلامهم

ترجمته باللغة العربية

Stage1: nutfa sperm

المرحلة الأولى: المني.

Stage2: alaga clot

المرحلة الثانية: الجلطة.

Stage3: mudagha piece or lump of flesh

المرحلة الثالثة: قطعة من اللحم.

Stage4: adaam bones

المرحلة الرابعة: العظام.

Stage5: dressing the bones with muscles

المرحلة الخامسة: كساء العظام بالعضلات.

وقبل الخوض في بيان الفرق بين مراحل هؤلاء العلماء الثلاثة ومراحل القرآن نبين أن المدعين قد اخترعوا مراحل ما أنزل الله بها من سلطان وزعموا أن القرآن ذكرها، ولكن مراحل الجنين ذكرها القرآن صريحة في أكثر من موضع، قال سبحانه وتعالى: ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ( (المؤمنون).

فالمرحلة الأولى من مراحل تكون الجنين هي “النطفة”، وهذه النطفة وصفها ربنا عز وجلفي موضع آخر، فقال) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه(  (الإنسان: ٢)، والنطفة الأمشاج هي اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، وهذا ما أثبته العلم الحديث؛ إذ صرح بأن الجنين يخلق من الحيوان المنوي للرجل عند تلقيحه بويضة المرأة، ثم تنغرس هذه النطفة الأمشاج في قرارها المكين في الرحم.

ثم تأتي المرحلة الثانية وهي “العلقة”، وتبدأ منذ تعلق النطفة الأمشاج بالرحم، وتنتهي عند ظهور الكتل البدنية التي تعتبر بداية المضغة، وسميت بذلك؛ لأنها تنشب وتعلق في جدار الرحم وتنغرز فيه، أو لأنها تشبه دودة العلق. ويكون بعد ذلك مرحلة “المضغة”، وسميت بذلك؛ لأن الجنين فيها يكون قطعة من اللحم كأنها ممضوغة، وكأن أسنانًا انغرزت في الجنين ولاكته ثم قذفته. ثم تخلق “عظام الجنين” بتحول هذه المضغة إلى عظام، وتظهر براعم الأطراف وعضلاتها ثم تكسى هذه العظام “لحمًا” بعد ذلك.

ودقة القرآن الكريم في وصف هذه المراحل جعلت علماء الأجنة في هذا العصر يعترفون بأن من يقول بهذا لا بد أن يكون نبيًّا يأتيه الوحي من السماء، وأشهرهم “كيث مور”([4]) أحد أكبر علماء الأجنة في العالم الذي يقول: “إن هذه المعلومات عن مراحل الجنين لم يعرفها العلماء إلا بعد أكثر من ألف عام بعد نزول القرآن”.

ويمكننا أن نوضح المراحل الصحيحة التي ذكرها القرآن بنصه مقارنة بما ادعاه هؤلاء على القرآن من اختلاق مراحل لم يأت بها القرآن، وذلك من خلال الجدول الآتي:

مراحل الجنين في القرآن كما ذكرها المدعي

مراحل الجنين في القرآن كما نص عليها القرآن

المرحلة الأولى: المني.

المرحلة الأولى: النطفة الأمشاج المكونة من مني الرجل وبويضة المرأة.

المرحلة الثانية: الجلطة.

المرحلة الثانية: العلقة.

المرحلة الثالثة: قطعة من اللحم.

المرحلة الثالثة: المضغة.

المرحلة الرابعة: العظام.

المرحلة الرابعة: العظام.

المرحلة الخامسة: كساء العظام بالعضلات.

المرحلة الخامسة: كساء العظام لحمًا.

ومن ثم يتبين لنا تسمية المدعي لمراحل نمو الجنين بأسماء من عنده لم يذكرها القرآن ولا تدل على الصفة الحقيقية لهذه المراحل؛ فالأولى ليست منيًّا للرجل فقط، وإنما هي اجتماع مني الرجل وبويضة المرأة، والثانية ليست جلطة، وإنما هي تجمع لعدد كبير من الخلايا نتيجة الانقسام المستمر للنطفة، وهي قطعة لحم معلقة بجدار الرحم، والثالثة ليست قطعة لحم فقط، وإنما هي قطعة من اللحم كأنها ممضوغة.

وبنظرة عجلى إلى المراحل التي وردت عند (أبقراط وأرسطو وجالين) نجدها تختلف تمامًا عن مراحل نمو الجنين التي جاء بها القرآن وطبقها العلم الحديث؛ فأبقراط جعل منشأ الجنين من دم الحيض وحده، وأرسطو خالفه وجعله من دم الحيض ومنيّ الرجل، وجالين خالفهما وجعله من دم الحيض ومنيّ الرجل ومنيّ المرأة، فأي شبه بين ذلك وبين ما جاء في القرآن الكريم من أن الجنين يخلق من كلا الطرفين؛ حيث النطفة الأمشاج المكونة من ماء الرجل وبويضة المرأة؟! ولا دخل لدم الحيض في تكون الجنين على الإطلاق([5]).

وبذلك يكون القرآن قد تخلى عن هذا الخطأ الفاحش الذي أجمع عليه هؤلاء الثلاثة، وكذلك الأحاديث النبوية جاءت تبطل ذلك، يقول ابن حجر: “وزعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلا في عَقْده، وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك”([6]).

ومن هذا المقولة يتبين لنا تصحيح القرآن الكريم والسنة النبوية لمفهومين غير صحيحين؛ أولهما: عدم مشاركة منيّ الرجل بذاته في تكوين الجنين، وثانيهما: تكون الجنين من دم الحيض.

وكذلك لم يذكر هؤلاء الثلاثة شيئًا عن المرحلتين اللتين تليان النطفة وتسبقان العظام، وهما (العلقة والمضغة)، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهما إن لم يكن من عند الله تعالى، لا سيما وهما وصف دقيق لهاتين المرحلتين؟

ثم يأتي الخطأ الثالث وهو تقديم خلق اللحم على العظام، وقد قال به كل من أبقراط وأرسطو، وهذا خطأ فاحش، والصحيح ما جاء به القرآن الكريم من تقديم العظام على اللحم، يقول الدكتور “كيث مور”:

During the seventh week, the skeleton begins to spread throughout the body and the bones take their familiar shapes. At the end of the seventh week and during the eighth week the muscles take their positions around the bone forms.

وترجمة هذا: أثناء الأسبوع السابع، يبدأ الهيكل العظمي بالانتشار خلال الجسم، وتأخذ العظام أشكالها المألوفة، وفي نهاية الأسبوع السابع وأثناء الأسبوع الثامن، تأخذ العضلات (اللحم) موقعها حول تكوينات العظام([7]).

أليس في ترك محمد صلى الله عليه وسلم لما جاء به أبقراط وأرسطو وجالين، والإتيان بما أثبت العلم حديثًا صحته ـ دليل على صحة ما جاء في القرآن والسنة؟!

وقد لـخص أرسطو في بحثه عن الأجنة معتقدات أهل زمانه ورأيه فيها، واعتبرها تندرج تحت نظريتين:

الأولى: وهي أن الجنين يكون جاهزًا في ماء الرجل، فإذا دخل ماء الرجل الرحم انعقد، ثم نما كما تنمو البذرة في الأرض ثم استمد غذاءه من الرحم.

صورة للحيوان المنوي بداخله جنين كما كان متخيلًا في القرن السابع عشر

الثانية: أن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المني بعقده، مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتعقده وتحوله إلى جبن، وليس للمنيّ في إيجاد الولد دور قط، وإنما هو دور مساعد مثل دور الأنفحة في إيجاد الجنين.

وقد أيد أرسطو هذه النظرية الأخيرة ومال إليها، وقد كان أرسطو من المؤيدين لنظرية التخلق الذاتي التي تقول بتولد الدود والمخلوقات من العفونة والمواد المتحللة؛ ولذا تصور أن الجنين يتخلق من دم الحيض.

وقد ظلت هذه النظرية سائدة ردحا من الزمن حتى جاء لويس باستور([8]) وقضى عليها قضاء تامًا عام 1864م؛ حيث أثبت أن العفونات مصدرها مخلوقات دقيقة جدًّا (تدعى الميكروبات)، وقد أثبت غيره من قبله بسنوات أن المواد المتحللة والعفونات لا تولد الديدان ولا الحشرات، وإنما تتوالد هذه الحشرات نتيجة تجمع بيضها حيث ترميه الحشرات الطائرة أو الزاحفة، وتتولد اليرقات ثم تنمو اليرقات إلى حشرات.

ومنذ أن لـخص أرسطو النظريات السائدة في عصره بالنسبة لتخلق الجنين، استمر الجدل محتدمًا بين أنصار نظرية الجنين الكامل المصغر الموجود في ماء الرجل، وأنصار الجنين الكامل المصغر في بويضة المرأة، ولم يفطن أحد من هؤلاء الباحثين لمدة ألفي عام أن كلًّا من الذكر والأنثى يساهم بالتساوي في تكوين الجنين.

واستمرت هذه المعارك حتى عصر النهضة، بل إنها استمرت حتى بداية القرن العشرين، حيث شيّعت هاتان النظريتان إلى مثواهما الأخير، وذلك بعد أن تمكن “هيرتويج” (Hertwig)([9]) في عام 1875م من ملاحظة كيف يلقح الحيوان المنوي البويضة، وأثبت بذلك أن كلًّا من الحيوان المنوي والبويضة يساهم في تكوين البويضة الملقحة (الزيجوت)، وكان بذلك أول إنسان يشاهد عملية التلقيح هذه ويصفها.

وفي عام 1883م تمكن “فان بندن” (VanBeneden)([10]) من إثبات أن كلًّا من البويضة والحيوان المنوي يساهم بالتساوي في تكوين البويضة الملقحة.

وهكذا يبدو بوضوح أن الإنسانية لم تعرف بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني (أو الحيواني) يتكون باختلاط نطفة الذكر ونطفة الأنثى إلا في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في القرن العشرين([11])، بينما سبق القرآن الكريم إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة) بين نطفة الرجل وبويضة المرأة، قال تعالى:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)((الإنسان).

وقد كانت هاتان النظريتان راسختين كأنهما حقيقتان ثابتتان لا جدال فيهما، لكن ذلك لم يمنع علماءنا الكرام من تقديم النص القرآني عليهما، ومنهم ابن حجر كما أشرنا منذ قليل، وابن القيم حينما قال: “الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافًا لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده”([12]).

وكذلك قال القرطبي: “بيّن الله تعالى في هذه الآية ـ يقصد قوله تعالى في سورة الحجرات: ) إنا خلقناكم من ذكر وأنثى( (الحجرات: ١٣) ـ أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى”([13])، وردّ على من قال بأن الخلق يخلق من ماء واحد، فقال: “والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل”([14]).

ومن هنا نتساءل: إذا كان القرآن الكريم قد خالف الرأي السائد في عصره والعصر السابق عليه والتالي له أيضًا، في القول بأن الجنين يخلق من ماء الرجل والمرأة على السواء، فكيف يدّعي هؤلاء أن القرآن الكريم كان يقتبس معارفه عن علم الأجنة من الأمم السابقة عليه؟!

ثانيا. معارف قوم النبي صلى الله عليه وسلم عن علم الأجنة قبل الإسلام:

تفاوتت درجة العلوم التي انتشرت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي قومه قبل بعثته، فقويت العلوم التي كانت لها صلة ببيئتهم؛ مثل الشعر، وتحسس مخابئ الماء تحت طبقات الأرض وعلم الأنواء (تعرف أوقات نزول الغيث عن طريق حركة النجوم ومنازلها)، ومعرفة آثار الأقدام (القيافة) وعلم الأنساب، وضعفت العلوم الأخرى عندهم؛ مثل الطب ـ وإن كان فيهم أطباء معروفون؛ مثل الحارث بن كلدة ـ الذي كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية؛ مثل الكي والبتر والفصد (الشق) والتداوي بالأعشاب والحجامة، وانتشرت بعض العلوم التي ليس لها ركائز منطقية؛ مثل دراسة الأجرام السماوية (التنجيم والكهانة) لمعرفة الأمور الغيبية من حاضر ومستقبل.

أما علم الأرحام عند العرب ـ وهو الذي يعنينا ـ فلم يكن أحسن حالًا من سائر العلوم الأخرى، وكان قائمًا حينئذٍ على ما تعلمه العرب من اليهود، على ما به من اعتقادات غير صحيحة سوف نوضحها في الوجه القادم إن شاء الله تعالى([15]).

وإذا كان هذا هو حال قوم النبي صلى الله عليه وسلم الذين عاش بينهم وتعلم منهم، فأنّى له  صلى الله عليه وسلم المقدرة على كشف حقائق علمية بلغت أقصى الدرجات من الدقة، وقد كان صلي الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؟!

وقد اقتصر علمه  صلى الله عليه وسلم على المعرفة برعاية الغنم، وعلى بعض الأمور الحربية، وعلى بعض الأمور السياسية، وعلى بعض أمور التحكيم، وقد أتيح له السفر إلى اليمن أربع مرات في مهمات تجارية كان يقوم بها للاتجار بمال خديجة رضياللهعنها، ومرة واحدة إلى مدينة بصرى في بلاد الشام، وهي أبعد مكان رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ([16]).

وإذا كان صلى الله عليه وسلم معروفًا بين قومه بالصادق الأمين، فهل كان يترك الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل؟ بالطبع لا، لو كان هذا الكلام العلمي أخذه النبي  صلى الله عليه وسلم من الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث أو غيرهما كما ادعى هؤلاء لأخبر أنه أخذه منهم، وكيف يأخذه منهم وهم لا يعلمونه؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.

فمن المعروف أن هؤلاء قد شاعت فيهم الأساطير والخرافات وكان كثير من معلوماتهم مشوبًا بالخطأ كما أثبت العلم الحديث، فإذا كان هؤلاء هم مصدر معلومات رسول الله  صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ فكيف ميز بين هذه الأفكار المتباينة، فأخذ الصحيح وهو النادر، وترك الباطل وهو الغالب؟!

إن القرآن الكريم ليس كتاب علم من العلوم، وإنما كتاب هداية وإرشاد، ولكن شاءت إرادة الله تعالى أن يتضمن إشارات من باب الإعجاز العلمي لم يكن لها في زمن تنزيل القرآن الكريم أي أثر في نشر الدعوة، ولم يكن لوجودها في ذلك الوقت أية مساهمة في نشر الإسلام، ولم ينقل إلينا أن أحدًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسلم من أثر الآيات التي نسميها الآن بمواضع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إن كل من أسلم في زمن الرسالة كان بسبب ما جاء به الإسلام من عقيدة التوحيد الصافية النقية التي تخاطب الفطر السليمة، وبما دعا إليه من أخلاق وآداب فاضلة، قال تعالى:)واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا (36)(  (النساء)

وإن كان لا أثر لهذه الإشارات العلمية في نشر الدعوة في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فما الحاجة إلى أن يكذب ويأخذ هذه العلوم من غيره؟ إن العقل السليم يأبى ذلك.

ثالثا. علم الأجنة بين القرآن والكتاب المقدس:

إن نظرة عجلى إلى ما يوجد في التوراة والإنجيل من معلومات غير صحيحة مأخوذة من النظريات البشرية التي كانت منتشرة حين جمعت أسفار هذه الكتب ـ لتدل على أن الإسلام لم يأخذ منها شيئًا، وإنما جاء بعلم لا يمكن أن يأتي إلا من عند رب عليم خبير.

ولنضرب لذلك أمثلة عدة توضح مخالفة القرآن لـما ذكر في الكتاب المقدس من معلومات عن علم الأجنة، من ذلك ما يأتي:

مراحل خلق الجنين:

ماذا قال الكتاب المقدس عن مراحل خلق الجنين؟ قال العهد القديم: “يداك كونتاني وصنعتاني كلّي جميعًا. أفتبتلعني. اذكر أنك جبلتني كالطين. أفتعيدني إلى التراب، ألم تصبني كاللبن وخثّرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب…” (أيوب 10: 8)، والمعنى: أنك صببتني كاللبن؛ أي: دم الحيض سائل، وحين يلتقي به الحيوان المنوي يخثره كما تخثر الأنفحة الحليب (اللبن) فتجعله جبنًا.

وكما أن المادة الرئيسة في تكوين الجبن هي الحليب (اللبن)، وما الأنفحة إلا عامل مساعد في التخثير، فإن الحيوان المنوي ـ بحسب تلك النظرية المغلوطة ـ ليس له إلا دور ثانوي في تكوين الجنين([17]).

وبالنظر إلى ما ذكره أرسطو من النظريات التي كانت سائدة في عصره عن مادة تكوين الجنين، نجده رجح النظرية القائلة بأن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المنيّ بعقده مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن.

ومن هنا يتبين أن ما ذكر في الكتاب المقدس مأخوذ من هذه النظرية التي كانت منتشرة في عهد جمعه، وإذا أضفنا إلى ذلك الخطأ الثاني الوارد في هذا النص، وهو كسوة الجنين جلدًا ولحمًا، ثم بعد ذلك خلق العظام والعصب، وهذا خطأ فادح أثبته العلم الحديث ـ تبين أن هذا من وضع بشر وليس من كلام رب العالمين.

وأين التشابه بين ما ذكره الكتاب المقدس وما ذكره القرآن في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ((المؤمنون).

هذه هي مراحل تكوين الجنين في القرآن (النطفة ـ العلقة ـ المضغة ـ العظام ـ اللحم)، وهي حقائق علمية أكدها الطب الحديث كما أوضحنا آنفا.

1.تصحيح الإسلام لاعتقاد اليهود الغير صحيح في إتيان المرأة من ورائها:

ثم نأتي إلى قضية ثانية تثبت يقينًا أن الإسلام لم يستق معلوماته في علم الأجنة من الكتب السابقة، بل تثبت تصحيحه لأخطائها التي تمسكوا بها سنين عددًا، وهذه القضية هي اعتقاد اليهود أن الرجل إذا جامع امرأته من ورائها جاء الولد أحول، روى البخاري في صحيحه عن جابر رضى الله عنه  قال: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت)نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( (البقرة: ٢٢٣)»([18]). فجاء القرآن مصححًا لهذه الخرافات المنتشرة بين اليهود، وليس حاكيًا لها.

2.تقديم السمع على البصر في القرآن:

لقد جاء ذكر السمع قبل البصر في القرآن الكريم، وذلك بإحكام شديد، فلم يذكر البصر قبل السمع إلا في آيات قلائل جاءت في معرض الحديث عن العذاب أو الإنذار به أو وصف00 الكفار والمشركين دون إشارة إلى خلق الحاستين، أما الآيات التي تحدثت عن خلق الحاستين، فقد قدمت السمع على البصر في جميعها؛ حيث ترافقت كلمتا السمع والبصر في 38 آية كريمة، كما في قوله تعالى) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ( (السجدة: ٩)، وقوله تعالى: )وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ( (المؤمنون: ٧٨)، وقوله تعالى:)وجعلنا لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة ( (الأحقاف: ٢٦)، وقوله تعالى:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)(  (الإنسان).

فلماذا تقدّم السمع على البصر في القرآن؟ هل في ذلك حكمة وإعجاز علمي؟

الإجابة: لا بد من سبب لذلك، وإلا لقدم البصر مرات وقدم السمع مرات، وقد أثبت عدد كبير من العلماء الإعجاز العلمي في تقديم السمع على البصر، ومنهم: الأستاذ الدكتور صادق الهلالي، والدكتور حسين اللبيدي، والدكتور عدنان الشريف، والدكتور محمد علي البار، والدكتور عبد السلام المحسيري، وجمع الدكتور زغلول النجار هذه الحقائق التي توصل إليها هؤلاء العلماء فيما يأتي:

   ‌أ- أن الأذن الداخلية للحميل تصبح قادرة على السمع في شهره الخامس تقريبًا، بينما العين لا تفتح ولا تتكون طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع من عمره، وحتى في هذا الوقت لا يستطيع الحميل أن يرى لعدم اكتمال تكون العصب البصري، ولكونه غارقًا في ظلمات ثلاث.

 ‌ب-يمكن للجنين أن يسمع الأصوات بعد بضعة أيام من ولادته، وذلك بعد امتصاص كل السوائل وفضلات الأنسجة المتبقية في أذنه الوسطى والمحيطة بعظيماتها، أما حاسة البصر فتكون ضعيفة جدًّا أو معدومة، وتتحسن هذه الحاسة بالتدريج في الشهرين الثالث والرابع بعد الولادة وحتى الشهر السادس، وتستمر حاسة البصر في النمو عند الوليد حتى سن العاشرة.

    ‌ج- إن المنطقة السمعية في المخ تتكامل عضويًّا قبل المنطقة البصرية في مراحل الحميل وحتى بعد الولادة([19]).

من هذا يتبين أن تقديم السمع على البصر في هذه المواضع العديدة يدل على أن هذا الكلام من عند علام الغيوب وليس من اختراع بشر.

ولكن هل أخذ القرآن الكريم هذا الإعجاز من الكتاب المقدس؟ لننظر ماذا قال الكتاب المقدس عن حاستي السمع والبصر، وهل قدم السمع على البصر على اعتبار خلقه أولا  كما ذكر القرآن؟

يقول الأستاذ عبد الوهاب الراوي: “بمراجعتي كتب التوراة والإنجيل لم أجد إشارة إلى هذه الحقيقة العلمية ـ تقديم السمع على البصر ـ سوى إشارة واحدة في كتاب الأمثال: “الولد أيضا يعرف بأفعاله هل عمله نقي ومستقيم؟ الأذن السامعة والعين الباصرة الرب صنعهما كلتيهما… افتح عينيك تشبع خبزًا” (الأمثال 20: 11 ـ 13)، فتجد هنا السمع يسبق البصر الذي يذكر بالإفراد وليس بالجمع كما في القرآن؛ على حين لا ذكر للأفئدة، أضف إلى ذلك أن هذه الإشارة لا تتكرر في مواضع أخرى من الكتاب المقدس، وهذا يؤدي بنا إلى استنتاج أن هذه الإشارة أتت عابرة، القصد منها بيان أن الأذن تسمع والعين تبصر، هذا أمر بدهي… فأين إذًا المعجزة العلمية في هذا النص التوراتي، ثم اعلم بأن تتابع السمع والبصر في هذا النص ينعكس في نص آخر في كتاب إشعياء وإرمياء مثل: “ولا تحسر عيون الناظرين وآذان السامعين تصغى” (إشعياء 32: 3). “حتى متى أرى الراية وأسمع صوت البوق؟” (إرميا 4: 21)”([20]).

ومن هنا يتبين أن معجزة السمع والبصر في القرآن الكريم لا يمكن مقابلتها مع الذي ورد في كتب التوراة والإنجيل، وإذا كان ذكر السمع والبصر في التوراة والإنجيل لا يتطابق مع روح المعنى الذي أريد منه في القرآن الكريم لهذه النعم، إذن يمكن القول أن كتبة التوراة والإنجيل فاتتهم هذه الحقيقة العلمية المعجزة، والذي يهمنا في هذا الأمر أن القرآن جاء بأمور لم يأت بها الكتاب المقدس.

4.)والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين(:

ونأتي إلى قضية أخرى لها علاقة وثيقة بالجنين ألا وهي قضية الرضاعة؛ حيث إنها من الإعجاز العلمي البليغ في القرآن الكريم، ولا إشارة إليها في الكتاب المقدس، يقول تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( (البقرة: ٢٣٣)؛ أي إن الإرضاع الأمثل يتحقق من لبن الوالدة الأم، وليس من لبن المرضعة أو من الإرضاع الاصطناعي، وذلك لمدة سنتين كاملتين.

وقد أوحيت هذه الآية الكريمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا قبل أن يثبت ويتأكد للطب الحديث أن إرضاع الطفل من ثدي والدته هو الطريق الأقوم لنمو الطفل سليمًا من ناحية الصحة الجسدية والنفسية، وارتباط الطفل وتعلقه بأمه، وبالتالي تثبيت أركان العائلة التي هي النواة الأساسية في الإسلام.

وجاء الطب الحديث ليبين أن هذه الآية معجزة طبية؛ فقال مجلس الصحة الدولي ـ عام 1992م ـ: “لن يلبي المتطلبات الغذائية للطفل الرضيع أي نوع من الطعام والشراب حتى الماء؛ سوى لبن الوالدة الأم”.

ونشرت المجلة البرازيلية سوبرنترسانت (Superinteressante) أن نصف الأمهات البرازيليات يتوقفن عن إرضاع أطفالهن بعد الشهر الثاني من الولادة؛ ولهذا يموت الأطفال من الإسهال الذي كان بالإمكان وقايتهم منه لو استمر الأطفال في الرضاعة.

وعرضت كل من قناتي التلفاز (بي ـ بي ـ سي) و (آي ـ تي ـ في) في 17 تموز 1999م هذا الخبر: “أظهرت دراسة علمية ألمانية أجريت على 9357 طفلًا بعمر 5 و 6 سنوات بأن نسبة عالية من مجموعة الأطفال الذين لم ترضعهم والداتهم أصيبوا بالبدانة؛ بينما مجموعة الأطفال الذين أرضعتهم والداتهم لفترة طويلة لم يصابوا بهذا الداء، وعليه أكدت الدراسة ضرورة إرضاع الطفل من ثدي والدته ولفترة طويلة نسبيًّا”.

وقام الدكتور “هيوغ جولي” (Hughjolly) بعمل مسح ميداني على عدة أمهات، تأكد له منه أن فترة الرضاعة المـثلى هي سنتان، يقول: “كنت أتصور في البدء أن السنة الأولى من عمر الطفل تعتبر حيوية لتغذيته من لبن أمه، على حين وجدت من المسح الميداني أن عدة أمهات استمررن على رضاعة أطفالهن حتى السنة الثانية، فكان الأمهات يرضعن أطفالهن في الصباح الباكر وقبل موعد النوم، إن عناصر التغذية في لبن الأم متوازنة وأقل سمنة من لبن البقر الذي يحدث أضرارًا في صحة الطفل”.

إذًا أثبتت هذه المكتشفات العلمية ـ التي ذكرنا بعضًا منها ـ أن إرضاع الأم لطفلها فترة طويلة ـ عامين كاملين حسب ذكر القرآن الكريم ـ من شأنه إنشاء طفل صحيح العقل والبدن، لا يعاني من كثرة الأمراض والأوبئة.

فهل أخذ القرآن هذه المعلومة الإعجازية من الكتاب المقدس؟ لننظر ماذا قالت التوراة والإنجيل في الرضاعة، يقول الأستاذ عبد الوهاب الراوي: جاء في التوراة ذكر الرضاعة والفطام بصيغ عابرة تخلوها الدقة وتخص مناسبات رضاعة لأشخاص معينين، في حين لم يأت في الإنجيل ذكرهما أبدًا، وهذه أمثلة عن الرضاعة والفطام من نصوص التوراة، منها: “ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك ـ المقصود يعقوب عليه السلام” (إشعياء 49: 23)، “فأخذت نعمى الولد (عبيد) ووضعته في حضنها وسارت له مربية” (راعوث 4: 16)، “ألِلْمفطومون عن اللبن، للمفصولين عن الثدي” (إشعياء 28: 9)، “فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق” (تكوين 21: 8)، “وماتت ديورة مرضعة رفقة” (تكوين 35: 8).

5.من خلال هذه النصوص لا نجد في التوراة والإنجيل ذكرًا للتأكيد على أهمية الرضاع من الأم وليس من غيرها، وأن يستمر الرضاع مدة عامين كاملين، كما أكد القرآن على ذلك في قوله تعالى:(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين(   (البقرة: ٢٣٣)، وقوله تعالى: )وفصاله في عامين(  (لقمان: ١٤)، وقوله تعالى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا( (الأحقاف: ١٥) ـ وإنما نجد ذكرًا عابرًا للرضاعة والفطام في مواضع من حكايات التوراة، ونلاحظ أن المربيات هن اللائي يقمن بالرضاعة وليس الأمهات([21]).

وإذا كان قد اجتمع عندنا أمران مهمان؛ الأول منهما أن القرآن بيّن خطأ الكتاب المقدس في ذكره أن الجنين يتكون من دم الحيض مع منيّ الرجل، وهدم خرافات اليهود التي من أشهرها أن إتيان الرجل زوجته من ورائها يجعل الولد أحول، والثاني أنه أتى بأشياء كثيرة شهد العلم الحديث بصحتها فكانت إعجازًا علميًّا، وهذه الحقائق لا نجد لها إشارة في الكتب المقدسة السابقة، بل ذكرت ذكرًا عابرًا دون نص على الحقيقة ـ نقول: إذا كان الأمر كذلك فكيف يدعى أن الإسلام أخذ علم الأجنة ممن سبقه؟!

الخلاصة:

وبعد هذا العرض لتوضيح أن ما ذكره القرآن عن علم الجنين من عند الله تعالى، وليس مأخوذًا من كلام البشر ـ نرى أنه من المفيد أن نورد تلخيصًا سريعًا يجمل ما سبق:

قسم العلماء علم الأجنة إلى ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: المرحلة الوصفية، وتستمر منذ بدايته حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية: مرحلة علم الأجنة التجريبي، وتبدأ من نهاية القرن التاسع عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين، والثالثة: هي مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة وهي التي نعيشها الآن.

لم يكن هناك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قريبًا منه ما يمكن أن تستقى منه بالخبرة البشرية هذه المعلومات العلمية الدقيقة والموجودة في القرآن والسنة.

فعند المصريين القدماء انتشرت الخرافات والتخمينات فيما يخص علم الجنين؛ فكانت خرافة مشيمة الملك، وتلاوة النساء رقى وتمائم عند الحمل والولادة لتسهيل عملية الولادة إلى غير ذلك من الخرافات التي لا تمت إلى العلم بصلة.

واعتقد الهنود قديمًا أن الجنين يتكون من اتحاد الدم والمنيّ، وذكروًا مراحل لنمو الجنين تتنافى تمامًا مع الحقيقة، وتدل على دور الخيال في فهم هذه المراحل لديهم.

أما اليونانيون فهم أول من ربط العلم بالمنطق، ورغم ذلك ظلت تعليلاتهم بعيدة عن الحقيقة؛ فقالوا بخلق الجنين من منيّ الرجل ودم الحيض، وقدموا خلق اللحم على العظام، وكلها أخطاء بين بطلانها القرآن، ثم جاء الطب الحديث فأكد بطلانها أيضًا.

أكد علماء الإسلام قديمًا أن القرآن خالف ما كان سائدًا في تلك العصور عن خلق الجنين، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن القيم والقرطبي.

كان علم الطب في قوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ضعيفًا جدًّا، وإن كان فيهم أطباء معروفون مثل الحارث بن كلدة؛ إذ كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية، مثل الكي والفصد والبتر، وأما علم الأرحام والجنين فلم يعرف منه العرب إلا ما تعلموه من اليهود على ما به من اعتقادات غير صحيحة.

إذا كان هذا هو حال القوم الذين نشأ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن أين له هذه العلوم وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب؟ بالإضافة إلى أن الذي اشتهر بالصدق والأمانة ما كان له أن يترك الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل.

إن هذه الإشارات العلمية في القرآن الكريم لم يكن لها أي أثر في الدعوة إلى الإسلام في عهد نزوله، فما الحاجة إليها عند النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد حتى يقوم بتأليفها؟! وهذا دليل كافٍ على أنه من كلام الله رب العالمين.

إن نظرة عجلى إلى ما يوجد في الكتاب المقدس من معلومات غير صحيحة مأخوذة من النظريات البشرية التي كانت منتشرة حين جمعت أسفار هذا الكتاب ـ لتدل على أن الإسلام لم يأخذ منها شيئًا، وإنما جاء بعلم لم يكن ليأتي إلا من عند رب عليم خبير.

ذكر العهد القديم أن الجنين يتكون من دم الحيض السائل، وليس للسائل المنوي إلا دور ثانوي في تكوين الجنين، وذلك في قوله: “… ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن…”، وهذه هي نظرية أرسطو التي كانت سائدة في عصره، والتي قالت بأن الجنين يتخلق من دم الحيض حين يقوم المنيّ بعقده، مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن.

جاء القرآن مخالفًا لكل هذا وأكد أن الجنين يتكون من النطفة الأمشاج التي تجمع بين نطفتي الرجل والمرأة، ولا علاقة لدم الحيض بالجنين، بالإضافة إلى أن القرآن ذكر بقية المراحل بدقة بالغة، وهي (النطفة ـ العلقة ـ المضغة ـ العظام ـ اللحم)، ولم ترد أية إشارة إليها في الكتاب المقدس، فأين التشابه إذًا بين الكتاب المقدس والقرآن؟!

ذكر العهد القديم أن خلق الجلد واللحم يكون قبل العظام والعصب؛ فقال: “كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب”، بينما قال القرآن (فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا((المؤمنون :14) ، وهذا ما أثبته العلم الحديث، فأين ما أخذه القرآن من الكتاب المقدس في هذا الأمر؟!

كانت اليهود تظن أن الرجل إذا جامع امرأته من ورائها ـ أي: في قبلها ـ جاء الولد أحول، فنزل قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم((البقرة: ٢٢٣)، فقطع بذلك دابر هذه الخرافة بعد بيان بطلانها.

إن في تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم إعجازًا علميًّا يتضح بعد أن أثبت العلم الحديث أسبقية خلق السمع على البصر، فهل أخذ القرآن الكريم هذا الإعجاز من الكتاب المقدس؟ بالطبع لا، فلم يرد تقديم السمع على البصر إلا في موضع واحد من الكتاب المقدس لا يثبت ترتيبًا، وإنما هو إشارة عابرة، القصد منها بيان أن الأذن تسمع والعين تبصر، أما الباقي فقدم البصر على السمع فيها.

لقد أثبت العلم الحديث أن إرضاع الطفل من أمه لمدة طويلة (عامين) تحمي الطفل من كثير من الأمراض التي قد تؤدي إلى وفاته، وأنه أفضل غذاء للطفل في هذه الفترة، وذلك تحقيقًا لقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( (البقرة: ٢٣٣)، ولم يرد في الكتاب المقدس إشارة إلى فائدة لبن الأم، وإنما هي إشارات عابرة تفتقد الدقة، تخص مناسبات رضاعة لأشخاص معينين، غالبهم من المربيات وليس الأمهات.

(*) رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ج2، ص87.

[2]. علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، عبد المجيد الزنداني وآخرون، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، باكستان، 25 ـ 28 صفر، 1408هـ/ 18 ـ 21 أكتوبر، 1987م، ص4، 5.

[3]. رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[4]. كيث مور: أستاذ علم التشريح والأجنة بجامعة تورنتو بكندا، وهو من أكبر علماء التشريح والأجنة في العالم، في عام 1984م، استلم الجائزة الأكثر بروزًا في حقل علم التشريح في كندا (جي ـ سي ـ بي) جائزة جرانت من الجمعية الكندية والأمريكية لاختصاصيِّ التشريح ومجلس اتحاد العلوم الحيوية، وكيث مور صاحب أشهر كتاب في علم الأجنة (The Developing human)، والذي تُرجم لأكثر من خمس وعشرين لغة من لغات العالم، ويُدرَّس في معظم كليات الطب في العالم.

[5]. رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج11، ص489.

[7]. الرد على شبهات حول طور العظام، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

[8]. لويس باستور (Louis Pasteur) (1822م ـ 1895م): كيميائي وبيولوجي فرنسي، عَقَّم اللبن تعقيمًا جزئيًّا بحرارة تقتل المعتضيات الضارة من غير أن تُحدث في المادة المعقمة تغييرًا كيميائيًّا جوهريًّا، وهو ما يُدعى اليوم بـ “البسترة”.

[9]. هيرتويج (1849م ـ1922م): عالم الأجنة والخلايا الألماني، كان أول من أدرك أن انصهار نواتي الحيوان المنوي والبويضة هو حدث مهم وضروري في عملية الإخصاب، ومن بين أبحاثه المهمة ـ دراساته في الناقلية النووية للصفات الوراثية، ونظرية الوراثية الحياتية، وأيضًا تأثير إشعاعات الراديوم على الخلايا الجسمية والتناسلية، كما قام هيرتويج مع أخيه ريتشارد بالتحقيق في تكوُّن فتحة الجسم وتشكلها، وكتب عدة أبحاث في نظرية الطبقة التناسلية، متسائلًا عما افترضته من أن كلًّا من الأعضاء والأنسجة مشتقة من تنوع في طبقات الأنسجة الثلاثة.

[10]. فان بندن (1846م ـ 1910م): عالم الأجنة والخلايا البلجيكي، المشهور باكتشافاته المركزة على الإخصاب وعدد الكروموسومات (الجسيمات الملونة) في الخلايا الجنسية والجسدية، وفي خلال سنواته الأولى عمل بندن مع والده البروفيسور في علم الحيوان في الجامعة الكاثوليكية في لوفاين، والذي قدَّم ملاحظاته لابنه في دراسته عن الحيوانات الأولية والديدان الخيطية ومجموعات متعددة من الحيوانات الأخرى، فقام فان بندن الأصغر بالتوسع في تلك الدراسات لتشمل مجموعة من الكائنات الشبيهة بالديدان والمتميزة بإنجابها نوعين من الأجنة.

ومنذ عام 1883م قام فان بندن بنشر سلسلة من المقالات والأبحاث العلمية حول بيضة الإسكارس (الدودة المعوية عند الخيول)، في هذه الدراسات أظهر فان بندن أن الإخصاب متضمن للالتحام الضروري بين نصفي نواتين ـ واحدة من الذكر (الحيوان المنوي) والأخرى من الأنثى (البُييضة) ـ وكل واحدة تتألف من نصف عدد الكروموسومات في خلايا الجسم، واكتشف أن لكل فصيلة ونوع من الكائنات الحية عددًا معيَّنًا من الكروموسومات  يختلف عن غيره من الفصائل، وكذلك عمل على تطوير نظرية تكوُّن الجنين في الثدييات، والتي أصبحت ـ لاحقًا ـ قانونًا علميًّا مقياسيًّا.

[11]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، الدار السعودية، السعودية، ط3، 1402هـ/ 1981م، ص184: 188.

[12]. تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، ط1، 1391هـ/ 1971م، ص277.

[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج16، ص342.

[14]. المرجع السابق، ج16، ص343.

[15]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص42، 43.

[16]. المرجع السابق، ص44.

[17]. تكوُّن الجنين: دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والعهد القديم، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: منتديات أتباع المسيح عليه السلام: www.atba-almaseeh.com.

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ( (البقرة : 223 ) (8/ 37)، رقم (4528).

[19]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص541، 542.

[20]. معجزات القرآن العلمية في الإنسان مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، دار العلوم، عمان، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص149.

[21]. المرجع السابق، ص114: 130.

المصدر

نفي إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن النجوم الخانسة الكانسة

مضمون الشبهة:

في محاولة جديدة للنيل من القرآن والطعن في إعجازه، نفى جمع من الطاعنين إعجاز القرآن العلمي في قوله عز وجل:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، قائلين: إن من شروط قبول التفسير العلمي ألا يلغي تفسير السلف ولا يخرج عن مدلول اللغة؛ وقد فسَّر جمهور المفسرين من الصحابة -ومن بعدهم- الآية بغير ما فسرها به دعاة الإعجاز العلمي، كما أن “الكُنَّس” عند أهل اللغة: هي التي تختبئ، وليست التي تكنس. وحتى إذا سلمنا بصحة التفسير العلمي من أن الآية تنطبق على مرحلة من مراحل النجوم، وهي ما يسميه العلماء باسم الثقوب السوداء (Black holes)، فإن الوصف القرآني لها بالخُنَّس يكون غير دقيق؛ لأنه جاء مخالفًا التسمية العلمية.

وجها إبطال الشبهة:

1)إن أهم صفات الثقب الأسود (Black hole)أنه: لا يُرى (خنَّس)، ويجري بسرعات كبيرة (جوار)، ويكنس ويجذب كل شيء يقترب منه (كُنَّس)، وهذه الصفات تتطابق تطابقًا كاملاً مع الوصف القرآني: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير). أما إذا نظرنا إلى التسمية العلمية بالثقب والوصف بالأسود وجدناها غير دقيقة؛ ذاك أن الثقب يعني الفراغ، وهذه الأجسام على العكس ليس فيها فراغ، كما أن الوصف بالأسود ليس صحيحًا؛ لأن هذا الثقب لا لون له، فهو غير مرئي. ومن ثم؛ فإن الوصف القرآني لهذه النجوم: )بالخنس الجوار الكنس (يفوق التسمية العلمية لها باسم “الثقوب السوداء” دقة وشمولاً وإحاطة.

2)إن أخذ اللفظتين -الخنس والكنس- بالمعنى نفسه -الاختفاء والتستر- دفع جمهور المفسرين إلى القول بأن من معاني الآية: النجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل، ولكن الذي يتأمَّل هذا التفسير يلاحظ أنه غير دقيق؛ ذاك أن الكنس: إماجمع”كانس” أي: قائم بعملية الكنس، أومختفٍ، والمعنى الأول هو المقصود هنا؛ إذ لا يعقل أن يكون المقصود هو الاختفاء، وقد استُوفي هذا المعنى بلفظ “الخنس”، كما أن الوصف القرآني “الخنس” يعني الاختفاء الكامل، وليس الظهور ثم الاختفاء.

التفصيل:

أولاً-الوصف القرآني المعجز “الخنس الجوار الكنس” يفوق التسمية العلمية “الثقوب السوداء”:

1) الحقائق العلمية:

من المعلوم جيدًا أنه لو تم قذف حجر إلى أعلى، فإنه بفعل الجاذبية سيعود مرة أخرى إلى الأرض، وكلما كانت شدة رمي الحجر أقوى، كلما كانت سرعة صعوده أقوى، كما أنه سيكون أكثر ارتفاعًا، ولكن إذا ما قُذف إلى أعلى وبقوة كافية فإنه لن يعود أبدًا؛ إذ إن شدة الجاذبية لن تتمكن من إرجاعه مرة أخرى، وهذه السرعة التي يجب أن يصل إليها الحجر ليهرب تسمَّى “سرعة الهروب”، ومقدارها 11كم/ ث، وذلك لأي مقذوف من على سطح الأرض([1]).

ولقد أصبح من المسلمات أيضًا أنه كلما تم ضغط جسم ما إلى حجم أصغر، فإن شدة جاذبيته ستزداد وبالتالي سنحتاج إلى سرعة هروب أكبر، وبالاستمرار طرديًّا في ذلك سنصل إلى مرحلة لن يتمكن حتى الضوء من الهروب، وهنا لن يتمكن أي شيء من الهروب لعدم معرفتنا بما هو أسرع من الضوء، وتلك هي براثن الثقب الأسود([2]).

المقصود بالثقب الأسود:

يعرف الثقب الأسود (Black Hole) بالمفردة (singularty)، وهي نقطة صغيرة جدًّا ذات أبعاد صفرية، توجد بها كل كتلة النجم وعندها يتوقف الزمن، وهو محاط بحاجز غير مرئي يسمى “أفق الأحداث” (Event Zone)([3])،داخله تكون سرعة الهروب أكبر من سرعة الضوء، والمسافة بين مركز الثقب وأفق الأحداث تسمى “نصف قطر شوارز شيلد” (Schwarzschild)([4]): بداخله توجد المفردة، وحولها فراغ تام؛ إذ إن أي شيء يدخل أفق الأحداث ينجذب إلى المفردة ويندمج بها([5]).

وقد أفادت الحسابات النظرية في الثلث الأول من القرن العشرين إمكانية وجود مثل هذه الأجرام السماوية ذات الكثافات الفائقة والجاذبية الشديدة، إلا أنها لم تكتشف إلا في سنة 1971م، بعد اكتشاف النجوم النيوترونية بأربع سنوات.

وفي خريف سنة 1967م أعلن الفلكيان البريطانيان “توني هيويش” (Tony Hewish) و”جوسلين بل” (Jocelyn Bell)عن اكتشافهما لأجرام سماوية صغيرة الحجم بأقطار في حدود 16 كم تدور حول محورها بسرعات مذهلة، بحيث تتم دورتها في فترة زمنية تتراوح بين عدد قليل من الثواني إلى أجزاء لا تكاد تدرك من الثانية الواحدة، مصدرة موجات راديوية منتظمة أكدت أن تلك الأجرام هي نجوم نيوترونية (NeutronStars)ذات كثافة فائقة تبلغ مليون طن للسنتيمتر المكعب.

صورة لنجم خانس كانس يدور حول محوره ويحاط بقرص رقيق من المواد المجتمعة حوله

وفي سنة 1971م اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلاً من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيرًا علميًّا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية مرئية ذات كثافات خارقة للعادة، ومجالات جاذبية عالية الشدة؛ وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها، وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم “الثقوب السوداء” (Black Holes)؛ لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة من مثل الغبار والغازات الكونيين، والأجرام السماوية المختلفة، ووصفت بالسواد؛ لأنها معتمة تمامًا لعدم قدرة الضوء على الإفلات من مجال جاذبيتها على الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بنحو ثلاث مئة ألف كيلو متر في الثانية.

إن جاذبية الثقب الأسود كبيرة جدًّا ولكنها تؤثر فقط على الأجسام القريبة منها، وهكذا تعمل هذه الثقوب مثل المكنسة؛ إذ تجذب وتبتلع كل ما يقترب منها

وقد اعتبرت الثقوب السوداء مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة، وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة مادتها إلى دخان السماء دون أن يستطيع العلماء حتى هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث ذلك.

        إن النجم عندما يتهاوى على نفسه وينغلق وينضغط، يتشكل ما يسمى بـ “الثقب الأسود”، فالثقب الأسود في الأساس هو نجم، ولكن هذا النجم يبلغ أكثر من عشرين ضعف وزن الشمس؛ يعني شمسنا التي يبلغ وزنها 3000 مليون مليون مليون مليون طن، هذه الشمس الهائلة هنالك نجوم أكبر منها بعشرين ضعفًا، هذه النجوم عندما تنهار على نفسها تشكل الثقوب السوداء. كما أن هناك صفة مميزة لهذه المخلوقات وهي أنها تكنس الغبار الكوني والدخان وغير ذلك مما تصادفه في طريقها وتبتلعه كالمكنسة.

كيف تتكوَّن الثقوب السوداء:

تعتبر الثقوب السوداء -كما ذكرنا من قبل- مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة التي تبلغ كتلتها عدة مرات قدر كتلة الشمس([6])، ولكي نفهم كيفية تكوُّنها لا بد لنا من معرفة المراحل السابقة في حياة تلك النجوم. والنجوم هي أجرام سماوية غازية التركيب في غالبيتها، شديدة الحرارة، ملتهبة، مضيئة بذاتها، يغلب على تركيبها عنصر الإيدروجين الذي يكون أكثر من 74 % من مادة الكون المنظور، الذي تتحد نوى ذراته مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم “عملية الاندماج النووي”(Nuclear Fusion)مُطلِقة الطاقة الهائلة ومكوِّنة عناصر أعلى في وزنها الذرى من الإيدروجين([7]).

والنجوم تتخلَّق ابتداء من الدخان الكوني الذي يكون السُّدُم، وينتشر في فسحة السماء ليملأها، وتكوَّن النجوم في داخل السدم بفعل دوامات عاتية تؤدي إلى تجاذب المادة تثاقليًّا، وتكثفها على ذاتها حتى تتجمع الكتلة اللازمة ودرجات الحرارة المناسبة لتخليق النجم، فتبدأ عملية الاندماج النووي فيه، وتنطلق منه الطاقة وينبعث الضوء.

وبعد الميلاد تمر النجوم بمراحل متتابعة من الطفولة فالشباب فالشيخوخة فالهرم على هيئة ثقب أسود يعتقد أن مصيره النهائي هو الانفجار والتحوُّل إلى الدخان الكوني مرة أخرى، وإن كنا لا ندري -حتى الآن-  كيفية حدوث ذلك.

ومن المراحل المعروفة للفلكيين في دورة حياة النجوم ما يعرف باسم “نجوم النسق العادي” (The mian sequence stars)،والعمالقة الحمر (The Red Giants)،والأقزام البيض (The White Dwarfs)،والأقزام السود (The Black Dwarfs)،والنجوم النيوترونية (The Neutron Stars)،والثقوب السوداء (The Black Holes)،فعندما تبدأ كمية الإيدروجين داخل النجم في التناقص نتيجة لعملية الاندماج النووي، وتبدأ كمية الهيليوم الناتجة عن تلك العملية في التزايد تبدأ طاقة النجم في الاضمحلال تدريجيًّا وترتفع درجة حرارة قلب النجم إلى عشرة ملايين درجة مطلقة([8])، مؤديًا بذلك إلى بدء دورة جديدة من عمل الاندماج النووي، وإلى انبعاث المزيد من الطاقة التي تؤدي إلى مضاعفة حجم النجم إلى مئات الأضعاف، وهذا ما يعرف باسم “العملاق الأحمر”(the red giant)،وبتوالي عملية الاندماج النووي يأخذ النجم في استهلاك طاقته دون إمكانية إنتاج المزيد منها؛ الأمر الذي يؤدي إلى تقلصه في الحجم وانهياره إما إلى قزم أبيض (White Dwarf)أو إلى نجم نيوتروني (Neutron Star)أو إلى ثقب أسود (Black Hole)حسب كتلته الأصلية التي بدأ وجوده بها.

فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أقل من كتلة الشمس، فإن الإلكترونات في مادة النجم تقاوم عملية تقلصه ابتداء، ثم تنهار هذه المقاومة ويبدأ النجم في التقلص حتى يصل إلى حجم أقل قليلاً من الأرض، متحولاً إلى قزم أبيض، وهذه المرحلة من مراحل حياة النجوم قد تتعرض لعدد من الانفجارات النووية الهائلة، التي تنتج عن تزايد الضغط في داخل النجم، وتسمَّى هذه المرحلة باسم “النجوم الجديدة أو المستجدة” (The Novae) وهي نجوم شديدة الحرارة؛ ولذا تعرف باسم “المستعرات”.

ولكن إذا زاد تراكم الضغط في داخل القزم الأبيض فإنه ينفجر انفجارًا كاملاً محدثًا نورًا في السماء يقارب نور بليون شمس كشمسنا، وتسمَّى هذه المرحلة باسم النجم المستعر الأعظم (The super nova)يفنى على أثرها القزم الأبيض، وتتحول مادته إلى دخان الكون، وتحدث هذه الظاهرة مرة واحدة في كل قرن من الزمان لكل مجرة تقريبًا، ولكن مع الأعداد الهائلة للمجرات في الجزء المدرك مرة كل ثانية تقريبًا.

أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أكبر من كتلة الشمس، فإنه ينهار عند استهلاك طاقته متحولاً إلى نجم نيوتروني، وفيه تتحد البروتونات والإلكترونات منتجة النيوترونات، وهذا النجم النيوتروني ينبض في حدود ثلاثين نبضة في الثانية الواحدة، ومن هنا يعرف باسم “النجم النابض” (The Pulsating Star)،أو النابض (The Pulsar)،ولكن هناك من النجوم النيوترونية ما هو غير نابض (Non – Pulsating Neutron Star)؛ وقد يستمر النجم النيوتروني في الانهيار على ذاته حتى يصل إلى مرحلة الثقب الأسود، إذا كانت كتلته الابتدائية تسمح بذلك، فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم تزيد على كتلة الشمس بمرة ونصف المرة تقريبًا (4,1 قدر كتلة الشمس) ولكنها تقل عن خمسة أضعاف كتلة الشمس، إن عملية التقلُّص تنتهي به إلى نجم نيوتروني لا يزيد قطره على ثمانية عشر كيلو مترًا تقريبًا، ويسمَّى بهذا الاسم لأن الذي يقوم بعملية مقاومة التقلص التثاقلي (Gravitational Contraction)فيه هي النيوترونات؛ لأن الإلكترونات في داخل كتلة النجم تعجز عن ذلك.

شكل يوضح حركة نجم خانس كانس في مجرتنا

أما إذا زادت الكتلة الابتدائية للنجم على خمسة أضعاف كتلة الشمس فلا يتمكَّن أي من الإلكترونات أو النيوترونات من مقاومة عملية التقلص التثاقلي للنجم، التي تستمر حتى يصل النجم إلى مرحلة الثقب الأسود، وهذه المرحلة لا يمكن إدراكها بصورة مباشرة، ولكن يمكن تحديد مواقعها بعدد من الملاحظات غير المباشرة مثل صدور موجات شديدة من الأشعة السينية من الأجرام الواقعة تحت تأثيرها، واختفاء كل الأجرام السماوية بمجرد الدخول في مجال جاذبيتها.

ومع إدراكنا لانتهاء حياة النجوم بالانفجار على هيئة نجم مستعر أو نجم مستعر أعظم، أو بفقدانه للطبقات الخارجية منه، وتحوله إلى مادة عظيمة الكثافة شديدة الجاذبية مثل النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء، إلا أن طبيعة تلك الثقوب السوداء وطريقة فنائها تبقى معضلة كبرى أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية، فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل، ولكن حسب قوانين فيزياء الكم؛ فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة إلى الدخان الكوني، وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه، ولكن تبقى كيفية تبخر مادة الثقب الأسود بغير جواب، وتبقى كتلته، وحجمه، وكثافته، وطبيعة المادة والطاقة فيه، وشدة حركته الزاوية، وشحناته الكهربية والمغناطيسية([9]) -من الأسرار التي يكافح العلماء إلى يومنا هذا من أجل استجلائها([10]).

رسم يوضح مسار أحد الثقوب السوداء

2) التطابق بين الحقائق العلمية والآية الكريمة:

من الآيات العظيمة التي حدثنا الله عز وجل عنها وأقسم بها الخنس، يقول تعالى:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19)((التكوير)، هذه الآيات تحدثنا عن مخلوقات كونية سماها القرآن “الخنس”، ولكن الطاعن يقول: إن هذه التسمية غير دقيقة؛ إذ إن العلماء يسمُّونها الثقوب السوداء، وسنرى فيما يأتي من خلال بيان المدلول اللغوي للآية الكريمة، ومن خلال ما ذكره العلماء أي التسميتين أدق.

المدلول اللغوي للآية الكريمة:

جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس وفي غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي “الخنس والكنس” يحسن الاستهداء به في فهم مدلولهما:

الخنس: خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل على استخفاء وتستر، قالوا: الخَنْس الذهاب في خفية؛ ولذلك يقال خنَست عنه، أي: تخفيت عنه، وأخنَست حقه، أي: غمطته إياه. والخُنَّس: النجوم تخنُس في المغيب، وقال قوم: سميت بذلك لأنها تختفي نهارًا وتطلع ليلاً، والخنَّاس في صفة الشيطان لأنه يخنس إذا ذُكر الله تعالى، ومن هذا الباب: الخنَّس جمع خانس؛ أي: مختفٍ عن البصر، والفعل خنس بمعنى: استخفى وتستر، يقال: خنس الظبي إذا اختفى وتستر عن أعين المراقبين.

والخنوس يأتي بمعنى التأخر، كما يأتي بمعنى الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به؛ أي: غاب به، وأخنسه؛ أي: خلفه ومضى عنه.

الجوار: الجارية في أفلاكها، جمع جارية، من الجري؛ أي: المر السريع.

الكنس: لهذه الكلمة أصلان صحيحان، يدل أحدهما على سفر شيء عن وجه شيء، وهو كشفه؛ والأصل الآخر يدل على استخفاء، فالأول: من مثل كنس البيت، وهو سفْر التراب عن وجه أرضه، والمكنسة: آلة الكنس، والكناسة ما يكنس. والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي، والكانس: الظبي يدخل كناسه([11]). وعلى ذلك قيل: بأن الكنس: هي الكواكب أو النجوم تكنس في بروجها كما تدخل الظباء كناسها، قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب.

الوصف القرآني يفوق التسمية العلمية:

ينبغي أن نعلم أن الكلمات القرآنية أدق من الكلمات التي يستخدمها علماء الغرب، فهم يطلقون على مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة اسم الثقوب السوداء، وهذه التسمية جاءت قبل سنوات على لسان أحد العلماء ظن أن هنالك فجوات في السماء -يعني أماكن فارغة- فأطلق هذا الاسم، ولكن تبين أن هذه الثقوب وزنها ثقيل جدًّا؛ إذ إنها تزن بلايين وبلايين وبلايين من الأطنان تتركز ضمن دائرة ضيقة هي الثقب الأسود؛ ولذلك فإن القرآن لم يسمِّها ثقبًا؛ لأن الثقب يعني: الفراغ، وهذه الأجسام على العكس ليس فيها فراغ أبدًا، بل قمة الوزن والكتلة والجاذبية موجودة فيها.

وهم يسمون هذا النجم “أسود”، مع العلم أن التسمية الصحيحة ينبغي أن تكون “لا يرى”، وهذا ما يصرح به كبار علماء الفلك في الغرب؛ إذ يتساءلون في مقالاتهم الصادرة حديثًا: هل الثقب الأسود أسود فعلاً؟ وتبين بنتيجة أبحاثهم أن هذا الثقب لا لون له؛ لأنه غير مرئي.

       يقول العلماء: إن أهم صفة تميز هذه الثقوب السوداء أنها لا ترى، ولا يمكن رؤيتها مهما تطورت الأجهزة، وحتى لو خرجنا خارج الأرض إلى الفضاء الخارجي لن نستطيع رؤية هذه الأجسام. ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم عندما أطلق لفظ “الخنس” بالجمع؛ إنما كانت هذه الكلمة في منتهى الدقة، بينما العلماء يطلقون المصطلحات، وبعد مدة من الزمن يحاولون تغيير هذه المصطلحات فلا يستطيعون، ويبقى المصطلح العلمي مستخدمًا على الرغم من أنه مصطلح غير دقيق. أما القرآن الكريم؛ فإنه يعطينا المصطلح الدقيق مباشرة([12]).

ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السوداء تسمية مجازية عجيبة تنطبق انطباقًا دقيقًا على الوصف القرآني )بالخنس الجوار الكنس(، وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع كل شيء يقترب منها إلى داخلها([13]).

 (supergiant vacuum cleaners That suck in everyting insight).

فسبحان الذي خلق النجوم وقدر لها مراحل حياتها، وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة، وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة الحالكة السواد، الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها لنا من قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز فقال: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير). ولا نجد وصفًا لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السوداء أبلغ من وصف الخالق عز وجل لها بالخنس الكنس، فهي خانسة؛ أي: دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحددة لها، فهي خنس جوار كنس، وهوتعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السوداء الذي اشتهر وشاع بين المشتغلين بعلم الفلك.. )ومن أصدق من الله قيلا (122)((النساء)([14]).

ثانيًا -الوصف القرآني (الخنس) يعني الاختفاء الكامل، وليس الظهور ثم الاختفاء:

يقول المشككون: إن من شروط قبول التفسير العلمي ألا يلغي تفسير السلف ولا يخرج عن مدلول اللغة، وجمهور المفسرين من الصحابة، ومن بعدهم، فسروا لفظة “الكنس” بغير ما فسره به دعاة الإعجاز العلمي، و”الكنس” عند أهل اللغة: هي التي تختبئ، وليست التي تكنس، قال ابن منظور في لسان العرب: قال أكثر أهل التفسير في الخنس: إنها النجوم، وخنوسها أنها تغيب، وتكنس: تغيب أيضًا، كما يدخل الظبي في كناسه. وهذا القول مردود بما يأتي:

الكنس: إما جمع كانس؛ أي: قائم بالكنس([15])، أو مختفٍ من كنَس الظبي؛ أي: دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وسُمِّي كذلك لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه.

ونرى أن المعنى الأول هو المقصود هنا ـ فالكنس هي صيغة الجمع للفظة “كانس”، والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس؛ أي: سفْر شيء عن آخر وإزالته ـ إذ لا يعقل أن يكون المعنى المقصود في الآية الكريمة للفظة “الكنس” هي المنزوية المختفية، وقد استوفي هذا المعنى بلفظ “الخنس”.

إن لكل لغة من اللغات معاني مفردات؛ إذ إن كثيرًا من الكلمات تحمل معاني عدة؛ ففي اللغة الإنجليزية:

كوكب المريخ، أو إله الحرب

Mars

ملف أسطواني أو قائمة أو رغيف أو دحرجة

Roll

وفي اللغة الفرنسية:

مكان استخراج الأحجار، أو مهنة

Carriere

ومن ثم؛ فإن اللغة العربية ليست بدعًا من لغات العالم؛ فكلمتا “الخنس والكنس” لهما عدة معانٍ كما هو واقع في كلمات اللغات الأخرى؛ ولذا وجب أن ننظر إلى المعاني كلها، فليس صحيحًا أن نبرز جانبًا من المعنى ونخفي الآخر، وهذا ما فعله الطاعن؛ إذ جاء بمعنى واحد وأخفى المعاني الأخرى.

إن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها، ومن هنا كانت ضرورة التنبيه على عدم لزوم الربط بين القسم الأول:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، والقسم الذي يليه في الآيتين الآتيتين مباشرة: )والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18)((التكوير)، وهو ما فعله غالبية المفسرين، فانصرفوا عن الفهم الصحيح لمدلول هاتين الآيتين الكريمتين.

إن أخذ اللفظتين بالمعنى نفسه -الاختفاء والتستر- دفع بجمهور المفسرين إلى القول بأن من معاني  )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير): أقسم قسمًا مؤكدًا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معنى الخنس، وهي التي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها؛ أي: مغاراتها وهو معنى الجوار الكنس.

قال القرطبي: “هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها؛ أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار”([16]).

قال ابن كثير: “قال بعض الأئمة: إنما قيل للنجوم الخنس؛ أي في حال طلوعها، ثم هي جوار في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها كنس من قول العرب: أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه”([17]).

وقال صاحب الظلال: “هي الكواكب التي تخنس؛ أي ترجع في دورتها الفلكية، وتجري في أفلاكها وتختفي”([18]).

ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أن الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير) يتطابق تطابقًا كاملاً مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم، يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السوداء (Black Holes). هذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من ألف وأربع مئة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة على نبينا الأمي صلى الله عليه وسلم، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين ـ هو شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته([19]).

إن الله تعالى عندما قال: )فلا أقسم بالخنس (15)((التكوير) إنما يحدثنا عن مخلوقات كونية لا ترى أبدًا؛ ولذلك سمَّى الله الشيطان بالخناس؛ أي: الذي لا يرى: )إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم((الأعراف: ٢٧)، ومن ثم فالوصف القرآني بالخنس يعني: الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء.

فكلمة “الخنس” إذًا لا تنطبق على النجوم التي نراها في صفحة السماء؛ لأن الله عز وجل يعطينا حقائق يقينية مطلقة لا تتعلق فقط بأهل الأرض، ولكن هذا القرآن يصلح للكون بأكمله، وهذا يعني أننا إذا خرجنا إلى أي مكان في الكون خارج الأرض، تبين لنا حقيقة ما أشار إليه القرآن، وبما أن الله عز وجل أقسم بهذه المخلوقات وقال )فلا أقسم بالخنس (15)(، فهذا يعني أن الله عز وجل يتحدث عن أجسام أو كائنات لا ترى أبدًا.

ونحن اليوم بعدما تطورت وسائل القياس، وتعرف العلماء على كثير من أسرار الكون تبين لنا أن هذه النجوم التي نراها في الليل لا تغيب، فهي تغيب بالنسبة لنا عندما يطلع علينا النهار، ولكنها تظهر بالنسبة لسكان الأرض في الجهة المقابلة، وإذا خرجنا خارج نطاق الجاذبية الأرضية رأينا ظلاما دامسا رأينا هذه النجوم لا تغيب فهي موجودة ليل نهار([20]).

ومن ثم؛ فإنه لا مشكلة إذا أخطأ مفسر في تفسير آية؛ لأن القرآن هو الحقيقة المطلقة التي لاتتغير، أما التفسير فإنه يمثل فهم البشر للآية، وبما أن الناس يختلفون في مستوى فهمهم، وأن العلم يتطور، فلا بد أن يكون هناك تجديد في التفسير، وهذا لا يسيء إلى القرآن، بل يؤكد على أن القرآن مناسب لكل عصر من العصور؛ لأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض يمكن تفسيره بشكل منطقي، وبما يتفق مع العلم مهما تطور إلا القرآن([21]).

إن الأمور الكونية المقسم بها في القرآن الكريم تشهد للخالق عز وجل بطلاقة القدرة، وكمال الصنعة، وتمام الحكمة، وشمول العلم. ومن هنا؛ فلا بد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية بالكون ومكوناته، وبالسنن الإلهية الحاكمة له، وحتى يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله هو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة، يرى فيها أهل كل عصر معنًى معينًا، وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وليس هذا لغير كتاب الله([22]).

فسبحان الذي وصف لنا الثقوب السوداء بوصفه الرباني: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، وهو وصف يفوق التسمية العلمية لها باسم “الثقوب السوداء” دقة وشمولاً وإحاطة، ويشهد لمنزِّله في محكم كتابه بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة، كمايشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه((فصلت: ٤٢).

3) وجه الإعجاز:

اكتشف العلماء حديثًا وجود نجوم أسموها الثقوب السوداء كتلتها أكبر من كتلة الشمس بعشرين مرة، وتتميز بخصائص ثلاث:

لا ترى (invisible) “خنس”.

تجري وتتحرك بسرعات كبيرة (Moves) “جوار”.

جاذبيتها فائقة تعمل مثل المكنسة (Vacuum cleaner)”كنس”؛ حتى إن العلماء وجدوا أنها تعمل كمكنسة كونية عملاقة.

وهذه الصفات الثلاث هي التي حدثنا عنها القرآن بثلاث كلمات في قوله تعالى: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير)، فهذه الآية تمثل سبْقًا للقرآن في الحديث عن الثقوب السوداء قبل أن يكتشفها علماء الغرب.

الخنس الجوار الكنس

(*) موقع: الكلمة www.alkalema.net.

[1]. سرعة الهروب بالنسبة إلى الأرض هي 11كم/ ث، وبالنسبة إلى القمر هي 4,2 كم/ ث، أما سرعة الهروب على سطح الثقب الأسود فتزيد على سرعة الضوء؛ أي: 300 ألف كم/ ث، وبالتالي حتى الضوء لا يستطيع المغادرة؛ ولذلك فهو مظلم لا يُرى أبدًا.

[2]. نهاية الكون والثقوب السوداء، د. ياسين محمد المليكي، موقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.

[3]. أفق الأحداث (Event Zone): حدود منطقة من الزمان والمكان التي لا يستطيع الضوء الإفلات منها، ويعتبر جزءًا من الثقب الأسود. وإذا أُتيح لك أن تسقط في ثقب أسود، سيكون من المستحيل لك أن تعرف متى تمرُّ من أفق الأحداث، فهو ليس بالشيء الملموس، وكذلك قلب الثقب ليس بالشيء الملموس أيضًا. وطبقًا لنظرية النسبية؛ فإن مركز الثقب هو نقطة تقوس الزمن الفضائي اللانهائي؛ وهذا يعني أن قوة الجاذبية قد أصبحت قوية بشكل لا نهائي في مركز الثقب الأسود نفسه، وكل شيء سيكون مصيره السقوط في هذا الثقب إذا مر بأفق الأحداث بما في ذلك الضوء، وستصل في النهاية إلى مركز الثقب -حيث النقطة اللانهائية من الكثافة- وقبل أن تصله فإنه يكون قد مُزِّق بفعل قوة الجاذبية الحادة، حتى الذرات نفسها سوف تتمزق بفعل تلك الجاذبية.

[4]. شوارزشيلد (1873م- 1916م): عالم رياضيات ألماني استطاع القيام بحل معادلات “إينشتاين” للأجسام الكروية المضغوطة.

[5]. الكون ونجوم السماء، عبد السلام محمود، مرجع سابق، ص33، 34.

[6]. إذا فرض أن الشمس تحوَّلت إلى ثقب أسود لبقيت الكواكب كلها على حالها تدور حولها؛ إذ إن الكواكب موجودة خارج أفق الأحداث، ويُسمَّى نصف قطر أفق الأحداث بنصف قطر شوارزشيلد، لو تحولت الشمس إلى ثقب أسود، فإن نصف قطر أفق الأحداث لها يكون 3 كم فقط، ويكون نصف قطر أفق الأحداث بالنسبة للأرض لو تحوَّلت إلى ثقب أسود –فرضًا- هو سنتيمتر واحد. وإذا أخذنا نجمًا أكبر 10 مرات من كتلة الشمس؛ فإن نصف قطر شوارزشيلد له يساوي 30 كم، وعندما يذكر حجم الثقب الأسود؛ فإن ذلك يعني قطر أفق الأحداث، ويستدل على وجود الثقب الأسود بتأثيره على النجوم المجاورة له، أو بالإشعاع الذي ينشأ نتيجة لسحْبه الغبار الكوني المحيط به، وأقرب ثقب أسود للأرض يبعد عنها 5 آلاف سنة ضوئية.

[7]. الإيدروجين: أخف العناصر المعروفة لنا على الإطلاق وأبسطها من ناحية البناء الذري؛ ولذلك يوضع في الخانة رقم واحد في الجدول الدوري للعناصر التي يُعرف منها اليوم أكثر من 105 من العناصر.

[8]. الصفر المطلق يساوي 273 درجة تحت الصفر المئوي.

[9]. القوة الكهرومغناطيسية (Electromagenetic): هي القوة التي تحدِّد سلوك جسيم مشحون كهربائيًّا تجاه جسيم آخر مشحون، فالشحنات المتشابهة تتنافر والشحنات المختلفة تتجاذب، وهي التي تحافظ على الإلكترونات (سالب) مرتبطة بالنواة (موجب) داخل الذرة، وهي القوة التي تتحكم في التفاعلات الكيميائية؛ حيث يرتبط الأيون السالب بالأيون الموجب ويحملها الفوتون (photon).

[10]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص217- 227.

[11]. مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة: خنس، ومادة: كنس.

[12]. )الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) (التكوير): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل 7.comwww.kaheel.

[13]. من رحمة الله بنا أن هذه الثقوب لا تعمل على المسافات الطويلة، وإلا لكانت أرضنا قد اختفت منذ زمن بعيد؛ لأن مجرتنا تحوي ملايين الثقوب السوداء؛ ولذلك يقول العلماء إن هذه الثقوب تعمل عمل المقابر الكونية؛ لأنها تمثل المرحلة الأخيرة من موت النجوم.

[14]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص227- 228.

[15]. المعجم الوسيط، مادة: كنس.

[16]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص237.

[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص479.

[18]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3841.

[19]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص215.

[20]. )الْجَوَارِ الْكُنَّسِ((16) (التكوير): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل com.www.kaheel7.

[21]. الفتق الكوني، حقائق جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل 7.comwww.kaheel.

[22]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص211- 212.

المصدر

شهادات المتخصصين حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

قال الله تعالى: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”. (فصلت 52-53)

عندما نقرأ هاتين الآيتين اللتين تتحدثان عن قدرة الله في إظهار أدلة صحة القرآن للذين كفروا، ثم نجد أنهم في هذا العصر يقرون بألسنتهم بتلك الأدلة العلمية، فإننا نلمس الإعجاز من جوانب كثيرة.. الأدلة نفسها، وتحقق رؤيتها، وظهورها للذين كفروا.. وهذا أيضا نلمسه في آية أخرى: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء 30). فهذا الاكتشاف العلمي الدقيق لم يكتشفه مسلم!

وعندما يطرح المسلم على الملحد جوانب من الإعجاز العلمي في القرآن، كتطور الجنين مثلا، فيرد عليه الملحد بأنه ليس إعجازا، فإن هذا الرد لا يزيد المسلم إلا قناعة بغفلة هذا الملحد! ولا يلام المسلم على هذا الانطباع عندما يقارن بين وجهتي نظر من شخصين مختلفين: الأول مغرد ملحد غير معروف الهوية، والثاني شخصية عالمية معروفة مثل البروفيسور كيث مور Keith Moore على سبيل المثال، وهو الذي عمل عميدا لكلية الطب في جامعة تورنتو في كندا، وعمل بروفيسورا في علم الأجنة لمدة عشرين سنة في جامعة مينوتوبا، وعمل رئيسا لقسم الأجنة فيها لإحدى عشرة سنة، وألّف سبعة كتب جامعية، أربعة منها عن الأجنة. وهو عضو في الأكاديمية العالمية لعلم النفس، وعمل رئيسا للجمعية الأمريكية للجراحة الإكلينيكية.

هذا البروفيسور المتخصص في علم الأجنة ألف كتابا هو أشهر كتب الأجنة المقررة دراسيا في جامعات العالم، وأضاف إليه ملحقا عن أطوار الأجنة في القرآن والسنة، وهو يصرح أنه ليس مسلما وإنما يتحدث عن ذلك من أجل الحقيقة.

فعندما يقارن المسلم بين ادعاءات الملحد الذي لا يعرف عنه سوى حسابه على تويتر أو الفيسبوك وبين كلام هذا البروفيسور العالمي المتخصص، فإن لسان حال المسلم يقول: وهل يتوقع مني أن أصدقه وأكذب هذا البروفيسور؟

وتزيد قناعة المسلم بغفلة الملحد عندما يطلع على كلام علماء آخرين مثل البروفيسور Marshall Johnson والبروفيسور T. V. N. Persaud والبروفيسور Tejatat Tejasen الذين تحدثوا أيضا عن الإعجاز القرآني في الأجنة، بل إن الأخير أعلن إسلامه على الملأ عند اكتشافه لهذا الإعجاز.

والإعجاز العلمي في القرآن لا يقف عند علم الأجنة، بل هناك مجالات عديدة تحدث عنها علماء آخرون مثل Gerald G. Goeringer و Joe Simpson و Alfred Kroner.

لهذا فعندما يدعي الملحد الإنترنتي أن تفاصيل أطوار الجنين في القرآن غير معجزة، هنا تظهر عورته العقلية التي لا يسترها شيء، وهي أنه صاحب هوى.. أو أنه لديه خلل لا يمكنه من رؤية ما يراه هؤلاء العلماء واضحا جليا.

وسنورد هنا مقاطع لعلماء مشهورين يتحدثون عن تفاصيل علمية إعجازية وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، وسنريكم في آخر الصفحة مثالا لأثر هذه المقاطع على الملاحدة.

كيث مور Keith Moore (يوجد تعريفه في الأعلى) يتحدث عن الإعجاز في وصف الجنين وأنه لم يكن أحد يعلم عن تلك التفاصيل قبل نزول القرآن.

مقطع آخر قصير لكيث مور يقول فيه إن هذه التفاصيل عن خلق الجنين لابد أنها قد وصلت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من الله الخالق لأن أسرارها لم تكتشف إلا بعد قرون عديدة من نزول القرآن، وأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) لابد أن يكون رسولا من عند الله.

البروفيسور مارشال جونسون Marshall Johnson، الذي عمل رئيسا لقسم التشريح والبيولوجيا بجامعة توماس جفرسون في ولاية فيلادلفيا يتحدث عن تفاصيل تكوّن الجنين في مراحله الأولى وخصوصا مرحلة الغيض في الأرحام، وهي وصف قرآني دقيق لانتقال البويضة بعد تلقيحها إلى الرحم لتتحول إلى مرحلة العلقة.

(المقطع محذوف من يوتيوب)

هذا المقطع ملخص لإحدى محاضرات البروفيسور مارشال جونسون يقول فيه:

“لا يكتفي القرآن بوصف النمو الخارجي للجنين فقط ولكنه يوضح أيضا الأطوار الداخلية لخلق ونمو الجنين مؤكدا مراحل النمو الأساسية التي عرفها العلم المعاصر.”

البروفيسور بيرسود T. V. N. Persaud، أستاذ الجراحة وطب وصحة الأطفال في جامعة مانيتوبا في كندا، يقول:

“كان محمد (صلى الله عليه وسلم) شخصا عاديا جدا، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ونحن نتحدث عن فترة ما قبل 1200 عام تقريبا [الصحيح 1400] وعن شخص أمي يأتي بعبارات دقيقة ومدهشة بالمقياس العلمي، وأنا شخصيا لا يمكنني الاقتناع بأن الأمر مجرد صدفة، لأن النصوص فيها تفاصيل دقيقة وكثيرة جدا. وأنا مثل الدكتور مور، لا أتردد في اعتبار ذلك وحيا إلهيا.”

البروفيسور Gerald G. Goeringer، أستاذ طب الأجنة في قسم بيولوجيا الخلية بكلية الطب جامعة جورجتاون في واشنطن يقول:

“هناك عدد من الآيات التي تحوي وصفا شاملا لنمو الإنسان منذ امتزاج الأمشاج إلى تخلق الأعضاء. ومثل هذا السجل الكامل والمتميز لنمو الإنسان بما فيه من تصنيف وتعبيرات وتوصيفات لم يكن موجودا فيما سبق. وفي أغلب الآيات إن لم يكن كلها، نجد أن هذه التفاصيل تسبق بقرون عديدة ما هو مدون في الطب التقليدي عن مراحل النمو الجنيني المعروفة.”

وله أيضا هذا المقطع الذي يتحدث فيه بالتفصيل عن مراحل وأطوار نمو الجنين مقارنة بالنص القرآني:

البروفيسور جو سمبسون Joe Leigh Simpson هو أستاذ ورئيس قسم الولادة وأمراض النساء، وأستاذ جامعي في علم الجينات الجزيئية بكلية بيلور الطبية في تكساس، يقول:

“…وعلى ذلك فإن القول بعدم وجود تعارض بين علم الجينات والدين لا يكفي، بل إن الدين في الحقيقة يرشد العلم عن طريق استصحاب الوحي مع بعض المفاهيم العلمية التقليدية. ويوجد في القرآن عبارات أثبت العلم أيضا صحتها بعد قرون من الزمن، وهذا يدعم المعرفة القائلة إن القرآن منزل من عند الله.”

البروفيسور تيجاتات تيجاسين Tejatat Tejasen عمل رئيسا لقسم الجراحة وعمل أيضا عميدا لكلية الطب في جامعة شيانغ ماي في تايلاند، ومختصر ما قاله:

“خلال السنوات الثلاث الماضية أصبحت مهتما بالقرآن… ومن دراساتي وما تعلمته خلال هذا المؤتمر أعتقد أن كل ما هو مدون في القرآن منذ أربعة عشر قرنا لابد أن يكون الحقيقة التي يمكن إثباتها بالوسائل العلمية. وبما أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يقرأ أو يكتب، فلا بد أنه رسول نقل لنا الحق الذي أوحاه إليه الخالق الحقيقي. فالخالق لابد أنه هو الله. وأعتقد أنه حان الوقت لأقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله… إن أغلى ما كسبته من حضوري في هذا المؤتمر هو لا إله إلا الله محمد رسول الله واعتناقي الإسلام.”

البروفيسور أليسون بالمر Alison Palmer حصل على الدكتوراه بالجيولوجيا من جامعة مينوسوتا، وعمل أستاذا في المتحجرات بجامعة نيويورك، ثم منسقا في البرنامج العلمي المئوي للجمعية الجيولوجية في أمريكا، وعمل رئيسا لجمعية الأحافير، وأخيرا صار أستاذا في جامعة كولورادو. يتحدث عن الإشارات الجيولوجية في القرآن، ويوضح أن علم الجيولوجيا لا يزيد عمره عن 200 عام. ويذكر أن ما ورد عن أرسطو من معلومات جيولوجية لا تتوافق نهائيا مع العلم. ثم يذكر نبذة عن الطبقات الجيولوجية والسجل الأحفوري.

بعد ذلك يتحدث عن قوله تعالى: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق… الآية”، ثم استعرض آيات وعلق عليها مثل: “أخرج منها ماءها ومرعاها”، “والجبال أرساها”، “والأرض ذات الصدع”، “أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور”، “والأرض بعد ذلك دحاها”، “أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها… الآية”، “وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي… الآية”.

ثم ذكر الحديث الذي ورد في صحيح مسلم “لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا”، وأوضح أن علم الأحافير وعلم الجيولوجيا أثبتا بالفعل أنها كانت خضراء في زمن قديم مضى وأنها ستعود كذلك. (لاحظ أن الحديث أعطى كلا المعلومتين)

البروفيسور ألفرد كرونر Alfred Kroner هو أستاذ الجيولوجيا في جامعة جوهانز جوتنبرغ بألمانيا، يقول:

“إن شخصا لم يعرف شيئا عن الفيزياء النووية قبل أربعة عشر قرنا لا يمكنه أن يكتشف من عقله هو على سبيل المثال أن الأرض والسماوات أتت من أصل واحد.. مع الأسئلة الأخرى التي ناقشناها هنا.”

البروفيسور وليام هَي William Hay هو أستاذ علوم البحار والجيولوجيا في جامعة كولورادو، يقول:

“أجد من المثير جدا للاهتمام أن مثل هذه المعلومات موجود في القرآن الكريم، وليس لدي أي علم من أين أتت، لكن من المهم للغاية أنها موجودة، وهذه المهمة [في المؤتمر] مستمرة لكي تكتشف معاني بعض العبارات، ولابد أنه [المصدر] الوجود الإلهي.”

البروفيسور جاري ميلر Gary Miller يحمل الدكتوراه في المنطق الرياضي، أسلم فيما بعد وسمى نفسه عبد الأحد عمر، وهو مبدع حقا في تلمس مظاهر الإعجاز المنطقية في القرآن. يتناول في هذه المحاضرة الصوتية بعض التأملات المبهرة عن إعجاز القرآن.

مثال للأثر الذي تتركه هذه المقاطع على الكفار والملاحدة

لا شك أن مثل هذه المقاطع لا يمكن ردها، فهي مسجلة وموثقة بالصوت والصورة، وهي تعمل عملها في الملحدين المنكرين للقرآن باعتباره وحيا من الخالق. فهو يحوي الكثير من أسرار الخلق التي لا يمكن أن يعلمها قبل تلك القرون إلا الخالق نفسه، ثم أن الله علمها للإنسان بهدايته إلى العلم والبحث، بالضبط كما قال تعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.. فالمسلم هنا متوافق تماما مع نفسه ومع الكون ومع القرآن، وعد الله الكفار بإظهار آياته في القرآن فأظهرها لهم..

فالمسلم ليس لديه إشكال في ظهور الآيات في أزمان متفرقة، وهذا رد على الكافر الذي يقول: لماذا لم يظهر الإعجاز العلمي عند نزول القرآن؟ فالجواب هو تلك الآية نفسها..

لكن ما الذي تفعله هذه الشهادات العلمية بالملاحدة؟

الملاحدة يدندنون كثيرا حول العلم وصراع العلم المزعوم مع الدين، ويتلبسون بلباس العلم، فإذا جاءت الشهادة من العلماء بأن القرآن ليس فقط يتوافق مع العلم وإنما أيضا العلم نفسه يثبت أن القرآن وحي من الخالق.. هذا هو الذي يصيب الملحد في مقتل ويفقده توازنه..

The Rationalizer

هذا الملحد يعيش في برمنجهام في بريطانيا، وهو لا يعلن اسمه الحقيقي وإنما يسمي نفسه The Rationalizer، ويعرّف بنفسه على أنه (ضد الإسلام)، وهو من أبوين أحدهما ملحد والآخر لا أدري.

سافر إلى ميونخ في ألمانيا ليقابل صاحب المقطع الأخير Hay الذي كان موجودا حينها في ميونخ، وكذلك اتصل بصاحب المقطع الذي قبله Kroner عبر الاتصال المرئي، ورغم أن مقاطع شهاداتهما للقرآن صريحة وواضحة اللغة، ولكنه كان يتوق إلى الحصول على نفي منهما.. وأعتقد أنهما حاولا أن يجاملاه قدر الإمكان!

لنرى ما دار بينهم وكيف أنهما لم يستطيعا إنكار ما قالاه..

اتصاله مع كرونر

هذا اتصاله مع Kroner، سأله إن كان هو نفسه الموجود في المقطع، ثم سأله عن ظروف المقطع، فأجاب بأنه من المؤتمر الذي عقد في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، ثم سأله إن كان المؤتمر عن القرآن أم عن الجيولوجيا، فأنكر البروفيسور أن يكون هناك أي ذكر للقرآن أو الدين في المؤتمر، ثم استدرك قائلا إنه دعي مع عدد من العلماء إلى ندوة في جدة وتم طرح موضوع التوافق بين آيات القرآن وعلوم الأرض. ثم سأله إن كان قوله بوجود تفاصيل علمية في القرآن يعكس اعتقاده حينذاك فأجاب بأن الهدف لم يكن هو إظهار الإعجاز القرآني ولكن كانت تعرض عليهم آيات فيقولون أنها موافقة للعلم أم لا، ثم يقول إن بعضها كان موافقا وبعضها غير موافق.. (لم يذكر ما هي الآيات التي لا توافق العلم، ولو كانت هناك آيات مخالفة للعلم لأثبتها هنا لأنها ستدعم موقفه). ثم سأله إن كان قد أسلم فنفى. هذا أهم ما في المقطع..

الملفت للانتباه أن هذا الملحد يظن أنه حقق شيئا ينفي المقطع الذي يحوي شهادة هذا البروفيسور، كل ما استفدناه من الفيديو هو أن البروفيسور نفى أن يكون هدفه من حضور المؤتمر هو إثبات صحة القرآن ونفى أن يكون قد أسلم.. وهذان الأمران لم يقل بهما أحد ولم يردا أصلا في مقطع شهادة كرونر..

ما يهمنا بالضبط هو نص شهادته: “إن شخصا لم يعرف شيئا عن الفيزياء النووية قبل أربعة عشر قرنا لا يمكنه أن يكتشف من عقله هو على سبيل المثال أن الأرض والسماوات أتت من أصل واحد.. مع الأسئلة الأخرى التي ناقشناها هنا”.

زيارة الملحد إلى وليم هَي في ميونخ

ذهب الملحد إلى ميونخ ليقابل وليم هَي Hay صاحب المقطع الأخير في هذه الصفحة.

خلاصة الكلام في هذا اللقاء هو أن البروفيسور وليام لم ينف ما قاله في شهادته، وإنما حاول الخروج من الحرج بتفاصيل بعيدة عن الموضوع. فحاول الادعاء أن اللغة العربية الحالية قد تكون تغيرت ألفاظها عن لغة القرآن فيجب أن لا يعول على مدلولاتها، وهو ربما يقيس على لغته الانجليزية، فلغة تشوسر مثلا قبل ستة قرون قد لا يفهمها المعاصرون. وهذا جهل منه، إذ أن لغة القرآن معروفة ومفهومة والمسلمون يحفظون الكثير من نصوص القرآن، والحفاظ منهم يحفظونه كاملا. فكلامه هنا يسقط بسبب جهله باللغة العربية، رغم أنها نقطة أصلا بعيدة عن الموضوع.

أيضا قال إن العرب والمسلمين لهم علم بالبحار وربما تسربت علومهم إلى القرآن، وهو ربما يقصد ابن ماجد وبربروس وغيرهما الذين عاشا في القرن التاسع الهجري، وهنا أخطأ للمرة الثانية، فإن المسلمين لم يعرفوا البحار والملاحة إلا في عصور الفتوحات واتساع دولة الإسلام، أما قريشا فكانت أبعد ما تكون عن ركوب البحار. فيسقط كلامه هنا أيضا لجهله بالتاريخ.

ولكي تعرف مستوى الترقيع الذي يحاول به التراجع عن كلامه الصريح بتوافق نص القرآن مع العلم، لاحظ أن الآية تتحدث عن الأمواج الداخلية في البحر، وهذه لا علاقة لها أصلا بالبحارة وأهل الملاحة الذين يجوبون البحار، حتى لو قلنا إن قريشا منهم، فهل يغوص البحارة في أعماق البحر ليكتشفوا الأمواج السفلى التي تحدث عنها القرآن ولم يكتشفها العلم إلا حديثا؟ لو فعلوا ذلك لغرقوا! هذه الحقيقة لم يتم اكتشافها إلا بالبحث العلمي المتخصص.

عموما الملحد The Rationaliser يحلم بالحصول على تراجعات من أصحاب تلك المقاطع، وهو يصف نفسه في تويتر بأنه Counter Islamic، أي معارض للإسلام، ولذلك دلالة قوية على أن منطلقاته هي الحقد على الإسلام، وهذا يطعن في موضوعيته.

وهذان المقطعان وأمثالهما للملحد The Rationaliser لهما فائدة واحدة فقط للملحد.. وهي تمكينه من استخدام مغالطة تسمى (الرنجة الحمراء)، وهي أن ترد بشيء يلهي عن الموضوع الأصلي وإن لم ينقضه، وثقافة (الرد من أجل الرد فقط) منتشرة عند الملحدين في ردودهم، وخصوصا الملحدون العرب. سأعيد كلام وليام حتى نعرف هل أفلح الملحد بعد رحلته الجوية أم لا:

“أجد من المثير جدا للاهتمام أن مثل هذه المعلومات موجود في القرآن الكريم، وليس لدي أي علم من أين أتت، لكن من المهم للغاية أنها موجودة، وهذه المهمة [في المؤتمر] مستمرة لكي تكتشف معاني بعض العبارات، ولابد أنه [المصدر] الوجود الإلهي.”

ملاحظة مهمة

بعض الملحدين يستميتون لإثبات أن الإعجاز في إحدى الآيات أو الأحاديث غير صحيح. وقد يقوم بتزوير بعض الشواهد من الكتابات اليونانية والإغريقية أو يؤولها بطريقته ليقول إن المعلومة الفلانية ليست معجزة بل هي موجودة منذ ذلك الوقت.

الملاحظة المهمة المقصودة هنا هي أن قصارى ما سوف يصل إليه ذلك الملحد هو نفي اعتقاد المسلم بأن هذا النص فيه إعجاز علمي.. وعلى افتراض أنه أثبت ذلك فما هي النتيجة؟ لا شيء! هل خلو هذه الآية من الإعجاز العلمي يطعن في صحة القرآن؟ بالطبع لا.

وهذا بالضبط مثل الجهد الضائع لهذا الملحد The Rationaliser، فلنقل فرضا أنه استطاع أن ينفي صحة المقطع بصورة أو بأخرى.. فما هو الإنجاز الذي حققه؟ مجرد شهادة من شخص حول إعجاز آية وتم إبطالها، وهذا بالتأكيد لا يعني أن الآية غير معجزة، فمعلوم أن تراجع شخص عن شهادته لا يعتبر إثباتا لنقيض الشهادة. وفي نفس الوقت لا يعني ذلك أن الآية فيها خطأ.. كل ما في الأمر هو أن شهادة تم إبطالها. فالحمد لله الذي رد كيد الملحدين وأشغلهم بهذه “الإنجازات العظيمة”. 🙂

المصدر

معجزة: القرآن يتوعد أبا لهب

تعجبت من أحد المتابعين الملحدين لما راسلني يقول: كيف لهذا الخالق العظيم أن يهدد ويتوعد رجلا و”حرمته”؟

إنه يعترض على صحة القرآن ويستدل على عدم صحته بأن الخالق سبحانه يتوعد أبا لهب وامرأته بجهنم! ولا أدري كيف وجد عقله تعارضا في أن الخالق يتوعد رجلا يؤذي رسوله ويسخر منه وهو بكامل قواه وحريته واختياره!

لكني ألاحظ أن الكثير من الملحدين يستخدم خياله وهواه أكثر من استخدامه عقله، ولو كان هذا المعترض يستخدم عقله ولديه معرفة بسيطة بالإسلام لاكتشف المعجزة الحقيقية في هذه السورة.. فما هي هذه المعجزة؟

من المعروف أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، والكافر إذا دخل الإسلام فلا يحاسب على كفره، وتجري عليه الأحكام التي تجري على المسلمين. ومن المعلوم أيضا أن المسلم المُعيّن لا يمكن الحكم عليه بالنار (المعيّن هو الذي حددت هويته واسمه شخصيا). وكان هذا كله معروفا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم نزلت سورة المسد، وفيها أن أبا لهب من أهل النار:

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ(5).

هذا ليس مجرد خبر، وإنما هو قرآن يتلوه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم.. ومقتضى الآيات أن أبا لهب سيموت كافرا، إذ أن دخوله الإسلام حتى لو كان نفاقا وكذبا فإنه سينقض هذه الآيات تماما!

ليس على أبي لهب سوى أن ينطق بالشهادة فيوجه ضربة على هذا الدين الوليد قد تقضي عليه..

لم تكن فرصة خاطفة لأبي لهب.. وإنما كان العرض قائما عشر سنوات كاملة لكي يهدم الدين الجديد ويقضي على الإسلام بكلمة، ولكنه لم يستطع!

كيف سيكون موقف المسلمين لو نطق أبو لهب بالشهادتين وأعلن إسلامه ثم وقف بينهم في الصلاة والإمام يتلو هذه السورة؟ أي تناقض سيجده المسلمون في أنفسهم حينئذ؟

لكن ما الذي منع أبا لهب لعشر سنين من فعل ذلك، مع أن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء؟ والسورة تطرق سمعه وسمع امرأته كل يوم؟

هذا النوع من التحدي لا تجده إلا في القرآن الكريم.. وهو موجود في آيات عديدة، لا يجدها إلا المتأمل المتدبر.

التحدي الأعظم

جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي، وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل، سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته.. إلخ. وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر، بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)”، ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار، والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غالبا على اكتشافات علماء غير مسلمين!

لكننا لن نتطرق الآن لهذا النوع من المظاهر الإعجازية، فقد تحدثنا عنها في موضوع آخر في هذا الموقع، وإنما سنتناول تحديا إعجازيا عظيما آخر، وهو الوارد في هاتين الآيتين من سورة البقرة:

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

بين افتراضين

يدور المنكرون للوحي والنبوة بشكل عام بين افتراضين لا ثالث لهما: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذاب يدعي النبوة، فهو يعلم أنه ليس بنبي ولكنه يخادع الناس، وإما أنه يعتقد في قرارة نفسه بأنه نبي، فهو يدعو الناس بصدق لكنه يتوهم النبوة.

ورغم وجود دعاوى واتهامات متعددة يلقيها الكفار قديما وحديثا لنفي صحة الرسالة كاتهامه بالسحر والجنون وتأليف الشعر.. الخ، لكنها كلها تصب في هذين الافتراضين. فإذا انتفى هذان الافتراضان فإن التهمة تسقط بطبيعة الحال.

ومن الطريف أن المتأمل في السيرة سيجد أحداثا تنفي كلا الافتراضين معا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقفه صلى الله عليه وسلم من حادثة الكسوف وكذلك نزول سورة المسد.

ومهما بلغت ثقة المخادع في نفسه وفي ذكائه فإنه لن يثق في أن تخلو الأجيال البشرية في المستقبل من أشخاص قد يفوقونه في الذكاء والقدرة. فكيف ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- لو كان مخادعا- أنه لن يأتي من يفوقه في القدرة على الإتيان بسورة مثل سور القرآن؟ خصوصا أن هذا التحدي مفتوح لا يقيده زمان ولا مكان! بل إن المخادع كلما ازداد ذكاءً ازداد حيطة وحرصا على أن لا يضع مصيره رهن المستقبل المجهول.

أما الملحد الذي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واهما بالنبوة فصدر عنه هذا التحدي، فالزمن يرد عليه! لماذا ظل هذا التحدي من شخص واهم قائما كل هذه القرون، مع كثرة الأعداء الذين يسعون لإسقاطه؟

صراحة التحدي

ما معنى أن ينكر الملحد الإعجاز القرآني؟ المعنى بكل بساطة هو أن القرآن نص بشري يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. هذا هو مقتضى الإنكار. لأنه إذا كان معجزا فلن يستطيع أحد الإتيان بمثله، وبالتالي لو أتى أحد بمثله لم يكن معجزا.. البناء المنطقي لهذا التحدي بسيط للغاية ولا يحتاج إلى عبقرية أو مستوى عال على مقياس الذكاء!

القرآن بات متواترا

قد يحتج الملحد بأن عدم الإتيان بسورة من مثله ليس مبنيا على استحالة ذلك وإنما هو مبني على أن القرآن بات معروفا ومتواترا، ولهذا يصعب الإتيان بنص متواتر بين المسلمين مثله! لكنه ينسى أن سورة البقرة التي حوت هذه الآية نزلت أصلا في بداية العهد المدني، وقبل انتشار الإسلام، أي أن الكثير من العرب الأقحاح كانوا حينها كفارا لا يؤمنون به، ومثلهم يهود المدينة. بل إن الكفار من أعداء الإسلام كانوا أضعاف عدد المسلمين، وكان المسلمون أقلية، فلماذا لم يستجب الكفار الذين لم تكن تنقصهم البلاغة والبيان لهذا التحدي ليأتوا بسورة واحدة فقط في مجتمعهم يتداولونها ويتواترونها؟ نفس المجتمع ونفس الجنس ونفس اللغة.. فالشروط التي كانت متحققة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا متحققة لهم..

التحدي وجودي

هذا التحدي ليس مجرد تحد عابر.. بل إنه تحد وجودي، أي أن صحة النبوة والدين كلها قائمة على الإتيان بسورة من مثله! فلو أتى أي مخلوق بسورة واحدة، كسورة الكوثر مثلا، تتكون من ثلاث آيات لا يزيد مجموع حروفها عن 42 حرفا، فإن الإسلام سينهار تماما.. وهنا تتجلى عظمة هذا التحدي، فلا شك أنه كلما كان شرط التحدي سهلا وكانت نتيجته في الوقت نفسه مصيرية فإن قوة التحدي وعظمته تكون أبلغ. ليس هذا فقط، وإنما هو تحد مفتوح لكل مخلوق على وجه الأرض وقائم إلى الأبد.

الجزء وليس الكل

عندما كان المشركون واليهود في المدينة يهزؤون بالنبوة وينكرون أن القرآن وحي من الله تعالى، جاءهم هذا التحدي ليس للمطالبة بقرآن مثله، وإنما للإتيان بسورة واحدة، إمعانا في الإعجاز والتحدي، وكما ذكرنا فإن سورة الكوثر تتكون من 42 حرفا، بينما عدد أحرف القرآن هو 323671، أي أن القرآن أكثر من سبعة آلاف ضعف مما عجزوا عن الإتيان به. ولا شك أن هذه مبالغة في التحدي.

اطلبوا العون

لم يكتف الله تعالى بتحدي الكفار واليهود أن يأتوا بسورة من مثله، فقد يعجزون هم ثم يدّعون بأن هناك من يستطيع ذلك غيرهم.. ولهذا طلب منهم القرآن أن يدعوا شركاؤهم ليعينوهم، بل أمعن بالتحدي في آية أخرى قائلا “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” [الإسراء: 88]. ولا شك أنك عندما تتحدى شخصا للقيام بعمل ما، ثم تدعوه للاستعانة بكل أحد، فإن هذا التحدي يكون مضاعفا، والاستعانة بحد ذاتها هي تحد آخر.

إنهم بسطاء

عندما يقول الملحد إن القرآن ليس فيه ما يستحق التحدي، ولكن الناس بسطاء فصدقوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبأن القرآن وحي من الله، فإننا نجيبه بأن أمثال هؤلاء “الناس البسطاء” موجودون في كل زمان ومكان، أي أن الظروف التي يقوم عليها التحدي هي ظروف واحدة، والتحدي لازال قائما، فشمّر عن ساعديك واستفد من نسبة الذكاء (IQ) لديك، وقم بدورك في إقناع “الناس البسطاء” بسورة من مثله حتى تتمكن من القضاء على الإسلام.. لا تكن منافقا يدعي أن القرآن ليس معجزا وهو يعيش هذا الإعجاز ليلا ونهارا!

التحدي مشهور

إن هذا التحدي ليس تحديا طبيعيا! هذا التحدي مشهور جدا، يشهده المليارات من البشر.. ولك أن تتخيل هذه المليارات وهم ينتظرون من يخرج لهم ويدق على صدره ويأتي بسورة من مثله! أليس في هذا العرض غاية الإغراء؟ ألا يستحق المحاولة أمام هذه المليارات من البشر؟

حركة مكشوفة

لا شك أن هناك محاولات قليلة جدا وقعت عبر التاريخ، وهي محاولات مضحكة يتندر بها الناس، بل إنها أصبحت من دلائل الكذب كما في قرآن مسيلمة “يَا ضِفْدَعُ بِنْتُ ضِفْدَعِينَ، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، نِصْفُكِ فِي المَاءِ وَنِصْفُكِ فِي الطين”، حتى صار يعرف باسم “مسيلمة الكذاب”، فتأمل الفرق بين القرآن الذي هو من دلائل النبوة وبين كلام مسيلمة الذي بات من علامات الكذب.

لقد كان مسيلمة الكذاب يحاول، لكنه على كذبه أكثر صدقا من بعض المحاولات التي تقوم على النصب والتدليس، حيث قام بعض المنصرين بما يسمى “التّناصّ” (Intertextuality)، وذلك باستخدام الألفاظ القرآنية نفسها ليركب منها جملا جديدة، فتبدو وكأنها آيات، لكن التلاعب واضح فيها، ويمكن لأي مسلم أن يكشفها. وهذا بالطبع تحريف للآيات وسرقة لألفاظها وليس إتيانا بمثلها، بل يدل هذا السلوك على العجز عن مقابلة التحدي بشرف، فعندما تنص الآية على “سورة من مثله” فإن المثلية هنا تقتضي الإتيان بشيء جديد، فسبحان الله الذي جعل مجرد المحاولة دليلا على العجز!

الشعور بالعجز

مهما حاول الملحد تبرير عدم قدرته على الاستجابة لهذا التحدي، واختلاق الأعذار، فهو يظل واهنا يغمره الشعور بالعجز، وتظل هذه الآية قائمة شامخة وباقية إلى الأبد، والتحدي قائم لا يخفى على أحد.

التحدي لا يكفي!

هاتان الآيتان لا تكتفيان بالتحدي، وإنما تختمان التحدي بالتهديد.. أي قوة كاسحة! أنت لست فقط عاجز عن مقابلة هذا التحدي، بل إنك ستواجه العقاب الشديد على كذبك وتدليسك. أنت تدعي أن القرآن بشري، ثم تعجز بقدراتك البشرية عن الإتيان بمثله، ثم تستعين بمن شئت وتعجز أيضا، ومع ذلك تظل مكابرا كاذبا على دعواك بعد أن انكشفت أمام نفسك؟ ألا تستحق العقاب على كذبك ومكابرتك؟ بلى، ولكنه عقاب شديد، وهو أن تكون وقودا لنار جهنم! أليس هذا العقاب دافع مضاعف لكي تستجيب للتحدي؟

الإخبار بالنتيجة

من النادر أن يأتي التحدي مقرونا مع نتيجته، لكن هذا التحدي القرآني يخبرك بالنتيجة مقدما! الإعجاز في العادة هو أن تتحدى القيام بعمل ما، ثم تنتظر النتيجة لتثبت عجز خصومك، لكن القرآن لا يكتفي بذلك، وإنما يخبرك أيضا أنك ستعجز: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا”، فيكشف كبرك وغطرستك أمام نفسك لتدرك عجزك.

أهل العربية

هذا التحدي لم يوجه إلى العرب خاصة، لكنه بالتأكيد معروض عليهم قبل غيرهم، لأنه بلغتهم.

لكن هل العرب فقط هم أهل البلاغة والبيان؟

لقد كانت مجالات المفاخرة عند الأقوام الأخرى كالإغريق والرومان والفرس تتمثل في جوانب قد تكون اللغة مجرد أداة فيها كالفلسفة والميثولوجيا كما عند الإغريق، أو إبداعات لا تعتبر اللغة عنصرا أساسيا فيها كالبناء والتشييد كما عند الفراعنة والرومان والنحت والرسم كما عند الرومان أيضا والعصور الأوروبية الوسطى.

بينما كان العرب هم أهل البلاغة والبيان، اللغة هي صنعتهم الأولى، وإن كان ضعف الانتماء والهزيمة النفسية تزهد بعض المعاصرين بلغتهم وهويتهم، ولكن عند التجرد نجد أن اللغة العربية تفوق اللغات الأخرى، فعدد مفردات اللغة العربية يصل إلى 12 مليون مفردة، أي ما يعادل 25 ضعفا من عدد مفردات اللغة الإنجليزية مثلا. فعلى أي شيء يدل ذلك؟ الجواب ببساطة هو أن ثراء اللغة بالمفردات يدل على قوتها التعبيرية وقوة تأثيرها على المتحدثين بها. بل إن العرب يتفاخرون ببلاغتهم وبيانهم. والجذر اللغوي “عرب” الذي اشتق منه اسم اللغة يدل على الإفصاح والتعبير. وكان يمكن لبيت من الشعر أن يرفع القوم عاليا ويمكن لبيت آخر يخر بهم، ومن أبرز القصص المعروفة قصة بني أنف الناقة الذين علت مكانتهم بين القبائل بعد أن قال بهم الحطيئة قصيدة من أبياتها “قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم :: ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا”، والأمثلة كثيرة ومتعددة في أغراض الشعر وخصوصا الهجاء والمديح والرثاء.

كما أن المعلقات العشر وتعلق الناس بها في عصر ظهور الإسلام من أكبر الدلائل على جودة اللغة ومهارة العرب في التعبير والبيان والفصاحة.

فعندما يكون القرآن باللغة العربية، وينزل في العصر الذي بلغت فيه اللغة أوج قوتها، ثم يأتي هذا التحدي صريحا قويا مدويا لا مجال فيه للمراوغة، فإنه لا يكون أمام أعداءه إلا الاستسلام أو المكابرة المكشوفة.

الموناليزا؟

الموناليزا لم يستطع أحد أن يقلدها، فهل هي وحي؟ ومع التحفظ على أن أحدا لم يقلدها، أو يأت بمثلها، لكن هذه العبارة فيها تدليس على البسطاء. ومع الفارق لكن لا بأس من التبسط لكشف هذا التدليس.

  • دافنشي لم يتحدّ أحدا أن يرسم مثل لوحته، والآية تتحدى. بل إنه لم يكن ليجرؤ على التحدي، فاللوحة لم تكتسب قيمتها الحالية في حينها، وإنما اكتسبتها مع مرور الزمن وتداول الحديث عنها.

  • اكتسبت الموناليزا تفردها عبر خمسة قرون، وصارت تحمل قيمة تاريخية، فقيمتها بعد رسمها مباشرة كانت ضئيلة جدا بالمقارنة مع قيمتها الحالية، بينما التحدي القرآني يحمل صفة ذاتية فيه، وجدت أثناء نزوله واستمرت 15 قرنا، والتحدي مفتوح إلى آخر الزمان.

  • مع أن هناك من قلّد الموناليزا تقليدا دقيقا للغاية، ولكن تقليدها لا يعني إسقاطها، بينما التحدي القرآني واضح جدا، وهو أن الإتيان بسورة من مثله يعني إسقاطه وانتهاء الدين.

  • الموناليزا لم يتهمها أحد من معاصري دافنشي بأنها مزورة أو ليست من عمله، بينما تكررت الدعاوى من الكفار بأن القرآن شعر أو سحر أو من أساطير الأولين..

فالخلاصة هي أن المقارنة بين الأعمال البشرية وبين التحدي القرآني ليست صحيحة. لا يوجد أحد من البشر يتحدى الآخرين بالإتيان بجزء من عمله على أن تكون النتيجة هي إسقاط قيمة عمله!

فكسونا العظام لحما

عمل البروفيسور كيث مور Keith Moore عميدا لكلية الطب في جامعة تورنتو في كندا، وعمل بروفيسورا في علم الأجنة لعشرين سنة في جامعة مينوتوبا، وعمل رئيسا لقسم الأجنة فيها لإحدى عشرة سنة، وألّف سبعة كتب جامعية، أربعة منها عن الأجنة. وهو عضو في الأكاديمية العالمية لعلم النفس، وكان رئيسا للجمعية الأمريكية للجراحة الإكلينيكية.

وقد ألف كتابا هو أشهر كتب الأجنة المقررة دراسيا في جامعات العالم، وأضاف إليه ملحقا عن أطوار الأجنة في القرآن والسنة، وهو يصرح أنه ليس مسلما وإنما يتطرق لذلك من أجل الحقيقة.

والمقطع التالي للبروفيسور مور وهو يتحدث عن الإعجاز القرآني في ذكر مراحل الجنين في الرحم:

إشكالية العظم واللحم

لما انتشر كتاب البروفيسور مور وانتشرت محاضراته حول هذا الإعجاز، ثار الملاحدة والنصارى ضده، وبحثوا وكتبوا وهاجموا ولكنهم لا يستطيعون تغيير الحقائق، فهم في مجال علوم الأجنة أقزام أمام هذا المتخصص الذي أفنى عمره فيها، ووجدوا ما ظنوه ثغرة في هذا الإعجاز القرآني حول وصف أطوار الجنين، وهي مرحلة تكون العظام واللحم، وهذا نص الآية 14 من سورة المؤمنون:

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون- 14.

فهم يقولون إن اللحم لم يبدأ بعد أن تكونت العظام! لكنهم لم يدققوا بنص الآية.. وهو ما سنتناوله بعد أن نحدد بعض المفاهيم.

تعريفات مهمة

دعونا أولا نتعرف على الألفاظ التي تهمنا هنا:

العظام bones: هي أنسجة يبدأ تكونها من الغضاريف حيث تقسو وتتصلب تدريجيا وتتحول إلى عظام، ويستمر نمو العظام حتى يبلغ الإنسان 20 عاما. وهي التي تشكل الهيكل العظمي.

اللّحم flesh: هو الجزء العضلي الرَّخو بين الجلد والعظم. وهناك من يعتبر الجلد أيضا من أنواع اللحم كما في قاموس وبستر. وقد يذهب البعض على اعتبار اللحم الوارد في الآية هو الجلد، لكن سواء اعتبرناه العضلات أو العضلات مع الجلد فلا بأس.

العَضَلات muscles: هي أنسجة ليفية قابلة للانقباض والانبساط وظيفتها تأمين حركة الكائن الحي، ويهمنا هنا نوع واحد من العضلات هو “العضلات الهيكلية” skeletal muscles، وهي عضلات مركبة من ألياف طويلة تتصل بشكل مباشر مع الهيكل العظمي بواسطة الأوتار. وهي التي تغلف الكثير من العظام وخصوصا العظام الهيكلية، فالوصف الوارد في الآية ينطبق عليها.

الأَوتَارtendons : شريط متين من الأنسجة الليفية يربط عضلة معينة إلى عظم معين ويمتاز بقدرته على تحمل الضغط. الجلد: هو الغلاف الخارجي للجسم ويتكوّن من طبقتين: البشرة والأَدَمة.

كَسَى: مصدر اللفظة القرآنية “فكسونا”، وهي تعني ألبس وستر وغطى. (لاحظ أنها لا تعني “خَلَقَ” أو “أوجد”).

أيهما أولا، العظام أم اللحم؟

لو دققنا في الآية جيدا سنرى أن المراحل الأولى هي مراحل تحول وخلق من خلق؛ فالنطفة خُلقت منها علقة، والعلقة خُلقت منها مضغة، والمضغة خُلقت منها عظاما.. ولكن الله سبحانه لم يقل “وخلقنا العظام لحما” أو “وخلقنا من العظام لحما”، وإنما قال: “فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا”. أي أنه ذكر كسوة العظام باللحم ولم يحدد متى خُلق اللحم!

ومعلوم بالضرورة أنك عندما تكسو شيئا فإن مادة الكساء يجب أن تكون موجودة، وعندما تكسو غلاما ثوبا فأنت بالتأكيد لا تقوم بصناعة الثوب أثناء كسوته، وإنما يكون الثوب موجودا من قبل.

وعلى ذلك فإن مقتضى لفظة “فكسونا” هو أن اللحم موجود قبل أن يكسو الله العظام به، وإنما الحاصل هو تغطية العظام باللحم. وهذه العملية موجودة في إحدى مراحل تكون الجنين، حيث يجري تثبيت العضلات على العظام بواسطة الأوتار tendons. ومن العجيب أن معنى الستر يتحقق في نفس الوقت، فيغلظ الجلد ويعتم بعد أن كان شفافا يكشف ما وراءه، وبذلك تحصل عمليتا تغطية العظام باللحم وسترها بإعتام الجلد متزامنتان في وقت واحد، عبر عنهما القرآن بتعبير واحد يدل عليهما هي “فكسونا العظام”. فتختفي العظام خلف العضلات وخلف الجلد المعتم ويتحقق المعنى المقصود بالكسوة.

إنما المهم هنا هو أن القرآن لم يتحدث نهائيا عن وقت خلق اللحم، سواء كان المقصود به العضلات الهيكلية أو الجلد.

المراحل حسب علم الأجنة

سأعتمد هنا على موقع “الوقف من أجل التنمية البشرية” وهو موقع غير ربحي، وموثوق، فهو يذكر المرجع لكل معلومة يوردها بحيث يمكنك التحقق من صحتها. وهو من أفضل المواقع التي تناولت مراحل تكون الجنين بتفصيل وإيضاحات وصور وفيديوهات.

وسوف نتعرض فقط للمراحل التي تهمنا من عمر الجنين في هذا الموضوع، وسأنقل الترجمة الحرفية للنصوص التي تهمنا دون أن أضيف شيئا من عندي. ويمكن فتح الرابط والاطلاع على التفاصيل.

مرحلة 3-4 أسابيع

تبدأ الخلايا المتخصصة في ظهر الجنين بتكوين أدمة الجلد والعضلات الهيكلية المستخدمة في الحركات الإرادية.

مرحلة 4-5 أسابيع

في هذه المرحلة يكون سمك جلد الجنين خلية واحدة فقط، فيكون شفافا يسمح برؤية الأعضاء الداخلية أثناء مراحل نموها المبكرة.

مرحلة 6-7 أسابيع

يبدأ تكون العظام بين الأسبوعين السادس والسابع، وأول ما ينشأ من العظام عظم الترقوة والفكين، وتسمى هذه العملية “التعظّم”.

وعند ستة أسابيع ونصف يتضح المرفقان ويبدأ الجنين بتحريك يديه. وكذلك تنمو المفاصل، وتظهر بداية تكون الألياف العضلية الأولية مؤكدة نمو العضلات.

مرحلة 7-8 أسابيع

يوما بعد يوم تنمو عظام الجنين. والأضلاع الآن على هيئة غضاريف، بينما العظام الطويلة للأطراف (الذراعين والساقين) تتصلبان.

ومن الأسبوع السابع إلى السابع والنصف تربط الأوتار عضلات القدمين بالعظام، ويظهر مفصل الركبة واضحا، وفي الأسبوع السابع والنصف يمكن للجنين تقريب اليدين لبعضهما وكذلك القدمين.

وعند الأسبوع الثامن فإن أعضاء الجنين الداخلية التي كان يمكن رؤيتها بسهولة تصبح نسبيا مختفية حيث تصبح البشرة مكونة من غشاء ذي طبقتين.

الخلاصة

نخلص من ذلك إلى أن الآية لم تتحدث عن وقت تكون اللحم، سواء العضلات الهيكلية أو الجلد، وإنما تحدثت عن كسوة العظام باللحم، واتضح لنا علميا من مراحل تكون الجنين أن كساء العظام باللحم يتم بعد خلق العظام، حيث يجري خلال الأسبوعين السابع والثامن من الحمل تثبيت العضلات الهيكلية على العظام وفي نفس الوقت بناء البشرة وتعتيمها بعد أن كانت شفافة لتخفي ما خلفها من أعضاء وعظام، فيتحقق معنى الكسوة الوارد في الآية (التغطية والستر) بعد تكون العظام.

من بين الصلب والترائب

ما هو “الصُّلْبِ” وما هي “التَّرَائِبِ” الواردة في سورة الطارق؟

قال الله تعالى: “فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ” (سورة الطارق 5-7).

تعريف الصلب هو كما جاء في “تاج العروس” أن “كُلّ شَيءٍ من الظَّهْرِ فِيه فَقَارٌ فَذَلِك الصُّلْبُ”. وأما الترائب فقد عرفها ابن منظور في “لسان العرب” بقوله: “التَّرائبُ مَوْضِعُ القِلادةِ من الصَّدْر.. وقيل: التَّرائبُ عِظامُ الصدر”.

وإن كان هناك من يتوسع في المدلولات ولا يقف عند المعنى اللغوي المباشر، كما ورد عن ابن عباس والضحاك وسفيان بأن الترائب هي اليدان والرجلان والعينان.

أكثر من تفسير

هناك من يفسر هذه الآية بأن المقصود هو منشأ الخصيتين والمبيضين لدى الجنين، فهما ينشآن في الحدبة التناسلية قبل أن يتحدد جنس الجنين، وهذه الحدبة التناسلية تقع بين العمود الفقري (الصلب) والأضلاع الأمامية (الترائب)، وبعد ذلك تنزل الخصيتان مع نمو الجنين وفي الشهر السابع تستقران في كيس الصفن، بينما ينزل المبيضان إلى حوض الأنثى. ثم بعد ذلك تبقى علاقة الخصيتين والمبيضين بذلك الموضع مستمرة طيلة حياة الإنسان عبر تغذيتهما بالدم والأعصاب من ذلك الموضع تحديدا، وعلى هذا فإن منشأ مصادر الماء الدافق عند الرجال (الخصيتين) وعند النساء (المبيضين) هو ذلك الموضع الواقع بين الصلب والترائب، وكذلك التغذية بالدم وارتباطها العصبي، فالعصب لا يأتي من أسفل العمود الفقري كما هو متوقع، وإنما من ذلك الموضع.

وهذا تفسير واضح ومقبول، لكني أميل إلى أن الآية القرآنية فيها كناية عن الرجل بالصلب والمرأة بالترائب، وأن الماء الدافق الذي ينتج الذرية يقع بينهما، من الرجل عبر الجهاز التناسلي، ومن المرأة بالسائل المتدفق من حويصلة “غراف” حيث يحمل البويضة إلى مكان تلقيحها كل شهر.

الصلب كناية عن الرجل

لقد اعتادت العرب أن تنسب الذرية إلى الصلب كناية ومجازا، فهو كناية عن ارتباط القوة بالذرية، وهو مجاز لأن العرب يعرفون جيدا أن النطفة لا تأتي من الظهر وإنما مصدرها هو الخصيتان، وليس هناك من يجهل هذا الأمر سواء عند العرب أو عند غيرهم من الأمم؛ فقد كان بعض الرقيق قديما يتم إخصاؤهم حتى تنقطع ذريتهم وشهوتهم، وهذه من الأمور المعروفة حتى عند البادية قديما وحديثا في إخصاء الماشية، وجرت عادتهم على ذلك.

وعليه فإن عزو العرب الذرية إلى الصلب هو من باب المجاز والكناية، وقد وردت في القرآن على هذا المنوال المجازي، وهي مثل استخدام القرآن للفظة “جناح” في قوله تعالى: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ… الآية” (الإسراء 24)، فليس للإنسان جناح حقيقي يخفضه لوالديه، كما أنه ليس للرسول صلى الله عليه وسلم جناح حقيقي يخفضه للمؤمنين في قوله تعالى: “لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر 88). والأمثلة كثيرة في ذلك.

فالعرب يعلمون جيدا- كسائر الأقوام- مصدر الماء الذي تنتج منه الذرية عند الرجال (والذكور عامة) كما أوضحنا، لكنهم يكنون عن ذلك بالصلب (الظهر) ترفعا واحتشاما عن ذكر الأعضاء التناسلية، وعلى هذا جرت عادتهم كما هي في تعبيراتهم الأخرى التي تستدعي الترفع والاحتشام مثل تعبير “الذهاب إلى الخلاء” و”قضاء الحاجة”، ومثل هذا نجده أيضا عند العامة الذين لم تفسد فطرتهم في هذا العصر.

وعلى ذلك جاءت لغة القرآن موافقة للغة العرب فزادتها سموا، بل إن القرآن يستخدم دائما الرمزية والمجاز إذا تحدث عن الأحكام التي تتعلق بالمعاشرة الزوجية. ومن التعبيرات القرآنية الشهيرة قوله تعالى: “وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ… الآية” (المائدة 6)، فالغائط هو المنخفض من الأرض، للدلالة على قضاء الحاجة. وهذا الأسلوب لا يدركه الغالبية من الملحدين الذين اعتادوا على الإسفاف في ألفاظهم حتى صار ذلك طبعا لهم كما نرى في أكثر حساباتهم.

الترائب كناية عن المرأة

وهذه اللفظة يغلب ارتباطها عند العرب بالنساء، فيندر أن تجد من يتحدث منهم عن ترائب الرجال. قال امرؤ القيس:

مُهَفْهَفَة ٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ :: ترائبها مصقولة ٌ كالسجنجل

والترائب عند المرأة هي أيضا موضع الثديين الذين يتغذى منهما الرضيع. فإذا كان موضوع الكلام هو الحديث عن الذرية فإن نسبة الترائب إلى المرأة أدعى، وكنايتها عن المرأة أقرب للفهم.

والعرب الذين خاطبهم القرآن بلغتهم يعلمون أن ماء المرأة لا علاقة له بترائبها.

تهافت الشبهة

الشبهة التي تتردد أحيانا حول هذه الآية لدى الملاحدة والنصارى هي أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يظن أن المني يأتي من مكان في الصدر يقع بين الصلب والترائب، وبناء على هذا الاعتقاد كتب هذه الآية في القرآن.

وهذه التهمة ساقطة وغبية، وقد أشرنا إلى وجه الغباء، وهو أن الناس منذ بداية التاريخ المعروف حتى هذا العصر يدركون أن المني يتكون عند البالغين في الخصيتين، فالبناء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد كذا وكذا هو بناء على أساس غير صحيح.

الخلاصة

لقد الآية رمزت للرجل بدلالة ذلك الجزء من جسده (الصلب)، وهو الذي يرتبط عند العرب بالذرية، ورمزت للأنثى بالمكان الذي تتغذى منه تلك الذرية.

فالصلب يرمز للرجل ويرمز للذرية، والترائب ترمز للأنثى وترمز للذرية، فكان الجامع بين الصلب والترائب هو الذرية التي تتحدث الآية عن خلقها من ماء دافق.

هل هناك إشكال في تعدد التفسيرات؟

لا يقع الإشكال إلا عندما تكون للنص دلالة حرفية وصريحة واحدة فقط ينتج عنها تعارض أو تناقض أو تضارب، وهو ما يسميه القرآن “اختلافا” كما في قوله تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا” (النساء 82).

أما إذا تعددت الدلالات والمعاني والتفسيرات، وكانت كلها مبنية على أسس سليمة بلا تعسف أو لوي لأعناق النصوص، فإن الإشكال يرتفع وينتهي.

وعلى كل حال، فإن موضوع الآية يدور حول قدرة الله عز وجل على خلق الإنسان من ماء دافق، وقياسا على ذلك قدرته على بعثه من جديد “إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ”..

وهذه الرسالة الأساسية واضحة ومفهومة تماما حتى لدى عامة الناس والأميين منهم، بغض النظر عن تفسير الصلب والترائب تفسيرا محددا، فالإعجاز في خلق الإنسان من ماء قائم مهما كان تفسيرنا لمدلول الصلب ومدلول الترائب، ولهذا فلا إشكال في تعدد التفسيرات لهاتين المفردتين، بل إن من عجائب القرآن تعدد وجوه التفسير بلا تعارض أو تناقض.

هل ذكر أرسطو أطوار الجنين؟

يشير البعض إلى أن أرسطو ذكر مراحل الجنين الواردة في القرآن، وأن القرآن إن لم يكن قد نسخها منه (لعدم القدرة على إثبات النسخ) فإنه مسبوق بذكرها على الأقل.

والنصوص المقصودة هي ما ورد في كتاب أرسطو “عن أجزاء الحيوان” وعنوانه بالإنجليزية “On The Parts Of Animals”، وهو سفر مكون من أربعة كتب، وكل كتاب مقسم إلى أجزاء، ويمكن الاطلاع على ترجمته الإنجليزية كاملة بصيغة pdf على هذا الرابط، أو نصيا على هذا الرابط.

وقد قمت بترجمة الجزء التاسع كاملا، ووضعته في الأسفل مع النص الأصلي للاطلاع.

استغلال الجهل اللغوي

عندما راجعت كتاب أرسطو المقصود وجدت أن الدعوى ساقطة للأسباب التي سأذكرها، ولكن ما صدمني هو أن الملحد لم يستشهد بمثل هذا النص إلا وهو على إحدى حالتين: إما أنه لا يفهم ما يقرؤه، أو أنه يفهم ولكنه يحاول استغلال من لا يجيد اللغات الأجنبية من المسلمين ليخدعه.

وبالفعل قمت بالبحث عن ترجمة عربية لذلك النص في الإنترنت ولم أجد.. فكيف للمسلم الذي لا يجيد اللغات الأجنبية أن يتحقق من صحة هذه الدعوى الكاذبة؟

الكتاب كله عن الحيوان

لأرسطو كتابان عن الحيوان، هما كتاب “On the Parts of Animals” وكتاب “On the Generation of Animals”، وكلاهما يتحدثان عن الحيوانات وأنواعها والتشابهات والفروق بينها، وبعض التصنيفات لأنواعها، وهل هي موجودة بالتصميم أم بالصدفة.. الخ.

وهذا الكتاب الذي نتحدث عنه هنا ليس مخصصا للحديث عن الإنسان، وإنما مجاله هو الحيوان سواء كان من الزواحف أو الطيور أو الأسماك أو الحيوانات الكبيرة، ويتحدث عن تركيبها كما اشتهر قديما من العناصر الأربع: التراب والهواء والماء والنار، وهي فكرة محورية تتكرر كثيرا في كتبه البيولوجية، حيث كان الاعتقاد سائدا بأن اختلاف الكائنات الحية عن بعضها يعود إلى اختلاف نسب هذه العناصر في تكوينها.

الفرق بين الإنسان والحيوان

يرى أرسطو أن هناك فرقا كبيرا بين الحيوان والإنسان، ويعتقد أن الإنسان يشبه الإله، فيقول في الجزء العاشر من الكتاب الرابع إنه “بخلاف كافة الحيوانات فالإنسان يقف منتصبا، متوافقا مع الشبه الإلهي في طبيعته وجوهره، حيث وظيفة من يشبه الإله هي الفكر والحكمة”

ويقول في الجزء التاسع من الكتاب الثاني إن “تكوين الحيوانات تغلب فيه المادة الترابية أكثر من تكوين الإنسان”.

هل تحدث عن الجنين؟

لم يكن حديث أرسطو أصلا عن مراحل تكون الجنين، وإنما كان عن مكونات أجسام الحيوانات، وحين تحدث عن العظام واللحم لم يذكر على الإطلاق أن الوصف هو للأجنة، بل إنه يذكر مرارا أن الكلام عن الحيوانات المكتملة ومنها الحيوانات المفترسة وآكلة العشب، وتحدث عن قوة عظامها، ولكنه يصف تكوينها التشريحي، وأهم العناصر في التكوين التشريحي هو العظام واللحم، فلا بد أن يتحدث عنهما، ومن هنا التقط الملحد هاتين اللفظتين ليوهم الناس أن أرسطو تحدث عن طور من أطوار الجنين ورد ذكره في القرآن!

يصف أرسطو وظيفة اللحم (العضلات) عند الحيوان وكيف تتماسك مع العظام، وكيف أن وظيفة العظام هي مساعدة لوظيفة العضلات.

لا أطوار خلق ولا خلق جنين ولا علاقة للموضوع بخلق اللحم أو العظم عند الأجنة..

وكلام أرسطو عفوي في سياقه، ولكن يتم إخراجه من سياقه وطرحه في سياق المقارنة مع الآية لعل الأمر يلتبس على البسطاء.

أين الأطوار؟

عندما يتحدث القرآن عن أطوار الجنين فهو يستعرض خلق الجنين منذ البداية، حيث يذكر مرحلة النطفة ثم مرحلة العلقة ثم مرحلة المضغة ثم مرحلة العظام واللحم. هذه هي أطوار خلق الجنين التي جاء علم الأجنة موافقا لها.

أيهما أولا: العظم أم اللحم؟

على افتراض قبول كذبة الملحد بأن أرسطو يتحدث عن الجنين، وأنه يقول بخلق العظام قبل اللحم.. فالملحد يظن أن القرآن أيضا يقول بخلق العظام قبل اللحم.. مع أن الآية واضحة تمام الوضوح:

“ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا…” (المؤمنون 14)

فالله سبحانه يكرر لفظة “خلقنا” مقرونة بالفاء في الآية لتدل على الفصل بين مراحل الخلق المختلفة، ثم عند اللحم والعظم يقول “فكسونا”، وهناك فرق شاسع بين الخلق والكساء، فالكساء باللحم لا يأتي إلا بعد خلق اللحم. ألا تتعجب من تكرار كلمة “خلقنا” ثم توقفها عند الحديث عن اللحم؟ ألا يدل ذلك على اختلاف في ترتيب الخلق؟

فإذا قبلنا كذبة الملحد بأن كلام أرسطو عن اللحم والعظم كان حول الأجنة، وأنه قال بخلق العظام قبل اللحم، فإن هذا يخالف القرآن أصلا.. فكيف تقوم الدعوى على أن مصدر القرآن في ذلك هو كلام أرسطو؟ بل تكون النتيجة هي أن وصف القرآن مع علم الأجنة في جانب الصحة ووصف أرسطو خاطئ..

وحتى لو افترضنا أن لأرسطو أو لغيره من القدماء كلاما مطابقا لما ورد في القرآن، فهذا لا يعني بالضرورة أن القرآن أخذ منه، قد تكون الحقيقة صادرة من أكثر من مصدر لا التقاء بينهما.. فالدعوى من أصلها متهالكة.

وعلى أية حال هي عادة اعتدناها من الملاحدة: الكذب والفجور.

ملاحظة: هذا موضوع آخر حول توافق النص القرآن عن خلق الجنين مع المكتشفات الطبية.

ترجمة نص أرسطو من الإنجليزية مع الأصل: الجزء 9 من الكتاب الثاني من “أجزاء الحيوان” لأرسطو

هناك تشابه بين نظام العظام ونظام الأوعية الدموية، فلكل منهما جزء مركزي يبدأ منه، وكل منهما يمثل كلا كاملا متصلا. فلا يوجد عظم في الجسم منفصلا لوحده، وإنما كل واحد منها إما أنه جزء مما يمكن اعتباره كلا متصلا، وإما أنه مرتبط بشكل أو بآخر مع البقية. وتستخدم الطبيعة تلك العظام المتجاورة بكونها متصلة كعظم واحد أو لهدف الانثناء وكأنهما عظمان مستقلان. وبالمثل، لا يوجد وعاء دموي وحيد منفصل، بل الأوعية الدموية تمثل كلا واحدا. ولذلك فإن أي عظم معزول- على افتراض وجوده- سيكون بالتأكيد غير قادر على أداء الوظيفة التي وجدت العظام لأجلها، ولو أنه كان منفصلا عن البقية بفجوة فلن يكون قادرا على الانثناء ولا الامتداد، وليس هذا فقط، بل إنه سيكون مؤذيا وكأنه شوكة أو سهم مغروس في اللحم. وبالمثل فإن الوعاء الدموي لو كان معزولا وليس متصلا مع مركز الأوعية الدموية فإنه لن يكون قادرا على الاحتفاظ بالدم داخله في حالة مناسبة، حيث أن الدفء المستمد من ذلك المركز هو الذي يمنع تخثر الدم. وعندما ينقطع تأثير المركز عن الدم فإن الدم سيفسد بالتأكيد.

إن مركز أو أصل الأوعية الدموية هو القلب، ومركز أو أصل العظام في كل الحيوانات التي لديها عظام هو العمود الفقري، وترتبط معه كل عظام الجسم، فهو الطرف الذي يثبّت الطول كاملا ويحفظ استقامة الحيوان. ولكن بما أن من الضروري أن يكون جسم الحيوان قابلا للانثناء أثناء التنقل، فإن تقسيم العمود الفقري إلى فقرات- مع كونه واحدا باعتباره امتدادا لأجزائه- يجعله ذا أجزاء متعددة. وفي تلك الحيوانات التي لديها أطراف فإن عظام تلك الأطراف متواصلة ومرتبطة بعضها ببعض عن طريق الأوتار بحيث يمكن للأطراف أن تنثني، وتكون أطراف تلك العظام المتصلة متلائمة إما بكون الطرف مجوف والآخر مكور أو بكونهما مجوفين وبينهما كرة عظمية تربط بينهما لتسمح بالانثناء والامتداد. وبغير هذا التنظيم والترتيب يستحيل القيام بمثل هذه الحركات، أو على الأقل ستكون صعبة جدا. وهناك بعض المفاصل تكون فيها النهاية السفلى للعظم والنهاية العليا للعظم الآخر متشابهتان في الشكل، وفي تلك الحالات يكون العظمان مربوطان ببعضها بواسطة الأوتار وتتوسطهما قطع غضروفية في المفصل تعمل كبطانة تمنع نهايتي العظمين من الاحتكاك.

وتنمو الأجزاء اللحمية حول العظام وتكون مثبتة بتلك العظام عن طريق أربطة ليفية رفيعة، فإنما وجدت العظام من أجل تلك الأجزاء اللحمية، بالضبط كما أن النحات حين يقوم بتصميم حيوان من الصلصال أو أية مادة لينة فإنه يجعل الأساس للتصميم جسما صلبا ثم يضع الصلصال حوله، فبالمثل فعلت الطبيعة في تصميم جسم الحيوان من اللحم. وهكذا نجد جميع الأجزاء اللحمية- باستثناء وحيد- مدعومة بواسطة العظام التي تساعد تلك الأعضاء الخاصة بالحركة على الانثناء، وعندما تكون الأعضاء غير حركية فإنها تساعد على حمايتها كما هي الحال في الأضلاع على سبيل المثال، حيث تضمن سلامة القلب والأحشاء المجاورة. والاستثناء المذكور هو البطن، فجدرانه تخلو من العظام، وذلك للسماح له بالتمدد بعد تناول الوجبات، أو بالتمدد في حالة الحمل عند النساء.

وتتفاوت عظام الحيوانات الولودة بعضها عن بعض قليلا من حيث القوة، حيث أن التناسب الجسمي لتلك الحيوانات يفوق كثيرا الحيوانات الأخرى، وكثير منها ينمو لأحجام كبيرة كما هو الحال في ليبيا والبلدان الحارة عموما. ولكن كلما ازداد حجم الحيوان ازدادت حاجته للدعم من حيث القوة والحجم والصلابة، وبمقارنة الحيوانات الكبيرة بعضها مع البعض الآخر يمكن ملاحظة هذه الحاجة للصلابة بصورة أوضح لدى الحيوانات التي تقوم حياتها على النهب والافتراس. ولهذا نجد أن عظام الذكور منها تكون أصلب وأقوى من عظام الإناث، وعظام آكلات اللحوم التي تحصل على طعامها بالافتراس تكون أقوى من عظام آكلات الأعشاب، ومثال ذلك الأسد، فعظامه قوية جدا لدرجة أنها إذا ضربت تطلق شررا وكأنها من الحجارة. ويمكن الإشارة أيضا إلى أن الدلفين، نظرا لكونه ولودا، فلديه عظام وليس أشواكا كبقية الأسماك.

ومن جانب آخر فإن العظام في الحيوانات البياضة من ذوات الدم تتصف بصفات متفاوتة إلى حد ما. ففي الطيور توجد عظام ولكنها ليست قوية كعظام الحيوانات الولودة. وبعد ذلك تأتي الأسماك البياضة حيث لا توجد عظام وإنما فقط أشواك سمكية. وفي الثعابين أيضا تأخذ العظام شكل الأشواك السمكية، باستثناء الأنواع الكبيرة جدا حيث يحتاج تكوينها الجسمي إلى القوة لتكون هي أيضا قوية، وهو نفس السبب الموجود في حالة الحيوانات الولودة. وأخيرا، في الشلاقيات (نوع من الحيوانات البحرية الفقارية) فإن الأشواك السمكية استبدلت بالغضاريف، حيث من المهم لهذه الكائنات أن تكون حركتها تموجية، وهذا يتطلب أن يكون الهيكل الذي يدعم الجسم مكونا من مادة مرنة لا صلبة فتنكسر. بالإضافة إلى ذلك ففي هذه الشلاقيات وضعت الطبيعة كل المادة الترابية في الجلد ولم تختص الأجزاء المختلفة الأخرى بنفس الفيض من هذه المادة. وحتى في الحيوانات الولودة فإن الكثير من العظام غضروفي، وهذا يقع في تلك الأجزاء التي يكون من المناسب للحم المحيط بها أن تكون قاعدتها لينة وصمغية، ومثال ذلك الأذنان والأنف؛ فلو كانت مادتها صلبة فإنها ستكون عرضة للكسر. على أن العظام والغضاريف هي في الأصل شيء واحد، والفرق بينها هو فقط في الدرجة، ولهذا فإن العظام والغضاريف لا تنمو مجددا لو تم قطعها.

وغضاريف تلك الحيوانات البرية لا تحوي نخاعا، والمقصود هو النخاع الذي يمكن تمييزه، فالنخاع الذي يمكن تمييزه وفصله في العظام سيكون في الغضاريف مخلوطا بكل الكتلة النخاعية ليعطي محتوى لينا صمغيا للغضروف. ولكن في العمود الفقري للشلاقيات، رغم أنه غضروفي، إلا أنه يحوي نخاعا، لأنه يقوم مقام العظم.

وهناك أجزاء كالمخالب والحوافر تشبه العظام إلى حد كبير من حيث الملمس، سواء كانت صلبة أو متآكلة، وكذلك القرون ومناقير الطيور، وكلها وجدت كوسائل دفاعية. فالأعضاء المتكونة من هذه المواد والتي تسمى بها، الحافر على سبيل المثال، والقرن، إنما هي أدوات لضمان الحفاظ على تلك الحيوانات. ومثل هذه الأعضاء، يجب أن نذكر الأسنان التي لا تؤدي في بعض الحيوانات إلا وظيفة واحدة هي عجن الطعام، بينما في حيوانات أخرى تؤدي وظيفة إضافية باعتبارها سلاحا، كما في الحيوانات ذات الأسنان الحادة أو الأنياب. وكل هذه الأجزاء هي بالضرورة صلبة ومكونة من التراب، حيث أن قيمة هذا السلاح تعتمد على مثل تلك الصفات. وهذه الصفة الترابية توضح كيف أن هذه الأجزاء تكون أكثر نموا عند الحيوانات الولودة من ذوات الأربع منها عند الإنسان. فتكوين الحيوانات تغلب فيه المادة الترابية أكثر منها في تكوين جسم الإنسان. وعموما فليست هذه هي كل الأجزاء ولكن أيضا هناك أجزاء أخرى مرتبطة بها مثل الجلد والمثانة والأغشية والشعر والريش وما شابهها ستتم مناقشتها في موضوع الأجزاء غير المتجانسة، حيث سنبحث في الأسباب المنتجة لها وفي غاية وجودها في أجسام الحيوانات. ففي الأعضاء غير المتجانسة، كما في تلك التي ذكرناها، لا يمكننا التعرف عليها إلا بالتأمل في وظائفها فقط. والهدف من بحثها في هذا الجزء من الكتاب وتصنيفها مع الأجزاء المتجانسة هو أن وضعها تحت مسمى واحد يسبب خلطا بين كل الأعضاء والمواد التي خلقت منها. ولكن بين كل تلك المواد فإن اللحم والعظم هو الأساس. وقد ناقشنا المني والحليب سابقا عند الحديث عن السوائل المتجانسة. وسوف نتحدث في كتابنا عن التوالد “Generation of Animals” بتوسع أكثر عنها، مدركين أن الأساس في الأول منها هو توالد الكائنات، وفي الأخير تغذيته.

### On the Parts of Animals/Book II Part 9 There is a resemblance between the osseous and the vascular systems; for each has a central part in which it begins, and each forms a continuous whole. For no bone in the body exists as a separate thing in itself, but each is either a portion of what may be considered a continuous whole, or at any rate is linked with the rest by contact and by attachments; so that nature may use adjoining bones either as though they were actually continuous and formed a single bone, or, for purposes of flexure, as though they were two and distinct. And similarly no blood-vessel has in itself a separate individuality; but they all form parts of one whole. For an isolated bone, if such there were, would in the first place be unable to perform the office for the sake of which bones exist; for, were it discontinuous and separated from the rest by a gap, it would be perfectly unable to produce either flexure or extension; nor only so, but it would actually be injurious, acting like a thorn or an arrow lodged in the flesh. Similarly if a vessel were isolated, and not continuous with the vascular centre, it would be unable to retain the blood within it in a proper state. For it is the warmth derived from this centre that hinders the blood from coagulating; indeed the blood, when withdrawn from its influence, becomes manifestly putrid. Now the centre or origin of the blood-vessels is the heart, and the centre or origin of the bones, in all animals that have bones, is what is called the chine. With this all the other bones of the body are in continuity; for it is the chine that holds together the whole length of an animal and preserves its straightness. But since it is necessary that the body of an animal shall bend during locomotion, this chine, while it is one in virtue of the continuity of its parts, yet its division into vertebrae is made to consist of many segments. It is from this chine that the bones of the limbs, in such animals as have these parts, proceed, and with it they are continuous, being fastened together by the sinews where the limbs admit of flexure, and having their extremities adapted to each other, either by the one being hollowed and the other rounded, or by both being hollowed and including between them a hucklebone, as a connecting bolt, so as to allow of flexure and extension. For without some such arrangement these movements would be utterly impossible, or at any rate would be performed with great difficulty. There are some joints, again, in which the lower end of the one bone and the upper end of the other are alike in shape. In these cases the bones are bound together by sinews, and cartilaginous pieces are interposed in the joint, to serve as a kind of padding, and prevent the two extremities from grating against each other.

Round about the bones, and attached to them by thin fibrous bands, grow the fleshy parts, for the sake of which the bones themselves exist. For just as an artist, when he is moulding an animal out of clay or other soft substance, takes first some solid body as a basis, and round this moulds the clay, so also has nature acted in fashioning the animal body out of flesh. Thus we find all the fleshy parts, with one exception, supported by bones, which serve, when the parts are organs of motion, to facilitate flexure, and, when the parts are motionless, act as a protection. The ribs, for example, which enclose the chest are intended to ensure the safety of the heart and neighbouring viscera. The exception of which mention was made is the belly. The walls of this are in all animals devoid of bones; in order that there may be no hindrance to the expansion which necessarily occurs in this part after a meal, nor, in females, any interference with the growth of the foetus, which is lodged here.

Now the bones of viviparous animals, of such, that is, as are not merely externally but also internally viviparous, vary but very little from each other in point of strength, which in all of them is considerable. For the Vivipara in their bodily proportions are far above other animals, and many of them occasionally grow to an enormous size, as is the case in Libya and in hot and dry countries generally. But the greater the bulk of an animal, the stronger, the bigger, and the harder, are the supports which it requires; and comparing the big animals with each other, this requirement will be most marked in those that live a life of rapine. Thus it is that the bones of males are harder than those of females; and the bones of flesh-eaters, that get their food by fighting, are harder than those of Herbivora. Of this the Lion is an example; for so hard are its bones, that, when struck, they give off sparks, as though they were stones. It may be mentioned also that the Dolphin, in as much as it is viviparous, is provided with bones and not with fish-spines.

In those sanguineous animals, on the other hand, that are oviparous, the bones present successive slight variations of character. Thus in Birds there are bones, but these are not so strong as the bones of the Vivipara. Then come the Oviparous fishes, where there is no bone, but merely fish-spine. In the Serpents too the bones have the character of fish-spine, excepting in the very large species, where the solid foundation of the body requires to be stronger, in order that the animal itself may be strong, the same reason prevailing as in the case of the Vivipara. Lastly, in the Selachia, as they are called, the fish-spines are replaced by cartilage. For it is necessary that the movements of these animals shall be of an undulating character; and this again requires the framework that supports the body to be made of a pliable and not of a brittle substance. Moreover, in these Selachia nature has used all the earthy matter on the skin; and she is unable to allot to many different parts one and the same superfluity of material. Even in viviparous animals many of the bones are cartilaginous. This happens in those parts where it is to the advantage of the surrounding flesh that its solid base shall be soft and mucilaginous. Such, for instance, is the case with the ears and nostrils; for in projecting parts, such as these, brittle substances would soon get broken. Cartilage and bone are indeed fundamentally the same thing, the differences between them being merely matters of degree. Thus neither cartilage nor bone, when once cut off, grows again. Now the cartilages of these land animals are without marrow, that is without any distinctly separate marrow. For the marrow, which in bones is distinctly separate, is here mixed up with the whole mass, and gives a soft and mucilaginous consistence to the cartilage. But in the Selachia the chine, though it is cartilaginous, yet contains marrow; for here it stands in the stead of a bone.

Very nearly resembling the bones to the touch are such parts as nails, hoofs, whether solid or cloven, horns, and the beaks of birds, all of which are intended to serve as means of defence. For the organs which are made out of these substances, and which are called by the same names as the substances themselves, the organ hoof, for instance, and the organ horn, are contrivances to ensure the preservation of the animals to which they severally belong. In this class too must be reckoned the teeth, which in some animals have but a single function, namely the mastication of the food, while in others they have an additional office, namely to serve as weapons; as is the case with all animals that have sharp interfitting teeth or that have tusks. All these parts are necessarily of solid and earthy character; for the value of a weapon depends on such properties. Their earthy character explains how it is that all such parts are more developed in four-footed vivipara than in man. For there is always more earth in the composition of these animals than in that of the human body. However, not only all these parts but such others as are nearly connected with them, skin for instance, bladder, membrane, hairs, feathers, and their analogues, and any other similar parts that there may be, will be considered farther on with the heterogeneous parts. There we shall inquire into the causes which produce them, and into the objects of their presence severally in the bodies of animals. For, as with the heterogeneous parts, so with these, it is from a consideration of their functions that alone we can derive any knowledge of them. The reason for dealing with them at all in this part of the treatise, and classifying them with the homogeneous parts, is that under one and the same name are confounded the entire organs and the substances of which they are composed. But of all these substances flesh and bone form the basis. Semen and milk were also passed over when we were considering the homogeneous fluids. For the treatise on Generation will afford a more suitable place for their examination, seeing that the former of the two is the very foundation of the thing generated, while the latter is its nourishment.

 

كم عدد المفاصل في الإنسان؟

للملاحدة طريقة عجيبة في التلبيس على المسلمين، وخلاصتها أن الملحد يبحث عن معلومة في القرآن أو السنة، فإذا وجدها راح يبحث عن صفحة في الإنترنت أو مقطع فيديو يناقضها، فيرسل هذه المادة للمسلم ويقول له إن العلم نصوص القرآن أو السنة تتناقض مع العلم!

وبالطبع فإن بعض المسلمين للأسف لديهم القابلية لابتلاع مثل هذا الطعم، خصوصا عندما طرحه بأسلوب فيه تحد وغطرسة.. ولو أن المسلم كلما أتاه الملحد بمثل هذا الادعاء كلف على نفسه قليلا وبحث الأمر جيدا لوجد أن التدليس صفة لا تنفك عن الملاحدة.

طرح علي أحد الإخوة سؤالا حول تناقض العلم مع ما ورد في السنة النبوية بأن الإنسان لديه 360 مفصلا.. وأتى بمقطع فيديو من أحد الملاحدة يدعي أن العدد غير صحيح! فقمت بالبحث قليلا في النت ووجدت شيئا من الشواهد من مواقع علمية ومتخصصة تثبت أن عدد المفاصل عند الإنسان هو 360 مفصلا، كما ورد في الحديث.

الإعجاز هو سبب الاعتراض

يعترض الملحد على هذا الحديث ويحاول إثبات خطئه لأن الحديث معجز.. لم يكن ممكنا في العصور السابقة التحقق من عدد المفاصل عند الإنسان، لأن هناك عدد من المفاصل مخفية لا تظهر إلا بالتشريح. فالعدد 360 لم يكن معروفا قبل التمكن من تشريح الإنسان في العصور القريبة، ولم يكن هذا العدد معروفا في عصر النبوة أو قبله، ومن يدعي وجوده عليه أن يأتي بالمصدر الأصلي وليس نقلا منقطعا.

نص الحديث

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ وَحَمِدَ اللهَ وَهَلَّلَ اللهَ وَسَبَّحَ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ). رواه مسلم

جهات متخصصة تتوافق مع الحديث

لكي تطلع على النص الذي يحدد عدد المفاصل في الإنسان بـ 360 مفصلا، افتح الرابط وابحث في الصفحة.

مركز أمريكي متخصص بالروماتيزم

مركز طبي استرالي

موسوعة الطب البديل

مركز للتجهيزات الطبية في نيويورك

موقع أطباء هدسون في الولايات المتحدة

موقع شركة حاسوبية متخصصة بالتطبيقات الطبية وخصوصا التشريحية

موسوعة “كم يوجد؟”

موقع جمعية ستاندالون للرعاية الطبية

جمعية بيوجت ساوند لجراحة العظام (16 جراحا متخصصا في العظام)

موقع “العلم للترفيه”

موقع جوينت تشيروبراكتيك، متخصص في تقويم العمود الفقري وله أكثر من 425 مكتبا حول العالم

جمعية العظام والعمود الفقري الأمريكية

موقع الجراح الهندي مادو ثيمو المتخصص بجراحة استبدال المفاصل

موقع طبي أسترالي متخصص في علاج أعراض سن اليأس

إليفانجو- موقع تعليمي

جمعية أطباء العظام في سياتل

مركز تشخيص وعلاج الآلام والإصابات في سان انطونيو

موقع الطبيب الهندي شيراق باتل المتخصص بعلاج المفاصل والطب الرياضي

مركز أمريكي متخصص في الميكانيكا البيولوجية لعلاج المفاصل والعظام

مركز العلاج الطبيعي المتحد في فلوريدا

التشكيك في الإعجاز العلمي لقوله تعالى: )في أدنى الأرض(
 
مضمون الشبهة:
 
في قوله تعالى: )الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين ((الروم)، يذكر القرآن الكريم الموقع الذي انهزمت فيه الروم؛ إذ يقرر أنه )في أدنى الأرض((الروم:3)؛حيث دارت المعركة على سواحل البحر الميت، ولما علم الطاعنون بهذا الإعجاز المبهر راحوا يتخبطون يمينًا ويسارًا بغية التشكيك في هذا الإعجاز العلمي؛فمن ناحية أولى ينفون: أن يكون هناك دليل علمي يؤكد أن شواطئ البحر الميت هي أخفض منطقة على سطح الأرض، ومن ناحية أخرى يقولون: إن كلمة أدنى لا معنى لها سوى أقرب، والقول بأن معناها أخفض هو افتراء وتلفيق وخداع، فلا يوجد في شروح المفسرين ما يؤيد هذا الكلام، كما لا يوجد في اللغة ومعاجمها ما يدل عليه، حتى آيات القرآن تشهد بأن معنى أدنى أقرب وليس معنى آخر.
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1) لقد وصف القرآن الكريم منطقة البحر الميت، وهي الأرض التي دارت فيها المعركة بين الفرس والروم بـ ) أدنى الأرض((الروم:3)؛ أي: أخفض ما في الأرض، ويأتي العلم التجريبي في القرن العشرين مؤكدًا هذه الحقيقة؛ إذ أثبتت القياسات ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن منطقة البحر الميت وما حوله أخفض بقاع الأرض على الإطلاق، وهذا ما سجَّلته الأقمار الصناعية ودوَّنته الموسوعة البريطانية؛ ومن ثم فلا حجة للطاعن من الناحية العلمية.
 
2) لكلمة “أدنى” معانٍ أخرى غير أقرب، مثل: أخفض وأصغر وأقل، فأقرب من معانيها وليس المعنى الوحيد، وما ادَّعاه الطاعن من أن آيات القرآن واللغة ومعاجمها وشروح المفسرين ـ كل أولئك يؤكدون أن معنى أدنى: أقرب وليس معنى آخر، غير صحيح؛ ذاك أن آيات كثيرة في القرآن جاءت تؤكد عكس ذلك، منها قوله: ) قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير((البقرة:٦١)، وفي اللغة: كثيرًا ما ورد في الشعر العربي الطباق بين كلمتي: الأدنى والأعلى، أما من حيث المعاجم فإن عدم الإشارة إلى معنى كلمة في معجم معين لا ينفي وجود هذا المعنى، ومع ذلك فقد جاء في لسان العرب: “والأدنى: السَّفِلُ”، وأخيرًا فإن التفاسير القديمة ليست حجة على القرآن الكريم، بل إننا لا نتصور أن يفسر المفسرون أدنى ـ في ذلك الوقت ـ إلا بمعنى أقرب.
 
التفصيل:
 
أولا. منطقة البحر الميِّت أخفض بقاع الأرض:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
ثبت علميًّا ـ بقياسات عديدة ـ أن أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا هو غور البحر الميت، ويقع البحر الميت في أكثر أجزاء الغور انخفاضًا؛ حيث يصل مستوى منسوب سطح الماء فيه إلى حوالي أربع مئة متر تحت مستوى سطح البحر، ويصل منسوب قاعه في أعمق أجزائه إلى قرابة ثمانمائة متر تحت مستوى سطح البحر، وهو بحيرة داخلية؛ بمعنى أن قاعها يعتبر في الحقيقة جزءًا من اليابسة.
 
صورة حقيقية من الفضاء لغور البحر الميت ومستوى سطح الماء فيه ينخفض حوالي 400م تحت مستوى سطح الماء في كل من البحرين الأبيض: المتوسط والأحمر  
 
وغور البحر الميت هو جزء من خسف أرضي عظيم، يمتد من منطقة البحيرات في شرق أفريقيا إلى بحيرة طبريا، فالحدود الجنوبية لتركيا مرورًا بالبحر الأحمر فخليج العقبة، ويرتبط بالخسف العميق في قاع كل من المحيط الهندي، وخليج العرب وخليج عدن.
 
ويبلغ طول أغوار وادي عربة ـ البحر الميت ـ الأردن حوالي ست مئة كيلو متر، ممتدة من خليج العقبة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال، ويتراوح عرضها بين العشرة والعشرين كيلو مترًا، ويعتبر منسوب سطح الأرض فيها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا؛ حيث يصل منسوب سطح الماء في البحر الميت إلى حوالي 400م تحت المستوى المتوسط لمنسوب المياه في البحرين المجاورين: الأحمر والأبيض المتوسط، وهو أخفض منسوب أرضي على سطح اليابسة كما يتضح من الأرقام الآتية:
 
منسوب سطح الأرض في وادي عربة
 
=
 
355 : 400م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب أعمق نقاط قاع البحر الميت
 
=
 
794م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب سطح الماء في البحر الميت
 
=
 
400م تحت مستوى سطح البحر
 
مستوى سطح الأرض في غور الأردن
 
=
 
212 : 400م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب سطح الماء في بحيرة طبريا
 
=
 
209م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب قاع بحيرة طبريا
 
=
 
252م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب سطح الأرض في قاع منخفض القطارة في شمال صحراء مصر الغربية
 
=
 
133م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب سطح الأرض في قاع وادي الموت/كاليفورنيا
 
=
 
86م تحت مستوى سطح البحر
 
منسوب سطح الأرض في قاع منخفض الفيوم/ مصر
 
=
 
45م تحت مستوى سطح البحر
 
جدول مناسيب أخفض البقاع على اليابسة
 
ويتراوح عمق الماء في الحوض الجنوبي من البحر الميت بين الستة والعشرة أمتار، ويُعتقد أنه كان جافًّا إلى عهد غير بعيد من تاريخه، وكان عامرًا بالسكان، وأن منطقة الأغوار كلها من وادي عربة في الجنوب إلى بحيرة طبريا في الشمال كانت كذلك عامرة بالسكان منذ القدم([1]).
 
خريطة توضح موقع البحر الميت زمن وقوع الحرب الفارسية الرومانية
 
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
بعد المسح الجيولوجي لكوكب الأرض اكتشف العلماء أن أخفض منطقة على سطح الأرض هي منطقة البحر الميت، وأن مياه البحر الميت تنخفض عن مياه جميع بحار العالم حوالي 400م، وعندما هزمت الروم في هذه المنطقة وقت نزول القرآن الكريم، نزل قول الله تعالى: )غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3)((الروم).
 
ويأبى الطاعنون أن يعترفوا بإعجاز الآية العلمي؛ بحجة أن القول بأن شواطئ البحر الميت هي أخفض منطقة على سطح الأرض ـ قول لا يستند إلى دليل علمي.
 
ومن الواضح أن قول الطاعن هو الذي بُني على أساس غير علمي؛ فالوادي الواقع شمال البحر الميت هو أخفض نقطة فعلًا على سطح الأرض، وهذا الأمر قد ثبت علميًّا ولا نقاش عليه، ويمكن التأكد من ذلك بكل سهولة بواسطة البرنامج (worldwind) من وكالة الفضاء الأمريكية (NASA)، وهذا البرنامج يشبه (Google earth) ولكنه يعطي معلومات أدق عن ارتفاع سطح الأرض عندما تكون النقطة أخفض من سطح البحر([2]).
 
صورة حقيقية من الفضاء تُظهر موقع البحر الميت في الأردن
 
وقد ذكرت الموسوعة البريطانية ما نصه:
 
Lowest point on earth” quickly showed that shoreline of the Dead Sea, on the border of Israel and Jordan in the Middle East, is the lowest land area on Earth the altitude of the Dead Sea shoreline is approximately 1.300 feet (400 meters) below sea level.
 
وهذا ترجمته: “البحر الميت، بقعة مائية مالحة مغلقة بين إسرائيل والأردن، وأخفض جسم مائي على الأرض، فانخفاضه يصل إلى نحو 1300 قدم، حوالي 400م تحت سطح البحر”([3]).
 
يقول الشيخ الزنداني: التقيت مع واحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه البروفيسور “بالما”، وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا، جاء في زيارة ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل للارتفاعات والانخفاضات وأعماق البحار، فلما جلس قلت له: عندنا آية في القرآن تقول بأن منطقة بيت المقدس ـ حيث دارت المعركة بين الفرس والروم ـ هي أخفض منطقة في العالم، فقال: لا.. توجد مناطق كثيرة أخفض من هذه المنطقة، وأخذ يذكر لنا مناطق في أوربا ومناطق في أمريكا، فقلت له: أنا متأكد مما أقول، فقال: إذًا الأمر بسيط، هذا هو المجسَّم يبين لنا أخفض منطقة، فأدار الكرة الأرضية المجسمة بيده، وألقى نظرة على المنطقة المحددة، وهي قرب بيت المقدس، فإذا به يرى سهمًا مكتوبًا عليه أخفض منطقة على وجه الأرض، فتحوَّل سريعًا وقال: هذا كلام صحيح([4]).
 
وخلاصة القول: إن منطقة أغوار البحر الميت تحوي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق، والمنطقة كانت محتلة من قبل الروم البيزنطيين في عصر البعثة النبوية الخاتمة، وكان الصراع بين الإمبراطوريتين الكبيرتين في هذا الزمن على أشده، ولا بُدَّ  أن كثيرًا من معاركهما الحاسمة قد وقعت في أرض الأغوار، ووَصْف القرآن الكريم لأرض تلك المعركة الفاصلة التي تغلَّب فيها الفرس على الروم في أول الأمر بأدنى الأرض ـ وصفٌ معجزٌ للغاية؛ لأن أحدًا من الناس لم يكن يدرك هذه الحقيقة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها بهذا الوضوح في مطلع سورة الروم يضيف بعدًا آخر إلى الإعجاز الإنبائي الذي استُهِلت به هذه السورة المباركة، ألا وهو الإعجاز العلمي، فبالإضافة إلى ما جاء بتلك الآيات من إعجاز شمل الإخبار بالغيب ـ من انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم ـ وحدَّد لوقوعه بضع سنين، فوقع كما وصفته، فإن وصف أرض المعركة بالتعبير القرآني )أدنى الأرض( (الروم:3)يضيف إعجازًا علميًّا جديدًا، يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق وأن النبي الخاتم الذي تلقاه كان موصولًا بالوحي، ومعلمًا من قبل خالق السماوات والأرض([5]).
 
ومن ثم فإن ما ادَّعاه الطاعن غير صحيح؛ فقد جاء العلم التجريبي مؤكدًا أن منطقة أغوار البحر الميت وما حولها من أغوار هي أخفض أجزاء اليابسة على الإطلاق.
 
ثانيًا. كلمة “أدنى” كما هي بمعنى أقرب، فهي كذلك بمعنى أخفض:
 
ثمة اعتراضات أخرى يوجهها المشككون إلى الآية، فإلى جانب ما أثاروه في الوجه الأول نجدهم يقولون: إن كلمة “أدنى” هي اسم تفضيل على وزن أفعل، وهي مشتقة من الفعل “دنا” الذي معناه اقترب، وقد وردت في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة النجم:  )ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) ((النجم)؛ أي: ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه، فكان منه على مقدار قوسين أو أقل؛ ومن ثم فإن كلمة أدنى لا معنى لها سوى أقرب، وإن القول بأن معناها أخفض هو محض افتراء وتلفيق وخداع، فلا يوجد في اللغة ما يدل على مثل هذا الكلام.
 
كما أن المفسرين جميعهم اتفقوا على أن “أدنى” معناها أقرب وليس أخفض، قال القرطبي: “وأدنى معناه أقرب”، وقال الشيخ محمد على الصابوني: “أي: هزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس”، فهل نكذب كلام المفسرين المعتمدين لدى المسلمين ونصدق دعاة الإعجاز العلمي؟
 
وإذًا فكلمة أدنى يمكن تعويضها بأقرب؛ أي: غلبت الروم في أقرب الأرض إلى فارس أو إلى الجزيرة العربية، فلماذا يحاول آخرون إيهامنا بأنها تفيد غير ذلك؟
 
وليس من شك في أن الاعتراضات السابقة اعترضات واهية ـ وإن بدت في الظاهر غير ذلك ـ وجميعها مردود عليه:
 
فمن ناحية أولى: ذكر المشككون أن آيات القرآن تشهد بأن كلمة (أدنى) لا معنى لها سوى أقرب، واستدلوا بقوله تعالى: ) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) ((النجم). وبالفعل فإن من معاني كلمة “أدنى” في القرآن الكريم أقرب، ولكن هذا ليس المعنى الوحيد كما أراد المشككون إيهامنا، ولنأخذ بعض الأمثلة من القرآن الكريم لبيان المعاني المتعددة للكلمة:
 
فقد عبَّر القرآن بالأدنى تارة عن الأقرب، فيقابل بالأبعد أو الأقصى من مثل قوله تعالى: )إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى((الأنفال:42).
 
وتارة ثانية تأتي بمعنى الأقل في مقابل الأكثر، من مثل قوله تعالى:)ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم(  (المجادلة:7).
 
وتارة ثالثة يعبِّر بها عن الأرذل أو الأحقر، فيقابل بالذي هو خير أو أعلى وأرفع وأنفع، وذلك من مثل قول الله تعالى: ) قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير(  (البقرة:61).
 
 وتارة رابعة يعبر بها عن (الدنيا) في مقابلة الآخرة، وذلك من مثل قوله تعالى: )منكممن يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة((آل عمران:152).
 
فهل معنى “أدنى” في الآيات السابقة هو أقرب؟ بالطبع لا.. ولكنه جاء بمعنى أصغر تارةً وأقل تارةً أخرى، وهذا بلا شك يختلف عن معنى كلمة أقرب.
 
ويسلم الطاعن للكلام السابق قائلًا: ولنفترض جدلًا أن لكلمة أدنى معاني أخرى غير أقرب، فإنه لا يوجد في القرآن ما يفيد أن معناها الانخفاض أبدًا.
 
    وهذا الزعم باطل أيضًا، فهذا المعنى موجود ومفهوم لكل من يفهم العربية ويتحدثها، ومن يتدبر آيات القرآن بتمعُّن يجد هذا المعنى؛ فقد عُبِّر بالأدنى عن معنى الخفض في مثل قوله تعالى: )يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين( (الأحزاب: 59).
 
ونلاحظ دقة الوصف هنا، فقد قال عز وجل: “يدنين” ولم يقل: “يُسدلن” مثلًا؛ ذلك لأن يسدلن لا تفيد التغطية من أعلى إلى أسفل فقط ولكن تفيد التغطية عامة.
 
ومن ناحية ثانية: يقول الطاعن: إنه لا يوجد في لغة العرب ما يفيد أن كلمة “أدنى” معناها أخفض، وردًّا على ذلك نقول: إن كلمة “أدنى” بمعنى أخفض ـ والانخفاض ضد العلو ـ وردت في الشعر العربي، يقول أبو عدي النمري (شاعر جاهلي) :
 
تهامية الأدنى حجازية الذرا                    كأن عليها من عُمان شقيقها
 
فعلى الرغم من أن الشاعر في معرض الحديث عن النسب، القريب منه والبعيد، إلا أنه يختار للتعبير عن ذلك كلمتين متضادتين معنويًّا من وجهة نظره، وهما: الأدنى ـ الذرا، وإذا كان الذرا أكثر الأماكن عُلوًّا، فإن الأدنى أكثر الأماكن انخفاضًا.
 
وأيضًا في قول ابن قيم الجوزية:
 
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فإن       تفعل رجعت بذلة وهوان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحـ ـرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
 
فنحن نلاحظ في البيتين السابقين الطباق بين كلمتي: الأدنى والأعلى؛ فقد وردا على أنهما متضادتين من حيث المعنى.
 
ومن ناحية ثالثة: يضيف الطاعن إلى الاعتراضات السابقة قوله: إن كلمة أدنى لم تأت بمعنى أخفض في أيٍّ من المعاجم اللغوية والقواميس العربية، مثل: مختار الصحاح، ومعجم البلدان، ولسان العرب، وغيرها، وهذا القول أيضًا مردود من وجوه:
 
إن كلمة “أدنى” جاءت في كثير من آيات القرآن وكلام العرب على أنها بمعنى أقل وأصغر، وإن كانت كثير من المعاجم لم تشر إلى ذلك، فإن عدم الإشارة إلى معنى كلمة في معجم معين لا ينفي وجود هذا المعنى.
إن معاجم اللغة ـ لمن يتأملها ـ بُنيت على أساس تراكمي؛ إذ أَخَذَ كل معجم مادته ممن سبقه في هذا المضمار، وقلما زاد الأخير على سابقيه شيئًا، إلى درجة يصعب معها اكتشاف الفروق بين معجم وآخر في تناول معاني الكلمة الواحدة.
 
وهذا ما نلحظه عند الرجوع إلى مادة “دنا” أو “دنو” في المعاجم اللغوية؛ إذ نجد أنفسنا أمام معانٍ معينة، وكلام معاد، وشواهد مكررة، تناقلها أصحاب المعاجم الواحد عن الآخر؛ فقد أجمعت المعاجم اللغوية على أن كلمة “دنا” بمعنى اقترب، أما إن جاءت بالهمز “دنأ” فهي من الدناءة؛ أي: الخسة والوضاعة.
 
وإذا كان معنى كلمة “دنا” مقتصرًا ـ من الناحية اللغوية ـ على ما ذكرناه، فماذا نقول إذًا في قوله تعالى: )ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (7)((المجادلة)، وقوله تعالى:)إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار( (المزمل: ٢٠).
 
نلاحظ أن كلمة “أدنى” في الآيتين السابقتين جاءت بمعنى أقل، ولا يستقيم المعنى إذا نحن أوَّلناها على أنها أقرب نزولًا عند معطيات المعاجم اللغوية.
 
إذا وجدنا في لغة العرب وفي القرآن الكريم ما يفيد بمعان أخرى لكلمة “أدنى”، مثل: أقل أو أصغر وأخفض، فما أهمية المعاجم في البحث أصلًا، هل نترك الأصول ونبحث في القواميس والترجمات؟!
هل نحن ملزمون بأن نقتصر في فهم القرآن على ضوء المعاجم؟ ولو كان هذا الأمر صحيحًا إذًا لأمكن تفسير القرآن كاملًا، ولم تعد هناك حاجة إلى مفسرين ومجتهدين.
ومع كل ما سبق ـ وهذا هو الأهم ـ فإن عبارة عدم وجود معنى أخفض لكلمة “أدنى” في معاجم اللغة ـ عبارة ينقصها كثير من الدقة والصحة، فعلى سبيل المثال لدنيا في:
 
o   القاموس المحيط في معنى كلمة “دنا”: “تقول العرب الأدنيان وهما واديان”.
 
o   لسان العرب في معنى كلمة “دنا”: “ويقال: دنا وأدنى ودَنَّى إذا قرُب، قال: وأدنى إذا عاش عيْشًا ضيقًا بعد سعة، والأدنى: السَّفِلُ”.
 
o   معجم الغنى، د. عبد الغني أبو العزم: “أدنى ـ ج: أدنون، مؤ: دُنيا ـ ج: دُنىً. (د ن و).
 
  خذ منه أدنى قدر من المال: أقل، أبسط شيء.
 
طاف ابن بطوطة العالم من أدناه إلى أقصاه: من أقرب مكان إلى ما هو أبعد
 
  أنا الموقِّع أدناه: أسفله.
 
 أدنى من حبل الوريد: قريب جدًّا، وشيك.
 
 الحد الأدنى: أصغر كمية.
 
  بلدان الشرق الأدنى (جغ): منطقة تضم البلدان المطلة على الحوض الشرقي من البحر المتوسط”.
 
ومن ناحية أخيرة: فإن ما ذكره الطاعن من اتفاق المفسرين جميعهم على أن أدنى معناها أقرب وليس أخفض ـ مردود كذلك؛ ذاك أن تفسير أدنى بمعنى أقرب في التفاسير القديمة ليس حجة على القرآن الكريم؛ بل إننا لا نتصور أن يفسروا أدنى في ذلك الوقت إلا بمعنى أقرب، فلم يكن في زمن المفسرين وكالة ناسا الفضائية ولا كان هناك تقدم علمي مذهل كما هو الآن.
 
نعم، يحدثنا القرآن الكريم في عصر لم يكن باستطاعة أحد أن يقيس أخفض نقطة على سطح اليابسة، وهؤلاء الذين يعترضون على الإعجاز العلمي للقرآن، إنما يعترضون لأنه يخاطبهم بلغةٍ قويةٍ وهي لغة العلم، ولذلك فإنهم يَلجئون إلى الكتب القديمة حيث كان متعذرًا وقتها فهم هذه الآيات كما نفهمها الآن في ضوء المعارف الحديثة.
 
ومن ثم فإننا نقول لهؤلاء: لماذا تلزموننا بفهم القرآن كما فهمه المفسرون قبل مئات السنين، ولا تلزمون أنفسكم بفهم الكتاب المقدس كما فهمه القساوسة قبل عشرات السنين فقط، عندما حدَّدوا عمر الإنسان على الأرض بسبعة آلاف سنة ثم ثبت يقينًا أن عمره ملايين السنين.
 
لذا فإن الرجوع إلى التفاسير القديمة لإثبات أن القرآن الكريم لم يحمل إعجازًا علميًّا في معانيه ـ هو عجز عن مجاراة فكر الآخر، فهؤلاء المفسرون من أين لهم أن يعرفوا أن سواحل البحر الميت هي أخفض منطقة على وجه الأرض حتى يفسروا أدنى بمعنى أخفض وليس أقرب([6]).
 
فعلى الذين قالوا إن معنى)أدنى الأرض( (الروم:3)، هو أقرب الأرض من بلاد فارس، أو من بلاد العرب أن يعيدوا النظر في ذلك؛ لأن حدود الإمبراطوريتين البائدتين كانت متلاحمة مع بعضها من جهة، ومع بلاد العرب من جهة أخرى، وعليه فلا يعقل أن يكون المقصود بتعبير أدنى الأرض في هذه الآية هو القرب من بلاد فارس أو بلاد العرب فقط، فإلى جانب ذلك هي أيضًا أكثر أجزاء اليابسة انخفاضًا([7]).
 
ولنا أن نتدبَّر قول الله تعالى عن المسجد الأقصى، وهو مسجد يقع في مدينة القدس التي لا تبعد سوى عشرين كيلو مترًا عن منطقة البحر الميت حيث دارت المعركة، يقول تعالى: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى((الإسراء: ١)، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن: كيف يصف الله تعالى منطقة البحر الميت بأنها أقرب الأرض، ثم يعود ويصف المسجد الموجود هناك بأنه المسجد الأقصى؛ أي: الأبعد.
 
فالمنطقة التي وقعت فيها المعركة وهي التي سمَّاها القرآن بـ )أدنى الأرض( (الروم:3)، تبعد عن مكة أكثر من ألف ومئتي كيلو متر، فكيف تكون هذه الأرض هي الأقرب وهي تقع على هذه المسافة الكبيرة؟ وكيف يكون المسجد الأقصى هو الأبعد وهو يقع على المسافة نفسها من مكة المكرمة حيث نزلت هذه الآيات؟ وأخيرًا: لو أن الله تعالى يقصد كلمة أقرب، فلماذا لم يستعمل هذه الكلمة؟ ومن ثم فإن كلمة “أدنى” هي المقصودة، وهي الكلمة التي تعطي المعنى الدقيق والمطلوب.
 
إن القرآن لو كان خاضعًا لتفسير واحد وانتهى الأمر لما كان صالحًا لكل زمان ومكان، ولكن القرآن يتميز بأن البدوي في الصحراء كان لا يجد مشكلة في فهمه والتعامل مع كلماته ومعانيه، وعالم اللغة يفهم منه أشياء قد لا يفهمها غيره، وعالم الذرة يفهمه أيضًا ولا يجد مشكلة في تدبره مهما تطور العلم، وعالم الفلك قد يرى فيه حقائق لم يرها أحد من قبله، وهكذا فهو كتاب شامل كامل لجميع البشر والعصور([8]).
 
فهل بعد ذلك كله لايزال يعتقد هؤلاء الطاعنون أن معنى أخفض لُفِّق إلى كلمة أدنى؟ ولو أن هناك تلفيقًا للمعنى فالعرب كلهم مشتركون إذًا في هذا التلفيق، وليس دعاة الإعجاز العلمي وحدهم كما يسميهم الطاعنون، فهذا الذي يمضي إقرارًا ويكتب إمضاءه تحت كلمة الموَّقع أدناه، مشترك في هذا التلفيق! وهذا المذيع الذي يطالعنا كل مساء في الفقرة الاقتصادية قائلًا: انخفض سعر صرف الين الياباني إلى أدنى مستوى له أمام الدولار في بداية التعاملات الآسيوية ـ مثلًا ـ مشترك في التلفيق! فليحاكموا هؤلاء كلهم فقد اشتركوا في الخداع والتلفيق.
 
3) وجه الإعجاز:
 
هناك وجهان للإعجاز في هذه الآيات الكريمة أولهما: إخبار القرآن الكريم بانتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم الساحقة، بعد بضع سنوات، والبضع هو رقم بين الثلاثة والتسعة كما يقول علماء اللغة العربية، وقد تحقَّق ما وعد به القرآن الكريم بعد سبع سنوات؛ حيث وقعت معركة أخرى بين الفرس والروم سنة 627م وانتصر فيها الروم وتزامن ذلك مع انتصار المسلمين على مشركي قريش في غزوة بدر الكبرى، وهذا النصر بدا مستحيلًا في أعين العرب المشركين، إلى درجة دفعت بهم إلى السخرية من هذه الآيات القرآنية وغامروا بدفع رهان للمسلمين إن تحقق ذلك النصر المزعوم، وخاب ظنهم وتحققت معجزة القرآن الكريم عندما أخبر الناس مسبقًا بانتصار الرومانيين.
 
الوجه الثاني للإعجاز في هذه الآيات: أنها قررت حقيقة جغرافية لم تكن معروفة لأحد في ذلك الوقت؛ إذ أخبرت أن الروم خسروا المعركة مع الفرس في أدنى منطقة من الأرض، وكلمة أدنى عند العرب تأتي بمعانٍ متعددة، منها: أقرب وأخفض، فهي من جهة أقرب منطقة لشبه الجزيرة العربية، ومن جهة أخرى هي أخفض منطقة على سطح الأرض؛ إذ إنها تنخفض عن مستوى سطح البحر بحوالي 400 م، وهي أخفض نقطة سجَّلتها الأقمار الصناعية على اليابسة، كما ذكرت ذلك الموسوعة البريطانية، والحقيقة التاريخية تشهد أن المعركة وقعت في أكثر مناطق العالم انخفاضًا في حوض البحر الميت، والتي لم تكن لتقاس في غياب تقنيات القياس الحديثة، لذلك كان من المستحيل أن يعرف أي شخص في ذلك الوقت أن هذه المنطقة هي أكثر المناطق انخفاضًا في العالم، أليس هذا دليلًا على أن القرآن وحي من عند الله، قال تعالى:)وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها((النمل: ٩٣) ([9]).
 
 
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق. منتدى: الفرقان للحوار www.elforkan.com.
 
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص285: 287.
 
[2].)في أدنى الأرض( (الروم:3).. اعتراضات والرد عليها، مقال منشور بمنتدى: الفرقان للحوارwww.elforkan.com.
 
[3]. أخفض منطقة على سطح الأرض، مقال منشور بموقع: مكنون الإعجاز العلمي www.maknoon.org.
 
[4]. أنه الحق، عبد المجيد الزنداني، دار وحي القلم، دمشق، ط1، 2004م، ص93: 95.
 
[5]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص289.
 
[6]. انظر: )في أدنى الأرض( (الروم:3).. اعترضات والرد عليها، مقال منشور بمنتدى: الفرقان للحوارwww.elforkan.com.
 
[7]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص290.
 
[8]. أدنى الأرض، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
 
[9]. أخفض منطقة على سطح الأرض، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.

نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (والأرض ذات الصدع)

مضمون الشبهة:

في غمار حملة التشكيك الموجهة إلى إعجاز القرآن الكريم، نفى الطاعنون الإعجاز العلمي في قوله تعالى: ) والأرض ذات الصدع(12)((الطارق)، ذاهبين إلى أن المعنى لا يتجاوز ما عرفه القدماء من أن الصدع هو النبات الذي يشق الأرض وتنصدع به، وعلى هذا إجماع المفسرين قدامى ومعاصرين.

ويتساءلون: إذا كان المقصود من الآية هذه الصدوع العملاقة المتعددة التي تحيط بالكرة الأرضية ـ كما يزعم دعاة الإعجاز العلمي ـ فلماذا جاءت الآية بصيغة المفرد (صدع)، ولم تأت بصيغة الجمع (صدوع)؛ فهي صدوع عدَّة وليست صدعًا واحدًا؟

وجها إبطال الشبهة:

1)    من المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معنى انشقاقها عن النبات، وهو صحيح، وقد أخطأ الطاعن حينما أراد قَصْر مقصود الآية على هذا المعنى فقط؛ لأنه لما كانت لفظة الأرض قد جاءت في القرآن الكريم بمعنى: التربة التي تغطي صخور اليابسة، وكتل اليابسة التي نحيا عليها، وكوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لا بُدَّ وأن يكون له دلاله في كل معنى من معاني كلمة الأرض؛ ومن ثم فإن كلمة الصدع في الآية تعني: انصداع التربة عن النبات، وتصدع صخور اليابسة، وتصدع الغلاف الصخري للأرض.

2)    ليس صحيحًا ما ادَّعاه الطاعن من أن الآية لو كانت تنطبق على ما اكتشفه العلماء حديثًا من وجود صدوع متعددة بالكرة الأرضية لجاءت بصيغة الجمع (صدوع)؛ ذاك أن العلماء اكتشفوا صدعًا ضخمًا يمتد إلى أكثر من 40 ألف كيلو متر، وأسموه حلقة النار(pacific Ring of fire)، هذا فضلًا عن أن الصدوع التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة تتصل ببعضها وكأنها صدع واحد؛ ومن ثم فإن المفرد (صدع) في الآية الكريمة قد يكون مقصودًا على حقيقته.

التفصيل:

أولا. الصدع في الآية لا يقتصر على انصداع التربة عن النبات:

1) الحقائق العلمية:

انصداع التربة عن النبات:

تربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل، وهي معادن دقيقة الحبيبات([1])، وتتركب أساسًا من سيليكات الألومنيوم على هيئة راقات متبادلة من كل من ثاني أكسيد السيليكون وثالث أكسيد الألومنيوم مع عناصر أخرى كثيرة، ويحمل كل راق على سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة على حسب نوع الصلصال المركب منه.

والصلصال من المعادن الغروية التي لها قدرة على الانتشار في غيرها من المواد نظرًا لدقة حبيباتها، كما أن لها القدرة على تشرُّب الماء والالتصاق بأيونات العناصر؛ ولذلك فإنه عند نزول الماء على التربة أو عند ريِّها بكميات مناسبة من الماء، فإن ذلك يؤدي إلى انتفاشها وزيادة حجمها، فتهتز حبيباتها وتربو إلى أعلى حتى ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقًا سهلًا لكل من الجذير المندفع إلى أسفل، والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة إلى أعلى حتى تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر على سطح الأرض مستمرة في النمو لتغطي باقي أجزاء النبات.

واهتزازية التربة بنزول الماء عليها له أسباب أخرى غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ، ومن ذلك القطبية المزدوجة لجزيء الماء، ووجود الشحنات الكهربائية المتشابهة على أسطح الحبيبات، مما يؤدي إلى تنافرها، وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض وعن جزيئات الماء المتسربة بينها، في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها إلا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأيُّن أملاح التربة في ماء الري، ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانًا لخزن المياه بين تلك الحبيبات، ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن بين حبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتى يُطرد بالكامل.

 وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجمًا زاد انتفاشها، وأدَّى ذلك إلى زيادة حجمها، فكل حبة من حبات التربة لها القدرة على التشرب بالماء، وحمله على سطحها، واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات، وبذلك يتم التبادل بين الأيونات المختلفة على أسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماء المحفوظ بينها، ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة إلى أسفل من البذرة النابتة، ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريِّها ما أنبتت الأرض على الإطلاق.

 انصداع التربة بإنزال الماء عليها يفسح طريقًا سهلًا للنبتة المنبثقة من داخل البذرة النابتة كي تظهر سويقتها إلى ما فوق الأرض، ويندفع مجموعها الجذري إلى أعماق التربة.

تصدُّع صخور اليابسة:

نتيجة لتعرض صخور القشرة الأرضية للإجهاد بالشدِّ أو بالتضاغط، فإنها تتكسر بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة على هيئة شقوق في قشرة الأرض، تمزق صخورها إلى كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة على جوانب مستويات تلك الشقوق، كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بإزاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة على سطح الأرض، بما يعين على تخفيف الضغط عن الصخور الموجودة أسفل منها، وبالتالي تخفيف شدة الإجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدُّد وتتشقق على هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور إلى كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل.

وغالبية فواصل الأرض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين أو أكثر وإن كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد، وأغلبها قليل العمق.

وتحدث فواصل قشرة الأرض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض قريبًا من سطحها أو إلى سطحها على هيئة متداخلات نارية أو طفوح بركانية…

وصدوع الأرض هي كسور في قشرتها([2])، يتم عبرها تحرك صخورها على جانبي مستوى الصدع حركة أفقية أو رأسية ، أو مائلة بدرجة ملحوظة، وتتباين أبعاد تلك الصدوع تباينًا كبيرًا، فمنها ما لا يرى بالعين المجردة، ولا تكاد الحركة عبر مستواه أن تدرك، ومنها ما يمتد لعشرات الكيلو مترات، وتبلغ الحركة عبر مستواه إلى آلاف الأمتار…

بعض نماذج صدوع الأرض التي تقسم غلافها الصخري إلى عدد من الألواح أو الصفائح المتباعدة عن بعضها البعض أو المصطدمة مع بعضها البعض

ولصدوع الأرض أهمية بالغة لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الأرض وسطحها، تتحرك عبرها الأبخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية، كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصر اللازمة لتجديد ثراء صخور الأرض وتربة سطحها.

تصدع الغلاف الصخري للأرض:

على الرغم من التعرف على عدد من أودية الخسف والصدوع العملاقة على سطح الأرض منذ زمن بعيد، إلا أن العلماء قد اكتشفوا في العقود الثلاثة الماضية أن أرضنا محاطة بشبكة هائلة من تلك الأودية الخسيفة والصدوع العملاقة التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة، ويشبهها العلماء باللحام على كرة التنس، وتمتد هذه الصدوع العملاقة لآلاف الكيلو مترات في جميع الاتجاهات بأعماق تتراوح بين 65 و70 كم تحت قيعان كل محيطات الأرض وقيعان عدد من بحارها، وبين 100و 150 كم تحت القارات، مُمزقة الغلاف الصخري للأرض بالكامل إلى عدد من الألواح التي تعرف باسم (ألواح الغلاف الصخري للأرض).

وتطفو هذه الألواح الصخرية فوق نطاق الضعف للأرض، وهو نطاق لَدِِِن، شبه منصهر، عالي الكثافة واللزوجة وتنطلق فيه تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، فتدفع معها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة عن بعضها البعض في إحدى حوافها، ومصطدمة مع بعضها البعض عند الحواف المقابلة ومنزلقة عبر بعضها البعض عند بقية الحواف .

خريطة للعالم توضح صدوع الأرض

وينتج عن هذه الحركات لألواح الغلاف الصخري للأرض عدد من الظواهر الأرضية المهمة التي منها: اتساع قيعان البحار والمحيطات، وتجدد صخورها باستمرار عند حواف التباعد، وتكوُّن سلاسل من جبال أواسط المحيطات، ومنها تتكون السلاسل الجبلية عند حواف التصادم حيث يستهلك قاع المحيط تحت كتلتي القارتين المتصادمتين واللتين كانتا على حدود المحيط الذي كان يفصلها.

وتُصاحب العمليتان بالهزات الأرضية وبكم هائل من الطفوح البركانية، وبتكون أعلى السلاسل الجبلية مثل جبال الهيمالايا، وبها قمة إفرست أعلى قمم الأرض، ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من 64000كم، وهي تتكون أساسًا من الصخور البركانية المختلطة بقليل من الرواسب البحرية، وتحيط بالصدوع العملاقة.

ومع تجدد صعود الطفوح البركانية عبر هذه الصدوع العملاقة المكونة للوادي الخسيف في وسط سلسلة الجبال البحرية، يتجدد قاع المحيط بأحزمة حديثة من الصخور البازلتية المتوازية على جانبي الوادي الخسيف، ويهبط كل نصف من نصفي قاع المحيط تحت القارة المقابلة له بنصف معدل اتساع قاعه عند وسطه، وبذلك تكون أحدث صخور قاع المحيط حول محوره الوسطي، وأقدمها عند هبوط قاع المحيط تحت كتل القارتين المحيطتين به.

رسم يوضح تصدُّع قيعان المحيطات بشبكة متصلة من الصدوع وتكوُّن سلاسل جبال أواسط تلك المحيطات

وهذه الحركة لألواح الغلاف الصخري للأرض كانت سببًا في زحف القارات، وتجمعها، وتفتتها بصورة دورية، فيما يعرف باسم “دورة القارات والمحيطات”، وفيها قد تنقسم قارة ببحر طولي ـ مثل البحر الأحمر ـ إلى كتلتين أرضيتين تتباعدان عن بعضهما البعض باتساع قاع البحر الفاصل بينهما حتى يتحول إلى محيط، كما قد يستهلك قاع محيط بالكامل تحت إحدى القارات بدفع كتلة أرضية له تحت تلك القارة حتى يصطدما مكونين أعلى سلاسل جبلية على سطح الأرض، كما حدث في اصطدام الهند بالقارة الآسيوية، وتكون سلسلة جبال الهيمالايا.

صورة للبحر الأحمر الذي يقسم القارة إلى كتلتين أرضيتين تتباعدان بفعل اتساعه

وهذه الصدوع العملاقة ـ المكونة للأودية الخسيفة ـ التي تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 و 150كم، وبطول يُقدَّر بعشرات الآلاف من الكيلو مترات في كل الاتجاهات، هي مراكز تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة أو مصطدمة أو منزلقة عبر بعضها البعض، وهذه الصدوع تعمل كممرات طبيعية للحرارة المختزنة في داخل الأرض، والناتجة عن تحلل العناصر المشعة فيها، ولولا هذه الشبكة من الصدوع لانفجرت الأرض.

وعبر هذه الشبكة المتصلة من الصدوع العملاقة تندفع ملايين الأطنان من الصهارة الصخرية على هيئة طفوح بركانية تثري سطح الأرض بالعديد من الصخور والمعادن النافعة، وتجدد شباب التربة الزراعية، وتكون مراكز مهمة لاستغلال الحرارة الأرضية([3]).

رسم تخطيطي يوضح تكوُّن جبال الهيمالايا بتصادم الهند بالقارة الآسيوية عبر ملايين السنين

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما جاءت به الآية الكريمة:

لم يجد المفسرون قديمًا تفسيرًا لقوله تعالى: ) والأرض ذات الصدع (12) ((الطارق) إلا النبات يشق الأرض ويخرج من باطنها؛ ومن هنا يلتقط المشككون طرف الخيط، قائلين: إن معنى: الأرض ذات الصدع لا يتجاوز انشقاق الأرض عن النبات، وليس ثمة علاقة بينه وبين الصدوع العميقة التي اكتشفت في الأرض.

وقبل أن نشرع في تفنيد هذا الزعم ـ وإن كنا قد آتينا على قواعده آنفًا عندما مهدنا لذلك بما أثبته العلم من حقائق في هذا الصدد ـ يجدر بنا أن نمر ولو سريعًا على ما قاله اللغويون والمفسرون بشأن هذه الآية.

المعنى اللغوي للانصداع:

صدع النبات الأرض صدعًا: شقَّها وظهر منها، وتصدَّع: تشقق، ويقال: تصدعت الأرض بالنبات: تشققت. وانصدَع: انشق. والتَّصَدُّع في الجيولوجيا: تكسر الصخور بقوة. والصَّدْع: الشق في الشيء الصُّلب، وفي التنزيل)والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ([4]).

أقوال المفسرين:

في تفسير قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) أشار ابن كثير إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما  بأنه: هو انصداعها عن النبات، وذكر أن كلًّا من ابن جرير وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والسدي ـ قالوا به، كما قال به غيرهم([5]).

وقال صاحب الظلال: “الصدع: النَّبت يشقُّ الأرض وينبثق”([6]).

الدلالة الواسعة لمعنى الصدع في الآية:

ذكرنا سلفًا أن الطاعن يُقْصر معنى الصدع الوارد في الآية على انصداع التربة عن النبات، وهو يستند في ذلك إلى ما فهمه الأولون منها، والإشكالية التي يطرحها هي أنه إما أن يكون المعنى يقتصر على انصداع التربة عن النبات؛ ومن ثم ينتفي ما في الآية من إعجاز، وإما أن يكون المقصود بالصدع هو ما اكتشفه العلماء حديثًا من وجود صدوع في الأرض معظمها في قيعان البحار والمحيطات؛ وعليه يكون المفسرون قد أخطئوا في تفسير الآية.

وفي الواقع إن هذا الإشكال الذي يضعه الطاعن أمامنا، والذي يبدو ـ للوهلة الأولى ـ وكأنه معضلة ـ لا يثبت أمام التمحيص والنقد الدقيقين؛ فلا المفسرون أخطئوا ولا المعنى يقتصر على مجرد انصداع الأرض عن النبات.

فمن ناحية أولى: ـ وإن كُنَّا قد ذكرنا هذا الكلام مرارًا ونحن بصدد الرد على شبهات سابقة ـ إن المفسرين فسَّروا الآية على حسب معارف عصرهم وعلومه، ولو كانوا على علم بما اكتشفه العلماء حديثًا لما ترددوا لحظة في تفسير الآية به، وحتى على فرض خطئهم، فإنه لا مشكلة إذا أخطأ مفسرٌ في تفسير آية؛ لأنه بشر يخطئ ويصيب، والكل يؤخذ من كلامه ويرد، فلا قداسة لمفسر ولا عصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم .

ومن ناحية أخرى: فإن معنى الصدع في الآية لا يقتصر على مجرد انصداع الأرض عن النبات؛ بل يشمل كذلك ما اكتشفه العلماء حديثًا من أن بالقشرة الأرضية صدوعًا طولية وأخرى عرضية، ومعظمها في قيعان البحار والمحيطات، ويصل بعضها إلى وشاح الأرض بعمق 100كم، وهذا لا يعني خطأ ما فهمه المفسرون قديمًا من انشقاق الأرض عن النبات، فهذا تفسير علمي صحيح؛ “لأنك حين تزرع بذرة في الأرض وترويها جيدًا تبدأ البذرة في الإنبات، ويبدأ البرعم في اختراق التربة لينمو ويترعرع كي يصبح نباتًا كامل النضج، به أزهار جميلة، أو فاكهة لذيذة، أو خشب فاخر، ويحدث هذا الاختراق من خلال شقوق صغيرة تنشأ في التربة بسبب الانتفاخ الناتج عن تحللها بالماء واعوجاجها صعودًا حتى تصبح التربة رقيقة وتنشق”([7]).

ولكن لما كانت لفظة الأرض قد جاءت في القرآن بمعنى التربة التي تغطِّي صخور اليابسة، وبمعنى كتل اليابسة التي نحيا عليها، وبمعنى كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لا بُدَّ وأن يكون له دلالة في كل معنى من معاني كلمة الأرض… ومن ثم فإننا نرى في صدوع الأرض أبعادًا ثلاثة: بعدًا لا يتعدَّى بضعة ملِّيمترات أو بضعة سنتيمترات في انصداع التربة عن النبات، وبعدًا آخر في صدوع اليابسة التي تمتد الحركات الأرضية عبر مستوياتها في عشرات السنتيمترات إلى مئات الأمتار، وبعدًا ثالثًا في الصدوع العملاقة التي تنتشر أساسًا في قيعان المحيطات، كما توجد في بعض أجزاء اليابسة على هيئة أغوار سحيقة تترواح أعماقها بين 100كم و150كم، وتقل هذه الأعماق تحت قيعان البحار والمحيطات إلى ما يتراوح بين 65كم و70 كم، ومن هنا كانت روعة الإشارة القرآنية إلى حقيقة: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ([8]).

لولا الصدوع لاستحالت الحياة:

سبحان الذي أقسم بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربع مئة سنة تفخيمًا لظاهرة من أروع ظواهر الأرض وأكثرها إبهارًا للعلماء، وأشدها لزومًا، وجعل الأرض كوكبًا صالحًا للعمران بالحياة، فعبر هذه الصدوع العملاقة خرج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض، ولا يزالان يتجددان، وعبر النشاط الملازم لها تحركت ألواح الغلاف الصخري الأوَّلي للأرض فتكونت الجزر البركانية والقارات والسلاسل الجبلية، وتجددت قيعان المحيطات ولا تزال تتجدَّد، وتزحزحت القارات ولا تزال تتحرك، وتبادلت اليابسة والمحيطات، وثارت البراكين لتخرج قدرًا من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض، والتي كان من الممكن أن تفجرها لو لم تتواجد تلك الصدوع العملاقة، وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية، ونشطت ديناميكية الأرض، وثبتت ألواح غلافها الصخري بالجبال، ولا تزال ديناميكية الأرض تحرك ذلك بأمر الله الخالق عز وجل([9]).

3)  وجه الإعجاز:

يتبين من خلال ما سبق ذكره ومضة الإعجاز العلمي في القسم القرآني بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربع مئة سنة، والعلم الكوني لم يصل إلى كشف تلك الحقيقة إلا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، ولم يكن لأحد في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بتلك الحقيقة الأرضية، أو إدراك لشيء من جوانبها، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لها قبل ألف وأربع مئة من السنين غير الله الخالق عز وجل.

ثانيًا. المفرد في الآية (صدع) مقصود على حقيقته:

1)  الحقائق العلمية:

منذ بداية القرن العشرين بدأ العلماء يلاحظون أن القشرة الأرضية مع الطبقة التي تليها، ليست قطعة واحدة، بل مقسَّمة إلى ألواح، وتفصل بين هذه الألواح شقوق تمتد لآلاف الكيلو مترات، وبدأوا يرسمون الخرائط الخاصة بشبكة الشقوق أو الصدوع التي توضح هذه الألواح، وهذا ما أوضحناه في الوجه الأول مجملًا.

ولكن الشيء المثير للعجب أن العلماء اكتشفوا صدعًا ضخمًا يمتد إلى أكثر من 40 ألف كيلو متر، وأسموه حلقة النار (pacific Ring of fire)،هذه الحلقة موجودة في قاع المحيط الهادي، وتمتد على طول الساحل الغربي لأمريكا مرورًا بألاسكا ثم اليابان والفلبين وأندونيسيا ثم جرز المحيط الهادي الجنوبية الغربية ثم نيوزيلندا([10]).

وهناك فرع من هذا الصدع العظيم يمر بطول البحر الأحمر ليشق خليج العقبة ثم وادي الأردن وحتى شمال سوريا لينتهي في جبال زاجروس.

وهذا الصدع وما يحدث عليه من نشاط هو السبب في العمليات الجيولوجية الداخلية التي تظهر لنا في صورة الزلازل والبراكين والصدوع وتزحزح القارات وبناء المحيطات([11])، ويؤكد العلماء أن 90% من زلازل وبراكين العالم تتركز في هذه الحلقة، وينتج النشاط الزلزالي في هذه الحلقة عن اصطدام الألواح الأرضية بعضها ببعض([12]).

هذه الحلقة تمثل أطول صدع في العالم، وهي من أكثر المناطق خطورة، ويعتبرها العلماء ظاهرة جيولوجية غريبة وفريدة من نوعها على سطح الأرض

2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

لقد استعار الجيولوجيون كلمة صدع ليطلقونه على أحد التراكيب الجيولوجية الشائعة التي تشاهد في الصخور، وذلك بمفهوم أن الصدع هو شق يحدث للشيء فيشقه إلى جزأين يتحركان بالنسبة لبعضهما، وقد فُسر قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) بهذا المعنى، وارتاح الجيولوجيون لهذا التفسير، وظنوا أن المفرد في الآية الكريمة يشمل المفرد والجمع معًا، وهذا صحيح.

ولكن التقدم العلمي أظهر حقيقة مذهلة، وهي أن المفرد في الآية قد يكون المقصود به المفرد فعلًا؛ فهناك صدع واحد بالمفهوم الجيولوجي يَلُّف الأرض كلها ولكنه مغمور في وسط المحيط، وهذا يرد على ما زعمه الطاعن من أن القرآن أخطأ حينما استعمل المفرد “صدع” بدلًا من الجمع “صدوع”؛ بحجة أنها صدوع متعددة وليست صدعًا واحدًا.

وكلام الطاعن صحيح من ناحية، خطأ من أخرى؛ فهو صحيح من ناحية أن الصدوع في الكرة الأرضية متعددة، ولكنه أخطأ حينما خطَّأ القرآن في استعماله لفظة “الصدع” بالمفرد؛ ذاك أن هذه الصدوع مرتبطة ببعضها بعضًا ارتباطًا يجعلها وكأنها صدعٌ واحدٌ، يشبهه العلماء باللحام على كرة التنس؛ ومن ثم فإن الآية فيها إعجاز واضح، فالله يقسم بصدع واحد الذي هو عبارة عن اتصال مجموع الصدوع.

هذه صورة بيانية لامتداد الصدوع على سطح الأرض والتي تشكِّل باتصالها صدعًا واحدًا

إننا إذا تأملنا الصور الواردة من الأقمار الصناعية، وكذلك الصور التي رسمها العلماء نلاحظ أن هذه الأرض ليست كتلة واحدة، إنما مقسمة إلى مجموعة من الألواح وفيها صدع مشترك ومتعرج، يقسم القشرة الأرضية إلى مجموعة من الألواح؛ ولذلك قال تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق).

صورة للكرة الأرضية ويمثل الخط الأحمر جزءًا من شبكة الصدوع الأرضية، وهذا الأمر لم يُكتشف إلا حديثًا، ولكن القرآن قد تحدث عنه قبل أربعة عشر قرنًا

لقد رأى الإنسان أخيرًا هذا الصدع وصوَّر حركته وحركة هذه الألواح وهي تتحرك متباعدة عن بعضها؛ ففي عام 2005م قام بعض العلماء بمراقبة الصدع الذي يفصل اللوح العربي الذي يضم الجزيرة العربية والبحر الأحمر عن اللوح الأفريقي الذي يضم قارة أفريقيا، ووجدوا أن اللوح الأفريقي يبتعد عن اللوح العربي، وأن هنالك مجموعة من الحمم البركانية تتدفق أثناء تباعد هذين اللوحين، وهذه الحمم البركانية تتجمَّد وتشكِّل بعض أنواع الصخور([13]).

والسؤال الآن، ما الهدف من ذكر هذه الحقيقة الجيولوجية في القرآن؟ والجواب نجده في الآية الكريمة:)إنه لقول فصل (13)((الطارق)؛ أي: إنكم أيها الطاعنون المشككون في صدق هذا القرآن، عندما تكتشفون هذا الصدع وتعتبرونه من أهم الظواهر الجيولوجية على سطح الأرض، وتعترفون بأنه لم يكن لأحد علم بهذا الصدع من قبل، وأنه من أسرار الكون الخفية، ثم يأتي كتاب الحقائق ليذكر لكم هذا الصدع في آية عظيمة:) والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ـ عندما تدركون ذلك فلا بُدَّ  أن تدركوا أن الكتاب الذي يذكر هذه الحقائق ليس كلامًا بشريًّا، بل هو قول فصل أنزله الذي يعلم أسرار السماوات والأرض([14]).

3) وجه الإعجاز:

لقد وصف القرآن الكريم الأرض من قبل ألف وأربع مئة سنة بأنها ذات صدع، وهذه حقيقة؛ لأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع العملاقة أو الأودية الخسيفة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض والتي تمتد لعشرات الآلاف من الكيلو مترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة في كل الاتجاهات تتصل ببعضها بعضًا وكأنها صدع واحد.

(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.

[1]. أقطارها أقل من 0.004 من الملِّيمتر.

[2]. من هذه الصدوع ما يتكون نتيجة الشد الصخري للأرض في اتجاهين متعاكسين، ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط فى اتجاهين متقابلين، كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض، وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عددًا من الهزات الأرضية، أما الصدوع القديمة فقد أصبح أغلبها خاملًا بلا حراك.

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق.

[4]. المعجم الوسيط، مادة: صدع.

[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م، ج4، ص498.

[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3880.

[7].) والأرض ذات الصدع (12) ((الطارق)، د. زغلول النجار، مقال منشور بموقع: www.islamonline.net.

[8]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص170: 181.

[9]. المرجع سابق، ص180، 181.

[10]. ) والأرض ذات الصدع ((الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[11]. صدع الأرض بين الإيجاز والإعجاز، د. ممدوح عبد الغفور حسن، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمى في القرآن والسنة www.55a.net.

[12]. )والأرض ذات الصدع( (الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[13].)وفي الأرض آيات للموقنين(20)((الذ اريات): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[14]. )والأرض ذات الصدع( (الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

إنكار الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (ولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغالطين ما في قوله تعالى: ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: ٤١) من إعجاز علمي، ذاهبين إلى أن إنقاص الأرض الوارد في الآية لا علاقة له بما اكتشفه علماء الجيولوجيا من تناقص طول القطر القطبي عن طول القطر الاستوائي نتيجة لعوامل مختلفة، كالتجوية والتعرية.قائلين: إن تفسير إنقاص الأرض ـ في الآية ـ هو: موت العلماء، أو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، أو هو فتح بلاد المشركين وتصييرها ديار إسلام، وهذا ما قاله المفسرون، أما التفسير الجيولوجي فلا يصلح أن تُفسَّر به الآية، وإلا لكانت خطابًا للكفار بما لا يعرفون.

وجه إبطال الشبهة:

ثمة معنيان لإنقاص الأرض من أطرافها، الأول: معنوي، وهو ما قال به المفسرون من خراب الأرض وموت علمائها، والثانى: جيولوجي؛ فقد ثبت علميًّا أن هناك نقصًا مستمرًّا في الأرض من حيث هي تعني: كوكب الأرض، أو اليابسة التي نحيا عليها، أو التربة التي تغطي اليابسة، ولا يجوز أن نقصر تفسير الآية على المعنى الأول دون الثاني كما يريد بعض المغالطين؛ لأنه لا يوجد في الإشارة القرآنية إلى إنقاص الأرض بالمعنى الجيولوجي ما يتعارض مع ما قد ثبت من حقائق العلوم، كما أن إثبات صحة المعنى الثاني ـ الجيولوجي ـ لا يقتضي بالضرورة بطلان الأول ـ المعنوي ـ بل إنهما في الآية يتكاملان من غير  تضاد.

التفصيل:

1)   الحقائق العلمية:

ترد لفظة “الأرض” في القرآن الكريم بمعنى الكوكب ككل ، كما ترد بمعنى اليابسة التي نحيا عليها من كتل القارات والجزر البحرية والمحيطية، وإن كانت ترد أيضًا بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة، ولإنقاص الأرض من أطرافها في إطار كل معنى من تلك المعاني عددٌ من الدلالات العلمية التي منها ما يأتي:

أولا. في إطار دلالة لفظ “الأرض” على الكوكب ككل:

إنقاص الأرض من أطرافها، بمعنى انكماشها على ذاتها وتناقص حجمها باستمرار:

يُقدَّر متوسط قُطر الأرض الحالية بحوالي 12742 كم، ونصف ذلك؛ أي نصف قطر الأرض يساوي 6371 كم، ويقدر متوسط محيطها بنحو 40.042 كم، ويقدر حجمها بأكثر من مليون مليون كم3، وتفيد الدراسات أن أرضنا مرت بمراحل متعددة من التشكيل منذ انفصال مادتها عن سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن عملية الانفجار العظيم، إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عبر سديم الدخان الذي تولدت عنه مجموعتنا الشمسية، وبذلك خلقت الأرض الأولية التي لم تكن سوى كومة ضخمة من الرماد ذات حجم هائل.

ثمما لبثت تلك الكومة أن رجمت بوابل من النيازك الحديدية، وبحكم كثافتها العالية نسبيًّا اندفعت النيازك الحديدية إلى مركز تلك الكومة من الرماد حيث استقرت، مولدة حرارة عالية تعرف باسم حرارة الاستقرار، أدَّت إلى صهر كومة الرماد وإلى تمايزها إلى سبع أرضين على النحو الآتي:

لبُّ صلب داخلي.
نطاق لب الأرض السائل (الخارجي).
النطاق الأسفل من وشاح الأرض (الوشاح السفلي).
النطاق الأوسط من وشاح الأرض (الوشاح الأوسط).
النطاق الأعلى من وشاح الأرض (الوشاح العلوي).
النطاق السفلي منالغلاف الصخري للأرض (ما دون قشرة الأرض).
النطاق العلوي من الغلاف الصخري للأرض (قشرة الأرض).

صورة قطاع في الأرض يوضح بنيتها الداخلية

وأدَّى هذا التمايز في التركيب الداخلي للأرض إلى نشوء دورات من تيارات الحمل، تندفعمن نطاق الضعف الأرضي (الوشاح الأعلى) غالبًا، ومن وشاح الأرض الأوسط أحيانًا، لتمزق الغلاف الصخري للأرض إلى عدد من الألواح التي شرعت في التحرك حركة دائبة حول نطاق الضعف الأرضي، وتنشأ عن حركة ألواح الغلاف الصخرى للأرض دورات من الثورات البركانية، والهزات الأرضية، والحركات البانية للجبال، كما نشأ عنها دحو الأرض؛ بمعنى: إخراج كل من غلافيها المائي والغازي من جوفها، وإخراج الصهارة الصخرية التي تكوِّن كتل القارات.

وتُشير حسابات ذلك الدحو إلى أن حجم الأرض البدائية كان على الأقل يصل إلى مائة ضعف حجم الأرض الحالية، وأن هذا الكوكب قد أخذ منذ اللحظة الأولى لخلقه في الانكماش علىذاته من كافة أطرافه.

وانكماش الأرض على ذاتها سنة كونية لازمة للمحافظة على العلاقة النسبية بين كتلتي الأرض والشمس، هذه العلاقة التي تضبط بُعد الأرض عن الشمس، ذلك البعد الذي يحكم كمية الطاقة الواصلة إلينا.

ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بنحو مئة وخمسين مليونًا من الكيلو مترات، وإذا علمنا أن كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلى كل كوكب من كواكب مجموعتها تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع بُعد الكوكب عن الشمس، وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها، بينما يتناسب طول سنة الكوكب([1]) تناسبًا طرديًّا مع بعده عن الشمس ـ اتَّضحت لنا الحكمة من استمرارية تناقص الأرض وانكماشها على ذاتها؛ أي: تناقصهامن أطرافها.

ولو زادت الطاقة التي تصلنا من الشمس عن القدر الذي يصلنا اليوم قليلًا لأحرقتنا، وأحرقت كل حي على الأرض، ولبخرت الماء، وخلخلت الهواء، ولو قلت قليلًا لتجمدنا وتجمد كل حي غيرنا على الأرض، ولقضي على الحياة الأرضية بالكامل.

ومن الثابت علميًّا أنالشمس تفقد من كتلتها في كل ثانية نحو خمسة ملايين من الأطنان على هيئة طاقة ناتجة من تحول غاز الإيدروجين بالاندماج النووي إلى غاز الهيليوم.

وللمحافظة علىالمسافة الفاصلة بين الأرض والشمس، لا بُدَّ  وأن تفقد الأرض من كتلتها قدرًا متناسبًا تمامًا مع ما تفقده الشمس من كتلتها، ويخرج ذلك عن طريق كل من فوهات البراكين وصدوع الأرض على هيئة الغازات والأبخرة وهباءات متناهية الضآلة من المواد الصلبة التي يعود بعضها إلى الأرض، ويتمكن بعضها الآخر من الإفلات من جاذبية الأرض والانطلاق إلى صفحة السماء الدنيا، وبذلك الفقدان المستمر من كتلة الأرض فإنها تنكمش على ذاتها، وتنقص من كافة أطرافها، وتحتفظ بالمسافة الفاصلة بينها وبين الشمس.

ولولا ذلك الانتقاص من أطراف الأرض لانطلقت من عقال جاذبية الشمس لتضيع في صفحة الكون وتهلكويهلك كل من عليها، أو انجذبت إلى قلب الشمس حيث الحرارة في حدود 15 مليون درجة مئوية؛ فتنصهر وينصهر كل ما بها ومن عليها.

ومن حكمة الله البالغة أن كمية الشهب والنيازك التي تصل الأرض يوميًّا تلعب دورًا مهمًّا في ضبط العلاقة بين كتلتي الأرض والشمس، إذا زادت كمية المادة المنفلتة من عقال جاذبية الأرض عن القدر المقنن لها([2]).

فكوكب الأرض في عملية انكماش مستمرة لأقطاره بسبب التبريد التدريجي بعد أن كان جمرة من نار… وباستمرار التبريد تقلص باطن الأرض فنقص حجمه، وصارت القشرة الجامدة تغطي سطحًا أقل في المساحة من ذي قبل، فتجعدت بارتفاع هنا وانخفاض هناك، تمامًا كما تتجعد قشرة البرتقالة عندما تجف وتنكمش([3]).

إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى: تفلطحها قليلًا عند خط الاستواء:

في القرن السابع عشر الميلادي‏ أثبت نيوتن نقص تكوُّر الأرض، وعلله بأن مادة الأرض لا تتأثر بالجاذبية نحو مركزها فحسب‏, ولكنها تتأثر كذلك بالقوة الطاردة ‏(‏النابذة‏) الناشئة عن دوران الأرض حول محورها‏.

‏وقد نتج عن ذلك انبعاج بطيء في الأرض ولكنه مستمر عند خط الاستواء؛ حيث تزداد القوة الطاردة المركزية حتى تصل إلى ذروتها‏, ‏ وتقل قوة الجاذبية إلى المركز إلى أدني قدر لها‏.

ويقابل ذلك الانبعاج الاستوائي تفلطح‏ ـ انبساط‏ ـ غير متكافئ عند قطبي الأرض حيث تزداد قوتها الجاذبة‏,‏ وتتناقص قيمة القوة الطاردة المركزية‏، والمنطقة القطبية الشمالية أكثر تفلطحًا من المنطقة القطبية الجنوبية‏،‏ ويقدر متوسط قطر الأرض الاستوائي بنحو ‏12756.3‏ كم‏, ونصف قطرها القطبي بنحو ‏12713.6‏ كم، وبذلك يصبح الفارق بين القطرين نحو ‏42.7‏ كم‏, ويمثل هذا التفلطح نحو ‏0.33% من نصف قطر الأرض‏, مما يدل علي أنها عملية بطيئة جدًّا تقدر بنحو ‏1‏سم تقريبًا كل ألف سنة‏,‏ ولكنها عملية مستمرة منذ بدء خلق الأرض‏, وهي إحدي عمليات إنقاص الأرض من أطرافها([4])‏.‏

وهذه حقيقة عليمة مدهشة توصلت إليها البحوث العلمية الأخيرة؛ إذ ثبت أن سرعة دوران الأرض حول محورها وقوة طردها المركزي، يؤديان إلى تفلطح في القطبين وهو نقص في طرفي الأرض.

وكذلك فإن سرعة انطلاق جزيئات الغازات المغلفة للكرة الأرضية، إذا ما جاوزت قوة الجاذبية الأرضية، فإنها تنطلق إلى خارج الكرة الأرضية، وهذا يحدث بصفة مستمرة، فتكون الأرض في نقص مستمر لأطرافها([5])‏.

إنقاص الأرض من أطرافها، بمعنى اندفاع قيعان المحيطات تحت القارات وانصهارها، وذلك بفعل تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض‏:‏

يمزق الغلاف الصخري للأرض بواسطة شبكة هائلة من الصدوع العميقة التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة‏,‏ وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلو مترات في الطول‏,‏ وتتراوح أعماقها بين‏65‏ كم تحت قيعان البحار والمحيطات  و‏120‏كم‏ على اليابسة.

وتقسم هذه الشبكة من الصدوع الغلاف الصخري للأرض إلي ‏12‏ لوحًا رئيسيًّا، وإلى عدد من الألواح الصغيرة نسبيًّا‏,‏ ومع دوران الأرض حول محورها تنزلق ألواح الغلاف الصخري للأرض فوق نطاق الضعف الأرضي متباعدة عن بعضها البعض‏,‏ أو مصطدمة مع بعضها البعض‏,‏ ويعين على هذه الحركة اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات الصدوع، خاصة عبر تلك المستويات التصدعية التي تمزق قيعان البحار والمحيطات والتي تشكل محاور حواف أواسط المحيطات، فتؤدي إلى اتساع قيعان البحار والمحيطات وتجدد صخورها‏ باستمرار,‏ وذلك لأن الصهارة الصخرية المتدفقة بملايين الأطنان عبر مستويات صدوع أواسط المحيطات، تؤدي إلى دفع جانبي قاع المحيط يمنة ويسرة لعدة سنتيمترات في السنة الواحدة‏,‏ وينتج عن ذلك ملء المسافات الناتجة عن هذا التوسع بالطفوحات البركانية المتدفقة، والتي تبرد وتتصلب علي هيئة أشرطة متوازية تتقادم في العمر،‏ في اتجاه حركة التوسع‏, ‏ وينتج عن هذا التوسع اندفاع صخور قاع المحيط يمنة ويسرة‏, ‏ في اتجاهي التوسع ليهبط تحت كتل القارات المحيطة في الجانبين بنفس معدل التوسع (أي: بنصفه في كل اتجاه‏), وتستهلك صخور قاع المحيط الهابطة تحت القارتين المحيطتين، وذلك بالانصهار في نطاق الضعف الأرضي‏.‏

وكما يصطدم قاع المحيط بكتل القارتين أو القارات المحيطة بحوض المحيط أو البحر‏, فإن العملية التصادمية قد تتكرر بين كتل قاع المحيط الواحد، فتتكون الجزر البركانية وينقص قاع المحيط.

‏كذلك يمكن أن تحدث عملية التصدع والتباعد في أواسط القارة، فتؤدي إلى فصلها إلى كتلتين قاريتين ببحر طولي، مثل: البحر الأحمر، ويظل هذا البحر الطولي في الاتساع حتى يتحول إلى محيط في المستقبل البعيد، وفي كل الحالات تستهلك صخور الغلاف الصخري للأرض عند خطوط التصادم‏, ‏ وتتجدد عند خطوط التباعد‏, وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها‏.

‏وتتخذ ألواح الغلاف الصخري للأرض في العادة أشكالًا رباعية يحدُّها من جهة خطوط انفصام وتباعد‏, ‏يقابلها في الجهة الأخرى خطوط التحام وتصادم‏, وفي الجانبين الآخرين حدود انزلاق‏, ‏تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري منزلقة بحرية عن بعضها البعض‏، وتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض يؤدي باستمرار إلى استهلاك صخور قيعان كل محيطات الأرض‏, ‏ وإحلالها بصخور جديدة‏, ‏ وعلى ذلك فإن محاور المحيطات تشغلها صخور بركانية ورسوبية جديدة قد لا يتجاوز عمرها اللحظة الواحدة‏, ‏ بينما تندفع الصخور القديمة‏ ـ ‏ التي قد يتجاوز عمرها المئتي مليون سنة‏ ـ‏ عند حدوث تصادم قاع المحيط مع القارات المحيطة به‏, ‏ والصخور الأقدم عمرًا من ذلك تكون قد هبطت تحت كتل القارات وهضمت في نطاق الضعف الأرضي وتحولت إلى صهارة‏, ‏ وهي صورة رائعة من صور إنقاص الأرض من أطرافها‏.

خريطة للعالم توضح الصدوع في قيعان المحيطات

ويبدو أن هذه العمليات الأرضية المتعددة كانت في بدء خلق الأرض تتم بمعدلات أشد عنفًا من معدلاتها الحالية؛ وذلك لتمتُّع جوف الأرض عند بدء الخلق بدرجات حرارة تفوق درجاتها الحالية، وذلك بسبب الكم الهائل من الحرارة المتبقية عن الأصل الذي انفصلت منه الأرض‏, ‏ والكم الهائل من العناصر المشعة الآخذة في التناقص باستمرار، بتحللها الذاتي منذ بدء تجمد مادة الأرض([6])‏‏.‏

ثانيًا.‏ في إطار دلالة لفظ “الأرض” على اليابسة التي نحيا عليها‏:‏

في هذا الإطار نجد معنيين علميين واضحين نوجزهما فيما يأتي:‏

‏إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني أخذ عوامل التعرية المختلفة من المرتفعات السامقة، وإلقاء نواتج التعرية في المنخفضات من سطح الأرض حتى تتم تسوية سطحها‏:‏

فسطح الأرض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف كثافة الصخور المكونة للغلاف الصخري للأرض‏, ‏ وكما حدث انبعاج في سطح الأرض عند خط الاستواء‏, ‏ فإن هناك نتوءات عديدة في سطحها حيث تتكون قشرتها من صخور خفيفة‏, ‏وذلك من مثل: كتل القارات والمرتفعات البارزة على سطحها‏, وهناك أيضًا انخفاضات مقابلة لتلك النتوءات؛ حيث تتكون قشرة الأرض من صخور عالية الكثافة نسبيًّا، وذلك من مثل: قيعان المحيطات والأحواض المنخفضة على سطح الأرض‏.

‏ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض، وهي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهيمالايا‏ 8840م‏ فوق مستوى سطح البحر‏, ويقدر منسوب أخفض نقطة على اليابسة وهي حوض البحر الميت بحوالي 395‏م تحت مستوى سطح البحر‏, ويبلغ منسوب أكثر أغوار الأرض عمقًا حوالي ‏11020م وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين‏,‏ والمسافة بين أعلى نقطة على سطح الأرض وأخفض نقطة عليها، هو أقل من عشرين كيلو مترًا (19860‏م),‏ وهو فارق ضئيل إذا قورن بنصف قطر الأرض‏ المقدر بحوالي 12742 كم في المتوسط.‏

ويبلغ متوسط ارتفاع سطح الأرض حوالي 840‏م فوق مستوى سطح البحر، بينما يبلغ متوسط أعماق المحيطات حوالي أربعة كيلو مترات تحت مستوى سطح البحر ‏(3729‏ م إلى ‏4500‏ م تحت مستوى سطح البحر‏).

وهذا الفارق البسيط هو الذي أعان عوامل التعرية المختلفة على بري صخور المرتفعات وإلقائها في منخفضات الأرض في محاولة متكررة لتسوية سطحها…‏ فإذا بدأنا بمنطقة مرتفعة ولكنها مستوية يغشاها مناخ رطب‏, ‏ فإن مياه الأمطار سوف تتجمع في منخفضات المنطقة على هيئة عدد من البحيرات والبرك، ‏حتى يتكون للمنطقة نظام صرف مائي جيد‏.

وعندما تجري الأنهار فإنها تنحر مجاريها في صخور المنطقة حتى تقترب من المستوى الأدنى للتحات فتسحب كل مياه البحيرات والبرك التي تمر بها‏,‏ وكلما زاد النحر إلى أسفل تزايدت التضاريس تشكلًا وبروزًا‏,‏ وعندما تصل بعض المجاري المائية إلى المستوى الأدنى للتحات، فإنها تبدأ في النحر الجانبي لمجاريها بدلًا من النحر الرأسي، فيتم بذلك التسوية الكاملة لتضاريس المنطقة على هيئة سهول مستوية‏ (أو سهوب‏)‏ تتعرج فيها الأنهار‏,‏ وتتسع مجاريها‏,‏ وتضعف سرعات جريها‏ وقدراتها على النحر‏,‏ وبعد الوصول إلى هذا المستوى أو الاقتراب منه يتكرر رفع المنطقة وتعود الدورة إلى صورتها الأولى‏.

‏وتعتبر هذه الدورة ـ‏ التي تعرف باسم “دورة التـسهب” (Pene PlanationCycle)‏ صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها‏، وينخفض منسوب قارة أمريكا الشمالية بهذه العملية بمعدل يصل إلى ‏0.03‏ من المليمتر في السنة.

إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني: طغيان مياه البحار والمحيطات على اليابسة‏:‏

من الثابت علميًّا أن الأرض قد بدأت منذ القدم بمحيط غامر‏, ثم بتحرك ألواح الغلاف الصخري الابتدائي للأرض، والثورات البركانية المصاحبة له بدأت جزر بركانية عديدة في التكوُّن في قلب هذا المحيط الغامر‏,‏ وبتكرار تصادم تلك الجزر تكوَّنت القارة الأم، التي تفتَّتت بعد ذلك إلى القارات السبع الحالية.

وتبادل الأدوار بين اليابسة والماء سنة أرضية، تُعرف باسم “دورة التبادل بين المحيطات والقارات”، وبواسطتها تحوَّلت أجزاء من اليابسة إلى بحار أو العكس، ومن نماذجها المعاصرة كل من البحر الأحمر‏,‏ وخليج كاليفورنيا‏,‏ وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها.

ليس هذا فقط، بل إن من الثابت علميًّا أن غالبية الماء العذب على اليابسة محجوز على هيئة تتابعات هائلة من الجليد فوق قطبي الأرض وقمم الجبال‏, ‏ يصل سمكها في القطب الجنوبي إلى أربعة كيلو مترات‏, ويقترب من هذا السمك قليلًا في القطب الشمالي ‏(3800‏ م‏), ‏وانصهار هذا السمك الهائل من الجليد سيؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات لأكثر من مئة متر‏,‏ وقد بدأت بوادر هذا الانصهار‏, ‏ وإذا تم ذلك فإنه سوف يُغرق أغلب مساحات اليابسة ذات التضاريس المنبسطة حول البحار والمحيطات، وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها‏, ‏ وفي ظل التلوث البيئي الذي يعمُّ الأرض اليوم‏, ‏ والذي يؤدي إلى رفع درجة حرارة نطاق المناخ المحيط بالأرض مباشرة ـ بات انصهار هذا السمك الهائل من الجليد أمرًا محتملًا‏([7]).

لقد اكتشف العلماء حديثًا ظاهرة تآكل الأرض من أطرافها، وهذه الصورة التي التقطتها وكالة ناسا يقول العلماء عنها: إنها تمثل دليلًا على نقصان الأرض من أطرافها، فأطراف القارة المتجمدة تذوب وتنحسر ويتناقص حجمها، وعلماء الجيولوجيا يقولون: إن القشرة الأرضية عند نهاياتها أو أطرافها تتآكل أيضًا وتترسب هذه المواد في قاع المحيطات‏([8])

وقد حدث ذلك مرات عديدة في تاريخ الأرض الطويل الذي تردد بين دورات يزحف فيها الجليد من أحد قطبي الأرض أو منهما معًا في اتجاه خط الاستواء‏, وفترات ينصهر فيها الجليد فيؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات، وفي كلتا الحالتين تتعرض حواف القارات للغمر وللتعرية بواسطة مياه البحار والمحيطات فتؤدي إلى إنقاص الأرض (اليابسة)‏ من أطرافها‏.

 وذلك لأن مياه كل من البحار والمحيطات دائمة الحركة بفعل دوران الأرض حول محورها‏,‏ وباختلاف كل من درجات الحرارة والضغط الجوي‏,‏ وتباين نسب الملوحة من منطقة إلى أخرى‏، وتؤدي حركة المياه في البحار والمحيطات‏ من مثل: التيارات المائية‏,‏ وعمليات المد والجزر‏,‏ والأمواج السطحية والعميقة‏‏ إلى ظاهرة التآكل‏ (‏التحات‏)‏ البحري وهو الفعل الهدمي لصخور الشواطئ، وهو من عوامل إنقاص الأرض ‏(‏اليابسة‏)‏ من أطرافها‏([9])‏.‏

صورة لتآكل شواطئ البحار بفعل الأمواج

ثالثًا.‏ في إطار دلالة لفظ الأرض على التربة التي تغطي صخور اليابسة‏:‏

إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني التصحر‏:‏

 أي: زحف الصحراء على المناطق الخضراء، وانحسار التربة الصالحة للزراعة في ظل إفساد الإنسان لبيئة الأرض، وقد بدأ زحف الصحاري على مساحات كبيرة من الأرض الخضراء‏ بسبب ندرة المياه, ‏ ونتيجة لموجات الجفاف وللجور على مخزون المياه تحت سطح الأرض‏, وبسبب الرعي الجائر، واقتلاع الأشجار، وتحويل الأرض الزراعية إلى أرض للبناء، الأمر الذي أدَّى إلى تملح التربة‏, وتعريتها بمعدلات سريعة تفوق بكثير محاولات استصلاح بعض الأراضي الصحراوية‏.

أضف إلى ذلك التلوث البيئي‏, والخلل الاقتصادي في الأسواق المحلية والعالمية‏, ‏ وتذبذب أسعار كل من الطاقة والآلات والمحاصيل الزراعية، الأمر الذي يجعل العالم يواجه أزمة حقيقية تتمثل في انكماش المساحات المزروعة سنويًّا بمعدلات كبيرة، خاصة في المناطق القارية وشبه القارية نتيجة لزحف الصحاري عليها‏, ‏ ويمثل ذلك صورة من صور خراب الأرض بإنقاصها من أطرافها‏‏([10]).‏

رسم يوضح حزام التصحر في قارة أقريقيا

2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

في قوله تعالى: ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: 41) أشار المولى عز وجل  إلى إنقاص الأرض من أطرافها، وهي حقيقة جامعة لم يدركها الإنسان إلا مؤخرًا.

وقد وردت لفظة الأرض في القرآن الكريم بمعنى الكوكب ككل، كما وردت بمعنى اليابسة التي نحيا عليها من كتل القارات والجزر البحرية والمحيطة، وإن كانت ترد أيضًا بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة.

فهل يقتصر معنى إنقاص الأرض من أطرافها على الدلالة المعنوية فقط، أم أنه يشتمل على الحقائق العلمية الحديثة؟ وهل تتطابق هذه الحقائق مع ما أشار إليه القرآن الكريم؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بُدَّ  من التعرف على بعض أقوال المفسرين في الآية، وذكر بعض الدلالات اللغوية للألفاظ الواردة بها:

من أقوال المفسرين:

في تفسير قوله تعالى: )أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها( (الرعد: 41)، ذكر ابن كثير : قول ابن عباس رضي الله عنهما : أو لم يروْا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وفي رواية أخرى قال ابن عباس: إنقاصها من أطرافها هو خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها. كذلك ذكر ابن كثير قول كل من مجاهد وعكرمة: إنقاص الأرض من أطرافها معناه: خرابها، أو هو موت علمائها‏‏([11]).

وذكرصاحبا تفسير الجلالين أن قوله تعالى: )أولم يروا ((الرعد:41)؛ أي: أهل مكة، )أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد:41)نقصد أرضهم، )ننقصها من أطرافها((الرعد:41) بالفتح على النبي صلى الله عليه وسلم ([12]).

وقال صاحب الظلال رحمه الله  “وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية ـ حين تبطر وتكفر وتفسد، فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد ، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه ، ولا بُدَّ له من النفاذ”([13]).

ويوضِّح الشيخ الشعراوي أن تعريف الأرض في الآية: يجعلها مجهولة؛ لأننا حين نرغب في أن نعرف الأرض قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها، وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر([14]).

فالآية لم تحدِّد معنى خاصًّا للإنقاص من أطراف الأرض، كما لم تنف إمكان وقوعه متنوعًا ماديًّا ومعنويًّا، ولكل مفسر للقرآن الكريم أن يجتهد في حدود العلوم والمعارف المتاحة في عصره.

من الدلالات اللغوية للآية الكريمة:

o     يَرَوْا: الرؤية بالعين تتعدَّى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين… وقال ابن سيده: الرؤية: النظر بالعين والقلب([15]).

o     نأتي: الإتيان: المجيء([16]).

o     ننقصها: نقص الشيء نقصًا ونقصانًا: خس وقل، ويقال: نقص عقله أو دينه: ضعف، والشيء: صيَّره ناقصًا([17]). والنقص: الخسران في الحظ، والنقصان يكون مصدرًا ويكون قدر الشيء الذاهب من المنقوص. نقص الشيء ينقص نقصًا ونقصانًا… وأنقصه وانتقصه وتنقصه: أخذ منه قليلًا قليلًا([18]).

o     أطرافها: الأطراف من البدن: اليدان والرجلان والرأس… ومن المجاز: أطراف الأرض: أشرافها وعلماؤها… وقال الأزهري: أطراف الأرض: نواحيها، ونقصها من أطرافها: موت علمائها([19]). وطرف الشيء: جانبه، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرهما([20]).

ومن ثم فإن المعاني العلمية التي ذكرناها آنفًا تعطي بُعدًا علميًّا رائعًا لمعنى إنقاص الأرض من أطرافها، ولا يتعارض ذلك أبدًا مع الدلالة المعنوية للتعبير القرآني عن خراب الأرض الذي استنتجه المفسرون بل يُكمله ويُجليه.

وعلى عادة القرآن الكريم تأتي الإشارة الكونية بمضمون معنوي محدد، ولكن بصياغة علمية معجزة، تبلغ من الشمول والكمال والدقة ما لم يبلغه علم الإنسان.

وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها، وناسب التعبير بصيغة المضارع “ننقصها” التجدد والاستمرار في الفعل نفسه كما أثبت ذلك العلم الحديث، وقد يرى القادمون في قوله تعالى:)أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: ٤١) فوق ما نراه نحن اليوم؛ ليظل القرآن الكريم مهيمنًا على المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، فالقرآن الكريم يخاطب الإنسان في كل زمان ومكان.

3) وجه الإعجاز:

أشارت الآية القرآنية إلى بعض الحقائق التي لا تتعارض مع الدلالة المعنوية للتعبير؛ إذ ثبت أن سرعة دوارن الأرض حول محورها، وقوة طردها المركزي يؤديان إلى تفلطح في القطبين، وهو نقص في طرفي الأرض، وكذلك ثبت أن سرعة انطلاق جزيئات الغازات المغلفة للكرة الأرضية، إذا ما جاوزت قوة جاذبية الأرض لها، فإنها تنطلق إلى خارج الكرة الأرضية، وهذا يحدث بصفة مستمرة فتكون الأرض في نقص مستمر لأطرافها.

وأيضًا فإن زحف التصحُّر على المناطق الخضراء يُعدُّ إنقاصًا للأرض من أطرافها. ومن الإعجاز العلمي في الآية أن الإشارة العلمية الدقيقة إلى حقيقة إنقاص الأرض تشمل كل هذه الأنواع من الإنقاص، كما تدل على استمرارية هذه العملية من خلال التعبير بالفعل المضارع “ننقصها” الدال على التجدد والاستمرار.

(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.

[1]. سنة الكوكب: هي المدة التي يستغرقها في إتمام دورة كاملة حول الشمس.

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص153: 158.

[3]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص452، 453 بتصرف.

[4]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص158، 159.

[5]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص236.

[6]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم،

د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص159: 161 بتصرف.

[7]. المرجع السابق، ص161، 162 بتصرف.

[8]. أطراف الأرض تتآكل، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع:  المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com. منشور بموقع:  المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

منشور بموقع:  المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[9]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص162، 163.

[10]. المرجع السابق، ص164.

[11]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص520 بتصرف.

[12]. تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص254 بتصرف.

[13]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، ص2065.

[14]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج12، ص7403 بتصرف.

[15]. لسان العرب، مادة: رأى.

[16]. لسان العرب، مادة: أتى.

[17]. المعجم الوسيط، مادة: نقص.

[18]. لسان العرب، مادة: تقص.

[19]. تاج العروس، مادة: طرف.

[20]. المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص302.

نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر)

مضمون الشبهة:

ينفي بعض المتوهمين الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم)، ذاهبين إلى أن تفسير الفساد في الآية بالتلوث البيئي والقضاء على كثير من مظاهر الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية بسبب الحضارة الصناعية لم يقل به أحد من المفسرين القدامى، وأن جُلَّ ما قالوه في الفساد لا يعدو: القحط، وقلة المطر، وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات من كل شيء… إلخ. ويتساءلون: كيف يكون تلوث البيئة اكتشافًا علميًّا وإعجازًا قرآنيًّا؟!

وجه إبطال الشبهة:

في قوله تعالى:)ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١) إشارة إلى الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، والذي تعاني منه الأرض وأحياؤها اليوم أشد المعاناة؛ ومن ثم فإن هذه الآية الكريمة من آيات الإعجاز العلمي والغيبي؛ لأنه لم يكن لأحد من الخلق إمكانية تصور الواقع الحالي البئيس للأرض من قبل ألف وأربع مئة من السنين، وهذا لا يتعارض مع التفسير القديم للآية كما توهم الطاعن؛ فكلٌّ ـ سواء المفسرون القدامى أم نحن في عصرنا ـ قد فسَّر الآية بمعطيات عصره.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

خلق الله تعالى كوكب الأرض، ووفَّر فيه كل أسباب الأرزاق وأسباب استمرار الحياة لكل الأحياء، وجعل له غلافًا جَوِّيًّا ضروريًّا، ووفْرة في الماء، وخصوبة في التربة، وظلت البيئة بدون تلوث حتى قامت النهضة الصناعية منذ القرن الماضي، وبدأت مشكلة تلوث البيئة معها.

إن للمدنيَّة الحديثة وجهين؛ وجه الرفاهية والتطور إلى الأفضل، ووجه تلوث البيئة والتغيير إلى الأسوأ، وقد كان الظن أن المدنيَّة الحديثة والتقدم التكنولوجي والصناعي سيحلُّ مشكلات الإنسان ويجلب الرفاهية والسعادة والحياة الأفضل، إلا أن الذي حدث كان عكس ما كان مرجوًّا ومأمولًا؛ فقد تلوَّث الجو وتلوثت البحار والأنهار، الأمر الذي يحمل أخطارًا كبيرة للأحياء على هذه الأرض([1]).

وفى عام 2007م عقد علماء البيئة اجتماعًا في فرنسا (مؤتمر باريس 2 فبراير 2007م)، وخرجوا بثلاث نتائج اتفق عليها أكثر من 500 عالم من مختلف دول العالم:

o   لقد بدأت نسب التلوث تتجاوز حدودًا لم يسبق لها مثيل من قبل في تاريخ البشرية، وهذا يؤدي إلى إفساد البيئة برًّا وبحرًا ؛ ففي البر هنالك فساد في التربة، وفساد في المياه الجوفية وتلوثها، وفساد في النباتات؛ حيث اختلَّ التوازن في حرارة الجو، وفي البحر بدأت الكتل الجليدية بالذوبان بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وبدأت الكائنات البحرية بالتضرر نتيجة ذلك.

إذًا هنالك فساد في البيئة، وهذا ما عبَّر عنه أحد العلماء، وهو الدكتور جفري شانتون ـ أحد علماء البيئة في جامعة فلوريدا ـ بقوله:

Carbon dioxide (co2), has increased in the atmosphere and now threatens to spoil our nest.

زترجمة هذا : “إن غاز الكربون ازداد في الغلاف الجوي بشكل أصبح ينذر بفساد أرضنا”، وانظر كيف يستخدم هذا العالم فعل الإفساد للبيئة!

ويقول العلماء: إن درجة حرارة الأرض سترتفع ثلاث درجات خلال هذا القرن إن لم تُتخذ الإجراءات المناسبة، يتضح هذا من خلال المخطط الآتي:

والمخطَّط السابق يبيِّن أن معدل درجة الحرارة ارتفع درجة خلال المائة سنة الماضية، وهذا الارتفاع سوف يؤدي إلى كثير من الكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير وازدياد التصحُّر والأمطار الحامضية وغير ذلك.

o اتفق هؤلاء العلماء على أن الإنسان هو المسئول عن هذا الإفساد البيئي، وذلك بسبب إفراطه وعدم مراعاته للتوازن البيئي الطبيعي؛ فالحروب والتلوث والإفراط في استخدام التكنولوجيا، دون مراعاة البيئة وقوانينها، كلُّ ذلك أدَّى إلى تسارع في زيادة نسبة الكربون في الجو؛ حيث تضاعفت نسبته أكثر من عشرة أضعاف منذ بداية الثورة الصناعية (أي منذ 300 سنة).

توجد ظاهرة تُسمَّى “الاحتباس الحراري”، فالغازات الناتجة عن المصانع والسيارات تُحبس داخل الغلاف الجوي فترفع درجة حرارته وتلوث الجو والبر والبحر، وتؤدي إلى ازدياد نسبة الكربون، وقد أكَّد العلماء أن الناس هم الذين سببوا هذا الإفساد في البيئة وأخلُّوا بالتوازن الطبيعي لها

o وجَّه العلماء في نهاية اجتماعهم نداءً عاجلًا وإنذارًا لجميع دول العالم أن يتخذوا الإجراءات السريعة والمناسبة للحدِّ من التلوث لتلافي الأخطار الناتجة عن التلوث الكبير في الجو والبحر واليابسة([2]).

ظهور الفساد في البر:

أفادت دراسة علمية بأن التغيرات المناخية قد تؤدي إلى انقراض ملايين الكائنات الحية بحلول عام 2050م، وأوضح معدُّو الدارسة ـ التي نشرت في دورية نيتشر([3])ـ أنه بعد دراسة مطولة لست مناطق في العالم، اتضح أن ربع الكائنات الحية التي تعيش في البر قد تنقرض، وأضافوا أن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليل نسبة الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، قد ينقذ العديد من أنواع الكائنات الحية من الاندثار، وها هي الأمم المتحدة تؤكد أن هذه الظاهرة الخطيرة تهدد ملايين البشر الذين يعتمدون على الطبيعة للبقاء على قيد الحياة.

وفي تقرير يحمل اسم “خطر الانقراض الناجم عن التغيرات المناخية”، نشر العلماء نتائج دراستهم لست مناطق تتميز بالتنوع الأحيائي، وتمثل 20 بالمئة من مساحة اليابسة على كوكب الأرض، واستخدمت الدراسة نماذج إلكترونية لمحاكاة رد فعل 1103 أنواع من الكائنات الحية بما فيها الثدييات والنباتات والطيور والزواحف والضفادع والفراشات، إزاء أي تغير في درجات الحرارة ومناخ الأراضي التي تعيش بها، ووضع العلماء ثلاثة احتمالات لتغير مناخ الأرض، وهي أقل تغير ممكن.

وتم إعداد هذه الاحتمالات على أساس بيانات مستقاة من اللجنة الحكومية البريطانية للتغيرات المناخية، كما اشتملت الدراسة على تقييم ما إذا كانت تلك الحيوانات والنباتات ستكون قادرة على الانتقال إلى مناطق جديدة أم لا.

ويؤكد فريق العمل الذي شارك في الدراسة أن ما بين 15و 37 من كافة الكائنات الحية التي تعيش في المناطق التي شملتها الدراسة قد تتعرض للانقراض بسبب التغيرات المناخية على مدار الأعوام القادمة وحتى سنة 2050م.

ويقول الأستاذ “كريس توماس” (ا) ـ من جامعة ليدز الإنجليزية والذي يترأَّس فريق البحث ـ: “إذا تم تعميم هذه الاستنتاجات في جميع أنحاء العالم وعلى أنواع أخرى من الحيوانات والنباتات البرية، فإننا نُرجِّح أن ملايين أنواع الكائنات الحية قد تتعرض لخطر الانقراض، فبعض الأنواع ستحرم من البيئة المناخية المواتية لمعيشتها، كما لن تتمكن بعض الأنواع الأخرى من الهجرة إلى مواقع ذات بيئة ملائمة”.

إن كثيرًا من الآثار الخطيرة للتغيرات المناخية سوف تؤدي إلى التفاعل بين التهديدات المختلفة وليس تغير المناخ نفسه، وهذا الأمر لم يتوقعه العلماء، لكنهم أوضحوا أن هناك بعض المؤشرات على أن الأمور لن تتدهور بدرجة كبيرة؛ حيث أكدوا أنه في حالة حدوث أقل تغير مناخي حتى عام 2050م، وهو ما اعتبروه أمرًا حتميًّا، فإن ذلك يعني أن 18 بالمئة من أنواع الكائنات الحية المتضررة ستندثر، أما في حالة حدوث تغير مناخي متوسط المستوى فإن معدل الانقراض سيصل إلى 24 بالمئة، بينما سيبلغ معدل الانقراض 35 بالمئة إذا وقع أقصى تغير مناخي يمكن أن تتعرض له الأرض خلال الأعوام القادمة.

وقال “جون لانشبيري”(2) ـ من الجمعية البريطانية الملكية لحماية الطيور، الذي درس علوم التغير المناخي وأنماطه لسنوات ـ : “يبدو الأمر كما لو أننا ليس بوسعنا اتخاذ أي إجراء لتفادي انقراض بعض الأنواع، يجب علينا دائمًا محاولة الالتزام بأقل سيناريوهات الدراسة ضررًا”.

ويقول الدكتور “كلاوس توبفير”(3) ـ رئيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة ـ : “إذا انقرض مليون نوع من الكائنات، فإن الضرر لن يقع فقط على مملكة النبات أو الحيوان أو الشكل الجميل للأرض، بل المليارات من البشر، وخاصة سكان الدول النامية؛ لأنهم يعتمدون على الطبيعة التي توفر لهم حاجاتهم الأساسية من غذاء وأدوية ومأوى”.

ظهور الفساد في البحر:

يؤكد العلماء أن كمية غاز ثاني أكسيد الكربون التي تمتصها المحيطات في العالم قد قلَّت، وأخذ باحثون من جامعة إيست أنجليا أكثر من 90 ألف قياس، بفضل سفن تجارية مزودة بأجهزة إلكترونية لتحديد كمية ثاني أكسيد الكربون التي امتصتها المحيطات، وأظهرت نتائج الدراسة التي أنجزها فريق البحث على مدى عشر سنوات في شمال المحيط الأطلسي أن كمية ثاني أكسيد الكربون التي امتصها المحيط قلت بنسبة النصف ما بين أواسط التسعينيات من القرن الماضي وحتى عام 2005م، ويعتقد العلماء أن ارتفاع درجة حرارة الأرض يزداد سوءًا في حال امتصاص المحيطات كميات أقل من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

وقال الباحثون: إن نتائج أبحاثهم التي نُشرت في مجلة جيوفيزكال ريسرتش العلمية كانت مفاجئة ومقلقة في الوقت ذاته؛ فقد كانت هناك أسباب تدعو للاعتقاد أن عامل الزمن من شأنه جعل المحيطات مُشبعة بالانبعاثات الغازية، ويعتقد العلماء أن الاحتباس الحراري يزداد سوءًا في حال امتصاص المحيطات كميات أقل من الغازات.

ويقول “روجر هاربين” ـ محلِّل بي بي سي لشئون البيئة ـ : “الباحثون لا يعرفون ما إن كان التغيُّر الحاصل ناتج عن التغير المناخي أو يُعزى إلى تغيرات أخرى تحدث في الطبيعة، غير أن الباحثين يقولون: إن نتائج أبحاثهم تمثل مفاجأة كبرى ومصدر قلق لهم بسبب وجود ما يدعو إلى الاعتقاد أنه مع مرور الوقت، فإن المحيط قد يصبح مشبعًا بانبعاثاتنا؛ أي إنه غير قادر على امتصاص كميات إضافية، وأن هذا الوضع سيجعل الانبعاثات التي نتسبب فيها ترفع درجة حرارة الجو، ولا يبقى من غازات ثاني أكسيد الكربون المنبعثة إلى الجو سوى نصف الكمية، بينما يتحول النصف الآخر إلى ترسبات فحمية”.

وتنبأ فريق من الباحثين البريطانيين والفنلنديين بأن منسوب مياه البحر قد يرتفع مع نهاية القرن الحالي بمعدل يصل إلى متر ونصف المتر مقارنة بالوضع الراهن، ويتجاوز الرقم الجديد بشكل كبير المستوى الذي كانت اللجنة الدولية لتغير المناخ (بي بي سي) قد تنبأت بالوصول إليه في إطار التقييم الذي كانت قد أجرته العام الماضي وشكَّل علامة فارقة في مجال دراسة علم المناخ؛ حيث رأت أن الارتفاع سيكون عام 2100م بين 28 و 43 سم فقط.

وتقول الدكتورة “سفيتلانا جيفريجيفا” ـ من مختبر براودمان لعلوم المحيطات ببريطانيا، وهي أحد أعضاء فريق البحث ـ : “إن المعدل العالمي لمستوى مياه البحر العالمي كان مستقرًّا للغاية على مر ألفي سنة مضت؛ إذ إنه تغيَّر بحدود 20 سم فقط خلال تلك الفترة، إلا أنه مع نهاية القرن الحالي، فإننا نتوقع أن يرتفع منسوب مياه البحر بمعدل يتراوح بين 0.8 و 1.5م؛ فإن الزيادة السريعة في ارتفاع منسوب مياه البحر خلال السنوات المقبلة مرتبطة بسرعة ذوبان الطبقات الجليدية”.

فوفقًا للدراسة الجديدة التي أعدَّها فريق الباحثين المشترك، سيكون لمثل هذا الارتفاع إلى هذا الحد في مستوى مياه البحر آثار جوهرية على البلدان التي تضم أراضٍ منخفضة مثل بنجلاديش.

ويقول الخبير “سايمون هولجيت” ـ خبير من مختبر براودمان لعلوم المحيطات، الواقع قرب مدينة ليفربول البريطانية: إن هنالك القليل من الأدلة الملموسة التي تشير إلى تغير في مستويات مياه البحر على مدى آلاف السنين قبل فترة الثلاث مئة سنة الماضية، هنالك بعض الأدلة الأثرية المحدودة التي تعتمد على ارتفاع أحواض الأسماك التي كان يستخدمها الرومان، وربما شكَّلت الدليل الأقوى على أنه لم يكن هنالك تغير كبير في منسوب مياه البحر على مر السنوات الـ 2000 الماضية.

إن الارتفاع المسجل حاليًّا في منسوب مياه البحر، والذي يصل إلى حوالي ثلاثة سنتمترات في العام الواحد، يُعتبر كبيرًا جدًّا، وإن العديد من العلماء العاملين في هذا الميدان يتوقعون أن يشهدوا تسارعًا أكبر في ارتفاع مستوى مياه البحر في المستقبل.

ولقد استخدم الباحث الألماني “ستيفان راهمستورف” (عام 2007م) طريقة مختلفة لقياس ارتفاع مستوى مياه البحر، لكنه توصَّل إلى نتيجة مشابهة لتلك التي توصل إليها فريق الدكتورة “جيفريجيفا”؛ إذ توقع ارتفاعًا في منسوب مياه البحر يتراوح ما بين 0.5 و 1.4 م في عام 2100.

وتشير آخر المعلومات التي تم الحصول عليها عن طريق القمر الصناعي إلى أن طبقات الجليد في جرينلاند ومناطق غربي القطب الجنوبي بدأت بالفعل تفقد جزءًا من كتلتها بفعل ذوبان الجليد، على الرغم من أن الطبقات الجليدية في شرقي القارة القطبية الجنوبية قد تكون آخذة بدورها في الازدياد.

ظهور الفساد في عالم النبات والحيوان والطيور:

جاء في دراسة علمية جديدة أن ظاهرة التغير المناخي تسببت في تغييرات بارزة في النبات والحيوان، وجاء في دراسات أخرى أن ارتفاع الحرارة بمعدل ستة بالعشرة من الدرجة المئوية في القرن العشرين أدَّى إلى بدء موسم النمو في أوربا وأمريكا الشمالية أبكر من موعده السابق.

وتقول الدكتورة “نكي نيلسون”: “إن ارتفاع درجة الحرارة بدرجة مئوية واحدة قد يؤدي إلى انقراض الحيوانات التي تعرف بالتوتورا، وهي خليفة الديناصور المنقرض، فدرجة مئوية واحدة تحدث تغييرًا في الأجواء التي تنمو فيها أجنة الذكور أو الإناث”.

كما تبين أن البعوض الذي يحمل الأمراض في الأراضي المرتفعة في آسيا وشرق أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية ـ أصبح بإمكانه العيش على ارتفاعات أكثر من ذي قبل، ويقول العلماء الذين قاموا بتلك الدراسة: إن ارتفاع درجات الحرارة يعني أيضًا أن هناك بعض العيِّنات من النبات والحيوان سيكون مصيرها الفناء، وقد توقع بعض الخبراء أن ترتفع درجة الحرارة بشكل كبير خلال السنوات الخمس المقبلة.

وتأكيدًا لذلك توصلت دراسة عالمية أُجريت مؤخرًا إلى نتيجة مفادها أن تغيُّرات المناخ تزيد إلى حد كبير حجمَ المخاطر التي تواجهها الطيور في أرجاء العالم المختلفة الأمر الذي يهدد بانقراضها؛ فقد حذرت مؤسسة القائمة الحمراء للطيور لعام 2008م من أن حالات الجفاف التي تتعرض لها بعض المناطق على المدى البعيد وظروف الطقس القاسية جدًّا تفرض المزيد من الضغط على المواطن الرئيسية للطيور في العالم، وشملت القائمة التي أوردتها الدراسة التخمينية 1226 نوع من الطيور المهددة بالانقراض.

يقول الدكتور “ستيوارت بوتشارت” ـ منسِّق قسم المؤشرات والبحوث في مؤسسة “بيردلايف إنترناشيونال” ـ تعليقًا على نتائج الدراسة: “من العسير جدًّا أن نعزو بدقة بعض التبدلات الخاصة لدى طيور بعينها إلى تبدل المناخ، إلا أن هنالك مجموعة كاملة من أنواع الطيور أصبحت مهددة بالانقراض؛ نتيجة ظروف الطقس القاسية جدًّا والجفاف”.

كما يرى الدكتور “بوتشارت” أن القضاء على الكائنات التي تغزو مناطق الطيور تلك أو ضبطها هو إجراء فعال جدًّا للحفاظ عليها وهو قابل للتطبيق؛ إذ إنه يساعد الطيور على الصمود في وجه الضغوط الإضافية المترتبة على تغير المناخ.

ويؤكد الدكتور “بوتشارت” أن المناطق الحرارية تتغير وتتحول بسبب تغير المناخ، فقد بدأت المناطق المرتفعة تشهد درجات حرارة مرتفعة أيضًا، وبالتالي أصبح بإمكان البعوض الانتقال إلى تلك المناطق المرتفعة، إن مثل هذا الأمر يلتهم المناطق الخالية من البعوض التي اعتادت الطيور أن تشغلها، ورغم ما أظهرته الدراسة الأخيرة من تواصل في انخفاض أعداد الطيور في العالم، إلا أن المعنيين بالحفاظ عليها لايزالون متفائلين بإمكانية إنقاذ العديد من أنواع الطيور المهددة بالانقراض.

العلماء يطلقون صيحات الاستغاثة:

وفي آخر تحذير أطلقه العلماء لعلاج هذه الظاهرة أكدوا من خلال الدراسات أن العالم بحاجة لاستثمار 45 تريليون دولار في مصادر الطاقة خلال العقود المقبلة، بالإضافة إلى بناء 1400 مفاعل نووي، وتوسيع العمل بالطواحين الهوائية من أجل تقليص انبعاث الغازات الدفيئة إلى النصف بحلول العام 2050م، والتقرير الذي صدر عن وكالة الطاقة الدولية ـ التي تتخذ من باريس مقرًّا لها ـ  يتصوَّر ثورةً للطاقة من شأنها أن تخفض وبشكل كبير اعتماد العالم على الوقود المستخرج من الأرض، وفي الوقت نفسه الحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي بثبات([4]).

ويمكن إجمال الإفساد المادي في الأرض في ثلاثة أنواع:

التلوث الكيميائي للبيئة.
الإفساد في الأرض بالتلوث الحراري.
الإفساد في الأرض بالتلوث الإشعاعي([5]).

2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

فيقوله تعالى:  )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١)أشار الله تعالى إلى الإفساد المادي في بيئات الأرض الثلاث: التربة والماء والهواء، وذلك لأن لفظة (البر) تشمل كلًّا من اليابسة وما يحيط بها من غلاف غازي، وكذلك لفظة (البحر) تشمل كلًّا من القاع المنخفض والماء الذي يمتلئ به وما يحيط بهما من غلاف غازي، وهذه البيئات الثلاث وما بكلٍّ منها من مختلف صور الأحياء والجمادات تشكِّل حلقات مترابطة يتأثر بعضها ببعض، وأي إخلال بنظام إحداها يؤثر سلبًا على النظم الأخرى.

وقد بدأت مشكلة تلوث البيئة في التفاقم مع بداية الثورة الصناعية في أوربا الغربية، والتي كانت أولى خطواتها مع اختراع الآلة البخارية؛ فقد أدَّى سوء استخدام الوقود الأحفوري (من أمثال الفحم الحجري والنفط والغازات الطبيعية) في آلات الاحتراق الداخلي ومحركات الدفع والمصانع المختلفة إلى زيادة نسبة عدد من الغازات السامة التي من أخطرها أكاسيد كل من الكربون والكبريت والنيتروجين والرصاص والهيدروكربونات غير كاملة الاحتراق التي تطلق كلها في الغلاف الغازي للأرض.

وهذا الاعتداء على البيئة وما فيها من أحياء هو من معاني الإفساد في الأرض؛ لأنه إفساد مادي ملموس يحدثه الإنسان بسوء سلوكياته وتصرفاته في مختلف بيئات الأرض، وقد أحكم الله خلقها، وضبط علاقاتها ببعضها كمًّا وكيفًا بإحكام واتزان بالغين لا يُخلُّه إلا إفساد الإنسان، وذلك لأن الله تعالى خلق كل شيء بقدر؛ أي بمكونات ومقادير محددة ومتوازنة وبصفات وخصائص معينة تكفل لكل بيئة الملاءمة الكاملة لأنواع الحياة التي خلقت لها في توافق واعتدال لا يفسده إلا تدخل الإنسان بطمعه وجشعه وإسرافه، أو بجهله وتخلفه وتسيبه، أو بسوء نواياه وخبث مقاصده؛ وهو ما يفسد مكونات النظم البيئية الدقيقة كمًّا وكيفًا ويخرجها عن سويتها التي خلقها الله تعالى بها، ويجعلها غير موائمة للأحياء التي تعيش فيها ويصيبها بشيء من الخلل أو الشلل الذي يعطلها عن أداء وظيفتها ويفقدها  صلاحيتها ونفعها([6]).

ومن ثم فالآية لا تقتصر على ما ذكره المفسرون من أن الفساد في الآية يعني القحط وقلة المطر وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء ـ كما ذهب الطاعنون ـ ولكنها تنطبق أيضًا على أنواع الفساد الأخرى التي ظهرت في عصرنا؛ وعليه فالآية الكريمة من آيات الإعجاز العلمي والغيبي في كتاب الله؛ لأنه لم يكن لأحد من الخلق إمكانية تصور الواقع الحالي البيئي للأرض من قبل ألف وأربع مئة من السنين.

الدلالات اللغوية للآية:

o   ظهر: ظهر الشيء ظهورًا: تبيَّن وبرز بعد الخفاء([7]).

o   الفساد: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، قليلًا كان الخروج عنه أو كثيرًا، ويضادُّه الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة([8])، والفساد: التلف والعطب، والاضطراب والخلل، والجدب والقحط([9]).

o   البر:ما انبسط من سطح الأرض ولم يغطِّه الماءُ([10]).

o   البحر:الماء الواسع الكثير، ويغلب في الملح([11]).

من أقوال المفسرين في الآية:

يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١): إن الفساد المقصود هو سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودلَّ قوله )في البر والبحر((الروم: ٤١) على أنه سوء الأحوال فيما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها.

ثم إن التعريف في كلمة “الفساد”: إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برها وبحرها، وأنه فساد في أحوال البر والبحر لا في أعمال الناس بدليل قوله:  )ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم)، وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزروع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.

وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان (فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب)، وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس…

ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالًا سيئة مفسدة… فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم، وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيًا.

ومحمل صيغة فعل “ظهر” على حقيقتها من المضي، يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مُشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة، وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به، فكأنه قد وقع على طريقة: )أتى أمر الله((النحل: ١).

 وأيًّا ما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله، كما دلَّ عليه قوله: )ليذيقهم بعض الذي عملوا((الروم: ٤١)، وأن الله يقدر أسبابه تقديرًا خاصًّا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.

وهذا هو المراد بما كسبت أيديهم؛ لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية([12]).

ويقول الشيخ الشعراوي في تفسير قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١): ظهر: بان ووضح، والظهور: أن يبين شيءٌ موجود بالفعل لكنا لا نراه، وما دام الحق عز وجل قال: ) ظهر الفساد ((الروم: ٤١)، فلا بُدَّ أن الفساد كان موجودًا، لكن أصحاب الفساد عمُّوه وجنُّوه إلى أن فقس وفرَّخ في المجتمع.

والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره، أتذكرون الزلزال الذي حدث وكشف الفساد والغش والتدليس بين المقاول والمهندس، وكانت المباني قائمة والفساد مستترًا، إما لغفلتنا عنه، أو لتواطئنا معه، أو لعدم اهتمامنا بالأشياء، إلى أن طمَّت المسائل، ففضح الله الأرض بالزلزال، ليكشف ما عندنا من فساد.

فإذا ازداد الغش وانتشر، وفاق الاحتمال لا بُدَّ أن يظهره الله للناس، فلم يَعُد أحد قادر ًا على أن يقف في وجه الفساد أو يمنعه؛ لذلك يتدخل الحق عز وجل، ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم.

وتأتي ظهر بمعنى الغلبة كما في قول الله تعالى: )فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (14)((الصف)، أي غالبين… وبمعنى العلو في قوله تعالى: )فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)( (الكهف).

فالمعنى: )ظهر الفساد((الروم: ٤١)؛ أي: غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعدَّه لاستقبال الإنسان إعدادًا رائعًا، وللتأكد من صدق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فسادًا إلا فيما تتناوله يد الإنسان، أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللًا؛ لأن الله خلقه منسجم التكوين: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).

فهل خلقنا الحق عز وجل وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟ لا، إنما هو ابتلاء الاختيار، حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونًا لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقل فيه (افعل) أو (لا تفعل) فأنت حرٌّ فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أما أنا فقد قلت: افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت: لا تفعل في الذي يحصل ضرر من فعله.

فالفساد يأتي حين تُدخل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإن علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس…

فالحق يقول:  )ظهر الفساد((الروم: ٤١)؛ أي: غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالته يد الإنسان لفسد هو الآخر، كما قال عز وجل:  )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ((المؤمنون: ٧١).

 فظواهر الكون ـ أشياء وقضايا ـ لكل العامة، ومن الحكمة ألا تنالها يد الإنسان؛ لأن الله تعالى يريد للكون البقاء، ولم يأت أوان انتهائه، لذلك يجعل الحق عز وجل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين، إلى أن يصل إلى درجة التشبُّع، فتتفجر الأوضاع…

وما دام الحق عز وجل قال:)بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١)، فلا بُدَّ أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلًا؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبت أيدي الناس، أما حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان نجد الهواء نقيًّا كما خلقه الله.

وقوله تعالى: ) ليذيقهم بعض الذي عملوا((الروم: ٤١)، الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب ولدك وتضربه حرصًا عليه… وحين يذيق الله الإنسان بعض ما قدَّمت يداه يوقظه من غفلته، وينبِّه فيه الفطرة الإيمانية، فيحتاط للأمر ولا يهمل ولا يقصر، وتظل عنده هذه اليقظة الإيمانية بمقدار وعْيه الإيماني…

وقوله:  ) لعلهم يرجعون (41)( (الروم)؛ لأن الكلام هنا في الدنيا، وهي ليست دار جزاء؛ فالحق يذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه عز وجل، ويعودوا إلى حظيرة الإيمان تائبين؛ لأنهم عبيده، وهو سبحانه وتعالى  أرحم بهم من الوالدة بولدها([13]).

وبهذا يتضح أن القرآن الكريم قد تحدث عن النتائج الثلاث التي توصل إليها العلماء ونادوا بها في العصر الحديث بدقة مذهلة، وذلك في قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)( (الروم)؛ فقد تضمَّنت هذه الآية الكريمة إشارة إلى النتائج الثلاث التي اتفق عليها العلماء اليوم، وهي:

)ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١):اتفق العلماء على أن الفساد في البيئة، وكلمة الفساد تشمل التلوث والتغيرات المناخية وكل شيء جاوز الحدَّ، ومن معاني الفساد (الجدْب)؛ أي: التصحُّر، وهو ما يحدث اليوم على الأرض حيث يؤكد العلماء أن المساحة الخضراء تتقلص بفعل البشر وسوف تزداد الأراضي الجافة والمتصحرة في الأعوام القادمة بسبب زيادة التلوث، ويؤكدون أيضًا أن الفساد البيئي يشمل البرَّ والبحر، تمامًا كما جاء في الآية الكريمة.
)بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١): يؤكد العلماء أن التلوث والفساد البيئي في البر والبحر إنما نتج عن الإنسان؛ فالناس هم المسئولون عن هذا التغير البيئي الخطير، تمامًا كما حدثنا القرآن قبل ألف وأربع مئة سنة.
)ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم): تتضمن هذه الآية تحذيرًا للناس كي يرجعوا إلى الإصلاح في الأرض وتدارك هذا الفساد البيئي الذي نتج عن تجاوزهم الحدود التي خلق الله الأرض عليها، وأن يعيدوا للغلاف الجوي توازنه ويقللوا من كمية الملوثات التي يطلقونها كل يوم والتي تقدر بملايين الأطنان! هذا التحذير هو نفسه الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة منذ مدة!

إذًا الآية الكريمة تحدثت عن ظهور الفساد الذي يشمل البر والبحر، وقد عبَّر القرآن عن ذلك بكلمة (ظَهَرَ) بالماضي؛ لأن القرآن لا ينطق إلا بالحق، فالمستقبل بالنسبة لله تعالى هو حقيقة واقعة لا مفر منها، وكأنها وقعت في الماضي وانتهى الأمر؛ ولذلك جاء التعبير عن هذه الحقيقة العلمية بالفعل الماضي، كذلك تحدثت الآية الكريمة عن المسئول عن هذا الفساد البيئي وحدَّدت الفاعل وهو الإنسان، وتحدثت عن إمكانية الرجوع إلى العقل والمنطق وإلى العمل على إعادة التوازن للأرض([14]).

3) وجه الإعجاز:

تنبَّأ القرآن الكريم بظهور الفساد الذي يُصيب البر والبحر، كما حدد المسئول عن هذا الفساد، وهو الإنسان، فتغيُّر المناخ ناتج عن تلوث البيئة بتدخل الإنسان واعتدائه الدائم عليها ماديًّا ومعنويًّا؛ مما يؤدي إلى ظهور الفساد في تلك البيئة برًّا وبحرًا، وإلى هذا أشار قوله تعالى:)ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)( (الروم).

(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.

[1]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص93.

[2]. الفساد البيئي، معجزة قرآنية، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[3]. نيتشر: هي دورية علمية أسبوعية بريطانية تصدر بالإنجليزية وتعتبر من أبرز الدوريات العلمية في العالم، والتي نشرت لأول مرة في 4 نوفمبر 1869م، من أهم اختصاصات هذه المجلة مجالي الفيزياء والأحياء.

[4]. التغير المناخي إنذار من الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[5]. للمزيد انظر: من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص432: 439.

[6]. المرجع السابق، ص432، 433.

[7]. المعجم الوسيط، مادة: ظهر.

[8]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص379.

[9]. المعجم الوسيط، مادة: فسد.

[10]. المعجم الوسيط، مادة: برر.

[11]. المعجم الوسيط، مادة: بحر.

[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج21، ص110: 113 بتصرف.

[13]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج18، ص11471: 11478 بتصرف.

[14]. الفساد البيئي: معجزة قرآنية، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل  www.kaheel7.com.

نفي الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد)

مضمون الشبهة:

في قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( (الحديد: ٢٥) يؤكد القرآن أن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض، وعلى غرار ما سبق من مطاعن ينفي المشككون إعجاز القرآن العلمي في هذه الآية، وفي سبيل تعضيد موقفهم نجدهم يطرحون ـ من ناحية أولى ـ التساؤل الآتي: كيف يمكن أن يكون الحديد الذي يكون اللب الداخلي للأرض ويشكل 35% من كتلتها عنصرا وافدا إليها عن طريق النيازك؟

ومن ناحية ثانية يقولون: إن معنى (الإنزال) في الآية هو: الخلق والإيجاد، يؤيد هذا ما قاله المفسرون، كما يؤيده القرآن في قوله: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: ٦)، وقوله: )يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا( (الأعراف: ٢٦)، فكلمة (أنزلنا) هنا ـ مثلها كمثل آية الحديد ـ تعني: خلقنا أو جعلنا، ولا يمكن أن يكون المقصود هو هبوط الأنعام واللباس علينا من السماء، مثلما هبط الحديد كما يدعي الإعجازيون.

وجها إبطال الشبهة:

1)  يقدر القرآن في قوله تعالى:وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد((الحديد: ٢٥)أن معدن الحديد تم إنزاله من السماء ولم يكن موجودا في الأرض، وهذا يتطابق مع ما توصل إليه العلماء حديثا، فهم يقولون: إن انفجارات النجوم العملاقة ساعدت على تشكل الحديد الذي تم قذفه على شكل نيازك اصطدمت بالأرض واستقرت في باطنها، ولا حجة لمن يقول: إنه من غير المعقول أن يكون الحديد الذي يكون باطن الأرض ويشكل 35% من كتلتها عنصرا وافدا، ذاك أن الأرض عند انفصالها عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد، ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية التي تحركت بحكم كثافتها الأعلى من كثافة الأرض الابتدائية إلى مركزها.

2)  إن سياق آية الحديد يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء ـ إنزال الكتاب والميزان ـ وجاءت (وأنزلنا الحديد) معطوفة على ما قبلها لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال. أما آية الزمر التي يحتج بها الطاعن ـ ومثلها في ذلك آية الأعراف ـ فإن سياقها يتحدث عن الخلق؛ إذ جاء الحديث عن خلق الإنسان ثم جاء ذكر الأنعام، ومن ثم فإن الإنزال هنا بمعنى الخلق، فالأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره ما لم توجد قرينة صارفة، وعليه فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق كما يدعي الطاعن، فكان حريا به أن يحكم على الآيات من خلال سياقها.

التفصيل:

أولا. يؤكد العلماء أن الحديد تم إنزاله من السماء:

1)  الحقائق العلمية:

في دراسة لتوزيع العناصر المختلفة في الجزء المدرك من الكون، لوحظ أن غاز الإيدروجين هو أكثر العناصر شيوعا؛ إذ يكون أكثر من 74% من مادة الكون المنظور، ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي 24% من مادة الكون المنظور، وأن هذين الغازين ـ وهما يمثلان أخف العناصر وأبسطها بناء ـ يكونان معا أكثر من 98% من مادة الجزء المدرك من الكون، بينما باقي العناصر المعروفة لنا وهي أكثر من مائة عنصر مجتمعة تكون أقل من 2% من مادة الكون المنظور.

وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج المنطقي أن أنوية غاز الإيدروجين هي لبنات بناء جميع العناصر المعروفة لنا، والتي تخلقت باندماج أنوية هذا الغاز البسيط مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم: عملية الاندماج النووي، تنطلق منها كميات هائلة من الطاقة التي تعرف باسم: طاقة النجوم، وتتم عملية الاندماج النووي في داخل نجوم السماء الدنيا بتسلسل من أخف العناصر إلى أعلاها وزنا ذريا وتعقيدا في البناء حتى يتحول قلب النجم إلى الحديد، فينفجر النجم وتتناثر أشلاؤه في صفحة السماء لتصطاد عددا من اللبنات الأولية للمادة مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري، أو تهبط إلى أحد الكواكب أو النجوم التي تحتاج في تواجدها إلى الحديد.

فشمسنا تتكون أساسا من غاز الإيدروجين الذي تندمج أنويته مع بعضها البعض لتكون غاز الهيليوم، وتنطلق طاقة هائلة تبلغ عشرة ملايين درجة مئوية، ويتحكم في هذا التفاعل عاملان، هما زيادة نسبة غاز الهيليوم المتخلق بالتدريج، وتمدد الشمس بالارتفاع المطرد في درجة حرارة لبها، وباستمرار هذه العملية تزداد درجة الحرارة في داخل الشمس تدريجيا، وبازديادها ينتقل التفاعل إلى المرحلة التالية التي تندمج فيها نوى ذرات الهيليوم مع بعضها البعض في سلسلة من الاندماجات المتسلسلة حتى تصل إلى إنتاج نوى ذرات الكربون (12)، ثم الأكسجين (16) ثم النيون (20)، وهكذا.

وفي نجم عادي مثل شمسنا التي تقدر درجة حرارة سطحها بحوالي ستة آلاف درجة مئوية، وتزداد درجة الحرارة تدريجيا في اتجاه مركز الشمس حتى تصل إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية، ويقدر علماء الفيزياء الفلكية أنه بتحول نصف كمية الإيدروجين الشمسي تقريبا إلى الهيليوم، فإن درجة الحرارة في لب الشمس ستصل إلى مئة مليون درجة مئوية، مما يدفع بنوى ذرات الهيليوم المختلقة إلى الاندماج في المراحل التالية من عملية الاندماج النووي، مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري مثل الكربون ومطلقة كما أعلى من الطاقة.

ويقدر العلماء أنه عندما تصل درجة حرارة لب الشمس إلى ست مئة مليون درجة مئوية يتحول الكربون إلى صوديوم ثم إلى ماغنسيوم ثم إلى نيون، ثم تنتج عمليات الاندماج النووي الآتية، عناصر الألومنيوم، والسيليكون، والكبريت، والفسفور، والكلور، والأرجون، والبوتاسيوم، والكالسيوم، على التوالي، مع ارتفاع مطرد في درجة الحرارة، حتى تصل إلى ألفي مليون درجة مئوية حين يتحول لب النجم إلى مجموعات التيتانيوم، والفاناديوم، والكروم، والمنجنيز، ومجموعة عناصر الحديد (الحديد والكوبالت والنيكل).

ولما كان تخليق هذه العناصر يحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة جدا لا تتوافر إلا في مراحل خاصة في حياة النجوم العملاقة تعرف باسم: العماليق العظام، وهي مراحل توهج شديد جدا، فإنها لا تتم في كل نجم من نجوم السماء، ولكن في مراحل خاصة من مراحل حياة النجوم العملاقة عند انفجارها تعرف باسم مرحلة المستعرات العظمى، وحين يتحول لب النجم إلى حديد، فإنه يستهلك طاقة النجم بدلا من إضافة مزيد من الطاقة إليه؛ وذلك لأن نواة ذرة الحديد هي أشد نوى العناصر تماسكا، وهنا ينفجر النجم على هيئة ما يسمى باسم: المستعر الأعظم من النمط الأول أو الثاني حسب الكتلة الابتدائية للنجم، وتتناثر أشلاء النجم المنفجر في صفحة السماء لتدخل في نطاق جاذبية أجرام سماوية تحتاج إلى هذا الحديد ،تماما كما تصل النيازك الحديدية إلى أرضنا بملايين الأطنان في كل عام.

فجوة ضخمة (يبلغ قطرها 32 كم تقريبا) تكونت من جراء ارتطام نيزك بأرض ولاية أريزونا

ولما كانت نسبة الحديد في شمسنا لا تتعدى 0٫0037%، وهي أقل بكثير من نسبة الحديد في كل من الأرض وعطارد والزهرة والمريخ، وفي النيازك الحديدية التي تصل إلينا من فسحة الكون، ولما كانت درجة حرارة لب الشمس لم تصل بعد إلى الحد الذي يمكنها من إنتاج السيليكون أو الماغنسيوم، فضلا عن الحديد ـ كان من البديهي استنتاج أن كلا من الشمس والأرض وكواكب المجموعة الشمسية المشتملة على نسب مختلفة من الحديد، قد استمدوا ما بهم من حديد من مصدر خارجي عن مجموعتنا الشمسية في فسحة الكون.

وعلى ذلك فإن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد المكون من العناصر الخفيفة، ثم رجمت هذه الكومة بوابل من النيازك الحديدية التي انطلقت إليها من خارج المجموعة الشمسية، فاستقرت في لبها بفضل كثافتها العالية وسرعتها الكونية الفائقة، فانصهرت بحرارة الاستقرار، وصهرت كومة الرماد ومايزتها إلى سبع أرضين: لب صلب على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل تصل فيها نسبة الحديد إلى 90% والنيكل إلى 9% وبعض العناصر الخفيفة من مثل: الكبريت، والفسفور، والكربون إلى 1%، يليه إلى الخارج لب سائل له نفس التركيب الكيميائي تقريبا، ويكون لبا الأرض: الصلب والسائل معا حوالي 31% من مجموع كتلة الأرض.

ويلي لب الأرض إلى الخارج وشاح الأرض(mante)، المكون من ثلاثة نطق: (أسفل، أوسط، أعلى)، ثم الغلاف الصخري للأرض (lithosphere)، وهو مكون من نطاقين، قشرة الأرض(crust) وما دون القشرة (subcrust)، وتتناقص نسبة الحديد من لب الأرض إلى الخارج باستمرار حتى تصل إلى 5٫6 % في قشرة الأرض .

صورة حقيقية لأحد النيازك التي تصل إلى الأرض سنويا بمعدل مليون إلى 20 مليون طن، ومنها النيازك الحديدية، والحديدية الصخرية، والصخرية

من هنا ساد الاعتقاد بأن الحديد الموجود في الأرض والذي يشكل 35٫9% من كتلتها، لا بد وأنه قد تكون في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل العماليق العظام، والتي انفجرت على هيئة المستعرات العظام فتناثرت أشلاؤها في صفحة الكون، ونزلت إلى الأرض على هيئة وابل من النيازك الحديدية، وبذلك أصبح من الثابت علميا أن كل حديد الأرض قد أنزل إليها إنزالا من السماء، ليس هذا فقط، بل إن الحديد في مجموعتنا الشمسية كلها قد أنزل كذلك إليها من السماء، وهي حقيقة لم يتوصل العلماء إلى فهمها إلا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين([1]).

2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

ينكر الطاعن الإعجاز العلمي في قوله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)( (الحديد) قائلا: يدعي الإعجازيون أن القرآن يقول: إن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض، ويقولون: إن الحديد لم يتكون في المجموعة الشمسية بل جاء إليها من الخارج؛ لأنه لم يكن بها ما يكفي من طاقة لظهور عنصر الحديد.

ويتساءل الطاعن: كيف لا يكون الحديد من العناصر المكونة لكوكب الأرض وهو من أكثر العناصر انتشارا بها، ويشكل حوالي 35% من مجموع كتلتها؟ كما أن اللب الداخلي للأرض يحتوي على الحديد، فكيف يستوي هذا مع عدم ظهوره فيها إلا عن طريق هبوطه بالنيازك؟

 وردا على ذلك نقول: ليس بغريب أن يذكر الطاعن كلاما كهذا؛ فمن الواضح أنه لم يطلع على كثير من الحقائق العلمية التي أثبتها العلماء حديثا بشأن تكون عنصر الحديد، فإلى أواخر الستينيات من القرن العشرين لم يكن أحد من العلماء يتصور ـ ولو من قبيل التخيل ـ أن هذا القدر الهائل من الحديد قد أنزل إلى الأرض من السماء إنزالا حقيقيا، كيف أنزل؟ وكيف تسنى له اختراق الغلاف الصخري للأرض بهذه الكميات المذهلة؟ وكيف أمكنه الاستمرار في التحرك بداخل الأرض حتى وصل إلى لبها؟ وكيف شكل كلا من لب الأرض الصلب ولبها السائل على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل، يحيط بها نطاق منصهر من التركيب نفسه؟ ثم كيف أخذت نسبته في التناقص باستمرار في اتجاه قشرة الأرض الصلبة؟

ولكن في أواخر القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك والفيزياء الفلكية أن الحديد لا يتكون في الجزء المدرك من الكون إلا في مراحل محددة من حياة النجوم العملاقة ـ كما ذكرنا آنفا ـ التي تسمى بالعماليق العظام، والتي بعد أن يتحول لبها بالكامل إلى حديد تنفجر على هيئة المستعرات العظام، وبانفجارها تتناثر مكوناتها بما فيها الحديد من صفحة السماء، فيدخل هذا الحديد ـ بتقدير من الله تعالى ـ في مجال جاذبية أجرام سماوية تحتاج إليه، مثل أرضنا البدائية التي وصلها الحديد الكوني وهي كومة من الرماد، فاندفع إلى قلب تلك الكومة بحكم كثافته العالية وسرعته الكونية المندفع بها، فانصهر بحرارة الاستقرار في قلب الأرض البدائية وصهرها، ومايزها إلى سبع أرضين([2]).

مراحل تحول قلب النجم إلى حديد

ويقول العلماء: إن الأرض تشكلت قبل أربعة بلايين ونصف بليون عام، وكانت النيازك والمذنبات تقصفها بشدة وعنف بحيث كانت الحرارة المنبعثة من هذا القصف ـ فائق السرعة ـ عظيمة لدرجة كافية لإذابة الكوكب بأكمله، ثم بدأت الأرض تبرد بعد ذلك واستمرت تبرد إلى اليوم، وأخذت المواد الأكثر كثافة ـ مثل الحديد ـ والقادمة من تلك النيازك طريقها إلى قلب الأرض ومركزها، بينما صعدت السيليكات الأخف وزنا، وكذلك مركبات الأكسجين الأخرى والماء القادم من المذنبات إلى قرب السطح([3]).

وقد أكد البروفيسور “إرمسترونج” ـ وهو من أكبر علماء وكالة ناسا الفضائية الأمريكية ـ حينما سئل عن كيفية تكون الحديد: “لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، فذرات الحديد ذات صفات مميزة، ولكي تتحد الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد، فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربعة أضعاف الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية! ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون بها”([4]).

وتذكر الموسوعة البريطانية: “إن أصل تكون الأرض عن طريق النمو التراكمي للكويكبات هي فرضية موثقة، والنيازك هي الأمثلة المحتملة للكويكبات التي عاشت في مرحلة ما قبل التكوكب من النظام الشمسي، وهكذا يظهر أن الأرض قد تشكلت بتراكم الأجسام الصلبة مع التركيب المتوسط للنيازك الحجرية”.

صورة تثبت أن الحديد نزل من السماء

والصورة السابقة صورة عرضها موقع ناسا للفضاء، وقال العلماء: إنها صورة لمذنب يسبح في الكون، ويبلغ طوله أكثر من 30 مليون كيلو متر، ومن المحتمل أن يصطدم بأي كوكب يصادفه، ولدى تحليل هذا المذنب تبين أن ذيله عبارة عن مركبات حديد، أما النيازك التي سقطت على الأرض منذ بلايين السنين والمحملة بالحديد، فقد أغنت الأرض بهذا العنصر؛ ولذلك عندما تحدث القرآن عن الحديد أكد أنه نزل من السماء:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، وهذا يتطابق مع العديد من الدراسات التي تؤكد نزول الحديد واستقراره في باطن الأرض([5]).

وعلى الرغم من انتقادات الطاعنين ستبقى هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي الشاهدة على صدق النبوة المحمدية، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من ألف القرآن، فمن أين جاء بهذا العلم؟ ومن الذي علمه هذه الحقائق قبل أن يكتشفها العلماء بأربعة عشر قرنا؟ إنه الله تعالى الذي وصف نبيه بقوله: ) وما ينطق عن الهوى (3)((النجم).

ثانيا. الإنزال في آية الحديد إنزال حقيقي ولا يعني الخلق فقط:

لجأ المفسرون عند تفسير قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد( (الحديد: 25) إلى أن الإنزال هنا بمعنى: الخلق والإيجاد والتقدير والتسخير، ومن هنا يلتقط المشككون طرف الخيط مستندين إلى أقوال المفسرين من ناحية، وإلى قوله تعالى:)وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: ٦) من ناحية أخرى، قائلين: إن “أنزل” هنا تعني خلق، قال ابن كثير: قوله تعالى: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج((الزمر: ٦)؛ أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج، وهي المذكورة في سورة الأنعام ثمانية أزواج؛ من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وهنا يسأل الطاعن سؤالا مؤداه: هل هبطت الأنعام أيضا من السماء مثلما هبط الحديد كما يزعم الإعجازيون؟!

وهم لا يكتفون بذلك، بل يستندون إلى آيات أخرى لتعضيد موقفهم، منها قوله تعالى:) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا((الأعراف: ٢٦)، ويتبادر إلى ذهن الطاعن هنا السؤال نفسه الذي سبق وأن طرحه: هل هبط اللباس علينا من السماء أيضا؟

وللرد على هذه الشبهة يجب ـ أولا ـ أن نسرد بعض من الآيات مقتطعة من سياقها؛ جريا على طريقة أولئك الذين يلقون بشبههم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أو أنهم جاءوا بأمور لم يسبقهم إليها أحد، فعلى طريقتهم في فهم كتاب الله، فالويل كل الويل لمن صلى، فالله تعالى يقول: )فويل للمصلين (4)((الماعون)، وكذلك على الدعاة أن يبلغوا أقوامهم بترك الصلاة؛ لأن الله تعالى يقول:) يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة((النساء: 43)، وهكذا… فالأصل أن يؤخذ الكلام في سياقه ليتضح معناه، أما اقتطاع الكلام من سياقه فإنه يخل بمعناه غالبا.

وترتيبا على ما سبق نقول:

إن ما استشهد به من أقوال أئمة المفسرين من قولهم: إن معنى الإنزال في آية الحديد الخلق، فهو اجتهاد من علماء مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، فهم مأجورون على كل حال، ولكن هذا لا يعني أنهم معصومون، ولا أن ما يقولونه حجة على كتاب الله أو على خلقه، إنما يتضح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عن طريق موافقة الحقائق العلمية الثابتة حديثا ـ سواء من المسلمين أو غيرهم ـ لما جاء في كتاب الله أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الموافقة حجة دامغة على أن القرآن من عند عليم خبير، خالق لهذا الكون، لا من عند بشر يخطئ ويصيب.

ومن هنا يتضح معنى قوله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)((فصلت)، فهذه الآية تنص على أن الله سيجعل في هذا القرآن من الآيات والأدلة ما بها تقوم الحجة على الخلق، إلى قيام الساعة وليس لزمن محدود أو عصر من العصور، فمن أين تريد أن يعلم المفسر الذي عاش قبل ثمان مئة سنة بهذه الدقائق الكونية، التي ما عرفها أحد قبله ولا بعده إلا بعد أن تراكمت الجهود واخترعت وسائل الكشف والمراقبة!([6]).

وليس معنى هذا أن المفسرين كلهم فسروا الإنزال بالخلق، ولكن منهم من فسر اللفظ على ظاهره، فنحن إذا بحثنا أقوال المفسرين في هذه المسألة، نجدهم منقسمين إلى فريقين؛ الأول: فسر اللفظ على ظاهره، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)،  بمعنى: أن الله أنزل الحديد من السماء كما أنزل آدم من السماء، وهو قول ابن عباس وعكرمة، وإليه ذهب الطبري والقرطبي والواحدي. والثاني: اضطر إلى تأويل اللفظ عن ظاهره؛ لاستبعاد إمكانية تصور نزول الحديد إلى الأرض من السماء، وكما يشاهدون في أزمنتهم وبيئاتهم من استخراج الحديد من باطن الأرض، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، بمعنى: أنشأناه وجعلناه، وهو قول الحسن، وإليه ذهب ابن كثير والثعالبي والشوكاني وكثير من المفسرين([7]).

إذا أخذنا كلمة (أنزلنا) يجب أن نحكم على معناها من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها، فسياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فتختلف معه كلمة (أنزلنا)، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أصحاب الشبهة، قال الله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)،فمن أين جاءت الكتب السماوية؟ ألم تنزل من السماء على أنبياء الله إلى الأرض؟ ألم ينزل الزبور وألواح التوراة على داود وموسى إلى الأرض؟، إذًا كلمة (وأنزلنا معهم) تعني أنها نزلت من السماء إلى الأرض؛ ومن ثم فإن سياق الآية يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء، وجاءت (وأنزلنا معهم) معطوفة على ما قبلها؛ لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال من السماء على الأرض بعد إنزال الكتاب والميزان، إذًا “وأنزلنا الحديد” معناه هبوطه من السماء.
أما سورة الزمر فالآية الكريمة تتحدث عن خلق الإنسان، ثم جاء ذكر الأنعام:)خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر)، إذا سياق الآية يتحدث عن الخلق، لذلك فإن (أنزلنا) هنا تعني الخلق؛ لأننا ـ كما قلنا ـ لا نأخذ معنى كلمة لها عدة دلالات من آيات مختلفة، ولكن نأخذ معناها من سياق الآية التي ذكرت فيها، فمعنى كلمة (أنزلنا) في سورة الحديد هو الهبوط من السماء، مهما كان معنى كلمة (أنزلنا) في سورة الزمر، سواء كانت الخلق أو الهبوط([8]).
إن ظاهرة تباين اللفظ تبعا للسياق من الخصائص الأساسية في لغات التخاطب، وهي أجلى ما تكون في لغة القرآن الكريم، وسماها اللغويون (الوجوه)، والدلالات المعجمية للفظ نفسه لا يتحدد إحداهما إلا من خلال السياق، والدلالة الحسية في (أنزلنا) لا تستبعد إلا بقرائن صارفة ولا تنفي الدلالة المعنوية، أما في قوله تعالى:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، فيستقيم حمل لفظ (الإنزال) على الأصل، وهو الدلالة الحسية، باعتبار تعلق المقام هنا بخلق الأرض، لمجيء بيان إنزال الحديد، وهو من أثقل مكونات الأرض، في مقابل بيان إخراج المواد الأخف من الأرض نحو السطح في قوله تعالى:)والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرساها (32)((النازعات)، وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة من خروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان، المعبر عنها باللفظ الجامع (مرعاها)، بعد التهيئة بتكثف بخار الماء وانقشاع دخان البراكين، في مقابل هبوط أثقل المواد من مثل الحديد نحو لب الأرض، الذي يتكون معظمه بالفعل من حديد([9]).
·     ومن ثم فإن الأصل هو حمل التعبير في القرآن على ظاهره، حتى تأتي قرينة صارفة تبيح حمله على ضرب المثل، والتمثيل في القرآن كثير، وهو أبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)(  (النور)، وقوله تعالى:)وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21)((الحشر)، وقوله تعالى: )ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)((إبراهيم).

وفي قوله تعالى:)يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء) ظاهر التعبير: )وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء)انتقال ضوء الشمس نحو الأرض، ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم  ((النساء:174)، ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور) وصرفه عن ظاهر دلالته، وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم، وهكذا نرى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.

فقد ورد فعل (الإنزال) هنا؛ ليفيد الانتقال من الأعلى إلى الأسفل، كما في قوله تعالى: )وأنزل من السماء ماء((البقرة:22)، وأما قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد ((الحديد:25)؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتقاء ما يصرف اللفظ عن ظاهره، ولا حجة لمن يقول: إن معظم لب الأرض حديد؛ حيث طابقت شهادة الواقع صريح الآية.

وقد تمنع القرائن الصارفة من حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: )هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين((الفتح: ٤)، والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكوينا ماديا، ولذا جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صرف النزول إلى (الجعل)، فقوله: )أنزل السكينة((الفتح: ٤)؛ أي: جعل الطمأنينة.

وفي وصف بعثة النبيين ـ عليهم السلام أجمعين ـ في قوله تعالى:)كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق((البقرة: ٢١٣) لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفا لهم وبيانا لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب، ومثله قوله تعالى: )فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)((الأعراف).

أما قول الله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير((الأعراف: ٢٦)، فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض، ولذا اجتهد المفسرون في صرف “أنزلنا” عن معنى الهبوط، قال الشوكاني: عبر  عز وجل  بالإنزال عن الخلق؛ أي: خلقنا لكم لباسا. وقال الجصاص: وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوانات وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء.
وأخيرا ليس هناك ما يمنع أن يكون الإنزال في قوله تعالى:(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا((الأعراف: 26) إنزالا حقيقيا وليس بمعنى الخلق، فحرف الجر الملصق بالضمير (عليكم) يدل على أن الإنزال في هذه الآية حقيقي، فالله خلق ثم أنزل، وكذلك ليس هناك ما يمنع أن تكون الأنعام أنزلت مع كونها مخلوقة في الأصل، فهي خلقت ثم أنزلت، مثلما خلق آدم وحواء وإبليس ثم أنزلوا.

وانظر إلى قوله تعالى:)وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)((الأنعام)، فهل يزعم معترض أن التنزيل هنا بمعنى الخلق؟ كلا لأن هذا مخالف لسياق الآية، فالملائكة تنزل من السماء وهي مخلوقة، كما أن نزول الخبر على بني إسرائيل لا ينفي صنع الإنسان له، فقد جاء في التوراة، قال الرب لموسى: “أنا أمطر لكم خبزا من السماء، فيخرج الشعب، ويلتقطون حاجة اليوم بيومها” (سفر الخروج 16: 4)([10]).

ومن ثم فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق فقط، ويجب علينا أن نحكم على معنى كلمة أنزلنا من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها؛ لأن سياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فيختلف معه معنى الكلمة، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الطاعن.

3) وجه الإعجاز:

لم يتمكن الإنسان من معرفة حقيقة أن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض إلا بعد أن امتلك من الوسائل العلمية ما تمكن به من معرفة ما جرى وما يجري في أعماق النجوم البعيدة لتكوين عنصر الحديد، وبعد أن تمكن من تحويل بعض العناصر الخفيفة إلى عناصر ثقيلة وحساب ما يحتاج إليه ذلك من طاقة عالية، وعجزه عن تكوين مادة الحديد من مواد أخف منه؛ إذ يتطلب ذلك طاقة تساوي أربعة أضعاف طاقة المجموعة الشمسية، كما أن استخراج البشر للحديد من مناجمه في باطن الأرض جعلهم لا يتوقعون أن يكون الحديد قد أنزل من السماء إلى الأرض، وحملهم على الاعتقاد بأنه خلق مع سائر العناصر الأرضية؛ لذلك خلت العلوم التجريبية من أية إشارة إلى هذه الحقيقة قبل الربع الأخير من القرن العشرين، وكذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويل اللفظ القرآني )وأنزلنا الحديد((الحديد:25)إلى معنى لا يحتمله اللفظ، بما فيهم مفسرون معاصرون عاشوا في القرن العشرين، فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي لم تعرفها البشرية إلا في الربع الأخير من القرن العشرين؟!

(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص123: 127.

[2]. المرجع السابق، ص121، 122.

[3]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.

[4]. من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. عاطف المليجي، القاهرة، ط4، 2004م، ص94، 95.

[5]. هذا خلق الله: انفجار رائع للنجوم، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[6]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.

[7]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة  www.nooran.com.

[8]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.

[9]. شبهة حول قوله تعالى: )وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ((الزمر:6)، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.

[10]. شبهة إنكار نزول الحديد من السماء في القرآن، وليد المسلم، مقال منشور بموقع: www.almeshkat.net.

نفي الإعجاز العلمي عن القرآن في إخباره عن إمكانية جعل الليل أو النهار سرمدًا

مضمون الشبهة:

ينفي بعض المغالطين الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في إخباره عن إمكانية جعل الليل أو النهار سرمدا، وذلك في قوله تعالى: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)((القصص)، زاعمين أن الآيات تدل على رحمة الله بأهل الأرض، وليس فيها أي إخبار عن حقيقة علمية كما يظن علماء المسلمين.

وجه إبطال الشبهة:

إن تعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض ضرورة لاستمرار الحياة عليها، وقد أكد العلم الحديث إمكان حدوث ما افترضه القرآن الكريم من إمكان جعل الليل أو النهار سرمدًا، وذلك عن طريق توقف الأرض عن الدوران، خاصة وأنه قد ثبت أنها تبطئ بالفعل من سرعة دورانها ثانية واحدة في كل مئة وعشرين ألف سنة، وفي هذا دليل على أنها لا بد أن تتوقف يومًا ما.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان تشهدان بدقة بناء الكون، وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كل من الأرض والشمس، والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية، ولكل من الشهور والسنين، وتعاقب الليل والنهار، والتبادل الرتيب بين الليل المظلم والنهار المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة على الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة.

فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة على سطح الأرض وفي غلافها الغازي القريب من ذلك السطح، ويتم التحكم كذلك في كميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف البيئات الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية من مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي، والأيض وغيرها، ويتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة الماء بين الأرض والسماء والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض، وغير ذلك الكثير من الظواهر والعمليات التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للعمران.

وتعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض هو كذلك ضروري للحياة؛ لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة تحتاج إلى الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار، أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية.

إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير يعين الإنسان على إدراك حركة الزمن، وتأريخ الأحداث، وتحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، فلو كان الزمن كله على نسق واحد من ليل أو نهار ما استقامت الحياة وما استطاع الإنسان أن يميز ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا؛ ومن ثم توقفت حركة الحياة([1]).

وعن إمكانية سرمدية الليل والنهار فقد قرر التاريخ الجيولوجي الفلكي أن الأرض بعد انفصالها عن الشمس كانت تدور حول نفسها بسرعة أكبر مما هي عليها الآن؛ إذ كانت تتم دورتها حول نفسها مرة كل أربع ساعات، فالليل والنهار كانا في مجموعهما أربع ساعات فقط.

وبتوالي النقص في سرعة دورانها حول نفسها، زادت المدة التي تتم فيها دورتها هذه، فزادت مدة الليل والنهار إلى خمس ساعات ثم ست حتى وصلت إلى أربع وعشرين ساعة التي هي عليها الآن.

وقد تمكن العلماء من احتساب النقص في سرعة دوران الأرض فوجدوا أن هذا النقص يبلغ حوالي ثانية واحدة كل مئة وعشرين ألف سنة، وعليه فبعد 432 مليون سنة ينقص دوران الأرض بمقدار ساعة، وعندئذ يصبح مجموع ساعات الليل والنهار25 ساعة، وهكذا يتوالى النقص ويطرد طول النهار والليل، وعلى هذا الأساس لا بد  أن تقف الأرض يومًا ما، وعندما تقف يصبح الوجه المقابل للشمس نهارا دائمًا والوجه البعيد عنها ليلًا دائمًا([2]).

وأيضا يكشف لنا القرآن عن ظاهرة كونية لم يتم اكتشافها إلا بالساعات الذرية وهي ظاهرة تباطؤ سرعة دوران الأرض حول نفسها، كما يؤكد علماء الفلك أن ظاهرة التباطؤ التدريجي في سرعة هذا الدوران اليومي بتأثير جذب القمر لمياه البحر ستؤدي حتما إلى انشقاق القمر في المستقبل.

وقد يؤدي هذا التباطؤ أيضًا إلى توقف الدوران المغزلي للأرض كمقدمة لبداية انعكاس اتجاهه في المستقبل، لتبدأ الأرض في الدوران حول نفسها في اتجاه مضاد للاتجاه الحالي، فتبدو لنا الشمس وهي تطلع من مغربها الحالي، ويصبح المغرب مشرقًا والمشرق مغربًا([3]).

ومن ثم فتعاقب الليل والنهار ضرورة أساسية لنمو الحياة على الأرض، وبدهي أنه من المحال أن تستمر الحياة إذا كان النهار سرمدًا أو كان الليل سرمدًا.

2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآيات الكريمة:

لقد نبه القرآن الكريم إلى إمكان جعل الليل سرمدا أو النهار سرمدا ـ وهذه فرضية علمية ممكنة الوقوع ـ في سورة القصص: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)( (القصص).

ففي هذه الآيات الكريمات يلفت المولى عز وجل نظر البشر إلى هذه الحقيقة العلمية الضرورية للحياة فيقول: انظروا واسمعوا إذا وقفت الأرض عن دورانها، فأصبح نصفها المواجه للشمس نهارًا دائمًا، والبعيد عنها ليلًا دائمًا، من غير الله يهبكم تعاقب الليل والنهار مرة أخرى؛ ومن هنا فإن الآيات بها إعجاز علمي واضح، وإن حاول الطاعنون إنكاره، وقولهم بأن الآيات لا تعدو أن تكون دليلًا على رحمة الله عز وجل بأهل الأرض، إنما هو كلمة حق أريد بها باطل؛ ذاك أن كونها كذلك لا ينفي إشارتها إلى حقيقة علمية كونية، خاصة وأنها تطابقت مع ما توصل إليه العلم، وهذا هو القرآن من أي وجه نظرت إليه وجدت إعجازًا مبهرًا.

من أقوال المفسرين:

قال ابن كثير: يقول الله تعالى ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما، وبيَّن أنه لو جعل الليل دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولسئمته النفوس؛ ولهذا قال تعالى: )من إله غير الله يأتيكم بضياء((القصص: ٧١)؛ أي: تبصرون به وتستأنسون بسببه “أفلا تسمعون”، ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمدًا؛ أي: دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولتعبت الأبدان وكلّت من كثرة الحركات والأشغال؛ ولهذا قال تعالى:)من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه( (القصص: ٧٢)؛ أي: تستريحون من حركاتكم وأشغالكم “أفلا تبصرون”([4]).

وعند تفسيره لهذه الآيات يقول الطاهر ابن عاشور: “ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميَّز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم، فهو دليل الحدوث، وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام، فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائمًا؛ لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبهما دومًا أشد من الإنعام بأفضلهما وأنفعهما؛ لأنه لو كان دائمًا لكان مسئومًا ولحصلت منه طائفة المنافع، وفقدت منافع ضده، فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلًا إلى ما هو دون.

وجيء في الشرطين بحرف “إن”؛ لأن الشرط مفروض فرضًا مخالفًا للواقع… وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل؛ لأن الليل لو كان دائمًا لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات؛ ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم”([5]).

3) وجه الإعجاز:

نبه الله عز وجل عباده في الآيات إلى نعمة من نعمه عليهم ألا وهي نعمة تعاقب الليل والنهار، والتي هي ضرورية للحياة، وبدونها لا تستمر الحياة على وجه الأرض، وذلك عن طريق افتراضه زوال تلك النعمة بجعل الليل أو النهار سرمدًا، وقد أكدت الحقائق العلمية إمكان حدوث هذا عن طريق توقف الأرض عن الدوران، خاصة وأنه ثبت علميًّا أن الأرض تبطئ في سرعة دورانها حوالي ثانية واحدة كل مئة وعشرين ألف سنة، وأنها لا بد أن تقف يومًا ما.

(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص422، 423 بتصرف.

[2]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص91.

[3]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص274 بتصرف.

[4]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص24 بتصرف.

[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج20، ص168: 171 بتصرف.

نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)

مضمون الشبهة:

ينفي بعض المتوهمين ما ذهب إليه علماء الإعجاز العلمي من أن قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت: ٢٠)يحدد لنا منهجًا علميًّا لمعرفة كيفية بدء الخلق؛ لأن الآية من وجهة نظرهم لا تعدو الأمر بالسير في الأرض للاعتبار والاتعاظ.

وجها إبطال الشبهة:

1)    هناك دلائل وإشارات على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض، والبحث والتنقيب فيها، باستخدام الإنسان ما يتيسر له من وسائل وأدوات؛ ليعرف كيف بدء الله الخلق على الأرض، عن طريق الشواهد المحفوظة في الأرض، من صخور وحفريات، والتي تؤكد كلها على أن من خلق، قادر على الإعادة؛ فالذي أبدع في النشأة الأولى ووفر هذه الظروف وهيأها لحياة الإنسان قادر على إعادة تلك النشأة.

2)    يقول العلماء: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح القابل للحياة، ولولا ذلك لما ظهرت الحياة على سطحها، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله:)وفي الأرض آيات للموقنين(20)((الذاريات)، وهذا من قبيل السير في الأرض والنظر فيها، والذي أمر به الله تعالى في قوله:)قل سيروا في الأرض( (النمل: ٦٩)، وليس صحيحًا ما توهمه بعض المشككين من أن أمثال هذه الآيات لا تعدو الأمر بالسير في الأرض للاتعاظ؛ فالقرآن الكريم يحدد لنا من خلال هذه الآيات منهجًا علميًّا لمعرفة كيفية بدأ الخلق، فإن حدث ذلك جاء الاعتبار والاتعاظ مبنيًّا على منهج علمي سليم.

التفصيل:

أولا. هناك دلائل على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض:

1)  الحقائق العلمية:

في بداية الألفية الثالثة كثر حديث العلماء عن الكتب أو السجلات المحفوظة في الأرض، ولكن ما هذه الكتب؟ وما شكل صفحاتها؟ وما شكل كلماتها؟

منذ 24 ألف سنة مرت الأرض بالعصر الجليدي؛ حيث غطى الجليد مساحات شاسعة من الكرة الأرضية وبارتفاع يبلغ آلاف الأمتار، وأصبح علماء المناخ اليوم يخبروننا بدقة مذهلة عن ذلك العصر: حالة الطقس، درجات الحرارة، تركيب الغلاف الجوي، وغير ذلك من المعلومات التفصيلية، فكيف استطاعوا معرفة ذلك؟

عندما قام أحد الباحثين باقتطاع قطعة جليد من الثلوج المتراكمة على جبال الألب، تبين أنها تعود إلى 24 ألف سنة مضت، وعندما قام بتحليلها واختبارها ظهرت فيها خطوط دقيقة، كل خط يصف حالة الطقس خلال سنة، ولا يزال الهواء المحفوظ بين ذراتها كما هو منذ تلك الفترة، حتى إنهم أطلقوا على هذه العينة اسم “السجل المحفوظ”!

يبحث العلماء في طبقات الجليد التي مضى عليها آلاف السنين عن أسرار بداية الخلق، وقد وجدوا أشياء عجيبة، وهي أن تاريخ العصر الجليدي مكتوب في طبقات الجليد

مقطع من لوح جليد اقتطع من عمق أكثر من 1800 م، ونرى فيه خطوطا يعبر كل خط عن مرحلة زمنية مر بها هذا الجليد، فانظروا كيف كتب الله لنا تاريخ الأرض وأمرنا أن نسير فيها لنبحث عن بداية الخلق، عسى أن ندرك قدرة الله على إحياء الموتى يوم القيامة

وتتكرر هذه العملية مع علماء طبقات الأرض، فقد عرفوا من خلال الصخور عمر الأرض، بل عرفوا أكثر من ذلك، فقد نزل أحد الباحثين إلى أعمق منجم للفحم فوجد ماء متدفقًا بشكل دائم، وعندما أُخذ عينة من هذا الماء وُجد أنها تعود إلى ملايين السنوات! وفيها كائنات حية لا تزال كما هي منذ ذلك الزمن تتكاثر وتعيش في ظروف قاسية بانعدام الضوء والهواء، وتعرف من خلال تحليل هذا الماء على شكل الحياة في ذلك الزمن.

يبحث العلماء اليوم في طبقات التراب عن أسرار الخلق، وقد لاحظوا أن كل طبقة تسجل تاريخًا محدّدًا من عمر الأرض، وهنا نتذكر قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق((العنكبوت:٢٠)، ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن أسرار بدء الخلق مكتوبة في الأرض.

صورة لمقطع في جذع شجرة، يبين عليه وجود حلقات متعددة، كل حلقة لدى دراستها تبين أنها تختزن تاريخ فترة محددة من الزمن، وسبحان الله الذي أودع هذه الأسرار في مخلوقاته

إن هذا الأمر يتكرر مع الباحثين في تاريخ الإنسان، فقد وجدوا سجلات محفوظة داخل كل خلية من خلايا الإنسان، وعندما وجدوا جمجمة بشرية تعود إلى أكثر من مئة ألف سنة، تبين لهم بنتيجة تحليل ذراتها، أن كل شيء موجود ومحفوظ في ثنايا هذه العظام: تركيب ذلك الإنسان الذي عاش قبل مئة ألف سنة، ومواصفاته ومتوسط عمره، وحتى نوعية غذائه وشرابه!

إذًا القاعدة التي نستنتجها من هذه المعطيات أن كل شيء محفوظ بكتاب، ولكن حروف هذا الكتاب هي الذرات، وهذه الكشوف حدثت كلها في القرن العشرين، وهنا نتساءل: هل يوجد في كتاب الله عز وجل حديث عن هذه الكتب المحفوظة؟ إنها الآية التي رد الله بها دعوى المنكرين للبعث بعد الموت، عندما استغربوا بعد تحولهم إلى تراب كيف يعودون للحياة، فماذا أجابهم الله عز وجل؟ يقول تعالى: )قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)( (ق)، وإذا كنا نحن البشر نستطيع معرفة الكثير من الأشياء عن الماضي من خلال هذه المعلومات المدونة على الذرات، فكيف يكون علم الله عز وجل([1])؟

وقد توصل العلماء باستخدام الانحلال الإشعاعي لليورانيوم وتحوله إلى رصاص ـ في قياس عمر الصخور الأرضية والنيزكية ـ إلى أن تكوين القشرة الأرضية (تصلب القشرة) بدأ منذ 4.5 مليار سنة، وأن هذا الرقم هو أيضا عمر صخور القمر.

وقد استخدم العلماء حديثًا الكربون المشع لتحديد عمر الحفريات النباتية والحيوانية وتاريخ الحياة على الأرض، وبهذا فإن كوكب الأرض بدأ تشكيله وتصلب قشرته منذ 4500 مليون سنة، وأن الإنسان زائر متأخر جدًّا لكوكب الأرض، بعد أن سخر له الله ما في الأرض جميعًا:  )هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا (1)((الإنسان).

ويؤكد العلم أن الإنسان ظهر منذ بضع عشرات الألوف من السنين دون تحديد نهائي، ويمكن أن نعتبر أن التشكيل الجيولوجي للأرض بدأ من إرساء الجبال النيزكية على قشرتها الصلبة، وانبعاث الماء والهواء من باطن الأرض، وتتابع أفراد المملكة النباتية والحيوانية حتى ظهور الإنسان([2]).

ولقد حث القرآن الكريم على دراسة الأرض ومكوناتها لنتعرف من خلال ذلك على بداية الخلق وعلى النشأة الأولى للكون، كما حث الإنسان على أن يفتش عن المفردات العلمية والكونية ليعلم ماهية بداية الخلق والتكوين.

ولقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التي مر بها عرضًا بيانيًّا دقيقًا، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض.

وثمة توافق دقيق بين ما توصل إليه العلماء في عصرنا الحاضر وبين ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بدء الخلق، التي تتضح للإنسان من خلال سيره في الأرض.

2) التطابق بين الحقيقة العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

جاء ذكر الأرض في عدد من الآيات القرآنية التي لا تخلو من إشارات إلى العديد من الحقائق العلمية عن الأرض، ومن ذلك آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.

ففي قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت: ٢٠)، توجيه من الله عز وجل بأساسيات المنهج العلمي في البحث والدراسة لا يختلف إطلاقًا عن المناهج المعاصرة في دراسة علوم التاريخ الطبيعي وعلوم الكونيات، بل ومعظم العلوم التجريبية، وبهذا المنهج ينصرف الإنسان عن الاستغراقفي التأمل والجدل النظري، إلى علم ينفع قائم على الحركة والتجربة والأخذ بالأسباب.

هذا المنهج الذي يدعو إلى السيرفي الأرض والنظر فيها، حتى تتفتح العيون والعقول والمدارك على تنوع مخلوقات الله، فلا يوجد مكان أو منطقة على سطح الأرض تتجمع أو تعيشفيها كل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات والنباتات، وكيف يمكن لإنسان أن يدرك هذا التنوع دون أن يسيرفي الأرض، ويخرج من نطاق ما ألفته عينه وفطرت عليه مداركه!

كذلكلا يوجد مكان على سطح الأرض تجمعتفيه كل أنواع الصخور، سواء من ناحية التنوعفي التركيب المعدني والكيميائي، أو من ناحية العمر، أو الزمن الذي مر عليها منذ نشأتها، أوفي تنوع ما تحويه من معادن وخامات، أو ما تسجله من تحركات القشرة الأرضية… فالمشيفي الأرض والتدقيقفيما نراه ونلمسه قد يقودنا إلى العثور على النيازك، وهي صخور ومعادن سقطت على الأرض من خارجها، وقادت إلى معارف هائلة عن تركيب الكون الخارجي ونشأة الأرض.

والمنهجلا يدعو إلى مجرد النظر إلى هذه المخلوقات والانبهار بعظمة الخالق وقدرته، وإن كان مطلوبًا من عامة الناس، ولكن يدعو إلى ما هو أبعد وأعمق وأكثر نفعًا؛ إنه يدعو إلى التدبرفي كيفية بدء الخلق لكل ما تراه أعيننا أو تلمسه جوارحنا، وهذا يذكر الإنسان بإحدى تبعات الأمانة التي حملها، وبإحدى صور التكريم الذي كرمه به ربه على سائر المخلوقات، ألا وهو العقل والعلم والتمييز([3]).

الدلالات اللغوية للآية الكريمة:

o   سيروا: امشوا([4]).

o   انظروا: نظر إلى الشيء أبصره وتأمله بعينه، وفيه: تدبر وفكر([5]). و”النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص”([6]).

o   الخلق: “الخلق أصله التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: )خلق السماوات والأرض( ؛ أي: أبدعهما بدلالة قوله:)بديع السماوات والأرض(، ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو:)خلقكم من نفس واحدة(“([7]).

أقوال المفسرين:

ذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن الله عز وجل بعد أن أنكر على الكافرين ترك الاستدلال بما هو بمرأي منهم، وذلك في قوله تعالى:)أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)((العنكبوت)، انتقل إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعوُّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم، فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.

وإنما أمر بالسير في الأرض؛ لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوياتها، ويمر به على منازل الأمم، حاضرها وبائدها، فيرى كثيرًا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها.

فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل؛ فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة، وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي؛ لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل، فيظن أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه قادر على إيجاد أمثالها، فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.

والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن؛ لأن للشيء المتقرر تحققًا محسوسًا، وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر؛ لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر، وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشىء النشأة الآخرة([8]).

وفي هذا الصدد يقول الشيخ الشعراوي: السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟

الحقيقة أننا كما قال عز وجل: )قل سيروا في الأرض((العنكبوت: ٢٠)؛ أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذًا حين تسير في الأرض، فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها… والسير هنا مترتب عليه الاعتبار:  )كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ( (العنكبوت: ٢٠) وما دمنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخلق أهون، كما قال عز وجل: )أفعيينا بالخلق الأول((ق: ١٥) لذلك يؤكد الخالق سبحانه وتعالى  هذه القدرة بقوله تعالى:) إن الله على كل شيء قدير(20)((العنكبوت) ([9]).

ويقول الدكتور محمد السيد طنطاوي: أمر سبحانه وتعالى رسوله أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر في أحوال هذا الكون، لعل هذا التأمل يهديهم إلى الحق فقال: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة( (العنكبوت: ٢٠).

أي: قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين للبعث: سيحوا في الأرض، وتتبعوا أحوال الخلق، وتأملوا كيف خلقهم الله عز وجل ابتداء على أطوار مختلفة، وطبائع متمايزة، وأحوال شتى.

والمقصود بالأمر بالسير: التدبر والتأمل والاعتبار؛ لأن من شأن التنقل في جنبات الأرض أنه يوقظ الحس، ويبعث على التفكر، ويفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين، ولم يتأملها القلب قبل ذلك([10]).

وبهذا يتضح مدى التوافق بين الآية القرآنية وبين الحقائق العلمية، فكل منهما حق ومصدره واحد، وهو الحق سبحانه وتعالى، وصدق المولى عز وجل إذ يقول:) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).

3) وجه الإعجاز:

على الرغم من أن عملية بدء الخلق قد تـمت في غيبة الإنسان إلا أن الله تعالى قد ترك لنا في أنفسنا، وفي صخور الأرض من حولنا، وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ على الوصول إلى تصور ما عن كيفية الخلق، وذلك عن طريق السير في الأرض، وإلى هذا أشار الله عز وجل في قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ( (العنكبوت: ٢٠).

ثانيا. من آيات الله في خلق الأرض وجعلها صالحة للعمران:

1)  الحقائق العلمية:

بعد الأرض من الشمس:

يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مئة وخمسين مليونًا من الكيلو مترات‏، وقد استخدمت هذه المسافة كوحدة فلكية للقياس في فسحة الكون‏… وقد قدرت الطاقة التي تشغلها الشمس من كل سنتيمتر مربع على سطحها بحوالي عشرة أحصنة ميكانيكية‏، ولا يصل الأرض سوى جزء واحد من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة‏، وهو القدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية.

ولو كانت الأرض أقرب قليلًا إلى الشمس، لكانت كمية الطاقة التي تصلها كافية لإحراق جميع صور الحياة على سطحها‏، ولتبخير مياهها‏، ولخلخلة غلافها الغازي.

وباختلاف بعد الأرض عن الشمس قربًا أو بعدًا يختلف طول السنة‏، وطول كل فصل من الفصول نقصًا أو زيادة، مما يؤدي إلى اختلال ميزان الحياة على سطحها‏([11]).

كما أن الله تبارك وتعالى جعل هذه الأرض في مدارها الصحيح والمناسب للحياة، فالعلماء اليوم يقولون: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح، والقابل للحياة، ولولا ذلك لم تظهر الحياة على ظهرها أبدًا.

إن وضع الأرض في هذا المدار يرد على من قالوا بأن الكون نشأ بالمصادفة، فلا يمكن للمصادفة أن تضع الكرة الأرضية بالذات على هذه المسافة الدقيقة من الشمس وتجعلها تدور بالحركة المناسبة؛ لأن الأرض لو كانت أسرع مما هي عليه الآن لقذفت بالمخلوقات إلى الفضاء الخارجي، ولم تستطع جاذبيتها الحفاظ على الاستقرار للناس([12]).

وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد مدار الأرض حول الشمس بشكله البيضاني‏ (‏الإهليجي‏)، وتحديد وضع الأرض فيه قربًا وبعدًا على مسافات منضبطة من الشمس، يلعب دورًا مهمًّا في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلى كل جزء من أجزاء الأرض، وهو من أهم العوامل لجعلها صالحة لنمط الحياة المزدهرة على سطحها‏، وهذا كله ناتج عن الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة‏ (النابذة‏)‏ المركزية التي دفعت بالأرض إلى خارج نطاق الشمس‏، وشدة جاذبية الشمس لها‏([13]).

بنية الأرض:

أثبتت دراسات الأرض أنها تنبني من عدة نطق محددة حول كرة مصمتة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب ‏(الداخلي‏)‏، ولهذا اللب الصلب ـ كما لكل نطاق من نطق الأرض ـ دوره في جعل هذا الكوكب صالحًا للعمران بالحياة الأرضية في جميع صورها‏.‏ 

رسم توضيحي لبنية الأرض الداخلية

كذلك فإن لها مجال جاذبية، لولاه لهرب منها كل من غلافيها الغازي والمائي، ولو فقدتهما ـ ولو جزئيا ـ لاستحالت الحياة على الأرض.

كما أن للأرض مجالًا مغناطيسيًّا ثنائي القطبية يحمي الأرض من وابل الأشعة الكونية المتساقط باتجاهها في كل لحظة.

المجال المغناطيسي المحيط بالأرض يحميها

من الأشعة الكونية المتساقطة باتجاهها وبدونها

تتعرض صور الحياة على الأرض للهلاك

وقد لعبت الجبال ـ ولا تزال تلعب ـ دورًا مهمًّا في تثبيت الأرض ككوكب يدور حول محوره، وتقلل من درجة ترنحه… ولولا نطاق الضعف الأرضي ما أمكن لهذه العمليات الداخلية للأرض أن تتم‏، وهي من ضرورات جعلها صالحة للعمران([14])‏.‏

3) التطابق بين ما أثبته العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:

لقد حث المولى عز وجل على تنمية الملكة العقلية على التفكر في الأنفس والآفاق، كما طالب ببناء القناعة به على نتائج التبصر والتفكير المعمق في الكون والنفس والحياة والتاريخ، لاكتشاف دقة التدبير وبديع الصنع، وما يلزم من ذلك من إفراد الله عز وجل بالألوهية، فتؤسس قناعة الإيمان به على هذه النتائج مما يعطي إيمانًا قائمًا على البرهان لا على التقليد، وعلى الحجة لا على الظنون.

      والأرض كوكب فريد في كل صفة من صفاته، مما أهله بجدارة أن يكون مهدًا للحياة الأرضية بكل مواصفاتها، ولعل هذا التأهيل هو أحد مقاصد قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ( (الذاريات)، وقد بينا في  الحقائق العلمية بعضًا من هذا التأهيل الذي أشارت إليه الآية.

من الدلالات اللغوية في قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ((الذاريات):

o   آيات: هي من الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم([15]).

o   الموقنين: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم([16]).

من أقوال المفسرين:

في تفسير قوله تعالى:)وفي الأرض آيات للموقنين (20)  ((الذاريات) يقول ابن كثير رحمه الله  : “أي: فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار”([17]).

ويذكر القرطبي رحمه الله  : أنه تعالى يبين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيمًا، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قوامًا للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة.

وأنه تعالى قد خص الموقنين؛ لأنهم العارفون المحققون وحدانية ربهم، كما أنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها([18]).

بينما يوضح سيد قطب رحمه الله : أن هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه ، على نحو يكاد يكون فريدًا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل.

هذا الكون الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة، التي يبلغ عدد المعروف منها فقط ـ والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون ـ مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم .

ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدًّا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغرًا أو كبرًا، لو تغير وضعها من الشمس قربًا أو بعدًا.

لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا، لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ… وغير ذلك الكثير مما لو مضى الإنسان ـ بل لو مضى الأناسي جميعا ـ يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات ـ ما انتهى لهم قول ولا إشارة، والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب، والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة([19]).

ففي الآية إشارة إلى عدد من الآيات التي تفردت وتميزت بها الأرض عن سائر الكواكب، وهذا ما أثبتته حقائق العلم الحديث.

3) وجه الإعجاز:

آيات الله في الأرض أكثر من أن تحصى، وقد أشارت إليها هذه الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا عز وجل:)وفي الأرض آيات للموقنين (20)((الذاريات)، فسبحان من خلق الأرض بهذا القدر من إحكام الصنعة، وشمول العلم، وجلال الربوبية وعظمة الألوهية، والتفرد بالوحدانية المطلقة، والقدرة على إفناء هذا الخلق، ثم إعادة بعثه، وفي هذه الآيات الحجة على منكري البعث والجزاء.

(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.

[1]. )وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)((ق) ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[2]. موسوعة البحوث والمقالات العلمية، علي بن نايف الشحوذ، مجلة الإصلاح، العدد (325)، بتاريخ 15/7/1995م، ص5.

[3]. )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ((العنكبوت:20) ، د. أحمد حسنين حشاد، مقال منشور بموقع: مدونات مكتوب www.maktoob.com.

[4]. المعجم الوسيط، مادة: سار.

[5]. المعجم الوسيط، مادة: نظر.

[6]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص497.

[7]. المرجع السابق، ص157.

[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج20، ص230 بتصرف.

[9]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج18، ص11118: 11120 بتصرف.

[10]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص26، 27 بتصرف.

[11]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص84: 88 بتصرف.

[12]. )وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)((الذاريات): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[13] . من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص89، 90 بتصرف.

[14]. المرجع السابق، ص90: 96 بتصرف.

[15]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص33.

[16]. المرجع السابق، ص252.

[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص235.

[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص39 بتصرف.

[19]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3378، 3379 بتصرف.

نفي إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن الأمواج الداخلية للبحر اللجي وظلماته

مضمون الشبهة:

 
ينفي بعض المغالطين إعجاز القرآن العلمي في قوله سبحانه وتعالى:)أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض( (النور: ٤٠)، زاعمين أن ما بداخل البحار ليست أمواجًا داخلية، وإنما هي تيارات مائية؛ ومن ثم فالآية بها خطأ علمي. كما أن إخبار الآية عن وجود ظلمات في قاع البحر ليس فيه إعجاز؛ إذ يمكن لأي إنسان أن يتوقع ذلك. هادفين من وراء هذا وذاك إلى القول بأن الآية إنما قصدت إلى وصف الأمواج السطحية التي تغطي سطح البحر؛ وعليه فلا إعجاز فيها.
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1)  بعد دراسة البحار وأعماقها دراسة مستفيضة، اتضح للعلماء أن البحر العميق، والذي وصفه القرآن بلفظ اللجي، ينقسم إلى قسمين كبيرين: البحر السطحي، والبحر العميق، وتغطي الأمواج الداخلية (Internal Waves) البحر العميق وتمثل حدًّا فاصلًا بينه وبين البحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي البحر السطحي ويمثل حدًّا فاصلًا بين الماء والهواء. وقد ذكرت الآية الكريمة وجود موجين في وقت واحد أحدهما فوق الآخر؛ ومن ثم فالتسمية القرآنية “موج” دقيقة جدًّا من الناحية العلمية.
 
2)  تلعب كل من: السحب والأمواج السطحية والأمواج الداخلية دورًا أساسيًّا في إحداث الظلمة التامة المركبة فوق قيعان البحار العميقة والمحيطات، وهي حقيقة لم يدركها الإنسان ـ في أبعادها الصحيحة ـ إلا في مطلع القرن العشرين، في حين أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الظاهرة منذ أربعة عشر قرنا في دقة متناهية، وتصوير رائع مثير، تتفاعل معه النفس وكأنها أمام واقع حي مشاهد “ظلمات بعضها فوق بعض”.
 
التفصيل:
 
أولا. التسمية القرآنية لما بداخل البحار بالموج دقيقة جدًّا من الناحية العلمية:
 
1) الحقائق العلمية:
 
لقد كانت البحار عالمـًا مجهولًا إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما كانت الخرافات والأساطير المتعلقة بالبحار تسود الحضارات القديمة، وكان الرومان يعتقدون بأن قمم الأمواج جياد بيضاء تجر عربة الإله (نبتون)، وكانوا يعتقدون بوجود أسماك مصاصة، لها تأثيرات سحرية على إيقاف السفن، وكان لليونانيين مثل هذه الاعتقادات، كما كان بحارتهم يعزون سبب الدوامات البحرية إلى وجود وحش يسمونه (كاربيدس) يمتص الماء ثم يقذفه.
 
ولم يكن بمقدور الإنسان معرفة أعماق الشواطئ الضحلة والمياه الراكدة، ناهيك عن معرفة البحار العميقة، والحركات الداخلية في هذه المياه، كما لم يكن بإمكانه الغوص إلى أعماق هذه الشواطئ إلا في حدود عشرين مترًا ولثوان معدودة؛ ليعاود التنفس من الهواء الجوي، وحتى بعد ابتكار أجهزة التنفس لم يتمكن الإنسان من الغوص أكثر من ثلاثين مترًا؛ لازدياد ضغط الماء على جسم الغواص مع زيادة العمق، والذي يصل إلى أربعة أضعاف الضغط الجوي على سطح الأرض عند الغوص لثلاثين مترًا([1])، وعندئذٍ يذوب غاز النيتروجين في دم الغواص ويؤثر على عمل مخه فيفقده السيطرة على حركاته([2])، ويصاب الغواصون نتيجة لذلك بأمراض تعرف في الطب بأمراض الغواصين، أما إذا نزل الغواص إلى أعماق بعيدة فإن ضغط الماء يكفي لهرس جسمه.
 
التسلسل الزمني لاكتشاف أعماق البحار:
 
ـ  في عام 1300م استخدم صيادو اللؤلؤ أول نظارة واقية مصنوعة من صدف السلاحف([3]).
 
ـ  في عام 1860م تم اكتشاف أحياء في قاع البحر المتوسط باستخدام حبل حديدي (كيبل).
 
ـ  في عام 1865م تم ابتكار مجموعة غطس مستقلة بواسطة كل من روكايرول ودينايروز([4]).
 
ـ  في عام 1893م تمكن بوتان من التقاط صور تحت الماء.
 
ـ  في عام 1920م تم استخدام طريقة السبر بالصدى ـ صدى الموجات الصوتية ـ لمعرفة الأعماق.
 
ـ  في عام 1930م تمكن كل من بارتون وبيبس من أن يغوصا بأول كرة أعماق حتى عمق 3028 قدمًا.
 
ـ  في عام 1938م تم ابتكار قارورة التنفس سكوبا وابتكار صمام التنفس من قبل الكابتن كوستو ودوماس.
 
ـ  في عام 1958م تم إجراء تجارب الاختبارات على غواصة الأعماق (الستينيات)، وابتكار إبرس غلاصم ـ تشبه الخياشيم ـ للتنفس تحت الماء، وتـجربتها لأول مرة.
 
ـ  وتمكن الإنسان من الغوص إلى أعمق بقعة في المحيط الهادي([5])، كما تمكن من البقاء في أعماق البحر لعدة أيام([6])، واكتشف الإنسان وجود فوهات في أعماق البحر([7])، وصنع الإنسان الغواصة الصفراء([8])والغواصات النووية([9]).
 
المعلومات الحديثة في علم البحار:
 
لم تبدأ الدراسات المتصلة بعلوم البحار وأعماقها على وجه التحديد إلا في بداية القرن الثامن عشر، عندما توفرت الأجهزة الضرورية لمثل هذه الدراسات المفصلة، وعلى أيدي أجيال متعاقبة من علماء البحار توصل الإنسان إلى حقائق مدهشة، منها:
 
1.ينقسم البحر إلى قسمين كبيرين:
 
o     البحر السطحي الذي تتخلله طاقة الشمس وأشعتها.
 
o     البحر العميق الذي تتلاشي فيه طاقة الشمس وأشعتها.
 
يختلف البحر العميق عن البحر السطحي في الحرارة والكثافة والضغط ودرجة الإضاءة الشمسية، والكائنات التي تعيش في كل منهما، ويفصل بينهما موج داخلي.
الأمواج البحرية الداخلية([10]):
 
الموج الداخلي اكتشفه (البحّارة الإسكندنافيون) في عام 1900م، وتغطي الأمواج الداخلية البحر العميق، وتمثل حدًّا فاصلًا بين البحر العميق والبحر السطحي، كما يغطي الموج السطحي سطح البحر ويمثل حدًّا فاصلًا بين الماء والهواء، ويتراوح طول الأمواج الداخلية ما بين عشرات إلى مئات الكيلو مترات، كما يتراوح ارتفاع معدل هذه الأمواج ما بين 10 إلى 100م تقريبًا([11]).
 
ويعود أول تفسير علمي لظاهرة الأمواج الداخلية للدكتور ف. و. إيكمان (V.W Ekman)في عام (1322هـ/ 1904م) الذي فسر ظاهرة المياه الراكدة في الخلجان النرويجية حين تفقد السفن التي تبحر قدرتها على التقدم فتقف ساكنة في هذه المياه الراكدة، كما لاحظ عالم المحيطات النرويجي فريتوف نانسن (Fridtjof Nansen) تعرض سفينته “فرام” (Fram) لهذه الظاهرة شمال جزيرة (تايمير) خلال عملية استكشاف القطب الشمالي ما بين (1311هـ/ 1893م) و (1314هـ/ 1896م) عند محاولة اجتياز منطقة القطب.
 
لذلك فقد قام نانسن بتشجيع إيكمان على البحث عن تفسير ظاهرة المياه الراكدة، فكان رأي إيكمان أنها تنجم عن الأمواج الداخلية التي تتولد في السطح الفاصل بين المياه السطحية والمياه العميقة للمحيط، وبعد زمن غير طويل وصف أوتو باترسون (OttoPetterson)تأثير الأمواج الداخلية الطويلة التي تحدث في أعماق البحار على هجرة الأسماك من نوع هيرنج (Herring) بالقرب من سواحل جوتلاند (Jutland) بالقرب من الساحل الغربي للسويد في فصل الصيف.
 
ويكون مرور الأمواج الداخلية محسوسًا من سفن التنقيب عن النفط عندما يتغير ثقل المعوم المربوط بين سفينة الحفر وفتحه البئر الكائنة في قاع البحر بصورة مفاجئة، وتم التعرف على هذه الأمواج الداخلية كذلك من خلال تأثيرها على حركة الغواصات([12]).
 
ويطلق على هذه الأمواج “الأمواج المجنونة” (Freak Waves)، أو “الوحش المخيف” (Monster)؛ لأنها تبتلع أضخم السفن في لحظات. أما عن أسباب هذه الأمواج، فقد يكون سببها ظاهرة المد والجذر، أو بسبب تدرجات في قاع المحيط، أو بعض الأسباب الأخرى غير المعروفة حتى الآن؛ إذ تتولد هذه الأمواج الرهيبة في دقائق معدودة.
 
وهذه الأمواج الداخلية عادة ما تصحبها أمواج سطحية مدمرة، وهذه الأمواج بخلاف أمواج تسونامي التي لا يمكن رصدها في عمق البحر، ولكن يظهر تأثيرها على الشاطئ مباشرة. أما الأمواج الداخلية فقد أمكن رصدها عن طريق الأقمار الصناعية في وسط المحيط الهادي وشمال المحيط الأطلنطي([13]).
 
صورة حقيقية التقطت عبر الأقمار الصناعية للأمواج الداخلية في المحيط
 
كيفيةتكوُّن الأمواج الداخلية:
 
تلعب الكثافة دورًا مهمًّا في تكوين هذا النوع من الأمواج؛ إذ تختلف كثافة الماء في البحار العميقة والمحيطات باختلاف درجة حرارته، ونسبة الأملاح الذائبة فيه؛ إذ تلعب درجة الحرارة وكمية الأملاح الذائبة ـ معظمها من كلوريد الصوديوم ـ دورًا مهمًّا في وجود هذه الأمواج الداخلية، هذا فضلًا عن تأثير قوى المد والجزر، وتأثير الرياح وتقلبات الضغط، ويلعب المناخ دورًا مهمًّا في تمييز هذه الأمواج أفقيًّا، بينما تلعب الكثافة دورها في تمييزها رأسيًّا؛ فعندما تسافر الأمواج أو تتحرك في مساحات شاسعة بين خطوط عرض مختلفة، فإنها تكتسب صفات طبيعية جديدة نظرًا لتغير المناخ في تلك المساحة، فتكتسب درجات حرارة جديدة وملوحة نتيجة اختلاف معدلات ارتفاع درجات حرارتها أو انخفاضها، ومعدلات البخر، وكذلك معدلات سقوط الأمطار، وهذا يؤدي بها إلى التحرك رأسيًّا.
 
وتتكون الأمواج الداخلية عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة، وهي أمواج ذات أطوال وارتفاعات تفوق أطوال وارتفاعات الأمواج السطحية بمعدلات كبيرة؛ إذ تتراوح أطوالها بين عشرات ومئات الكيلو مترات، ويصل ارتفاعها إلى 200م، وتتحرك بسرعات تتراوح بين 5 ـ 100سم في الثانية لمدد تتراوح بين أربع دقائق وخمس وعشرين ساعة، كذلك يبدأ تكوُّن الأمواج الداخلية على عمق 40 م تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها، وقد تتكرر على أعماق أخرى كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة([14]).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أخبرت به الآية الكريمة:
 
قال تعالى: )أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب( (النور: ٤٠)، ففي هذه الآية الكريمة يصف الله البحر اللجي وصفًا دقيقًا ينطبق تمام الانطباق مع الاكتشافات العلمية الحديثة التي ثبتت ونوقشت على جميع المستويات العلمية؛ فمن الفيوضات العلمية في الآية أن البحر اللجي يعلوه موج من فوقه موج، أي إن هناك موجين يعلو أحدهما الآخر، قال سبحانه وتعالى: ) يغشاه موج من فوقه موج((النور: ٤٠)، وهذه صفة للبحر العميق؛ إذ يوجِد موجين في وقت واحد، أحدهما فوق الآخر، وليست أمواجًا متتابعة على مكان واحد؛ بل هي موجودة في وقت واحد، والموج الثاني فوق الموج الأول.
 
وتشير الآية إلى أن فوقية الموج الثاني على الموج الأول كفوقية السحاب على الموج الثاني، قال سبحانه وتعالى:)يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب( (النور: ٤٠)؛ فقد ذكرت الآية وجود موج يغشى البحر العميق ويغطيه، كما ذكرت وجود موج ثانٍ فوق الموج الأول، وهذا يستلزم وجود بحر فوق الموج الأول والبحر العميق، وهو البحر السطحي الذي يغشاه الموج الثاني الذي فوقه السحاب.
 
يقول العلماء: إنه يوجد في كل بحر مكان عميق ولجي؛ أي إن مياهه تزيد في ارتفاعها عن القاع 1000م وقد تصل 2000م، وتوجد الأمواج الداخلية على عمق 200م إلى 500م. وفي الحقيقة لم يكن بالإمكان الغوص إلى تلك المناطق ـ حيث يصل الضغط في بعض الأماكن إلى 600 كيلو جرام على السنتيمتر الواحد ـ إلا باستخدام غواصات متقدمة ومتينة وعلى درجة عالية جدا من التكنولوجيا الراقية الحديثة، ومزودة بكاميرات التصوير التلفزيونية، علاوة على استخدام الروبرت أيضا في هذا المجال.
 
صورة لغواصة من غواصات الأعماق تبين مدى التقدم الذيأحرزه الإنسان في هذا المجال
 
هناك إذًا بحران منفصلان، فما يعيش من كائنات بحرية في البحر العلوي الذي له سطح نراه بأعيننا يختلف تماما عما يعيش في البحر العميق اللجي، فأي إنسان عادي أو حتى مجموعة من الناس لا يمكن أن يخطر ببالهم مجرد خاطر أن هناك بحرين منفصلين في بحر واحد، ولا يمكن أن نصدق أن هذا السطح من البحر الذي نراه تحته وعلى عمق 200 إلى 500م يوجد بحر ليس له علاقة ببحر السطح المرئي([15]).
 
الكلمة القرآنية (موج) دقيقة جدًّا من الناحية العلمية:
 
يعود السبب لحدوث هذه الأمواج تحت السطحية إلى عدة عوامل ذكرناها سابقًا (اختلاف الكثافة، وتأثير قوى المد والجذر، والرياح، وتقلبات الضغط)،  وما زال هناك غموض في أسباب تكوُّن هذه الأمواج العاتية بسبب تكونها المفاجئ، وكذلك اختفاؤها المفاجئ.
 
ومن ثم فالتسمية القرآنية دقيقة جدًّا من الناحية العلمية؛ لأن أي اضطراب يحدث في الماء سوف ينتشر عبر جزيئات الماء على شكل أمواج، سواء على سطح الماء أو في داخله، وهذا معلوم لمن درس هندسة ميكانيكا السوائل! وفي هذا رد على الطاعن القائل: إننا إذا قلنا: “أمواج” لهذه التيارات الداخلية نكون قد ارتكبنا خطأ علميًّا، وهذا ليس صحيحًا؛ إذ إن الآية تتحدث عن الأمواج الرهيبة التي تتكون تحت الماء، وينتج عنها تكون أمواج عملاقة فوق السطح في وقت قصير جدًّا تبتلع أي سفينة تقع في حزامها مهما كان حجمها في دقائق معدودة دون ترك أي أثر.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد أثبت القرآن الكريم أن هناك أمواجًا داخلية غير الأمواج السطحية، وهذه الأمواج تتواجد في المحيطات العميقة اللجية، والتي تتلبد سماؤها بالغيوم، أما البحار التي قعرها قريب وسماؤها صافية، فلا يوجد فيها أمواج داخلية، وهذا ما أكده العلم وقرره؛ فالأمواج الداخلية تتواجد في المحيط الهادي والأطلنطي، فهل ملك محمد صلى الله عليه وسلم الأقمار الصناعية لتصوير هذه الأمواج أو أنه وحي السماء([16])؟!
 
ثانيا. لم يتمكن الإنسان من معرفة ظلمات البحر إلا بعد عام 1933م:
 
1) الحقائق العلمية:
 
يشتد الظلام في البحر العميق مع ازدياد عمق البحر حتى يسيطر الظلام الدامس الذي يبدأ من عمق 200م تقريبا، ويبدأ عند هذا العمق المنحدر الحراري الذي يفصل بين المياه السطحية الدافئة ومياه الأعماق الباردة، كما توجد فيه الأمواج الداخلية التي تغطي المياه الباردة في أعماق البحر، وينعدم الضوء تمامًا على عمق 1000م تقريبًا.
 
أما فيما يتعلق بانتشار الظلمات في أعماق البحار؛ فقد أدرك صيادو الأسماك أن الضوء يمتص حتى في المياه الصافية، وأن قاع البحر المنحدر ذو الرمال البيضاء يتغير لونه بصورة تدريجية حتى يختفي تمامًا مع تزايد العمق، وأن نفاذ الضوء يتناسب عكسيًّا مع ازدياد العمق. وأبسط جهاز علمي لقياس عمق نفاذ الضوء في مياه المحيط هو “قرص سيتشي” (The Secchi Disk)، وهو عبارة عن قرص أبيض ذي قطر معين يتم إنزاله في الماء ليسجل العمق الذي تتعذر رؤيته كنقطة قياسية ولا يزال هذا القرص قيد الاستعمال؛ حيث يكفي لتحديد قياس تقريبي لشفافية الماء([17]).
 
 
 
شكل يشرح طريقة إنزال القرص
 
لكن على الرغم من كونه وسيلة سهلة لقياس اختراق الضوء للماء بدرجة تقريبية، وعلى الرغم من استعماله على نطاق واسع فإن قياس الظلمات في ماء البحر بصورة دقيقة لم يتحقق إلا بعد استخدام الوسائل التصويرية في نهاية القرن التاسع عشر، ثم بتطوير وسائل قياس شدة الضوء التي استخدمت الخلايا الكهروضوئية خلال الثلاثينيات من القرن العشرين([18])، وبعد اختراع الإنسان أجهزة مكنته من الغوص إلى هذه الأعماق البعيدة([19]).
 
كيف تحدث الظلمات في البحر اللجي؟
 
لما كانت الشمس هي مصدر الحرارة والضوء على سطح الأرض، وعلى أسطح غيرها من أجرام المجموعة الشمسية، كان لزامًا علينا الرجوع إلى المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس للتعرف على الحواجز التي يمكن أن تعترض أشعة الشمس في طريق وصولها إلى الأرض، ومن أهمها الغلاف الغازي.
 
وضوء الشمس يجتاز ثلاثة موانع حتى ينعدم تمامًا في المنطقة التي تحت الموج اللجي، وسوف نتناول كل مرحلة على حدة:
 
الظلمة الأولى ـ أو العائق الأول لضوء الشمس ـ تسببها السحب:
 
إن الناظر إلى الكرة الأرضية من طائرة تطير فوق السحاب، سوف يرى أن السحاب يغطي الكرة الأرضية سواء في الشتاء أو الصيف، وهذا يعني أنك لو كنت تطير فوق السحاب فسوف ترى شمسًا ساطعة ونورًا واضحًا، ولنفرض أن هذه الطائرة أرادت الطيران من تحت السحاب، بين السحاب وسطح البحر، فماذا ترى؟ ترى نفسك فجأة وقد أصبحت في منطقة مظلمة ظلامًا خفيفًا، وقد ضاع النور الذي كنت تراه وأنت تطير فوق السحاب؛ ومن ثم فإن المنطقة التي تقع بين السحاب والموج السطحي للبحر تكون بها ظلمة قليلة؛ وذلك لعدم استطاعة الشمس الدخول بحرية إلى هذه المنطقة لوجود السحاب الذي يعتبر حاجزًا قويًّا لدخول أشعة الشمس كاملة.
 
كيف يكون السحاب سببًا في الظلمة الأولى؟
 
ترسل الشمس أشعتها المكونة من موجات كهرومغناطيسية وأشعة الراديو والأشعة السينية، إلا أن الغالب عليها هو الضوء المرئي، وكل من الأشعة تحت الحمراء، والأشعة فوق البنفسجية بالإضافة إلى بعض الجسيمات الأولية المتسارعة مثل الإلكترونات، وأغلب الأشعة فوق البنفسجية يردها إلى الخارج نطاق الأوزون، وعند وصول بقية أشعة الشمس إلى الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض فإن السحب تعكس وتشتت نحو 30% منها. وتمتص السحب وما بها من بخار الماء وجزيئات الهواء وهباءات الغبار وغيرها من نوى التكثيف الأخرى حوالي 19% من تلك الأشعة الشمسية المارة من خلالها؛ ومن ثم تحجب السحب بالانعكاس والتشتيت والامتصاص حوالي 49% من أشعة الشمس، فتُحدث قدرًا من الظلمة النسبية([20]).
 
يبين هذا الشكل السحب الكثيفة وقد أحدثت الظلمة الأولى
 
الظلمة الثانية تسببها الأمواج السطحية في البحار والمحيطات:
 
ماذا يحدث للضوء عندما يقابل سطحالبحر والأمواج السطحية؟
 
عند وصول ما تبقى من أشعة الشمس إلى أسطح البحار والمحيطات فإن حوالي 35% من الأشعة تحت الحمراء فيها تستهلك في تبخير الماء، وتكوين السحب، وفي عمليات التمثيل الضوئي التي تقوم بها النباتات البحرية، أما ما يصل إلى سطح البحار والمحيطات مما تبقى من الأشعة المرئية (أو الضوء الأبيض)، فإن الأمواج السطحية للبحار تعكس 5% أخرى منها، فتُحدث قدرًا آخر من الظلمة النسبية في البحار والمحيطات([21]).
 
إن الجزء المرئي من أشعة الشمس الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار والتحلل إلى الأطياف المختلفة والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء وجزيئات الأملاح المذابة فيه، وبواسطة المواد الصلبة العالقة به، وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء، وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق.
 
شكل يوضح مكونات الطيف المرئي (قوس قزح)
 
كيف تحدث عملية امتصاص الضوء؟
 
يتكون شعاع الشمس من سبعة ألوان (الأحمر ـ البرتقالي ـ الأصفر ـ الأخضر ـ النيلي ـ البنفسجي ـ الأزرق)، ولكل لون طول موجي خاص به([22]).
 
وتتوقف قدرة اختراق الشعاع الضوئي للماء على طول موجته؛ فكلما قصر طول الموجة زادت قدرة اختراق الشعاع للماء؛ لذلك فإن شعاع اللون الأحمر يُمتص على عمق 20م تقريبًا، ويختفي وجوده بعد ذلك، وينشأ عن ذلك ظلمة اللون الأحمر، فلو جرح غواص على عمق 25 م تقريبًا، وأراد أن يرى الدم النازف فسيراه بلون أسود؛ بسبب انعدام شعاع اللون الأحمر، ويُمتص الشعاع البرتقالي على عمق 30 م تقريبًا، فتنشأ ظلمة أخرى تحت ظلمة اللون الأحمر هي ظلمة اللون البرتقالي، وعلى عمق 50 م تقريبًا يُمتص اللون الأصفر، وعلى عمق 100م تقريبًا يُمتص اللون الأخضر، وعلى عمق 125م تقريبًا يُمتص اللون البنفسجي والنيلي، وآخر الألوان امتصاصًا هو اللون الأزرق على بعد 200م تقريبًا من سطح البحر.
 
وهكذا تتكون ظلمات الألوان لشعاع الشمس بعضها فوق بعض؛ بسبب عمق الماء الذي تُمتص فيه الألوان بأعماق مختلفة([23]).
 
هذه الصورة توضح امتصاص الألوان بحسب العمق
 
فلو أنك أتيت بكوب من الماء وسلطت عليه الأشعة فإنك ترى قاع الكوب منير، فإذا قمت بتحريك الكوب حتى يصير موجًا متحركًا فإنك ترى قاع الكوب أصبح أقل إنارة، ويفهم من هذا أن البحر السطحي عكست عنه أشعة الشمس المتبقية من أشعة الشمس النافذة من خلال السحب؛ لوجود الموج، فأصبح البحر السطحي العلوي مظلمًا على إثر انعكاس الأشعة ودخولها بكمية قليلة جدًّا.
 
 
 
في هذا الشكل نرى الضوء يحاول دخول الأمواج الداخلية وتحته البحر المظلم
 
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تُمتص على عمق مئة متر تقريبًا من مستوى سطح الماء في البحار والمحيطات، ويستمر 1% منها إلى عمق 150م، و 0٫01%  إلى عمق 200م في الماء الصافي الخالي من العوالق.
 
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء (حوالي 300٫000 كيلو متر في الثانية في الفراغ، وحوالي 225٫000 كيلو متر في الثانية في الأوساط المائية) فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر، فبعد مئتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من 0٫01% من ضوء الشمس، ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق لا يكاد يصل إلى كيلو متر واحد تحت مستوى سطح البحر؛ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها، ولما كان متوسط أعماق المحيطات يقدر بنحو 3795 م، وأن أقصاها عمقًا يتجاوز الأحد عشر كيلو مترًا بقليل (11٫034مترًا)، وبين هذين الحدين تتراوح أعماق البحار والمحيطات بين أربعة وخمسة كيلو مترات في المتوسط، وبين ثمانية وعشرة كيلو مترات في أكثرها عمقًا، فإن معنى ذلك أن أعماق تلك المحيطات تغرق في ظلام دامس.
 
صورة توضح توهن ضوء الشمس المرئي بمروره في ماء البحار والمحيطات
 
إذًا فالبحر السطحي الذي يعلوه الموج ـ الذي هو على السطح ونراه بأعيننا والذي يصل عمقه من 200 إلى 500م ـ أصبح مظلمًا ولكن ليس بالظلام الحالك؛ وذلك لدخول بعض الأشعة النافذة من سطحه، وهذه الأشعة القليلة النافذة والموجودة في البحر السطحي لا بد لها من الانتشار ـ على قلتها ـ فتعمل على الدخول عبر الموج الذي يعلو سطح البحر اللجي، ولكنها تُصدم بحاجزين يمنعانها من الدخول تمامًا([24]).
 
الظلمة الثالثة تسببها الأمواج الداخلية؛ إذ يمتص القدر اليسير الذي تبقى من الضوء:
 
كيف تعمل الأمواج الداخلية بوصفها حاجزًا أخيرًا للضوء؟
 
توجد أمواج داخلية تغشى البحر العميق وتغطيه، وتبدأ من عمق 70 إلى 240م، وتعلق ملايين الملايين من الكائنات الهائمة في البحار على أسطح الموجات الداخلية، وقد تمتد الموجة الداخلية إلى سطح البحر، فتبدو تلك الكائنات الهائمة كأوساخ متجمعة على سطح البحر؛ مما يجعلها تمثل مع ميل الموج الداخلي حائلًا لنفاذ الأشعة إلى البحر العميق، فتنشأ بذلك الظلمة الثالثة تحت ظلمتي السحب والموج السطحي؛ وبذلك فإن البحر اللجي تنعدم فيه أية أشعة أو ضوء ولو بمقدار 1%([25]).
 
غواصة مضيئة بالنهار في الظلام الحالك في أعماق البحار
 
يتبين لنا مما سبق أن الظلمات التي تراكمت في البحار العميقة ثلاث ظلمات: ظلمة السحب، وظلمة الموج السطحي، وظلمة الموج الداخلي.
 
كيف ترى الأحياء البحرية في أعماق البحار والمحيطات؟
 
في الواقع أنه يصعب التصديق بوجود أي نوع من الحياة في هذه الظلمات والأعماق السحيقة، ولكن الحقيقة غير ذلك، فإذا كان البحر يموج بالأمواج فإنه أيضًا يموج بالحياة؛ فقد أثبت العلم الحديث أن البحار والمحيطات العميقة تعج بالكائنات المضيئة؛ إذ لما كان ضوء الشمس منعدمًا في هذه الأعماق؛ فقد زوِّدت أسماك تلك الأعماق بمصابيح خاصة بها.
 
كيف تولِّد الأسماك الضوء؟
 
الأسماك التي تعيش في الأعماق السحيقة من المحيطات المظلمة لديها القدرة على توليد الضوء، ويسمى هذا الضوء علميًّا بالضوء البارد؛ أي الضوء الذي لا يصاحبه توليد أي حرارة، وذلك بواسطة أعضاء خاصة تدعى (حاملات الضوء)([26])، وهذه الأعضاء عبارة عن مصابيح صغيرة بسيطة التركيب، لكنها على درجة عالية من الكفاءة؛ حيث تتركب من قرنية شفافة تتلوها عدسة، ثم عاكس مقعر عبارة عن نسيج خاص يقابل شبكية العين، وهو المسئول عن توليد الضوء، كما تقوم القرنية والعدسة بتجميع هذا الضوء قبل أن ينبثق خارج جسم السمكة.
 
وتختلف أعضاء الإضاءة في هذه الأسماك من حيث العدد والتوزيع والتعقيد، وغالبًا ما توجد على جانبي الحيوان أو على بطنه أو رأسه، ونادرًا على سطحه العلوي، وقد يكون هذا الضوء باهتًا يصدر بشكل متقطع من وقت لآخر، أو قد يكون مبهرًا مستمرًّا. وتعيش هذه الأسماك على أعماق تتفاوت من 1000م إلى 4000م تحت سطح البحر؛ ولذلك يطلق عليها أسماك الأعماق أو أسماك القاع([27]).
 
ويطلق العلماء على ظاهرة الإضاءة التي تستخدمها الأسماك “الإضاءة الحيوية” (Bioluminescence)، وهذه الظاهرة تحدث داخل أجسام بعض الكائنات الحية، مثل الأسماك التي تعيش داخل المياه المالحة، ولا تحدث في المياه العذبة، ونادرة الحدوث على الأرض؛ فهي تحدث فقط في نوع من الخنافس وبعض أنواع البكتيريا والفطريات، ولكن كيف تحدث هذه الظاهرة؟
 
تحدث هذه الظاهرة نتيجة بعض التفاعلات الكيميائية في جسم الكائن، حيث تتحول الطاقة الناتجة من التفاعل إلى نور، ولكي تتم هذه العملية فإن الخالق عز وجل قد أنعم على هذه الكائنات بـ:
 
1.نوع من الصبغيات يطلق عليه علميًّا (Luciferin).
إنزيم يسمى إنزيم (Luciferase) الذي يعمل كمادة محفزة تساعد على إتمام التفاعل داخل أجسام الأسماك، بالإضافة إلى وجود الأكسجين ومصدر للطاقة وهو مركب يسمى “ثالث فوسفات الأدينوسين”(ATB)؛ مما يؤدي إلى إنتاج مادة تسمى (Oxyluciferen)، وينبعث الضوء عند حدوث هذه التفاعلات، ويمكن تمثيل هذا التفاعل بالمعادلة الآتية:
 
(A) + (B)  ( à)   (Products) + ligh
 
وتتواجد هذه المواد الكيميائية بصورة دائمة داخل تراكيب تسمي الحوامل الضوئية(Photophores)، وتتوزع هذه الحوامل في أماكن معينة حسب إرادة الخالق لكل نوع من هذه الأسماك؛ حيث يحدث هذا النوع من التفاعل داخلها([28]).
 
صورة لسمكة مضيئة في أعماق البحار الحالكة الظلام
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:
 
قال سبحانه وتعالى: ) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور (40)((النور).
 
من أقوالالمفسرين في الآية:
 
أثبت القرآن وجود ظلمات في البحر العميق، وقيد وصف البحر بلفظ “لجي”؛ ليعلم قارئ القرآن أن هذه الظلمات لا تكون إلا في بحر لجي، أي عميق، ويخرج بهذا القيد البحر السطحي الذي لا توجد فيه هذه الظلمات.
 
وقد بين أهل اللغة والتفسير معنى لفظ “لجي”، فقال قتادة وصاحبا تفسير الجلالين: لجي: هو العميق، وقال الزمخشري: اللجي العميق كثير الماء، وقال البشيري: هو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء، والجمع لجج، والتجَّ البحر: إذا تلاطمت أمواجه.
 
قال تعالى) أو كظلمات في بحر لجي((النور:40)، قال الزمخشري: أي: ظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب. وقال الخازن: معناه أن البحر اللجي يكون قعره مظلمًا جدًّا؛ بسبب غمورة الماء. وقال المراغي: إن البحر يكون مظلم القعر جدًّا بسبب غمورة الماء.
 
وذكرت الآية أن للبحر العميق موجًا يغشاه من أعلاه، وأن هذا الموج فوقه موج آخر من فوقه سحاب، قال تعالى:) يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب((النور:40).
 
ومن ثم فقد أثبت القرآن دور الحوائل الثلاثة ـ السحب والموج السطحي والموج الداخلي ـ في تكوين الظلمات في البحار العميقة، وأن بعضها فوق بعض كما قال سبحانه وتعالى:
 
 ) يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ((النور:40)، وهو ما فهمه بعض المفسرين: قال الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية: ظلمة الموج الأول على ظلمة البحر، وظلمة الموج الثاني فوق الموج الأول، وظلمة السحاب على ظلمة الموج الثاني.
 
وقال الإمام ابن الجوزي في تفسيره: “ظلمات”؛ يعني ظلمة البحر وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب.
 
واستعمل القرآن لفظ “ظلمات” الذي تستعمله العرب للدلالة على جمع القلة، من الثلاثة إلى العشرة، فقبلها تقول: ظلمة وظلمتان، وبعدها تقول: إحدى عشرة ظلمة، ومن ثلاث إلى عشر تقول: ظلمات كما في الآية، وهذا ما كشفه العلم كما سبق بيانه: سبع ظلمات للألوان متعلقة بالأعماق، وثلاث ظلمات متعلقة بالحوائل (الموج الداخلي، والموج السطحي، والسحاب).
 
وبينت الآية التدرج في اشتداد الظلام في البحار العميقة باستعمال فعل من أفعال المقاربة وهو (كاد) وجعلته منفيًّا، قال تعالى:)إذا أخرج يده لم يكد يراها(([29])(النور:40).
 
إن تتمة هذه الآية الكريمة تقول:)ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور ((النور:40)،فإذا كانت الآية تتحدث عن ظلمات البحر وخصوصًا ظلمات البحر اللجي، فإن ما سوف يفهمه الإنسان هو الظلام الدامس، إلا أن هناك ربطًا بين الآية وهذا الشطر بالذات، فطالما أن الآية تتحدث عن الظلمات فما العلاقة بين الظلمات ثم التحول إلى:)ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور((النور:40)؟
 
إن ما تعنيه الآية هو إشارة لطيفة إلى أسماك الأعماق السحيقة حيث ينعدم ضوء الشمس؛ فقد زود الله هذه المخلوقات بالنور، فلكل جعل الله له مصابيح خاصة به، وهذا إعجاز علمي آخر([30]).
 
استحالة أن يتنبأ أي إنسان بما جاءت به الآية الكريمة:
 
على الرغم من أن الآية الكريمة جاءت في مقام التشبيه([31])، إلا أنها جاءت في صياغة علمية دقيقة غاية الدقة، ومحكمة غاية الإحكام، شأنها في ذلك شأن كل الآيات القرآنية، ونزلت هذه الآية الكريمة في زمن لم يكن لأحد من الناس إلمام بتلك الحقائق العلمية ولا بطرف منها، وظلت الأجيال جاهلة بها لقرون عدة بعد زمن الوحي حتى تم الإلمام بشيء منها في مطلع القرن العشرين.
 
وعلى افتراض أن أحدًا من الناس قد أدرك في القديم دور السحب في إحداث شيء من الظلمة على الأرض، ودور الأمواج السطحية في إحداث شيء من ذلك على قيعان البحار والمحيطات ـ وهو افتراض مستبعد جدًّا ـ فإن من أوضح جوانب الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة هو تلك الإشارة المبهرة إلى الأمواج الداخلية (InternalWaves)، وهي أمواج لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة أبدًا، ولكن يمكن إدراكها بعدد من القياسات غير المباشرة.
 
ومن جوانب السبق العلمي في هذه الآية أيضًا الإشارة إلى الحقيقة المعنوية الكبرى التي تصفها الآية بقول الحق تعالى: )ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور((النور:40)؛ فقد فاجأتنا البحوث العلمية أخيرًا بواقع مادي ملموس لتلك الحقيقة؛ فقد كان العلماء إلى عهد قريب جدًّا لا يتصورون إمكانية وجود حياة في أغوار المحيطات العميقة، أولا: للظلمة التامة فيها، وثانيا: للبرودة الشديدة لمائها، وثالثا: للضغوط الهائلة الواقعة عليها، ورابعا: للملوحة المرتفعة أحيانا لذلك الماء، ولكن بعد تطوير غواصات خاصة لدراسة تلك الأعماق فوجئ دارسو الأحياء البحرية بوجود بلايين الكائنات الحية التي تنتشر في تلك الظلمة الحالكة، وقد زودها خالقها بوسائل إنارة ذاتية في صميم بنائها الجسدي([32]).
 
نعم، في هذا الخضم الهائل والخطورة المتناهية والاضطرابات الفائقة وانعدام الضوء الذي يعتبر أساس الحياة، لا يمكن أن يتصور إنسان أن يكون هناك حياة بأي معنى، ولكن قدرة الله وعظمة تدبيره تفوق الوصف.
 
إن ظلمات البحار هي مكان كان يستحيل لأي إنسان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه البتة؛ لأن الإنسان لا يحتمل جسمه أن يغوص في الماء أكثر من 30 م؛ لأنه عند تجاوز هذا العمق يكون مستوى الضغط أربعة أضعاف الضغط الجوي؛ مما يجعل النيتروجين يذوب في الدماء ويؤثر في الجسم ويفقد السيطرة عليه، ومن المستحيل أن يصل إنسان بجسمه إلى عمق 100م أو 200م، فهذه الآيات أخبرتنا عن ظاهرة يبدأ ظهورها بعد 200م، فضلًا عن أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب بحرًا أصلا. ومجتمع النبي هو مجتمع صحراوي، ويخبرنا القرآن عن ظلمات توجد في أعماق البحار… في البحار العميقة وليست البحار السطحية، ويذكر لنا سبب تكون هذه الظلمات، ولم تكتشف هذه الظلمات ولم تكتشف أسبابها إلا برحلة طويلة جدًّا من البحث العلمي حتى تكاملت الاكتشافات فتقدمت الصورة، فوجد علماء البحار أن هناك ظلامًا شديدًا على بعد 300 : 500 م، ويشتد كلما نزلنا إلى أسفل لدرجة أن الغواصة إذا نزلت لا بد أن يكون معها آلات إنارة([33]).
 
وإذا كان الموج الداخلي قد اكتشفه البحارة الإسكندنافيون في عام 1900م، فإن الإنسان لم يتمكن من أن يعرف الظلمات إلا بعد عام 1933م بعد اكتشاف الغواصات كما ذكرنا. والغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بذلك رغم أن ما يحيط بالجزيرة العربية من الشرق هو الخليج العربي، وهو ليس بحرًا لـجيًّا، والبحر الأحمر من الغرب، وهو بحر داخلي قليل العمق، وبحر العرب من الجنوب وهو الآخر ليس بحرًا لجيًّا.
 
إنه لإعجاز حقًّا أن يخبرنا القرآن منذ ألف وأربع مئة عام بتلك الظاهرة؛ فالظلمات التي ذكرها القرآن لا توجد في البحار المحيطة بمهبط رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وموطنه، فمن كشف لمحمد صلى الله عليه وسلم هذه الأسرار؟ ومن كشف له عن ظلمات السحب في هذه المناطق التي يتميز مناخها بالاضطرابات والأعاصير وتراكم السحب السوداء في سمائها؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي أخبره عن طريق الوحي بكل ذلك، وجعله سهل الفهم على حسب مدارك ابن الصحراء، وابن عصر الفضاء على حد سواء([34]).
 
إن هذه الحقائق حين عرضت على البروفيسور (راو) وسئل عن تفسيره لظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وكيف أخبر محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام أجاب: “من الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة العلمية كان موجودًا في ذلك الوقت منذ ألف وأربع مئة عام، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة، ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جدًّا؛ ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علمًا بشريًّا بسيطًا، فلا يستطيع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل؛ ولذلك فقد فكرت في قوة خارقة للطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات من مصدر خارق للطبيعة”([35]).
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد ذكر القرآن الكريم معلومات دقيقة عن وجود ظلمات في البحار العميقة وأشار إلى سبب تكوينها، ووصفها بأن بعضها فوق بعض، ولم يتمكن الإنسان من معرفة هذه الظلمات إلا بعد عام 1930م.
 
وأخبر القرآن عن وجود موج داخلي في البحار لم يعرفه الإنسان إلا بعد عام 1900م، كما أخبر بأن هذا الموج الداخلي يغطي البحر العميق، الأمر الذي لم يعرف إلا بعد صناعة الغواصات بعد الثلاثينيات من القرن العشرين، كما أخبر القرآن عن دور الموج السطحي، والموج الداخلي في تكوين ظلمات البحار العميقة، وهو أمر لم يعرف إلا بعد تقدم العلم في القرون الأخيرة.
 
وما سبق من معلومات لم يكتشفه الإنسان إلا بعد أن ابتكر أجهزة للبحث العلمي تمكنه من الوصول إلى هذه الأعماق ودراسة هذه الظواهر، وبعد أن استغرق البحث مدة طويلة امتدت لثلاثة قرون من الزمن، واحتشد لها مئات الباحثين والدارسين حتى تمكنوا من معرفة تلك الحقائق. فمن أخبر محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذه الأسرار في أعماق البحار في وقت كانت وسائل البحث العلمي فيه معدومة، والخرافة والأسطورة هي الغالبة على سكان الأرض في ذلك الزمان، وبخاصة في مجال البحار؟! كيف جاءه هذا العلم الدقيق بهذه الأسرار، وهو الرجل الأمي في أمة أمية وبيئة صحراوية، ولم يتيسر له ركوب البحر طوال حياته؟
 
وأخيرا: نستطيع أن نجمل ما تدل عليه الآية الكريمة موطن الاشتباه فيما يأتي:
 
1.أن الظلام ينتشر في أعماق المحيطات.
أن مياه المحيطات تحوي الأمواج الداخلية.
أن هناك فوق الأمواج الداخلية طبقة مائية أخرى هي الطبقة السطحية التي تحوي الأمواج السطحية.
أن هذه الطبقات المائية تولِّد بالإضافة إلى الغيوم التي تعلوها طبقات من الظلام التدريجي.
أن ظاهرة الظلام تتزامن مع الأمواج الداخلية في المياه العميقة.
 
 
 
 
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
 
[1]. يزداد ضغط الماء على الغواص بمقدار ضغط جوي واحد كلما نزل إلى عمق عشرة أمتار.
 
[2]. عند نزول الغواص إلى هذه الأعماق فإن غاز النيتروجين يذوب في دمه تحت الضغط العالي، فإذا ما ارتفع الغواص نتيجة لفقدان السيطرة على حركته؛ فإن الضغط يخف، ويخرج غاز النيتروجين فائرًا كما تخرج الغازات الذائبة في قارورة المياه الغازية عند رجِّها.
 
[3]. في عام 1520م استطاع ماجلان أن يعبر المحيط الهادي بمساعدة ملك البرتغال، وفي عام 1522م تمكنت هذه السفن من أن تبحر حول العالم.
 
[4]. في عام 1872م تم إبحار السفينة تشالنجر في رحلة بحث علمية لدراسة البحار؛ مما ساعد على توفير معلومات علمية عن البحار.
 
[5]. في عام 1960م وفي الثالث والعشرين من يناير نزلت الغواصة (تريستا)، وهي عبارة عن كرة من الصلب جدارها يبلغ سمكه 9 سنتيمترات وبإمكانها الهبوط والصعود فقط، وعلى متنها كلٌّ من: دونالد والش وجاكوى بيكارد، وبعد أربع ساعات من الهبوط لمسافة 11 كم تم الوصول لأعمق منطقة في المحيط الهادي (خانق مريانا)، واكتشف الإنسان لأول مرة بواسطة هذه الغواصة وجود براكين تحت الماء وعيون ماء حارة وكثير من الأحياء المائية.
 
[6]. في عام 1962م تمكن غواصون من البقاء لمدة أسبوع في أول غرفة تشبع “كونشلف” (La)، وهي بيوت مائية للغواصين.
 
[7]. في عام 1977م تم اكتشاف وجود حياة في فوَّهات أعماق البحار، وعثرت مركبة (نوتايل) على فوهات في أعماق البحر قرب المكسيك يتدفق منها الماء وهو في درجة 350 °م، وحين يرتفع ماؤها فوق الصخور يتفاعل مع المعادن؛ ليتحول إلى اللون الأسود ويصبح شبيهًا بالمدخنة، كما تم صناعة غواصة الأبحاث الأمريكية (ألفين) القادرة على الغوص إلى عمق 3650م.
 
[8]. في عام 1995م صمَّم البريطاني روبرت ليدز غواصة صفراء تشبه الصحن الطائر، مُعدَّة للاستخدام التجاري، ويمكن بها مراقبة الأسماك على عمق يصل إلى خمسين مترًا.
 
[9]. لم يكن باستطاعة الغواصات الصغيرة التي تعمل بالبطاريات البقاء مغمورة في الماء أكثر من بضعة أيام؛ لذا قام الإنسان بصناعة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية والتي يمكنها البقاء لأكثر من سنتين، وهي كبيرة الحجم وتحمل طاقمًا كبيرًا، وتعتبر الغواصة الروسية (تايفون) من أكبر الغواصات؛ إذ تزن أكثر من 25 ألف طن، وطولها 172 مترًا، والغواصة الروسية كورست التي غرقت في أغسطس 2000م ـ وهي تزن 18 ألف طن ـ على متنها 118 فردًا في بحر بارنتس.
 
[10]. ذكر وليارد باسكوم (Willard Bascom) عن أمواج المحيط: “إنها على قدر كبير من التعقيد بحيث إن ملاحظات البحَّارة والمسافرين بحرًا لم تقدِّم أيَّ تعليل يزيد على القول بأن الرياح تؤدي إلى تكوُّن الأمواج بطريقة ما. أما حركات المحيطات فقد كانت أعقد من أن يفهمها التفكير الحدسي”.
 
[11]. بيِّنات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، دار الإيمان، مصر، 2006م، ص111: 117 بتصرف.
 
[12]. الأمواج الداخلية وظلمات البحر العميقة، عبد المجيد الزنداني و د. وليام هاي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، السعودية، العدد (20)، محرم 1426هـ، ص57.
 
[13]. هناك بعض الحوادث المسجَّلة والتي نتجت عن هذه الأمواج الداخلية والأمواج السطحية التابعة لها؛ ففي 11 مارس 1861م، سجلت موجة ارتفاعًا قدره 40 مترًا على الشاطئ الغربي لأيرلندا، دمرت فنارًا ارتفاعه 26 مترًا. وفي يناير 1909م اختفت سفينة لأحد الخطوط الملاحية تُسمَّى واراتا (waratah) حمولتها 1600 طن. وغير ذلك من الحوادث التي كان فيها اختفاء غامض للعديد من عابرات المحيطات، وحتى طائرات الهليوكبتر التابعة لحرس الحدود الأمريكي التي كانت تطير على مستويات منخفضة قريبًا من سطح المحيط.
 
[14]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[15]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[16]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان التفتنازي، مرجع سابق، ص379.
 
[17]. الأمواج الداخلية وظلمات البحر العميقة، عبد المجيد الزنداني و د. وليام هاي، مرجع سابق، ص56 وما بعدها.
 
[18]. من المعروف الآن أن كمية الضوء التي تنفذ إلى أعماق البحار تتناقص تناقصًا رأسيًّا وفقًا لما يراه (جيرلوفJerlov ) فينخفض مستوى الإضاءة في مياه المحيطات المكشوفة إلى نسبة10% عند عمق 35م، من السطح وإلى 1% عند عمق 135م، وإلى 0.1% عند عمق 190م، وإن أفاد بعض الذين قاموا بالدراسة والمراقبة من الغواصات لمدد طويلة أنهم تمكنوا من رؤية الضوء في أعماق تزيد على ذلك، ويرى كلٌّ من (كلارك) و(دنتون) أن الإنسان يستطيع أن يرى الضوء المنتشر على عمق850 م، ومن الواضح أن الأسماك التي تعيش في أعماق البحار ترى أفضل من ذلك إلى حد ما، وهي قادرة على اكتشاف الضوء المنتشر حتى عمق 1000متر مع أن شدة الضوء عند هذا العمق تبلغ (1x 10 ـ 13 من شدته عند السطح).
 
[19]. بيِّنات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، مرجع سابق، ص117.
 
[20]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[21]. )أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ((النور:40) ، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org .
 
[22]. الأطوال الموجية:
 
اللون
التردد
الطول الموجي
بنفسجي
Violet
1014 ´ 7,69 – 6,59
10 – 7 ´ 3,90 – 4,55
أزرق
Blue
6,59 – 6,10
4,55 – 4,92
أخضر
Green
6,10 – 5,20
4,92 – 5,77
أصفر
Yellow
5,20 – 5,03
5,77 – 5,97
برتقالي
Orange
5,3 – 4,82
5,97 – 6,22
أحمر
Red
4,82 – 3,84
6,22 – 7,80
 
[23]. بينات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، مرجع سابق، ص119، 120.
 
[24]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[25]. بينات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، مرجع سابق، ص121.
 
[26]. هناك أنواع أخرى من هذه الكائنات لا تملك هذه الحوامل، فينعم الله عليها بأن يجعل نوعًا من البكتيريا المضيئة بذات الطريقة تتعايش معها على سطحها أو بين ثنايا الجلد؛ فينبعث منها الضوء فترى السمكة نتيجة الضوء المنبعث من البكتيريا والفطريات.
 
[27]. من أشهر أنواع هذه الأسماك:
 
سمكة المصباح Lantern:
 
تعيش في المحيطات على أعماق سحيقة (1200: 3000 قدم)، ولكنها تقترب من السطح أثناء الليل بحثًا عن الغذاء، وتحمل مجموعة من الحوامل الضوئية المركزة أسفل الرأس وعلى سطح البطن، والضوء المنبعث لونه أزرق مخضرٌّ، وتستخدمه السمكة لجذب فرائسها من السمك.
 
سمكة الفأس Hatchet Fish:
 
تعيش أيضًا على أعماق كبيرة وتحمل الحوامل الضوئية على سطحها البطني، وينبعث منها إضاءة شديدة تعمل ككشافات تشوِّش على باقي الأسماك، فتبتعد عنها ولا تفترسها، فهذا الضوء هو وسيلة الدفاع الوحيدة لهذه السمكة.
 
سمكة الثعبان Uiper Fish:
 
توجد على أعماق من 80: 1600م تحت سطح الماء، ويوجد على زعنفتها الظهرية حوامل ضوئية تنتج ضوءًا مبهرًا يعمل على جذب الأسماك الأخرى، ثم تقوم بالهجوم والتغذية عليها.
 
سمكة التنِّينDragon Fish:
 
هذه السمكة لا يوجد بها حوامل ضوئية، ولكن أجسامها تحمل مجموعة من البكتيريا.
 
[28]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[29]. بينات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، مرجع سابق، ص123: 125 بتصرف. وانظر: الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان التفتنازي، مرجع سابق، ص373، 374.
 
[30]. أمواج البحر اللجي، مجدي عبد الشافي عبد الجواد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[31].)وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)( (النور).
 
ففي المشهد الأول يرسم أعمالهم كسراب في أرض مكشوفة مبسوطة، يلتمع التماعًا كاذبًا، فيتبعه صاحبه الظامئ، وهو يتوقع الري غافلًا عما ينتظره هناك… وفجأة يتحرك المشهد حركة عنيفة، فهذا السائر وراء السراب، الظامئ الذي يتوقع الشراب، الغافل عما ينتظره هناك… يصل، فلا يجد ماء يرويه، إنما يجد المفاجأة المذهلة التي لم تخطر له ببال، المرعبة التي تقطع الأوصال، وتورث الخبال: )وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ((النور:39)! الله الذي كفر به وجحده، وخاصمه وعاداه، وجده هنالك ينتظره! ولو وجد في هذه المفاجأة خصمًا له من بني البشر لروَّعه، وهو ذاهل غافل على غير استعداد، فكيف وهو يجد الله القوي المنتقم الجبار؟ )فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ(… هكذا في سرعة عاجلة تتناسق مع البغتة والفجاءة، )وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)((النور)… تعقيب يتناسق مع المشهد الخاطف المرتاع!
 
وفي المشهد الثاني تطبق الظلمة بعد الالتماع الكاذب؛ ويتمثَّل الهول في ظلمات البحر اللجي، موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، وتتراكم الظلمات بعضها فوق بعض، حتى ليخرج يده أمام بصره فلا يراها لشدة الرعب والظلام! إنه الكفر ظلمة منقطعة عن نور الله الفائض في الكون، وضلال لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، ومخافة لا أمن فيها ولا قرار )وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)((النور) ، ونور الله هدًى في القلب؛ وتفتُّح في البصيرة؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض، فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه، ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان، إن هدى الله هو الهدى، وإن نور الله هو النور. (في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، ص2521).
 
[32]. )أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ( (النور:40) ، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[33]. آيات الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1428هـ/ 2008م، ص94.
 
[34]. الماء والحياة بين العلم والقرآن، عبد العليم عبد الرحمن خضر، الدار السعودية، جدة، ط1، 1985م، ص196.
 
[35]. بيِّنات الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، عبد المجيد الزنداني، مرجع سابق، ص126.

 دعوى خطأ القرآن في وصفه منطقة المصب والحواجز بين البحار

مضمون الشبهة:

أثار الطاعنون حول قوله تعالى:)وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان)، وقوله تعالى:)مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) شبهات عدة، وقد جاءت طعونهم مرتكزة إلى المحاور الآتية:

لقد أخطأ القرآن حينما استعمل لفظة [البحرين] للدلالة على المياه العذبة والمالحة؛ إذ لا يوجد بحر عذب فرات.
ماذا تقصد الآيات بالماء العذب والماء المالح؟ هل مياه الأمطار أو الآبار أو الأنهار أو البحار؟
ألفاظ [برزخًا، حجرًا محجورًا، لا يبغيان] تعني عدم الامتزاج بأية حال من الأحوال، وهذا مخالف لما يحدث.
عرف محمد ظاهرة مصبات الأنهار في البحار من البحارة أو الصيادين أو الحجاج.
ذكرت الآيات أن اللؤلؤ والمرجان يستخرجان من المياه العذبة، وهذا غير صحيح.
ما الذي جعل المفسرين يتخبطون عشوائيًّا عند تفسيرهم هذه الآيات؟

ومن ثم فليس في الآيات إلا تدليسات وأقوال كاذبة.

وجها إبطال الشبهة:

1)   لا مسوغ للطاعن فى تخطئة القرآن في استعماله لفظة [البحرين] للدلالة على الماء العذب والماء المالح بحجة أنه لا يوجد بحر عذب؛ ذاك أن لفظة [البحر] في لغة العرب تطلق على كل من البحر المالح والبحر العذب [النهر]، دلت على ذلك الشواهد من القرآن والشعر ومعاجم اللغة؛ قال ابن منظور: “البحر: الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا وهو خلاف البر”، وقال الراغب في المفردات: “أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير”.

2)   إذا علمنا أن قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) يصف اللقاء بين البحار المالحة وليس بين البحر والنهر ـ بطل ما آثاره الطاعن من شبهات؛ فإذا كان العلماء يقولون إن اللؤلؤ والمرجان يستخرجان من المياه المالحة، فإن هذا ما قالت به الآية. كما أن الحاجز بين البحرين ـ سواء المالحين أو المالح والعذب ـ لايمكن رؤيته بالعين المجردة حتى يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه من البحارة، فلم يتمكن العلماء من رؤيته إلا باستخدام آلات التصوير الحراري منذ عقود قليلة. أما بخصوص المفسرين فلم يتح لهم في العصور القديمة الإحاطة بالتفاصيل العلمية التي ألمحت إليها الآيات، ومع ذلك فقد ذهب أكثرهم إلى أن الحاجز بين البحرين غير مرئي.

التفصيل:

أولا. لفظة “البحرين” دقيقة جدًّا في موضعها:

1) الحقائق العلمية:

مع تقدم العلم وانطلاقه لاكتشاف أسرار الكون أخذ الإنسان يبحث عن كيفية اللقاء بين البحر والنهر، ودرس عينات من الماء حيث يلتقي النهر بالبحر، ودرس درجات الملوحة والعذوبة بأجهزة دقيقة، وقاس درجات الحرارة، وحدد مقادير الكثافة، وجمع عينات من الكائنات الحية وقام بتصنيفها، وحدد أماكن وجودها، ودرس قابليتها للعيش في البيئات النهرية والبحرية. وبعد مسح لعدد كبير من مناطق اللقاء بين الأنهار والبحار اتضح للعلماء بعض الأسرار التي كانت محجوبة عن الأنظار، واكتشف الباحثون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

مياه الأنهار، وهي شديدة العذوبة.
مياه البحار، وهي شديدة الملوحة.
مياه في منطقة المصب مزيج من الملوحة والعذوبة، وهي منطقة فاصلة بين النهر والبحر متحركة بينهما بحسب مد البحر وجذره، وفيضان النهر وجفافه، وتزداد الملوحة فيها كلما قربت من البحر، وتزداد درجة العذوبة كلما قربت من النهر.

كما اتضح للعلماء ما يأتي:

يوجد برزخ مائي يحيط بمنطقة المصب ويحافظ على هذه المنطقة بخصائصها المميزة لها، حتى ولو كان النهر يصب إلى البحر من مكان مرتفع في صورة شلال.

عدم اللقاء المباشر بين ماء النهر وماء البحر في منطقة المصب على الرغم من حركة المد والجزر وحالات الفيضان والانحسار التي تعتبر من أقوى عوامل المزج؛ لأن البرزخ المحيط بمنطقة المصب يفصل بينهما على الدوام.

يمتزج ماء النهر بماء البحر بصورة بطيئة مع وجود المنطقة الفاصلة من مياه المصب والبرزخ المائي الذي يحيط بها ويحافظ على وجودها.

تختلف الكتل المائية الثلاث [ماء النهر ـ ماء البحر ـ ماء المصب] في الملوحة والعذوبة، وقد شاهد الباحثون الذين قاموا بتصنيف الكائنات الحية الموجودة فيها ما يأتي:

o     معظم الكائنات التي في البحر والنهر والمصب لا تستطيع أن تعيش في غير بيئتها.

o     وبتصنيف البيئات الثلاث باعتبار الكائنات التي تعيش فيها تعتبر منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها؛ لأن هذه الكائنات لا تستطيع أن تعيش إلا في الوسط المائي نفسه المتناسب في ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط الأسموزي([1]) في تلك الكائنات، وتموت إذا خرجت من المنطقة المناسبة لها، وهي منطقة المصب، وهي في الوقت نفسه منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية التي تعيش في البحر والنهر؛ لأن هذه الكائنات تموت إذا دخلتها([2]).

ويمكن أن يمتد تأثير المياه العذبة على المياه المالحة لمئات الكيلو مترات في البحر. وعلى الرغم من وجود كثير من مصبات الأنهار في العالم، إلا أنه لا يوجد برزخ يشبه الآخر! فكل برزخ يتميز بخصائص محددة عن غيره تتبع الاختلاف في درجة الملوحة، والاختلاف في درجة الحرارة، وهذا يتبع درجة ملوحة ماء البحر وطول النهر، وغير ذلك من العوامل مثل: درجة الحموضة (PH)، وكمية العوالق في ماء النهر، وسرعة تدفقه([3]).

صورة بالأقمار الاصطناعية لمصب نهر في الأرجنتين، وتظهر منطقة الحجر المحجور بشكل واضح والتي تفصل بين النهر العذب والبحر المالح

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:

قال تعالى:  )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان)، وفي هذا توضيح لامتزاج الماء العذب بماء البحر المالح مع وجود حاجز بينهما، وأن منطقة امتزاجهما محمية ببعض القيود على ما يدخل إليها أو يخرج منها، وهذا يتطابق مع ما أثبته العلم الحديث؛ حيث وصف القرآن البحرين (العذب والمالح) بأوصاف لم يكتشفها العلماء إلا في القرون الأخيرة.

يقول العلماء: إن هنالك خلطًا ومزجًا مستمرًّا للماء المالح بالماء العذب، وهذا الخلط لا يتوقف أبدًا؛ إذ إن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم، ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما سماها القرآن بالبرزخ.

شكل يوضح البرزخ المائي في مصب نهر فرايزر في مقاطعة كولومبيا البريطانية

نرى في الشكل السابق كيف تتشكل الجبهة المالحة، والتي تعتبر بمثابة حاجز محكم تمر من خلاله المياه العذبة إلى المياه المالحة، ونرى أيضًا كيف يطفو الماء العذب على سطح الماء المالح، وعندما درس العلماء جريان الماء في هذه المنطقة وجدوه جريانًا مضطربًا، مع العلم أن الذي ينظر إلى الماء يظنه ساكنًا، وهذا يتوافق تمامًا مع قوله تعالى: )مرج البحرين( (الرحمن: ١٩)، ولكلمة مرج في اللغة معنيان: الخلط والاضطراب([4]).

وقبل أن نشرع في الرد على ما أثاره الطاعنون حول هذه الآية، لا بد أن نعرض للمعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية؛ لأننا سنعتمد عليها كثيرًا في ردنا.

المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية:

o     اللفظ “مرج” يأتي بمعنيين بارزين: الأول: الخلط؛ قال تعالى: )بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)( (ق)، وجاء في لسان العرب: “أمر مريج؛ أي: مختلط”([5]). وقال الأصفهاني في المفردات: “أصل المرج: الخلط”([6])، وقال الزبيدي: “ومرج الله البحرين العذب والمالح: خلطهما حتى التقيا”([7]).

وقال ابن جرير الطبري: “والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه. وأصل المرج: الخلط، ومنه قول الله: )في أمر مريج (5)((ق)؛ أي: مختلط. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: )مرج البحرين((الرحمن: ١٩) يعني: خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر. وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس”([8]).

الثاني: مجيء وذهاب واضطراب: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: “الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب. وقال: مرج الخاتم في الأصبع: قلق. ومنه الحديث «ومرجت أمانات القوم وعهودهم»: اضطربت واختلطت”([9]).

o     والبحر العذب: هو النهر، ووصفه القرآن الكريم بوصفين: عذب، وفرات، ومعناهما: أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف [فرات]، وبهذا الوصف خرج ماء المصب الذي يمكن أن يقال: إن فيه عذوبة، ولكن لا يمكن أن يوصف بأنه فرات.

وما كان من الماء ملحًا أجاجًا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن بوصفين: ملح، وأجاج (شديد الملوحة)، وبهذا خرج ماء المصب لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة فلا ينطبق عليه وصف ملح أجاج.

وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث:

    هذا عذب فرات: ماء النهر.

    وهذا ملح أجاج: ماء البحر.

    وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا، والبرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب، فما هو الحجر المحجور؟

o     الحِجْر والحَجْر: المنع والتضييق([10]). ويسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي([11]). قال تعالى:(هل في ذلك قسم لذي حجر (5)((الفجر)، والسفيه يحجر عليه القاضي من التصرف في ماله فهو في حجر أو حجر([12])، وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي:”لقد تحجرت واسعًا”؛ أي: ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك([13]).

ونستطيع أن نفهم الحجر هنا: بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر.

ووصفت هذه المنطقة أيضا بأنها محجورة؛ أي: ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلًا عن الأول؛ أي: إنها أيضًا ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها، فهي: حجر على الكائنات التي فيها، محجورة على الكائنات الحية بخارجها. ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين النهر والبحر برزخًا مائيًّا هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسًا على كائناته الحية ممنوعًا على الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.

ونعود الآن إلى الطعون المثارة حول الآية، وأول ما يقابلنا قول الطاعن: لقد أخطأ القرآن الكريم حينما استعمل لفظة “البحرين” للدلالة على المياه العذبة والمالحة، وكان من الأولى أن يقول: “مرج النهر والبحر”؛ فالأنهار هي التي تحوي المياه العذبة فلا يوجد بحر عذب فرات.

وردا على ذلك نقول: البحر يطلق في لغة العرب على الماء الكثير الواسع الممتد ملحًا كان أو عذبًا، وقد استخدمه القرآن بالمعنيين، ووردت الكلمة مفردة 33 مرة، ومثناة 5مرات، وجمعًا على بحار مرتين، وعلى أبحر مرة واحدة، فيكون مجموع ورودها في القرآن الكريم 41 مرة، وسمي “البحر” كذلك لعمقه واتساعه وانبساطه، ومنه قيل للعالم الواسع العلم: بحر([14]).

وقد ورد إطلاق البحر على الماء العذب في أشعار العرب، ثم غلب على الماء المالح وقل إطلاقه على الماء العذب، كما ورد في لسان العرب وتاج العروس وغيرهما من المعاجم، ولا يزال يطلق على بعض روافد النيل اسم البحر، مثل: بحر الجبل، وبحر الزراف، وبحر الغزال، كما سمي أحد فروع النيل المتجه إلى منخفض الفيوم باسم “بحر يوسف”.

أما حين وردت كلمة “البحر” مثناة في القرآن فقد أريد بها البحر والنهر أو الماء المالح والعذب على سبيل التغليب، كما في قوله تعالى: )وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج((فاطر: ١٢)، وقوله تعالى:)وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان).

وهناك آيتان تشيران إلى امتزاج الماء المالح من بحر بالماء المالح من بحر آخر ـ كما رجح العلماء ـ وذلك في قوله تعالى: )مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن).

وهناك آية رابعة تشير إلى الحالتين معا، وهي التقاء الماء العذب بالمالح “نهر مع بحر”، والمالح بالمالح “بحر مع بحر”، وهي قوله تعالى:)أمن جعل الأرض قرارً وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزًا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61)( (النمل).

ومن ثم فقد استخدم القرآن كلمة “البحرين” للدلالة على ما نعرفه بالنهر والبحر؛ إذ البحر في اللغة هو الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا.

وكلمة “البحرين” في الآية للتغليب، وهي من قبيل قولنا: “الأولاد” للأبناء من الأولاد والبنات، و “الأبوان” للأب والأم، و “الأسودان” للتمر والماء، قال الراغب في المفردات: أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير… وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء المالح دون العذب، وقوله تعالى عن البحرين: )هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج( (فاطر:12) إنما سمي العذب بحرًا لكونه مع الملح كما يقال للشمس والقمر: قمران، وقيل للسحاب الذي كثر ماؤه: نبات بحر([15]).

ومن الشواهد في هذا السياق قوله عز وجل: )أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)(  (المائدة)، ومعروف أن السمك يخرج من البحر والنهر كليهما لا من البحر فقط. وقوله تعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)((الأنعام)؛ فقد وضع الله تعالى البحر مقابل البر مما يدل على أن المقصود به البحر والنهر معًا.

وفي كتاب “الحيوان” للجاحظ نجد هذه العبارة: “ومررت به وهو جالس في يوم غمق حار ومد، على باب داره في شروع نهر الجوبار بأرديه، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه”، فالمتأمل في العبارة يجد أنه قد ذكر أولا النهر، ثم أطلق عليه بعد ذلك بحرًا.

ويقول القاضي التنوخي في كتابه “الفرج بعد الشدة”: “فلا شدة أعظم من أن يبتلى الناس بملك يذبح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها في البحر مع طفوليته، ولا شدة أعظم من حصول طفل في البحر”.

ويقول الشابشتي في كتابه “الديارات” واصفًا “دير طمويه”: “وطمويه في الغرب بإزاء حلوان، والدير راكب البحر، وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر، فهو نَزِهٌ عامر آهل، وله في النيل منظر حسن، وحين تخضر الأرض فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع”، والمقصود بالبحر في قولي القاضي التنوخي والشباشتي هو نهر النيل كما هو واضح.

وفي الشعر أيضًا كثيرًا ما استُخدم البحر للدلالة على الماء العذب، وثمة أمثلة كثيرة جدًّا، نذكر منها قول الشاعر المصري ظافر الحداد:

تأملت بحر النيل طولا وخلفه  ***    من البرك الغناء شكل مدورُ

وقول الشاعر ابن الرومي:

هو بحر من البحور فرات ****    ليس ملحًا وليس حاشاه ضحْلا

وقول البحتري:

بحر متى تقف الظماء بموردٍ     ****     منه بطِيب لهم جداه ويعذبُ([16])

وكان حريًّا بالطاعن أن يتعلم أولا قواعد اللغة العربية وأحكامها، ومدلولات ألفاظها قبل أن ينزلق إلى وصف القرآن الكريم ـ وهو كلام الله المنزه عن كل خطأ ـ بأن به أخطاء وهفوات عظيمة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن العلماء عندما درسوا البحار وجدوا أن الأنهار ليست هي المصدر الوحيد للمياه العذبة؛ حيث توجد في قاع المحيطات خزانات ضخمة للمياه العذبة تتدفق باستمرار من هذا القاع، وهذه الخزانات يبلغ حجمها أضعاف ما يضخه النهر في البحر.

ومن هنا ندرك لماذا قال الله تعالى: )مرج البحرين((الرحمن: ١٩) ولم يقل: “النهر والبحر”؛ فثمة بحر عذب وخفي لا نراه بأعيننا ولكنه موجود، فالأقمار الاصطناعية التي قامت بتصوير هذه المحيطات والخلجان بالأشعة تحت الحمراء، تظهر وجود هذه الينابيع التي تمتزج بشكل دائم مع المياه المالحة.

إذا دققنا في الصورة السابقة لاحظنا أن ماء النبع العذب يتلون بلون آخر يدل على أن هذه المنطقة تحوي مياه عذبة باردة في الغالب([17]).

 ومن ثم فإن كلمة “البحرين” دقيقة جدًّا في موضعها على عكس ما ادعاه الطاعن.

ويضيف الطاعن إلى الاعتراض السابق اعتراضًا آخر قائلا: الآيات واضحة في ذكر نوعين من المياه أحدهما مالح والآخر عذب، لكن الشيء الغامض هو أية مياه؟ أمياه الأمطار أو الآبار أو الأنهار أو البحار؟

ويمكن القول ـ ردا على ذلك ـ : إن عملية امتزاج الماء المالح بالماء العذب لا تقتصر على الأنهار؛ فهنالك مياه مختزنة تحت الأرض أيضًا تتدفق وتمتزج بمياه البحر، وتبلغ كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية 23.4 مليون كيلو متر مكعب، بينما تبلغ كمية الماء الموجودة في جميع أنهار العالم 2.12 ألف كيلو متر مكعب، ويبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة 91 ألف كيلو متر مكعب، ويمكن القول بأن حجم الماء المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار 250 ضعفًا.

 رسم يوضح دورة امتزاج الماء العذب بالماء المالح

فالأنهار والينابيع والمياه الجوفية تشارك في هذه العملية مع ماء البحر([18])؛ ومن ثم فإن البيان الإلهي قد جاء معبرًّا تعبيرًا دقيقًا عن المعنى المراد: )مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج( (الفرقان: ٥٣)، قال ابن كثير: “فالحلو كالأنهار والعيون والآبار”([19]).

ثانيا. آية الرحمن تصف اللقاء بين البحار المالحة:

1) الحقائق العلمية:

لقد توصل علماء البحار ـ بعد تقدم في هذا العصر ـ إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين المالحين كما يأتي:

هناك بين البحرين برزخ يتحرك بينهما، يسميه علماء البحار (الجبهة)، وبهذا يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة.
وهناك اختلاط بين البحرين رغم وجود هذا البرزخ لكنه اختلاط بطيء يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يتحول إلى خصائص البحر الذي ينتقل إليه، دون أن يؤثر على تلك الخصائص.
اكتشف علماء البحار سر اختلاف تركيب البحار المالحة في عام (1284هـ/ 1873م) على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة (تشالنجر)، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كانت هذه الأسرار ثمرة رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام وهي تجوب في جميع بحار العالم.
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يفصل مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام؟

ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام (1361هـ/ 1942م)، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن وجود خواص مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة، والأحياء المائية، والحرارة، وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، ويكون الاختلاط بين ماء البحار عبر هذه الحواجز بطريقة بطيئة، يتحول معها الماء الذي يعبر الحاجز إلى خصائص البحر الذي دخل فيه، وهكذا يحدث الاختلاط بين البحار المالحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحددة بوجود تلك الحواجز المائية بين البحار، وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المالحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الاصطناعية.

وقد جاء في بحث الظواهر البحرية ما يأتي([20]):

إن مياه البحار على الرغم من أنها تبدو متجانسة إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين بعض الكتل المائية في بعض مناطق البحار العالمية، وتتحرك هذه الكتل على شكل وحدات متفرقة تفصلها عن بعضها البعض حدود واضحة وتحتفظ بخواصها رغم تحركها إلى مسافات بعيدة دون أن تمتزج مع بعضها.

وهناك نقطة مهمة أخرى، وهي الفرق الدقيق بين نوعي الحاجز كما ظهر بالدراسات العلمية الحديثة ووصف وصفا دقيقا؛ إذ لا توجد بين الكتل المائية في البحار منطقة محدودة كتلك التي توجد في منطقة المصب، ومن المهم جدا أن نجد ذكرًا للؤلؤ والمرجان في هذه المنطقة من البحار، وأن لا نجد مثل ذلك عند بحث (التقاء المياه العذبة مع المياه المالحة)، ويدل ذلك على أن اللؤلؤ والمرجان يتكونان في المناطق البحرية النقية ولا يتكونان في مناطق امتزاج المياه العذبة مع مياه البحر، وتؤكد الدراسة البحرية الحديثة أن المرجان يوجد فقط في المناطق المدارية ـ دون الاستوائية ـ غير الممطرة أو قليلة المطر، ولا ينمو في مناطق المياه العذبة.

وللباحث محمد إبراهيم السمرة ـ الأستاذ بكلية العلوم، قسم علوم البحار، جامعة قطر ـ دراسة ميدانية في خليج عمان (الخليج العربي) ذكر فيها نتائج دراسات كيميائية قامت بها سفينة البحوث (مختبر البحار) التابعة لجامعة قطر، في الخليج العربي وخليج عمان في الفترة (1984/ 1986م)، وتضمن البحث مقارنة واقعية بين الخليجين بالأرقام والحسابات والرسومات والتحليل الكيميائي، وبين اختلاف خواص كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية، والنباتات السائدة في كل منهما، ووضح البحث وجود منطقة بين الخليجين تسمى في علوم البحار: “منطقة المياه المختلطة” (MixedـWater Area ) (منطقة البرزخ).

وبينت النتائج أن عمود الماء في هذه المنطقة يتكون من طبقتين من المياه، إحداهما سطحية أصلها من خليج عمان، والأخرى سفلية أصلها من الخليج العربي، أما في المناطق البعيدة والتي لا يصل إليها تأثير عملية الاختلاط (Mixing) بين الخليجين، فإن عمود الماء يتكون من طبقة واحدة متجانسة وليس من طبقتين، وأكدت النتائج أنه على الرغم من هذا الاختلاط (في المناطق التي بها مياه مختلطة)، وتواجد نوعين من المياه فوق بعضهما البعض، فإن حاجزًا ثابتًا له استقرار الجاذبية وقوتها(Gravitational Stability) يقع بين طبقتي المياه، ويمنع مزجهما أو تجانسهما؛ حيث يتكون بذلك مخلوط غير متجانس (Heterogeneous Mixture)، وأوضحت النتائج أن هذا الحاجز إما أن يكون في الأعماق (من 10 إلى 50 مترًا) إذا كان اختلاط مياه الخليجين رأسيًّا؛ أي أحدهما فوق الآخر، وإما أن يكون هذا الحاجز على السطح إذا تجاوزت المياه السطحية لكل من الخليجين([21]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:

لقد أشار القرآن الكريم إلى الحقيقة العلمية التي ذكرناها آنفا والتي لم يتوصل إليها العلم إلا في العقود الأخيرة ـ في قوله تعالى: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان(20)((الرحمن)؛ فقد ذكر القرآن أن ثمة حواجز في البحار المالحة نفسها، وهي تشبه الحواجز التي توجد بين البحار ومصبات الأنهار.

المعاني اللغوية وأقوالالمفسرين في الآية:

o     البحرين: قال ابن فارس: “قال الخليل: سمي البحر بحرًا لاستبحاره وهو انبساطه وسعته.. ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبة استبحر، وماء بحري؛ أي: ملح”([22]). وقال الراغب الأصفهاني: “وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء الملح دون العذب”([23]). وقال ابن منظور: “وقد غلب على الملح حتى قل في العذب”([24]).

فإذا أطلق البحر دل على البحر الملح، وإذا قيد دل على ما قيد به، والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة، ويطلق البحر ليدل على البحر الملح، قال تعالى: )وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار(32)(  (إبراهيم).

o     البرزخ: هو الحاجز: وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه لا يرى.

o     البغي: قال ابن منظور: “وأصل البغي مجاوزة الحد”([25]).

ولقد آثار الطاعنون عدة شبهات حول قوله تعالى: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)( (الرحمن)، وقوله تعالى: )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53)((الفرقان).

فمن ناحية أولى: يقول الطاعن: لو كان المقصود هو مياه الأنهار التي تصب في البحار وتبقى محافظة على عذوبتها لمسافة معينة وسط مياه البحار المالحة، فلماذا استعمل القرآن الكلمات: “لا يبغيان”، و”برزخًا وحجرًا محجورًا”؟ ألا تعني أن المياه لا يمكن أن تلتقي أو تمتزج البتة؟ فالمفهوم من هذه الآيات هو أن هذه المياه لن تمتزج بأية حال من الأحوال؛ فالبرزخ معناه الفاصل والحاجز، والحجر هو المانع والفاصل أيضًا.

لكن من المعلوم أن مياه الأنهار عندما تصب في البحار لا تمتزج بها لأول وهلة، ولكن بعد مدة جد قصيرة تختلط هذه المياه بمياه البحر وتصير ماء واحدًا، فالحاجز الوحيد إذا حاجز زمني، وهذا مخالف للحاجز المادي الذي يذكره القرآن.

وما قاله الطاعن غير صحيح؛ ذاك أن المولى عز وجل  قد ابتدأ الآيات بكلمة “مرج”، ولكن هذا المرج أو الخلط دون امتزاج كامل، ولم يقل القرآن إنه لا يحدث بينهما امتزاج البتة كما بالغ الطاعن.

ومن ناحية ثانية: يقول الطاعن: أليست هذه الحقيقة ظاهرة طبيعية معروفة لدى كل صياد بسيط يصيد في نهر عذب يصب ماؤه في بحر مالح؟ لقد قام محمد برحلات تجارية في خدمة خديجة، وسافر حتى حلب، ولعله في رحلة من هذه ذهب إلى ساحل سوريا أو لبنان، وسمع من بحار عن عدم امتزاج الماءين المالح والعذب.

وإذا صدق الإعجاز في النصف الأول من الآية ـ: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) ـ فهل يصدق أيضًا في النصف الثاني منها، والذي يقول: إن اللؤلؤ والمرجان يخرجان منهما (أي العذب والمالح) وهو يخالف الحقائق العلمية؟

وهذا القول مردود مثل سابقه؛ ذاك أنه يستحيل رؤية البرزخ بالعين المجردة؛ فالبعثات البحرية العلمية لم تستطع أن ترى منطقة المصب، ولا الاختلاف في تركيب منطقة البرزخ بين البحرين المالحين إلا بالأقمار الاصطناعية في القرن العشرين، وبعد رحلات وأبحاث ودراسات مضنية استعانوا فيها بألات التصوير الحراري التي لم يكن لها أي وجود قبل العقود الأخيرة في القرن العشرين.

ولقد دل الوصف التاريخي ـ في أول البحث عن تطور علوم البحار ـ على عدم وجود أية معلومات علمية في هذا الموضوع قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وقبل ذلك كان البحر مجهولًا مخيفًا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم.

وما عرف الإنسان البرزخ إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية، وما عرف أن ماء البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في الوقت نفسه إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء، وقام بتحليل الكتل المائية.

وكان العلماء يسألون بعض البحارة عند منطقة جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، وعند منطقة باب المندب بين البحر الأحمر والمحيط الهندي: هل رأيتم حاجزا بين البحر والمحيط فيقولون: لا! بينما يقول الطاعن: نعم، ذلك سهل بمجرد الملاحظة!

وبدأت الكتب العلمية تكتب عن احتمال وجود هذا الحاجز ابتداء من 1942م، وفي عام 1962م  عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر؛ لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر، فيحدث الاختلاط بين البحرين مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده، ومثال ذلك حدود مياه البحر المتوسط الساخنة والملحة عند دخولها في المحيط الأطلنطي ذي المياه الباردة الأقل ملوحة منها([26]).

صورة مأخوذة بالأقمار الاصطناعية لمضيق جبل طارق، حيث تبين حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والمالحة عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة الأقل ملوحة

وبعد فترة صورت سفينة فضاء أمريكية نقطة التقاء البحرين عند جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي (وأيضًا عند عدن نقطة التقاء البحر الأحمر بالمحيط الهندي)، وعندما عادوا بالصور فوجئوا بأن الصورة لا تحمل فقط لوني البحرين، بل هناك لون ثالث بينهما، فأرسلوا هذه الصور إلى الأكاديمية البحرية التي شكلت بعثة يرأسها عالم البحار الأمريكي “كوفو” إلى نقطة الالتقاء عند جبل طارق؛ لإجراء أبحاثها عند تلك النقطة وذلك فيما أسموه مجازًا “البحر الثالث”، ووجدوا الاختلاف واضحًا في كثافة المياه ونسب المعادن ونوعية الحيوانات التي تحيا فيه، وأن هذه الكتل البحرية الثلاث لا تختلط مياهها أو يبغي أحدها على الآخرين، وأمام هذا الإعجاز الإلهي أعلن”كوفو” إسلامه لما علم بآيات التقاء البحرين في القرآن([27]).

وقد أكد ذلك الصور التي تمكن الإنسان من تصويرها لهذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المالحة، عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الاصطناعية في القرن العشرين. ولا نفهم كيف بعد ذلك كله يظن الطاعن أنها مما تراه العين العادية للصيادين أو الغواصين أو البحّارة!

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش في أرض صحراوية ليس فيها نهر ولا مصب لم يتيسر له في زمنه ما تيسر لعلماء عصرنا من آلات وأقمار اصطناعية وتصوير حراري، فقد تيسر له ما هو أكبر من ذلك؛ حيث جاءه النبأ من العليم الخبير.

أما قول الطاعن: إن القرآن قد أخطأ عندما ذكر أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من المياه العذبة، فمردود كذلك؛ فقوله تعالى: )مرج البحرين يلتقيان (19)( (الرحمن) يصف اللقاء بين البحار الملحة وليس بين النهر والبحر، ودليل ذلك:

نحن نعلم أن لفظة “البحر” في اللغة العربية يمكن أن تطلق على كل من البحر الملح والبحر العذب، ولكنها إذا أطلقت بغير تقييد فإنها تدل على البحر الملح فقط، وإذا قيدت دلت على ما قيدت به، وإطلاق لفظة “البحرين” هنا دون تقييد يدل على أنهما البحران المالحان، وليس النهر والبحر.
بينت الآية أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين مالحين.
عندما ذكرت منطقة اللقاء بين البحر والنهر في سورة الفرقان بينت الآية أن بينهما شيئين: البرزخ، الحجر المحجور، قال تعالى:(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان). أما آية الرحمن فقد بينت أن الفاصل هو البرزخ، فدل ذلك على أن اللقاء بين بحرين لا بين عذب وملح، فلا توجد منطقة “حجرًا محجورًا” على الكائنات الحية؛ لأن الاختلاف في درجة الملوحة ليس شديدًا ليكون مانعًا من انتقال الأحياء البحرية من بيئة إلى أخرى([28]).

ومن ناحية ثالثة: يذكر الطاعن أن المفسرين قد أشكل عليهم التوفيق بين وجود برزخ حاجز من طغيان بحر على الآخر وبين وجود حالة اختلاط بين البحرين، وهو ما يدل عليه لفظ “مرج”؛ لأن من قرر أن البحرين مختلطان، فقد أهمل دور البرزخ ووظيفته في منع البغي بين البحرين، ومن قرر وجود الحاجز المانع اضطر إلى تأويل لفظ “مرج” إلى معنى غير معناه الأصلي الدال على الاختلاط، وهذا ما جعل المفسرين يتخبطون عشوائيًّا في تفسير الآيات.

نقول: إن المفسرين في كل عصر يختلفون في تفسير الآيات الكونية على حسب المعارف والاكتشافات التي ييسرها الله للبشر من أبناء هذا العصر، وربما يختلف المفسرون ويكون كلا الرأيين ـ أو الآراء ـ على قدر من الصحة؛ لأن الآيات تحمل أكثر من وجه للتفسير. يقول ابن عباس رضي الله عنه: “التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله”.

ولم يتيسر للمفسرين في العصور القديمة الإحاطة بتفاصيل الأسرار العلمية التي ألمحت إليها الآيات ـ والتي شاء الله عز وجل أن يتيسر لنا منها الكثير في عصرنا ـ وهذه الأسرار كانت غائبة عن مشاهداتهم؛ ولذلك تعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية، فرجح بعضهم معنى الخلط، ورجح البعض الآخر معنى المنع، وكذلك الحال في تفسير “البرزخ”.

فتأمل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم، وهذا يبين أن العلم الذي أوتيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصره وبعد عصره بقرون؛ ومن ثم فإن اختلاف المفسرين دليل على إعجاز الآيات، وليس دليلًا على نفيه.

3)  وجه الإعجاز:

وجه الإعجاز في الآيات القرآنية الكريمة هو دلالتها على وجود حواجز بين البحار المالحة يسمح باختلاط بطيء، بحيث تفقد كمية المياه المنطلقة من بحر إلى آخر خصائصها وتكتسب خصائص البحر الذي دخلت فيه. كما دلت على أن البحار والأنهار تلتقي وتتمازج، مع وجود حاجز يمنع الاختلاط الكامل بينهما، وهذا ما كشف عنه علماء البحار في القرن العشرين عن منطقة المصب بين النهر والبحر، والحواجز البحرية بين بحرين مختلفين.

(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.

[1]. هي ظاهرة تتعلق بمقدار نفاذ الأملاح في الأغشية.

[2]. منطقة المصب والحواجز بين البحار، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنةwww.nooran.org. وانظر: المروج والبرزخ والحاجز المائي، د. مصطفى محمد الجمال، مقال منشور بموقع: نوافذنا www.nawafithna.net.

[3]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[4]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kahel7.com.

[5]. لسان العرب، مادة: مرج.

[6]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص465.

.[7] تاج العروس، مادة: مرج.

[8]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج19، ص281.

[9]. مقاييس اللغة، مادة: مرج.

[10]. لسان العرب، مادة: حجر.

[11]. مقاييس اللغة، مادة: حجر.

[12]. لسان العرب، مادة: حجر.

[13]. لسان العرب، مادة: حجر.

[14]. انظر: قراءة إيمانية في كتاب الكون والحياة، د. أحمد فؤاد باشا، بحث منشور بمجلة الأزهر، عدد شوال 1426هـ، ص1798: 1803.

[15]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص37، 38.

[16]. شبهة وجود الأحجار الكريمة في المياه العذبة، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

[17]. عندما يلتقي النهر العذب بالبحر المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[18]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[19]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص321.

[20]. بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، من الشيخ عبد المجيد الزنداني، د. دركا برسادا راو.

[21]. من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، عبد المجيد الزنداني و د. محمد إبراهيم السمرة و د. دركا برسادا راو، الإصدار رقم (15) من كتب هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وانظر)مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان(19)ِ((الرحمن)، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.

[22]. مقاييس اللغة، مادة: بحر.

[23]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص38.

[24]. لسان العرب، مادة: بحر.

[25]. لسان العرب، مادة: بغي.

[26]. شبهة وجود الأحجار الكريمة في المياه العذبة، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

[27]. البحر الثالث، سنية عباس، مقال منشور بجريدة: الأخبار، عمود: )وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)((طه)، العدد (16926)، تاريخ 24/ 7/ 2006م.

[28]. منطقة المصب والحواجز بين البحار، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنةwww.noraan.org.

نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (والبحر المسجور)

مضمون الشبهة:

في الشبهة التي بين أيدينا لا يزيد الطاعن على قوله: إن لفظة “المسجور” في قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)كانت من الألفاظ الشائعة لدى العرب، والتي وردت في شعر زهير بن أبي سلمى:

لقد عرفت ربيعة في جذام **** وكعب خالها وابنا ضرار

لقد نازعتمُ حسبا قديما  **** وقد سجرت بحارهمُ بحاري

ومن ثم فإن الآية لا علاقة لها بما اكتشفه العلماء حديثًا من أن قيعان المحيطات والبحار تتقد بالنيران.

وجها إبطال الشبهة:

1)  اكتشف علماء الجيولوجيا أن قيعان المحيطات جميعها متوقدة نارًا في مناطق الوديان العميقة في منتصف المحيطات، وتبين أنها مناطق اللقاء بين الألواح القارية، وتفوق درجة الحرارة في تلك المناطق البركانية النشطة الألف درجة مئوية، وهذا يتطابق مع قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)؛ لأن وصف البحر بلفظ “المسجور” يعني أن قاعه ملتهب يتقد بالنيران؛ فالسجر في اللغة: الإيقاد في التنور. وهذه الحقيقة لم تكن معروفة لدى العرب كما يدعي الطاعن؛ لأن المتأمل لسطح البحر لا يمكن أن يتصور أن قاعه متأجج بالنيران.

2)  من المعاني اللغوية للبحر المسجور: المملوء بالماء، والمكفوف عن اليابسة، وهو معنى صحيح ـ كذلك ـ من الناحية العلمية، ويعني أن الله تعالى ملأ منخفضات الأرض بماء البحار والمحيطات، وحجز هذا الماء عن مزيد من الطغيان على اليابسة كي تبقى صالحة للعمران.

التفصيل:

أولا. البحر المسجور بمعنى: القائم على قاع أحمته الصهارة الصخرية المندفعة من داخل باطن الأرض فجعلته شديد الحرارة:

1) الحقائق العلمية:

في العقود المتأخرة من القرن العشرين تم اكتشاف حقيقة تمزق الغلاف الصخري للأرض بشبكة هائلة من الصدوع العملاقة المزدوجة، والتي تكون فيما بينها ما يعرف باسم: أودية الخسف أو الأغوار، وأن هذه الأغوار العميقة تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، وتمتد هذه الأغوار في كافة الاتجاهات لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، ولكنها تنتشر أكثر ما تنتشر في قيعان محيطات الأرض، وفي قيعان عدد من بحارها([1]).

وتعمل هذه الصدوع على تمزيق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، وتقطيعه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة، يسميه العلماء باسم: نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق لَدِن عالي الكثافة واللزوجة، تتحرك بداخله تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى؛ حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، وهي بتلك الحركة الدائبة تدفع بكل لوح من ألواح الغلاف الصخري للأرض إلى التباعد عن اللوح المجاور في أحد جوانبه في ظاهرة تسمى “ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات”، ومصطدمًا في الجانب المقابل باللوح الصخري المجاور ليكون سلسلة من السلاسل الجبلية، ومنزلقًا عن الألواح المجاورة في الجانبين الآخرين.

رسم تخطيطي لحركة الألواح الصخرية في قيعان المحيطات

وباستمرار تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض تتسع قيعان البحار والمحيطات باستمرار عند خطوط التباعد بينها‏، وتندفع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية لتساعد على دفع جانبي المحيط يمنة ويسرة‏، وتملأ المسافات الناتجة بالصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض على هيئة ثورات بركانية عارمة‏ تحت الماء‏، تسجر قيعان جميع محيطات الأرض‏، وقيعان عدد من بحارها‏، وتجدد مادتها الصخرية باستمرار.

وقد أدى هذا النشاط البركاني فوق قيعان كل المحيطات‏، وفوق قيعان عدد من البحار النشطة إلى تكوُّن سلاسل من الجبال في أواسط المحيطات تتكون في غالبيتها من الصخور البركانية‏، وقد ترتفع قممها في بعض الأماكن على هيئة أعداد من الجزر البركانية من مثل جزر كل من إندونيسيا‏، وماليزيا‏، والفلبين‏، واليابان‏، وهاواي‏، وغيرها، وفي المقابل تصطدم ألواح الغلاف الصخري عند حدودها المقابلة لمناطق اتساع قيعان البحار والمحيطات‏، ويؤدي هذا التصادم إلى اندفاع قيعان المحيطات تحت كتل القارات وانصهارها بالتدريج؛ مما يؤدي إلى تكون جيوب عميقة عند التقاء قاع المحيط بالكتلة القارية، تتجمع فيها كميات هائلة من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، والتي تطوى وتتكسر لترتفع على هيئة السلاسل الجبلية على حواف القارات، من مثل سلسلة جبال الإنديز في غربي أمريكا الجنوبية‏، وهنا يستهلك قاع المحيط بالتدريج تحت الكتلة القارية‏، وإذا توقفت عملية توسع قاع المحيط فإن هذا القاع قد يستهلك بأكمله تحت القارة؛ مما يؤدي إلى تصادم قارتين ببعضهما، وينشأ عن هذا التصادم أعلى السلاسل الجبلية([2]).

ويصاحب كلا من عمليتي توسع قاع المحيط في محوره الوسطي‏، واصطدامه عند أطرافه عدد من الهزات الأرضية‏، والثورات والطفوح البركانية‏. ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من أربعة وستين ألفًا من الكيلو مترات في الطول‏، بينما يبلغ طول الصدوع العميقة التي اندفعت منها الطفوح البركانية لتكون تلك السلاسل الجبلية في أواسط المحيطات أضعاف هذا الرقم،‏ وتتكون هذه السلاسل أساسًا من الصخور البركانية المختلطة بالقليل من الرسوبيات البحرية‏، وتحيط كل سلسلة من هذه السلاسل المندفعة من قاع المحيط بواد خسيف‏ (غور‏)‏، مكون بفعل الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين خمسة وستين كيلو مترًا وسبعين كيلو مترًا؛ ليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل ويصل إلى نطاق الضعف الأرضي الذي تندفع منه الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجة حرارة تزيد على الألف درجة مئوية لتسجر قيعان كل محيطات الأرض‏، وقيعان عدد من بحارها النشطة باستمرار.

ومع تجدد اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات هذه الصدوع العملاقة يتسع قاع المحيط باستمرار، وتتجدد مادته بدفع الصخور القديمة في اتجاه الشاطئ المحيط يمنة ويسرة؛ ليحل محلها أحزمة أحدث عمرًا تتكون من تجمد تلك الصهارة الجديدة، وتترتب بصورة متوازية على جانبي أغوار المحيطات والبحار، ويهبط كل جانب من جانبي قاع المحيط المتسع بنصف معدل اتساعه الكلي تحت كل قارة من القارتين أو القارات المحيطة بشاطئيه، وبذلك يمتلئ محور المحيط بالصهارة الصخرية الحديثة المندفعة عبر مستويات الصدوع الممزقة لقاعه فتسجره، بينما تندفع الصخور الأقدم بالتدريج في اتجاه الشاطئين؛ حيث توجد أقدم صخور ذلك القاع، والتي تستهلك باستمرار تحت القارات المحيطة.

رسم تخطيطي لتكون الجزر البركانية ـ مثل جزر هاواي ـ من جراء اندفاع الصهارة من نطاق الضعف الأرضي عبر صدوع قيعان المحيطات

وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض‏، وقيعان عدد من بحارها ‏(‏مثل البحر الأحمر‏)‏ توجد أيضًا على اليابسة، ولكن بنسب أقل منها فوق قيعان البحار والمحيطات. وتعمل على تكوين عدد من الأغوار ‏(‏الأودية الخسيفة‏)‏ والبحار الطولية ‏(‏مثل أغوار شرقي أفريقيا والبحر الأحمر‏)‏ التي تعمل على تفتيت الكتل القارية باتساعها التدريجي؛ لتتحول تلك البحار الطولية مثل البحر الأحمر إلى بحار أكبر، ثم إلى محيطات تفصل بين الكتلة القارية التي كانت متصلة على هيئة قارة واحدة، وتحاط تلك الخسوف القارية العملاقة بعدد من القمم البركانية السامقة([3]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:

لقد ثبت لكل من علماء الأرض والبحار ـ بالأدلة المادية الملموسة ـ أن محيطات الأرض ـ بما في ذلك المحيطان المتجمدان الشمالي والجنوبي ـ وأعدادًا من بحارها ـ مثل البحر الأحمر ـ قيعانها مسجرة بالصهارة الصخرية المندفعة بملايين الأطنان من داخل النطاق الضعيف في الأرض عبر شبكة الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بالكامل وتصل إلى نطاق الضعف الأرضي.

وتتركز هذه الشبكة من الصدوع العملاقة أساسًا في قيعان البحار والمحيطات، وأن كم المياه في تلك الأحواض العملاقة ـ على ضخامته ـ لا يستطيع أن يطفئ جذوة تلك الطفوح من الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض إطفاء كاملًا، وأن هذه الجذوة على شدة حرارتها ـ أكثر من ألف درجة مئوية ـ لا تستطيع أن تبخر هذا الماء بالكامل؛ وذلك لأنه عندما يتبخر الماء باندفاع الصهارة فيه فإنه يرتفع إلى أعلى ليلامس ماء أبرد فيتكثف ويعود إلى قاع البحر مرة أخرى ليعاود الكرة من جديد، وهكذا ليبقى هذا الاتزان الدقيق بين الأضداد من الماء والحرارة العالية من أكثر ظواهر الأرض إبهارًا للعلماء في زماننا، وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من اكتشافها إلا في أواخر الستينيات من القرن العشرين، ولكن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الحقيقة منذ أكثر من ألف وأربع مئة سنة في قوله تعالى:)والبحر المسجور (6)((الطور).

المدلول اللغوي للآية:

o     البحر في اللغة ضد البر، وسمي بهذا الاسم لعمقه واتساعه، وجمعه: أبحر وبحور وبحار([4]). وكل نهر عظيم يسمى بحرًا؛ لأن أصل البحر هو كل مكان واسع جامع للماء الكثير([5]).

o     المسجور: السجر تهييج النار، يقال: سجرت التنور، ومنه: )والبحر المسجور(6)((الطور)، قال الشاعر:

إذا ساء طالع مسجورة *** ترى حولها النبع والسمسما

وقوله:)والبحر المسجور(6)((الطور)؛ أي: أضرمت نارًا، وقيل: غيضت مياهها؛ وإنما يكون كذلك لتسجير النار فيه )ثم في النار يسجرون (72)( (غافر). وسجرت الناقة استعارة لالتهابها في العدو، نحو اشتعلت الناقة. والسجير: الخليل الذي يسجر في مودة خليله، كقولهم: فلان محرق في مودة فلان، قال الشاعر:

سجراء نفسي غير جمع إشابة([6])

من أقوال المفسرين:

جاء في تفسير الطبري: “وقوله: )والبحر المسجور (6)((الطور)،اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور، فقال بعضهم: الموقد. وتأويل ذلك: والبحر الموقد المحمي”([7]).

وقال القرطبي: “)والبحر المسجور (6)((الطور)، قال مجاهد: الموقد، وقد جاء في الخبر: «إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارًا». وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:

إذا ساء طالع مسجورة *** ترى حولها النبع والسمسما

يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة، فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: )وإذا البحار سجرت (6)((التكوير)؛ أي: أوقدت، سجرت التنور أسجره سجرًا؛ أي أحميته”([8]).

ومن ثم فإن الآية بها إعجاز علمي واضح وإن حاول إخفاءه الطاعنون؛ فحقيقة البحر المشتعل ـ المسجور ـ أصبحت يقينًا ثابتًا، فنحن نستطيع اليوم مشاهدة الحمم المنصهرة في قاع المحيطات وهي تتدفق وتلهب مياه المحيط ثم تتجمد وتشكل سلاسل من الجبال قد يبرز بعضها إلى سطح البحر مشكلًا جزرًا بركانية. هذه الحقيقة العلمية لم يكن لأحد علم بها أثناء نزول القرآن ولا بعده بقرون طويلة، فكيف جاء العلم إلى القرآن؟ ومن الذي أتى به في ذلك الزمان؟

إنه الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى والذي حدثنا عن اشتعال البحار، ويحدثنا عن مستقبل هذه البحار عندما يزداد اشتعالها: )وإذا البحار سجرت (6)( (التكوير)، ثم يأتي يوم لتنفجر هذه البحار، يقول تعالى: )وإذا البحار فجرت (3)( (الانفطار).

وهنا نكتشف شيئًا جديدًا في أسلوب القرآن؛فهو يستعين بالحقائق العلمية لإثبات الحقائق المستقبلية، فكما أن البحار نراها اليوم تشتعل بنسبة قليلة، سوف يأتي ذلك اليوم عندما تشتعل جميعها ثم تنفجر، وهذا دليل علمي على يوم القيامة([9]).

صورة حقيقية للبحر المسجور الذي أقسم الله به، وهذا المشهد يؤكد صحة ما جاء في القرآن بعكس ما يدعيه المشككون من أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم

3)  وجه الإعجاز:

لقد قرر كتاب الله تعالى أن قاع البحر مسجرة بالنيران، ولم يكن أحد يعلم قبل ومع نزول القرآن هذه الحقيقة العظمى؛ لأن العقل العربي في ذلك الوقت لم يكن ليستوعب هذه الحقيقة، كيف يكون البحر مسجورًا والماء والحرارة من الأضداد، حتى جاء القرن العشرون وتبين للعلماء تلك الحقيقة.

ثانيا. البحر المسجور بمعنى: المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة:

1)  الحقائق العلمية:

الأرض هي أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته بحوالي 1360 إلى 1385 مليون متر مكعب، وهذا الماء قد أخرجه ربنا عز وجل  كله من داخل الأرض على هيئة بخار ماء اندفع من فوهات البراكين، وعبر صدوع الأرض العميقة؛ ليصادف الطبقات العليا الباردة من نطاق التغيرات الجوية، والذي يمتد من سطح البحر إلى ارتفاع حوالي ستة عشر كيلو مترًا فوق خط الاستواء، وحوالي العشرة كيلو مترات فوق قطبي الأرض، وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق باستمرار مع الارتفاع حتى تصل إلى ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته فوق خط الاستواء.

وهذا النطاق يحوي حوالي ثلثي كتلة الغلاف الغازي للأرض (66%) والمقدرة بأكثر من خمسة آلاف مليون مليون طن، وهو النطاق الذي يتكثف فيه بخار الماء الصاعد من الأرض، والذي تتكون فيه السحب، وينزل منه كل من: المطر، والبرد، والثلج، وتتم فيه ظواهر الرعد والبرق، وتتكون العواصف والدوامات الهوائية وغير ذلك من الظواهر الجوية، ولولا تبرد هذا النطاق مع الارتفاع ما عاد إلينا بخار الماء الصاعد من الأرض أبدًا،‏ وحينما عاد إلينا بخار الماء مطرًا‏ وثلجًا‏ وبردًا‏، انحدر على سطح الأرض ليشق له عددًا من المجاري المائية‏، ثم فاض إلى منخفضات الأرض الواسعة ليكون البحار والمحيطات، وبتكرار عملية التبخر من أسطح تلك البحار والمحيطات،‏ ومن أسطح اليابسة بما عليها من مختلف صور التجمعات المائية والكائنات الحية‏ بدأت دورة المياه حول الأرض‏، من أجل التنقية المستمرة‏‏ لهذا الماء وتلطيف الجو، وتفتيت الصخور،‏ وتسوية سطح الأرض،‏ وتكوين التربة،‏ وتركيز عدد من الثروات المعدنية‏، وغير ذلك من المهام التي أوكلها الخالق لتلك الدورة المعجزة التي تحمل ‏380,000كم3 من ماء الأرض إلى غلافها الجوي سنويًّا‏، لتردها إلى الأرض ماء طهورًا‏؛ منها ‏320,000‏ كم3  تتبخر من أسطح البحار والمحيطات و 60,000‏ كم3 من أسطح اليابسة، يعود منها ‏284,000‏ كم3 إلى البحار والمحيطات، ‏96,000‏ كم3 إلى اليابسة التي يفيض منها ‏36,000‏ كم3 من الماء إلى البحار والمحيطات‏،وهو مقدار الفارق نفسه بين البخر والمطر من البحار والمحيطات وإليها‏.

رسم بياني يوضح دورة الماء حول الأرض لحالتي التبخر والأمطار

هذه الدورة المحكمة للماء حول الأرض أدت إلى خزن أغلب ماء الأرض في بحارها ومحيطاتها (حوالي 97,2%)، وإبقاء أقله على اليابسة (حوالي 2,8%)، وبهذه الدورة للماء حول الأرض تملح ماء البحار والمحيطات، وبقيت نسبة ضئيلة من مجموع ماء الأرض على هيئة ماء عذب على اليابسة، وحتى هذه النسبة الضئيلة من ماء الأرض العذب قد حبس أغلبها على هيئة سمك هائل من الجليد فوق قطبي الأرض، وفي قمم الجبال، والباقي مختزن في الطبقات المسامية والمنفذة من صخور القشرة الأرضية على هيئة ماء تحت سطحي (حوالي 0,61%)، وفي بحيرات الماء العذب والأنهار (حوالي 0,01%)، وعلى هيئة رطوبة في تربة الأرض (حوالي 0,005%)، والباقي يتوزع بين بحيرات الماء العذب ورطوبة الغلاف الغازي للأرض (حوالي 0,0349%).

الثلوج على قمم الجبال صورة من صور  تخزين الماء على سطح الأرض

وتوزيع ماء الأرض بهذه النسب التي اقتضتها حكمة الله الخالق قد تم بدقة بالغة بين البيئات المختلفة بالقدر الكافي لمتطلبات الحياة في كل بيئة من تلك البيئات، وبالأقدار الموزونة التي لو اختلت قليلا بزيادة أو نقص لغمرت الأرض وغطت سطحها بالكامل، أو انحسرت تاركة مساحات هائلة من اليابسة، ولقصرت دون متطلبات الحياة عليها.

ومن هذا القبيل يحسب العلماء أن الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض وفي قمم الجبال المرتفعة فوق سطحها إذا انصهر (وهذا لا يحتاج إلا إلى مجرد الارتفاع في درجة حرارة صيف تلك المناطق بحوالي خمس درجات مئوية) فإن كم الماء الناتج سوف يؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات إلى أكثر من مئة متر فيغرق أغلب المناطق الآهلة بالسكان والممتدة حول شواطئ تلك البحار والمحيطات.

وليس هذا من قبيل الخيال العلمي، فقد مرت بالأرض فترات كانت مياه البحار فيها أكثر غمرا لليابسة من حدود شواطئها الحالية، كما مرت فترات أخرى كان منسوب الماء في البحار والمحيطات أكثر انخفاضا من منسوبها الحالي مما أدى إلى انحسار مساحة البحار والمحيطات وزيادة مساحة اليابسة، والضابط في الحالين كم الجليد المتجمع فوق اليابسة؛ فكلما زاد كم الجليد انخفض منسوب الماء في البحار والمحيطات، فانحسرت عن اليابسة التي تزيد مساحتها زيادة ملحوظة، وكلما قل كم الجليد ارتفع منسوب المياه في البحار والمحيطات وطغت على اليابسة التي تتضاءل مساحتها تضاؤلًا ملحوظًا([10]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:

من خلال ما سبق كان تفسير القسم القرآني )والبحر المسجور(6)((الطور) بأن الله تعالى يمن علينا بأنه ملأ منخفضات الأرض بماء البحار والمحيطات، وحجز هذا الماء عن مزيد من الطغيان على اليابسة، وذلك بحبس كميات من هذا الماء في هيئات متعددة، أهمها ذلك السمك الهائل من الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض وعلى قمم الجبال، والذي يصل إلى أربعة كيلو مترات في قطب الأرض الجنوبي وإلى ثلاثة آلاف وثمان مئة من الأمتار في القطب الشمالي، ولولا ذلك لغطى ماء الأرض أغلب سطحها ولما بقيت مساحة كافية من اليابسة للحياة بمختلف أشكالها الإنسانية، والحيوانية، والنباتية، وهي إحدى آيات الله البالغة في الأرض، من أجل إعدادها لكي تكون صالحة للعمران.

المدلول اللغوي وأقوال المفسرين حول الآية:

إذا كانت لفظة “المسجور” تعني: الموقد المشتعل، فإن من معانيها كذلك: المملوء؛ قال ابن منظور: “والمسجور في كلام العرب المملوء، وقد سكرت الإناء وسجرته: إذا ملأته”([11]). وكذلك قال كثير من المفسرين بأن البحر المسجور هو المملوء بالماء.

ومن هنا كان تفسير القسم بـ “والبحر المسجور” بمعنى: المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة ينطبق مع عدد من الحقائق العلمية الثابتة التي تشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، وتشهد لسيدنا محمد بن عبد الله بالنبوة والرسالة.

أما الأبيات التي أوردها الطاعن لزهير بن أبي سلمى والتي يقول فيها:

لقد عرفت ربيعة في جذام *** وكعب خالها وابنا ضرار

لقد نازعتمُ حسبا قديما *** وقد سجرت بحارهمُ بحاري

وإذا كان الطاعن يستدل بهذه الأبيات على عدم وجود إعجاز علمي في قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)؛ بحجة أن لفظة “المسجور” كانت من الألفاظ الشائعة لدى العرب، فإنه بذلك يكون قد أثبت الإعجاز للآية من حيث أراد أن ينفيه، فكلمة “سجرت” في الأبيات تعني: ملئت، وهذا يوافق مراد الطاعن؛ لأنه يريد أن ينفي عن السجر معنى الإيقاد مثبتًا له معنى الامتلاء، ونسي أن المعنيين كليهما به إعجاز علمي، فمن المعاني اللغوية للبحر المسجور هو المملوء بالماء، والمكفوف عن اليابسة، وهو معنى صحيح من الناحية العلمية صحة كاملة كما أثبتته الدراسات العلمية في القرن العشرين، ومن المعاني اللغوية لهذا القسم القرآني المبهر أيضًا أن البحر قد أوقد عليه حتى حمي قاعه فأصبح مسجورًا، وهو كذلك من الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان في العقود المتأخرة من القرن العشرين.

وليس معنى هذا أن القدماء كانوا على علم بما أخبرت به الآية؛ فقد كان مفسرو القرآن إذا مروا على مثل هذه الآيات حاولوا تفسيرها قدر استطاعتهم، وعلى حسب ما توفر لديهم من علوم ومعارف، وليس هذا عجز منهم، وإنما هو عجز المعرفة في أزمانهم، كما شاءت الإرادة الإلهية أن يتأخر الكشف عن مخبوءات هذه الآيات إلى حين ينضج الفكر البشري ويرتقي علم الإنسان.

وكان المفسرون السابقون يعتمدون في تفسيرهم لهذه الآيات على المعاني اللغوية؛ فقال بعضهم: البحر المسجور: البحر الذي يشتعل نارًا، وقال بعضهم: هو البحر الممتلئ بالماء، وقال آخرون: بل هو بحر في السماء! والبحر المسجور الذي أقسم الله به لأهميته موجود فعلا؛ لأن الله لا يقسم بشيء غير موجود، ولا يقسم إلا بعظيم، والأخاديد وفتحات النار وتسجير البحر رأيناه رأي العين وعرض على أجهزة التلفزيون في كثير من دول العالم([12]).

(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.

[1]. يتراوح عمق الصدوع المشكِّلة لتلك الأغوار بين 65: 70 كم تحت قيعان البحار والمحيطات، وبين 100: 150 كم على اليابسة (أي في صخور القارات).

[2]. من مثل جبال الهيمالايا التي نتجَتْ عن اصطدام الهند بالقارة الأسيوية بعد استهلاك قاع المحيط الذي كان يفصل بينهما بالكامل في أزمنة أرضية سحيقة‏.‏

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص192: 196.

[4]. لسان العرب، مادة: بحر.

[5]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص37.

[6]. المرجع السابق، ص224.

[7]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج22، ص458.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ص91.

[9]. البحر المسجور، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص187: 191.

[11]. لسان العرب، مادة: سجر.

[12]. إشارات قرآنية لظواهر بحرية، ماهر أحمد صوفي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

الطعن في إخبار القرآن الكريم عن دورة الماء في الطبيعة
 
يظن الطاعنون أن إخبار آيات القرآن الكريم عن دورة الماء في الطبيعة وذكر مراحلها من تبخر الماء وتكون السحب وسقوط المطر ـ ما هو إلا من قبيل الملاحظات العادية والتي يمكن لأي شخص إدراكها قبل نزول القرآن الكريم أو بعده في أي وقت وفي أي زمن، كما يزعمون أن القرآن الكريم قد عجز عن ذكر خطوة تبخير الشمس للماء، ثم استدلالهم في الوقت نفسه بسبق آيات العهد القديم في إخبارها عن دورة الماء في الكون، وذلك مثل: “كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن إلى المكان الذي جدّت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة”.
 
وجوه إبطال الشبهة:
 
1)  ثبت علميًّا أن دورة الماء في الطبيعة دورة معقدة في طبيعتها، صعبة على الإدراك المباشر، وإذا نظرنا إلى القرآن؛ نجده قد ذكر تفصيلات بالغة الدقة عن مراحل تلك الدورة، من تبخر ونقل وتكاثف وهطول ونتح وجريان وترشيح، وذلك على الرغم من أن العلم قد قضى أجلًا من الدهر طويلًا في سبيل اكتشاف هذه الدورة، وبيان مراحلها، ومن ثم فإن ما ذكره الطاعن من أنها من قبيل الملاحظات العادية ـ قول مردود عليه؛ إذ هي ليست كذلك.
 
2)  ثبت علميًّا أن الشمس ليست هي المسئول الوحيد عن عملية تبخير الماء، وأن هناك عوامل أخرى تؤثر في عملية البخر، وهذا ما يتطابق مع القرآن الكريم؛ إذ لم يذكر الله عز وجل الشمس كسبب مباشر في عملية التبخير، وذلك تنويها منه بأن هناك عوامل أخرى، وهذا من إعجاز القرآن الكريم أيضًا؛ إذ يعطينا إشارات واضحة من شأنها حث العقل على التفكر والتدبر.
 
3)  أثبت العلم الحديث أن كمية المياه المتبخرة كل عام متساوية تمامًا مع كمية المياه المتساقطة، وذلك يتطابق مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء»، وهذا من رحمة الله وبديع خلقه وصنعته، فأين هذا إذًا الذي ذكره الحديث الشريف مما ورد في الكتاب المقدس من كلام مرسل مبهم. 
 
التفصيل:
 
أولا. دورة الماء في الطبيعة ليست من قبيل الملاحظات العادية:
 
1) الحقائق العلمية:
 
لقد ربط العلماء وجود الحياة بالماء([1])؛ فحيث يوجد الماء توجد الحياة، ومما يعضد ذلك أن هناك من بين الأحياء كائنات تحيا دون هواء، ولكن ليس بينها كائن واحد يستطيع الحياة دون ماء؛ فالكائنات الحية معظم أجسامها ماء، ولكنه يتفاوت في نسبة وجوده حسب طبيعة أنسجتها وخصائص بنيتها؛ “فالماء مثلا قليل في البذور وفي بعض حيوانات الصحراء، ولكنه يتجاوز 90% من أوزان بعض الثمار العصيرية الغضة، وكثير من الحيوانات البحرية، أما الإنسان فتتراوح نسبة الماء فيه بين 93% في الجنين (في أشهره الأربعة الأولى) إلى ما بين 54: 75% في الإنسان البالغ”([2])؛ فالماء إذا من أهم ضرورات الحياة، فبدونه لا تقوم، ولذلك كان خلق الماء قبل خلق الحياة؛ فقد ظلت الحياة في الماء منذ 3.8 بليون سنة، بينما لا يتعدى عمر الحياة الأرضية على اليابسة 400 مليون سنة([3]).
 
ما ساد حول الماء من مفاهيم خاطئة وأسطورية:
 
من قديم الزمان سادت الخرافات والأساطير حول الماء، وانتشرت النظريات والآراء، ولنتأكد من ذلك يمكننا مطالعة دائرة معارف يونيڤرسال تحت مادة الهيدروجيولوجيا(Hydrogeology) التي كتبها ج. كاستاني (G.Castany) بالتعاون مع ب. بلافو (B.Blavoux)، وهما كاتبان متخصصان في هذه المسائل، ويقدمان عن موضوع المياه اللمحة الآتية:
 
“إنه في القرن السابع قبل الميلاد اعتبر “طاليس” الذي كان يعيش في جزيرة ميليتوس (Thales of Miletus) أن المياه تنشأ نتيجة اندفاع مياه المحيطات بتأثير الرياح إلى داخل القارات، ثم يسقط هذا الماء الذي قذفت به الرياح على الأرض داخل القارات ليتداخل في ثنايا التربة الأرضية. ولقد أدلى “أفلاطون” بدلوه في هذا الموضوع، فقدم افتراضًا خياليًّا آخر، مؤداه أن المياه تأتي من المحيط بفعل الرياح، وتعود إلى المحيط من خلال هوة معروفة في الأساطير باسم “هوةتاتار” (Tatare)، وكان لهذه النظرية أتباع عددهم كبير حتى نهاية القرن الثامن عشر، وقد اعتنق هذه النظرية أبو الفلسفة الحديثة “ديكارت” (decartes)، أما “أرسطو” فقد افترض أن الماء الموجود في التربة يتحول إلى بخار يتكاثف في التجاويف الباردة فوق قمم الجبال، تنحدر هذه التجاويف نحو البحر أو تتسرب إلى ينابيع الأرض، وقد تبع “سينكا” (seneque) في القرن الأول الميلادي هذا الرأي الأرسطي، وكان له أتباع أكثر من أتباع نظرية “أفلاطون” عن “هوةتاتار”، وظل “فولجر” حتى عام 1877م معتنقًا لرأي أرسطو”([4]).
 
العلم الحديث وموقفه مما سادعن الماء من خرافات:
 
يأتي العلم الحديث ليدحض كل ما انتشر عن الماء من خرافات وأساطير، واضعا بذلك الأساس العلمي الصحيح آخذًا بأيدينا نحو طريق مزلل ممهد للسير فيه، ولعل أول مفهوم صحيح عن أصل المياه يعود إلى “برناردباليسي” (Bernard palissy)عام 1805م، وذلك عندما أكد وأثبت أن المياه الجوفية تأتي من تسرب ماء المطر في التربة، وقد برهن على صحة هذا الرأي أيضا “أ.ماريوت” (e.mariotte)بالتعاون مع “ب. بيرو” (p.perraut) في القرن السابع عشر الميلادي([5]).
 
وبتقدم العلم الحديث وبسطوع نجم علم الهيدروجيولوجيا([6]) الذي يرجع إليه الفضل في اكتشاف دورة المياه([7]) في الطبيعة، تلك الدورة الرائعة المعجزة، التي يقوم ببيان مراحلها من تبخر([8]) ونقل([9]) وتكاثف([10]) ثم الهطول([11]) والنتح([12]) والجريان([13]) والترشيح([14]). وعموما فإن هذه لمياه عندما تجد طريقها الطبيعي إلى سطح الأرض تكون قد اكتملت دورة المياه في الأرض([15]). والشكل الآتي يوضح ذلك:
 
مع العلم أن هذه الدورة المعجزة للماء حول الأرض هي الصورة الثانية من صور رجع السماء([16])، والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض، الذي يحيا ويموت فيه بلايين الكائنات في كل لحظة، ولتعرض كوكبنا لحرارة شديدة بالنهار ولبرودة شديدة بالليل. ولم يفكر الدارسون مطلقا لعدة مئات من السنين في ربط أصل الجداول والأنهار مباشرة بسقوط المطر، وتخيل الناس بدلا من ذلك وجود خزانات جوفية هائلة تقوم بتغذية جميع الحياة السطحية. وبالنسبة لكثير من الدارسين حتى القرن الخامس عشر ظل العديد من الأسئلة الأساسية دون جواب، مثل: أصل المياه العذبة من الأرض (حيث كان الافتراض السائد هو أن المياه الجوفية تأتي من البحر، ثم يأتي العلم الحديث ليثبت وبصورة قطعية أن مصدرها هو المطر)، وكيف تستمر الجداول الجارية والأنهار في التدفق دون إمدادات واضحة؟!
 
وحتى مع بداية ظهور النظرية الصحيحة لدورة المياه لم يستطع معظم العلماء أن يتخيلوا أن كمية المطر خلال السنة تكفي للإبقاء على التدفق المستمر للأنهار خلال العام؛ فحتى القرن السابع عشر كانت فكرة الكهوف الجوفية الكبيرة التي تغذي الأنهار قوية كما افترض “أناناسيوس كيرشر” أن البحر يرتبط بجبال جوفاء تتدفق منها الأنهار والجداول([17])، وتمر أوقات كثيرة إلى أن يظهر الفهم الدقيق لدورة المياه منذ حوالي أربعة قرون فقط؛ حيث قدم الخزاف الفرنسي “برنارد باليسي” ملاحظة شخصية بأن الأنهار والينابيع لا يمكن أن يكون لها مصدر غير مياه الأمطار، وذلك على الرغم من أن تلك الفكرة اصطدمت بأفكار معظم الفلاسفة البارزين في ذلك الوقت، ودحض النظريات القائلة بأن الأنهار والجداول مستمدة من البحر؛ حيث يقول المنطق بأن الماء لا يمكن أن ينساب أعلى التل، وأن مياه البحر مختلفة بصورة جلية عن مياه الأنهار والجداول.
 
فأية ملاحظة تلك التي تبدو للناس ـ كما يتوهم الطاعن ـ والماء نقي منقى من عند الله وهو في أغوار بعيدة عميقة تحت سطح الأرض، وليس للإنسان قدرة على خزنه؟! فقد أثبت العلم الحديث أن تحزين الماء تحت سطح الأرض على أعماق محددة في الطبقات الجوفية للأرض يعمل على تنقيته من خلال قتل ما يحويه من جراثيم وبكتيريا، ولنتأمل ما يقوله العلماء اليوم عن تخزين الماء في باطن الأرض؛ حيث حيرت هذه الظاهرة العلماء لوقت طويل؛ فكيف يتم تخزين الماء تحت سطح الأرض لسنوات طويلة دون أن يفسد، فهناك إذا نظام دقيق يعمل على تنقية الماء، وحفظه بطريقة رائعة؛ فالعلماء اليوم من أمثال الدكتور (simon toze) الذي يقول: إنالماءالسطحييكون ملوثًا عادة، بسبب وجودالعديد من الكائنات الدقيقة الممرضة، ويمكن تنقية هذاالماءبسهولة من خلال تخزينه تحت سطح الأرض لعدة شهور، كذلك يقول الدكتور (simon) ـ أيضا: إن الأبحاث تشير إلى أن المياه الملوثة بشدة يمكن أن تنقى بسهولة من خلال ضخها تحت الأرض وتركها لمدة كافية([18]).
 
سلوك الماء تحت الأرض:
 
عندما يسقط الماء على الأرض من خلال المطر فإنه يتحرك باستمرار، فيتسرب قسم منه إلى داخل الأرض، ويتسرب خلال الفراغات في التربة أو الصخور ويهتز ويتأرجح حتى يصل إلى منطقة الإشباع (zone of saturation) التي لايمكنه أن ينفذ منها، وهي عبارة عن طبقة من الصخور الصلبة التي لا تسمح للماء بالمرور خلالها.
 
ويمكن أن يمكث الماء في طبقات الأرض عدة قرون، وتعتبر هذه العملية بمثابة إعادة شحن الأرض بالماء([19])، وقد اكتشف العلماء أن المدة التي يسكن فيها الماء في الأرض تختلف حسب عمق الماء ونوع الصخور المحيطة به، ويتراوح زمن بقاء الماء في الأرض من أربع سنوات إلى أكثر من خمسين سنة.
 
ثم أية ملاحظة تلك ـ كما جاء على لسان الطاعن ـ التي يعرفها الناس، ولو انخفض منسوب المياه الأرضية ـ عند قلة المطر الشديدة ـ لجفت الحياة وهلكت الكائنات؟ فقد ثبت علميا تساوي كمية المطر كل عام” فما من عام أمطر من عام”، وهذا ما سيتضمنه الوجه الثالث من الشبهة.
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:
 
لقد قضى العلم أجلًا من الدهر طويلًا في اكتشاف دورة المياه، وأصلها، ومراحلها؛ إذ هي ليست سهلة على الإدراك المباشر، كما توهم الطاعن ذلك مخبرًا أنها من الملاحظات العادية، والتي لا تحتاج إلى كبير عناء لإدراكها، وهو بذلك قد حاد عن الصواب، واتخذ من الخطأ سبيلًا له، فالطاعن لا يجد شيئًا ينتقده في هذه الدورة المعجزة التي خلقها الله سبحانه وتعالى لمنفعة البشر وأتـمها بقدرته العظيمة ـ سوى أنه لا يجد آية تقول إن الشمس تبخر الماء! وأن باقي خطوات الدورة المائية في الطبيعة مفهومة ومعروفة للجميع! ومن كلام الطاعن يتضح لنا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أنه لم يطلع على شيء من الأبحاث المبكرة لعلم المياه (الهيدروجيولوجيا).
 
وعندما نقرأ الآيات القرآنية المتعلقة بدورة الماء في الطبيعة وبدورها في حياة الإنسان في عصرنا الراهن ـ تبدو وكأنها تعبر عن معارف ومعلومات معتادة مألوفة ولا توجد أية غرابة بشأنها، وذلك ما خدع الطاعن واستفزه ليقول إنها من قبيل الملاحظات العادية، والسبب في ذلك جد بسيط وواضح للغاية؛ إذ إننا في عصرنا الحالي نعرف ـ وبدقة ونسبة متفاوتة بيننا حسب مستويات تعليمنا ـ كثيرًا من الحقائق العلمية عن الماء وعن دورته وكيفية تكوينه.
 
ولكن من الأهمية بمكان أن نضع في اعتبارنا المفاهيم الخاطئة الكثيرة والآراء الخاطئة التي كانت سائدة بين خاصة الخاصة من قادة الفكر قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره وحتى العصر الوسيط ومطلع عصر النهضة الحديثة، فعندما نضع هذه الآراء الخاطئة عن الماء في اعتبارنا، ونجد أن آيات القرآن الكريم وهي تتحدث في مواضع كثيرة عن  الماء ولم تقع في أي خطأ من هذه الأخطاء التي كانت شائعة عن المياه ـ نستطيع أن ندرك إعجاز القرآن الكريم، وأنه كلام الله، أنزله إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
 
فالمعلومات الموجودة في القرآن الكريم عن المياه وعن دورتها ليست نابعة من أية مفاهيم أسطورية من تلك المفاهيم الأسطورية التي كانت سائدة عن المياه قبل الإسلام، وظلت سائدة بطبيعة الحال، ولم تمض فترة طويلة من الزمن حتى بددت سحبها معارف العلم الحديث، وإذا كان الناس في عصرنا قد نجحوا في اكتساب معارف علمية وعملية مفيدة عن الماء لتحسين ري الأراضي؛ فلقد كانت المعارف عن الماء حتى مطلع العصر القديم خاطئة ذات طابع أسطوري وخيالي، والآراء التي أثبت العلم الحديث صوابها من بين كم هائل من الآراء الخاطئة عن المياه في التراث اليوناني  القديم مثلًا جد قليلة، ولعل أبرزها هو الرأي الذي أدلى به “فيترف” (Vitruve)([20]) من قدماء اليونان عندما قال في القرن الأول قبل الميلاد: إن المياه الجوفية قد وجدت في باطن الأرض من جراء تسرب مياه الأمطار داخل الأرض، وهو رأي أثبت العلم الحديث صحته، وفيما عدا مثل هذا الرأي القديم كانت المفاهيم والتصورات الخاطئة والأسطورية عن المياه سائدة بين الناس في عصر تنزيل القرآن الكريم([21]).
 
النظام المائي المتوازن:
 
لقد اختار الله برحمته نظامًا متوازنًا لكل شيء على الأرض؛ لضمان استمرار الحياة على ظهرها، وفي ذلك يقول تعالى: )وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21)((الحجر)؛ ففي هذه الآية أسرار إذا ما تأملناها بشيء من التدبر تتجلى لنا عظمة الخالق؛ فقد أنزل الله كل شيء بقدر وقانون ونظام، قال سبحانه وتعالى: )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)((القمر)، وقال تعالى أيضا: )وخلق كل شيء فقدره تقديرًا (2)( (الفرقان).
 
وفي اللغة (القدر) هو القضاء والحكم ومبلغ الشيء، و(قدر) الرزق: قسمه([22])، وكأن الله تبارك وتعالى يريد أن يعطينا إشارة لطيفة إلى أنه هو من خلق الماء ووزعه بنظام محكم. وقال عز وجل:)وهو الذي أرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورًا (48) لنحيي به بلدة ميتًا ونسقيه مما خلقنا أنعامًا وأناسي كثيرًا (49) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورًا (50)((الفرقان)؛ ففي قوله: )ولقد صرفناه بينهم( (الفرقان:50) إشارة رائعة إلى النظام المتوازن للماء على سطح الأرض، فكل قطرة ماء لها طريق محددة تسلكها، فهذه القطرة قد تكون في البحر ثم تتبخر ثم تسوقها الرياح لتتكثف وتتساقط على أرض ميتة فيحيي بها الله هذه الأرض، أو تختزن على شكل مياه جوفية، أو تسقط كقطعة ثلج فوق القطب المتجمد؛ فقد قدر الله سبحانه وتعالى كل هذه الأشياء بنظام محكم، ولذلك قال سبحانه وتعالى:)وأنزلنا من السماء ماء بقدر((المؤمنون: 18).
 
 يقول ابن كثير: “يذكر الله تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى، في إنزاله القطر من السماء بقدر؛ أي: بحسب الحاجة، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران، ولا قليلًا فلا يكفي الزروع والثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به”([23]).
 
فمثلا لو تأملنا إنزال المطر من الغيوم نجده بقدر؛ أي بكميات محسوبة لا تختل أبدًا، ولو تأملنا كميات المياه المتبخرة كل عام نجدها ثابتة أيضًا ومساوية للكميات الهاطلة، ولو تأملنا نسبة الملوحة في ماء البحر نجدها ثابتة أيضًا لا تتغير إلا بحدود ضيقة جدًّا ومحسوبة، فهناك إذًا نظام دقيق تتغير فيه ملوحة البحار كل ألف عام، وهكذا يتجلى النظام في كل شيء نراه من حولنا.
 
ولننظر كيف عالج القرآن الكريم دورة المياه في آيات معجزات، يقول ربنا سبحانه وتعالى:)الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48)( (الروم)، وذلك في تناسق فني رائع؛ إذ يصور القرآن الكريم هذا المشهد الحافل بالحركة في ذلك القسم من دورة المياه والخاص بوصول الماء إلى الأرض بفقراته ومراحله؛ فالرياح تثور حاملة الماء المتبخر من الأرض فتثير السحب في السماء ـ كما يشاء الله ـ فيتراكم هذا السحاب فيخرج منه المطر، فينزل المطر من السماء، فيستبشر به من ينزل عليهم بعد أن كانوا يائسين.
 
ولننظر كيف يعرض سبحانه وتعالى القسم الثاني بعد وصول الماء؛ إذ يقول:)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يجعله حطامًا إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)( (الزمر) ([24])، وهنا في معرض بيان النعم الإلهية يوضح الله عز وجل مصدر المياه الجوفية، وأنها من ماء المطر بصورة مباشرة وصريحة في الوقت الذي كانت البشرية فيه تتخبط، ويظن العلماء وقتها أنها من ماء البحر، وذلك كما أوضحنا آنفا ما ساد حول الماء من أساطير وخرافات.
 
فنحن لو تأملنا كلمات القرآن لوجدناها غاية في الدقة من الناحية العلمية، فمثلًا هناك كلمة (فسلكه)، فإذا ما تأملنا وتدبرنا هذه الكلمة البسيطة لوجدناها تتفق وتؤكد ما أثبته العلم الحديث؛ فالماء الذي ينزل من السماء يسلك طرقًا معقدة داخل الأرض، حتى إن العلماء اليوم يحاولون تقليد العمليات التي يتعرض لها الماء خلال رحلته في الأرض، وهذا السلوك للماء هو الذي يعطيه طعمًا مستساغًا؛ فالماء عندما ينزل من السماء ويتسرب خلال تربة الأرض ويمر في مساحات التربة الأرضية وبين الصخور، تتحلل فيه بعض المعادن والأملاح ذات الأهمية الطبية والإفادة العضوية للمخلوقات ممن يشربون الماء أو يعتمدون عليه في عملياتهم الحيوية.
 
وفي ذلك يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: “وهكذا ذكر القرآن الكريم أن ماء المطر يتسرب إلى باطن الأرض ماء جوفيًّا تخرج منه آبار وعيون، وهذه الحقيقة لم يدركها العلماء في عصر نزول القرآن الكريم، وتختلف الصخور اختلافًا كبيرًا في تربة الأرض؛ فمنها الصخور التي يتخللها الماء وتسمى صخورًا غير صماء، ومنها الصخور المسامية، ومنها الصخور النفاذة مثل الرملي والجيري، ومنها الصخور غير النفاذة مثل الجرانيت، التي لا تسمح إلا بمرور قليل من الماء بين أجزائها المتباعدة، أما الصخور المنيعة فتمنع مرور الماء منها مثل الصخور النارية، وعندما يتسرب ماء المطر ـ بمشيئة الله وفضله ـ في باطن الأرض ويصل إلى طبقة مسامية مثل الحجر الرملي، فإنه ينفذ خلالها، حتى يصل إلى طبقة منيعة تحتها مثل: الفخار أو الطفلة، وهنا تتوقف حركة الماء إلى أسفل([25])، وتتشبع الطبقة المسامية بالماء حتى تتجمع مقادير كبيرة من الماء فيها، فيزداد سمك منطقة الشبع بالماء، وهذا الجزء المشبع بالماء يعرف علميا باسم: منطقة الحجز؛ وتسمى حدودها العليا بالحوض المائي الجوفي  Water Table، ويتغير مستوى حوض المياه الجوفية في أي مكان تبعا لكمية مياه الأمطار؛ فإن زادت ارتفع مستوى حوض المياه الجوفية، وإن قل انخفض مستوى حوض المياه الجوفية، ولا تبقى المياه الجوفية ساكنة بين الصخور الحاوية لها، بل تتحرك في اتجاهات جانبية حسب الشقوق الموجودة بالصخور”([26]). 
 
أي إن الماء الجوفي قائم على قوانين طبيعية قدرها الله سبحانه وتعالى؛ إذ هي من سنن الله في كونه، والأمر أولا وأخيرًا معلق بإرادة الله سبحانه وتعالى الذي قال:  )وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18)((المؤمنون)، وفي هذه الآية الكريمة يتحدث القرآن عن النظام المقدر للماء، وتأمل كيف ربط البيان الإلهي بين نزول الماء من السماء وبين كلمة (بقدر)؛ أي: بنظام محسوب ومقدر،  فقطرة الماء الواحدة تحوي حوالي خمسة آلاف مليون جزيء ماء.
 
وكذلك فإن كلمة “فأسكناه” تدل على المكوث لفترة طويلة، وهو ما نراه فيالمياه الجوفية ومياه الآبار التي تبقى فترة طويلة ساكنة في الأرض دون أن تفسد أو تذهب أو تتفاعل مع صخور الأرض. كما أن هناك آية ثانية تشيرإلى وجود خزانات ماء في الأرض، وهذه الخزانات لم يتم اكتشافها إلا حديثًا، يقول الله تعالى:  )وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22)((الحجر).
 
 فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلا للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها؟ أليس هو الله عز وجل؟
 
  
 
شكل يظهر خزانات المياه تحت الأرض كما اكتشفها العلم الحديث
 
فأية ملاحظة تلك إذًا التي يعرفها الناس وأغلب السوائل لا تتبخر إذا لم تصل إلى درجة الغليان؟ ويستثني الله لنا الماء؛ إذ يتبخر في أية درجة حرارة، ولولا هذه الميزة لما تبخرت قطرة واحدة من ماء البحار ولما تكونت الغيوم، ولما نزل المطر، ولاحترقت اليابسة من الجفاف.
 
وأية ملاحظة تلك التي يعرفها الناس، ولو شاء الله تعالى لزادت أملاح النيتريت والنيترات في ماء المطر فيصير أجاجًا غير صالح للسقيا؟! وأية ملاحظة هذه التي يعرفها الناس، ولو شاء الله تعالى لبخر الأملاح مع الماء الصافي، ولما حدثت التنقية الطبيعية لينال البشر ماء صافيا صالحا للشرب والإعاشة؟
 
وأية ملاحظة تلك التي يعرفها الناس والله سبحانه وتعالى قد جعل الجبال سببًا في تنقية الماء؛ إذ يراها الباحثون والعلماء كأهم مصدر للماء العذب في القرن الحادي والعشرين، والله تعالى هو القائل:)وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتًا (27)((المرسلات)؛ إذ تكون قمم الجبال الشامخات باردة فتصطدم بها السحب وتتكون الشلالات. 
 
  
 
شكل يبين ربط القرآن بين الماء العذب والجبال العالية وفقا لما أثبته العلماء من دور الجبال في نزول المطر وفي تنقية الماء بعد ذلك لنشربه عذبا فراتا
 
ثانيا. الشمس ليست هي المسئول الوحيد عن تبخر الماء:
 
1) الحقائق العلمية:
 
إن المحيط المائي هو تلك المنطقة التي توجد فوق الأرض وتحتها، والتي يوجد بداخلها كل الماء بصوره المختلفة، وهكذا فإن دورة المياه تربط بين أجزاء المحيط المائي، وتمتد إلى أعلى في الجو حوالي 15 كم، وإلى أسفل حوالي 1كم.
 
وإذا كانت أشعة الشمس تصطدم بسطح الأرض وتؤدي إلى حدوث عملية التبخر من المحيطات والبحار والأنهار والبحيرات والجداول والتربة الرطبة ، فإن العلم الحديث قد اكتشف أن الشمس ليست هي المسئول الوحيد عن تلك العملية ـ عملية التبخر ـ وأن هناك عوامل أخرى تؤثر على البخر، وهي ثلاثة عوامل أساسية: الطاقة، والمياه، والضغط الجوي، هذا بالإضافة إلى مجموعة من العوامل الثانوية التي تؤثر بدورها في كل عامل من تلك العوامل الرئيسية، والتي نوجزها فيما يلي:
 
عوامل تؤثر في الطاقة اللازمة للبخر:
 
خط العرض. 
 
ارتفاع سطح الأرض.
 
 وقت اليوم.
 
وقت السنة.
 
درجة غطاء السحب.     
 
 درجة حرارة المياه.
 
 درجةحرارة الهواء. 
 
عوامل متعلقة بخصائص المياه وتؤثر على الطاقة اللازمة للبخر:
 
عمق المياه.
 
لون المياه.
 
عكارة المياه.
 
لون قعر وعاء الماء.
 
عوامل تتعلق بخصائص الأسطح المبللة:
 
اللون.   
 
الوعورة.
 
درجة الحرارة.
 
التعرض للهواء الساخن.
 
التوجيه بالنسبة لأشعة الشمس.
 
عوامل تتعلق بكمية المياهالموجودة:
 
خصائص حجم الماء (ساكن أو متحرك)، وعمق حوض المياه وحجمه.
 
تكرار إمداد المياه للأسطح المبللة (بواسطة العواصف المطرية).
 
الإمداد المستمر لماء التربة بالخاصية الشعرية.
 
عوامل تؤثر على منحنى الضغط الجوي:
 
الارتفاع.
 
الضغط الجوي.         
 
امتداد المنحنى واستمراريته.      
 
الرطوبة النسبية:
 
إن معدلات التبخر تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع الرطوبة النسبية للهواء؛ وذلك لأن الجزء من الهواء الملامس لسطوح التبخر يكون في حالة توازن ثرموديناميكي مع هذه السطوح (ضغط بخار الماء الفعلي بالنسبة إلى ضغط بخار الماء الإشباعي)؛ ولأن حركة جزيئات الماء من هذا الجزء المشبع إلى بقية الهواء من طريق الانتشار تعتمد على الفارق في ضغط بخار الماء (التركيز) بين هذين الجزأين؛ ولأن ضغط بخار الماء الإشباعي يعتمد على درجة حرارة الهواء فإن الرطوبة النسبية للهواء تتغير تبعًا لدرجة حرارته حتى لو لم تتغير كتلة بخار الماء الموجود فيه.
 
درجة حرارة الهواء:
 
تزيد درجة حرارة الهواء من معدلات التبخر؛ وذلك من طريق زيادة كمية الطاقة المنقولة بالتوصيل من الهواء إلى سطح التبخر، وزيادة سرعة عملية انتشار (diffusion) جزيئات الماء في الهواء بعيدًا عن سطح التبخر، وبما أن الهواء في المناطق المدارية حار؛ فإن ذلك يزيد من معدلات التبخر في تلك المناطق.
 
سرعة الرياح:
 
تؤثر سرعة الرياح في معدلات التبخر عن طريق تحريك الهواء الملامس لسطوح التبخر، الذي ارتفع فيه ضغط بخار الماء، بعيدًا عن هذه السطوح، وإحلال هواء أجف محله؛ مما يسرع من عملية الانتشار لجزيئات الماء، ولذلك تزداد معدلات التبخر بازدياد سرعة الرياح([27]). 
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:     
 
إن ما أثاره الطاعن من عجز القرآن ـ وحاشاه ـ عن ذكر خطوة تبخير الشمس للماء! ونقده لعلماء المسلمين الذين اجتهدوا فربطوا بين آيتي:) وجعلنا سراجًا وهاجًا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجًا (14)((النبأ) ربطًا سببيًّا؛ فيذكرون أن وهج الشمس سبب في تبخير الماء، وبالتالي نزوله من المعصرات([28])، ومقارنة الطاعن بين هذا الاجتهاد الطيب بآية قرآنية أخرى:) والأرض وما طحاها (6) ونفس وما سواها (7)( (الشمس)؛ إذ التبس على ذهنه أن الواو في الآيتين الأوليين من نوع واحد،  كما توهم أنها تفيد التتابع في الوقوع، ونرد قائلين:
 
 إن الواو في قول الله تعالى:  )والأرض وما طحاها (6) ونفس وما سواها (7)( (الشمس) هي واو القسم؛ إذ يقسم الله سبحانه وتعالى بأشياء عظيمة، فانظروا كيف خلق
الله الأرض وكيف بسطها ومهدها، وجعلها صالحة للإعاشة، ثم انظروا كيف خلق النفس البشرية ـ وهي لغز الألغاز ـ والتي حار فيها العلماء من قديم الأزل إلى الآن، ولن يدركوا ماهيتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
 
 أما الواو في قوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا سراجًا وهاجًا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجًا (14)((النبأ) فهي واو العطف، والعطف بالواو له وظائف عديدة ومختلفة في الاستخدام اللغوي، والسياق هو الذي يحدد وجه استخدامها؛ فالواو هنا لا تقتضي التتابع في الوقوع، وإنما تقتضي الإخبار المطلق، وهذا لا ينفي أن تكون الآية الأولى سببًا في حدوث الثانية.
 
 ومن المعلوم يقينا أن القرآن الكريم كتاب هداية ورشاد، وقد حثنا على إعمال العقل والتفكر والتدبر، قال تعالى: )ليدبروا آياته( (ص: 29)؛ فالقرآن الكريم قد أعطانا إشارات واضحة ودقيقة من شأنها حث العقل على التفكر فيها؛ وصولًا للحقيقة المرجوة؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى ـ والشمس من آياته العظيمة ـ خلقه للسراج الوهاج، وأردف هذا بإخباره عن نزول المطر من المعصرات.
 
وبالتوفيق بين ناحيتين لا غنى عنهما:
 
الناحية اللغوية؛ فالقرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين.
التفكر والتدبر والاجتهاد؛ لحث القرآن الكريم على ذلك، يتبين لنا ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أنه لا وجه لطعن ولا مسوغ لاعتراض.
 
وإذا كان العلماء المسلمون قد اجتهدوا في رأيهم واستنبطوا هذا المعنى (سببية إنزال الماء الثجاج من المعصرات بتأثير وهج الشمس)، فإن الطاعن ذاته قد ذكر آيات من الإنجيل لم تذكر عملية التبخر تصريحًا، ثم أتى بالبخر أو التبخر من كلامه هو، استنتاجا واستنباطا!
 
فمثلا نجده يقول: “الذي يدعو مياه البحر ويصبها على وجه الأرض” (عموس 5: 8)، ونجده أيضًا يقول: “كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن إلى المكان الذي جدّت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة”(الجامعة 1: 7)، ثم يشرح قائلا: هنا نلاحظ المرحلة الأولى من الدورة المائية واضحة جلية؛ فالله يدعو المياه من البحار بالتبخر، وهو قد ذكر ـ هنا ـ التبخر استنباطا واستنتاجا! ثم نجده يكرر في موضع آخر: “لأنه يجذب قطار الماء”،ثم يتساءل: من أين يجذب الله قطار الماء؟ ويرد على التساؤل: إنه يجذبها من الأرض “بتبخرها”!
 
فالإضافة والشرح والسؤال والجواب من عنده هو! فهو لا يقبل أن يجتهد علماء المسلمين في شرح آيات القرآن واستنباط معان واضحة، ويبيح لنفسه هو أن يستنبط من النص ما يريد نفيه عن القرآن وإثباته للكتاب المقدس، وهذا أسلوب غير سوي لا يقيم حجة ولا يثبت رأيا! ثم يختتم اعتراضه بقول مردود قائلا: إذًا فالكتاب ـ يعني الكتاب المقدس ـ يذكر بوضوح جلي أن المياه تدور وتعود من حيث أتت، وتطرق للمرحلة الأولى من الدورة المائية، وتحدث عن الشيء الذي عجز القرآن عن الإشارة إليه.
 
 والرد على ذلك فيما يأتي:
 
تطلق الشمس من مختلف صور الطاقة ما يقدر بحوالي 500 ألف مليون مليون مليون حصان في كل ثانية من ثواني عمرها، ويصل إلى الأرض من هذا الكم الهائل من الطاقة حوالي الواحد في الألف‏,‏والمخلوقات ـ بحول الله وقوته وإرادته ومشيئته ـ تعتمد في وجودها على قدر الطاقة الواصلة من أشعة الشمس، كذلك فإن كل الظواهر الفطرية التي تحدث على الأرض ومن حولها تعتمد على الطاقة القادمة إلينا من الشمس‏:‏ فتصريف الرياح‏,‏ وإرسال السحاب‏,‏ وإنزال المطر، وبقية دورة الماء حول الأرض‏,‏ وما يصاحب ذلكمن تسوية وتمهيد لسطح الأرض‏,‏ وشق للفجاج والسبل فيها‏,‏ وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها‏,‏ وخزن للماء تحت سطح الأرض‏,‏ وتكوين للتربة والصخور الرسوبية‏,‏ وتركيز للعديد من الركائز المعدنية‏,‏ وحركات الأمواج في البحار والمحيطات، وعمليات المد والجزر وغير ذلك من عمليات وظواهر ــ تحركها إرادة الله تعالى بواسطة طاقةالشمس‏([29]).
 
ولنتدبر سويا آيات تسخير الشمس في القرآن، يقول رب العزة سبحانه وتعالى: )إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)((الأعراف)، ويقول: )الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2)( (الرعد)، ويقول: )وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)( (إبراهيم)، ويقول: ) ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير (29)( (لقمان)، ويقول: )وجعلنا سراجًا وهاجًا (13) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجًا (14)( (النبأ)، ويقول: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13)((فاطر).
 
فلم يرد في الآيات الذكر الكامل لوظائف الشمس (ومنها تبخير الماء لتحمله الرياح إلى السحاب) ذكرًا مباشرًا؛ بل إن المولى عز وجل قد وضح لنا أنه قد سخر الشمس في آيات عديدة وذلك سمت القرآن، الذي لم يأت بكل تفاصيل وظائف ما خلق الخالق عز وجل بقدرته، ولكنه في كثير من الآيات يشير إليها ضمنا، والقرآن الكريم هنا لم يذكر الوظائف بالتفصيل واستعاض عنها بذكر التسخير مجملًا كل الوظائف التي أشرنا إليها؛ لأن القرآن الكريم به إشارات علمية لتحريك القلوب نحو ذكر خالق هذا الكون وتوحيده وتسبيحه وشكره على نعمه، ولتجلية الأفهام وتبصيرها بعظمة الله في خلقه وتصريفه لشئونهم)، وليس تفصيلات علمية دقيقة، تاركًا تلك التفصيلات لاستنباط العلماء الذين ينهلون منه في كل عصر على قدر المتاح من العلوم والمعارف التي يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بها؛ مصداقًا لقوله:) ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء( (البقرة: 255). كما أن هناك أمورًا تذكر بصورة مباشرة وأخرى بصورة غير مباشرة، وتلك الأخيرة تتضمن أمورًا معلومة أو مشاهدة لا تغيب عن العقلاء، والتصريح بما هو واضح عيب في عرف العلماء.
 
وقد يطوي القرآن الكريم ذكر الضد، وهذا من أساليب اللغة العربية المعروفة لعلماء اللغة والتفسير؛ لأن أحد الضدين يشير إلى الآخر ويذكر به، ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى:) وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13)((الأنعام) مذكرًا بما هو واضح في النهار دون أن يذكره؛ لأنه ذكر ضده وهو ماسكن في الليل.
 
ثالثا. تساوي كمية المياه المتبخرة كل عام مع كمية المياه المتساقطة:
 
1) الحقائق العلمية:
 
لقد اكتشف العلم الحديث أن مجموع ما يتبخر من ماء الأرض إلى غلافها الغازي ثابت في كل عام، ومجموع ما يحمل هذا الغلاف الغازي من بخار الماء ثابت كذلك على مدار السنة، وإن تباينت كميات سقوطه من مكان إلى آخر، ويتضح هذا حال وقوفنا أمام ظاهرة الدورة الرطوبية على سطح الأرض، وتتكون الدورة الرطوبية من مجموعتين من العناصر الرطوبية:
 
المجموعة الأولى: وهي مجموعة عناصر الكسب الرطوبي.
 
المجموعة الثانية: وهي مجموعة عناصر الخسارة الرطوبية.
 
نرى في المحيطات أن عناصر الكسب الرطوبي تتجلى في كمية الهطول السنوية فوق المحيطات (xo)، وهي تقدر بحوالي 458000 كم3، وبما يرد إليها من مياه نهرية عذبة من اليابسة (y)، وهي تقدر بحوالي 49000 كم3، وأما الخسارة فإنها عبارة عن كمية المياه المتبخرة سنويا من المحيطات (eo)، وهكذا نجد أن الموازنة المائية الرطوبية المحيطة تتخذ الشكل الآتي: (eo=xo+y).
 
وإذا ما ترجمنا ما سبق إلى أرقام مقدرة بآلاف الكيلو مترات المكعبة من الماء نجد: (eo=458+49=505). وهذا يعني أن كمية ما يتبخر سنويًّا من المحيطات يعادل (505) ألف كم3، مضافًا إليها مياه الأنهار الصابة فيها (47) ألف كم3.
 
أما بالنسبة للقارات فإن عنصر الكسب يتمثل بكمية الهطول السنوية التي يتم فوقها (xc) والبالغة (119)ألف كم3، إلا أن الخسارةالرطوبية تتجلى في كمية مياه الأنهار الصابة في المحيط العالمي، وتعادل (47) ألف كم3 كما رأينا، وهكذا نجد أن مجموع ما يتبخر سنويًّا فوق القارات (ec) يعادل (72) ألف كم3: Xc=ec (119)-y (47) = 72.
 
وبعد أن تعرفنا على عناصر التوازن المائي الرطوبي فوق كل من المحيطات واليابسة يمكننا أن نوحدها في معادلة واحدة:( xc + xo= ec + eo)، ونجد أنها تعادل رقميا: (505+ 72 = 458+119).
 
وإذا ما رمزنا للتبخر على الأرض عامة بـ (E) وللتهاطل بـ (X)، نجد أن المعادلة تبدو كالآتي: (E=X).
 
ومما سبق نجد تساوي كميتي الرطوبة في طرفي المعادلة التوازنية: E (577) = X(577)؛ أي إن مجموع ما يتبخر على سطح الأرض يعادل كمية الهطول السنوية فوقها.
 
والسؤال الآن: ما سر وجود هذا الكم المحدد (وسطيًّا) من المياه المتبخرة والمتكاثفة سنويًّا؟
 
إن الإجابة تكمن في مظهر آخر من مظاهر التوازن الطبيعي على سطح الأرض، إنه التوازن الإشعاعي الحراري الأرضي الجوي.
 
تقدر الطاقة الحرارية الشمسية الواصلة إلى سقف الغلاف الجوي الأرضي بحوالي (1٫36٫10)24 حريرة/سعرة/سم2/سنة، وهو ما يعادل (2 مليار) من مجموع الطاقة الحرارية الشمسية، وإذا ما سلطت هذه الطاقة ـ أي الطاقة الكاملة للشمس ـ على محيطات الأرض وبحارها ستتبخر كاملة خلال (1٫5) ثانية وستختفي تماما.
 
عندما تصل أشعة الشمس (R)إلى الأرض وجوها تتعرض لتبدلاتعديدة تمثل الموازنة الإشعاعية الجوية المكونة من العناصر الآتية:(R = D + E + C).
 
إذ إن(R)تمثل مجموع الأشعة الواصلة إلى جو الأرض وسطحها، و(D) تمثل مجموع الأشعة الإجمالية التي تمتص من قبل اليابسة وماء المحيطات، و(E)تمثل مجموعة الأشعة الممتصة من قبل الجو، و(C)تمثل مجموع الأشعة المنعكسة من على سقف الجو وسطح الأرض.
 
 فعندما تبلغ أشعة الشمس (R)إلى سقف الجو ينعكس منها ما نسبته (31%) مباشرة إلى الفضاء الخارجي (C)، وما تبقى من الأشعة (69%) يدخلالغلاف الجوي (E) فيمتص منه قرابة (17%) والباقي (52%)؛ أي (D) فإنهيمثل مجموع الأشعة المباشرة والمنتثرة الواصلة إلى سطح الأرض، والتي ينعكس منها إلى الجو قرابة (4%)، وهكذا يتبقى من الأشعة ما يعادل (48%)، ونجد أن (18%) يصرف إشعاعًا أرضيًّا فعالًا ذاتيًّا إلى الجو، وما تبقى أي (30%) فإنه يعتبر المخزون الأرضي الإشعاعي الفعلي الذي يتحول جزء منه إلى طاقة حرارية تعمل على تبخير المياه على اليابسة والمحيطات بنسبة (22%) من مجموع الأشعة الممتصة من قبل سطح الأرض، أماما تبقى وهو (8%)، فإنه يصرف على عمليات التبادل الحراري الطاقي بين الأرض والجو.
 
وهكذا فإن الموازنة الإشعاعية الطاقية لسطح الأرض فإنها تبدو كالآتي:
 
[30% – (22% + 8%) = 0].
 
وتتوزع الطاقة المصروفة على التبخر الأرضي نطاقيًّا (حسب درجات العرض) بالشكل الآتي مقدرة بالحريرة [كيلو كالوري([30])] /سم2/سنة:
 
درجات الحرارة
 
0 ـ 10
 
20 ـ 30
 
40 ـ 50
 
60 ـ  70
 
80 ـ 90
 
الطاقة ك . ك
 
74
 
78
 
45
 
25
 
7
 
وسطي سطح الأرض (59)
 
هذه الطاقة التي تعادل بالنسبة لسطح الأرض ماء ويابسة (59) ك . كالوري وسطيًّا تكفي على مدار السنة تبخير ما مقداره (577) ألف كم3 من المياه السائلة من على سطح الأرض، وحسب قوانين التوازن الرطوبي آنفة الذكر ستتحول المياه المتبخرة كاملة
إلى مياه سائلة ثانية (هطول)؛ أي بمقدار (577) ألف كم3 ([31]).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أخبرت به السنة النبوية:
 
روي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عام بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه بين خلقه حيثيشاء»([32]). وهذا الحديث يمثل سبقًا علميًّا؛ فقد تبين أن مجموع ما يتبخر من ماء الأرض إلى غلافها الغازي من بخار الماء ثابت كذلك على مدار السنة، وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف؛ فعند قراءتنا لهذا الحديث يمكننا أن نستخلص حقيقتين:
 
الكم المحدود من الهطول السنوي (ما من عام بأكثر مطرًا من عام).
 
قوله صلى الله عليه وسلم: «يصرفه بين خلقه حيث يشاء»؛ يعني توزيع الهطول على سطح الأرض توزيعا حدده رب العزة بشكل يحقق التوازن النطاقي والإقليمي على سطح الأرض، والتوازن الرطوبي المنطلق لتحقيق مختلف أشكال التوازن الماديوالطاقي والأرضي([33])، وصدق الله العظيم إذ قال:) وكل شيء عنده بمقدار (8)((الرعد).
 
ومما يثبت صحة الحديث أن معدل البخر من أسطح البحار والمحيطات يقدر بحوالي 320٫000 كم3 من الماء في كل عام، بينما يقدر معدل البخر من اليابسة بحوالي 60٫000 كم3، وبجمع هذين الرقمين يتضح أن دورة الماء بين الأرض وغلافها الغازي تبلغ 380٫000 كم3 في السنة، وأغلب هذه الكمية يتبخر من المناطق الاستوائية؛ حيث يصل متوسط درجة الحرارة السنوي إلى 25 درجة مئوية.
 
وعندما يتبخر الماء من أسطح كل من البحار والمحيطات واليابسة الأرضية، فإنه يرتفع بفعل قلة كثافته، وبدفع التيارات الهوائية له إلى النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض (نطاق التغيرات المناخية)، وهو يتميز بالبرد مع الارتفاع حتى تصل درجة حرارته إلى ناقص 80 درجة مئوية فوق خط الاستواء، وفي هذا النطاق البارد يتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض ويعود إليها ـ بإذن الله سبحانه وتعالى  ـ مطرًا أو ثلجًا أو بردًا أو طلًا (على هيئة الشابورة أو الندى).
 
والماء في عودته إلى الأرض يصرفه الله بحكمة بالغة؛ حيث ينزل على اليابسة قدر أعلى مما يتبخر من أسطحها (96٫000 كم3 مقابل 60٫000 كم3 مجموع المتبخر منها)، بينما ينزل على البحار والمحيطات قدر أقل مما يتبخر من أسطحها 284٫000 كم3 في مقابل 320٫000 كم3 يتبخر منها، والفارق بين هذين الرقمين هو الفارق نفسه بين كميتي المطر والبخر على اليابسة، ويقدر بـ 36٫000 كم3 من الماء يفيض من اليابسة إلى البحار والمحيطات في كل عام.
 
ومن ثم فإن دورة الماء حول الأرض دورة معجزة تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة، وعظيم الصنعة، وإحكام الخلق، فكميتها في مجموعها ثابتة، ومحسوبة بما يكفي متطلبات الحياة على الأرض، والدورة ذاتها بين البخر والمطر تعمل على تنقية مياه الأرض التي يحيا ويموت فيها بلايين الأفراد من صور الحياة المختلفة، وهي تعمل على حفظ التوازن الحراري على سطح الأرض، وعلى التقليل من شدة حرارة الشمس في الصيف، فيعمل على تقليل الفرق بين درجتي الحرارة صيفا وشتاء؛ وذلك لصون الحياة الأرضية بمختلف أشكالها.
 
ولما كان مجموع ما يتبخر من ماء الأرض إلى غلافها الغازي ثابتًا في كل عام، ومجموع ما يحمل هذا الغلاف الغازي من بخار الماء ثابت كذلك على مدار السنة، كان مجموع ما ينزل من مطر إلى الأرض ثابتًا في كل سنة، وإن تباينت كميات سقوطه من مكان إلى آخر ـ حسب مشيئة الله ـ ويبلغ متوسط سقوط المطر على سطح الأرض اليوم 85٫7 سم3 /سنة، وتتراوح كمياته بين الصفر في المناطق الصحراوية الجافة والقاحلة و11٫45 م3 /سنة  في جزر هاواي.
 
وهذه الملاحظات الدقيقة التي لم يستطع الإنسان الوصول إليها إلا في القرن العشرين سبقها بأكثر من أربعة عشر قرنًا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «ما من عام بأكثر مطرًا من عام»، وهذه الحقيقة العلمية التي نطق بها خاتم الأنبياء والمرسلين لا يمكن أن يكون لها مصدر إلا وحي السماء، فصلى الله وسلم وبارك على هذا النبي الخاتم([34]).
 
وأخيرا، فإن ما استدل به الطاعن من وجود آيات في العهد القديم تكلمت عن دورة الماء في الكون، ذاكرة تلك الملاحظات الواردة في القرآن الكريم ـ بلا زيادة أو نقصان ـ ومنها على سبيل المثال: ما ورد على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: “كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جدّت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة”.
 
فهذه الأمثلة التي ساقها الطاعن من العهد القديم موضحًا إخبارها عن دورة الماء في الطبيعة ما هي إلا من قبيل الكلام المرسل المبهم القائم على ملاحظات إدراكية عادية؛ فكل إنسان يمكن أن يلاحظ أن الأنهار تجري ولكنها في نهاية المطاف تصب في البحر، كما يمكن أن يلاحظ أنه مهما صبت الأنهار في البحر فإنه ليس بممتلئ؛  لأنه لو امتلأ لكان بالضرورة ملاحظة ذلك، ثم تراه يسوق كلامًا عامًّا مبهمًا عن رجوع المياه إلى المكان الذي أتت منه، وهو كلام لا يقيم حجة ولا يثبت رأيًا، فما هو هذا المكان؟ وقد تخبط ـ قديمًا ـ كثيرون في ذلك، فمنهم من قال: إنها تعود إلى البحر من خلال هوة أسطورية اسمها “تاتار”، ومنهم من قال: إنها تخزن في كهوف جوفية تغذي الأنهار، هذا بالإضافة إلى أن النص لا يشير بوضوح ما هو ذلك المكان، ولكنهم يقومون في تفسيرهم على لي عنق النص وتحميله ما لا يحتمل، فتجدهم يدخلون فيه دلالات غامضة تكتنفها الكنايات والرموز المتكلفة.
 
في حين أننا إذا نظرنا في القرآن وجدناه قد فصل القول في إخباره عن دورة الماء في الطبيعة؛ إذ جاء بتفصيلات دقيقة شهد العلم الحديث بصحتها ودقتها البالغة، فأين إذًا تلك الدقة فيما ذكره الطاعن؟! وهل تكون هذه الدقة إلا من خالق الكون العظيم؟!
لقد ذكر القرآن الكريم تفصيلات دورة المياه في الطبيعة ومراحلها بدقة بالغة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، وهو مالم يتوصل العلم إليه إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
 
أثبت العلم الحديث وبعد جهود مضنية أن الشمس ليست المسئول الوحيد عن عملية تبخير الماء في حين نجد القرآن لم يذكرها كسبب مباشر في عملية البخر لمعرفته بأن هناك عوامل أخرى تكاتفها؛ مما يبين دقة القرآن العظيم ومطابقته لحقائق لم يستطع العلم الحديث إدراكها إلا مؤخرًا.
 
تحدث القرآن الكريم عن الخزانات المائية الضخمة المختزنة تحت سطح الأرض التي تزيد كميتها عن المياه العذبة في الأنهار، وذلك من خلال قوله تعالى: ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22)((الحجر).
 
تحدث القرآن الكريم عن المدة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط أو يتفاعل مع صخور الأرض، وذلك في قوله تعالى: )وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18)((المؤمنون)؛ ففي هذه الآية إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض ويقيم فترة طويلة من الزمن، وعلى الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت سطح الأرض إلا أن الماء يبقى نقيًّا وماكثًا لا يذهب، أليس الله تبارك وتعالى هو من أودع القوانين اللازمة لبقاء الماء بهذا الشكل الصالح للحياة؟!
 
تحدث القرآن الكريم عن العمليات المنظمة والمقدرة التي تحكم نزول الماء ودورته في قوله تعالى:) والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)((الزخرف)، وهذا الأمر لم يكن معروفا زمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الناس يجهلون مصدر هذه المياه ويجهلون دورتها ويجهلون وجود أية قوانين تحكمها
 
أثبت العلم الحديث أن كمية المياه المتبخرة كل عام متساوية مع كمية المياه المتساقطة، وهذا يتطابق مع ما أخبرت به السنة النبوية المطهرة.
 
 
(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
 
[1]. الماء: سائل شفاف لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وهو يغطي ثلثي مساحة سطح الكرة الأرضية، ويتركب من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين واحدة، ويرمز له بالرمز (H2O)؛ حيث (H2) تعني ذرتي هيدروجين (O) تعني ذرة أكسجين، وتتكوَّن قطرة الماء من ارتباط خمسة آلاف مليون جزيئة ماء. 
 
[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص456.
 
[3]. من عجائب الماء، د. هالة عبد العزيز الجوهري، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
 
[4]. التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث، د. موريس بوكاي، ترجمة: علي الجوهري، مكتبة القرآن، القاهرة، 1999م، ص222.
 
[5]. المرجع السابق، ص222.
 
[6]. علم الهيدروجيولوجيا: هو العلم الذي يبحث في الماء وتكوينه وخصائصه الكيميائية.
 
[7]. دورة المياه: هي الدورة التي تصف حركة المياه على الأرض وداخلها، فتتحرك مياه الأرض دائمًا، وتتغير أشكالها باستمرار؛ من سائل إلى بخار، ثم إلى جليد، ومرة أخرى إلى سائل.
 
[8]. التبخر: عملية تحوُّل الماء من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، وهي العملية التي ترطب الغلاف الغازي، كما أن عملية التبخر عملية أساسية في نقل الماء من المسطحاتالمائية إلى مناطق أخرى على شكل أمطار، كما تقوم بتوزيع الطاقة بين أركان الأرض الثلاثة: اليابسة والماء والهواء.
 
[9]. النقل: تحوُّل بخار الماء في الغلاف الجوي مؤثرًا على رطوبة الكتل الهوائية، ويكون في خلال ذلك محكومًا بحركة الرياح، مثل التيارات النفاثة في أعلى الغلاف الجوي أو نسيم البحر والبر.
 
[10]. التكاثف: عملية تحول بخار الماء إلى سائل؛ إذ إن حركة الهواء لأعلى تعمل على تبريد الهواء ذاتيًّا مما يجعله يفقد قوته تدريجيًّا على حمل البخار؛ فيتكثَّف متحوِّلًا إلى غيوم، ومن ثم إلى مطر.  
 
[11]. الهطول: عملية انتقال الماء الناتج عن التكاثف في الغيوم من الهواء إلى أسفل (الماء واليابسة)، ويعتمد على حجم قطرة الماء الساقطة على تيارات الهواء الصاعدة، وتعمل قوى التصادم بين القطرات المائية في الغيوم على زيادة حجم القطرة حتى تصل إلى الحجم القادر على التغلب على التيارات الصاعدة، ومن ثم تسقط بالاتجاه لأسفل.  
 
[12]. النتح: عملية الإفراج عن بخار الماء من النباتات والهواء.  
 
[13]. الجريان: عملية تجمع مياه الأمطار والينابيع والثلوج لتشكِّل الجداول والأنهار والبحيرات، وعادة ما يكون الجريان على أَوْجِه بعد الأمطار الغزيرة، وفوق المناطق الرملية التي تصل إلى حالة الإشباع بسرعة؛ مما يؤدي إلى حدوث الفيضانات بمختلف أشكالها.
 
[14]. الترشيح: عملية تصدير الماء إلى باطن الأرض؛ حيث تنتقل مياه الأمطار إلى باطن الأرض، ويعتمد معدل الترشيح على العوامل الآتية:
 
معدل هطول الأمطار.
 
كيفية الهطول.
 
الغطاء النباتي.
 
كيمياء التربة وتركيبها ورطوبتها؛ حيث إن التربة لا تمنع تسرُّب الماء إلا بعد أن تصل إلى حالة الإشباع، وهي كمية الماء التي لا تستطيع أن تحملها بين جزيئاتها، وتُسمَّى هذه الكمية بالسعة الحقلية، والتي تزوِّد النبات بحاجته من الماء، ومنطقة الإشباع، وهي المنطقة التي تخزن المياه الجوفية، والتي يمكن استخراجها عن طريق الحفر إلى ما يُسمَّى مستوى المائدة المائية (water table).
 
[15]. دورة المياه في الطبيعة، مقالات مُـجمَّعة، مكتبة القصيمي، بموقع: www.rissani.org. 
 
[16]. رجع السماء: من الصفات البارزة في سمائنا أنها ذات رجع؛ أي: ارتداد؛ بمعنى أن كثيرًا مما يرتفع إليها من الأرض تردُّه إلى الأرض ثانية، وأن كثيرًا مما يهبط عليها من أجزائها العليا يرتدُّ ثانية إلى المصدر الذي هبط عليها منه، ولرجع السماء صور عديدة منها:
 
الرجع الاهتزازي للهواء (الأصوات وصداها).
 
الرجع المائي (دورة الماء في الطبيعة).
 
الرجع الحراري إلى الأرض وعنها إلى الفضاء بواسطة السحب.
 
رجع الغازات والأبخرة والغبار المرتفع من سطح الأرض.
 
الرجع الخارجي للأشعة فوق البنفسجية بواسطة طبقة الأوزون.
 
رجع الموجات الراديوية بواسطة النطاق المتأين.
 
رجع الأشعة الكونية بواسطة كلٍّ من: أحزمة الإشعاع، والنطاق المغناطيسي للأرض.
 
[17]. للمزيد انظر: إعجاز القرآن الكريم في وصف أنواع الرياح والسحاب والمطر، الكتاب رقم (10)، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة، ط2، 1421هـ، ص99: 113.
 
[18]. دورة المياه بين العلم والإيمان، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
 
بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
 
[19]. دورة المياه بين العلم والإيمان، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
 
[20]. هو فيتروفيوس يوليو ماركس (Marcus Vitruvius Pollio) من القرن الأول قبل الميلاد: وهو مهندس معماري روماني، اشتهر بكتابه “في فن العمارة” وهو يقع في عشرة أجزاء.
 
[21]. التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث، د. موريس بوكاي، مرجع سابق، ص221، 222.
 
[22]. القاموس المحيط، مادة: قدر.
 
[23]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص242.
 
[24]. انظر: التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط14، 1413هـ/ 1993م، ص133، 134.
 
[25]. وفقًا لما اكتشفه العلماء حول قانون الجاذبية، والذي يعني أن الأثقل ينزل إلى أسفل، والأخف يصعد إلى أعلى، وهذا القانون هو الذي يحافظ على وجود الماء تحت سطح الأرض ويضمن تدفقه على شكل ينابيع، ولو أن كثافة الماء كانت أعلى مما هي عليه الآن لغار الماء في الأرض، ولم يتمكن من التدفق خلال الينابيع والأنهار.
 
[26]. فتح العليم في تفسير القرآن الكريم، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار غريب، القاهرة، ط1، 2006م، ص248، 249.
 
[27]. انظر: الموسوعة الجغرافية المصغرة، موقع: www.moqatel.com.
 
[28]. المعصرات: السحب التي آن لها أن تمطر.
 
[29]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص583.
 
[30]. الكالوري: وحدة لقياس كمية الحرارة.
 
[31]. الإعجاز العلمي في الحديث النبوي: «ما من عام أمطر من عام»، د. شاهر جمال آغا، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (22)، رمضان 1426هـ، ص8.
 
[32]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الفرقان، رقم (3520). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2461).
 
[33]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، شركة حرف، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص98.
 
[34]. انظر: الإعجاز العلمي في السنة النبوية، د. زغلول النجار، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2004م، ج1، ص117: 120.

نفي الإعجاز العلمي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم بشأن مرور البرق ورجوعه

مضمون الشبهة:

زعم المشككون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد حينما قال: “ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟” قائلين: إن أي بدوي يعيش في الصحراء ويراقب ظواهر الطبيعة يمكن أن يرى مرور البرق ورجوعه.

وجه إبطال الشبهة:

ينطوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفةعين» على معجزة علمية بكل المقاييس؛ فمن خلال البحث في المعنى اللغوي الذي يحمله الحديث الشريف، ومقارنة ذلك بآخر ما وصل إليه العلم في مجال “هندسة البرق” ـ يتبين لنا التطابق الكامل بين الكلام النبوي الشريف، وبين ما اكتشفه العلماء مؤخرًا من عمليات معقدة تحدث في ومضة البرق، وهذه العمليات لايمكن لأي إنسان أن يلاحظها بالعين المجردة؛ لأن الزمن اللازم لكل طور من هذه الأطوار التي تحدث في ومضة البرق يقاس بأجزاء من الألف من الثانية، ولا تستطيع العين المجردة أن تحلل المعلومات القادمة إليها خلال زمن كهذا؛ ومن ثم فإن ما ادعاه المشككون غير صحيح.

التفصيل:

1) الحقائق العلمية:

ظلت ظاهرة البرق حدثًا مخيفًا ومحيرًا للعلماء على مدى قرون طويلة، ونسجت الأساطير الكثيرة حول منشأ البرق وتأثيراته، فكل حضارة كانت تنظر إلى هذه الظاهرة على أنها حدث مقدس يرتبط بالآلهة، وكل حضارة كانت تحاول إعطاء تفسير لهذا الحدث المرعب؛ ففي الميثولوجيا الإغريقية مثلا كان البرق هو سلاح الإله زيوس، الذي استخدمه لقتل أعدائه.

صورة تمثل المعتقدات القديمة السائدة قبل آلاف السنين، فقد كانوا ينسبون البرق للآلهة وليس كناموس كوني إلهي، ففي أساطير الإغريق كان البرق هو سلاح للإله زيوس

ثم جاء العصر الحديث عندما قام العلماء بتجارب متعددة منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا؛ أي على مدى أكثر من قرنين ونصف، قام خلالها العلماء بآلاف التجارب في سبيل فهم هذه الظاهرة المحيرة، والتي لا تزال تفاصيلها الدقيقة مجهولة تماما بالنسبة لنا حتى الآن.

ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر قام “بنيامينفرانكلين”(BenjaminFranklin)([1]) بأول تجربة علمية منظمة أثبت من خلالها الطبيعة الكهربية للبرق، وأن البرق ما هو إلا شرارة كهربية ناتجة عن التقاء شحنتين كهربيتين متعاكستين؛ فقد قام هذا العالم بربط سلك من الحرير إلى طائرة ورقية وأرسله عاليًا أثناء وجود غيوم كثيفة وممطرة؛ أي أثناء وجود عاصفة رعدية، وربط نهاية السلك بقضيب معدني وغلفه بعازل من الشمع لكي لا تتسبب الشرارة القوية بقتله.

وقد نجحت التجربة، وعندما قرب القضيب من الأرض انطلقت شرارة قوية تشبه شرارة البرق، فأثبت بذلك هوية البرق الكهربية وآلية حدوثه، ولكن النتائج التي حصل عليها كانت متواضعة جدًّا، ولم يستطع إدراك العمليات الدقيقة التي تسبب هذه الشرارة القوية.

أما الفيزيائي السويدي “ريتشمان” G. W. Richmann)([2])) فقد قام بتجربة أثبت فيها أن الغيوم الرعدية تحوي شحنات كهربية. واستمرت التجارب، ولكن المعرفة بالبرق بقيت متواضعة حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما أصبح التصوير الفوتوغرافي ممكنًا، وصار بإمكان العلماء التقاط صور لومضات البرق، ومن ثم تحليلها ومعرفة بعض تفاصيلها التي لا تدركها عين الإنسان. ولكن أجهزة التصوير كانت بطيئة، وبقيت العمليات الدقيقة التي ترافق ظاهرة البرق مجهولة حتى الستينيات من القرن العشرين؛ حيث تطورت التجارب وازداد الاهتمام بها لتجنب صدمات البرق التي تتعرض لها المراكب الفضائية والطائرات والمنشآت الصناعية، وقد أمكن استخدام التصوير السريع والمراكب الفضائية والرادارات والحاسوب؛ لمعالجة البيانات التي قدمتها مختبرات مراقبة البرق ودراستها.

ظاهرة البرق ظلت لغزًا محيرًا للعلماء حتى النصف الأخير من القرن العشرين، عندما تطورت أجهزة التصوير والمراقبة والقياس، وقد أنتج العلماء آلاف الأبحاث العلمية حول كهرباء البرق والعمليات الفيزيائية فيه

وقد استطاع العلماء أخيرًا بفضل التصوير فائق السرعة والمعالجة الرقمية للبيانات أن يثبتوا أن ومضة البرق الواحدة قد تتألف من عدة ضربات، وكل ضربة تتألف من عدة مراحل أو أطوار، وقد تم قياس الأزمنة لكل مرحلة بدقة كبيرة، ورؤية هذه المراحل، ولم يتحقق هذا إلا في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين.

أنواع البرق:

يحدث البرق على عدة أنواع حسب مكان وجود الشحنتين الموجبة والسالبة، وقد دلت الإحصائيات الحديثة أنه في كل ثانية هنالك مئة ضربة برق على سطح الكرة الأرضية، وجميع هذه الضربات متشابهة من حيث آلية الحدوث وزمنه.

صورة لومضات البرق ملتقطة بواسطة قمر صناعي، ونلاحظ ضربات البرق المتعددة بشكل دائم وعلى مدار الساعة، والومضات المتدرجة على يسار الصورة هي ضربات برق تحدث في اللحظة نفسها

وأكثر أنواع البرق شيوعًا وأهمية هو البرق الناتج من التقاء شحنتين متعاكستين بين الغيمة والأرض، فغالبًا ما تكون الغيمة ذات شحنة سالبة عند الجهة القريبة من الأرض، أما سطح الأرض فيكون ذا شحنة موجبة، ويسمي العلماء هذا النوع “غيمة ـ أرض” (Cloud ـ Ground)، واختصارًا يرمز لهذا النوع بالحرفين (CG).

ومضة برق بين الغيمة والأرض (CG)، وهذا النوع يحدث نتيجة تلامس الشحنة الموجودة في الغيمة مع الشحنة الموجودة على سطح الأرض، ويتولد شعاع البرق

أما النوع الثاني فهو ما يحدث بين الغيمة وغيمة أخرى، وبما أن الوسط الذي تتجمع فيه الغيوم يمتلئ بالحقول الكهربية فإن احتمال تلامس الشحنات المتعاكسة والتقائها كبير جدًّا، ولذلك فإن هذا النوع يمثل ثلاثة أرباع ضربات البرق، والتي تقدر كما قلنا بمئة ضربة في كل ثانية، وذلك في مختلف أنحاء العالم، ويعرف هذا النوع ببرق “غيمة ـ غيمة” (Cloud ـCloud )، ويرمز له بالحرفين (CC).

نرى فيه ومضات برق بين غيمة وأخرى (CC)؛ حيث تكون إحدى الغيمتين محملة بشحنات موجبة والأخرى محملة بشحنات سالبة، وعند اقتراب إحدى الغيمتين من الأخرى تصطدم هذه الشحنات المتعاكسة مولدة ومضات هائلة نراها على شكل برق

أما النوع الثالث فهو ما يحدث بين الغيمة والهواء؛ حيث تكون الغيمة محملة بشحنة كهربية، والهواء المحيط بها من أحد جوانبها يحمل شحنة معاكسة، ويعرف هذا النوع بـ “غيمة ـ هواء”(Cloud ـAir)، ويرمز له بالرمز (CA).

البرق الناتج بين غيمة وبين الهواء المحيط بها (CA)، تكون الغيمة عادة مشحونة في أعلاها بشحنات موجبة، ويكون الهواء المحيط بها مشحونًا بشكل سلبي، وبالعملية نفسها يحدث التلامس وينطلق شعاع البرق ليكمل الدائرة الكهربية بين الغيمة والهواء

وهنالك أنواع أخرى كثيرة نذكر منها ما يحدث داخل الغيمة ذاتها، ويجب أن نعلم أن أية غيمة تحمل شحنة موجبة في أحد طرفيها، فلا بد أن تحمل شحنة سالبة في طرفها المقابل، وهكذا وفي ظروف العواصف الرعدية يحدث التلامس ويتحقق البرق الذي يضيء الأرض ولكنه لا يصل إليها.

الغيوم الرعدية:

إن البرق لا يحدث في أية غيوم، بل هنالك غيوم محددة يسميها العلماء بالغيوم الرعدية، وهي البيئة المناسبة لحدوث البرق، وقد تكون هنالك غيمة واحدة أو عدة غيوم وهو الأغلب. وهذه الغيوم تكون عادة ممتلئة بالحقول الكهربية؛ بسبب الرياح التي تسوق جزيئات بخار الماء وتدفعه إلى أعلى وتسبب احتكاك هذه الجزيئات بعضها ببعض مما يولد هذه الحقول الكهربية، فنجد أن الغيمة تتجمع فيها في الوقت نفسه شحنات سالبة وأخرى موجبة، وغالبًا ما ترتفع الشحنات الموجبة إلى أعلى وتبقى السالبة في أسفل الغيمة من الجهة القريبة من الأرض.

غيمة رعدية مفردة، هذه الغيمة النموذجية ترتفع عن سطح الأرض 3 كم، ويبلغ طولها عدة كيلو مترات، وسمكها عدة كيلو مترات أيضًا، ونلاحظ الشحنة السالبة في قاعدة الغيمة والشحنة الموجبة في أعلاها، والقياسات التي تعتمدها مخابر الأرصاد هي من أجل غيمة كهذه؛ لأنها تمثل الحالة المتوسطة والغالبة التي يتم فيها البرق .

العمليات الدقيقة داخل البرق:

نعلم من قوانين الكهرباء أنه عندما تلتقي الشحنات المتعاكسة ينتج عنها ومضة أو شرارة كهربية، وهذا ما يحدث في البرق؛ فالغيوم تتكون نتيجة تجمع جزيئات البخار المرتفع من الأرض، هذه الجزيئات تكون محملة بشحنات كهربية موجبة وسالبة نتيجة تفاعلها واحتكاكها واصطدامها، وكما قلنا غالبًا ما تكون الشحنات السالبة في أسفل الغيمة من الجهة القريبة من الأرض، وذلك بسبب تأثير الجاذبية التي تقوم بدورها في توزيع الشحنات، وتكون الشحنة الموجبة في أعلى الغيمة، وهذا يحدث في ما يسمى بالغيوم الرعدية التي تسبب البرق دائمًا.

إن الشحنة الكهربية أو ما يسمى بالكهرباء الساكنة هي تمامًا ما نحس به عندما نلمس قبضة الباب بعد احتكاك أقدامنا بالسجادة، أو عندما نلمس شاشة الكمبيوتر أحيانا فنحس بلدغة كهرباء خفيفة، وما هي إلا عبارة عن شرارة برق مصغرة! وعندما نجري تلامسًا بين سلكين كهربيين أحدهما موجب والآخر سالب فإننا نرى شرارة تتولد بينهما.

عندما يكون هنالك زيادة في عدد الإلكترونات ذات الشحنة السالبة، فهذا يعني وجود حقل كهربي سالب، أما عند زيادة عدد البروتونات الموجبة، فهذا يعني وجود شحنة أو حقل كهربي موجب.

وعندما تتجمع كميات مناسبة من الإلكترونات في أسفل الغيمة تنتقل هذه الشحنات السالبة بواسطة الهواء الرطب الموجود بين الغيمة وسطح الأرض، وتقترب من سطح الأرض ذي الشحنة الموجبة، ينطلق شعاع البرق القادم من الغيمة وتتشكل قناة دقيقة جدًّا في قاعدة الغيمة، وبسبب وجود حقل كهربي بين الغيمة والأرض ينطلق ما يسميه العلماء “الشعاع القائد” (Leader) باتجاه الأرض، وهذا الشعاع الذي يمر ويخطو بخطوات متتالية هو أول مرحلة من مراحل البرق، وعندما يصل هذا القائد إلى الأرض وبفعل الحقل السالب الذي يحيط به فإنه يجذب إليه الشحنات الموجبة الموجودة بالقرب من سطح الأرض، وتتحرك هذه الشحنات الموجبة باتجاه الشعاع القائد وتصطدم به على ارتفاع عشرات الأمتار عن سطح الأرض، وتتشكل قناة اتصال بين الغيمة والأرض.

يتم التقاء الشحنة السالبة القادمة من الغيمة مع الشحنة الأرضية الموجبة فوق سطح الأرض بعشرات الأمتار، وينشأ شعاع البرق الذي نراه وهو يرجع باتجاه الغيمة وعندها تنهار عازلية الهواء ويصبح ناقلًا للكهرباء ويتولد تيار كهربي قوي ينير على شكل ومضة باتجاه الأعلى، ويدعى طور الرجوعReturn Stroke ، وهذه الضربة الراجعة هي ما نراه فعلا؛ لأن معظم الضوء يتولد عنها، و تستغرق هذه الضربة أقل من 100 مايكرو ثانية، وتنتج التيار الراجع والذي يقدر بـ 30 ألف أمبير.

وبعد ذلك تمر فترة توقف مدتها من 20: 50 ملي ثانية، ثم تتكرر العملية من جديد باستخدام القناة نفسها التي تم تأسيسها من قبل، وهكذا عدة ضربات. وقد تكون ومضة البرق مفردة أو متعددة حسب كمية الشحنات المتوفرة بين الغيمة والأرض، وحسب الظروف الجوية السائدة، وقد يصل عددها إلى عشر ضربات متتالية وسريعة، ولكننا نراها ومضة برق واحدة ولا ندرك مرور البرق ورجوعه بأعيننا.

وقد يحدث العكس أحيانًا، فتأتي الشحنة الموجبة من الغيمة باتجاه الشحنة السالبة للأرض، وتتولد الومضة الموجبة، وهذه تكون وحيدة وعنيفة ولا يتبعها ضربات أخرى.

في أقل من نصف ثانية تحدث 3: 4 ضربات برق كلها نراها في ومضة برق واحدة، ويمكن أن يصل التيار الناتج من الضربة الراجعة إلى 200 ألف أمبير، وتسير الضربة الراجعة بسرعة تصل إلى نصف سرعة الضوء.

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه الحديث النبوي الشريف:

والآن وبعدما رأينا نتائج وأبحاث وتجارب استمرت قرنين ونصف من الزمن، وبعدما رأينا علماء أفنوا حياتهم، ومنهم من مات في سبيل معرفة هوية البرق وأطواره ومراحله، وكم من الأموال قد صرفت في سبيل التعرف على ضربة برق لا يتجاوز زمنها طرفة العين! نأتي بعد هذه الحقائق العلمية لنرى الحقائق النبوية، ونعيش رحلة ممتعة مع كلام النبي الأمي الذي علم العلماء، ونقارن ونتدبر، ونتساءل: أليس هذا الحديث الشريف يطابق ويوافق مئة بالمئة ما توصل إليه العلماء اليوم؟!

لقد تحدث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة ومرور الناس على الصراط، وعن سرعة مرور كل منهم حسب عمله في الدنيا، فأحسنهم عملًا هو أسرعهم مرورًا على الصراط، وهذا هو سيدنا أبو هريرة رضى الله عنه عنه يقول على لسان سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم: «فيمر أولكم كالبرق! فيقول أبو هريرة: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال صلى الله عليه وسلم: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»([3])؟

وهذا الحديث يحوي إشارات عديدة، وهي:

الإشارة الأولى: الواضح من خلال هذا الحديث أن الصحابي راوي الحديث رضى الله عنه استغرب من تعبير الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حول مرور البرق وحركته وسرعته؛ فقد كانوا يظنون أن البرق لا يحتاج إلى زمن ليمر! بل لم يكن أحد يتخيل أن للضوء سرعة! فقد كانوا يعتقدون أن الضوء يسير بلمح البصر، ولذلك قال هذا الصحابي الجليل: «بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق»؟! فقد تعجب من قوله صلى الله عليه وسلم: «كمر البرق»؛ إذ لم يكن يتصور أن البرق يمر ويتحرك ويسير.

وهذه هي أول إشارة نلمسها في الحديث الشريف، فالبرق يسير بسرعة محددة؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم : «فيمر أولكم كالبرق»، إشارة واضحة إلى وجود زمن لمرور وتحرك البرق. وكما قلنا كان الاعتقاد السائد وحتى زمن قريب هو أن البرق والضوء لا يحتاجان لزمن ليمرا، ولكن الحقائق العلمية التي رأيناها آنفا تثبت أن البرق يمر ويخطو ويتحرك، وكما رأينا تسير الضربة الراجعة بسرعة أكثر من مئة ألف كيلو متر في الثانية، ومع أننا لا ندرك هذه السرعة بأبصارنا، إلا أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حدثنا عنها وأشار إليها في قوله: « فيمر أولكم كالبرق ».

الإشارة الثانية: وتتضمن آلية مرور البرق ورجوعه في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»؟ وهذا ما كشفه العلم مؤخرًا؛ فقد انتهى العلماء كما شاهدنا من خلال الحقائق الواردة إلى أن البرق ما هو إلا شرارة كهربية ضخمة، هذه الشرارة تحدث نتيجة تلامس الشحنة الكهربية السالبة الموجودة في الغيمة مع الشحنة الكهربية الموجبة الموجودة في الأرض، وأن هنالك طورين رئيسيين لا يمكن لومضة البرق أن تحدث من دونهما أبدًا، وهما “طور المرور” و “طور الرجوع”.

وانظروا إلى هذه المصطلحات العلمية، فكلمة (Step) التي يستخدمها العلماء للتعبير عن المرحلة الأولى تعني يخطو أو يمر، وكذلك كلمة (Return) والتي يستخدمها العلماء للتعبير عن طور الرجوع تعني يرجع، بما يتطابق مع التعابير النبوية الشريفة! وهذا يدل على دقة الكلام النبوي الشريف ومطابقته للحقائق العلمية بشكل كامل، ولكن ماذا يعني أن يستخدم العلماء اليوم التعابير النبوية ذاتها؟

إنه يعني شيئًا واحدًا ألا وهو أن الرسول الكريم حدثنا عن حقائق يقينية وكأننا نراها، وذلك قبل أن يراها علماء عصرنا هذا، ويدل أيضًا على إعجاز غيبي في كلام هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، فمن الذي أخبره بأن العلماء بعده بأربعة عشر قرنًا سيستخدمون هذه الكلمات؟! ولو كان الرسول الأعظم تعلم هذه العلوم من علماء عصره كما يدعون، لجاءنا بالأساطير والخرافات السائدة والتي كان يعتقد بها علماء ذلك الزمان!

الإشارة الثالثة: هنالك إشارة رائعة في الحديث النبوي إلى الزمن اللازم لحدوث البرق، فقد حدده الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بطرفة عين، وقد بحثنا في اكتشافات العلماء وقياساتهم الحديثة للزمن الذي تستغرقه موجة البرق ذهابًا وإيابًا؛ أي: كم يستغرق البرق ليمر ويرجع؟ فوجدنا بأن الزمن هو أجزاء قليلة من الثانية، ويختلف هذا الزمن من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر، ومتوسط زمن البرق هو عشرات الأجزاء من الألف من الثانية.

ومن ثم فإننا نتساءل: هل هنالك علاقة بين الزمن اللازم لضربة البرق، وبين الزمن اللازم لطرفة العين؟ وإذا كانت الأزمنة متساوية إذًا يكون الحديث الشريف قد حدد زمن ضربة البرق قبل العلماء بأربعة عشر قرنًا، عندما بحث العلماء عن زمن طرفة العين والمدة التي تبقى فيها العين مغلقة خلال هذه الطرفة، وجدوا أن الزمن هو أيضًا عشرات الأجزاء من الألف من الثانية! وهو الزمن نفسه اللازم لضربة البرق.

ووجدوا أن زمن ضربة البرق يختلف من غيمة إلى أخرى حسب بعدها عن الأرض وحسب الظروف الجوية المحيطة، ولكن هذا الزمن يبقى مقدرا بعدة عشرات من الملي ثانية، وكذلك الزمن اللازم لطرفة العين يختلف من إنسان إلى آخر حسب الحالة النفسية والفيزيولوجية، ولكنه أيضًا يبقى مقدرًا بعدة عشرات من الملي ثانية.

وسبحان الله! ما هذه الدقة في تحديد الأزمنة؟ أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزمن والمجال الذي يتراوح ضمنه هذا الزمن، فهل بعد هذا الإعجاز كلام لأحد بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم  ليست معجزة من الناحية العلمية والكونية؟!

الإشارة الرابعة: في قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:«ألم تروا» معجزة علمية أيضًا؛ فالصحابة في عصرهم ـ وهم المعنيون بالحديث ـ لم يدركوا هذا المعنى العلمي لمرور البرق ورجوعه، بسبب عدم وجود وسائل لقياس زمن البرق في عصرهم، ولكنهم صدقوا كل كلمة يقولها نبيهم وقدوتهم وأسوتهم محمدصلى الله عليه وسلم، وبما أننا استطعنا اليوم رؤية مرور البرق ورجوعه؛ أي تحقق قوله محمد صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع؟» فإننا نعتقد أن هذا الحديث النبوي الشريف يخاطب علماء هذا العصر!

كذلك في تشبيه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم للبرق بطرفة العين كل الدقة العلمية، وليس غريبًا أن نجد العلماء اليوم يستخدمون التعبير النبوي ذاته! وهذه إحدى الدراسات عن البرق والرعد يصف مؤلفها ضربة البرق وما تحدثه من تسخين وتمدد وتقلص للهواء:

A lightning strike can heat the air in a fraction of a second. When air is heated that quickly, it expands violently and then contracts, like an explosion that happens in the blink of an eye.

وترجمة هذا: “ضربة البرق تسخن الهواء في جزء من الثانية، عندما يسخن الهواء بسرعة، يتمدد بعنف ثم يتقلص، مثل انفجار يحدث في طرفة عين”.

إذًا علماء عصر الفضاء والذرة والكمبيوتر يستخدمون التشبيه النبوي ذاته، ألا يعني ذلك أن العلم النبوي أعظم وأكبر من علوم البشر؟ ألا يعني هذا أن الكلام الذي جاء به رسول الله لا يمكن أن يكون من عنده، بل هو من عند الله تعالى؟ أكرمه بالمعجزات في كلامه أثناء حياته وبعد مماته وإلى يوم القيامة؛ لتكون أحاديثه محمد صلى الله عليه وسلم شاهدة على صدق رسالته للناس جميعًا.

  ومن ثم فإننا نتوجه للطاعن بالسؤال الآتي: هل يمكن لأي إنسان أن يلاحظ عمليات البرق هذه بالعين البشرية؟

نجد الجواب بالنفي؛ فالعين لا يمكن أبدًا أن تلاحظ الأحداث التي تتم في أجزاء من الألف من الثانية، فعلى الرغم من أننا نرى وميض البرق يبدو وكأنه مستمر، إلا أن الدراسة الدقيقة أظهرت وجود عمليات ومراحل متتالية تتم خلال زمن قصير جدًّا لا يمكن إدراكه بالعين. 

وهذه دراسة حول البرق يقول صاحبها بالحرف الواحد:

A single flash is usually composed of many distinct luminous events (strokes) that often occur in such rapid succession that the human eye cannot resolve them.

وترجمة هذا الكلام: “الومضة الواحدة تتألف عادة من أطوار متعددة الإنارة، ولكنها تحدث بتعاقب سريع لا يمكن للعين البشرية أن تحلله”.

المعنى اللغوي للكلمتين:

جاء في لسان العرب: “مرر: مر علـيه وبه يمر مرًّا؛ أي اجتاز. ومر يمر مرًّا ومرورًا: ذهب، واستمر مثله. قال ابن سيده: مر يمر مرًّا ومرورًا: جاء وذهب”([4]). وجاء في القاموس المحيط معنى مر: “مر مرًّا ومرورًا: جاز وذهب. مره، ومر به: جاز عليه. واستمر: مضى على طريقة واحدة”([5]).

أما كلمة “رجع” فنجد معناها في القاموس المحيط: “رجع يرجع رجوعًا ومرجعًا، ورجع الشيء: صرفه ورده، الرجيع من الكلام: المردود إلى صاحبه، وراجعه الكلام: عاوده”([6]).

ونلاحظ المعنى الواضح لمرور البرق؛ أي ذهابه ثم رجوعه، أي رده ومعاودته وسلوكه للطريق ذاتها، أي استخدام القناة نفسها التي تم تأسيسها من قبل، وفي كلتا الكلمتين نلحظ إشارة للتكرار والمعاودة، وهذا ما يحدث تمامًا في ومضة البرق من تعدد لضربات البرق وتكرارها ورجوعها ومعاودتها المراحل ذاتها.

3)  وجه الإعجاز:

تضمن الحديث الشريف إشارة واضحة لتحرك البرق ومروره وأنه يسير بسرعة محددة، وليس كما كان يظن ويعتقد بأن البرق يسير بلمح البصر ولا وجود لأي زمن.
تضمن الحديث إشارة إلى أطوار البرق التي اكتشفها العلماء حديثًا، وأن البرق يحدث على مراحل وليس كما كان يعتقد أنه يحدث دفعة واحدة؛ أي إن الرسول الكريم محمدصلى الله عليه وسلمحدد المراحل الأساسية التي يحدث خلالها البرق، ومن دونها لا يمكن لضربة البرق أن تحدث أبدًا.
حدد الحديث الشريف اسم كل مرحلة (يمر ويرجع)، باسمها الحقيقي والفعلي، وبما يتناسب مع الاسم العلمي لها. أيضًا الرسول الكريم هو أول من تحدث عن رجوع البرق وصحح ما نتوهمه من أننا نرى ومضة واحدة، والحقيقة أن هنالك عدة ضربات راجعة.
حدد الحديث النبوي زمن ضربة البرق الواحدة بطرفة العين، وقد رأينا كيف تساوى هذان الزمانان؛ أي إن التشبيه النبوي للبرق بطرفة العين هو تشبيه دقيق جدًّا من الناحية العلمية.

(*) أُخذت الشبهة والرد عليها من بحث للمهندس عبد الدائم الكحيل، بعنوان: البرق بين العلم الحديث والكلام النبوي الشريف، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[1]. بنيامين فرانكلين: عالم وسياسي، وواحد من أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية ومجددِّي الماسونية، كان شخصية رئيسية في التنوير وتاريخ الفيزياء، ولد في 17 يناير 1706م، وتوفي في 17إبريل 1790م.

[2]. قتل ريتشمان بسبب صدمة البرق التي تعرَّض لها أثناء قيامه بإحدى التجارب.

[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (2/678، 679)، رقم (474).

[4]. لسان العرب، مادة: مرر.

[5]. القاموس المحيط، مادة: مرر.

[6]. القاموس المحيط، مادة: رجع. 

نفي الإعجاز العلمي عن القرآن في إخباره عن ألوان الجبال

مضمون الشبهة:

ينفي بعض المغرضين الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في إخباره عن ألوان الجبال، وذلك في قول الله تعالى:)ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)؛ إذ يرون أن أي جاهل ـ على حد تعبيرهم ـ يستطيع ـ إذا رأى الجبال في أي زمن ـ أن يخبر بمثل هذه المعلومات؛ خاصة في البيئة الصحراوية البدوية، ومن ثم فإن الآية لم تأت بجديد.

وجه إبطال الشبهة:

ورد في قوله تعالى:)ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر) الكثير من الإشارات العلمية، كما أنها قدمت معلومات لم تكن معروفة في وقت نزول القرآن الكريم، وذلك مثل:

o    دور الماء في تلوين صخور الجبال كعامل حاسم.

o    الفصل بين الجبال على أساس تركيبها وأنواع صخورها المختلفة الألوان.

o    الإشارة إلى أن رؤية الألوان نسبية.

o    احتمال لفظة “جدد” لعدة معان، لكل منها إعجاز من نوع خاص، لا يتعارض مع إعجاز المعنى الآخر.  

وقد أثبتت الأبحاث والدراسات التي قام بها العلماء المتخصصون ما جاءت به الآية الكريمة بما يشهد لها بالإعجاز، ويؤكد أن ما ورد ذكره من معلومات بشأن ألوان الجبال ليس من قبيل الملاحظات العادية.

التفصيل:

1) الحقائق العلمية:

قد يعجب الإنسان من علاقة إنزال الماء من السماء باختلاف ألوان الجبال، ولكن العلم الحديث أثبت ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن ألوان الصخور هي نتاج ألوان المعادن المكونة لها، وأن ألوان المعادن نتاج تركيبها العنصري، وبيئتها، وتفاعلها مع الماء؛ فالماء هو العامل الحاسم في تلوين صخور الجبال.

كما ثبت علميا أن المعادن ـ داخل الجبال ـ تتلون بقدر أكسدتها، وأن الماء له علاقة بهذه الأكسدة؛ لذا فهناك تغير مستمر في ألوان الصخور نتيجة الماء النازل عليها، حتى إن بعض العلماء يقول: إن تغير لون الصخور في الجبال يتبع نوع المياه النازل عليها، وتفاعلها مع هذه المياه.

ولا تنفي هذه الحقيقة أن تتأثر ألوان الجبال كذلك بالبيئة المحيطة ودرجات الحرارة والظروف الجوية المحيطة بالجبل، وهذه التغيرات لا نراها مباشرة بل تحدث على فترات تتراوح من آلاف السنين إلى ملايين السنين([1]).

كذلك أثبتت دراسات علم الصخور أن العامل الرئيسي في تصنيف الصخور النارية (الصخور الأولية) هو تركيبها الكيميائي والمعدني الذي ينعكس انعكاسًا واضحًا على ألوانها، وتقسم الصخور النارية على أساس من تركيبها الكيميائي والمعدني إلى المجموعات الرئيسية الثلاث الآتية:

صخور حامضية وفوقحامضية:

وتشمل عائلة الجرانيت التي تتكون أساسًا من معادن المرو (الأبيض) والفلسبار البوتاسي (المقارب إلى الحمرة) والبايوتايت (الذي يتراوح بين اللونين الأصفر والبني المائل إلى الحمرة أو العسلي).

صخور متوسطة:

وتشمل عائلة الدايورايت التي تتكون أساسًا من قليل من المرو  ومعادن البلاجيوكليز الكلسي والصودي والأمفيبول، والتي تتراوح ألوانها بين الأبيض والأحمر والرمادي.

صخور قاعدية وفوق قاعدية:

وتشمل عائلتي الجابرو والبريدوتايت، وتتميز بالألوان الداكنة التي تميل إلى السواد؛ لوفرة معادن كل من الحديد والماغنسيوم فيها، مثل: معادن البيروكسين والأوليفين والبلاجيوكليز الكلسي.

وعندما تندفع الصهارة الصخرية في القشرة الأرضية من نطاق الضعف الأرضي، فإنها إما أن تندفع إلى سطح الأرض على هيئة الثورات البركانية، مكونة الطفوح البركانية، وإما أن تتداخل في أعماق القشرة الأرضية حتى تتبلور وتتجمد على هيئة المتداخلات النارية داخل الصخور وتأخذ المتداخلات النارية أشكالًا وأحجاما، منها:

المتداخلات المستوية، والتي منها: الجدد المتوازية [المتوافقة]، وتتكون باندفاع الصهارة إلى داخل الشقوق والفواصل الموازية لمستويات التطبق، أو في مستويات التطبق ذاتها، وهناك المتداخلات غير المستوية، ومنها الجدد القاطعة إذا كانت رأسية أو مائلة.

والجدد الموازية (المتوافقة) إما أن تكون أفقية أو مائلة وموازية لمستويات التطبق، أو لغير ذلك من البنيات الأساسية للصخر المضيف.

ومن المتداخلات النارية غير المتوافقة: بقايا غرف الصهير العملاقة (الباثوليتات) التي تعتبر أضخم المتداخلات النارية حجمًا؛ إذ تمتد لآلاف الكيلو مترات وتكون قلوب الجبال، ويغلب على تركيبها الصخور الجرانيتية والدايوريتية.

ومن المتداخلات النارية الكتلية المتوافقة: أجسام عدسية الشكل  تعرف باسم: (اللاكوليثات) سطحها العلوي محدب إلى أعلى، وسطحها السفلي أفقي تقريبًا؛ مما يعكس اتجاه اندفاع الصهير من أسفل إلى أعلى.

 ومن ذلك يتضح أن الجدد التي تتداخل في صخور الجبال هي في الأصل من الصخور النارية، وأن أفضل تصنيف لتلك الصخور هو التصنيف القائم على أساس من تركيبها الكيميائي والمعدني، والذي ينعكس على ألوانها على النحو الآتي:

Oصخور تتراوح ألوانها بين اللونين الأبيض والأحمر، وهي الصخور الحامضية وفوق الحامضية، وتشمل عائلة الصخور الجرانيتية (الرايولايت ـ الجرانيت).

O صخور تتراوح ألوانها بين اللونين الأبيض والأحمر من جهة، والألوان الداكنة من جهة أخرى، ولذا يغلب عليها الألوان الرمادية وهي الصخور الموصوفة بالوسطية ـبين الصخور الحامضية وفوق الحامضية من جهة، والصخور القاعدية وفوق القاعدية منجهة أخرى ـ وتضم عائلة الصخور الدايورايتية (الأنديزايت ـ ديورايت).

 Oصخور تميل ألوانها إلى الدكنة حتى السواد، وهي الصخور القاعدية وفوقالقاعدية، وتشمل عائلتي الجابرو (البازلت ـ الجابرو) والبريدوتايت([2]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية:

في قوله تعالى:)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)إشارة إلى حقيقة جيولوجية تتمثل في اختلاف وتنوع صخور الجبال وألوانها، والتي يعود اختلاف ألوانها إلى اختلاف تركيبها وتكوينها، كما تشير الآية إلى إمكانية تغير ألوان الصخور  مع الزمن مؤكدة على علاقة الماء ودوره في هذا الاختلاف والتنوع، ولبيان الإعجاز والسبق والدقة العلمية فيما أشارت إليه الآية نذكر ما يأتي:

من الدلالات اللغوية للآية:

جدد: (الجدة) في اللغة هي الطريقة أو العلامة الظاهرة، والجمع (جدد). والجددهي الطرائق المختلفة الألوان([3]).

غرابيب سود: الغرابيب، جمع غربيب وهو الشديد السواد، مشتق من اسمالغراب لسواده، والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسودغربيب؛ أي: شديد السواد([4]).

من أقوال المفسرين: 

في تفسير قوله تعالى: )ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)، قال ابن كثير: “يقول تعالى منبهًا على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء يخرج به ثمرات مختلفًا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو مشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها… وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضًا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة، مختلفة الألوان أيضًا”([5]).

ويقول صاحب الظلال: “وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية؛ ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها… وهنا لفتة في النص صادقة؛ فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها، والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها، مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد… واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ـ بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ـ تهز القلب هزًّا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي”([6]).

ومن ثم فإن القرآن قد سبق المعارف الحديثة وأشار إلى ألوان الجدد باللون الأبيض  والأحمر وجبال كالغرابيب السود، وذلك بعد حديثه عن عامل حاسم في تلوين الجبال وهو الماء؛ حيث إن الماء له علاقة بأكسدة المعادن الموجودة داخل بنية صخور الجبال، والتي تتلون بقدر أكسدتها، وكل أكسيد لمعدن يختلف لونه عن الأكسيد الآخر([7]).

لقد وضع القرآن الكريم بإعجازه سرًّا من أسرار علوم الجيولوجيا، وأطلعنا على أنواع الجبال، ومهد لنا مجال البحث في هذا العلم؛ حيث يقوم علماء الجيولوجيا بتصنيف الجبال تبعًا للصخور التي تغلب على تركيبها إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

جبال رسوبية طبقية، وهي المشار إليها في الآية بـ (جدد بيض).
جبال قاعدية متبلورة، وهي المشار إليها في الآية بـ (وحمر مختلف ألوانها).
جبال بركانية نارية، وهي المشار إليها في الآية بـ (غرابيب سود)، (جدد بيض) وهي صفة للجبال الرسوبية التي تكونت بفعل ترسيب الطبقات.

 وقد تفيد كلمة (جدد) الوارد ذكرها في الآية الكريمة معنى الشيء المتجدد، ويستدل العلماء على هذا الرأي بأن جبال الجليد الهائلة المتجمدة منذ ملايين السنين تشكل 90% من الماء المخزون في كوكب الأرض.

 أيضا قد تفيد كلمة (جدد) معنى الغنى، ويفسر العلماء هذا بأن جبال المعادن النفيسة والرخام والأحجار الكريمة ذات الألوان المختلفة تعد من مصادر الثروة للبشر.

ويقول علماء الجيولوجيا: إنها تتجدد ببطء مع مرور الزمن على الرغم مما يؤخذ منها عن طريق العوامل الطبيعية أو ما تأخذه أيدي الإنسان، فكلما استنزفت قمم هذه الجبال ترتفع جذورها من الأعماق فتعوض (أي تجدد) ما استنزف منها. وهي (بيض)؛ لأن اللون الغالب على هذه الجبال هو الأبيض.

ويرجع العلماء اللون الأحمر لهذه الجبال ـ التي ورد ذكرها في الآية الكريمة ـ إلى شيوع عنصر الحديد فيها، وهو الذي يتأكسد فيظهر الصخر بلون أحمر، ويصاحب الحديد معادن أخرى كالنحاس والرصاص، وتختلف نسبة وجود هذه المعادن؛ لذلك يظهر اللون الأحمر بدرجات متفاوتة.

أما قوله تعالى: )وغرابيب سود (27)( (فاطر)،فهو إشارة إلى الجبال النارية البركانية غير المتبلورة، حيث يشيع اللون الأسود عليها؛ لأن البازلت وهو صخر ناري أسود اللون يغلب على تكوين هذه الجبال، ويتكون بفعل تجمد “اللافا”، وهي المادة المنصهرة التي تخرج من فوهات البراكين([8]).

ويحتمل أن تكون الجدد هي القطع أو الطرائق التي تخالف لون الجبل، فيكون الإعجاز في فصل القرآن بين ألوان الصخور الفاتحة (بيض وحمر) من ناحية، وبين الداكنة (سود) من ناحية أخرى.

أما الغرابيب فهي التراكيب الجيولوجية البازلتية السوداء التي تكون على هيئة الوسادة أو ما يسمى lava pillow.

إن القارئ لتلك الفقرة من الآية القرآنية ليستشعر مقابلة بين كلمتي “جدد بيض” و”غرابيب سود”، فطالما أن “الجدد” تعبر عن شكل و “البيض” لون، فكذلك “السود” لون، ولا بد إذًا أن تكون “الغرابيب” شكلا لا لونا .

كما أن هناك نوعًا آخر من الإعجاز في الآية، ذلك أنه لم تذكر الألوان مرة واحدة في القرآن الكريم إلا مقرونة بمصطلح الاختلاف، “مختلف ألوانه”؛ أي إن رؤية الألوان تقتضي الاختلاف، وهذا ما أثبته العلم الحديث من أن رؤية الألوان ليست خاصية للضوء أو للأجسام التي تعكس الضوء، وإنما رؤية الألوان إحساس ينشأ في الدماغ.

فالطيور والسلاحف والسحالي والعديد من الأسماك لديها قدرة على رؤية الألوان فوق البنفسجية، وهو ما تفتقده الثدييات بما فيها الإنسان، وفي هذا إشارة إلى أن رؤية الألوان نسبية، فيفهم من الآية القرآنية أن هذه الألوان في النبات والجبال والحيوان هي ما تراه أنت أيها الإنسان.

وجاء تقديم كلمة “مختلف ألوانها” للفصل بين الجبال التي على هيئة جدد مختلفة الألوان ـ سواء اختلاف في درجة كل لون على حدة أو اختلاف تداخل الألوان ولا يكون لها قمم واضحة ـ وبين الجبال المكونة من لون واحد لا يكون فيها أي تداخل من ألوان أخرى، أو حتى درجات من هذا اللون وهو الأسود، وهي ذات قمم أو نتوءات، وفي تقديم “مختلف ألوانها” إعجاز؛ لأنه أفاد الفصل بين نقيضين في عدة أمور (وهو ما يسمى في اللغة بـ “المقابلة”):

الجبال مختلفة الألوان والجبال المكونة من لون واحد، وهو الأسود الذي قد لا يعد لونًا لامتصاصه جميع الألوان.
الصخور المكونة من معادن فاتحةFELSIC، وأخرى داكنةMAFIC.
الفصل بين الجبال المكونة من طبقات أفقية (جدد)، وأخرى ذات قمم أو نتوءات، والتي قد يكون لها خطوط رأسية نتيجة التضاغط.
الصخور الرسوبية (التي تكون الجدد أو الطبقات)، والصخور النارية (المكونة للجبال الغرابيب).

 أي إن الإعجاز الأكبر في الآية يكمن في الفصل بين هذين النوعين من الجبال, الغرابيب والجدد([9]). وهذا مما لا يقدر على إدراكه ـ فضلًا عن الإخبار به ـ أي شخص في البيئة الصحراوية البدوية دون وحي من الله سبحانه وتعالى الخالق والعالم بدقائق خلقه.

3)  وجه الإعجاز:

أشار القرآن الكريم في قوله تعالى:)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر) إلى اختلاف وتنوع صخور الجبال وألوانها، كما أشار إلى دور الماء في تلوين الصخور، وهذا ما أثبته العلم الحديث في تصنيفه للجبال على أساس تنوع صخورها، وإثبات دور المياه في تلوين هذه الصخور، وهي إشارات علمية دقيقة تنبئ عن علم الله المحيط وطلاقة قدرته سبحانه وتعالى في إبداع خلقه بدقة لا يستطيع الإنسان إدراكها والتعبير عنها دون وحي إلهي معجز.    

(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.

[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، دمشق، ط3، 1429هـ/ 2008م، ص191. وانظر: ألوان الجبال، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيلwww.kaheel7.com.

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص331: 334.

[3]. لسان العرب، مادة: جدد.

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج14، ص342، 343.

[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص553.

[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2942.

[7]. علاقة الماء بلون الصخور، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

[8]. الجبال اختلاف في الألوان وثراء في الصنعة، د. كارم السيد غنيم، مقال منشور بموقع: إسلام أون لاين www.islamonline.net.

[9]. من إعجاز حديث القرآن عن الجبال، هشام طلبة، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.

دعوى خطأ القرآن في تقسيمه أنواع الحجارة

يدعي المغالطون أن القرآن أخطأ في تقسيمه أنواع الحجارة الواردة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، ذاهبين إلى أن الآية قد قسمت الحجارة إلى ثلاثة أنواع:

حجارة نهرية تأتي بالأنهار.
حجارة آبارية تأتي بالعيون والآبار.
حجارة خاشعة تهوي من خشية الله.

وهذا التقسيم ـ في زعمهم ـ يخالف ما توصل إليه علماء الجيولوجيا من أن أنواع الحجارة هي:

حجارة نارية.
حجارة رسوبية.
حجارة متحولة.

وعليه فالقرآن يناقض العلم في هذا الأمر ويخالفه.

وجه إبطال الشبهة:

إن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأية حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه الحجارة من حيث القسوة، بل يؤكد صحة ما جاء به القرآن، ذاك أن العلم الحديث قسم الحجارة على أساس كيفية الوجودmode of occurance ، فقسمها إلى صخور نارية، وصخور رسوبية، وصخور متحولة، أما القرآن الكريم فقد قسمها من حيث خواصها الكيميائية والمعدنية، والتي كشف عنها العلم الحديث في الآونةالأخيرة؛ لذا لا يوجد أدنى تعارض بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.

التفصيل:

1) الحقائق العلمية:

لقد كانت قسوة الحجارة إحدى الظواهر الكونية التي اكتشفها الإنسان مبكرًا فاستخدمها في بناء مسكنه وحفر بئره وطحن حبه وغيرها من الاستخدامات البدائية، لكن الإنسان لم يعلم أن هذه الظاهرة يمكن حسابها كميًّا، وبالتالي الاستفادة منها بشكل أكبر وأفضل ـ إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

وتعتبر قسوة الحجارة (stiffnessof stones)من أهم خصائصها الميكانيكية، وتعتمد على نشأة الحجر، وتركيبه الكيميائي والمعدني، وبنيته ونسيجه، كما تعتمد على تاريخه في الأرض، والتغيرات البعدية التي تعرض لها‏,‏ ويؤثر ذلك كله في شدة تماسك مكوناته‏,‏ وقدرته على مقاومة العديد من العمليات الأرضية، من مثل الانضغاط (Compressibility or Compaction)، والإجهاد القصي (Tenacity orResistance to Shear Stress or Stress Stain)، وهي أبعاد لا بد من قياسها عند تقييم درجة متانة الحجر‏,‏ وقدرته على تحمل المنشآت علىه‏,‏ أو الحفر فيه‏ ‏للتعدين أو شق الترع والخنادق وغيرها‏.

‏وانضغاطية الحجر أو قابليته للانضغاط ‏(Compaction)‏ تعني قابليته للهبوط تحت تأثير الأحمال الواقعة عليه‏,‏ ويعتمد ذلك ـ فيما يعتمد من عوامل عديدة ـ على مسامية الحجر([1])‏,‏ وقدرته على إنفاذ الموائع ‏(نفاذيته‏)([2]),‏ وتركيبه البنيوي‏,‏ ووزن الأحمال المسلطة عليه‏، ‏وفي ذلك تقسم الأحجار إلى قليلة‏,‏ ومتوسطة‏,‏ وشديدة الانضغاط.

وبالنسبة لمتانة الأحجار، أو قدرتها على مقاومة الإجهاد القصي، أو الاستجابة له مما يؤدي إلى إعادة توزيع القوى الداخلية للحجارة ـ فإنها تقاس بمعاملي القدرة على مقاومة الاحتكاك‏,‏ وشدة تلاصق المكونات‏,‏ وكلاهما يعتمد كذلك على نشأة الحجر‏,‏ وتركيبه المعدني والحبيبي ‏(الميكانيكي‏),‏ والروابط بين مكوناته‏,‏ ودرجة الرطوبة فيه‏.‏

وتتعرض الحجارة في الأرض لأنواع مختلفة من الإجهاد الخارجي والداخلي‏,‏ ويتم ذلك في الحالة الأولى؛ نتيجة للضغط الخارجي عليها بواسطة وزن كتلة الصخور التي تعلوها أو بواسطة الضغوط الجانبية الناتجة عن تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض في اتجاه التصادم والتضاغط‏,‏ أو في اتجاه الشد والتباعد‏,‏ مما ينتج عنه العديد من البنيات الأرضية من مثل خطوط التصدع‏,‏ والفواصل والتشققات الأرضية التي تؤدي إلى تفجر الماء المخزون تحت سطح الأرض، وفي حالة الضغوط الداخلية فإن ذلك يتم بواسطة الموائع المختزنة في الحجارة،‏ من مثل: الماء‏,‏ أو النفط‏,‏ أو الغاز‏ .

وكل نوع من هذين النوعين من إجهاد الأحجار قد يكون قويًّا أو ضعيفًا‏,‏ وقد يكون سريعًا أو بطيئًا‏,‏ وقد يكون في اتجاه واحد أو في أكثر من اتجاه‏,‏ والنتيجة النهائية تعتمد على شدة ذلك الإجهاد‏,‏ وعلى نوع الحجارة‏,‏ وعلى الظروف المحيطة بها من الضغط ودرجة الحرارة‏,‏ وتتمثل في استجابة الحجارة للإجهاد بتغيرات ملحوظة في الحجم والهيئة قد تنتهي بتقليل قسوتها وتكييفها بتصدعها‏,‏ أو بتشققها وتكسرها‏,‏ وحيئنذٍ يفيض الماء منها‏. وكل من الجبال والمرتفعات الناتجة عن العمليات الأرضية المختلفة يتم بريها بواسطة عمليات التعرية المختلفة، ومنها النحر الرأسي للمجاري المائية‏,‏ وتكوين المساقط والشرف النهرية والقنوات العميقة التي تعين على تفجير الماء المخزون تحت سطح الأرض‏.‏

الخصائص المائية للحجارة ودورها في تليين قسوتها‏:‏

ينزل على الأرض سنويا ما مجموعه 380,000‏ كم3 من ماء المطر‏,‏ الذي يتبخر أصلًا من بحارها ومحيطاتها‏,‏ ومن المسطحات والمجاري المائية على الىابسة‏,‏ ومن الأنشطة الحياتية المختلفة كنتح النباتات، وتنفس وإخراج كل من الإنسان والحيوان‏.‏

ويتسرب جزء من ماء المطر إلى ما تحت سطح الأرض عن طريق كل من التربة‏,‏ والطبقات المسامية‏,‏ والحجارة والصخور الممزقة المنفذة للماء‏.

ويتحرك الماء المتجه إلى ما تحت سطح الأرض أولًا في الاتجاه الرأسي بفعل الجاذبية حتى يصل إلى المخزون المائي‏,‏ ثم يتبع ميل الطبقات المنفذة الحاملة للماء إذا كانت مائلة حتى يظهر الماء على سطح الأرض مرة أخرى على هيئة تدفق مائي بشكل من الأشكال التي منها العيون والينابيع‏,‏ والمجاري المائية المختلفة‏,‏ والبرك‏,‏ والبحيرات‏,‏ والرطوبة الأرضية‏.‏

ويعتمد ذلك أساسًا على معدل سقوط الأمطار‏ أو انصهار الجليد في المناطق المكسوة بالجليد‏,‏ وعلى نوعية كل من التربة والصخور السطحية‏,‏ وعلى حجم الكساء الخضري في المنطقة‏,‏ وعلى معدلات البخر‏,‏ وعلى غير ذلك من عوامل‏.‏

وذلك لأن أكثر من ثلث ماء المطر النازل على مناطق الكساء الخضري يقع على أوراق الأشجار فيتعرض للبخر قبل أن يصل إلى سطح الأرض‏,‏ ويصل نحو الربع إلى سطح الأرض ولكنه إما يتبخر‏,‏ أو يحتبس على هيئة بحيرة داخلية أو سمك من الجليد‏,‏ أو يتحرك على هيئة مجرى مائي يفيض في النهاية إلى البحار والمحيطات‏,‏ وباقي ماء المطر يتسرب إلى ما تحت سطح الأرض إذا كانت نوعية كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض تسمح بذلك‏,‏ وتلعب جذور النباتات دورًا مهمًّا في المساعدة على تشقق كل من التربة والحجارة السطحية‏,‏ وبالتالي تزيد من قدرتها على خزن الماء‏.

كذلك تلعب تضاريس سطح الأرض دورًا مهمًّا في خزن الماء تحته‏,‏ فكلما كانت التضاريس لطيفة الانحدار سمح ذلك ببقاء ماء المطر لفترة أطول فوق سطح أرض المنطقة؛ مما يساعد على تشبع كل من التربة وأحجار سطح الأرض بماء المطر‏,‏ وعلى العكس من ذلك، فإنه كلما زاد انحدار سطح الأرض قلت الفرص لتحقيق ذلك‏.

ويتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض بفعل الجاذبية من المناطق المرتفعة إلى المنخفضات من الأرض تمامًا كما يجري الماء في مختلف مجاريه السطحية‏,‏ إلا أن الماء المخزون تحت سطح الأرض يتأثر بفروق الضغط الداخلي عليه من وزن كم الماء الذي يعلوه‏,‏ ومن ضغوط الصخور المحيطة به‏,‏ وبزيادة تلك الضغوط قد يتحرك هذا الماء ضد الجاذبية فيفيض مكونًا عددًا من العيون، أو الينابيع، أو البحيرات في مستويات عليا من الأرض‏,‏ أو يتحرك ليغذي الأنهار‏.‏ وعلى ذلك فإن تحرك الماء تحت سطح الأرض تحكمه قوانين الجاذبية بين نقطتين مختلفتين في المنسوب‏,‏ وقوانين الأواني المستطرقة([3]) بين نقطتين بينهما فارق كبير في الضغط‏.‏

وفي صخور متوسطة النفاذية يتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض ببطء شديد يتراوح بين نصف السنتيمتر والسنتيمتر ونصف في اليوم الكامل‏,‏ ويرتفع ذلك إلى مئة متر في اليوم وسط صخور عالية المسامية والنفاذية، من مثل الحصى والبازلت الممزق بالشروخ والشقوق‏,‏ وقد تتدني حركة الماء وسط الصخور المتبلورة إلى عشرات قليلة من السنتيمترات في السنة‏,‏ بينما تصل سرعة تحرك الماء الجاري على سطح الأرض إلى مترين في الثانية الواحدة‏,‏ وذلك في أبطأ المجاري المائية المعروفة‏([4]).

‏ تباين الصفات المائية لتربةالأرض ولحجارتها وصخورها‏:‏

تتباين الصفات المائية لتربة الأرض ولحجارتها بتباين صفاتها الطبيعية‏,‏ والكيميائية‏,‏ والميكانيكية‏,‏ ومنها المسامية والنفاذية‏,‏ والصفات الشعرية([5]),‏ وقدرة حبيباتها على الاحتفاظ بالماء حول كل حبة منها على هيئة أغشية تحيط بها‏,‏ وقدرة كل منها على التوصيل الحراري‏,‏ والكهربي‏,‏ وعلى توصيل الموجات الصوتية‏,‏ والاهتزازية‏,‏ وعلى احتواء نسب معينة من الأملاح القابلة للذوبان في الماء أو التفاعل معه‏,‏ ومنها درجة اللدونة أو المرونة ‏(Plasticity)، والقدرة على الانتفاخ ‏(Infiation Capacity),‏ وعلى التشرب بالماء Capacity) (Soaking, ‏وعلى الانكماش‏ (Shrinkage Capacity),‏ وعلىالهبوط ‏(Sutbsidence Capacity).

فالحجارة الصلصالية على سبيل المثال يتغير شكلها بتغير كمية الماء الموجودة فيها؛ لأنها تتحول من صخور صلبة أو شبه صلبة إلى الحالة المائعة تمامًا بزيادة كمية الماء فيها‏,‏ وبذلك يمكن الحكم على إمكان مقاومتها للأحمال الخارجية‏,‏ وعلى قدرتها على الثبات فوق المنحدرات أو هبوطها منها‏.

وبتمدد المسام الدقيقة للحجر بعد تشربه بالماء يمكن أن ينتفخ حجمه ويتغير شكله‏,‏ فإذا سحب منه الماء انكمش‏,‏ وتُصاحب عملية الانكماش في الحجم عادة بتشقق الحجارة وانفلاقها فيخرج منها الماء إذا كانت خازنة له بكميات كبيرة، ‏وتتباين تربة الأرض وحجارتها كذلك في قدرتها على الانتفاخ بالماء والانكماش بفقده تباينًا كبيرًا، كما تتباين في قابليتها للهبوط بتأثير وزنها الذاتي‏,‏ ويزيد ذلك بصورة ملحوظة كلما دقت حبيبات الحجر أو التربة‏,‏ وزادت فيها نسب تجانسها‏,‏ ومساميتها‏,‏ وخاصيتها الشعرية‏,‏ والأملاح القابلة للذوبان في الماء‏،‏ ويشاهد هبوط كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض بصفة خاصة في المناطق التي يضخ من مخزونها المائي تحت سطح أرض بكميات مبالغ فيها‏,‏ كما هو الحال في حوض لندن الذي يهبط بمعدل يتراوح بين ربع ونصف المتر في السنة‏,‏ وأرض المكسيك التي وصل الهبوط فيها إلى أكثر من عشرة أمتار خلال السنوات القليلة الماضية‏.‏

تباين زاوية الانحدار للتربة أو للحجارة‏:‏

تعتبر قيمة زاوية الانحدار الطبيعي للتربة أو للحجارة المكونة لسطح الأرض عاملًا أساسيًّا لثباتها فوق المنحدرات‏,‏ ولكل نوع منها زاوية انحدار قصوى إذا تعدتها فإنها تنهار فورًا‏,‏ وتعتمد قيمة هذه الزاوية على نوع التربة أو الحجارة‏,‏ وعلى تركيبها الكيميائي والمعدني والميكانيكي‏,‏ وعلى درجة تشبعها بالماء‏،‏ وتقل قيمة هذه الزاوية بزيادة كل من الرطوبة‏,‏ وكمية الماء المخزون‏، وإذا وصل أي جزء من التربة أو الحجر إلى زاوية انحداره فإنه ينهار في الحال هابطًا من أعلى مناسيب سفوح الجبال إلى أخفض مستوياتها‏، ويلعب الماء المخزون في تربة وحجارة وصخور الأرض دورًا مهمًّا في انهيارها وهبوطها بالكامل‏.‏

وهذه الحقائق كلها لم يتوصل إليها العلماء إلا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم تكتمل معرفة الإنسان بها إلا في العقود المتأخرة في القرن العشرين([6]).

تقسيم الحجارة من حيث زاوية الإجهاد:

يقسم العلماء الحجارة من الناحية الميكانيكية من زاوية الإجهاد باستجابة الحجارة إلى نوعين مثاليين تتدرج الأنواع الأخرى للحجارة بينهما:

النوع الأول: تكون فيه علاقة الإجهاد باستجابةالحجارة علاقة طردية، بحيث كلما زاد الإجهاد زادت استجابة الحجر بتغير حجمه وهيئته، ومع زوال الإجهاد يزول التغير في حجم الحجر وهيئته، وهذا النوع تنتهي علاقة الإجهاد فيه باستجابة الحجر بالتشقق أو التكسر عندما تصل التغيرات فيه إلى نسبة 3: 5% من الحجم والهيئة الأصليين، ويسمى هذا النوع بـ “الحجر التكسري” ( .(Brittle Rock

أماالنوع الثاني: فتكون فيه علاقة الإجهاد باستجابة الحجر ابتداء علاقة طردية كالنوع الأول، إلى أن يصل إلى حد المرونة (Elastic Limit)، فتأخذ علاقة الإجهادباستجابة الحجر نمطًا آخر يتميز بزيادة استجابة الحجر للإجهاد، بحيث تظهر تغيرات كبيرة في حجم الحجر وهيئته مع أية زيادة طفيفة للإجهاد، ويتميز كذلك بعدم زوالالتغيرات في حجم الحجر وهيئته بزوال الإجهاد. وهذا النوع لا ينتهي فيه الحجر بالتشقق أو التكسر إلا عندما تصل فيه التغيـرات إلى نسبـة 5: 10% من الحجم والهيئة الأصليين للحجر، ويسمى هذا النوع بـ “الحجـر اللدن” (Ductile Rock).

يقول أحد العلماء: إن إحدى النتائج الأساسية لاختبار قوة الحجارة أن قياسات قوة الحجارة لا تعني شيئًا البتة ما لم تكن الظروف التي حصلت فيها استجابة الحجارة معروفة، وكذلك فإنالاصطلاحات على تقسيم الحجارة إلى صخور تكسرية Brittle Rock وصخور لدائنيةDuctile Rock لا تكون ذات معنى كبير ما لم تكن الظروف التي تم إجهاد الحجارة فيها معروفة، ومع التغيرات في هذه الظروف مجتمعة فإن هناك مجالًا واسعًا من درجات استجابة الحجارة للإجهاد الواقع عليها، ويكون بالتالي تحديد هذه الاستجابة صعبًا، إلا أنه عندما يتمالتركيز على ظرف واحد من هذه الظروف فإن عملية معرفة استجابة أي صخر للإجهاد كانت تراعي التغيير في طرف واحد فقط، مثل درجة الحرارة أو ضغط السوائل داخل الحجارة، فتأتي نتائج كل تجربة لتصف استجابة الحجارة للإجهاد مع التغير في ذلك الظرف فقط دونالتركيز على الظروف الأخرى([7]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:

لقد أراد الطاعن أن ينفي الإعجاز العلمي عن قوله سبحانه وتعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، وذلك بقوله: إن القرآن الكريم خالف العلم الحديث في تقسيم الحجارة، معتمدًا على مقارنة عقدها بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.

والحق أن المقارنة التي عقدها الطاعن بين التقسيمين غير مستقيمة؛ ذلك أنه من المستحيل عقلًا أن تعقد مقارنة بين شيئين لا وجه للمقارنة بينهما، نعني بذلك اختلاف زاوية النظر التي قام التقسيم على أساسها؛ فالقرآن الكريم قد اعتمد في تقسيمه للحجارة على الخواص الكيميائية والمعدنية لها، بينما العلم الحديث قد قسمها عل أساس كيفية الوجود modeofoccurnce))، إذًا فالمقارنة التي عقدها الطاعن خاطئة من أساسها.

ومع اعترافنا بعدم وجود وجه للمقارنة بين التقسيمين إلا أن ذلك لا يؤدي إلى القول بتناقضهما؛ ذلك أن كلا التقسيمين يكمل الآخر.

ومن جهة أخرى فإن تقسيم القرآن الكريم للحجارة قد أثبته العلم الحديث وبرهن عليه، كما ذكرنا في الحقائق العلمية آنفا.

ولعله من المفيد أن نعرج على الدلالات اللغوية لبعض الألفاظ الواردة في الآية الكريمة.

الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:

يتفجر:يقال: فجر الماء فانفجر؛ أي: بجسه فانبجس([8])، وتفجر الماء ونحوه: انفجر، والفجرة: مكان تفجر الماء([9]). وقال الراغب الأصفهاني: “الفجر: شق الشيء شقًّا واسعًا، ويقال: فجرته فانفجر، وفجرته فتفجر، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل”([10]).

يشّقّق: أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارًا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منفسح([11]).

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في بني إسرائيل، قال ابن كثير: “يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى:)ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة((البقرة:74) التي لا تلين أبدا… فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة”([12]).

وقد أورد أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط المعنى الشامل لقوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)( (البقرة) قائلا: “والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر…)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء( (البقرة:74)، التشقق: التصدع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرًا”([13]).

أما قوله تعالى: )وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)؛ فقد لـخص أبو حيان في البحر المحيط ما ورد فيها عن المفسرين فقال: “واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال قوم: إن قوله: )وإن من الحجارة((البقرة:74) إلى آخره، هو على سبيل المثل؛ بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر في عواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشد قسوة، وأبعد عن الخير.

وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عن الحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشد قسوة من الحجارة”([14]).

وقد علق الفخر الرازي في تفسيره تعليقًا علميًّا على هذه الآية من ناحية ما تضمنته من ظواهر طبيعية فقال: “قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوًا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذٍ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارًا،)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)؛ أي: إن من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينًا لا نهرًا جاريًا؛ أي: من الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل”([15]).

ويشتمل هذا التعليق على تصنيف علمي للحجارة من حيث قسوتها مستنبطًا من هذه الآية الكريمة؛ حيث يقول عن النوع الأول: “فإن كان ظاهر الأرض رخوًا”، ويقول عن النوع الثاني من الحجارة: “وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا”، وقد يكون هذا التعليق من الإمام الرازي من أوائل الاستنباطات العلمية من هذه الآية.

هذا وقد أورد الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لهذه الآية كلامًا علميًّا أيضًا يحسن بنا ذكره في هذا الموضع، يقول: “وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين، وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج؛ لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريًا على قاعدة الجاذبية، فإذا ضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج، حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك؛ فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية، وكان الماء قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي، فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبًا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعًا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر.

وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار، وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذًا إلى أرض ترابية فيخرج طافيًا من سطح الصخور التي جرى فوقها، وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة؛ ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل”([16]).

ويعلق صاحب الظلال على الآية تعليقًا فريدًا يحسن بنا ذكره، قال: “والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى… هي حجارة لهم بها سابق عهد؛ فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى… قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة”([17]).

إن الله عز وجل عندما ذكر في الآية الكريمة قسوة قلوب بني إسرائيل شبهها بإحدى الأشياء المحسوسة لدى البشر وهي الحجارة، ثم في إشارة لكون قلوبهم أقسى من الحجارة ذكر أن الحجارة تتفاوت في قسوتها؛ ليعلم أن قلوبهم أقسى من أقسى الحجارة.

ثم برزت بعض النواحي الإعجازية عند الحديث عن هذه الأشياء المحسوسة؛ لتكون ذات دلالة على السبق القرآني لهذه الظاهرة العلمية لمن يتفكر ويبحث فيها من المتقدمين والمتأخرين، وقد أتت هذهالنواحي الإعجازية مجملة غير مفصلة لتبقي مجال التفكير مفتوحًا وفرص اكتشاف الحقيقة متساوية لجميع من أنزل إليهم هذا القرآن.

الناحية الإعجازية الأولى: تتمثل في أنه عند ذكر قسوة الحجارة ذكر معها أحد الظروف التي لها تأثير كبير على التغير في هذه القسوة، وهو وجود الماء والمقدار النسبي لضغطه داخل الحجارة ونفاذية الحجر. وهذه الحقيقة التي درست وحققت في المختبرات قد أثبتها القرآن الكريم ملخصة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار((البقرة: 74)؛ ففي لفظة “يتفجر” إشارة إلى أمرين: الأول هو وجود الماء تحت ضغط عالٍ داخل الحجر، والثاني هو تعرض الحجر للتكسر وليس للتشقق، وذلك بسبب هذا الضغط العالي؛ حيث إن كلمة التفجر بالنسبة للتحجر تعني التفكك القوي المفاجئ، أمـا لفظة “الأنهار” فتدل على غزارة المياه التي تخرج من هذا النوع من الحجر، ومن ثم إلى النفاذية الكبيرة لذلك الحجر.

الناحية الإعجازية الثانية: وتتمثل في الوصف الدقيق للنوع الثاني من الحجارة في قوله سبحانه وتعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، هذا الوصف مبني على أن تفاوت الحجارة في قسوتها إنما هو مرتبط بعوامل أخرى غير التركيب الكيميائي للحجارة، وفي هذه الحالة هناك ربط لقسوة الحجارة بالضغط القليل للماء الموجود في المسامات بين الحبيبات المكونة للحجارة.

وهذا الوصف العلمي لقسوة الحجارة وعلاقتها بالمقادير النسبية لضغط الماء ومعدل تدفقه من الحجارة ـ قد أورده الله تعالى بشكل دقيق في بضع كلمات في قوله تعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، فيبدأ بقوله (وإن منها)؛ أي: وإن من الحجارة نوعًا آخر في قسوته غير النوع الذي ذكر في الجزء الأول من الآية، (لما يشقق)؛ أي: لما يتصدع أو يتكون فيه شقوق، وصيغة “يشقق” هنا فيها دلالة على المطاوعة؛ أي إن الحجارة شققت بسبب ضغط الماء، فتشقق استجابة لهذا الضغط، (فيخرج)؛ أي يسيل ويتدفق من غير اندفاع؛ لأن كلمة “يخرج” في هذا الجزء من الآية ذكرت في مقابلة “يتفجر” في الجزء السابق من الآية، والتي تدل على الاندفاع بقوة، ثم قوله: (الماء) للدلالة على أن الماء الذي يخرج من هذا النوع من الصخر إنما يكون بكميات قليلة، وهذا يأتي من كونكلمة “الماء” أتت في مقابلة كلمة “الأنهار” في الجزء السابق من الآية.

الناحية الإعجازية الثالثة: وهي ناحية علمية وفيها لمحة إعجازية لغوية في الوقت نفسه، وتتجلى هذه الناحية الإعجازية فيقوله: (وإن من الحجارة)، وفي قوله: (وإن منها)؛ حيث يدل اللفظ في هذين المقطعين من الآية على التبعيض؛ أي إن هذين النوعين من الحجارة هما على سبيل المثال لا الحصر،ومن ذلك يمكن الاستنباط أن الحجارة قد تكون أنواعًا كثيرة من حيث قسوتها، باعتبارالظروف المختلفة التي تكون فيها الحجارة عندما تتعرض للإجهاد([18]). 

إذًا تقسيم القرآن الكريم للحجارة لا يخالف ولا يناقض تصنيف العلم الحديث لها؛ ذلك أن الأخير اعتمد في تصنيفه للحجارة علىأساس كيفية الوجود Modeofoccurrance؛ حيث تقسم الصخور على هذا الأساس إلى ثلاثة أنواع، هي:

صخور نارية Igneous Rocks:

تكونت نتيجة لتبريد وتصلب المادة الصخرية المصهورة في جوف الأرض والتي يطلق عليها الصهيرMagma ، ومن أشهر الصخورالنارية الجرانيت Granite والبازلت Basalt.

صخور متحولةMetamorphic Rocks:

وهي صخور تكونت من صخور سابقة التكوين سواء نارية كانت أم رسوبية، وهي ناتجة من فعل تأثير الحرارة أو الضغط، أو الحرارة والضغط معًا، ومن أشهر الصخور المتحولة الرخامMarble والإردواز.Slate

صخور رسوبية Sedimentary Rocks:

وهي صخور تكونت من صخور سابقة ظهرت نتيجة لعمليات طبيعية شتى مثل التجوية Weathering([19]) بنوعيها، الميكانيكية، والكيميائية، والنقل والترسيب، ومن أشهر الصخور الرسوبية: الأحجار الجيرية، والصخور الطينية، وعلى الرغم من أن هذا التقسيم هو من أكثر تقسيمات الصخور شهرة وتداولًا في مراجع علوم الجيولوجيا، إلا أنه ليس بالتقسيم الوحيد للصخور، فهنالك أكثر من تقسيم للصخور، غير أن الأساس العلمي الذي يستند إليه هذا التقسيم أو ذاك يختلف عن الآخر في وجه من الوجوه([20]).

شكل للصخور الرسوبية

ومن ثم فإن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأي حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ بل يؤكد على صحة ما جاء به، وأن هذا القرآن كلام الله عز وجل أنزله على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريلعليه السلام.

3)  وجه الإعجاز:

 إن معرفة الخواص الكيميائية والمعدنية للحجارة لم يعرفها الإنسان إلا في العصر الحديث، هذه الخواص قد أشار إليها القرآن منذ أكثر من 1400 عام في تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ حيث ذكر أن هناك أنواعًا من الحجارة يتفجر منها الأنهار، وأنواعًا أخرى تشقق فيخرج منها الماء، وأنواعًا ثالثة تهبط من خشية الله، قال الله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة) ، وكل هذا يشهد بعظمة القرآن وبكونه منزّلًا من عند الله سبحانه وتعالى على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

(*) موقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. المسامية: مجموعة الفجوات ـ متصلة أو غير متصلة ـ في صخر أو في مادة أخرى يمكن أن يحوي مائعًا (سائلًا أو غازًا)، وهي أيضًا القيمة العددية التي تعبر عن هذه الفجوات. 

[2]. النفاذية: قدرة الصخر على السماح بمرور السوائل بداخله، أو هي مقدرة الصخر على توصيل أو تصريف السوائل تحت ضغط الميل الهيدروليكي، وهذه المقدرة لتوصيل السوائل يفترض أنها محكومة بقانون داركسي.

[3]. تنص قوانين الأواني المستطرقة على أننا إذا ما وضعنا سائلًا في مجموعة أوانٍ متصلة ببعضها، فإن المستوى العلوي للسائل سيكون متساويًا في الأواني كلها، على الرغم من اختلافها في الشكل والحجم.

[4]. وبطء حركة الماء المخزون تحت سطح الأرض يمثل صورة من صور الحكمة الإلهية في إبداع الخلق؛ وذلك لكي يبقى هذا الماء المخزون لأطول مدة ممكنة في المنطقة التي خُزن فيها ‏(تصل إلى عشرات الآلاف من السنين‏)‏؛ لأنه خُزن في وقت كان المطر فيه غزيرًا‏,‏ وكانت المجاري المائية السطحية كافية لسدِّ حاجات السكان‏,‏ وبعد تغير المناخ‏ وندرة المطر‏ يبقى المخزون من الماء تحت سطح الأرض هو مصدر الماء الرئيسي لساكني المنطقة‏,‏ وبتغير المناطق المناخية يبقى المخزون المائي تحت سطح الأرض شاهدًا لله‏ ‏سبحانه وتعالى بتدبير أمر الكون بعلمه وحكمته وقدرته.

[5]. الصفات الشعرية: خاصية فيزيائية يتم بواسطتها انتقال السائل من الأسفل إلى الأعلى، كانتقال الماء من أسفل الشجرة (الجذور) إلى أعلاها (الورق).

[6]. الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: www.islamicmedicine.org.

[7]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.

[8]. لسان العرب، مادة: فجر.

[9]. المعجم الوسيط، مادة: فجر.

[10]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص373.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص464.

[12]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج13، ص113.

[13]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، عند تفسيره لهذه الآية.

[14]. المرجع السابق.

[15]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، عند تفسيره لهذه الآية.

[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج1، ج1، ص565.

[17]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج1، ص80.

[18]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.

[19]. التجوية: عملية تفتيت وتحلل الصخور والتربة والمعادن المكونة لها في موقع تلك الصخور نفسه بواسطة التأثير الفيزيائي والكيميائي والحيوي للرياح أو المياه أو تغير الطقس ودرجات الحرارة التي تتعرض لها.

[20]. تصنيف الصخور في القرآن الكريم، الهاشمي، بحث منشور بموقع: www.dahsha.com.

نفي إعجاز القرآن الكريم في إخباره عن خلق الجنين في ظلمات ثلاث
 
مضمون الشبهة:
 
يواصل المغرضون طعونهم وتشكيكاتهم حول قضايا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؛ فينكرون إعجاز القرآن في إخباره عن خلق الجنين في ظلمات ثلاث، والذي جاء في قوله تعالى: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر).
 
زاعمين أن قصارى ما تفيده الآية أن الجنين يعيش في ظلام داخل الأرحام، وقد تكون هذه الظلمة ظلمة مادية أو معنوية روحية، ولا معنى لحصرها في ظلمات ثلاث.
 
كما يجعلون من الاختلاف الواقع بين علماء الإعجاز العلمي حول تحديد مصادر هذه الظلمات الثلاث ـ مسوغًا لنفي الإعجاز عن الآية الكريمة.
 
كما يطعنون في جعل المشيمة بأغشيتها إحدى هذه الظلمات الثلاث، زاعمين أنها لا تحيط بالجنين من جميع أطرافه، وأنها جسم شفاف يسمح بمرور الضوء إلى داخله، وبهذا فكيف يمكن اعتبارها إحدى هذه الظلمات الثلاث؟!
 
وهم يخلصون بهذا إلى أن الآية الكريمة السابقة لا علاقة لها بالإعجاز العلمي القرآني في خلق الأجنة.
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1)أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الجنين لا يكتمل خلقه بصورة كاملة سليمة إلا بوجود ظلام حالك في مراحل خلقه وتكوينه؛ حفاظًا على خلاياه وأعضائه، وإلا لخرج الجنين مشوها، أو لفسدت البويضة الملقحة ابتداء بفعل الضوء.
 
وقد ذهب معظم علماء الإعجاز العلمي إلى أن الباعث على هذا الظلام ثلاثة أشياء تمثل ظلمات ثلاث، وهي: المشيمة بأغشيتها، ثم جدار الرحم، ثم جدار البطن أو بدن الإنسان، وهذا ما ذهب إليه جل المفسرين من قبل، وهذا هو الراجح في تحديد الظلمات الثلاث، ولذلك فالجنين يخلق في بطن أمه في ظلمات ثلاث.
 
2) أثبت العلم الحديث أن الجنين يحاط بمجموعة من الأغشية داخل الرحم، هي بمثابة مركز الغذاء والحماية للجنين، وذلك بما تحويه من سوائل، وبروتينات، وأوعية دموية، وخلايا متنوعة، وهرمونات منشطة، وهذه الأغشية مجتمعة يطلق عليها المشيمة “السخد”، وأكد العلماء أن هذه الأغشية بما تحويه من هذه الخلايا والهرمونات والأوعية الدموية تمثل ظلمة حالكة حول الجنين، وهي على التوالي من الداخل إلى الخارج:
 
الغشاء الأمينوسي “السلى”.
الغشاء الكوريوني “المشيمي”.
الغشاء الساقط.
 
وهي تحيط بالجنين إحاطة تامة من جميع جوانبه، وهي مجتمعة تمثل الظلمة الأولى على الجنين في مراحل تخلقه المختلفة في بطن أمه، مصداقًا لما جاء في قوله تعالى: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث(  (الزمر: ٦).
 
التفصيل:
 
أولا. ثبوت إعجاز القرآن الكريم في الإخبار عن خلق الجنين في ظلمات ثلاث:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
لقد أثبت العلم الحديث أن الضوء هو أكثر ما يعرض الجنين للأذى والمخاطر في مراحل تخلقه وتكوينه المختلفة، وأن الظلمة ضرورية جدًّا لتخلق الجنين في سلامة واكتمال، وأن هذه الظلمة تتمثل بصورة فعالة واضحة في بطن الأم؛ حيث تبدأ مرحلة الخلق أو التخلق منذ سقوط النطفة الأمشاج أو البويضة المخصبة (الزيجوت) في الرحم، وتنغرس فيه، وهنا تتمثل عناصر الظلمة واضحة على الجنين في هذه المرحلة وما يليها، وهذا ما يقوم به جدار البطن ثم جدار الرحم، ثم ما يحيط بالجنين من أغشية مما يسمى بالمشيمة، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض.
 
وهذا ما أكده أحد باحثي الإعجاز العلمي بقوله: “أما عن أهمية الظلمة للجنين؛ فإن الظلمة ضرورية لتخلق الجنين؛ وذلك لأن الضوء عامة يؤذيه، فقد يتسبب الضوء في إتلاف شبكية العين قبل اكتمال نموها، كما أن الضوء قد يؤذي خلايا الجنين، وقد يكون فتاكًا بالنسبة إلى البويضة.
 
فقد أظهرت الأبحاث أن الضوء فوق البنفسجي (32 إلى 400 نم) وأن الأشعة الكثيفة والقريبة من الطول الموجي (wavelength) القريب إلى الأحمر (أكبر من 750 نم) تؤذي الجنين، كما أن الضوء الهالوجيني المستعمل عادة أيضًا يؤذي البويضة.
 
إن الضوء الوحيد الذي لا يؤذي الجنين هو الضوء الأخضر (ذو الطول الموجي ما بين 575 ـ 525 نم).
 
وكما نعلم فإن تخلق الجنين يعتمد على استنساخ الخلايا، فإذا تأذت الخلايا الأولى تولدت الخلايا المنسوخة مع الأذى الذي لحق بالأولى.
 
نود الإشارة إلى أنه بما أن الضوء يؤذي الخلايا، فإذا خف استنساخ الخلايا المعطوبة من جراء الضوء ـ والتي ستؤلف الجنين ـ خف الضرر الذي يتولد عن تأثير الضوء ـ والله تعالى أعلم ـ وهذا يعني أنه كلما تقدم الجنين في السن وتخطى مرحلة تخلق الأعضاء، خف تأثير الضوء على الجنين، أضف إلى ذلك أن نشوء الجلد وتغطيته للجسم والحجاب الذي يفرضه يخفف من أذى الضوء للجنين”([1])، “فإنه لا بد لكي يتم الخلق كاملًا قويًّا دون تشوه أن يتم ذلك في جو مظلم، فالخلايا الابتدائية لا تعيش في نور الشمس، بل تجف أو تتشوه أو تموت”([2]).
 
هذا عن أهمية الظلام للجنين في مراحل تخلقه الأولى في بطن أمه، ومخاطر الضوء عليه؛ لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن ينشأ الجنين في ظلام حالك في بطن الأم، ويتمثل هذا الظلام في مجموعة الأغشية التي تحيط بالجنين (المشيمة)، ثم جدار الرحم، ثم جدار البطن.
 
ويوضح ذلك الدكتور زغلول النجار قائلا: “يحاط الجنين في داخل الرحم بمجموعة من الأغشية هي من الداخل إلى الخارج كما يلي: غشاء السلي أو الرهل (AMNION)، والغشاء المشيمي (CHORION)، والغشاء الساقط (DECIDUA)، وهذه الأغشية الثلاثة تحيط بالجنين إحاطة كاملة، فتجعله في ظلمة شاملة هي الظلمة الأولى.
 
ويحيط بأغشية الجنين جدار الرحم، وهو جدار سميك يتكون من ثلاث طبقات تحدث الظلمة الثانية حول الجنين وأغشيته.
 
والرحم المحتوي على الجنين وأغشيته في ظلمتين متتاليتين يقع في وسط الحوض، ويحاط إحاطة كاملة بالبدن المكون من كل من البطن والظهر، وكلاهما يحدث الظلمة الثالثة”([3]).
 
                                                                      رسم تخطيطي لجنين بشري في داخل الرحم (الظلمات الثلاث المحيطة بالجنين)
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
تسير منظومة هذا الكون بمقاييس محددة شديدة الدقة، تتمكن بها كل الكائنات من القيام بدورها خير قيام، ويتمثل هذا واضحًا في مسألة الخلق؛ حيث يستكمل كل خلق خلقه بنظامه المحدد، ودقته المتناهية، وبما يحفظ له اكتماله وسلامته، والقدرة على القيام بدوره في هذا العالم العجيب، إنها قدرة إلهية حكيمة خالقة خارقة.
 
لا يشذ خلق الجنين عن هذه المنظومة الإعجازية في الكون؛ حيث يمر الجنين في خلقه وتكوينه بمجموعة من المراحل والأطوار، كل مرحلة تسلم أختها حتى يكتمل الجنين خلقًا سويًّا فعالًا، وهذه المراحل المتعاقبة تتم في ظلمات ثلاث داخل بطون الأمهات؛ حفاظًا على هذا الجنين من مخاطر الضوء ومؤثراته المضرة على خلايا الجنين وأعضائه، فالظلمة ضرورية ليس فقط في خلق الإنسان، وإنما في خلق المخلوقات جميعها.
 
“ومن تقدير العزيز الحكيم أنه خلق خلقه جميعًا في ظلمات، ما من خلق إلا خلقه الله في ظلمة؛ ففي البحار: خلق الله تعالى الكائنات الحية في ظلمة البحر، فكلما نزلنا تحت سطح الماء في البحار وجدنا أنفسنا في ظلمات، حتى إن الغواص يجد نفسه في حاجة إلى مصباح كهربائي ليبدد الظلمات من حوله، فالله خلق الكائنات البحرية في ظلمة البحر: )أو كظلمات في بحر لجي ((النور: ٤٠)، وكل نبات بدأ خلقه من حبة في ظلمة التربة، فكل المملكة النباتية إنما خلقت في ظلمة التربة، قال تعالى: )وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59)((الأنعام)، وكل الدواب والإنسان إنما بدأ خلق كل منهما في (ظلمة الرحم)، وحتى الفضاء الكوني حيث الكواكب والنجوم في ظلمة تامة، وكل خلق في الفضاء الكوني يسبح في ظلمة: )وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29)((النازعات).
 
هذا ما توصل إليه العلماء حديثًا؛ علماء النبات، وعلماء البحار، وعلماء الفيزياء الكونية، وعلماء الأجنة، ولم يكن كل ذلك معروفًا من قبل، إلا أن الله تعالى ذكره في القرآن العظيم”([4]).
 
وهكذا خلق الإنسان يمر بمراحل متعددة، ويخلق داخل بطن الأم في ظلام، بل في ظلمات ثلاث، قال تعالى: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)((الزمر).
 
وهذه الظلمة على أنها ظلمة حسية في خلق الإنسان قد تدل على ظلمة معنوية أيضًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله تبارك وتعالى خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول جف القلم على علم الله”([5]).
 
هذه حقائق بيِّنة الوضوح تُظهر دقة هذه الآية الكريمة وإعجازها العلمي والبياني على السواء، إلا أن الطاعن لا تروق له هذه الحقائق، فيطعن فيها، وينكر هذا الإعجاز العلمي البين للآية الكريمة، مسوغًا ذلك بأن الظلمات الثلاث التي تحدثت عنها الآية الكريمة مختلف فيها بين علماء الإعجاز العلمي، ومختلف فيها كذلك بين المفسرين، ولكن الطاعن جانبه الصواب والإنصاف كثيرًا في هذا الأمر، وهذا ما يبينه التفصيل الآتي:
 
من أقوال المفسرين:
 
ذهب جمهور المفسرين في تفسير هذه الآية إلى أن الظلمات الثلاث المقصودة في خلق الجنين هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة.
 
فيقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: “وقوله: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق((الزمر:6)، يقول تعالى ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق؛ وذلك أنها يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم يكسو العظام لحمًا، ثم ينشئه خلقًا آخر، تبارك الله وتعالى، فذلك خلقه إياه خلقًا بعد خلق… وقوله: )في ظلمات ثلاث((الزمر:6)، يعني: في ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ونحو الذي قلناه في ذلك قال أهل التأويل”([6]).
 
وذكر هذا التفسير ـ أيضا ـ الإمام القرطبي؛ فقال: “)في ظلمات ثلاث((الزمر:6)، ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك، وقال ابن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل، والقول الأول أصح، وقيل: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، وهذا مذهب أبي عبيدة”([7]).
 
وأكد هذا التفسير ـ أيضا ـ الإمام ابن كثير بقوله: “وقوله جل وعلا: )في ظلمات ثلاث((الزمر:6)،  يعني في ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد، وظلمة البطن، كذا قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد، وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد”([8]).
 
وكذلك نجد هذا التفسير للآية الكريمة عند بعض المفسرين حديثًا، كما جاء عند صاحب التحرير والتنوير، قال: “والظلمات الثلاث: ظلمة بطن الأم، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهي غشاء من جلد يخلق مع الجنين محيطًا به ليقيه وليكون به استقلاله مما ينجز إليه من الأغذية في دورته الدموية الخاصة به دون أمه”([9]).
 
وذكر ذلك ـ أيضًا ـ صاحب الظلال؛ فقال: “)في ظلمات ثلاث( (الزمر:6): ظلمة الكيس الذي يغلف الجنين، وظلمة الرحم الذي يستقر فيه هذا الكيس، وظلمة البطن الذي تستقر فيه الرحم، ويد الله تخلق هذه الخلية الصغيرة خلقًا من بعد خلق، وعين الله ترعى هذه الخليقة، وتودعها القدرة على النمو، والقدرة على التطور، والقدرة على الارتقاء، والقدرة على السير في تمثيل خطوات النفس البشرية كما قدر لها بارئها”([10]).
 
وقد بيّن الشيخ الشعراوي أهمية الظلمة للجنين؛ فقال عند تفسير هذه الآية: “ولما تكلم العلماء في معنى الظلمات الثلاث قالوا: هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. وكلمة الظلمة نفهم منها عدة أمور:
 
أولا: الظلمة تعني عدم وجود النور، وهي مرتبطة بالليل.
 
ثانيا: الليل دائمًا رطب عن النهار؛ لأن النهار فيه حرارة الشمس وحرارة الأنفاس الناشئة عن الحركة، أما الأنفاس في الليل فهادئة؛ لأنها لمجرد استبقاء الحياة، وليست ناشئة عن حركة العمل والجهد المبذول.
 
ثالثا: كذلك في الظلمة سكون وهدوء لا يتوفر في النهار.
 
إذًا؛ في الظلمة عدم نور، وفيها برودة، وفيها سكون، وهذه الأمور الثلاثة ضرورية لنمو الجنين، وتكوّن أعضائه في بطن أمه؛ لأنه في بطن أمه خلق ضعيف غير مكتمل الأعضاء والجوارح، لا يقوى على تحمل الحرارة، ولا تحمل الضوء، ولا تحمل الأصوات المزعجة؛ لذلك جعل له الخالق سبحانه عوازل تقيه هذه الأشياء؛ لذلك قال سبحانه:)في ظلمات ثلاث((الزمر:6)”([11]).
 
وعلى هذا، فمن خلال إيراد آراء المفسرين وأقوالهم في معنى هذه الآية الكريمة يتبين أن الجنين يمر بمراحل متعددة في الخلق، كلها تمر داخل ظلمة، وهذه الظلمة مهمة جدًّا بالنسبة لنمو الطفل وسلامته.
 
وقد ذهب معظم المفسرين إلى أن الباعث على هذه الظلمة ثلاثة أشياء، وهي: ظلمة جدار البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة المشيمة التي تحيط بالجنين، وهكذا يتم خلق الجنين في بطن الأم في ظلمات ثلاث. وهذا ما يتفق تمامًا مع الحقائق العلمية السالفة الذكر.
 
كما يتبين الإعجاز العلمي للآية الكريمة في إخبارها عن تخلق الجنين طورًا بعد طور في ظلمات ثلاث، فقد أثبت العلم الحديث أن الجنين يمر في خلقه وتكوينه بمجموعة من الأطوار والمراحل، من كونه نطفة أمشاجًا، إلى كونه علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسوة العظام لحمًا، ثم اكتمال الجنين ونشأته، وهذه المراحل المتعاقبة تتم في بطن الأم في ظلمات ثلاث، وتوفر هذه الظلمات للجنين الحماية والسلامة، والتخلق التام للأعضاء دون أضرار أو تشوهات، كما تدل على عظمة الخالق الذي لا يحول دون دقة خلقه وعظمته حائل، ولا يمنعه من إحكام صنعه مانع. هذا عن إعجاز القرآن الكريم في ذكر هذه الآية.
 
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا ـ والذي اتخذه الطاعن حجة في نفي إعجاز هذه الآية ـ هو: ما هذه الظلمات الثلاث؟ وما أهم خصائصها؟
 
قال عز وجل: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا منبعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)((الزمر).
 
تتحدث هذه الآية عن موضعين أساسيين، هما: الظلمات، والتخلقات المتتالية؛ فقوله:)خلقا من بعد خلق((الزمر:6) يشير إلى أن الجنين يمر في أطوار ومراحل مختلفة، ولكن الذي يضاف إلى هذا التفسير هو أن هذه الأطوار يجب أن يكون لها طابع خاص ألا وهو: التخلق، فالطور: هو الهيئة التي تظهر على الجنين، والتي تتميز ببعض التغيرات التي تحصل فيها، وهذه التغيرات قد تكون تخلقات وقد تكون أشياء أخرى؛ كزيادة وزن الجنين، أو عملية تميز الخلايا… إلخ، ولكن ذكر الأطوار في هذه الآية بصيغة التخلق يشير إلى أن الظلمات الثلاث المذكورة هي ضرورية لهذه التخلقات، فما هذه الظلمات؟
 
لا بد أن نستأنس بآيات أخرى وردت في القرآن الكريم تتحدث عن الظلمات لكي تتضح لنا الصورة كليًّا، قال تعالى: )أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور (40)((النور).
 
إذا تأملنا هذه الآية نستنتج أن هذه الظلمات يجب أن تكون واحدة فوق الأخرى، وآية الزمر تحدد عدد الظلمات، فما هي إلا أغطية تحيط بالجنين في أطواره التكوينية، فالغطاء بمثابة حجاب، والحجاب يؤدي إلى ظلمة، وثلاثة أغطية تؤدي إلى ثلاث ظلمات.
 
هكذا يبدأ الخلق عندما تدخل النطفة الذكرية (الحيوان المنوي) النطفة الأنثوية (البويضة)، مكونة البويضة المخصبة أو نطفة الأمشاج، التي تنشطر إلى العديد من الخلايا، هذه الخلايا موجودة داخل غشاء يحيطها من كل الجهات، ألا وهو غشاء البويضة، وهذه البويضة موجودة داخل قناة ترتبط بالرحم ـ قناة فالوب ـ وهذه القناة موجودة داخل البطن، وهكذا تتمثل هنا ثلاث ظلمات تحيط بالخلق: ظلمة البطن، وظلمة القناة (قناة فالوب)، وظلمة غشاء البويضة.
 
وفي مرحلة تالية تقع البويضة المخصبة في الرحم، وأثناء وقوعها تتخلى البويضة عن هذا الغشاء، وتدخل بطانة الرحم لتستبدل به فيما بعد الغشاء المشيمي، وهنا تتطابق المعطيات العلمية مرة أخرى مع المعطيات القرآنية، وتصبح الظلمات الثلاث: ظلمة البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة الغشاء المشيمي، وتلك الظلمات كلها بعضها فوق بعض.
 
هذا على نطاق واسع، أما إذا أردنا أن ننظر بدقة أكثر، فسنرى أن الغشاء المشيمي مؤلف من ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، هي من الخارج إلى الداخل:
 
الغشاء الساقطDECIDUA.
الغشاء الكوريونيCHORION.
الغشاء الأمنيوسيAMNION.
 
كما أن الرحم وقناته مؤلفان من ثلاث طبقات، هي من الخارج إلى الداخل؛ أولاها: طبقة البريتون التي تغطي جسم الرحم، وثانيها: الطبقة العضلية للرحم، وثالثها: الطبقة المخاطية؛ وهي الغشاء المبطن للرحم.
 
كما نشير هنا إلى أن الله سبحانه وتعالى قال: )يخلقكم في بطون أمهاتكم((الزمر:6)، ولم يقل: في أرحام أمهاتكم، دلالة على أن الظلمات غير محصورة في الرحم فقط، ولكن هي في الرحم وخارجه([12]).
 
وعلى هذا فإن الآية الكريمة تتطابق مع الحقائق العلمية الواردة في خلق الجنين مطابقة واضحة، فالجنين يمر في خلقه وتكوينه بمراحل مختلفة متعاقبة، وهذه المراحل تتم في ظلمات ثلاث داخل بطون الأمهات، وأن هذه الظلمة لها أهمية عظيمة للجنين.
 
هذا عن الآية الكريمة وما جاء فيها من إعجاز علمي للقرآن الكريم في الحديث عن خلق الجنين في ظلمات ثلاث.
 
أما عن اختلاف علماء الإعجاز العلمي حول تحديد هذه الظلمات، فهذا لا يطعن بحال في ثبوت الإعجاز العلمي للآية الكريمة، بل قد يزيدها هذا إعجازًا.
 
فالآية تثبت في إعجاز واضح أن خلق الجنين في بطن أمه يمر بمراحل، وهذه المراحل تمر في ظلمات ثلاث.
 
وهذه الظلمات ـ كما سبق أن أشرنا ـ بعضها فوق بعض، وهي تحيط بالجنين من كافة جوانبه، وهي على الراجح كما ذكر معظم المفسرين وعلماء الإعجاز العلمي أنها جدار البطن وجدار الرحم وأغشية المشيمة. فهذا التفسير هو أقرب التفاسير إلى معنى الظلمات الثلاث، فالجنين تتم مراحل تخلقه في الرحم، وتحيط به الأغشية الثلاثة: الأمنيون والكوريون والساقط، وهذه الأغشية مجتمعة تمثل الظلمة الأولى: وهي ظلمة المشيمة، ثم تأتي الظلمة الثانية بفعل جدار الرحم، ثم تأتي الظلمة الثالثة بفعل البدن نفسه، وهكذا يتم تخليق الجنين في ظلمات ثلاث.
 
أما آراء بعض علماء الإعجاز العلمي في تفسير هذه الظلمات غير التفسير الراجح السابق، فمن الضروري الإشارة إليها وبيان ما فيها من قصور عن المعنى المراد في الآية؛ فقد اعتبرها بعضهم: ظلمة الخصية، وظلمة المبيض، وظلمة الرحم، وهذا الرأي بعيد جدًّا عن الصواب؛ لأن الآية الكريمة تقول: )في بطون أمهاتكم((الزمر:6)، فأين الخصية من بطن الأم؟!
 
واعتبرها آخرون: ظلمتي المبيضين، وظلمة الرحم. وهذا الرأي أيضًا غير صحيح ولا يقوم على أساس علمي؛ لأن المبيضين لا يتدخلان معًا في عملية تخلق البويضة، فهي تأتي من مبيض واحد وليس للآخر دور في ذلك، كما أن البويضة في مرحلة خروجها من المبيض ليست من مراحل تخلق الجنين، وإنما يحدث هذا بعد التلقيح.
 
وقال آخرون: إن الظلمات الثلاث هي: ظلمة الغشاء الأمنيوسي، وظلمة الغشاء الكوريوني، وظلمة الغشاء الساقط. ونحن لا نرى هذا الرأي؛ لأن كل غشاء من الأغشية السابقة لا يشكل بمفرده ظلمة. حسب التعبير القرآني لكلمة ظلمة.
 
وقال آخرون: إن الظلمات الثلاث هي: ظلمة الغشاء الساقط القاعدي، وظلمة الغشاء الساقط البيضي، وظلمة الغشاء الساقط الجداري. وهذا الرأي بعيد عن الصواب؛ لأن الأغشية الثلاثة السابقة لا تشكل ظلمة، ولأنها ليست أغشية ثلاثة، وإنما غشاء واحد يسمى بأسماء ثلاثة حسب المنطقة التي يغطيها([13]).
 
وعلى هذا فالتفسير الراجح لهذه الظلمات الثلاث على حسب تعبير الآية القرآنية هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة بأغشيتها. والله تعالى أعلى وأعلم.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد أثبت القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر) أن عملية تخلق الجنين تتم في بطون الأمهات عبر ظلمات ثلاث.
 
وهذا ما كشف عنه علم الأجنة الحديث، فقد أكد علماء الأجنة على أن الجنين يمر في خلقه وتكونه بمراحل مختلفة، وهذه المراحل تمر في ظلمات، وهذه الظلمة تمثل أهمية عظمى للجنين؛ حيث إن الضوء يؤثر على سلامة الجنين واكتماله، ويسبب له شيئًا من تشوه الخلايا وموتها.
 
ثانيا. ثبوت ظلمة أغشية المشيمة وأهميتها بالنسبة للجنين في مراحله المختلفة:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
أشرنا فيما سبق إلى أن معظم العلماء قد ذهبوا إلى أن الجنين يمر في نشأته وتكوينه بمراحل مختلفة من الخلق، وهذه المراحل تمر في ظلمات ثلاث، هي على الراجح: ظلمة البدن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة الأغشية المحيطة بالجنين (المشيمة).
 
وهذه الأغشية التي تحيط بالجنين لا تمثل له ظلمة فقط، وإنما هي صمام الأمان والحماية للجنين في مراحله المختلفة، كما أنها مصدر غذائه وتنميته ونموه، وإذا دققنا النظر في الأغشية المحيطة بالجنين وجدناها ثلاثة، وهي:
 
 أ- غشاء السلى أو الأمنيون، ويحيط بالجنين مباشرة.
 
ب- غشاء الكوريون (الغشاء المشيمي).
 
ج- الغشاء الساقط.
 
وهنا نعرض لهذه الأغشية بشيء من التفصيل؛ ليتبين لنا كيف أن هذه الأغشية تمثل أهمية قصوى لحياة الجنين، كما تمثل ـ من الخارج إلى الداخل ـ ظلمة ثالثة عليه.
 
أ‌- غشاء السلى أو الأمنيون(AMNION):
 
السائل الأمنيوسي، ويدعى أيضًا الرهل، كما يعرف بالغشاء الباطن؛ لأنه يحيط بالجنين من كل جانب.
 
وهو عبارة عن كيس غشائي رقيق ومقفل يحيط بالجنين إحاطة تامة، وبه سائل يزداد مع نمو الجنين حتى يبلغ أوجه في الشهر السابع، حيث يبلغ حجمه لترًا ونصف اللتر (ووزنه كذلك كيلو جرام)، ولكنه يقل بعد ذلك تدريجيًّا حتى يبلغ حجمه لترًا واحدًا فقط قبل الولادة، إلا في بعض الحالات الخاصة التي يزداد فيها السائل الأمنيوني زيادة مفرطة كالتوائم والبول السكري وغيره من الحالات المرضية.
 
وللسائل الأمنيوني فوائد جمة لا يمكن الاستغناء عنها في تكوين الجنين ونموه في الرحم، ونجملها فيما يلي:
 
تغذية الجنين: يحتوي السائل على مواد زلالية وسكرية، وأملاح غير عضوية يمتصها الجنين؛ مما يساعد على تغذيته ونموه.
حماية الجنين ووقايته من الصدمات المفاجئة، والحركات العنيفة، والسقطات التي تتعرض لها الأم.
يسمح للجنين بحرارة ثابتة تقريبًا؛ فهو مكيف جيد بحيث لا تزيد الحرارة ولا تقل إلا في حدود ضئيلة جدًّا.
يمنع السائل الأمنيوني غشاء الأمنيون من الالتصاق بالجنين؛ وذلك لأن التصاق الغشاء بالجنين من العوامل المهمة في حدوث التشوهات الخلقية، فوجود السائل عامل مهم في تجنب هذه التشوهات الخلقية.
يسمح للجنين بالحركة الكاملة داخل الرحم.
ويمكن للطبيب أن يأخذ عينة من السائل الأمنيوني فيفحصه، مما يساعد على التعرف على بعض الأمراض الوراثية.
 
هذه جملة وظائف السائل الأمنيوسي أثناء الحمل، أما وظائفه أثناء الولادة فلا تقل أهمية عن ذلك؛ إذ إن السائل الأمنيوسي يكون جيب المياه الذي يوسع عنق الرحم الذي لا يتسع حتى للخنصر، فإذا به يتسع للوليد بكامله (أكثر من خمسة أصابع) وفي الوقت نفسه يقي الجنين من أن ينحشر وينضغط بين جدران عنق الرحم أثناء الولادة وما يكون فيها من ضغط عالٍ جدًّا، ولولا لطف الله سبحانه وتعالى، ثم جيب المياه هذا لتهشم رأس الجنين أثناء الولادة.. ولا يكتفي السائل الأمنيوسي بكل هذا ولكنه يقوم بتمهيد وتعقيم الطريق للجنين عندما ينفجر جيب المياه فيقتل الميكروبات الموجودة في المهبل قبيل الولادة مباشرة؛ حتى يضمن للجنين طريقًا ممهدًا ومعقمًا في الوقت نفسه.
 
ب‌- غشاء الكوريون Chorion(الغشاء المشيمي):
 
وهو الثاني من الأغشية التي تحيط بالجنين، ويتوسط بين الغشاء الساقط من الخارج والغشاء الأمنيوسي من الداخل، ويتركب هذا الغشاء من ورقتين؛ خارجية وداخلية.
 
أما الورقة الخارجية فبها غازات وخملات كثيرة تنتقل بواسطتها الأغذية والأكسجين من الأم إلى الجنين، كما ينتقل غاز ثاني أكسيد الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم.
 
وأما الداخلية فتغطي كيس المح أو الصفار، وتشمل فيما تشمل مبدأ ظهور الأوعية الجنينية الخارجية.
 
وغشاء الكوريون يتكون بادئ ذي بدء عند تكون النطفة الأمشاج بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، وتنقسم البويضة الملقحة وتصبح مثل الكرة أو ثمرة التوت (وتسمى التوتة MORULLA)، وتتكون هذه الكرة من طبقات من الخلايا، فالطبقة الداخلية يتكون منها الجنين، أما الطبقة الخارجية فتتميز إلى مجموعة من الخلايا الآكلة التي تنشب وتعلق بجدار الرحم، هذه الطبقة الخارجية التي تعلق وتنغرز في الرحم هي التي تتحول إلى غشاء الكوريون الذي نتحدث عنه.
 
وتكون هذه العلقة العالقة بجدار الرحم محاطة بالدم المتخثر أو الغليظ، وتتفرع من الطبقة الخارجية خملات وزغابات عديدة، وتقضم خلاياها في جدار الرحم حتى تتمكن البويضة الملقحة من الانغراز في جدار الرحم، وتقوم بتغذية اللوح الجنيني الذي يخلق الله سبحانه وتعالى منه الجنين بما تمتصه مباشرة من البرك الدموية المحيطة بها.
 
وينمو غشاء الكوريون والخملات مع نمو الجنين، ولا يكتفي بامتصاص الغذاء من البرك الدموية المحيطة به، وإنما تبدأ دورة دموية في غشاء الرحم وتقابلها دورة دموية في غشاء الجنين المشيمي، وعن طريق الخملات التي يرق جدارها يومًا بعد يوم مع تقدم الحمل، ينتقل الغذاء والهواء (الأكسجين وثاني أكسيد الكربون)، كما تنتقل المضادات للأجسام الغريبة من الأم إلى الجنين لتكون للجنين جهاز مناعته، وفي الوقت نفسه تمنع عنه انتقال السموم والميكروبات.
 
ومع ذلك تقبل الأم ما يخرجه الجنين من إفرازات وسموم ناتجة عن عمليات البناء والهدم المستمرة، مثل البولينا وثاني أكسيد الكربون، فتتقبلها وتأخذها في دورتها الدموية الرحمية أولا ثم إلى دورتها الدموية؛ حيث تفرزها بواسطة الكلى عن طريق البول، وهكذا ترى أن ثخانة الخملات تختلف من يوم إلى آخر، وتتغير حسب نمو الجنين ومتطلباته، وكلما كبر الجنين رق الجدار الفاصل بين دورة الدم الرحمية ودورة الدم في الجنين حتى يسهل عبور المواد المهمة النافعة من الأم إلى الجنين، ويتم إخراج المواد الضارة من الجنين إلى الأم (البولينا وثاني أكسيد الكربون).
 
الغشاء الساقط (DECIDUA):
 
وهو ثالث الأغشية التي تحيط بالجنين من جميع جوانبه، وهو مكون من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، وهو رقيق، وينمو هذا الغشاء نموًّا هائلًا بتأثير هرمون الحمل (البروجستون) فتزيد ثخانته من نصف مليمتر عند بدء الطهر من الحيض إلى ثمانية مليمترات آخر الدورة الشهرية وقبيل الحيض، فإذا ما تم الحمل زادت ثخانته أضعافًا مضاعفة، وتزداد فيه الغدد والأوعية الدموية زيادة عظيمة، ويتغير تركيبه حتى يصبح إسفنجي القوام. وقد سمي بالغشاء الساقط؛ لأنه يسقط ويخرج مع دم الحيض أو مع دم النفاس إذا كان هناك حمل.
 
ويقسَّم الغشاء الساقط إلى ثلاثة أجزاء حسب موقعه من الرحم:
 
فالغشاء الساقط الموجود بقاعدة الرحم بين الجنين والرحم، يسمى بالغشاء الساقط القاعدي (DECIDUA BASALIS).
 
بينما يسمى الغشاء المحيط بالجنين مغلفًا إياه بـ “الغشاء المحفظي” (DECIDUACAPSULARIS)؛ لأنه كالمحفظة أو الكبسولة التي تغطي الجنين.
 
وثالث الأغشية يسمى “الغشاء الساقط الجداري” (DECIDUA PARIETALIS)، وهو يغطي بقية جدار الرحم ما عدا الفرجة التي يندغم فيها الجنين.
 
المشيمة:
 
يساهم في تكوين المشيمة كل من الجنين والأم، والمشيمة تتكون من قرصين متلاصقين، فأما الجزء الرحمي (الأم) فهو الغشاء الساقط القاعدي، وأما الجزء الجنيني فهو (الكوريون) الجنيني الذي سبق أن وصفناه.
 
وتتخذ المشيمة شكل قرص يتفاوت قطره ما بين 16 إلى 20 سنتيمترًا، وثخانته ثلاثة سنتيمترات تقريبًا، ووزنه خمس مئة جرام (نصف كيلو جرام).
 
وسطح المشيمة المتصل بأغشية الجنين أملس ناعم، وتبدو من خلاله الأوعية الدموية، ويتصل الحبل السري في وسطها في العادة، وقد يتصل بأحد جوانبها ويغطي هذا السطح الغشاء الأمنيوسي (الغشاء السلى أو الرهل).
 
أما الجزء الرحمي فخشن ومكون من خمسة عشر إلى عشرين فصًّا، ويتوسط بين جزئي المشيمة ـ الجنيني والرحمي ـ غشاء مهم يسمى الغشاء المشيمي، ويفصل هذا الغشاء بين الدورة الدموية الرحمية والدورة الدموية الجنينية، وقد وهب الله لهذا الغشاء القدرة على تنظيم تغذية الجنين ووقايته من كل ما قد يضره، ولا يوصل إليه من الغذاء إلا ما ينفعه، ويسميه البعض: “الغشاء الحيوي المشيمي”.
 
صورة للمشيمة من السطح الرحمي   الذي تساهم فيه الأم
 
 
 
صورة للمشيمة من السطح (الجزءالجنيني الذي يساهم فيه الجنين بأغشيته)
 
الدورة الدموية في المشيمة:
 
في المشيمة دورتان دمويتان يفصل بينهما الغشاء المشيمي الحيوي، ورغم قربهما قربًا شديدًا من بعضهما، حتى إنه لا يفصل بينهما إلا جدار رقيق من خلايا الخملات، إلا أنهما لا يتصلان بحيث يندفع الدم من واحدة إلى أخرى، ومع ذلك فاتصالهما وثيق؛ إذ ينتقل الغذاء المنتقى والمختار بعناية فائقة من دماء الأم في الرحم إلى أوعية الجنين الدموية، وينتقل معه الأكسجين ومواد المناعة للأمراض والأوبئة، وينتقل من الجنين إلى الأم كل المواد السامة التي نتجت عن عمليات البناء والهدم المستمرة في خلايا الجنين، مثل ثاني أكسيد الكربون والبولينا، وتنتقل إلى الأم لتحملها راضية إلى أجهزة إفرازها، كما يمنع الغشاء الحيوي المشيمي انتقال ما قد يكون ضارًّا بالجنين من مواد موجودة في دم الأم، كما يمنع عن الجنين الميكروبات والأمراض إلا فيما ندر.
 
وتقوم المشيمة بوظائف عدة أجهزة في الجسم، هي:
 
الجهاز التنفسي:إذ تقوم بإعطاء الجنين الأكسجين وتأخذ عنه ثاني أكسيد الكربون.
الجهاز الهضمي:تعطي الجنين الغذاء المهضوم بالقدر المعلوم، وتنوع غذاءه حسب حاجته يومًا بعد يوم، فيختلف غذاء الجنين ـ نوعًا وكمًّا ـ في شهره الأول أو الثاني عن غذائه في الشهر الثامن أو التاسع.
الجهاز البولي:تقوم المشيمة بإخراج المواد الضارة بالجنين والتي تخلفت عن عمليات البناء والهدم المستمرة وتدفعها إلى دماء الأم.
 
ولا تكتفي المشيمة بهذه العجائب كلها، ولكنها ترسل هرمونًا يثبت الجنين في الرحم، وينمي الثديين استعدادًا لإفراز اللبن منهما عندما يخرج الجنين إلى الدنيا جاهزًا.
 
ومن المقرر علميًّا وطبيًّا أن سلامة الحمل متوقفة على سلامة المشيمة، وأن أكثر حالات الإجهاض إنما ترجع إلى خلل في المشيمة([14]).
 
هذا عن الأغشية التي تحيط بالجنين في أطواره المختلفة، ومراحل تخلقه المتنوعة، ومدى أهمية هذه الأغشية لحياة الجنين، والحفاظ عليه، وتزويده بالغذاء والنماء، ويتبين بهذا أن هذه الأغشية بعضها فوق بعض، وتكون معا المشيمة التي تحيط بالجنين من كافة جوانبه، وهذه الأغشية منها ما هو شفاف مثل السائل الأمنيوسي، ومنها ما هو حالك مظلم مثل الغشاء الكوريوني والساقط؛ وذلك لاحتوائها على كثير من الغدد والأوعية الدموية والبروتينات، وكذلك لثخانة الجدار الساقط وكبر سمكه، كل هذه العوامل تجعل الجنين في ظلمة تامة داخل أغشيته، وتجعل الأغشية المحيطة بالجنين حالكة قاتمة غير شفافة.
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
لقد خلق الله الجنين في بطن أمه محاطًا بالرعاية والحماية والمنعة بشتى أنواعها، فجعله في قرار مكين ـ وهو الرحم ـ في مكان آمن مستقر داخل الحماية العظمية لعظام الحوض، وأمده فيه بكثير من الأوعية الدموية والمواد البروتينية التي تمد الجنين بغذائه الكامل، ومن عظم نعم الله سبحانه وتعالى على الجنين، أنه أحاطه بمجموعة من الأغشية، هي أغشية المشيمة، وهذه الأغشية تمثل المصدر الأساس لتغذية الطفل وحمايته ونموه؛ حيث تحتوي هذه الأغشية على كثير من الأوعية الدموية والغدد المنمية والبروتينات وغيرها من الخلايا المسئولة عن تغذية الجنين، وهذه الأغشية تحيط بالجنين إحاطة كاملة من جميع الجهات، وهي بهذا تجعل الجنين بداخلها في ظلمة تامة.
 
 
 
                                                                                               شكل يوضح الأغشية التي تحيط بالجنين
 
إن المقدرة الهائلة التي وهبها الله عز وجل للغشاء المشيمي معجزة كاملة، غشاء رقيق يفصل بين دماء الأم ودماء الجنين، ومع هذا فهو يختار للجنين ما يصلحه ويبقيه وينميه، ويدفع عنه كل ما يؤذيه، ويسمح لهذه المادة أن تمر، ويقف حجر عثرة لتلك المادة المشابهة، ويقول لها: قفي هنا لا حاجة بنا إليك، ويختار المواد النافعة من دماء الأم فيقول لها: ادخلي بسلام، ويمنع المواد الضارة، ويختار المواد الضارة الموجودة في دم الجنين، ويقول لها: اخرجي من هنا إلى دماء الأم.
 
بواب عجيب حكيم يقف وقفة صارمة حازمة طوال الليل والنهار لا يكل ولا يني، يختار للجنين ما يصلحه ويطرد عنه ما يضره، وهو مع ذلك غشاء مكون من مجموعة من الخلايا البسيطة التركيب، فسبحان من أودع فيه هذه القدرة الهائلة على التمييز وجعله في صف الجنين دائمًا وأبدًا!
 
هذه هي المشيمة حول الجنين، تقوم بهذه المهام العديدة والوظائف المتنوعة بما تحمله من خلايا وأوعية دموية، وهرمونات منشطة، وخمائر متنوعة، ومواد غذائية مختلفة، وغيرها من الأملاح والفضلات.
 
فهل يخيل لعاقل بعد هذا أن تكون المشيمة شفافة، أو لا تمثل ظلمة حول الجنين؟!
 
بل هي ظلمة حالكة، تـمثـل مع جدار الرحم وجدار البطن ثلاث ظلمات حول الجنين في مراحل تخلقه في بطن الأم، كما أخبرت الآية الكريمة، قال تعالى: )يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث( (الزمر: 6)، وكذلك فهذا التفسير هو التفسير الراجح من قبل علماء التفسير وأهل الإعجاز العلمي على السواء.
 
 
 
 
 
(*) نقد أدلة الجنين: الظلمات الثلاث، د. محمد السوري، مقال منشور بموقع: الذخيرة www.alzakera.eu.
 
[1]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص284: 288.
 
[2]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، دار ابن حجر، دمشق، 1428هـ/ 2007م، ص125.
 
[3]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص125: 128.
 
[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج2، ص94.
 
[5]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الإيمان، باب: افتراق هذه الأمة، (7/ 335)، رقم (2780). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2642).
 
[6]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج21، ص256: 258.
 
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص236.
 
[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص46.
 
[9]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج11، ج23، ص334.
 
[10]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص3039.
 
[11]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج21، ص13041.
 
[12]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص283، 284.
 
[13]. الظلمات الثلاث، بحث منشور بموقع: أحمد البقري الأنصاري www.ahmedalbkrealansare.jeeran.com.
 
[14]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص423: 430 بتصرف.

نفي الإعجاز العلمي عن تحريم الإسلام للحم الخنزير

مضمون الشبهة:

ينفي الطاعنون وجود أي إعجاز علمي للتشريع الإسلامي في تحريمه أكل لحم الخنزير الوارد في قوله سبحانه وتعالى:)إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم(173)( (البقرة)، زاعمـــين أن الأمراض التي تصيب الخنزير من الممكن أن تصيب أي حيوان آخر. ثم يتساءل هؤلاء: كيف يُحرِّم الإسلام الخنزير، وهو يفيد الإنسان في كثير من التجارب العلمية، ونستخلص منه بعض الهرمونات المفيدة، ويمكن نقل صمامات قلبه إلى إنسان تلفت صمامات قلبه؟ ثم أليس من الممكن توقِّي الأمراض التي ينقلها الخنزير عن طريق تربيته تربية صحيَّة نظيفة، أو عن طريق الطبخ الجيد للحمه حتى تموت اليرقات التي بداخله؟ وفي النهاية هم لا يجدون مُسوِّغًا لتحريم الإسلام لأكل لحم الخنزير.

وجه إبطال الشبهة:

لقد أكَّد العلم الحديث الإعجاز العلمي للتشريع الإسلامي في تحريم لحم الخنزير؛ حيث أثبتت الدراسات الطبية أن الخنزير مرتع خصْب لأكثر من 450 مرضًا وبائيًّا، يقوم الخنزير بدور الوسيط لنقل 57 منها للإنسان، ويختص بمفرده بنقل 27 مرضًا للإنسان أو تشاركه بعض الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض، لكنه يبقى المصدر الرئيس لهذه الأمراض، منها: فيروس الحمَّى القلاعية، وبكتيريا السالمونيلا، وداء النوم الأفريقي، وداء المقوسات، والبلهارسيا اليابانية، والديدان الشعرية الحلزونية، والديدان الشريطية الخنزيرية.

هذا؛ فضلًا عن احتواء لحم الخنزير على أنواع من المركَّبات الكيميائية الضارة التي لا تنسجم مع مركبات جسم الإنسان، الأمر الذي يسبب لآكليه العديد من المشاكل الصحية، كالآلام الروماتيزمية والتهابات المفاصل، ومشاكل الكلى، بالإضافة إلى أمراض السمنة والشرايين والقلب… إلخ.

التفصيل:   

1)  الحقائق العلمية:

الخنزير من الحيوانات الثديية السرية (PlacentalMammals‏) ذات الحافر المشقوق الذي يحمل عددًا زوجيًّا من الأصابع ‏(أربعة أصابع‏)؛ ولذلك تُعرف باسم‏ “الحافريات زوجية الأصابع”‏.

وتضم الخنازير عددًا من الأنواع البرية والمستأنسة، التي تجمع كلهافيعائلةواحدة تُعرف باسم “عائلة الخنازير” (FamilySuidae)، ويسمَّى الذكر منها باسم “العفر” (Boar‏)، وتُسمَّى الأنثى باسم “الخنزيرة” (‏Sow‏)، وهي من النوع الولود‏,‏ والخنزير المخصي يُعرف باسم”الحلوف” (‏Hog‏)، ويستعار اللفظ وصفًا لكل قذر‏,‏ شره‏,‏ أناني من البشر‏,‏ وتُستخدَملفظة (Swine‏) للتعبير عنالخنزيربصفة عامةسواء أكان ذكرًا أم أنثى‏,‏ مخصيًّا أم غير مخصيٍّ‏,‏ مستأنسًا أم غير مستأنسٍ، وتستعار كذلكلكل حقير النفس‏,‏ بخيل اليد‏,‏ قذر المظهر والملبس‏,‏ متصف بأحقر الصفات‏,‏ أو للمرأة الساقطة المجرَّدة من كل فضيلة([1])‏.

وتنفصل الخنازير عن بقية الحيوانات بكونها رَمَّامة وغير مجترَّة، ونظرًا لطبيعتها الرمَّامة، وقذارتها الواضحة، وأكلها كلًّا من النباتات واللحوم والـجِيَف والنفايات، وغير ذلك من المستقذرات؛ فإن الخنازير معرَّضة للإصابة بالعديد من الأمراض.

خنازير تأكل القمامة

ومنشأ الخنزير هو العالم القديم في قارات آسيا وأوربا وأفريقيا، تستأنسه غالبية شعوب العالم لاستخدام لحمه كطعام، أو استخدام جلده وشعره الذي يستخدم في صناعة الفرش؛ ولذلك فهو يعدُّ ثروة حيوانية. ويتغذَّى الخنزير على الفضلات؛ ففي المزارع الصغيرة تتغذى الخنازير على فضلات المطبخ، ويتميز بالنَّهم الشديد للطعام؛ ولذلك فهو ينمو سريعًا، وفي الأسر تأكل الخنازير صغارها.

والخنازير البرية تدمِّر الحرث والنسل وتعيثُ في الأرض فسادًا، وعندها قدرة تدميرية في البيئة التي تعيش فيها، فهي تفسد كل شيء حولها تأكل صُغار الحيوانات التي في مجموعات بعد ولادته، كما تأكل صغار الطيور التي في أعشاشها على الأرض، وتدمر الحقول التي تمرُّ عليها وتأكل ما فيها، كما أنها تنشر الأمراض حيثما حلَّت بمكان([2]).

الأمراض التي ينقلها الخنزير للإنسان:

من المدهش أن نعلم أن الخنزير مرتع خصب لأكثر من 450 مرضًا وبائيًّا، وهو يقوم بدور الوسيط لنقل 57 منها إلى الإنسان، فضلًا عن الأمراض التي يسببها أكل لحمه من عسر هضم، وتصلُّب للشرايين وسواها. والخنزير يختص بمفرده بنقل 27 مرضًا وبائيًّا إلى الإنسان، وتشاركه بعض الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض، لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيس لهذه الأمراض.

وهذه الأمراض والأوبئة يمكن أن تنتقل من الخنزير إلى الإنسان بطرق مختلفة، وهي:

الأول: عن طريق مخالطته أثناء تربيته أو التعامل مع منتجاته، وتعتبر أمراضًا مهنية، وهي لا تقل عن 32 وباء تصيب في الأغلب عمال الزرائب والمجازر والبيطريين.

الثاني: عن طريق تلوث الطعام والشراب بفضلاته، وهي لا تقل عن 28 مرضًا.

الثالث: عن طريق تناول لحمه ومنتجاته، وهي أكثر من 16 مرضًا([3]).

ويمكن أن نصنِّف الأمراض والأوبئة التي ينقلها الخنزير إلى الإنسان على النحو الآتي:

البريونات (Prions):
مرض جنون البقر:يسبب هذا المرضَ الفتَّاك أجسامٌ بروتينية صغيرة تُسمَّى البريونات, وهذه الأجسام لها قدرة على إحداث أمراض خطيرة للحيوانات وللبشر أيضًا,ومصدر الخطورة يكمن في قدرة البريونات على تغيير شكل البروتينات الطبيعية الموجودة في خلايا مناطق حسَّاسة ـ كالدماغ مثلًا ـ وتحويلها إلى بريونات, مسبِّبة تلف الدماغ, فالجنون ثم الموت، فقد أكدت التقارير العلمية أنَّ الخنازير تُصاب بهذا المرض، الأمر الذي يجعل آكلي لحم الخنـزير عُرضة للإصابة به.

ومما يبعث الهلع في النفوس أن البريونات لا يمكن القضاء عليها بالطبخ، ولا بطرق التعقيم الطبية الحديثة، وفترة كمونها في الجسم قد تمتد لسنوات طويلة (تتراوح بين 5 ـ 20 سنوات)، ولا يوجد علاج لما تسببه من أعراض مرضية في الوقت الراهن، والوسيلة الوحيدة لمنع انتقالها هي القضاء على الحيوانات المصابة.

ويُذكر أن مرض جنون البقر لم يكن معروفًا قبل عام 1982م، وأنه تسبَّب في موت عشرات الأشخاص في بريطانيا خلال عام 2000م.      

الفيروسات (Viruses):

يصيب الخنـزير مجموعة كبيرة من الفيروسات، منها ما تنقله الخنازير إلى الإنسان، فيسبب له أمراضًا فيروسية خطيرة، مثل:

فيروس الإنفلونزا:

لقد تمَّ عزل فيروس الإنفلونزا من عينات أُخذت من الإنسان والخيل والخنازير والطيور الداجنة والبرية، وحتى من بعض الثدييات البحرية. وكان أخطر وباء أصاب العالم من هذه الإنفلونزا: الوباء الذي حدث عام1918م، وأطلق عليه آنذاك اسم “الإنفلونزا الإسبانية”؛ فقد تفشَّى هذا الوباء في شتى أنحاء المعمورة, مخلِّفًا وراءه ملايين الجثث، وناشرًا الذعر والهلع في كل مكان.

ويُذكر أن وباء الإنفلونزا الذي لم يشهد القرن العشرين  له مثيلًا في الحدة والانتشار أدَّى إلى إزهاق أكثر من 20 مليون نسمة خلال عامي (1918م ـ 1919م)، وأنه حصد في الولايات المتحدة أرواح 550 ألف نسمة خلال عام واحد، أغلبهم من الشباب، وهو ما يوازي عشرة أضعاف الأمريكان الذين قُتلوا خلال الحرب العالمية الأولى (1942- 1943). 

ويؤكد بعض الباحثين أنَّ الفيروس المسبِّب لهذا الوباء المهلك تحوَّر عن فيروس إنفلونزا الخنازير في الولايات المتحدة، ومن ثم انتقل بواسطة الجنود الأمريكيين إلى شتى بقاع الأرض، ومنذ ذلك الحين، تعرض العالم لموجتين من الإنفلونزا، كانت الأولى عام 1975م، وقد ذهب ضحيتها 70 ألفًا، والثانية عام 1986م، وقد ذهب ضحيتها قرابة 47 ألفًا.

فيروس نيبا   (  Nipahvirus):

لم يعرف العالم هذا الفيروس المميت قبل أكتوبر من عام 1998م؛ فقد عالج الأطباء في ماليزيا 300 إصابة بما يشبه أعراض الإنفلونزا، سرعان ما توفي 117 مريضًا منهم بفيروس نيبا الغامض، وأصيب العشرات منهم بتلف دماغي، ويعتقد الأطباء الماليزيون أن الفيروس الخطير ربما انتقل من خفَّاش الفواكه إلى الخنازير، ومنها إلى الإنسان؛ حيث أظهرت المتابعات الطبية أن جميع المصابين بالمرض كانت تربطهم علاقة قوية بالخنازير؛ الأمر الذي حدا بالدوائر الصحية في ماليزيا إلى قتل مليون خنزير.

فيروس الالتهاب الرئوي الحاد (سارس )(SARScoronavirus):

لسنا بحاجة إلى توضيح خطورة هذا المرض الفيروسي القاتل، فالهلع الذي تسبِّبه كلمة “سارس” في دول العالم كافة يغنينا عن ذلك، لكن ما يعنينا في هذا المقام هو الحقائق المتعلقة بظهور هذا المرض الخطير؛ فقد ذكرت التقارير أن المرض ظهر أولًا في الصين، وأن 30% ممن أُصيب بالمرض في بداية الأمر كانوا من المتعاملين بالأطعمة، وأنه تم عزل الفيروس من الأفاعي والخنازير البرية والقردة والخفافيش، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الصين هي أكبر مستهلك للخنازير على وجه الأرض؛ إذ يبلغ استهلاكها نصف استهلاك العالم، ظهر لنا بوضوح علاقة الخنزير بمرض سارس.

فيروس الحمى القلاعية((Foot&MouthDisease:

فيما يبدو ليس من سبيل إلى وضع حد لوباء الحمى القلاعيَّة التي أهلكت الثروة الحيوانية البريطانية في بداية عام 2001م, فبعد أيام قليلة على تشخيص الأطباء البيطريين 27 إصابة بين خنازير إحدى المسالخ الريفيَّة؛ لذا فرضت الحكومة حظرًا على كافة عمليات نقل الحيوانات, لكن هذا الإجراء لم يحل دون انتشار المرض خارج بريطانيا، فسرعان ما انتشر الوباء في القارة الأوربية, ولم يجد البريطانيون مناصًا من القيام بحملة واسعة النطاق للقضاء على الخنازير المصابة، ذهب ضحيتها 3,75 مليون من حيوانات المزرعة، وألحق أضرارًا بالغة بسبل معيشة آلاف المزارعين وبالاقتصاد الريفي وبقطاع السياحة.

ويذكر أن مرض الحمى القلاعية انتشر عام 1997م في جزيرة تايوان برُمَّتها، في أقل من شهرين وطالت آثاره المدمرة 6000 مزرعة، وأسفر عن ذبح 3,8 مليون خنزير (55)، ومن المعروف علميًّا أنَّ المرض ينتقل من الخنازير إلى الإنسان.

فيروس مرض الكلب(Rabiesvirus):

هذا الفيروس يصيب الحيوانات آكلة اللحوم، وينتقل منها بواسطة العضِّ إلى الحيوانات الأخرى بما في ذلك الإنسان، والخنزير من الحيوانات المفترسة التي تأكل الجرذان والجيف؛ لذا فهو عرضة لهذا المرض، والناس الذين يُربُّون الخنازير أو يأكلون لحومها ومنتجاتها أيضًا معرضون للإصابة بداء الكلب.  

ينتشر هذا الفيروس بين مربِّي الخنازير في مناطق شرق آسيا، وهو يصيب الطيور، وينتقل منها بواسطة البعوض إلى الخنازير، التي بدورها تنقلهإلى الإنسان، ويسبب هذا الفيروسالتهاب الدماغ في الإنسان، الذي يكون مميتًا في بعض الأحيان.

فيروس حمى نهر روس      ( RossRiverfeverVirus):

يُسبِّب هذا الفيروس آلامًا وحمى وانتفاخًا في المفاصل وخمولًا، وقد تستمر هذه الأعراض عدة أسابيع؛ ففي عام 1996م أصيب بهذا المرض أكثر من 1000 أسترالي في مقاطعة نيوساوث ويلز، ويعيش هذا الفيروس في الخنازير وغيرها، ويقوم البعوض بنقله إلى الإنسان.

فيروس الخنـزير التقرُّحي    ( SwineVesicularVirus):

 سُجِّل أول ظهور لهذا الفيروس عام 1966م في إيطاليا، ليظهر بشكل وبائي في بريطانيا عام 1972م؛ حيث أصاب خلال السنوات العشر التالية أكثر من  322 ألف خنزير في بريطانيا وحدها، وينتقل هذا الفيروس من الخنازير إلى البشر عن طريق المخالطة؛ حيث يسبِّب حمَّى وآلامًا في المفاصل والعضلات, يُذكر أنَّ الخنـزير هو العائل الطبيعي الوحيد لهذا الفيروس.

فيروس تقرُّح الفم(VesicularStomatitisVirus):

تشبه أعراض هذا المرض أعراض مرض الحمى القلاعية؛ حيث يسبب تقرحات الفم واللسان والأرجل والأظلاف، كما يسبب ارتفاعًا في حرارة الجسم.

فيروس التهاب الدماغ والقلب       ( Encephalomyocarditis):

تعدُّ الجرذان مستودع هذا الفيروس الخطير، كما تعدُّ الخنازير أكثر حيوانات الحظيرة إصابة بالمرض, وعادة ما تنتقل العدوى من الجرذان إلى الخنازير، ويسبب هذا الفيروس التهاب الدماغ والقلب؛ الأمر الذي قد يودي بحياة المرضى.

فيروس الجدري        ( Smallpoxvirus):

يصيب الخنازير ويمكن أن يعدي البشر.

فيروس الحمى الصفراء(fevervirusYellow):

يمكن أن ينتقل إلى البشر من الخنازير.

البكتيريا(Bacteria):

يصيب الخنـزير مجموعة كبيرة من البكتيريا؛ حيث تنتقل منه إلى الإنسان، مُسبِّبة له أمراضًا خطيرة، بل وقاتلة.

وسنستعرض باختصار أهم الأنواع الممرضة، وعلاقة الخنزير بنقلها إلى الإنسان:

بكتيريا الحمى المالطية(Brucellosis):

وتسبب مرض الحمى المالطية ثلاثة أنواع من البكتيريا، وهي تصيب الماشية والخنازير؛ حيث تنتقل منها إلى الإنسان. لكن أخطر الثلاثة هو النوع الذي يصيب الخنازير (Brucellasuis)؛إذ إنه يسبِّب للمصابين به من بني البشر التهاب السحايا، والتهاب عضلة القلب، والتهاب المفاصل، وتورُّم الطحال، وغير ذلك من الأمراض الخطيرة.

بكتيريا السالمونيلا          Salmonellosis):

تسبِّب هذه البكتيريا للإنسان عدة أمراض، مثل: التيفود، وبارا التيفود، والتَّسمُّم الغذائي، وظهرت في بريطانيا عام 1990م فصيلة جديدة من بكتيريا السالمونيلا عُرفت بـ (SalmonellaSerotypeDT104)، سرعان ما أصبحت مصدر قلق للأوساط الطبية هناك، فهي مقاوِمة لكثير من المضادات الحيوية، علاوة على شدة فَتْكها بالمصابين بها، واللافت للنظر أن جُلَّ مرضى السالمونيلا البريطانيين كانوا أصحاب الحظائر، أو العاملين بلحوم الأبقار والخنازير والدواجن، أو المستهلكين لها، وهنا أيضًا يبدو الارتباط واضحًا بين تربية الخنازير أو أكل لحومها ومنتجاتها والإصابة بالسالمونيلا.

بكتيريا البريميات   (     Leptospirainterrogans):

يسبب هذا النوع من البكتيريا مرضًا يُعرف بـ “داء البريميات” (Leptospirosis)،وتتراوح أعراض هذا الداء في الإنسان، بين خفيفة (كارتفاع طفيف في حرارة الجسم)، وخطيرة (نحو الفشل الكلوي)، أما في الخنازير، فتحدِث البكتيريا اضطراب الجهاز التناسلي فيها، ويمكن للخنازير نقل هذا المرض إلى الإنسان.

بكتيريا لستيريا    (    Listeriamonocytogenes):

تسبِّب هذه البكتيريا مرض الالتهاب السحائي الدماغي, وموت الأجنة، وتسمُّم الدم, ولم تكن بكتيريا لستيريا معروفة قبل عام 1968م، حين وقعت حالات غامضة من الوفيات في الدنمارك وهولندا، وقد تبين أن هذه الجراثيم شديدة الفتك بالإنسان؛ إذ تسبِّب له التهاب السحايا، كما تفرز سمومًا في دم المصاب، كما تبلغ نسبة الوفاة بالمرض (40%) من الحالات الشديدة، والذين أصيبوا بهذا المرض ونجوا من الموت بعد علاج شاق، عانوا الصمم الدائم وفقدان التوازن، يُذكر أنَّ دراسة أجراها مركز مراقبة الأمراض في الولايات المتحدة، أظهرت أنَّه في المتوسط يصاب 1600 مواطن بالمرض كل عام، يتوفَّى منهم (415) مريضًا، وفي ولاية البنغال الهندية أدَّى وباء اللستيريا إلى وفاة آلاف الهنود عام 1984م، ويشار إلى أنَّ الإصابة الوبائية بهذا المرض مرتبطة بالوجبات السريعة، كما يعدُّ الخنـزير أكثر الحيوانات نقلًا لبكتيريا لستيريا إلى الإنسان.

بكتيريا الجمرة الخبيثة      (    Bacillusanthracis): 

تنتقل بكتيريا الجمرة الخنزيرية الخبيثة من الخنزير إلى اللحامين والدباغين وغيرهم, وتكون بشكل لوحة محمرة مؤلمة جدًّا، وحارقة على الأيدي مع ارتفاع   الحرارة والقشعريرة، والتهاب العقد والأوعية الليمفاوية.

بكتيريا القولون (EscherichiacoliO 157:117 ):

كانت بداية ظهور هذه الفصيلة من بكتيريا القولون في الولايات المتحدة عام 1982م، على أثر موجتين وبائيتين، ارتبطتا بسندوتشات الهامبورجر بعد ذلك التاريخ، غدا هذا النوع من البكتيريا أحد أبرز مسببات الإسهالات المصحوبة بالدم في الولايات المتحدة؛ إذ تُسجِّل 20 ألف إصابة سنويًّا، ينجم عنها 250 وفاة، أما في الأطفال، فتسبب البكتيريا مرض البول الدامي الذي يُعدُّ أحد مسببات الفشل الكلوي الحاد في أمريكا (74 ـ 76).

بكتيريا يرسينيا  (     Yersiniaenterocolitis): 

يصيب الإنسان نوعان من بكتيريا يرسينيا، هما: ( Yersiniaenterocolitis  )، اللذان يُسبِّبان للأطفال الإسهالات المصحوبة بالدم والمخاط.

أما النوع الثاني فهو (Yersiniapoeudotuberculosis )الذي يسبب أحيانًا تسمم الدم والتهاب المفاصل، كما يسبب أيضًا ألـمًا معويًّا يشبه إلى حد كبير التهاب الزائدة الدودية، الأمر الذي قد يلتبس على الأطباء فيخطئون التشخيص. ويعدُّ الخنـزير أكثر الحيوانات نقلًا لنوعي يرسينيا للإنسان؛ حيث يصاب المتعاملون بلحوم الخنازير وآكلوها بنوعي بكتيريا يرسينيا.

بكتيريا كلوستريديوم(Clostridialspecies):

يصيب الإنسان نوعان من بكتيريا كلوستريديوم، هما: (ClostridiumbotulinumandClostridiumperferingens)اللذان يسببان التسمُّم الغذائي، وقد وُجد ما بين 30 ـ 80% من الخنـازير المذبوحة تحوي (Clostridiumperferingens)، وأنَّ هذا النوع لا يتأثر بالطبخ العادي.

بكتيريا التقرُّحات الجلدية (Fusiformisnecrophorum):

يصيب هذا النوع من البكتيريا الخنازير والماشية؛ حيث ينتقل منها إلى الإنسان، وتسبِّب هذه البكتيريا تقرحات وخُرَّاجات في الجلد والفم والكبد والقناة الهضمية والشرج والأعضاء التناسلية، كما تسبب تسمم الدم، وأمراضًا عديدة أخرى، وهي مقاوِمة لكثير من المضادات الحيوية.

بكتيريا الحـُمْرة الجلدية (Erysipelothrixrhusiopathiae):

ويصيب هذا النوع من البكتيريا الخنازير والخيل والديك الرومي، وينتقل منها إلى الإنسان، فيسبب له تهيُّجًا في الجلد، ويخلِّف وراءه بقعًا حمراء مخيفة المنظر.

بكتيريا السل الرئوي (    Mycobacteriumtuberculosis):

يسبِّب السل الرئوي ثلاثة أنواع من بكتيريا (Mycobacterium)، وتعدُّ من الجراثيم الخطيرة جدًّا؛ إذ تتسبَّب في موت ما يربو على 3 ملايين نسمة سنويًّا، أغلبهم من الدول الفقيرة، وتغزو هذه البكتيريا الجهاز التنفسي، وتقوم بتدمير الحويصلات الهوائية، مسبِّبة موت الكائن، وينتقل مرض السل الرئوي عن طريق مخالطة المرضى أو الكائنات المصابة، التي تضم بينها الخنـازير والأبقار والطيور، ويُصاب الخنـزير بأنواع البكتيريا الثلاثة، ونظرًا لخطورتها؛ فقد قامت عدة مختبرات عالمية بتحليل المادة الوراثية لها لمعرفة الوسائل المثلى لمكافحتها.

بكتيريا الانسمام الدموي (Melioidosis):

يسبب هذا المرض الخطير نوعٌ من البكتيريا تُسمَّى (Pseudomonaspseudomallei)، وينتشر هذا المرض في جنوب شرق آسيا، وشمال أستراليا وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، ومناطق أخرى من العالم، ويبدأ المرض حين تتمكن البكتيريا من دخول الجسم عن طريق الجلد المتهتِّك، لتُحدِث تسمُّم الدم خلال مدَّة قصيرة لا تتجاوز أحيانًا 48 ساعة، وتستطيع البكتيريا الانتقال عبر الدم لتصل إلى القلب والدماغ والرئتين والكبد والكلى والعيون، فيسبب تقرحات خطيرة، وننوِّه هنا إلى أن نسبة الوفاة بالمرض قد تصل إلى 65%, وبأن نصف هؤلاء يموتون في غضون 48 ساعة من الإصابة، بقي أن نذكر أن المرض يصيب الخنازير وينتقل منها إلى الإنسان.

بكتيريا الالتهاب الرئوي (Mycoplasmosis):

تسبب بكتيريا (Mycoplasmasuis) هذا المرض، وتصاب الخنازير بذات الرئة، الذي يمكن أن ينتقل منها إلى الإنسان بطريق المخالطة.

الأوليات/وحيدة الخلية (Protozoa):

ينقل الخنـزير للإنسان مجموعة من الكائنات الأولية، بعضها يحدث اضطرابات خفيفة له، وبعضها الآخر يسبب أمراضًا خطيرة ومميتة. وسنستعرض في هذه الصفحات أبرز الأمراض التي تسببها هذه الأوليات، ودور الخنزير في نقلها إلى الإنسان:

 الزحار البلنتيدي/ الزقي الطفيل    (    BalantidialDysentery):

المسبِّب لهذا المرض هو نوع من الأوليات الهدبية (لها أهداب)، يُعرف بـ (Balantidiumcoli),وهو أكبر الأوليات التيتصيب الإنسان، وهو النوع الوحيد من الأوليات الهدبية التي تصيب الإنسان، كما أنه من طفيلات الأمعاء الغليظة (القولون) في الخنازير والقردة وبخاصة الشمبانزي, ولأنَّ فرص اتصال الإنسان بالقردة ضئيلة، فتبقى الخنازير من الناحية العملية المصدر الوحيد لعدوى الإنسان.

ويوجد هذا الميكروب في براز الخنزير، وينتقل إلى طعام الإنسان بطرقعديدة، ليستقر في الأمعاء الغليظة، فيُحدِث إسهالًا مصحوبًا بالمخاطوالدم، قد يؤديللوفاة، وعادة لا ينتشر الزحار البلنتيدي إلا بين مربي الخنازير أو المتعاملين معها (ذبحها ونقلها وتجارتها)، فتتلوث أيديهم بحوصلات الطفيل المعدية.

داء النوم الأفريقي الطفيل (SicknessAfricanSleeping):

المسبِّب لهذا الداء الفتاك هو (Trypanosomagambiense), وتنقل هذا الطفيل ذبابة التسي تسي بطريق الحَقْن، وذلك عندما تلدغ الإنسان، ويسبب الطفيل اضطرابًا دماغيًّا، لا يلبث أن يتطور إلى مرض النوم, وفي حال إهمال معالجة المريض فإنه يدخل في غيبوبة ويموت, بقي أن نؤكد على الدور الذي تؤديه الخنازير في نقل هذا المرض للإنسان.

مرض شاغاس(ChagasSickness):

هذا المرض أشد خطورة من النوع الأفريقي، والطفيل المسببله(Trypanosomacruzi) أشد فتكًا، وينتشر هذا المرض في أمريكا الجنوبية والوسطى، وأعراضه مشابهة لأعراض داء النوم الأفريقي، لكنه أكثر شراسة منه، وتؤدي الخنازير دورًا مهمًّا في نقل هذا المرض للإنسان.

داءالمقوسات (     Toxoplasmosis):

يسبب هذا المرض طفيل يُسمَّى (ToxoplasmaGonadi)،ينتقل هذا الطفيل إلى الإنسان بطريقين: إما عبر مشيمة الأم المصابة إلى الجنين، أو يُكتَسَبُ من أحد حيوانات المستودع، مثل: القطط والكلاب والطيور والمواشي والخنازير.

ومن آثاره إسقاط الجنين في المرأة الحامل، أو ولادة جنين تام النضج لكنه يعاني من استسقاء الرأس، والتهاب شبكية العين ومشيمتها، وتكلُّسات دماغية، ويبلغ معدل الوفيات نحو 10%، أمَّا الناجون فقد تظهر عليهم بعض الأعراض كاستسقاء الرأس والتخلُّف العقلي واضطراب الرؤيا.

طفيل (  Iodamoebabütschlii):

لا يسبب هذا الطفيل أي مرض مزعج، لكنه يتشابه مع طفيل (Entamoebahistolytica) الذي يسبب الزحار الأميبي الخطير، وينتقل هذا الطفيل إلى الإنسان بواسطة الخنازير والقردة التي هي مستودعات له.

طفيل (Entamoebapolecki):

ينتقل هذا الطفيل إلى الإنسان بواسطة مستودعاته من الخنازير والقردة، وليس هناك دلائل تشير بوضوح إلى ارتباط هذا الطفيل بمرض في الإنسان.

طفيل (Endolimaxnana):

لا يعرف مرض يسببه هذا الطفيل للإنسان، وينتقل هذا الطفيل إلى الإنسان بواسطة الخنازير.

الديدان المفلطحة (Trematoda):

ينقل الخنـزير للإنسان عددًا من الديدان المفلطحة، غالبيتها يسبب له اضطرابات خطيرة، وأهم الديدان التي ينقلها الخنزير إلى الإنسان هي:

البلهارسيا اليابانية (Schistosomajaponicum):

تصيب البلهارسيا أكثر من 200 مليون نسمة, ويموت بسببها قرابة المليون شخص سنويًّا، وتعيش هذه الدودة في الأوعية الدموية المعوية؛ حيث تضع بيوضًا تخترق هذه الأوعية الدموية لتخرج إلى البيئة الخارجية, وتعيش هذه الديدان في جسم الإنسان مدة تصل إلى 30 سنة، وتحدث دمارًا شديدًا يؤدي أحيانًا إلى الموت، ويصاب الخنزير بديدان البلهارسيا اليابانية التي تنزل بويضاتها مع برازه، ومنه تنتقل للإنسان في كثير من بلدان العالم.

الدودة المتوارقة البسكية(Fasciolopsisbuski):

وهي من الديدان المعوية الكبدية، والخنزير هو العائل الرئيس لنشر العدوى, وتعيش الديدان البالغة في الأمعاء محدثة التهابات موضعية ونزيفًا وتقرحات في جذر المعى الدقيق، وتتسبب في حدوث إسهال مزمن وفقر دم، وقد تحدث استسقاء البطن مؤدية إلى الوفاة.

الدودة الكبدية الصينية (Chlonorchissinensis):

تنتشر الدودة الكبدية الصينية في بلدان الشرق الأقصى؛ كاليابان والصين، والخنزير العائل الرئيس لها, تعيش هذه الديدان في القنوات الصفراوية الكبدية؛ حيث تتكاثر بأعداد كبيرة, وإذا ما كثرت أعدادها عند المصاب أحدثت تضخمًا في الكبد، وإسهالًا مزمنًا، ويرقانًا شديدًا ينتهي بالوفاة.

دودة(Paragonimuswestermani):

يصيب هذا الطفيل القطط والكلاب والخنازير وغيرها، وينتقل منها إلى الإنسان، وتعتبر هذه الدودة من أهم الديدان التي تصيب الرئة، وتحدث فيها أضرارًا تكون أحيانًا جسيمة، كما تسبب الالتهاب الرئوي ومرض السل.

دودة (Castrodiscoiderhominis):

وهي من طفيلات الأمعاء التي تصيب الخنازير وغيرها، وتنتقل منها إلى الإنسان([4]).

الديدان الشعرية الحلزونية:

وهو مرض يسبب وجود أكياس تحتوي على يرقات لديدان شعرية حلزونية في جسم الفئران والخنازير؛ ذلك لأن الخنزير يأكل الفئران الميتة، وتنقل إلى الإنسان الذي يأكل لحم الخنزير المصاب بها، فما أن تصل تلك الأكياس إلى أمعاء الإنسان حتى تخرج الديدان منها، وسرعان ما تنتشر يرقاتها في أنحاء جسم الإنسان، وتتحوصل في عضلاته أو في قلبه أو مـخِّه، أو في كل هذه الأماكن جميعًا، وتسبب للمريض ألـمًا وعذابًا ولا تتركه إلى أن يموت، فلا يوجد علاج ناجع للأطوار المتأخرة لهذا المرض.

وتلك الحويصلات المنتشرة في أعضاء الجسم المختلفة طول كل منها نحو نصف ملِّيمتر، وعرضها ربع ملِّيمتر، فهي حويصلات لا تُرى بالعين المجردة إلا كنقط بيضاء صغيرة في اللحم، وتظل يرقة حية داخلها، طولها نحو مليمتر؛ لذلك تلتف حول نفسها داخل الحويصلة، وتظل حية لسنوات عديدة، وقد تستمر طوال الحياة في أعضاء جسم الإنسان.

نقل الديدان للإنسان عن طريق الخنازير

الديدان الشريطية الخنزيرية:

هذه الدودة عبارة عن شريط به مئات العُقل قليلة السُّمك جدًّا؛ فهي في سمك مليمتر تقريبًا، أما طولها فهو عدة أمتار، قد تصل إلى عشرة أمتار، وعدد العقل فيها بالمئات، وكل عقلة بها الأعضاء الجنسية المذكرة والمؤنثة معًا، وتخرج من المبيض في كل عقلة مئات البويضات، في كل منها يرقة كاملة النمو تسبب الإصابة بالدودة لمن يأكلها، والدودة الشريطية الخنزيرية تعيش في أمعاء الإنسان المصاب بها، وتخرج البويضات في برازه.

ولما كان من طبيعة الخنزير أن يقبل على أكل القاذورات الملوَّثة بفضلات الإنسان والحيوان؛ فإن البويضات تصل إلى أمعاء الخنزير، حيث تفقس وتخرج منها اليرقات التي تخترق جدار أمعاء الخنزير وتتحوصل في عضلاته، وهي حويصلات صغيرة جدًّا لا يزيد حجم الواحدة منها على حجم رأس دبوس صغير، وإذا تناول إنسان لحم خنزير مصاب ـ ولم يطبخ طبخًا جيدًا يقتل اليرقات التي في داخل الحويصلات ـ فإن اليرقات تخرج في أمعاء الإنسان، وتتحوَّل بعد ذلك إلى دودة شريطية خنزيرية كاملة تتعلق بجدار الأمعاء.

ولا يقتصر خطر الدودة الشريطية على وجودها في أمعاء الإنسان المصاب بها، فهذا لا يضرُّه ضررًا بالغًا، أما الضرر البالغ فيحدث عندما تفقس البويضات في أمعاء الإنسان المصاب نفسه، وتنطلق منها اليرقات، كما يحدث في أمعاء الخنزير الذي يتناولها في طعامه وتخترق جدار أمعاء الإنسان المصاب نفسه، وتتحوصل في لحمه وأعضاء جسمه الأخرى، وتُحدث أعراضًا مرضية مختلفة تبعًا للعضو الذي استقرت فيه الحويصلات، وقد تستقر في المخ أو العين أو القلب، أو أي عضو آخر، ولا يوجد علاج لهذا الطور من المرض ولا يوجد له شفاء([5]). 

8.ديدان التريخينا  (TrichinaWorms): وهي من الديدان الأسطوانية
Nematoda=RoundWorms)) من أمثال الدودة الشعرية الحلزونية، وهي من
أخطر الطفيلات على الإنسان، وتتسبب في أمراض روماتيزمية عديدة والتهابات عضلية مؤلمة تؤدي إلى انتفاخ الأنسجة العضلية وتصلُّبها، وتُعرف باسم “داء الشعرينات”(Trichinellosis) الذي ينتج عن انتشار يرقات هذه الدودة في عضلات الجسم، الأمر الذي قد يؤدي إلى إقعاد المريض إقعادًا كاملًا، ومعاناته من الآلام المبرحة حتى وفاته بعد أن يصاب بالتهاب المخ والنخاع الشوكي والسحايا المحيطة بهما، وبالعديد من الأمراض العصبية والعقلية المترتبة على ذلك، ويصاب حاليًّا بهذا المرض نحو 47 مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، ونسبة الوفاة بين المصابين به تبلغ نحو 30%، والخنزير هو المصدر الوحيد لإصابة الإنسان بهذا المرض الخطير([6]). 

أمراض جسمانية غير طفيلية:   

يحتوي لحم الخنزير على أنواع عديدة من المركبات الكيميائية الضارة، التي لا
تتناسب ولا تنسجم مع مركبات جسم الإنسان، وبالتالي فهي تسبب له أمراضًا وعللًا متنوعة، تزداد وطأتها كلما تزايد استهلاك الشخص للحوم الخنزير ومنتجاته، ومن هذه الأمراض:

السرطانات:يحتوي جسم الخنزير على كميات كبيرة من هرمون النمو، والهرمونات المنمِّية للغدد التناسلية، وهذا يفسِّر سرعة نموه الهائلة وسرعة بلوغه العجيبة؛ لذا تزداد الإصابة بالسرطان لدى آكلي لحم الخنزير، فقد بيَّنت الدراسات وجود علاقة قوية بين استهلاك لحم الخنزير وسرطان الأمعاء الغليظة والمستقيم، وسرطانالبروستاتا، وسرطان الثدي، وسرطان البنكرياس، وسرطان عنق الرحم وبطانة الرحم، وسرطان المرارة، وسرطان الكبد.
السمنة وأمراض الشرايين والقلب:يوجد الدهن متداخلًا مع خلايا لحم الخنزير بكمياتكبيرة، خلافًا للحوم البقر والغنم والدجاج، التي يكون فيها الدهن على شكل نسيج دهنيشبه مفصول عن النسيج العضلي. وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن دهون الخنزير ترتبط بالموادالمخاطية النشوية، الأمر الذي يجعل إزالتها من الجسم أمرًا عسيرًا؛ ذلك لأن الدهونالغليسيريدية الثلاثية للحيوانات آكلة العشب، تحتوي على حمض دهني غير مشبع على ذرةالجلسرول الثانية، وإنزيمات الإنسان الدهنية قادرة على هضمها بسهولة، أما الدهونالغليسيريدية الثلاثية في الخنزير وفي آكلة اللحوم، فتحتوي على حمض دهني مشبع علىذرة الجلسرول الثانية، فلا تقدر إنزيمات الإنسان الدهنية على هضمها، وبذلك تترسَّب فيجسم آكليها من البشر، محدثة أضرارًا بليغة، ويسبب دهن الخنزير مجموعة من الأمراض، نحو: تصلب الشرايين، والذبحة الصدرية، وجلطات القلب، وضغط الدم، وسكري البول، وحصواتالمرارة، وما يتبع ذلك من تعقيدات مرضية خطيرة.
التهاب المفاصل: يحتوي لحمالخنزير على كميات كبيرة من حامض البوليك، ذلك لأن جسمه لا يتخلص إلا من قدر يسيرمن حامض البوليك، لا يتعدَّى 3%، بينما يتخلَّـص الإنسان من 90% من الحامض نفسه، ونظرًا لهذه النسبة العالية من حامض البوليك؛ فإن آكلي لحم الخنزير يشكون عادة من آلام روماتيزمية، والتهابات المفاصل، ومشاكل الكلى.
الأمراض التحسسية: يحتويلحم الخنزير على كميات عالية من مركبات الهستامين والإميدازول (histamineandimidazole)، تُحدِث عند آكليها أمراضًا تحسسية جلدية، مثل: الأكزيما، والشرى، والتهاب الجلد العصبي، والحكة وغيرها، وإذا امتنع آكلو لحم الخنزير عن أكله بشكل مطلق؛ فإنهذه الأمراض التحسسية تتلاشى.
أمراض أوتار العضلات والغضاريف:يحتويلحم الخنزير على مواد مخاطية نشوية فيها مادة الكبريت، التي تترسَّب في أوتار العضلات والنسيج الغضروفي، مسبِّبة رخاوة تلك الأنسجة، ومُحدِثة تغيرات باثولجية في المفاصلوالعمود الفقري، فالكبريت الموجود بكثرة في لحم الخنزير يترسَّب في أوتار العضلات وأربطتها في الغضاريف، فيحدِث تغييرًا في طبيعتها الشديدة الجامدة (المناسبة لوظيفتها)، لتصبح رخوة ومماثلة لمواد الخنزير المخاطية النشوية، ومن نتاج هذا التبديل أو الإحلال النسيجي تآكل غضاريف الإنسان، وما يصحب ذلك من آلام مبرحة([7]).

ونحن إذا أردنا أن نتحدث عن الأمراض والأضرار التي يسببها الخنزير للإنسان فسوف نتحدث طويلًا، ولكننا قدمنا فقط بعض الأمثلة لهذه الأمراض الخطيرة التي كشفها العلم حديثًا، وهذا فضلًا عن الأمراض التي ينقلها الخنزير للإنسان ولم يكتشفها العلم بعد.

فضلًا عن كل ذلك؛ فإن لحم الخنزير ولو لم يكن مصابًا بتلك الأمراض، فهو أكثر لحوم الحيوان دهونًا وأملاحًا. ومن ثم؛ فهو أكثرها ضررًا بشرايين الجسم، الأمر الذي يسبب لآكل لحم الخنزير والمتعوِّد عليه أمراضًا كثيرة.

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

إن من الحقائق العلمية التي أوردها القرآن الكريم ـ قبل أن يكتشفها العلم ـ تحريمه للحم الخنزير في قول الله سبحانه وتعالى: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير (  (البقرة/ 173).

يقول الإمام القرطبي: “قوله تعالى: )ولحم الخنزير (خَصُّ الله تعالى ذكر اللحم من الخنزير يدل على تحريم عينه ذُكِّي أو لم يُذَكّ، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها… وقد حرم الله عز وجل لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه؛ لأنه دخل تحت اسم اللحم”، ثم يقول: “لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا الشعر فإنه يجوز الحرازة به”([8]).

ويقول الإمام الرازي: “أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الانتفاع متعلق به… أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر، وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه”([9]).

ويقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: “وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط؛ فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته، فإذا أصيب بها آكله قتلته”([10]).

ومن عرض آراء المفسرين لهذه الآية الكريمة يتبين إجماع الأمة على تحريم لحم الخنزير بجميع أجزائه؛ لأنه رجس؛ أي: نجس وضار ومؤذٍ ونتن، ولقد أثبت العلم الحديث أن الخنزير مرتع خصْب لأكثر من 450 مرضًا وبائيًّا، ينتقل إلى الإنسان منها أكثر من 57 مرضًا، فضلًا عن الأمراض التي يُسبِّبها أكل لحمه من عسرة هضم، وتصلب الشرايين وسواها كالعديد من أنواع البريونات، كمرض جنون البقر، وفيروس نيبا، وفيروس الحمى القلاعية، والعديد من أنواع البكتيريا؛ كبكتيريا الحمى المالطية، وبكتيريا السالمونيلا… إلخ، والعديد من الأوليات؛ كالزحار البلنتيدي، وداء النوم الأفريقي، وداء المقوسات… إلخ، والعديد من الديدان؛ كالبلهارسيا اليابانية، والدودة المتوارقة البسكية، والديدان الشعرية الحلزونية، والديدان الشريطية الخنزيرية… إلخ؛ بالإضافة إلى أمراض السمنة وأمراض الشرايين والقلب وأمراض المفاصل… إلخ.

فضلًا عن احتواء لحم الخنزير على أنواع عديدة من المركبات الكيميائية الضارة، التي لا تنسجم مع مركبات جسم الإنسان؛ حيث ذكرت الأبحاث العلمية أن جسم الخنزير يحتوي على كميات كبيرة من حامض البوليك (98%) ولا يفرز منه إلا القليل (2%). ونظرًا لهذه النسبة العالية من حامض البوليك؛ فإنه يسبب لآكلي لحم الخنزير آلامًا روماتيزمية والتهابات في المفاصل، ومشاكل في الكلى… إلخ.

وكل هذا وغيره مما لم يكتشفه العلم بعدُ يؤكد الإعجاز العلمي للتشريع الإسلامي في تحريمه أكل لحم الخنزير تحريمًا صريحًا لا لبس فيه. وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدل على المصدر الإلهي لهذا التشريع الحكيم، وأنه من عند الله الذي يعلم السر وأخفى.

والآن ننتقل للرد على ما أثاره المشتبه من تساؤلات، وهي:

كيف يُحرِّم الإسلام لحم الخنزير، والخنزير حيوان يفيد الإنسان في كثير من الأمور؛ فهو يصلح للتجارب العلمية، ومنه تستخلص بعض الهرمونات المفيدة في علاج بعض أمراض الإنسان، كما يمكن نقل صمامات قلبه؟

ونحن لا نعترض على ما للخنزير من فوائد، ولكن تناسى المشتبه أن هذه الفوائد لا تتحصَّل من خلال أكل لحم الخنزير، والآية الكريمة إنما حرمت أكل لحم الخنزير، أما ما يستفاد من أي حيوان سواء كان الخنزير أم غيره من جلد مدبوغ أو هرمونات أو غيرها، مما يستفاد منها علميًّا ولا تؤكل، فالإسلام لم يحرم ذلك؛ فقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاةٍ ميتةٍ فقال: هلَّا استمتعتم بإهابها، قالوا: إنها ميتةٌ، فقال: إنما حُرِّم أكلها»([11]).

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز على الخنزير أيضًا؛ لأن تحريم الميتة ولحمالخنزير جاء في حكم واحد في القرآن الكريم في قوله تعالى:)إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير((البقرة/ 173)([12]).

وقد اشترط العلماء لهذا الجواز عدم وجود بديل آخر عن الخنزير، أو تكون هي الوسيلة الوحيدة للعلاج، بالإضافة إلى اشتراطهم تحوُّل مواد الخنزير إلى مواد أخرى غير التي كانت موجودة – وهو كائن حي – باستخدام أساليب كيميائية أو غير ذلك.

ألا يمكن توقِّي الأمراض التي تنقلها الخنازير؟

يتساءل المشتبه: لِمَ لا تُربّى الخنازير تربية صحية نظيفة، ولِـمَ لا تُتَّخذ الوسائل لاكتشاف اللحوم المصابة وإتلافها بدلًا من تحريم أكلها؟

ونحن نجيبه بأنه إذا كان ذلك ممكنًا في مكان وظروف معينين فهل يمكن تحقيقه في كل الظروف؟ أوليس الأولى عدم المخاطرة وتجنُّب المهالك؟ بل الحقيقة أن هذه الوسائل كلها لم تكن مجدية في واقع الحال في أي زمان ومكان.

ويأتينا الدليل من الولايات المتحدة ـ حيث مستوى المعيشة فيها على ما نعلم ـ فبينما نرى أن أفقر قطر إسلامي قد نجا من هذا البلاء؛ فإنه يوجد في الولايات المتحدة ثلاثة أمثال ما في العالم أجمع من الإصابات بالطفيلات الخنزيرية، علمًا بأن الإحصاءات غير دقيقة؛ لأن الآفات لا تُشخَّص سريريًّا إلا إذا كانت شديدة، ومعظم الحالات لا تشخص إلا بعد الوفاة، وتُجرى في الغرب إجراءات شاقة، ومحاولات باهظة لوقاية الخنازير وآكليها من الديدان الشعرية الحلزونية وغيرها.

ففي الولايات المتحدة التي يُربَّى فيها أكثر من مليون ونصف المليون من الخنازير، جزئيًّا أو كليًّا على القمامة، صدرت قوانين تقضي بتعريض القمامة للبخار الساخن مدة نصف ساعة قبل تقديمها للخنازير، ولكن ما هي نتيجة هذه الجهود الكبيرة؟

لقد قدَّرت الإحصاءات أن نحوًا من 5% من خنازير بوسطن و18,5% من ذبائح متشيغان مصابة بهذه الآفة.

أما اللحوم؛ فإن معالجتها بالكوبالت والسيزيوم المشعَّين يؤدي إلى إصابة الديدان الناشئة بالعقم الأمر الذي يمنع تكاثرها، لكن هذا الإجراء دقيق وليس من الميسور تطبيقه. ثم إن التجميد السريع بالتبريد، ثم التخزين الطويل في درجات حرارة شديدة الانخفاض تقضي على الطفيلات الدقيقة فيه.

وتقضي التعليمات الصحية في الولايات المتحدة بخزن لحوم الخنازير التي تؤكل نيئة 20 يومًا كاملًا في درجة حرارة 15 تحت الصفر، كما أن غلي اللحوم يقتل الطفيلات؛ لذا يُوصى بغليها مدَّة تتناسب وحجمها، ومع كل هذه الجهود الشاقة والنفقات الباهظة فلا تزال الإحصاءات تشير إلى تلك النسب المرتفعة من الإصابة.

أوليس الأيسر بداهة هو تجنُّب تلك اللحوم أصلًا؟ ثم أينسى هؤلاء أن علمهم قد احتاج قرونًا طويلة ليكتشف عددًا من الآفات التي يسببها أكل لحم الخنزير، فمن الذي يجزم بأن هناك آفات أخرى لم يكشف العلم النقاب عنها بعد؟ أفلا تستحق الشريعة الإسلامية التي سبقت العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها وندع كلمة الفصل لها، فنُحَرِّم ما حرَّمت ونُحلِّل ما حللت، وهي آتية من لدن حكيم خبير([13])؟

ألا يمكن تفادي أمراض الخنزير بالطبخ الجيد؟

أما بالنسبة للقول بأنه يمكن تفادي حدوث هذه الأمراض بطبخ لحم الخنزير جيدًا، فتموت تلك اليرقات المتحوصلة في اللحم؛ فإن هذا الرأي صحيح من الناحية العلمية، إلا أنه مجرد فرض علمي؛ لأنه لا يحدث في معظم الأحيان، فكثير من الناس من آكلي لحم الخنزير لا يستسيغون تناول اللحم إلا نصف مطبوخ، وبعضهم الآخر يُفضِّل أن يأكله نيئًا، وكما أن تلك الديدان لا تموت إلا بالطبخ الجيد، فهي أيضًا لا تموت، ولو حفظ لحم الخنزير مثلجًا إلا بعد أكثر من شهرين، وكل هذه الاحتياطات ضد حدوث العدوى من لحم الخنزير إنما هي احتياطات نظرية فقط، والدليل على ذلك استمرار الدورة الحيوية حتى اليوم لهذه الأنواع من الطفيلات التي ينقلها أكل لحم الخنزير. وفضلًا عن ذلك؛ فإن لحم الخنزير
ـ كما ذكرنا آنفًا ـ ولو لم يكن مصابًا بتلك الأمراض، فهو أكثر لحوم الحيوان دهونًا وأملاحًا، وبالتالي فهو أكثرها ضررًا بشرايين الجسم؛ الأمر الذي يسبب لآكل لحم الخنزير أمراضًا كثيرة([14]).

3)  وجه الإعجاز:

لقد حرَّم التشريع الإسلامي أكل لحم الخنزير بشكل صريح وقاطع، وقد ظل الناس قرونًا طويلة لا يعلمون شيئًا عن أخطار أكل لحم الخنزير الصحية، حتى تقدَّم العلم البشري في مختلف المجالات، واستطاع معرفة الكثير من الأمراض والأوبئة التي ينقلها الخنزير للإنسان؛ حيث يُعدُّ الخنزير مرتعًا خصبًا لأكثر من 450 مرضًا وبائيًّا، ينتقل إلى الإنسان منها أكثر من 57 مرضًا مختلفًا؛ كالديدان الشعرية الحلزونية، والديدان الشريطية الخنزيرية وغيرها، هذا بالإضافة إلى طبيعة الخنزير التي تجعله يُقبِل على أكل القاذورات الملوثة وجيف الحيوانات النافقة.

وكذلك؛ فإن لحم الخنزير يحتوي على أنواع عديدة من المركبات الكميائية الضارة؛ إذ يحتوي جسم الخنزير على نسبة عالية جدًّا من حامض البوليك الأمر الذي يسبِّب للإنسان آكل لحمه العديد من الآلام الروماتيزمية، والتهابات المفاصل، ومشاكل الكلى… إلخ.

ومن ثم يتبيَّن حكمة التشريع الإسلامي من تحريم لحم الخنزير قبل أربعة عشر قرنًا، وأنه من لدن حكيم خبير. 

(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.

[1].من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص360.

[2]. الإعجاز العلمي في تحريم لحم الخنزير، د. حنفي محمد مدبولي، بحث منشور ضمن بحوث المؤتمر العالمي العاشر للإعجاز العلمي، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، دار جياد، السعودية، 1413هـ/ 2011 م، ص310- 311.

[3]. الإعجاز العلمي في تحريم لحم الخنزير، د. محمد نزار الدقر، بحث منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

[4]. الإعجاز التشريعي في تحريم الخنزير، د. فهمي مصطفى محمود، بحث منشور بموقع: التوحيد www.eltwhed.com.

[5]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج3، ص20- 21.

[6].من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص361.

[7]. الإعجاز التشريعي في تحريم الخنزير، د. فهمي مصطفى محمود، بحث منشور بموقع: التوحيد www.eltwhed.com.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج2، ص222- 223.

[9]. مفاتيح الغيب، الرازي، مرجع سابق، ج5، ص18- 19.

[10].التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج2، ج2، ص119.

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: البيوع، باب: جلود الميتة قبل أن تُذبَح، (4/ 482)، رقم (2221).

[12]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج3، ص22.

[13]. الإعجاز العلمي في تحريم لحم الخنزير، د. محمد نزار الدقر، بحث منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

[14]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج3، ص21-22.

نفي إعجاز القرآن في إخباره عن طور العلقة في خلق الجنين
 
 
 
مضمون الشبهة:
 
يواصل المغرضون طعونهم وتشكيكاتهم حول قضايا الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومنها قضايا خلق الجنين ومراحل تكونه؛ فينكرون الإعجاز العلمي في قول الله تعالى: )خلق الإنسان من علق (2)(  (العلق).
 
زاعمين أن المعنى اللغوي لكلمة “علق” أو “علقة” لا يفي بالتعبير عن أي مرحلة من مراحل الجنين، وبخاصة المرحلة التي تخصها الآية بالذكر، وهي مرحلة انغراس التوتة في جدار الرحم أو البلاستوسيت، فما الجنين في هذه المرحلة بدم متجمد ولا رطب، ولا يكون شديد الحمرة، ولا يشبه الدم بذاته، ولا علاقة له به، وإذا كان المعنى هنا أن الجنين يتعلق بالرحم وبأمه بواسطة الحبل السري، فهذا لا إعجاز فيه البتة، فهو أمر تعرفه قابلات العصر الحجري، ولا ميزة فيه لهذه المرحلة عن غيرها من المراحل، فالجنين في جميعها معلق بالرحم.
 
كما أن صرف دلالة لفظ العلقة على دودة العلق للتعبير عن هذه المرحلة في خلق الجنين ـ لهو من المغالطات العلمية، فما هو إلا تشبيه مجازي لهذه المرحلة، وما هي إلا صورة تخيلية للجنين الذي لا يزيد حجمه في هذه المرحلة عن 2مم؛ أي إنه يمكن رؤيته بالعين المجردة.
 
وهم يخلصون بهذا إلى نفي إعجاز القرآن الكريم في الإخبار عن مرحلة العلقة في خلق الجنين، بل يثبتون قصوره عن دقة التعبير عن هذه المرحلة وحقيقتها.
 
وجه إبطال الشبهة:
 
أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الجنين في مرحلة العلقة ـ وهي المرحلة التي تبدأ مباشرة بعد انغراس النطفة الأمشاج أو الكيسة الأريمية في الرحم ـ يتعلق بأمه تعلقًا شديدًا؛ حيث يتعلق برحمها، ويتغذى من دمها الذي ينتقل بينهما منذ هذه المرحلة، كما يحاط الجنين في هذه المرحلة ببرك أو بحيرات عديدة من الدماء، ويكون الدم في هذه البحيرات أول الأمر متخثرًا جامدًا، والجنين بداخله لا يزيد حجمه عن 2مم؛ مما يجعل مظهر الجنين كأنه دم غليظ متعلق.
 
وهذا ما يتطابق تمامًا مع المعاني والدلالات اللغوية الواردة في لفظ “علق” أو “علقة”، والتي منها: النشوب والتعلق، والدم عامة سواء كان جامدًا أو رطبًا، واللون الأحمر وغيرها من المعاني.
 
كما أن تشبيه مرحلة العلقة في أطوار خلق الجنين بدودة العلق، وصرف اللفظ إليها ـ لهو من الحقائق العلمية الموافقة لخلق الجنين في هذه المرحلة؛ حيث أثبتت الصور المجهرية للجنين في هذا الطور توافقًا كبيرًا بين دودة العلق والجنين من ناحية الهيئة والشكل والمحيط والوظيفة، الأمر الذى يسوغ موقف علماء الإعجاز العلمي في إعادة مصطلح العلقة في خلق الجنين إلى دودة العلق التي تعيش في البرك وتمتص الدماء من الحيوانات وغيرها.
 
التفصيل:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
يمر الجنين في رحلة خلقه وتكوينه بمجموعة من المراحل المتلاحقة التي تسلم بعضها بعضًا، والأطوار المتعاقبة التي تسفر عن خلق تام مكتمل، ومن هذه المراحل التي يمر بها الجنين في تخلقه وتكوينه مرحلة “العلقة”، وهي المرحلة التي تلي نزول النطفة الأمشاج إلى الرحم، والانغراس بجداره.
 
وهكذا “تقوم البويضة الملقحة (النطفة الأمشاج) بالانقسام المتتالي؛ فتصبح الخلية أربع خلايا في 40 ساعة، ثم تكون 32 خلية في 80 ساعة، ولا تمر خمسة أيام إلا وقد صارت مثل الكرة تمامًا، أو مثل ثمرة التوتة، وتدعى عندئذ التوتة (MORULLA)، ثم يمتلئ جوف هذه الكرة بسائل وتدعى عندئذ الكرة الجرثومية، أو البلاستولا (BLASTULA)، وفي تلك الأثناء تتمايز خلايا الكرة الجرثومية إلى طبقتين: خارجية وداخلية.
 
الطبقة الخارجية:
 
 تتكون من خلايا آكلة ومغذية، وما إن تصل إلى الرحم حتى تنشب فيه وتعلق بجداره وتقضم خلاياه، وعادة ما يكون ذلك في الجدار الخلفي للرحم، وفي النصف الأعلى منه على وجه الخصوص؛ حيث يعتبر ذلك أكثر مناطق الرحم صلاحية لنمو الجنين واكتماله.
 
ويكون الرحم قد استعد لذلك بزيادة ثخانة طبقة غشائه وازدياد الدماء فيه حتى تكون به جيوب دموية كثيرة.
 
الطبقة الداخلية:
 
 ومنها سيخلق الله تعالى الجنين وأغشيته، ويتكون اللوح الجنيني أولًا، وهو يشبه القرص المستدير في أول أمره، ثم يستطيل حتى يشبه الكمثرى، ثم يتحول هذا اللوح الجنيني إلى ورقتين: خارجية مكونة من خلايا عمودية، ويغطيها كيس السلى (الأمنيون)، وداخلية مكونة من خلايا مفرطحة، وتتصل بكيس المح.
 
ويتم انغراز الكرة الجرثومية في جدار الرحم فيما بين اليوم الخامس والسابع منذ التلقيح، وتقوم الخلايا في الطبقة الخارجية من هذه الكرة الجرثومية بقضم خلايا الرحم والانغراز فيه، كما تقوم بعدئذٍ بتأمين الغذاء من الرحم، وتتصل هذه الخلايا مباشرة بالدم الغليظ في الجيوب الدموية الرحمية وتأخذ منها غذاءها وغذاء الجنين”([1]).
 
وعلى هذا فإن مرحلة “العلقة” هي المرحلة التي يتم فيها انغراس الكرة الجرثومية في بطانة الرحم، والتي تعلق بها علوقًا قويًّا، وتعتمد عليها في نقل الغذاء والدماء؛ حيث تنقسم هذه الكرة الجرثومية إلى طبقتين: طبقة خارجية وطبقة داخلية، ثم تأخذ في الانغراس والتعلق بجدار الرحم، فهذه المرحلة ما هي إلا انغراس وتعلق للنطفة الأمشاج أو الكيس الأريمي في بطانة الرحم.
 
وهكذا “يتم الانغراس عند الإنسان في الوجه الداخلي لقعر الرحم؛ حيث يلاحظ بعد تشكل الكيس الأريمي ووصوله إلى تجويف الرحم ـ ويتم ذلك في اليوم السادس بعد الإخصاب ـ حدوث بعض التغيرات في كل من الأرومة المغذية (Trophoblast)، والقرص الجنيني (الأرومة الجنينية) (Embryoblast)؛ حيث تنقسم الأريمة المغذية إلى طبقتين: طبقة خلوية داخلية سريعة الانقسام تسمى الأرومة المغذية الخلوية (Cytotrophoblast)، وطبقة لاخلوية خارجية تسمى الأرومة المغذية اللاخلوية (Syncytiotrophoblast)، تتموضع فوق الأرومة المغذية الخلوية في القطب الحيواني بالقرب من مخاطية الرحم، ومع زيادة الانغراس تنتشر على كامل سطح الكيس الأريمي، وهي عبارة عن كتلة برتوبلازمية تمتلك إنزيمات حالة لبطانة الرحم، ويساعدها في ذلك إنزيم الهيالورونيداز (Hyaluronidase) الذي تفرزه الأرومة المغذية، مما يسهل عملية انغراس الكيس الأريمي في بطانة الرحم، ثم تنشأ داخل الأرومة المغذية اللاخلوية مجموعة من الفضوات التي تسمى بريكات أو فجوات (Lacunae) التي تمتلئ بدم الأم وإفرازات الغدد الرحمية مشكلة الغذاء الجنيني إلى حين تشكل المشيمة، حيث ينتقل هذا الغذاء للجنين عن طريق الانتشار.
 
أما الأرومة الجنينية (القرص الجنيني) فتنقسم ـ أيضًا ـ إلى طبقتين: طبقة علوية مكونة من خلايا كبيرة الحجم تسمى الأرومة العلوية (Epiblast)، وتتموضع تجاه القطب الحيواني، وطبقة سفلية مكونة من خلايا صغيرة الجسم تسمى الأرومة السفلية (Hypoblast) وتتموضع تجاه جوف الأريمة…
 
يكتمل الانغراس عند الإنسان في حدود اليوم 10 ـ 12؛ حيث تنغلق بطانة الرحم على الكيس الأريمي الذي يصبح بكامله داخل مخاطية الرحم، مما يؤدي إلى بروز جدار الرحم باتجاه تجويفه واحتقان ظهارته”([2]).
 
صورة لانغراس البويضة في جدار الرحم
 
المراحل التي تمر بها العلقة:
 
تبدأ مرحلة العلقة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ بعد تكون النطفة الأمشاج أو البويضة الملقحة، وانقسامها المتتابع حتى تكون الزيجوت أو التوتة، ثم تسقط إلى الرحم، وتأخذ في الانغراس والتعلق ببطانته، منقسمة إلى طبقتين: داخلية وخارجية.
 
ومنذ أن تعلق الكيسة الأريمية في بطانة الرحم تأخذ في التطور عقب مجموعة من المراحل تمر بها، ويمكن عرض هذه المراحل بصورة مجملة فيما يأتي:
 
ففي اليوم الثامن من التلقيح أو الثاني من العلوق (الأسبوع الثاني):
 
 تتمايز خلايا الكتلة الخارجية إلى مجموعتين من الخلايا الخارجية، منها خلايا مخلاوية، تفقد الجدر الفاصلة فيما بين خلاياها، وتتصل اتصالًا مباشرًا بالبحيرات الدموية الموجودة في جدار الرحم، وتدعى بالطبقة المخلاوية.
 
اليوم التاسع:
 
يمتد من خلايا الطبقة (الإنتودرم) شريط من الخلايا، ويتصل بخلايا (الميزودرم) الخارجية مكونا كيس المح، وتنغرز الكرة الجرثومية بأكملها تقريبًا داخل الرحم في هذا اليوم، وتقفل الفتحة التي دخلت منها الكرة الجرثومية بواسطة جلطة مكونة من الليفين.
 
اليوم الحادي عشر والثاني عشر:
 
 تكون الكرة الجرثومية قد أكملت انغرازها، وتغطت الفتحة التي دخلت منها الكرة بواسطة خلايا من غشاء الرحم، ومن الجلطة الدموية التي كانت تسد الفتحة كما رأيناها في اليوم التاسع.
 
اليوم الثالث عشر:
 
 قد يظهر في هذا اليوم نزيف من الرحم نتيجة زيادة الدورة الدموية في الرحم، ولذلك قد تظن المرأة أن ذلك دم الحيض جاء في موعده، ولا تفطن أنها حامل، خاصة أن الدم يأتي في موعد الحيضة تمامًا، وفي هذا اليوم تنمو الخلايا، وفي نهاية الأسبوع الثاني منذ التلقيح يبدو الجنين ممثلًا بقرصين متلاصقين، القرص الخارجي هو قرص الأكتودرم، والذي يكون قاع تجويف السلي (الأمنيون) والقرص الداخلي هو قرص الأنتودرم الذي يكون سقف تجويف كيس المح، ويلتصق القرصان في الجزء الأمامي جهة الرأس للجنين، نتيجة سماكة خلايا (الأنتودرم) التي تصبح عمودية في هذه المنطقة، والتي تعرف باسم الصفيحة سالفة القلب، كما يلتصق القرصان في المنطقة المؤخرية لهما.
 
اللوح الجنيني:
 
في الأسبوع الثالث (ابتداء من اليوم الرابع عشر إلى اليوم الواحد والعشرين)، عندما تعلق الكرة الجرثومية تكون كتلة الخلايا الداخلية التي يخلق منها الجنين قد تمايزت إلى طبقتين:
 
خارجية: وهي خلايا عمودية تسمى الأكتودرم.
داخلية: وهي خلايا مفرطحة في أول أمرها، ثم تكون مكعبة وتسمى الأنتودرم، وتكون كل طبقة مثل القرص، فكأنهما قرصان متلاصقان يتحولان إلى مستطيلين في نهاية الأسبوع الثاني حتى يأخذا شكل الكمثرى.
 
وتنمو مجموعة من الخلايا تتجه يمنة ويسرة بين طبقة الأكتودرم وطبقة الأنتودرم، ويستمر هذا الشريط في نشاطه إلى نهاية الأسبوع الثالث عندها تظهر الكتل البدنية، ثم يثوي بعد ذلك نشاطه، ويندثر في الأسبوع الرابع، وفيما بين اليوم الخامس عشر وحتى ظهور الكتل البدنية في نهاية الأسبوع الثالث، يكون الشريط الأول في أوج نشاطه، وتمتد خلايا منه مكونة الطبقة المتوسطة الجنينية.
 
وهكذا يتحول اللوح الجنيني المستدير الشكل إلى شكل كمثرى، تكون جهته الرأسية عريضة، وجهته المتأخرة ضيقة دقيقة، ويتضح ذلك في اليوم الثامن عشر، ويكون اللوح الجنيني عندئذٍ مكونًا من ثلاث طبقات([3]).
 
هذه هي مرحلة العلقة بوصفها طورًا من أطوار خلق الجنين، والتي تعرف باسم “مرحلة الالتصاق والانغراس أو الحرث” (The Attachment And Implantation Stage).
 
ويحدث فيها اقتراب الأرومة الجرثومية (Blastula)من الغشاء المخاطي المبطن للرحم حتى تلتصق في جزئه العلوي بعد ستة إلى سبعة أيام من تاريخ الإخصاب، ثم تقوم الخلايا الخارجية للأرومة الجرثومية بقضم جدار الرحم والانغراز فيه بواسطة عدد من الخملات الدقيقة، الغارقة في بحر من الدماء، وبذلك يكون الاتصال بين الجنين ودماء الأم اتصالًا مباشرًا فتتغذى عليه العلقة وعلى لبن الرحم الذي تفرزه آلاف من الغدد الرحمية.
 
وفي حوالي اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من تاريخ الإخصاب تقفل الفتحة التي دخلت منها الأرومة الجرثومية في غشاء جدار الرحم بعدد من الخلايا الليفية والدموية، ثم تغطى بعدد من الخلايا الطلائية المكونة لبطانة الرحم الغشائية.
 
وبعد هذه المرحلة الأولى من تعلق الجنين بجدار الرحم، وانغراسه فيه، يبدأ الغشاء المشيمي (Chorion) في التكون من الخلايا الخارجية للأرومة الجرثومية، كما يتكون معلاق موصل بين الجنين وبين الغشاء المشيمي، تنشأ فيه الأوعية الدموية السرية المغذية للجنين لتأكيد تعلق الجنين بجدار الرحم.
 
ويستمر طور العلقة من اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين تقريبًا بعد إتمام عملية الإخصاب، وعلى الرغم من ضآلته فإن هذا الطور يتميز بصفات عدة، منها: التكاثر المتسارع للخلايا ونشاطها في تكوين أجهزة الجسم، وبدء ظهور شق عصبي عميق عند نهاية الطرف الخلفي للجنين، وتكون عدد قليل من الفلقات، ووضوح ثنية الرأس لينتقل هذا الطور إلى الطور الذي يليه، وهو طور المضغة([4]).
 
 
 
 رسم يوضح كيفية تغور البويضة داخل بطانة الرحم؛ ومن ثم تنغلق الفتحة التي تسببها بالسدادة النسيجية (Closing Plug)
 
كما بينت الأبحاث العلمية أن هناك توافقًا كبيرًا بين الجنين في هذه المرحلة وبين دودة العلق في الهيئة والمحيط والوظيفة؛ وهذا ما يسوغ أن هذه التسمية راجعة إلى مشابهة هذه الدودة المسماة بدودة العلق.
 
فإنه “بعد أن تتمايز النطفة إلى كتلتين، كتلة داخلية وكتلة خارجية، تتحد الكتلة الخارجية ببطانة الرحم وتخرج النطفة عن شكلها وطبيعتها، وتتهيأ لأخذ شكل جديد هو شكل القرص الجنيني، هذا القرص يتخذ تدريجيًّا شكل علقة.
 
والحاصل أن الحبل الظهري (NOTHOCORD)ينمو في الأسبوع الثالث، فيستطيل الجنين ويتخذ نسبيًّا شكلًا كمثريًّا، وفي الوقت نفسه تنمو الطبقة المتوسطة (MESODERM)،فيتصلب الجنين، ويتضخم جزء الطبقة الخارجية للجنين الممتد على جانبي محور الجنين (NEURALPLATE)،بينما ينخفض الجزء المحوري ابتداء من اليوم الثامن عشر، فيظهر خط طولي في وسط الجنين، ومن ثم تلتحم أطراف الطبقة الخارجية الواقعة على جانبي المحور في اليومين الثاني والعشرين والثالث والعشرين مكونة ميزابًا عصبيًّا (NEURAL GROOVE)،وتتمايز الطبقة المتوسطة التي تلامس هذا الميزاب (PARAXIAL MESODERM)ابتداء من اليوم الواحد والعشرين؛ أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة، فتظهر بعض الشقوق فيها على أثر ذلك، وتنقسم إلى قطاعات مكونة على جانبي الميزاب العصبي بعض ما يسمى بـ “الفلقات البدنية” (SOMITES)،فنجد في نهاية الأمر أن الجنين قد اتخذ شكلًا مستطيلًا نسبيًّا، وأن رأسه قد تضخم، ووسطه قد نحف، وظهر خط طولي في وسطه، وبدأ شكله يتثلم قليلًا مع اعوجاج صغير في شكله الكلي، حتى إن مظهره الخارجي أصبح يشبه مظهر العلقة؛ أي الدودة… في هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة؛ إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي (السائل الأمنيوسي) تمامًا مثلما تحاط الدودة بالماء.
 
وهكذا يتشابه الجنين مع دودة العلقة من حيث المحيط والوظيفة”([5]).
 
 
 
 
 
 
 
 رسم توضيحي يبين وجه الشبه بين المنظر الجانبي للجنين في مرحلةالعلقة (الرسم الأسفل)
   وطفيلالعلق في الأعلى
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
إن آية خلق الإنسان بما فيها من إبداع ودقة لتدل دلالة قاطعة على مدى عظمة الخالق، وجلال قدرته، وإبداع صنعه، إنها آية عظيمة من آيات الله عز وجل في الكون، تتجلى فيها قدرة الواحد الأحد، الفرد الصمد؛ إثباتًا لتفرده سبحانه في الخلق والملك والتدبير.
 
ولقد عبر القرآن الكريم في إعجاز بين عن مراحل خلق الإنسان، وبينها بيانًا تامًا بما لا يدع مجالًا للشك أنه الكتاب المعجز الحق، ومن هذه المراحل التي ذكرها القرآن الكريم في خلق الجنين، مرحلة العلقة أو العلق، قال تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم… ((الحج: ٥)، وقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا…((المؤمنون)، وقال تعالى: )هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا( (غافر: ٦٧)، وقال تعالى: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38)  ((القيامة)،وقال تعالى:)خلق الإنسان من علق (2)( (العلق).
 
آيات بينات كثيرة في هذا السياق تذكر مراحل خلق الجنين وأصل الإنسان؛ حيث ينتقل الجنين في أطواره المتعاقبة حتى يصير خلقًا مكتمل البنيان، سليم الخلقة في إعجاز خلقي باهر، تشخص له الأبصار، وتصيخ له الآذان.
 
إلا أن الطاعن يصم أذنه، ويغمض طرفه عن هذه الحقائق البينة، ولا يروق له هذا الإعجاز البين للقرآن الكريم في وصف مراحل الخلق بدقة متناهية، محاولًا النيل من هذه الحقائق والغض من شأنها، فيأتي بفرقعات وأوهام لا تلبث أن ينكشف زيفها، وتذهب سدى بمجرد نظرة فاحصة.
 
لقد تحدث القرآن الكريم عن مرحلة العلقة في خلق الجنين، وذكرها بعد مرحلة النطفة التي تصير فيها البويضة إلى زيجوت أو توتية، وتنزل إلى الرحم وتنغرس فيه، وهنا تأخذ مرحلة العلقة في التكون؛ حيث تمتد هذه المرحلة من اليوم الرابع عشر إلى اليوم الرابع والعشرين.
 
ولعل لفظ علقة في وصف هذه المرحلة هو أفضل المصطلحات وأنسبها في التعبير بوضوح عن هذه المرحلة، وهذا ما تبينه الدلالات اللغوية وتفسير الآيات القرآنية.
 
من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:
 
حفلت المعاجم اللغوية بتفصيل كبير فيما جاء بشأن دلالات ومعاني كلمة “العلق” أو “علقة”. وقد استخدم العرب هذا اللفظ في الدلالة على معان عدة، من أهمها: التعلق والنشوب بصفة عامة، والشيء المعلق، والدم بعامة سواء كان جامدًا أو رطبًا، ودودة حمراء تكون في الماء تمتص الدم، والحُب والهوى، وحَبَل المرأة، وغيرها مما جاء في هذه الدلالات، وكل هذه المعاني تدور حول دلالة التعلق والنشوب في الشيء، وكلها تدل دلالة واضحة على مضمون العلقة في خلق الجنين، بل تعبر عنها تعبيرًا مثاليًّا.
 
فقد جاء في لسان العرب: “علق: عَلِق بالشيء عَلَقًا وعَلِقه: نشب فيه… وهو عالق به؛ أي: نشب فيه، وقال اللحياني: العَلَق: النشوب في الشيء يكون في جبل، أو أرض أو ما أشبهها. وأعلق الحابل: علق الصيد في حبالته: أي نشب… وعَلِق الشيء عَلَقًا، وعلق به علاقة وعلوقًا: لزمه… وعلق بها علوقًا، وتعلقها وتعلق بها، وعلقها وعلق بها تعليقًا: أحبها… والعلق: الدم ما كان، وقيل: هو الدم الجامد الغليظ، وقيل: الجامد قبل أن ييبس، وقيل: هو ما اشتدت حمرته، والقطعة منه علقة… ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة؛ لأنها حمراء كالدم، وكل دم غليظ علق، والعلق: دود أسود في الماء معروف، والواحدة علقة”([6]).
 
وكذلك جاء في معجم “الصحاح في اللغة” هذا المعنى، فقال: “علق: العلق: الدم الغليظ، والقطعة منه علقة. والعلقة: دودة في الماء تمتص الدم، والجمع: علق… والعلق: الذي تعلق به البكرة من القامة، يقال: أعرني علقك؛ أي: أداة بكرتك… وعلقت المرأة؛ أي: حبلت… والعلوق: ما يعلق بالإنسان، والمنية علوق وعلاقة”([7]).
 
وقال صاحب تاج العروس: “العلق: الدم عامة ما كان، أو هو شديد الحمرة، أو الغليظ، أو الجامد قبل أن ييبس… والعَلَق: كل ما علق”([8]).
 
وهذه المعاني المتعددة للفظ (علقة) يكاد يعقد عليها الاتفاق في كل معاجم اللغة العربية.
 
أما علماء التفسير في القديم والحديث فقد ذهبوا إلى أن المراد بالعلقة في هذه الآيات، هو الدم، وبخاصة الدم الغليظ المتجمد.
 
فقد قال الإمام ابن جرير الطبري: “وقوله: )ثم خلقنا النطفة علقة((المؤمنون: ١٤)، يقول: ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة، وهي القطعة من الدم”([9]). وقال أيضًا: “قوله: )خلق الإنسان من علق (2)((العلق)؛ يعني: من الدم”([10]).
 
وقال الإمام القرطبي: “)ثم من علقة ((الحج: ٥): وهو الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط؛ أي: الطري، وقيل: الشديد الحمرة”([11]). وقال أيضًا: “)من علق (2)( (العلق) ؛ أي من دم؛ جمع علقة، والعلقة: الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح، وقال: )من علق (2)( (العلق)  ، فذكره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة، والعلقة: قطعة من دم رطب، سميت بذلك؛ لأنها تعلق ـ لرطوبتها ـ بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة”([12]).
 
وقال الإمام ابن كثير: “)ثم خلقنا النطفة علقة((المؤمنون: ١٤): أي صيرنا النطفة… فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة، قال عكرمة: وهي دم”([13]).
 
وقال الإمام البغوي: “)ثم من علقة ((الحج: ٥)،وهي: الدم الغليظ المتجمد، وجمعها علق، وذلك أن النطفة تصير دمًا غليظًا، ثم تصير لحمًا”([14]).
 
وإلى هذا المعنى ـ أيضًا ـ ذهب كثير من المفسرين حديثًا؛ فيقول الإمام سيد قطب:”)خلق الإنسان من علق (2)( (العلق)   : من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة بالرحم”([15]).
 
وقال صاحب التحرير والتنوير: “والعلق: اسم جمع علقة، وهي: قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبًا لم يجف، سمي بذلك تشبيهًا لها بدودة صغيرة تسمى علقة، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده، وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها، ومعنى )خلق الإنسان من علق (2)((العلق)   : أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة، فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكون، فجعلت العلقة مبدأ الخلق، ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق؛ لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل، فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة، فلا يتخلق الجنين، وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة، وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة.
 
 ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة؛ لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدًّا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافًا، تكون في مبدأ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة، فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها، فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق، كما قال تعالى: )مخلقة وغير مخلقة(  (الحج: ٥)، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلًا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه، وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة”([16]).
 
هذا أهم ما جاء في معنى العلقة في معاجم اللغة وعند المفسرين قديمًا وحديثًا، والمعاني كلها الواردة في اللغة دلالة على لفظ العلق، وعلقة تتطابق مطابقة واقعية مع هذه المرحلة من مراحل خلق الجنين، بل ليس هناك لفظ أنسب من لفظ علقة لوصف هذه المرحلة، وهذا إعجاز بين للقرآن الكريم؛ فالمعاني التي تحويها هذه الكلمة تنطبق كلها بإعجاز على مظهر الجنين ووظيفته وما يطرأ عليه من تغيرات خلال هذه المرحلة، وهذا ما وضحه العلم الحديث وكشف عنه بوسائله الفعالة.
 
فمن أهم المعاني التي ذكرت في لفظ العلق ما يأتي:
 
الالتصاق والتعلق والنشوب بشيء.
العلقة: هي دودة تعيش في البرك، وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها.
العلق: هو الدم الغليظ الجامد.
كلمة العلقة: تستعمل أيضا للإشارة إلى الدم الرطب.
كلمة علقة: تشير إلى الحمرة الشديدة.
 
وهذه المعاني كلها تنطبق انطباقًا تامًّا على مرحلة العلقة في خلق الجنين، وهذا ما نبينه كالآتي:
 
“المعنى الأول وهو معنى الالتصاق والتعلق بشيء:
 
فإن كتلة الخلايا التي تتولد عن انقسامات النطفة تتمايز إلى كتلتين: كتلة خلايا داخلية (INNER CELL MASS) ستؤلف الجنين، وكتلة خلايا خارجية (TROPHOBLAST) ستؤلف المشيمة. تلك الكتل تكون متصلة بعضها ببعض عند قطب من الأقطاب يسمى “القطب الجنيني” (EMBRYONIC POLE)، بينما يفصل بينها من سائر الجهات ما عدا القطب الجنيني فراغ ممتلئ بسائل يدعى “كيس المح الأولي” (PRIMITIVE YOLK SAC).
 
ولكن تلك الكتل ما تلبث أن تتمايز، فتنفصل كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في الجزء الوسط منها عند القطب الجنيني، لتؤلف قرصًا مسطحًا دائريًّا يسمى “القرص الجنيني” (EMBRIONIC DISC)، وينشأ بين هذا القرص وكتلة الخلايا الخارجية من جراء هذا الانفصال فراغ يسمى “الفراغ الأمنيوني” (AMNIOTICCAVITY). فيفصل عندئذٍ الفراغ الأمنيوني القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من جهة القطب الجنيني، بينما يفصل كيس المح الأولي القرص الجنيني عن كتلة الخلايا الخارجية من الجهة المعاكسة، ويظل القرص الجنيني متصلًا بكتلة الخلايا الخارجية عند أطرافه، ويتولد في الوقت نفسه طبقة رخوة عن النسيج من خلايا المح، سرعان ما تحيط بالفراغ الأمنيوني وبكيس المح وبالقرص الجنيني عند أطرافه، ومن ثم ينشأ هذا النسيج عدة فراغات تتحد فيما بينها فتؤلف فراغا كبيرًا ممتلئًا بسائل يحيط بكيس المح والقرص والفراغ الأمنيوني، فيفصل الفراغ عندئذٍ عن القرص الجنيني من كل الجهات عن الكتلة الخارجية إلا في موضع واحد؛ حيث يظل القرص متصلًا بالطبقة الخارجية التي تصبح جزءًا من الرحم بواسطة الطبقة الرخوة من النسيج، هذه الطبقة تكون بمثابة ساق للقرص الجنيني تسمى “المعلاق” (CONNECTING STALK)، وتصبح فيما بعد الحبل السري للجنين. وهكذا نرى كيف أن الجنين يتعلق بالرحم بواسطة ساق ليصبح كما تشير إليه الآية “علقة”.
 
مقطع لقرص جنيني في حوالي اليوم الثامن، يظهر كيف أن القرص الجنيني ينفصل عن كتلة الخلايا الخارجية في قطب من أقطابه، حيث ينشأ فراغ يسمى بـ “الفراغ الأمنيوني” (Amniotic Cavity)، وفي هذا الحين ينشأ غشاء يسمى “غشاء كيس المح” (Exocoelomic membrane) فصل أطراف القرص الجنيني عن الكتلة الخارجية فيما بعد
 
مقطع يظهر انفصال كتلة الخلايا الداخلية عن كتلة الخلايا الخارجية في حوالي اليوم التاسع لتؤلف قرصًا جنينيًّا يتصل من جهتين بكيس المح الأولي (Primary yolk sac) وبالفراغ الأمنيوني (AmnioticCavity) يفصل بينهما وبين الكتلة الخارجية طبقة رخوة من النسيج (Extraembryonicmesoderm)
 
رسم لجنين في يومه الرابع عشر يظهر كيف أن ساقًا (Connecting stalk) تولدت بين الجنين والكتلة الخارجية عند قطب الفراغ الأمنيوني، الذي لم ينفصل عن الكتلة الخارجية في اليوم الثالث عشر
 
وفي النهاية تظهر الساق (Connecting stalk) التي تصل الكتلة الداخلية بالكتلة الخارجية بوضوح، وذلك ليتحقق معنى كلمة “علقة” التي وردت في الآية: )ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: 14).
 
المعنى الثاني، وهو معنى الدودة التي تعيش في البرك:
 
بعد أن تتمايز النطفة إلى كتلتين، كتلة داخلية وكتلة خارجية، تتحد الكتلة الخارجية ببطانة الرحم، وتخرج النطفة عن شكلها وطبيعتها، وتتهيأ لأخذ شكل جديد؛ هو شكل القرص الجنيني، هذا القرص يتخذ تدريجيًّا شكل علقة.
 
والحاصل أن الحبل الظهري (NOTHOCORD) ينمو في الأسبوع الثالث فيستطيل الجنين ويتخذ شكلًا كمثريًّا، وفي الوقت نفسه تنمو الطبقة المتوسطة (MESODERM)، فيتصلب الجنين، ويتضخم جزء الطبقة الخارجية للجنين الممتد على جانبي محور الجنين (NEURAL PLATE)، بينما ينخفض الجزء المحوري ابتداء من اليوم الثامن عشر، فيظهر خط طولي في وسط الجنين، ومن ثم تلتحم أطراف الطبقة الخارجية الواقعة على جانبي المحور في اليومين الثاني والعشرين والثالث والعشرين مكونة ميزابًا عصبيًّا (NEURAL GROOVE)، وتتمايز الطبقة المتوسطة التي تلامس هذا الميزاب (PARAXIAL MESODERM) ابتداء من اليوم الواحد والعشرين؛ أي في حوالي نهاية مرحلة العلقة، فتظهر بعض الشقوق فيها على أثر ذلك، وتنقسم إلى قطاعات مكونة على جانبي الميزاب العصبي بعض ما يسمى بـ “الفلقات البدنية” (SOMITES)، فنجد في نهاية الأمر أن الجنين قد اتخذ شكلًا مستطيلًا نسبيًّا، وأن رأسه قد تضخم، ووسطه قد نحف، وظهر خط طولي في وسطه، وبدأ شكله يتثلم قليلا مع اعوجاج صغير في شكله الكلي حتى إن مظهره الخارجي أصبح يشبه مظهر العلقة؛ أي الدودة.
 
ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية: “فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة”.
 
في هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتغذي من دماء الأم مثلما تفعل الدودة العالقة؛ إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي (السائل الأمنيوسي) تمامًا مثلما تحاط الدودة بالماء، وهكذا يتشابه الجنين مع دودة العلقة من حيث المحيط والوظيفة.
 
جنين في اليوم الرابع والعشرين (f. E)، الصورة على أقصى اليمين حقيقية (f) جانبية إلى حد ما، ويليها من جهة الشمال رسم طبق الصورة (E) يوضح معالم الجنين
 
 
 
رسم لحيوان العلقة
 
 
 
جنين في اليوم الثاني والعشرين من عمره، الصورة (A.B) على أقصى الشمال (A) حقيقية، بينما يليها من جهة اليمين رسم طبق الصورة (B) يوضح معالم الجنين
 
من خلال الصور نرى كيف أن الجنين يشبه حيوان العلقة (دودة)، كما تشير إليه الآية:)ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: 14)، وذلك أن رأسه ضخم مثل العلقة، وجسمه منثلم، وذيله نحيف مع انحناء بسيط
 
المعنى الثالث، وهو الدم الجامد:
 
نفيد في هذا المضمار أنه يتخلق في هذه الفترة لدى الجنين قلب بدائي مملوء بالدماء ومجموعة أوردة دموية ضيقة على شكل جزر مغلقة تجعل الدم جامدًا غير متحرك.
 
المعنى الرابع، وهو معنى الدم الرطب:
 
قد ذكرنا آنفا أن الدم يكون جامدًا غير متحرك، وهذا من حيث المظهر الخارجي، أما في الحقيقة فهو دم سائل (أي: رطب)، ولا يبدأ هذا الدم بالدوران حتى اليوم الثاني والعشرين؛ أي: حين يصبح القلب البدائي قادرًا على الضخ.
 
المعنى الخامس، وهو شديد الحمرة:
 
من جراء كثرة الأوردة يظهر الجنين شديد الحمرة.
 
وهكذا نرى أن المعاني الخمسة تنطبق بشكل رائع على وصف الجنين في هذه المرحلة، مظهرة روائع الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
 
وفي مجمل القول فإن اسم “العلقة” يعتبر وصفا دقيقًا متكاملًا لهذا الطور، فهذا الاسم يشتمل على وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة: لونها، شكلها، وظيفتها، محيطها، كما يشتمل على الأحداث الداخلية كتكون الدماء والأوعية مقفلة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم”([17]).
 
في حوالي اليوم الرابع عشر يمتلئ حائط كيس المح بجزر من الدماء (Blood Islands)، كذلك في الساق الموصلة، وفي حائط الكتلة الخارجية (الكوريون)، وبعد حوالي يومين يتخلق تدريجيًّا إلى نهاية الأسبوع الثاني أوعية دموية وقلب بدائي لدى الجنين، في هذا الوقت يكون الدم جامدًا ورطبًا في جدار كيس المح وفي القرص الجنيني (كما تعنيه كلمة”علقة”)، ويتشرب الجنين الغذاء من دماء الأم عبر الفراغ الكبير الذي يحيط به (Extraembryonic coelom) وبكيس المح (Yolk sac)
 
في اليوم الحادي والعشرين ـ أي قبل نهاية فترة العلقة بثلاثة أيام ـ يكون الجهاز الدموي قد تخلق، ويبدأ القلب البدائي بالضخ، وفي اليوم الثاني والعشرين يمتص الجنين الغذاء من دماء الأم بواسطة خملات المشيمة، ونرى في الشكل السابق رسمًا يظهر لنا جزر الدماء في جدار كيس المح لجنين في اليوم الثامن عشر، وفي الشكل الحالي نرى رسمًا لجنين وقد تخلقت فيه أوعية دموية كثيرة في اليوم الحادي والعشرين، فيظهر من جراء ذلك شديد الحمرة كما تعنيه الآية الكريمة: )ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون: ١٤)
 
وعلى هذا فإن أفضل لفظ يدل على حقيقة هذا الطور من خلق الجنين هو مصطلح العلق أو العلقة؛ حيث تنطبق دلالات هذه الكلمة بكل معانيها على هذه المرحلة في خلق الجنين، ولا يقوم بهذا الوصف الدقيق مصطلح آخر غير مصطلح العلقة، فهذا إعجاز بين للقرآن الكريم في وصف مراحل خلق الإنسان، ومنها مرحلة العلقة تلك.
 
أما قصر المفسرين للعلقة على معنى الدم، سواء الجامد منه أو الرطب، وأن الجنين في هذه المرحلة لا يكون قطعة من الدم ولا يشبهه ـ فهو أمر مقبول منهم؛ “فإذا عرفنا أن حجم العلقة عند انغرازها لا يزيد عن ربع مليمتر أدركنا على الفور لماذا أصر المفسرون القدامى على أن العلقة هي الدم الغليظ، فالعلقة لا تكاد ترى بالعين المجردة، وهي مع ذلك محاطة بالدم من كل جهاتها، فتفسير العلقة إذا بالدم الغليظ ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة، ولم يبعد بذلك المفسرون القدامى عن الحقيقة كثيرًا؛ فالعلقة العالقة بجدار الرحم، والتي لا تكاد ترى بالعين المجردة محاطة بدم غليظ يراه كل ذي عين”([18]).
 
هذا ما ذهب إليه المفسرون، وهو جزء من حقيقة العلقة، وهم معذورون في ذلك، إلا أن معنى العلقة ودلالتها أوسع من ذلك؛ فهي أولا تطلق على كل ما ينشب ويعلق، وأهم ما يميز هذه المرحلة هي أنها تنشب وتعلق في جدار الرحم بصورة عجيبة؛ حيث تنقسم الكرة الجرثومية إلى طبقتين إحداهما تنغرس في جدار الرحم، والأخرى يتخلق منها الجنين، فالتعلق والنشوب هو أهم ما يميز هذه المرحلة، ولذلك أخذت هذا المسمى بالإضافة إلى الدلالات الأخرى لهذا اللفظ، أما المراحل التالية ـ وإن كان الجنين فيها معلقًا أيضًا ـ فتتميز بسمات أخرى أهم من التعلق؛ حيث تظهر الكتل الجنينية، والأعضاء الأولية، والعظام، والتشكل الجنيني… إلخ.
 
وكما سبق أن بيّنا أن لفظ العلق أو العلقة بكل دلالاته ينطبق على هذه المرحلة من مراحل خلق الجنين.
 
وأما ما ذهب إليه علماء الإعجاز العلمي من أن تسمية العلقة في أطوار خلق الجنين راجعة إلى تشابهها بدودة العلق؛ حيث يكون الجنين في هذه المرحلة مماثلًا تمامًا لهيئة ومضمون دودة العلق التي تعيش في الماء، وتمص الدم، فهو أمر ـ أيضًا ـ يدل عليه العلم الحديث ويثبته، ولا يتعارض مع الحقائق العلمية في هذا الشأن؛ فإن “العلق من الديدان الحلقية (ANNELIDA)، أو ما يعرف باسم العلقيات (CLASSHIRUDINIA)، والتي عادة ما تحيا في الماء العذب، وإن كانت أنواع قليلة منها تحيا في الماء المالح، أو حتى على اليابسة في الغابات الاستوائية وشبه الاستوائية الرطبة.
 
وتعيش ديدان العلق متطفلة على العديد من العوائل (جمع عائل) الفقارية بإلصاق نفسها بجسم العائل بقرصين ماصين قويين عند كل من طرفيها تمتص بواسطتهما شيئًا من دمه، وقد تعيش كحيوانات مفترسة أو رمية على غير الفقاريات من القواقع، وقد زود الخالق سبحانه وتعالى ديدان العلق الماصة للدماء بعدد من المركبات الكيميائية التي تمنع تجلط الدم حتى تتمكن من امتصاص القدر اللازم لاحتياجاتها، وتعرف باسم مركبات الهيرودين (HIRUDIN)، والتي اشتق منها اسم طائفة العلقيات (CLASSHIRUDINIA).
 
وقد استخدمت هذه الديدان الماصة في القديم، ولا تزال تستخدم في علاج العديد من الأمراض، وذلك بامتصاص الدم الزائد عن حاجة المريض.
 
ومن العجيب أن يكتشف دارسو علم الأجنة البشرية في القرن العشرين أنه في خلال الأسبوعين الأولين من حياة الجنين تتم عملية تعلق الكيسة الأريمية بجدار الرحم بواسطة المشيمة الابتدائية التي تتحول فيما بعد إلى الحبل السري. وباطراد عملية النمو وتعدد الخلايا، وبدء تكون الأجهزة المختلفة (وفي مقدمتها الجهاز العصبي ممثلًا بالحبل الظهري، والجهاز الدوري الابتدائي ممثلًا بأنابيب القلب، وحزمة من الأوردة والشرايين) فإن الجنين يستطيل في مطلع الأسبوع الثالث (من اليوم الخامس عشر إلى اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من عمره) ليأخذ هيئة دودة العلق (LEECH) في شكلها، وفي تعلقها بجسم العائل؛ لأن الجنين يتعلق بجدار الرحم، وفي تغذيتها على دم العائل؛ لأن الجنين يتغذى على دم الأم.
 
وعلى ذلك فإن الوصف القرآني لهذا الطور من أطوار الجنين البشري بتعبير)خلق الإنسان من علق (2)((العلق) في زمن لم يكن هناك وجود لأي وسيلة من وسائل الكشف أو التكبير أو التصوير لطور يتراوح طوله بين (7‚0 مم، 5‚3 مم) ـ يعتبر أمرًا معجزًا حقًّا”([19]).
 
صورة حقيقية لجنين بشري (25 يوما من العمر) بقياس 3 ملم (مرحلة العلقة)
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد عبر القرآن الكريم بدقة وإعجاز متناهيين عن مراحل خلق الجنين، ومنها التعبير بلفظ العلق أو العلقة عن المرحلة التي تلي مرحلة النطفة الأمشاج، وتتمثل في انغراس الكرة الجرثومية في جدار الرحم، وهذا التعبير بهذا المصطلح يعد أفضل تعبير عن هذه المرحلة من خلق الجنين؛ حيث يدل دلالة واضحة كاملة على جميع حقائق هذه المرحلة، فلفظ العلق يدل على النشوب والتعلق بالشيء، ويدل على الدم الجامد والرطب، ولون الحمرة، وعلى دودة العلق، وكل هذه الدلالات تنطبق على الجنين في مرحلة العلقة.
 
 
 
وهذا ما أكده العلم الحديث؛ حيث أثبت علماء الأجنة أن التوتة أو الكرة الجرثومية بمجرد أن تنزل إلى الرحم تأخذ في الانغراس والتشبث به؛ حيث تنقسم هذه الكرة إلى طبقتين؛ داخلية وخارجية. وتأخذ الطبقة الخارجية في مد جذورها إلى بطانة الرحم والانغراس فيه، وتكون الطبقة الداخلية أجزاء الجنين، ومنها يخلق الجنين، ويحاط الجنين في هذه المرحلة بكثير من الأوعية والبرك الدموية، كما تتصل دماؤه في هذا الوقت بدماء الأم ريثما يضخ قلبه الدم؛ ولذلك يبدو وكأنه قطعة دم جامدة متعلقة، وكذلك يستطيل حجمه بما يشبه دودة العلق، وهكذا تجتمع كل دلالات كلمة العلقة لتعبر تعبيرًا دقيقًا وشاملًا عن شكل الجنين وطبيعته في هذه المرحلة، وهذا ما لا يقوم به لفظ آخر، فهو إعجاز دونه إعجاز،)ومن أصدق من الله حديثًا (87)(  (النساء).
 
(*) وَهْم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق. الرد على الإعجاز العلمي حول التكوين الجنيني في القرآن، د. محمد السوري، مقال منشور بموقع: مع اللادينيين والملحدين العرب www.ladeenion1.blogspot.com.
 
[1]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص204، 205.
 
[2]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص154: 156.
 
[3]. الموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشري من الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج1، ص302: 304.
 
[4]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص465: 467.
 
[5]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص278.
 
[6]. لسان العرب، مادة: علق.
 
[7]. الصحاح في اللغة، مادة: علق.
 
[8]. تاج العروس، مادة: علق.
 
[9]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج19، ص16.
 
[10]. المرجع السابق، ج24، ص519.
 
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص6.
 
[12]. المرجع السابق، ج20، ص119.
 
[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.
 
[14]. لباب التأويل في معالم التنزيل، البغوي، مرجع سابق، ج5، ص366.
 
[15]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3938، 3939.
 
[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج15، ص438.
 
[17]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص271: 281.
 
[18]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص203.
 
[19]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص464، 465.
نفي إعجاز القرآن الكريم في وصف الرحم بالقرار المكين 
 
 
 
 
مضمون الشبهة:
 
تواصلًا لسلسلة الشبهات والطعون حول إعجاز القرآن الكريم في خلق الإنسان وتكوينه، يعرض المغرضون طعونهم حول مكان تخليق الجنين وتكوينه، ألا وهو الرحم، نافين الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في إخباره عن استقرار النطفة في الرحم، ووصفه بالقرار المكين؛ وذلك في قوله تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)( (المؤمنون).
 
زاعمين أن البويضة الملقحة قد تعشش بأي مكان في الجسد لمجرد المصادفة ليس أكثر من ذلك.
 
ويستدلون على ذلك بتنوع أماكن ارتكاز المشيمة؛ فمكان التصاق المشيمة هو بالعادة والمنطق مكان التعشيش، وهذا الارتكاز قد يكون بقعر الرحم، أو على وجهه الأمامي أو الخلفي، وقد يكون بالقسم العلوي، وقد يكون أسفل الرحم، وقد يكون بالبوق، أو على المبيض، أو داخل جوف البطن بما يسمى الحمل خارج الرحم، كما أنه يمكن تعشيش البويضة بطريقة صناعية في أي مكان من الجسم.
 
كما أنهم يطعنون في إعجاز المسمى القرآني “النطفة” حين استقرارها وانغراسها في الرحم؛ إذ يزعمون أنها في هذا الوضع يجب أن تحصل على اسم جديد غير النطفة؛ فهي ليست نطفة في هذا الحين، وإنما هي اجتماع بين نطفة وبويضة؛ فلماذا أطلق على ماء الرجل وبويضة المرأة مجتمعين اسم النطفة دون تدقيق في الفرق بينهما إن كان هناك إعجاز بالفعل؟!
 
وهم يخلصون بهذا إلى أن الآية الكريمة السابقة لا علاقة لها بالإعجاز العلمي في وصف الرحم وخلق الجنين، بل هي قاصرة عن معناه.
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1) أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الرحم هو المهد والقرار المعد لاستقبال النطفة وتهيئتها وإكرام نزلها؛ لتصبح جنينًا سليمًا دون مخاطر أو إعاقات، ففيه الأوعية الدموية الهائلة لنمو الطفل وتغذيته طوال فترة الحمل، وفيه السائل الزلالي الذي يحمي الجنين عند كبر حجمه من الصدمات والكدمات، بالإضافة إلى وجود الرحم بين عظام الحوض، وتزويده بالعضلات القوية، فهو المكان الممهد المهيأ لاستقبال النطفة وانغراسها في جداره، ولتكوين الجنين وتخلقه والحفاظ عليه.
 
وهذا ما لا يمكن حدوثه في أي مكان آخر في جسم الإنسان غير الرحم، بل إن كل الحالات التي يحدث فيها حمل خاطئ داخل الرحم أو خارجه هي حالات تبوء في النهاية بالفشل، وتنتهي إما بموت الأم أو إسقاط الجنين، فما هي بقرار مكين ولا طريق مستقيم، وهنا تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى في خلقه، وإعجاز القرآن الكريم في قوله، فالرحم فقط دون غيره هو القرار المكين لخلق الأجنة ونموها.
 
2) إن تعبير القرآن الكريم عن مرحلة استقرار البويضة الملقحة في الرحم باسم (النطفة) في قوله سبحانه وتعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون)،لهو من أدق التعبيرات العلمية لهذه المرحلة؛ فهي عبارة عن نطفة الرجل (المنيّ)، ونطفة المرأة (البويضة)، فهي في الحقيقة اجتماع نطفتين ليس أكثر، وتأخذ سمات النطفة العادية نفسها، وقد أطلق عليها العلماء اسم “النطفة الأمشاج”؛ أي: الأخلاط والأمزاج، بالمصطلح القرآني نفسه في قوله سبحانه وتعالى:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)( (الإنسان)، فأي دقة بعد هذه الدقة؟! إنها نطفة في قرار مكين، إنه إعجاز علمي وتعبيري في الوقت ذاته.
 
التفصيل:
 
أولا. إعجاز القرآن الكريم في وصف الرحم بالقرار المكين:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
لقد أثبت علماء الأجنة والوراثة بخاصة، والعلم الحديث في عالم الإنسان بعامة، أن الرحم هو المكان الوحيد الذي يصلح لتخليق الجنين وتكوينه؛ حيث إن هذا المكان قد مهد وعد بطريقة تشريحية وهرمونية وميكانيكية تعمل على تكوين الجنين ونموه بطريقة طبيعية سليمة؛ حيث ينمو في إطارها سريعًا بصورة صحية آمنة، ويخرج إلى الحياة مكتملًا معافى، الأمر الذي لا يتحقق له في مكان آخر دون الرحم.
 
أما الخصائص التشريحية للرحم فتتمثل فيما يأتي:
 
1.يقع الرحم في الحوض بين المثانة من الأمام، والمستقيم من الخلف، ويتألف من ثلاثة أقسام تشريحية، هي: الجسم، والعنق، والمنطقة الواصلة بينهما، وتسمى: المضيق.
 
2.يحيط بالرحم جدار عظمي قوي جدًّا يسمى الحوض، ويتألف الحوض من مجموعة عظام سميكة، هي: العجز، والعصعص من الخلف، والعظمان الحرقفيان من الجانبين، وهما يمتدان ليلتحما من الأمام على شكل العانة، هذا البناء العظمي المتين لا يقوم بحماية الرحم من الارتطامات والضغوط الخارجية من جميع الجوانب فحسب، وإنما يمثل بناء مرتبًا تشريحيًّا ليلائم نمو الجنين، ويتناسب مع حجمه وشكله، ويسمح له عند اكتمال نموه وكبر حجمه لآلاف المرات بالخروج عبر فتحته السفلية إلى عالم النور، وبشكل سهل، فأي اضطراب في شكل الحوض أو حجمه قد يجعل الولادة صعبة أو مستحيلة، وعندها يلزم شق البطن لاستخراج الوليد بعملية جراحية تسمى القيصرية.
 
3.أربطة الرحم: وهي أربطة تمتد من أجزاء الرحم المختلفة لترتبط بعظام الحوض، أو بجدار البطن، وتسمى بالأربطة الرحمية، وتقوم بحمل الرحم، وتحافظ على وضعيته الخاصة الملائمة للحمل والوضع؛ حيث يكون كهرم مقلوب، قاعدته في الأعلى، وقمته في الأسفل، وينثني جسمه على عنقه بزاوية خفيفة إلى الأمام، كما تمنع الرحم من الانقلاب إلى الخلف أو الأمام، ومن الهبوط للأسفل بعد أن يزداد وزنه آلاف المرات، هذه الأربطة([1]) هي: الرباطان المدوران، والرباطان العريضان، وأربطة العنق الأمامية والخلفية.
 
ولإدراك أهمية هذه الأربطة يكفي أن نعلم أنها تحمل الرحم الذي يزداد وزنه من 50 جراما قبل الحمل إلى 5325 جرامًا مع ما تحويه من محصول الحمل، وأن انقلاب الرحم إلى الخلف قبل الحمل قد يؤدي إلى العقم؛ لعدم إمكان النطاف المرور إلى الرحم، وإذا حصل الانقلاب بعد بدء الحمل فقد يؤدي للإسقاط.
 
أما الخصائص الهرمونية للرحم، فتتمثل فيما يأتي:
 
لا بد للجنين من حماية داخل الرحم، خاصة من تقلصاته القوية، التي يمكن أن تؤدي إلى موته، أو لفظه خارجًا، وذلك بارتفاع عتبة التقلص لألياف العضلة الرحمية؛ بسبب ارتفاع نسبة هرمون البروجسترون، الذي هو أحد أعضاء لجنة التوازن الهرموني أثناء الحمل، والتي تتألف من:
 
المنميات التناسلية gonadotrophinكمشرف.
هرمون الأستروجين، كعضو يقوم بالعمل بشكل مباشر.
هرمون البروجسترون، كعضو يقوم بالعمل مباشرة، تتعاون هذه اللجنة وتتشاور لتوفر للجنين الأمن والاستقرار في حصنه المنيع.
 
تقوم هذه الهرمونات بعملها خير قيام، خاصة عند بداية تعشيش النطفة في الرحم؛ حيث ترسل الزغابات الكوريونية([2]) إلى الجسم الأصفر في المبيض رسولًا يدعى المنميات التناسلية تخبره بأن البيضة بدأت التعشيش، وتطلب منه أن يوعز للرحم أن يقوم بما عليه من حسن الضيافة.
 
هذا الجسم الأصفر في المبيض يقوم بإفراز هرمون البروجسترون بشكل متزايد، ولهذا الهرمون التأثير المباشر على الرحم ليقوم بتأمين متطلبات الحمل، كما أن هرمون البروجسترون يعمل ـ كما ذكرنا ـ على رفع عتبة تقلص العضلات الرحمية، فلا تتقلص إلا تقلصات خفيفة تفيد في تعديل وضعية الجنين داخل الرحم، وفي الشهر الثالث يبدأ الجسم الأصفر في الضمور، وتنقطع هذه الهرمونات، وفي هذا الوقت تأخذ المشيمة ـ التي تكون قد تكونت حول الجنين ـ على عاتقها أمر تزويد الحمل بمتطلباته المتزايدة من الهرمونات حتى نهاية الحمل.
 
أما عن الخصائص الميكانيكية للرحم في حالة الحمل:
 
فإن الرحم يمتد ويرتفع بعد الشهر الثالث من الحمل بشكل واضح إلى البطن، وفي هذه الحالة يصبح خارج الحماية العظمية الحوضية. فمن يحمي الجنين عندها من الصدمات الخارجية؟!
 
هنا يأتي دور السائل الأمنيوسي([3])، وهو يوجد منذ الأشهر الأولى للحمل، ويفرزه الغشاء الأمنيوسي، وهو يحيط بالجنين من كل الجهات، وتزداد كميته بشكل واضح حتى تصبح حوالي 1000سم3 في الشهر السادس، ثم تميل إلى النقصان تدريجيًّا، وتقدَّر وسطيًّا بـ 500 ـ 600 سم3في نهاية الحمل. هذا السائل يقوم ـ إضافة لوظائفه الكثيرة ـ بوظيفة مهمة، هي حماية الجنين من الصدمات؛ حيث يمتص قوة الصدمات بتوزيعها على سطح أوسع، كما يشارك في هذه الحماية جدار البطن، والأغشية الثلاثة، وجدار الرحم ذاته([4]).
 
وعلى هذا؛ فإن الرحم ينمو ويتمدد حتى إن حجمه ليتضاعف أكثر من ثلاثة آلاف مرة في نهاية الحمل؛ إذ إن حجم رحم الأنثى البالغة لا يتسع لأكثر من مليليترين ونصف، بينما يتسع حجم الرحم ذاته في نهاية الحمل لسبعة آلاف مليليتر، ومع ذلك يبقى الرحم في مكانه والأربطة ممسكة به([5]).
 
الانغراس (التعشيش) (Implantation):
 
الانغراس: هو عبارة عن انغراس الكيسة الأريمية([6]) (Blastocyste) في بطانة الرحم، ومن ثم يبدأ تكوين الأغشية الجنينية؛ حيث يتكون جدار الرحم من ثلاث طبقات رئيسية؛ هي: الطبقة المخاطية، والطبقة العضلية، والطبقة المصلية، وما يهمنا في موضوع الانغراس: هو الطبقة المخاطية التي يتم فيها الانغراس.
 
وتتكون مخاطية الرحم من ثلاث طبقات:
 
أ ــ الطبقة السطحية (المكتنزة) (Compact layer): وهي الظهارة المبطنة لتجويف الرحم، وتتكون من صف واحد من الخلايا العمودية، تفتح فيه فوهات قنوات الغدد الرحمية.
 
ب ــ الطبقة الإسفنجية (Spongy layer): وهي عبارة عن طبقة ضامة سميكة تحتوي على الغدد الرحمية، وعلى كثير من الأوعية الدموية (الشرايين الحلزونية).
 
ج ــ الطبقة القاعدية (Basal layer): وهي عبارة عن طبقة ضامة رقيقة تحتوي على بعض أجزاء الغدد الرحمية (النهايات العوراء)، وعلى العديد من الشرايين المستقيمة.
 
وتسمى الطبقتان: المكتنزة والإسفنجية بالطبقة الوظيفية، أو الغشاء الساقط؛ لأنهما تسقطان أثناء الدورة الطمثية عند الرئيسيات (الفقريات العليا)، وكذلك أثناء الولادة، ويتم التعويض عنهما من خلال نشاط الطبقة القاعدية.
 
وتتغير مخاطية الرحم كثيرًا أثناء الدورة التناسلية نتيجة التأثيرات الهرمونية، خاصة المبيضية منها؛ حيث يلاحظ سمك هذه الطبقة وتوزُّمُها([7]) نتيجة زيادة عدد الغدد الرحمية وزيادة حجمها، وإفرازاتها، خاصة أثناء المرحلة الجريبية في الدورة الطمثية، وذلك استعدادًا لانغراس المضغة الجنينية، ويزداد نشاط مخاطية الرحم عند الحيوانات كثيرًا أثناء طور الوداق (Estrus) ـ أي الشبق الجنسي ـ وما بعد الوداق (Metestrus)؛ وذلك تحت تأثير هرمون البروجسترون الذي يفرز من الجسم الأصفر المتكون نتيجة الإباضة.
 
بعد إتمام عملية الإخصاب، وتشكل البويضة المخصبة (Zygote) تبدأ هذه البويضة بالانقسام في قناة البيض، ونتيجة الانقسامات المتتالية تتشكل الماريولا (Morule)، والكيس الأريمي (Blastocyste) الذي يصل إلى تجويف الرحم للانغراس، ويستغرق وقت دخول البويضة المخصبة إلى الرحم عند الأبقار والنعاج والماعز نحو 4 أيام بعد الشيوع، في هذه الأثناء تكون بطانة الرحم قد أصبحت على استعداد لاستقبال الكيس الأريمي لإتمام عملية الانغراس؛ وذلك من خلال التغيرات التي تحدث فيها ـ كما ذكرنا ـ من توزم الأنسجة، واحتقان الأوعية الدموية فيها، وامتلاء الغدد الرحمية؛ حيث يظهر عليها مظهر الخزب (الاستسقاء) (Oedema).
 
 
 
يتم الانغراس عند الإنسان في الوجه الداخلي لقعر الرحم؛ حيث يلاحظ بعد تشكل الكيس الأريمي ووصوله إلى تجويف الرحم (ويتم ذلك في اليوم السادس بعد الإخصاب) حدوث
 
بعض التغيرات في كل من الأرومة المغذية (Trophoblast)، والقرص الجيني (الأرومة الجنينية) (Embryoblast)؛ حيث تنقسم الأرومة المغذية إلى طبقتين:
 
طبقة خلوية داخلية سريعة الانقسام تسمى الأرومة المغذية الخلوية (Cytotrophoblast)، وطبقة لا خلوية خارجية تسمى الأرومة المغذية اللاخلوية (Syncytiotrophoblast)،
 
تتموضع فوق الأرومة المغذية الخلوية في القطب الحيواني بالقرب من مخاطية الرحم، ومع زيادة الانغراس تنتشر على كامل سطح الكيس الأريمي، وهي عبارة عن كتلة برتوبلازمية
 
تمتلك إنزيمات حالة لبطانة الرحم، ويساعدها في ذلك إنزيم الهيالورونيداز (Hyaluronidase) التي تفرزه الأرومة المغذية؛ مما يسهل عملية انغراس الكيس الأريمي في بطانة الرحم، ثم
 
تنشأ داخل الأرومة المغذية اللاخلوية مجموعة من الفضوات التي تسمى بريكات أو فجوات (Lacunae)، التي تمتلئ بدم الأم وإفرازات الغدد الرحمية مشكلة الغذاء الجنيني إلى
 
حين تشكل المشيمة؛ حيث ينتقل هذا الغذاء للجنين عن طريق الانتشار.
 
أما الأرومة الجنينية (القرص الجنيني) فتنقسم أيضًا إلى طبقتين: طبقة علوية مكونة من خلايا كبيرة الحجم تسمى الأرومة العلوية (Epiblast)، وتتموضع تجاه القطب الحيواني، وطبقة
 
سفلية مكونة من خلايا صغيرة الحجم تسمى الأرومة السفلية (Hypoblast) وتتموضع تجاه جوف الأريمة.
 
تتميز الأرومة العلوية بأنها أكثر نشاطًا، ويعتقد أنها المسئولة عن تشكيل الوريقات (الأدمات) الجنينية الثلاث: الداخلية والوسطى والخارجية. أما الأرومة السفلية فتساهم في تشكيل
 
الأديم الداخلي فقط، ومن الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي تتشكل فيه الأرومة الجنينية ثنائية الطبقات تنشأ عدة فجوات بينها وبين الأرومة المغذية، وباتحاد هذه الفجوات مع بعضها
 
يتشكل في القطب الحيواني جوف صغير يسمى الجوف الأمنيوسي (جوف السلى) (Amniotic Cavit).
 
يكتمل الانغراس عند الإنسان في حدود اليوم 10: 12؛ حيث تنغلق بطانة الرحم على الكيس الأريمي الذي يصبح بكامله داخل مخاطية الرحم، مما يؤدي إلى بروز جدار الرحم باتجاه
 
تجويفه واحتقان ظهارته، ويجدر القول: إن الانغراس يترافق مع حدوث تغيرات في بنية ظهارة الرحم التي تسمى بالخلايا الساقطية (Decidual Cells)، حيث يزداد حجمها، وتزداد قدرتها على تخزين الغليكوجين (Glycogen).
 
 
 
شذوذات الانغراس(Abnormal Implantation):
 
يوجد عند الثدييات نوعان من شذوذات الانغراس:
 
شذوذات ناجمة عن انغراس البويضة المخصبة خارج الرحم، وهذا ما يسمى “الحمل خارج الرحم”EctopicPregnancy، وقد يحدث الانغراس في الأماكن الآتية:
 
 أ- انغراس البويضة المخصبة على سطح المبيض؛ لعدم قدرتها على الهبوط إلى قناة البيض بسبب انغلاق هذه القناة أو تضيقها.
 
ب- انغراس البويضة المخصبة في قناة البيض؛ بسبب عدم قدرة البويضة ـ لأسباب مختلفة ـ على التقدم باتجاه الرحم، وقد يحدث الانغراس في منطقة القمع (البوق)، وهذا ما يسمى عند الإنسان بالحمل البوقي؛ حيث يلاحظ مع زيادة نمو البويضة المخصبة رقة جدار البوق، ومن ثم انثقابه محدثًا نزفًا شديدًا، كما يمكن أن يكون الانغراس في منطقة الأنبورة التي يحدث فيها الإخصاب، أو في أي جزء من أجزاء القناة.
 
ج- انغراس البويضة المخصبة في جوف البطن، ويحدث هذا بسبب سقوط البويضة المخصبة (تخصب قبل سقوطها) داخل تجويف البطن بعد أن فشلت في النزول إلى قناة البيض بسبب تشوه هذه القناة؛ حيث تنغرس هذه البويضة في جدار الأمعاء أو جدار البريتون.
 
جميع الأجنة الآنفة الذكر تموت في مراحل مبكرة من العمر الجنيني، علمًا بأن نسبة الانغراس الشاذ عند الإنسان تبلغ 1/ 500 من حالات الانغراس.
 
شذوذات ناجمة عن انغراس البويضة المخصبة داخل الرحم، ولكن في غير مكانها الطبيعي، ويحدث الانغراس الطبيعي عند جميع الثدييات في جدار الرحم، أو قعره، أو قرنه، ولكن في بعض الحالات الشاذة يتم الانغراس بالقرب من عنق الرحم، فقد لوحظت بعض الحالات التي يتم فيها الانغراس قرب الفوهة الداخلية لعنق الرحم، أو على حافة قناة عنق الرحم. والانغراس في هذه الحالات لا يستمر، بل يسقط مسببًا نزفًا دمويًّا. وفي الحالة الطبيعية تنغرس البويضة المخصبة عند الحيوانات الأهلية في قرن الرحم المناظر للمبيض الذي يحتوي على الجسم الأصفر، ولكن في بعض الحالات يلاحظ انغراسها في القرن المعاكس، وهذا ما يسمى بالهجرة الداخلية للبويضة، وفي مثل هذه الحالة نجد أن الجنين ينمو ويستمر في تطوره تطورًا طبيعيًّا([8]).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
إن الله سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء فأحسن خلقه، وأبدع صنعه وتقديره، وأودع هذا الكون أسراره العجيبة، التي لا تزال تنجلي أمام الإنسان رويدًا رويدًا خلال كشوفاته العلمية، واختراعاته الحديثة؛ لتثبت عظم الخلق، وضعف الإنسان وعجزه أمام قدرة الخالق، إنه خلق وهداية، وحكمة وإبداع، إنه كون محكم لا يخرج عن نظامه ولا يخرم تقديره؛ فالله سبحانه وتعالى هو: )الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)(  (طه)،)وخلق كل شيء فقدره تقديرًا (2)( (الفرقان).
 
كما أن خلق الإنسان هو من أعظم الآيات والمعجزات التي تدل على الخالق المبدع الحكيم، وعلى عظمة خلقه، وإبداع صنعه، إنها آيات بينات لمن كان له قلب أو عقل رشيد.
 
ولا يخرج خلق الرحم عن هذه المنظومة الإعجازية في أسرار الكون والخلق، إنه إعجاز في خلقه، وفي وصفه بالقرار المكين، قال سبحانه وتعالى:)ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون (23)( (المرسلات).
 
لقد سمى الله سبحانه وتعالى الرحم القرار المكين، الذي تنمو فيه النطفة الأمشاج حتى تصير جنينًا، ثم حميلًا، ثم تخرج طفلًا كامل الخلقة سوي التكوين.
 
وهذه تسمية توافق دور الرحم في هذه المهمة خير موافقة، وتعبر عنه بدقة متناهية في وصفه وطبيعته على نحو ما أثبتت الحقائق العلمية السالفة.
 
إلا أن الطاعن لا يروق له هذا البيان المعجز في الوصف القرآني الدقيق للرحم ولدوره الفعال في تخليق الأجنة؛ زاعمًا أن الرحم ليس بالضرورة أن يكون قرارًا مكينًا أو وعاء أمينًا لخروج الجنين وتخليقه، وإنما يمكن للبويضة أن تعشش في أي مكان خارج الرحم في جسم الإنسان لمجرد المصادفة دون حاجة لهذا الرحم، ولا حاجة في تسميته بالقرار المكين.
 
إلا أن الطاعن قد جانبه الصواب كثيرًا في هذا الفهم، وغاب عنه كثير من الحقائق العلمية الواضحة في هذا المجال.
 
يتضح ذلك من خلال إيراد الأدلة اللغوية في إيضاح هذه المعاني الواردة في الآية الكريمة، وما جاء فيها من أقوال المفسرين وفهمهم لهذه الآيات، وكذلك في ضوء ما تُوصل إليه من حقائق علمية في هذا المجال.
 
من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:
 
ذكرت المعاجم اللغوية أن القرار والقرور: بمعنى الثبات والاطمئنان والسكن، فجاء في القاموس المحيط: “وقَرَّ بالمكان يقرّ، بالكسر والفتح، قرارًا وقرورًا وقرًّا وتقرّة: ثبت وسكن كاستقر وتقر… والقرار والقرارة: ما قر فيه، والمطمئن من الأرض”([9]).
 
وجاء في لسان العرب: “وقر بالمكان يقر ويقر… قرارًا وقرورًا وقرًّا وتقرارة وتقرّة، والأخيرة شاذة، واستقر وتقارّ واقتره فيه وعليه. وقرّره وأقرّه في مكانه فاستقر، وفلان ما يتقارّ في مكانه؛ أي: ما يستقر… وفلان قارٌّ: ساكن… وقارّه مقارّه؛ أي: قرّ معه وسكن، وفي حديث ابن مسعود: قارّوا الصلاة؛ هو من القرار لا من الوقار، ومعناه السكون؛ أي: اسكنوا فيها ولا تتحركوا ولا تعبثوا، وهو تفاعل من القرار”([10]).
 
والمكين في اللغة العربية بمعنى الثابت الراسخ في مكانه؛ فقد جاء في لسان العرب: “مكن… الـمَكِنة؛ إنما هي بمعنى التمكن، مثل: الطَلِبة بمعنى التطلب، والتَبِعة بمعنى التتبع، يقال: إن فلانًا لذو مكنة من السلطان، فسمي موضع الطير مكنة؛ لتمكنه فيه”([11]).
 
وعلى هذا فمكين في هذا السياق يعني: في غاية التمكن والرسوخ والثبوت.
 
من أقوال المفسرين في الآية:
 
تتوالى آراء المفسرين في تفسير آيات القرار المكين مؤكدة أن المراد به الرحم، وأنه مكان ممهد ومعد بدقة لتكوين الجنين، فهو مستقر للنطفة وممكن لوجود الجنين ونموه، على ما أثبته العلم الحديث تمامًا.
 
يقول الإمام الطبري: “يعني تعالى ذكره بقوله: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)(  (المؤمنون) ، ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، وهو حيث استقرت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة، ووصفه بأنه مكين؛ لأنه مُكّن لذلك، وهُيئ له؛ ليستقر فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارًا”([12]).
 
وقال أيضًا: “وقوله: )فجعلناه في قرار مكين (21)((المرسلات) ، يقول: فجعلنا الماء المهين في رحم استقر فيها فتمكن”([13]).
 
ويقول الإمام الرازي: “قوله تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون)، ومعنى جعل الإنسان نطفة: أن خلق جوهر الإنسان أولا طينًا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء، فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قرارًا مكينًا لهذه النطفة، والمراد بالقرار: موضع القرار، وهو المستقر، فسماه بالمصدر، ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها”([14]).
 
وقال أيضًا: في قوله تعالى:)فجعلناه في قرار مكين (21)((المرسلات): “هو الرحم؛ لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن، بخلاف ما لا يخلق منه الولد”([15]).
 
وقال الإمام ابن كثير: “)فجعلناه في قرار مكين (21)((المرسلات)، يعني: الرحم، معد لذلك مهيأ له”([16]).
 
وقال أيضًا: ” )فجعلناه في قرار مكين (21)((المرسلات) ، يعني: جمعناه في الرحم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء”([17]).
 
وقال الإمام القرطبي: “)فجعلناه في قرار مكين (21)((المرسلات) ؛ أي في مكان حريز، وهو الرحم”([18]).
 
وقال الإمام البغوي: ” )في قرار مكين (21)((المرسلات)؛ حريز، وهو الرحم، مكن ـ أي: قد هيئ ـ لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها”([19]).
 
وأما صاحب الظلال، فيقول عند تفسير هذه الآية: “لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم، فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة، نقطة مائية واحدة، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة، تستقر (في قرار مكين) ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات”([20]).
 
وقال الإمام الشعراوي في تفسير هذه الآية: ” )في قرار مكين (21)((المرسلات) ؛ قرار يعني: مستقر تستقر فيه النطفة، والقرار المكين: هو الرحم، خلقه الله على هذه الهيئة، فحصنه بعظام الحوض، وجعله معدًّا لاستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها”([21]).
 
وعلى هذا؛ فمن خلال إيراد الأدلة اللغوية للآية الكريمة في وصف الرحم بالقرار المكين ـ يتضح مدى الدقة في وصف هذا العضو، فكلمة (القرار) تدل على شدة الثبوت والرسوخ والاطمئنان، وكذلك كلمة (مكين)؛ فهي دلالة واضحة على مدى تمكن هذا العضو في جسد المرأة، وتمكن ما بداخله فيه، وعلى دقة الإعداد والتهيؤ والسكينة في بنائه واستقراره.
 
وكذلك ما جاء من أقوال للمفسرين في معنى هذه الآية، فكلها جاءت تؤكد على مدى دقة هذا الوصف وفصاحته تعبيرًا عن دور هذا العضو الفعال في تخليق الأجنة ونموها، فهو مكان مهيأ ومعد لاستقرار الأجنة فيه وتمكنها من النمو والنشأة في أمان واستقرار؛ حيث إن هذا العضو قد عد بطريقة خاصة، وهيئ بتقديرات محددة جعلته في غاية التمكن والاستقرار في الجسم، وفي مركز الحماية الكاملة لما بداخله، وهذا ما يتفق تمامًا مع الحقائق العلمية السالفة الذكر، ولا تشذ هذه التسمية عنها، بل هي تسمية تقوم بالمعنى خير قيام، وتعبر بدقة عن مدى الإعجاز في إبداع هذا العضو، ودقة صنعه وتكوينه، فالرحم هو القرار المكين في مركزه وإعداده وطبيعته وتطوره، وما يحتوي عليه من مرحلة بعد مرحلة من تكوين الجنين ونموه، وما حباه الله سبحانه وتعالى من وسائل الحماية والمنعة في هذا الخلق العجيب؛ إنه حصن منيع وقرار مكين، فقد جمع هذا اللفظ القرآني كل الحقائق التي اكتشفها العلم لبيان مناسبة الرحم لاستقرار الجنين، فهو لفظ جد معجز.
 
كما أن الآية تتطابق مطابقة واضحة مع سياق الحقائق العلمية الواردة في هذا العضو، ولا تختلف عنها بشيء من المخالفة، فقد أثبت العلم أن للرحم خصائص تشريحية دقيقة تجعله في غاية الثبوت والاستقرار؛ حيث يقع في منطقة الحماية العظمية من عظام الحوض، وهذا البناء يحمي الرحم وما فيه من أي صدمات، أو ارتطامات، أو ضغوط خارجية؛ مما يجعله في غاية الاستقرار والثبوت، كما أنه يلائم نمو الجنين ويتناسب مع حجمه وشكله؛ بحيث لو وجد أي اضطراب في شكل الحوض أو حجمه يجعل الولادة صعبة أو مستحيلة.
 
كما أن الرحم مزود بمجموعة من الأربطة الكاذبة والحقيقية التي تمتد من أجزاء الرحم المختلفة لترتبط بعظام الحوض وجدار البطن لتحفظ على الرحم ثبوته واستقراره على ما يتوافق تمامًا مع قوله تعالى:)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون).
 
فهذه الآية تتضمن وصفا لعلاقتين: علاقة الرحم بالجنين، وعلاقة الرحم بجسم الأم.
 
أ- بالنسبة لعلاقة الرحم بالجنين:
 
   فقد قال الله سبحانه وتعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون)، ولم يقل: “ثم جعلناه في مكان”، لماذا؟ لأن كلمة “قرار” لا تشير إلى مجرد مكان فحسب، ولكن تشير إلى أكثر من ذلك؛ فهي تعني أن الرحم بمثابة مكان آمن لاستقرار الجنين وراحته، فهو بمثابة مكان سكن للنطفة… وهذا يعني أن النطفة متمكنة وثابتة بقوة في الرحم، كما نعلم جميعًا أن من طبيعة الجسم أن يطرد أي جسم خارجي، ولكن ما يحصل هو أن الرحم يتهيأ لاستقبال النطفة من جراء الهرمونات التي يفرزها المبيض، كما أن النطفة تحوي مواد تؤثر على جهاز المناعة عند المرأة فتضعفه، وبذلك يصبح الرحم بمثابة قرار لها.
 
 
 
نرى في الصورة الحقيقية كيف أن النطفة تفرز بعض السكريات التي تعلن وقوع البويضة على سطح الرحم، وتعرف بها حتى لا يطردها الرحم عنه، مصداقا لقوله تعالى: )ثم جعلناه نطفةفي قرار مكين (13)((المؤمنون)
 
 إضافة إلى ذلك، فإن من وظائف الرحم أن يمكِّن الجنين من مواصلة نموه، فالرحم يستطيع أن يكبر آلاف المرات (من 2 ـ 3 سم3 إلى 5000 سم3؛ أي: بازدياد مقداره حوالي 2500 ضعف)، وهو بذلك يتكيف مع حجم الجنين في مختلف مراحله، ونتيجة لهرمون البروجسترون تكون تقلصاته متئدة وقورة بحيث لا تؤذي الجنين، وأي مكان أكثر سكونًا من هذا المكان؟!
 
ب ــ وأما بالنسبة لعلاقة الرحم بجسم المرأة:
 
 فالآية تفيد بأن النطفة ـ أي: نطفة الأمشاج التي انقسمت إلى عدة خلايا، والتي تسمى باللغة العلمية: (الكرة الجرثومية Blastocyst) ـ تستقر في مكان راسخ… فإذا تأملنا الصورة التشريحية لهذه المنطقة يتبين لنا مدى صدق هذه الحقيقة من خلال ملاحظات عدة:
 
1.يمكن اعتبار الرحم من الوجهة الفراغية في منتصف الجسم تمامًا، طولا وعرضًا وعمقًا، وهكذا يصعب الوصول إليه، ويعتبر محميًّا بما فيه الكفاية.
 
2.يحيط بالرحم تصفيح عظمي من جميع الجهات، وتجدر الإشارة هنا إلى أن حوض المرأة أوسع وأقصر من حوض الرجل؛ وبذلك يكون له دور أكمل في الدفاع عن الجنين.
 
3.يثبت الرحم كثير من الأربطة والعضلات، وهي على نوعين: أربطة كاذبة، وأربطة حقيقية.
 
4.أن هناك توازنًا ثابتًا بين الضغوط المتولدة نتيجة عضلات الحجاب الحاجز وعضلات جدار البطن التي تدفع بالرحم إلى الأسفل، وبين تقلص عضلات العجان([22]) التي تدفع بالرحم إلى الأعلى.
 
                              
 
صورة لعضلات العجان تمسك بفتحة
الشرج والفرج
 
 
 
صورة تشريحية للرحم وقناتي الرحم والمبيضين وبعض الأربطة التي تثبت الرحم في مكانه
 
 
 
رسمان يوضحان كيف أن الرحم مثبت بأربطة عضلية من كل الجهات، وبالتالي فهو متمكن في جسم المرأة
 
 
 
5ــ إن الرحم هو عضو عضلي أجوف ذو جدار ثخين ومتين، سمكه سنتيمتران ونصف، مكون من ثلاث طبقات؛ أولها من الخارج: (الطبقة البروتينية Perimetrium) التي تغطي الرحم، وثانيها: (الطبقة العضلية Myometrium)، وثالثها: (الطبقة المخاطية Endometrium) وهي الغشاء المبطن للرحم.
 
وهكذا نفهم أبعاد كلمة (قرار مكين) التي تشير إلى كثير من الصفات الغيبية الدقيقة للرحم وللنطفة على وجه سواء، ويتبين لنا الإعجاز العلمي الكامن وراء استعمال هذه الكلمة([23]).
 
هذا من ناحية الوضع التشريحي الهرموني الميكانيكي للرحم في جسم المرأة، فهو ينطبق عليه لفظ القرار المكين؛ حيث تجتمع هذه الآليات، وتتضافر هذه العوامل العديدة السالفة الذكر في جعل الرحم القرار المكين في علاقته بجسد المرأة، وعلاقته بالجنين على السواء.
 
أما من ناحية تكوين الجنين وتخليقه؛ فقد أثبت العلم أيضًا أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينجح حمل خارج الرحم، أو في أي مكان في جسد الإنسان، وهو ما عبر عنه بشذوذات الانغراس للبويضة المخصبة، فقد يحدث هذا خارج الرحم أو داخل الرحم؛ فيحدث حينًا في البوق (قناة فالوب)، أو يحدث هذا الانغراس في جدار المبيض، أو داخل جسم الإنسان، أو يحدث في الرحم ولكن في غير المكان المخصص لانغراس البويضة المخصبة، كأن يكون بجوار عنق الرحم أو على حافة قناة عنق الرحم، إلا أن جميع هذه الحالات تبوء بالفشل، وتنتهي بسقوط الجنين مسببًا نزفًا دمويًّا، بل قد يؤدي إلى وفاة الأم، مع العلم أن حالات الانغراس الشاذ عند الإنسان تمثل نسبة ضئيلة جدًّا من حالات الانغراس عامة، “فجميع الأجنة الآنفة الذكر تموت في مراحل مبكرة من العمر الجنيني، علمًا بأن نسبة الانغراس الشاذ عند الإنسان تبلغ 1/ 500 من حالات الانغراس”([24]).
 
هذا ما يؤكد تمامًا عظم الإعجاز العلمي في القرآن في وصف الرحم بالقرار المكين؛ فهو مكان أمين ثابت مستقر في مكانه لا يحركه شيء، وراسخ في موضعه لا يضره شيء، كما أنه مهيأ ومعد لاستقرار الجنين فيه ونموه بطريقة طبيعية آمنة سليمة، فما أدق هذا الوصف القرآني للرحم! وما أبين إعجازه! وأي مكان أكثر استقرارًا وتمكنا من الرحم؟!
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد أثبت العلم الحديث مدى الدقة والإتقان في خلق الرحم وتكوينه؛ فقد جُهِّز بطريقة تشريحية هرمونية ميكانيكية فعالة؛ ليكون سكنًا ملائمًا لمراحل الجنين المتلاحقة لمدة الحمل، وليقوم بهذا الدور العظيم من تغذية الجنين ونموه وحفظه عن المخاطر والإصابات، وما له من صفات عجيبة في القدرة على التمدد أكبر من حجمه آلاف المرات، ثم العودة إلى حجمه مرة ثانية بعد الحمل، ومن وضعه التشريحي الممكن داخل عظام الحوض، وما يتصل به من أربطة متنوعة تربطه بالمستقيم والمثانة، فهو قد وضع في هذا المكان بدقة وإحكام متناهيين؛ ليقوم بهذه الوظيفة المنوطة به خير قيام.
 
وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في فصاحة وإيجاز وإعجاز بكلمتين اثنتين في قوله تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون) ؛ فقد جمع هذا اللفظ القرآني في وصف الرحم كل الحقائق التي اكتشفها العلم حديثًا؛ لبيان مناسبة الرحم لاستقرار الجنين، وتكوين الرحم في ذاته. فأي إعجاز بعد هذا؟! وأي دعوى خرساء ينطق بها المغرضون؟!
 
ثانيا. دقة الوصف القرآني لاستقرار البويضة المخصبة في الرحم باسم النطفة الأمشاج:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
جاء العلم الحديث بحقائقه ونظرياته مصححًا الآراء الخاطئة والخرافات السابقة عن فكرة خلق الجنين وتكوينه، وأثبت أن الجنين يتكون من نطفة الرجل “المنيّ”، ونطفة المرأة “البويضة”، وتتحد هاتان النطفتان وتنقسمان انقسامًا ثنائيًّا اختزاليًّا مكونتين ما يسمى “النطفة الأمشاج”، أو النطفة المختلطة، وتتهادى هذه النطفة المختلطة من المنطقة الوحشية في قناة فالوب أو البوق، نازلة إلى الرحم مستعدة للانغراس في جداره وتكوين العلقة.
 
يؤكد هذا ما ذكره الدكتور زغلول النجار بقوله: “على الرغم من أن قضية تكوين الأجنة قد شغلت بال الإنسان منذ أن وطأت قدماه سطح الأرض، إلا أن العلوم المكتسبة لم تصل إلى معرفة دور كل من نطفة الرجل “الحيمن”، ونطفة المرأة “البويضة” في ذلك التكوين إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وبعد مجاهدة استغرقت عشرات القرون ومئات من العلماء… فإن مصطلح “النطفة” كما يطلق على الحيمن، يطلق على البويضة، ومصطلح النطفة الأمشاج ـ أي: المختلطة ـ يطلق على اتحاد هاتين النطفتين، وتكوين النطفة المخصبة التي تعرف باسم اللقيحة (Fertilized Ovumor Zygote) التي تستمر في الانقسام حتى تنغرس انغراسًا جزئيًا، ثم كاملًا في بطانة جدار الرحم، فتعرف حينئذٍ باسم الأرومة الجرثومية المنغرسة (Implanted Blastula)، أو مرحلة العلقة”([25]).
 
هكذا يتم تكوين الجنين وخلقه في بطن أمه، فهو عبارة عن التقاء نطفتين (منيّ الرجل وبويضة المرأة)؛ حيث يواصل الحيوان المنوي طريقه البعيد انتقالًا من المهبل إلى عنق الرحم، ومنه إلى داخل الرحم، ثم إلى قناة فالوب، بحثًا عن النطفة حتى يلقحها حيمن منوي واحد من ملايين الحيامن التي يموت معظمها قبل الوصول إلى البويضة، بعدها تبدأ البويضة أو “النطفة المخلقة” انقسامها المتتابع، حتى تبلغ مرحلة التوتة؛ مكونة الخلايا الصبغية الملونة، التي تسمى “الكروموسومات”، والتي تنقل الصفات الوراثية من الآباء والأجداد منتقاة مختارة حتى تصل إلى الأبناء، ودون أن يتطابق منهما اثنان، تنتقل هذه النطفة المختلطة إلى الرحم، وتنغرس بجداره مكونة مراحل الجنين المتعاقبة من العلقة والمضغة… وغيرها.
 
 
 
وفي ذلك يقول الدكتور محمد علي البار: “عندما يتم التخصيب وتتكون النطفة الأمشاج من الحيوان المنوي والبويضة ـ تصنع يد القدرة للبويضة الملقحة جدارا سميكا مصمتا لا يمكن لأي حيوان منوي آخر اختراقه، كما أنها تخلع عنها تاجها المشع الذي كان يغري الحيوانات المنوية بالاقتراب منها، ومنذ تلك اللحظة تبدأ بالعمل الجاد وتبدأ بالانشطار؛ الخلية تصبح خليتين، والخليتان أربعا وهكذا دواليك حتى تتكون مئات الخلايا على هيئة ثمرة التوت، وعندئذ تسمى التوتة (Morulla)؛ فإذا ما كبرت الكرة قليلا صار ما بداخلها مجوفا وبه سائل رقيق، وعندئذ تدعى بـ “التكور الجرثومي أو البلاستولا” (Blastula).
 
 
 
وفي هذه الأثناء لا تكف البويضة الملقحة أو النطفة الأمشاج عن الحركة ـ وإن كانت حركة بطيئة ـ فهي تنتقل من الثلث الوحشي لقناة الرحم (قناة فالوب)؛ حيث يتم التلقيح وتتجه عبر القناة الرحمية حتى تقترب من الرحم، وفي خلال خمسة أيام أو أسبوع في الأكثر تكون قد وصلت إلى الرحم، وهناك تنظر أين تتوسد وتنغرس.
 
 
 
وتوجِّهها يد العناية الإلهية إلى أن خُيِّر مكان لها هو النصف العلوي من الرحم، وخاصة جداره الخلفي، وهناك تنشب وتتعلق في جدار الرحم الذي قد استعد لاستقبالها… وجعل جداره مليئًا بالأوعية الدموية؛ حتى يغذيها وينميها.
 
وعندما تنغرز الكرة الجرثومية تكون قد تحولت من النطفة الأمشاج إلى علقة، وتبدأ عندئذٍ مرحلة جديدة في حياة الجنين، هي مرحلة العلقة”([26]).
 
وقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة أيضًا دقة التعبير بمصطلح “النطفة” عن هذه المرحلة الانقسامية أيضًا؛ حيث إنها في هذه المرحلة لا تتغير طبيعتها ومظهرها عن ذي قبل، إلا أنها تتكون من أخلاط متعددة من ماء الرجل وبويضة المرأة، فالمصطلح الأمثل لها هو: “النطفة الأمشاج”، “فكلمة “أمشاج” من الناحية العلمية دقيقة تمامًا، وهي صفة جمع، تصف كلمة “نطفة” المفردة، التي هي عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف والأحفاد لكل جنين.
 
وتواصل هذه المرحلة نموها، وتحتفظ بشكل النطفة، ولكنها تنقسم إلى خلايا أصغر فأصغر، تدعى “قسيمات جرثومية” (Blastomeres)، وبعد أربعة أيام تتكون كتلة كروية من الخلايا تعرف بالتوتية (Morula)، وبعد خمسة أيام من الإخصاب تسمى النطفة (كيس الجرثومة) مع انشطار خلايا التوتية إلى جزأين.
 
وبالرغم من انقسام النطفة في الداخل إلى خلايا فإن طبيعتها ومظهرها لا يتغيران عن النطفة؛ لأنها تملك غشاء سميكًا يحفظها ويحفظ مظهر النطفة فيها، وخلال هذه الفترة ينطبق مصطلح (نطفة أمشاج) بشكل مناسب تمامًا على النطفة في تطوراتها كافة؛ إذ إنها تظل كيانًا متعددًا، فهي إلى هذا الوقت جزء من ماء الرجل والمرأة، وتأخذ شكل القطرة؛ فهي نطفة، وتحمل أخلاطًا كثيرة؛ فهي أمشاج، وهذا الاسم للجنين في هذه المرحلة يغطي الشكل الخارجي وحقيقة التركيب الداخلي، بينما لا يسعفنا مصطلح (توتة) بهذه المعاني، كما لا تعبر الأرقام المستعملة الآن عن هذه المعاني”([27]).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
لقد عبر القرآن عن خلق الجنين وتطور مراحله بصورة إعجازية متفردة تدل ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ على أنه الكتاب المعجز، والقرآن الحق من عند خالق السماوات والأرض.
 
 
 
فالقرآن الكريم منذ ألف وأربع مئة عام يذكر التفاصيل الدقيقة لخلق الأجنة، ويبين أطوارها المختلفة، ويقدم المسميات والمصطلحات التي تصف المظهر الخارجي والعمليات والأحداث الداخلية لكل مرحلة، وقد استوفت هذه المصطلحات القرآنية بمثالية رائعة جميع الشروط التي يجب توفرها للمصطلحات العلمية الدقيقة.
 
فقد قال سبحانه وتعالى:)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون)، وقال سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر( (الحج: ٥)، وقال سبحانه وتعالى: )إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)((الإنسان).
 
آيات كثيرات في هذا السياق تثبت هذه الحقيقة، نأخذ من بينها ما يختص بمرحلة النطفة، وبالأخص مسمى “النطفة الأمشاج”.
 
لقد بين القرآن الكريم أن بداية مراحل تكوين الجنين تسمى النطفة، ووصف هذه النطفة بأنها أمشاج؛ أي: أخلاط وأمزاج، فهي عبارة عن امتزاج بين نطفة الرجل ونطفة المرأة، مكونة هذه النطفة الأمشاج التي توضع في القرار المكين لتكوين الجنين وتخلقه. وقد بين القرآن الكريم أن هذا الخلق يتم من الذكر والأنثى جميعًا، فقال:)يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا( (الحجرات: ١٣).
 
فقد عبر القرآن الكريم عن اجتماع نطفتي الرجل والمرأة بالنطفة الأمشاج التي تدل دلالة واضحة على حقيقة هذه المرحلة، كما أثبتها العلم الحديث تمامًا، لا يشذ عنها طريقًا، بل جاء التعبير بهذا المسمى في دقة متناهية يقصر عنها أي مسمى آخر.
 
إلا أن الطاعن لا يقر له قرار أمام هذه الحقائق القرآنية البيّنة الإعجاز، التامة الوضوح؛ فيعرض طعونه وتشكيكاته حول هذه الحقائق محاولًا النيل منها، وأنى له ذلك؛ فهو الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ينفث الطاعن سمه حول هذه الحقائق، فيدعي أن القرآن الكريم قد جانبته الدقة، وغاب عنه الإحكام؛ إذ وصف البويضة الملقحة حال نزولها إلى الرحم والانغراس فيه بالنطفة، فقال:)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون) ، إلا أنها في هذا الحين لم تعد نطفة، وإنما هي بويضة ملقحة، مكونة من اجتماع نطفة وبويضة.
 
إلا أن الطاعن أيضًا قد جانبه الصواب كثيرًا في هذا الفهم للتعبير القرآني عن البويضة في هذه المرحلة، وغاب عنه كثير من الحقائق العلمية في هذا الجانب؛ إذ المقصود بالنطفة في هذه المرحلة “النطفة الأمشاج”؛ أي: النطفة الأخلاط، التي هي عبارة عن اجتماع نطفة الرجل “المنيّ” ونطفة المرأة “البويضة”، وهي ما يطلق عليها “البويضة المخصبة”، أو “الزيجوت”، أو “الكرة الجرثومية”.
 
ولعل الدلالات اللغوية للآيات الكريمة، وما جاء في معنى النطفة مما يثبت مدى إعجاز القرآن الكريم ودقته في وصف هذه المرحلة.
 
من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:
 
النطفة في اللغة العربية تطلق على القليل من الماء الذي يعدل القطرة؛ فقد جاء في لسان العرب: “النطفة والنطافة: القليل من الماء، وقيل: الماء القليل يبقى في القربة، وقيل: هي كالجرعة ولا فعل للنطفة… وقيل: هي الماء الصافي قل أو كثر، والجمع: نطف ونطاف… ونطف الماء ينطف وينطف: إذا قطر قليلًا قليلًا”([28]).
 
وأما الأمشاج في اللغة؛ فمعناها: الأخلاط، وكل شيئين اختلطا وامتزجا؛ فجاء أيضًا في لسان العرب: “الـمَـشْجُوالـمَشِجُوالـمَشَجُ والمشيج: كل لونين اختلطا، وقيل: هو ما اختلط من حمرة وبياض، وقيل: هو كل شيئين مختلطين، والجمع أمشاج”([29]).
 
وعلى هذا فإن المقصود بالنطفة الأمشاج في اللغة هي قطرة الماء الممتزجة المختلطة، وهذا هو التعبير الدقيق لتكوين الجنين في هذه المرحلة، فما هو إلا مزج أو امتزاج بين مائين: ماء الرجل، وهو “المنيّ”، وماء المرأة، وهو “النطفة”، فهي قطرة ماء ممتزجة.
 
أنواع النطفة:
 
للنطفة ثلاثة أنواع، نذكرها هنا على سبيل الإجمال:
 
النطفة المذكرة: وهي الحيوانات المنوية الموجودة في المنيّ، والتي تفرزها الخصية.
النطفة المؤنثة: وهي البويضة التي يفرزها المبيض مرة في الشهر.
النطفة الأمشاج: وهي النطفة المختلطة من الحيوان المنوي والبويضة([30]).
من أقوال المفسرين:
 
يقول ابن جرير الطبري في تفسيره معنى النطفة الأمشاج: “وقوله:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه( (الإنسان: 2)، يقول تعالى ذكره:إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة: 
 
كل ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير ذلك، كما قال عبد الله بن رواحة: هل أنت إلا نطفة في شَنَّة ـ أي: قربة.
 
وقوله: “أمشاج”؛ يعني: أخلاط، وأحدها: مشج ومشيج… ويقال منه: مشجت هذا بهذا: إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج؛ أي: مخلوط به… واختلف أهل التأويل في معنىالأمشاج الذي عُني بها في هذا
 
 الموضع، فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة… وقال آخرون: إنما عُني بذلك: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، ثم كسي لحمًا… وقال آخرون: عُني بذلك اختلاف ألوان النطفة… وقال آخرون: بل هي العروق التي تكون في النطفة… وأشبه هذه الأقوالبالصواب قول من قال: معنى ذلك )من نطفة أمشاج نبتليه((الانسان:2): نطفة الرجل ونطفة المرأة؛ لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة، فكيف تكون نطفة أمشاجًا وهي علقة”؟([31])
 
وقال ابن كثير في هذه الآية: ” )إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه((الانسان:2)؛ أي: أخلاط، والمشج والمشيج: الشيء الخليط بعضه من بعض. قال ابن عباس في قوله:)من نطفة أمشاج نبتليه((الانسان:2): يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس: الأمشاج: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة”([32]).
 
وجاء في تفسير الألوسي قوله: “أمشاج: جمع مشج بفتحتين، كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر، ككتف وأكتاف، أو مشيج، كشهيد وأشهاد، ونصير وأنصار؛ أي: أخلاط جمعخلط، بمعنى مختلط ممتزج، يقال: مشجت الشيء: إذا خلطته ومزجته، فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة، ووصف بالجمع، وهي مفردة؛ لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة،والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظة، وصفرة وبياضًا، وطبيعة وقوة وضعفًا”([33]).
 
وذكر صاحب الظلال عند تفسير هذه الآية قوله: “والأمشاج: الأخلاط، وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح، وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علميا “الجينات”، وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولًا، ولصفات الجنين العائلية أخيرًا، وإليها يُعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر، كما تُعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة، ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى”([34]).
 
وعلى هذا، فمن خلال إيراد الأدلة اللغوية للآية الكريمة في معنى النطفة الأمشاج، وما جاء من أقوال المفسرين فيها ـ يتضح مدى الدقة والإعجاز في وصف هذه المرحلة من مراحل تكوين الجنين، وهي مرحلة النطفة الأمشاج أو البويضة المخصبة؛ حيث دلت المعاني اللغوية للآية الكريمة على أن النطفة هي قطرة الماء أو القليل منه، وأن الأمشاج هي الأخلاط، والامتزاج بين شيئين.
 
وأكد ذلك قول المفسرين في معنى النطفة الأمشاج بأنها الماء القليل المختلط، وهي عبارة عن اجتماع نطفة الرجل “المنيّ” ونطفة المرأة “البويضة”، واختلاطهما معًا، وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون).
 
فالنطفة هنا هي النطفة الأمشاج التي تكون من مني الرجل وبويضة المرأة، وتتشكل على هذا، حتى تجعل في الرحم وتنغرس فيه، وهذا وصف في غاية الدقة عن هذه المرحلة من مراحل
 
تكوين الجنين، فالبويضة الملقحة مع اختلاف مراحلها من الانقسام هي في غاية أمرها عبارة عن أمشاج مختلطة من ماء الرجل وبويضة المرأة في كل هذه الانقسامات، كما أنها تبدو في مظهرها بشكل قطرة الماء، فهذا تعبير في غاية الدقة عن هذه المرحلة.
 
كما أكد العلم الحديث هذه الحقائق بما لا يلتوي عنها طريقًا، ولا ينحرف عنها دقة وتعبيرًا، بل جاء مطابقًا تمام المطابقة لما جاء به القرآن الكريم من قبل حول الخلق بعامة، ومراحل تكوّن الجنين بخاصة، فقد صحح العلم حديثًا النظريات غير الصحيحة من قبله، وعدل عن الاعتقادات الفاسدة في هذا الخلق، “فلم تكن البشرية تعرف شيئًا عن النطفة الأمشاج (وهي المختلطة أو الأخلاط من الذكر والأنثى)؛ إذ كان الاعتقاد السائد لدى الفلاسفة والأطباء أن الجنين الإنساني إنما يتكون من ماء الرجل، وأن رحم المرأة ليس إلا حاضنًا لذلك الجنين، وشبهوا ذلك بالبذرة تُرمى في الأرض فتأخذ منها غذاءها، وتخرج شجرة يافعة وارفة الظلال يانعة الثمار، وليس للمرأة عند هؤلاء دور في إيجاد الجنين سوى رعايته وتغذيته”([35]).
 
ظلت هذه الخرافات في عقول أصحابها متداولة منذ فلاسفة الإغريق عبر العصور حتى جاء عصر النهضة الحديث وبدايات القرن العشرين، وشيعت هذه النظريات إلى مثواها الأخير.
 
“وبعد اختراع الميكروسكوب ـ المجهر ـ قام العالم “لفين” هو وزميله “هام” باكتشاف الحيوان المنوي في منيّ الإنسان عام 1677م، كما قام ـ من قبلهما ـ العالم “جراف” بوصف حويصلة البويضة التي تدعى باسمه
 
 
 
والإعجاز في القرآن الكريم والسنة المطهرة يكمن في أنهما قد أكدا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن الإنسان إنما خلق من نطفة مختلطة سماها النطفة الأمشاج، قال سبحانه وتعالى:
 
)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)( (الإنسان)”([36]).
 
هكذا أثبت العلم الحديث أن الجنين إنما يتكون من اجتماع نطفة الرجل والمرأة، واختلاطهما معًا، فإذا حدث هذا تأخذ النطفة الأمشاج أو البويضة الملقحة في الانقسام والتطور، وتدفعها أهداب القناة الرحمية أو (قناة فالوب) إلى أن تقع في الرحم في مدة قدرها ستة أيام.
 
 
 
 
 
“فبعد اندماج نواة البويضة مع نواة الحيوان المنوي يتكون الزيجوت، ويحدث أول انقسام في هذه البويضة المخصبة بعد أربع وعشرين ساعة من التلقيح، فالحيوان المنوي يحتوي على نصف عدد الجسيمات الملونة التي تحمل الصفات الوراثية الموجودة في كل خلية جسدية أخرى، كما أن البويضة تحتوي على نصف عدد الكروموسومات؛ إذ تحتوي الخلية الجسدية على 46 جسيمًا، بينما تحتوي البويضة على 23 كروموسومًا فقط، وكذلك الحيمن المنوي… أما مراحل هذه النطفة الأمشاج فتقوم بالانقسام المتتالي، فتصبح الخلية أربع خلايا في خلال أربعين ساعة، ثم تكون الأربع اثنتين وثلاثين خلية في ثمانين ساعة، ولا تمر خمسة أيام إلا وقد صارت مثل الكرة تمامًا أو مثل ثمرة التوتة، وتدعى عندئذٍ التوتة (Morulla)”([37]).
 
هذه المكونات المختلفة، والأخلاط المتنوعة في البويضة الملقحة هو ما عبر عنه القرآن الكريم بدقة متناهية وإعجاز بليغ في وصفه لهذه المرحلة بالنطفة الأمشاج، فهو خير تعبير يمثل هذه المرحلة وتكوينها، فهي نطفة في هيئتها ومظهرها، ولأنها اجتماع نطفتين، وهي أمشاج في داخلها ومكوناتها من أخلاط وانقسامات متعددة من ماء الرجل وبويضة المرأة، فيا له من تعبير دقيق معجز!
 
إن هذا كله يؤكد تمامًا مدى إعجاز القرآن الكريم ودقته في التعبير عن مراحل تكوين الجنين وتخليقه، وعن مرحلة النطفة الأمشاج التي نحن بصدد الحديث عنها، حتى استقرارها في الرحم، فهي نطفة أخلاط وأمزاج مختلفة عن منيّ الرجل وبويضة المرأة، تتحد هذه الأخلاط وتنقسم داخليًّا مكونة الكرة الجرثومية التي تأخذ في الانغراس داخل الرحم، هذه المراحل المتعاقبة خير ما يدل عليها ويمثلها هو مصطلح النطفة الأمشاج؛ فهي نطفة في مضمونها وشكلها، وأمشاج في تكوينها ومحتواها، إنه إعجاز قرآني خالد يعرض أمام العقل البشري، إنه القول الفصل من عند خالق السماوات والأرض.
 
هكذا تذهب حجج الطاعنين في إعجاز القرآن الكريم في خلق الجنين سدى، وتلقى كل شبهة حتفها ساقطة متجعجعة، وتثبت الحقائق البينات للقرآن الكريم في الخلق، وتثبت المعجزة الباهرة في صدق ما أخبر به القرآن الكريم منذ ألف وأربع مئة عام على نحو دقيق مما أثبته العلم الحديث، ويبقى القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لكل عقل منصف حكيم.
 
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد كشف العلم الحديث عن حقيقة المراحل الأولى لخلق الجنين وتكوينه؛ فبين أن الجنين يتكون على السواء من نطفة الرجل (المنيّ)، ونطفة المرأة (البويضة)؛ حيث يتم تلقيح البويضة بواسطة الحيوان المنوي، وعندها تبدأ البويضة في الانقسام والتطور، فهي في هذه المرحلة عبارة عن بويضة ملقحة، أو نطفة أمشاج من خليط ماء الرجل وماء المرأة، ويتم هذا التلقيح في قناة فالوب، ثم تدفع هذه النطفة الأمشاج رويدًا رويدًا داخل القناة بواسطة الأهداب والشعيرات الدموية، حتى تصل إلى الرحم، وهناك تنغرس في هذا القرار المكين، وهي نطفة أمشاج لـما يتغير وصفها، ثم تتطور بعدها فتصبح علقة إلى المراحل المختلفة في تكوين الجنين وخلقه.
 
كما أثبت العلم أن النطفة الأمشاج أو البويضة الملقحة في هذه المرحلة لا تختلف في مظهرها ووصفها عن النطفة الأولى من امتلاكها غشاء سميكا يحفظها ويحفظ مظهر النطفة فيها، وتأخذ شكل القطرة، فهي نطفة فعلية إلا أنها أمشاج وأمزاج من ماء الرجل وماء المرأة.
 
وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في بيان وإعجاز ودقة متناهية بمصطلح: )نطفة أمشاج((الانسان:2)، فقد جمع هذا اللفظ القرآني في وصف المرحلة الأولى من خلق الجنين وهذه العمليات المختلفة المتعاقبة بكلمتين اثنتين في تمام الإيجاز والدقة، وكمال المعنى بما لا يقوم به لفظ آخر، فالبويضة الملقحة حتى دخولها الرحم والانغراس فيه هي عبارة عن نطفة، ولكنها نطفة أمشاج، لـما تتحول بعد إلى مرحلة أخرى؛ ولذلك كانت دقة الوصف القرآني بقوله سبحانه وتعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)((المؤمنون) ، فأي إعجاز يماثل هذا الإعجاز، وأي بيان يماثل هذا البيان، إنه إعجاز فوق إعجاز، إعجاز علمي، وبياني، ولفظي، )ومن أصدق من الله قيلا (122)((النساء).
 
(*) تفنيد الإعجاز العلمي في مراحل تطور الجنين، مقال منشور بموقع: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
 
[1]. هناك نوعان من هذه الأربطة؛ وهما الأربطة الكاذبة، والأربطة الحقيقية، والأربطة الكاذبة سُمِّيت بهذا؛ لأنها مكونة من انعطافات بروتينية، وليس لها صفاقات ولا عضلات، غير أنها تساهم مساهمة فعالة في حفظ الرحم في محله، وهذه الأربطة هي: الرباط الرحمي العريض، والرباط المبيضي الرحمي، والرباط الرحمي المثاني، والرباط الرحمي المستقيمي. أما الأربطة الحقيقية؛ فهي التي تتكوَّن من صُفُاقات وعضلات، وهي: الرباط الرحمي المبروم، والرباط الرحمي العجزي، والرباط الحامل للمبيض والرباط المبيضي، والرباط العاني الرحمي المثاني، والرباط الوحشي لعنق الرحم. (انظر: إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص175: 179).
 
[2]. هي عبارة عن بروزات خيطية صغيرة في الرحم تشكِّل جزءًا من بداية التشكُّل المشيمي، والخلايا الموجودة ضمنها تقريبًا، ودومًا يكون لها مثل الصيغة الصبغية للجنين.
 
[3]. هو عبارة عن سائل شفاف لامع غني بالأملاح والخمائر والهرمونات، ويتشكَّل هذا السائل نتيجة ارتشاحات أوعية الجنين، وهو يحيط بالجنين من جميع الجهات.
 
[4]. الموسوعة العلمية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. هاني بن مرعي القليني ومجدي فتحي السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ص158: 160 بتصرف.
 
[5]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص55.
 
[6]. الكيسة الأريمية: هي البويضة الملقحة بعد انقسامها المتعدد إلى اثنتين وثلاثين خلية، وتسمى أيضًا الكرة الجرثومية أو التوتية، وكذلك النطفة الأمشاج.
 
[7]. التوزم: الكثرة في اللحم والعضل.
 
[8]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، جامعة عمر المختار، ليبيا، ط1، 1998م، ص152: 157.
 
[9]. القاموس المحيط، مادة: قرر.
 
[10]. لسان العرب، مادة: قرر.
 
[11]. لسان العرب، مادة: مكن.
 
[12]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج19، ص16.
 
[13]. المرجع السابق، ج24، ص132.
 
[14]. انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، عند تفسيره لهذه الآية.
 
[15]. المرجع السابق، عند تفسير هذه الآية.
 
[16]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.
 
[17]. المرجع السابق، ج4، ص460.
 
[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص160.
 
[19]. لباب التأويل في معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: عثمان جمعة ضميرية وآخرين، دار طيبة، السعودية، ط4، 1417هـ/ 1997م، ج5، ص411.
 
[20]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، ص2458.
 
[21]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج16، ص9979.
 
[22]. العَجَّان: هي العضلات التي تحيط بالفرج والشرج وعظام الحوض، وهي عضلات قوية تحافظ على الجهاز البولي والتناسلي عند الرجل والمرأة.
 
[23]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص171: 179.
 
[24]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص157.
 
[25]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص185.
 
[26]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص198: 200. وانظر: موسوعة جسم الإنسان: الولادة والنمو، بريان فارد، المركز العالمي للموسوعات، دار إلياس العصرية، القاهرة، 1987م، ص14، 15. والموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشري من الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج1، ص287، 288.
 
[27]. علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، عبد المجيد الزنداني وآخرين، مرجع سابق، ص17، 18.
 
[28]. لسان العرب، مادة: نطف.
 
[29]. لسان العرب، مادة: مشج.
 
[30]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص109. وانظر: الموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشري من الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج1، ص280: 284.
 
[31]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج24، ص88: 91.
 
[32]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص453.
 
[33]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، مرجع سابق، ج29، ص151.
 
[34]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3779، 3780.
 
[35]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص183.
 
[36]. المرجع السابق، ص185: 188.
 
[37]. الموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشري من الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج1، ص287، 288.

إنكار إعجاز القرآن في تقديم السمع على البصر (*)

مضمون الشبهة:

ينكر المغالطون الإعجاز العلمي للقرآن في تقديمه السمع على البصر في كثير من الآيات؛ كقول الله تعالى: )ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة( (السجدة: ٩). ذاهبين إلى أن تقديم السمع على البصر ليس له أي معنى من الناحية الإعجازية؛ لأن خلقهما في الجنين يتم معًا بالتوازي، ومن ثم فليس هناك من مسوغ لهذا التقديم.

وجها إبطال الشبهة:

1) لقد أثبت العلم الحديث أن الحاسة الوحيدة التي تنشط والجنين لا يزال في بطن أمه هي حاسة السمع، ويبقى ذلك محدودًا بحدود سماع نبضات قلب أمه أو حركات كل من رئتيها وأمعائها، وبعد الميلاد فإن بقايا الأنسجة الظهارية EPITHELIALTISSUESوالسوائل التي كانت تملأ كلا من الأذنين: الخارجية والوسطى ـ والجنين في بطن أمه ـ سرعان ما تمتص بالكامل خلال أيام قليلة، يبدأ الوليد بعدها في سماع كل ما يدور حوله. أما العين فلا تفتح ولا تتطور طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع، وحتى عند ذلك لن يكون العصب البصري مكتملًا لينقل الإشارات العصبية الضوئية بكفاءة، ولن تبصر العين لأنها غارقة في ظلمات ثلاث، ولا تبصر عين المولود حديث الولادة إلا بعد فترة طويلة من ولادته، فجاء القرآن الكريم بهذا الترتيب إشارة إلى تقديم السمع على البصر في الخلق.

2) وجد العلماء أن مركز السمع يقع في الفص الصدغي للمخ، بينما يقع مركز الإبصار في الفص المؤخر في آخر المخ؛ أي إن مراكز السمع تتقدم على مراكز الإبصار، ثم إن المولود الفاقد لحاسة البصر يتميز عادة بذاكرة واعية؛ وذلك لأن مراكز الإبصار في المخ ترتبط وظيفيًّا مع المناطق الارتباطية الأخرى؛ لذلك نبغ كثيرون ممن فقدوا حاسة البصر، ولم ينبغ أحد ممن فقد حاسة السمع إلا نادرًا؛ مما يدل على أهمية حاسة السمع وأهمية مراكزها في المخ؛ لذا فإن الذاكرة السمعية في الإنسان أرسخ من الذاكرة البصرية، فالمولود يتعلم بواسطة السمع أضعاف ما يتعلمه بواسطة البصر، والأصم منذ الولادة لا يستطيع أن يتعلم اللغة أبدا لأنه أبكم، كما أن السمع ـ إضافة إلى ما سبق ـ يتميز على البصر من عدة نواح ـ إذ إن الأذن لا تنام، والشيء الذي لا ينام أرقى في الخلق من الشيء الذي ينام، والعين تحتاج إلى نور حتى ترى، لكن الأذن تؤدي مهمتها في الليل والنهار والضوء والظلام، ويبقى جهاز السمع فعالًا إلى ما بعد الموت بقليل، بينما تموت العين، وبالأذن جهاز حساس يسمى الجهاز الدهليزي vestibularsystem، وظيفته تنظيم حركة الرأس، وتوازن الجسم في جميع الاتجاهات والأوضاع. هذه النقاط وغيرها تبين بوضوح دقة القرآن وإعجازه، وتجيب عن التساؤل الذي مؤداه: هل ثمة مسوغ في تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم؟!

التفصيل:
أولا. حاسة السمع هي الحاسة الوحيدة التي تنشط والجنين لا يزال في بطن أمه:
1) الحقائق العلمية:
من الثابت في دراسات الجنين البشري أن كلًّا من قرص الأذن (the otic placode) والحويصلة البصرية، يتخلقان في مرحلة العلقة في اليومين الرابع والعشرين والخامس والعشرين من عمر الجنين، وطول الجنين في هذه المرحلة يتراوح بين (5‚2) مم، (5‚4) مم فقط، بينما يمكن تمييز بروز القلب بعد ذلك بيومين اثنين؛ أي في اليوم السادس والعشرين والسابع والعشرين حين تظهر فتحتا الأذنين.

وبعد ذلك بيومين إلى ثلاثة أيام (أي في اليومين الثامن والعشرين إلى الثلاثين) تتخلق حويصلتا الأذنين، ويمكن تمييز قرصي عدستي العينين، وبعد ذلك بفترة مماثلة (أي في اليومين الحادي والثلاثين إلى الثاني والثلاثين من عمر الجنين) تظهر فتحتا عدستي العينين وينمو قرصاهما؛ وبعد يومين إلى أربعة أيام (أي بين يومي الثالث والثلاثين والسادس والثلاثين من عمر الجنين) تتخلق حويصلتا عدستي العينين، وبعد ذلك بيوم واحد إلى سبعة أيام (أي في اليوم السابع والثلاثين إلى الأربعين من عمر الجنين) تتخلق الصبغة في شبكتي العينين، وتنمو برزتا الأذنين.

وفي حوالي الأسبوع السادس من عمر الجنين (اليوم 40 إلى 43) ـ ويتراوح طول الجنين في هذا التوقيت بين 11مم: 14مم ـ يتم بروز الأذنين بشكل يحدد ملامح صوان الأذن، وتبرز الحويصلات المخية.

وبنهاية الشهر الخامس من عمر الجنين تكون أذناه الداخليتان قد تم تخلقهما بالكامل وأصبحتا قادرتين على القيام بكل وظائف السمع، ومنها تلقي المؤثرات الصوتية وإرسالها إلى مراكز السمع في المخ لإدراكها دون حاجة إلى كل من زوجي الأذنين الوسطى والخارجية، واللتان يتم تخلقهما في الأسابيع من العاشر إلى العشرين من عمر الجنين حين ترتبطان بالأذنين الداخليتين. أما صوان الأذن فيكتمل تخلقه في الأسبوع الثاني والثلاثين من عمر الجنين.

صورة توضيحية لأذن جنين في الشهر الخامس من عمره. هل تستطيع أن تميزها عن أذن أي إنسان تعرفه؟!

لقد تكامل نموها بدرجة يصعب تصديقها في هذه الفترة. إن الجنين يستطيع سماع الأصوات منذ الشهر الرابع، بل إنه يسمع صوت أمه وقرقرة أمعائها رغم أنه محاط بالأغشية وبكيس السلى، بل لقد أصبح من الثابت أن الجنين يسمع الأصوات والضوضاء الخارجية ويتعود عليها فينام ويصحو ويعيش حياته كاملة رغم الظلام المحيط به من كل جهة، لكنه ليس عالـمًا صامتًا على أية حال.

وعلى ذلك فإن الحاسة الوحيدة التي تنشط والجنين لا يزال في بطن أمه هي حاسة السمع، ويبقى ذلك محدودًا بحدود سماع نبضات قلب أمه أو حركات كل من رئتيها وأمعائها، دون أدنى وعي حقيقي بذلك، خاصة أن السوائل المحيطة بالجنين وهيكله العظمي ـ خاصة عظام الجمجمة ـ موصلة جيدة للموجات الصوتية، فلا يسمع الجنين منها إلا طنينا مضخمًا لتلك الأصوات.

وبعد الميلاد فإن بقايا الأنسجة الظهارية (Epithelial Tissues) والسوائل التي كانت تملأ كلًّا من الأذنين الخارجية والوسطى، والجنين في بطن أمه ـ سرعان ما تمتص بالكامل في خلال أيام قليلة، يبدأ الوليد بعدها في سماع كل ما يدور حوله([1]).

ويتضح مما تقدم أن الأذن الداخلية للجنين تنضج وتصبح قادرة على السمع في الشهر الخامس، بينما لا تفتح العين ولا تتطور طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع، وحتى عند ذاك لن يكون العصب البصري مكتملًا لينقل الإشارات العصبية الضوئية بكفاءة، ولن تبصر العين لأنها غارقة في ظلمات ثلاث([2]).

وعلى هذا ثبت اكتمال حاسة السمع بعد خروج الجنين؛ حيث يمكن للجنين أن يسمع الأصوات بالطريقة الطبيعية بعد بضعة أيام من ولادته، بعد أن تمتص كل السوائل وفضلات الأنسجة المتبقية في أذنه الوسطى والمحيطة بعظيماتها ثم يصبح السمع حادًّا بعد أيام قلائل من ولادة الطفل.

أما حاسة البصر فهي ضعيفة جدًّا عند الولادة؛ إذ تكاد تكون معدومة، ويصعب على الوليد تمييز الضوء من الظلام، ولا يرى إلا صورًا مشوشة للمرئيات، وتتحرك عيناه دون أن يتمكن من تركيز بصره وتثبيته على الجسم المنظور، ولكنه في الشهر السادس يتمكن من تفريق وجوه الأشخاص، إلا أن الوليد في هذه السن يكون بعيد البصر، ثم يستمر بصره في النمو والتطور حتى السنة العاشرة من عمره([3]).

والدليل على أن أذن الطفل تؤدي وظيفتها عقب ولادته أنه إذا سمع صوتًا شعر به وأحسه فورًا، وصدر عنه ما يدل على التأثر به، أما إذا مددت يدك قريبًا من عينه فإنها لا ترمش ولا تتحرك([4]).

2) التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:
جاءت الآيات الكريمة في كتاب الله تعالى مخبرة عن السمع والبصر في مواضع متعددة، إلا أن الغالب في هذه الآيات هو تقديم ذكر السمع على البصر. وإذا قمنا بعمل إحصاء لذلك التقديم وتلك الصور المتعددة، فإنه يكون على النحو الآتي:

· تقدم ذكر لفظ السمع على لفظ البصر في عشرين موضعًا تقريبًا، ومن تلك المواضع قوله تعالى: ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)((البقرة)، وقوله تعالى: )يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)((البقرة)، وقوله تعالى: )قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون (46)( (الأنعام)، وقوله تعالى: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72)( (القصص).

· وقد يأتي هذا التقديم في صورة تقديم لفظ السميع على البصير، وذلك في أحد عشر موضعًا، ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: )إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)( (الإنسان).

ولقد ذكر الشيخ محمد متولي الشعراوي عددًا من الحكم في تقديم السمع على البصر، ومنها أن السمع أول عضو يؤدي وظيفته في الدنيا؛ فالطفل ساعة الولادة يسمع، وذلك على عكس العين فإنها لا تؤدي مهمتها لحظة مجيء الطفل إلى الدنيا.

ويضيف الشيخ الشعراوي قائلا: ولذلك حينما أراد الله سبحانه وتعالى أن يقص علينا مراحل الإدراك في النفس الإنسانية ليربي الإنسان معلوماته، قال الحق عز وجل:)والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78)((النحل). لذلك يقال: «كما ولدته أمه»؛ أي: لم يعط القدرة على استخدام حواسه بعد، ثم يجعل له الحق سبحانه الحواس، ويجعله قادرا على استخدامها([5]).

وجاء الحق سبحانه وتعالى بالسمع أولًا؛ لأن الأذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في الإنسان، أما العين فلا تبدأ في أداء مهمتها إلا بعد ثلاثة أيام إلى عشرة أيام غالبًا([6]).

وعليه فإن ما جاء به العلم الحديث يتطابق مع ما جاء به القرآن الكريم؛ إذ إن العلم قد أثبت أن آلة السمع (الأذن) تتكون قبل آلة البصر (العين)؛ إذ تظهر الصحيفة السمعية في آخر الأسبوع الثالث (Otic Placode)، وهي أول مكونات آلة السمع، بينما تظهر الصحيفة البصرية في أول الأسبوع الرابع من حياة الجنين.

كما أن الأذن تبدأ في العمل قبل العين؛ إذ تتحسس الأذن الأصوات في الشهر الخامس من عمر الجنين، ويسمع الجنين أصوات حركات أمعاء وقلب أمه، وتتولد نتيجة هذا السمع إشارات عصبية سمعية في الأذن الداخلية، والعصب السمعي والمنطقة السمعية في المخ، يمكن تسجيلها بآلات التسجيل المختبرية، وهذا برهان علمي يثبت سماع الجنين للأصوات في هذه المرحلة المبكرة من عمره، ولم تسجل مثل هذه الإشارات العصبية في الجهاز البصري للجنين إلا بعد ولادته؛ لذا فإن اكتمال حاسة السمع يكون قبل اكتمال حاسة البصر بعد خروج الجنين، لهذا كله تقدم السمع على البصر في القرآن الكريم.

ثانيا. المنطقة السمعية في المخ تتكامل عضويًّا قبل المنطقة البصرية في مراحل الحميل، وحتى بعد الولادة، كما تتميز حاسة السمع على البصر في كثير من الجوانب:

1) الحقائق العلمية:
لقد ثبت حديثًا أن المنطقة السمعية المخية تتطور وتتكامل وظائفها قبل مثيلتها البصرية، وقد أمكن تسجيل إشارات عصبية سمعية من المنطقة السمعية لقشرة المخ عند تنبيه الجنين بمنبه صوتي في بداية الشهر الجنيني الخامس، وتحفز الأصوات التي يسمعها الجنين خلال النصف الثاني من حياته الجنينية هذه المنطقة البصرية للمخ في هذه الفترة بأية منبهات، ولذلك فهي لا تتطور كثيرًا ولا تنضج ولا تتكامل، فمن المعلوم فيزيولوجيًّا أن المنبهات النوعية التي ترد أي طريق عصبي حسي تحفزه على النمو والنضوج، وبهذه الطريقة لا يحفز الجهاز العصبي البصري بمثل ذلك إلا بعد ولادة الوليد.

ولقد وجد العلماء أن مركز السمع يقع في الفص الصدغي للمخ، بينما يقع مركز الإبصار في الفص المؤخر في آخر المخ؛ أي إن مراكز السمع تتقدم على مراكز الإبصار([7]).

مراكز السمع والبصر في المخ

وبهذا يتبين أن هناك مراكز للسمع داخل المخ البشري يتم فيها إدراك المسموعات وعقلها، وهناك مراكز للبصر داخل المخ البشري يتم فيها إدراك المبصرات وعقلها،وأداة مركز السمع هي الأذن التي تجلب إليها الأصوات، وأداة مركز البصر هي العين التي تجلب إليها الصور.

ومع أن العين تتقدم الأذن في رأس الإنسان فإن مركز السمع يتقدم مركز الإبصار في مخ الإنسان تشريحيًّا([8]).

وذلك لأن منطقتي السمع في المخ موزعتان فوق الأذنين مباشرة بالتساوي تقريبًا، وهما بذلك يتقدمان منطقة الإبصار التي توجد في مؤخرة المخ، فإذا أصيب أحد جانبي المخ، فإن الإنسان لا يفقد السمع من أي من الأذنين، بينما يتوزع ارتباط نصف كل عين من العينين بالنصف المعاكس له من منطقة الإبصار في المخ، فإذا أصيب أي من جانبي المخ تأثرت العينان كلٌّ بنسبة النصف([9]).

ثم إن المولود الفاقد لحاسة البصر يتميز عادة بذاكرة واعية؛ وذلك لأن مراكز الإبصار في المخ ترتبط وظيفيًّا مع المناطق الارتباطية الأخرى، فتزيد من قابلية الدماغ على الحفظ والتحليل والاستنتاج والتذكر، ولأسباب غير معروفة لا تقوم مراكز السمع في المخ بعمل ذلك، ولذلك نبغ كثيرون ممن فقدوا حاسة البصر، ولم ينبغ أحد ممن فقدوا حاسة السمع إلا نادرا؛ مما يدل على أهمية حاسة السمع، وأهمية مراكزها في المخ.

ثم إن الأحاسيس الصوتية تصل مستوى الوعي عند الإنسان أفضل مما تصله عن طريق أية حاسة أخرى كالبصر؛ وذلك لأن الذاكرة السمعية في الإنسان أرسخ من الذاكرة البصرية، وتعطي من المدلولات والمفاهيم ما لا تعطيه الذاكرة البصرية ورموزها([10]).

فالمولود يتعلم بواسطة السمع أضعاف ما يتعلمه بواسطة البصر، والأصم منذ الولادة لا يستطيع أن يتعلم اللغة أبدًا لأنه أبكم، في حين أن المولود بدون حاسة البصر يستطيع أن يتعلم اللغة بل اللغات بكل يسر، والدليل على ذلك وجود مئات بل آلاف العباقرة من فاقدي حاسة البصر، ومن العسير أن نعد على الأصابع العباقرة من فاقدي حاسة السمع، وخاصة إذا كان فقد السمع منذ الولادة أو في مرحلة الطفولة([11]).

تميُّز السمع عن البصر:
·تتعدد الأبصار بتعدد الجهات والمشاهد والمبصرين، فأنا أرى هذا وأنت ترى هذا، وثالث يرى شيئًا آخر، وإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئًا، ولكن بالنسبة للسمع فنحن جميعًا ما دمنا جالسين في مكان واحد، فكلنا نسمع الشيء نفسه، ومن هنا جاءت كلمة الأبصار، بينما توحدت كلمة السمع، ولم تأت كلمة الأسماع.

·الأذن لا تنام والشيء الذي لا ينام أرقى في الخلق من الشيء الذي ينام، فالأذن لا تنام أبدًا منذ ساعة الخلق، إنها تعمل منذ الدقيقة الأولى للحياة، فأنت حينما تكون نائمًا تنام كل أعضاء جسمك، ولكن الأذن تبقى متيقظة، فإذا أحدث أحد صوتًا بجانبك وأنت نائم قمت من النوم على الفور.

·كما أن العين تحتاج إلى نور حتى ترى؛ إذ تنعكس الأشعة على الأشياء، ثم تدخل إلى العين فترى، فإذا كانت الدنيا ظلامًا فإن العين لا ترى، ولكن الأذن تؤدي مهمتها في الليل والنهار، في الضوء والظلام، والإنسان متيقظ، والإنسان نائم، فهي لا تنام أبدًا ولا تتوقف أبدًا([12]).

·يبقى جهاز السمع فعالًا إلى ما بعد الموت بقليل، بينما تموت العين، بل إن من علامات الموت توسع البؤبؤ الثابت FixedDilatedPupli، وقد تدل العين على قرب حدوث الموت وذلك بحدوث حركة دورانية (Roving Eye Movement)، وحركة جانبية (Doll Eye MOVEMENT) تشبه حركة عيون العرائس في لعب الأطفال، وكلاهما يشير إلى مرض خطير في الدماغ يتبعه الموت([13]).

الأذن والتوازن:
التوازن هو المحافظة على مركز ثقل الجسم داخل قاعدة الاستناد مما يتطلب تدخل أكثر من جهاز، ويمثل التوازن العنصر الثاني المهم في وظيفة الأذن؛ إذ يوجد بها جهاز حساس يسمى بالجهاز الدهليزي (Vestibular System)، وظيفته تنظيم حركة الرأس، وتوازن الجسم في جميع الاتجاهات والأوضاع.

يتكون هذا الجهاز من ثلاث قنوات شبه دائرية وكيسين، كلها مملوءة بسائل ليمفاوي، ومبطنة من الداخل بشعيرات خلوية حساسة، ويرتبط الجهاز الدهليزي في كل أذن بالقناة السمعية الحلزونية (Cochlear Duct).

وتتشكل القنوات الثلاث شبه الدائرية بحيث تكون متعامدة مع بعضها، وتقع في مستويات ثلاثة متعامدة أيضًا، مما يجعلها تتحسس لأدنى حركة في الرأس بجميع المستويات، فعندما يتحرك الرأس باتجاه فإن سائل القنوات يحافظ على وضعه في بداية الحركة، باتجاه معاكس لحركة الرأس، ولكن بعد فترة قصيرة يتحرك السائل باتجاه حركة الرأس؛ مما يدفع الشعيرات للعودة إلى وضعها الأصلي، ويتم إرسال تعليمات إلى الدماغ من جراء ذلك، ومن كلا الجانبين لحفظ التوازن في كافة الأحوال التي يكون فيها الجسم.

وبالنسبة للحركة الأمامية والخلفية للرأس فإن هناك نتوئين كأنهما بوصلة في داخل سائل، تستجيب إلى حركة الرأس والجاذبية، وترسل التعليمات إلى جذع الدماغ (BrainStem)، ويتم تبادل المعلومات مع مراكز أخرى مهمة في الدماغ بواسطة شبكة اتصالات لإعطاء توازن عجيب ودقيق مع كل حركة؛ حيث يتم تبادل المعلومات مع مراكز السيطرة على العيون والأطراف والحبل الشوكي والمخيخ (Cerebellum) وغيرها؛ ليبقى الجسم محافظًا على توازنه مع القيام بوظائفه الأخرى بفاعلية([14]).

فمستقبلات الدهليز تعطي معلومات دقيقة للدماغ عن وضعية الرأس في الفضاء، وما تواجد قنوات القوقعة الحلزونية على أشكال فضائية ثلاثة (مسطح أفقي، مسطح عمودي جباهي، مسطح عمودي أمامي خلفي) إلا دليل على إحساسنا بالتوازن في الأبعاد الثلاثة المتواجدة في الفضاء.

ومستقبلات الدهليز حساسة أيضًا للجاذبية الأرضية، فإذا ما وجد الإنسان في وضع غير طبيعي أو غير سليم، تصدر الأوامر فورًا لتصحيح الوضع، وهذا يفسر ما يحس به الإنسان من دوار عندما يدور حول نفسه، وكذلك الإحساس الغريب بفقدان التوازن الذي يشعر به الإنسان عندما يستقل مصعدًا كهربائيًّا يتحرك بسرعة، والإحساس نفسه بالدوار عندما يحرك الفرد رأسه بسرعة يمينًا ويسارًا. كل هذه الإحساسات ناتجة عن تدافع السائل المتواجد بالقنوات القوقعية الحلزونية بصفة تسارعية.

وفي حالة السرعة الثابتة (انعدام التسارع)، مثلًا عندما يكون الإنسان في طائرة تطير بسرعة ثابتة والسماء زرقاء صافية (أي لا وجود لسحاب ركامي كثيف يحدث هزات في مسار الطائرة)، والعلو شاهق يحس كأن الطائرة واقفة لا تتحرك.

أما رجل الفضاء فلا يحس بأن مركبته تتحرك، ولهذه الأسباب أيضًا لا نحس بحركة دوران الأرض حول نفسها، على الرغم من السرعة الكبيرة التي تدور بها([15]).

وجهاز التوازن جهاز معقد، وبواسطة قنوات هلالية متصلة ببعضها، وبداخلها شعيرات تستطيع أن تميز أية حركة أو اهتزاز أو تغيير في وضع الأجسام، فترسل بذلك إشارات إلى المخ؛ حيث يستقبل هذه المعلومات ويسجلها ويستفيد منها، ثم يرسل أوامره إلى الجسم والعضلات لتتمشى مع هذا التغيير([16]).

2) التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:
في تفسير قوله تعالى: )ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة( (البقرة: ٧) يقول الإمام القرطبي: “قوله تعالى: )وعلى سمعهم( (البقرة: ٧): استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه، قال: والسمع يدرك به من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة، وبواسطة من ضياء وشعاع”([17]).

ويقول ابن عجيبة في تفسيره: “وقدم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر؛ لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًّا، ثم بعثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام، وإنما أفرده وجمع الأبصار والأفئدة؛ لأن متعلق السمع جنس واحد وهو الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب، معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع”([18]).

ويقول الإمام ابن عاشور: “وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر، فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدَّم؛ وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست دون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة”([19]).

إن الطفل يتعلم المعلومات الصوتية في أوائل حياته قبل تعلمه المعلومات البصرية، ويتعلمها ويحفظها أسرع بكثير من تعلمه المعلومات المرئية، فهو مثلًا يفهم الكلام الذي يسمعه ويدركه ويعيه أكثر من فهمه للرسوم والصور والكتابات التي يراها، ويحفظ الآيات والأناشيد بسرعة، ويتمكن من تعلم النطق في وقت مبكر جدًّا بالنسبة لتعلمه القراءة والكتابة، وكل ذلك لأن مناطق دماغه السمعية نضجت قبل مناطقه البصرية، قال تعالى: )لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية (12)( (الحاقة)([20]).

إن العالم كله لم يكن يعرف شيئًا عن التركيب المتكامل والدقيق للمخ البشري، وبدأ حديثًا في التعرف على مناطق السمع والبصر والعواطف والاختيار بين البدائل في المخ البشري، وكان ذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من ألف عام.

والتساؤل الذي يثار: ماذا يقول العقل العالمي المفكر لو اكتشف خريطة متكاملة للتركيب التشريحي والوظيفي للمناطق التكليفية العقلية العليا في المخ البشري في القرآن الكريم؟

إن ذلك دليل علمي على صدق الرسالة وصدق الرسول، وسيكون دليلًا يقينيًّا على أن القرآن الكريم كتاب الله المعجز الوحيد الخالد الباقي المحفوظ ليدين به الجميع، وليكون دستورًا للعالمين([21]).

إن الآيات القرآنية دوما ترتب العين قبل الأذن؛ وذلك للسبق المكاني لكل من العينين للأذنين في موضعهما من وجه الإنسان، بينما تقدم الآيات ذكر حاسة السمع على حاسة البصر؛ وذلك لتقدم مركز السمع في فصين جانبيين من المخ، بينما يوجد مركز البصر خلف المخ؛ وذلك لأن وظيفة أعضاء التلقي ومراكز الحس في المخ ـ كالعين والأذن ـ هي نقل المؤثرات الحسية إلى مراكزها في المخ حيث تدرك.

وهذه حقائق لم تصل إليها العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها بهذه الدقة وهذا التفصيل مما يثبت لكل ذي بصيرة أن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية ـ ولم يقطعه لرسالة سابقة أبدًا ـ وحفظه في لغة وحيه نفسها ـ اللغة العربية ـ على مدى الأربعة عشر قرنًا الماضية بكل ما فيه من إشراقات نورانية، وعلوم ربانية، وحقائق كونية، حتى يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة، وتعهد ربنا تبارك وتعالى بحفظ القرآن الكريم تعهدًا مطلقًا؛ حتى يبقى شاهدًا على الخلق أجمعين إلى يوم الدين([22]).

3) وجه الإعجاز:
يقرر العلم الحديث أن حاسة السمع تبدأ مبكرًا في أداء عملها في الأسابيع القليلة الأولى بعد ولادة الطفل، أما البصر فيبدأ عمله في الشهر الثالث ولا يتم تركيز الإبصار إلا بعد مدة طويلة من ولادة الطفل، وهذه الحقائق العلمية الناصعة تبين بكل وضوح وجلاء الإعجاز العلمي في الآيات البينات التي قدمت السمع على البصر.

(*) موقع: سورية الوعد www.syriapromise.com.

[1]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص530، 531.

[2]. الإعجاز العلمي في آيات السمع والبصر في القرآن الكريم، د. صادق الهلالي و د. حسين رضوان سليمان اللبيدي، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، السعودية، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص20.

[3]. الإعجاز العلمي في تقدُّم السمع على البصر، عادل الصعدي، بحث منشور بموقع: جامعة الإيمان www.jameataleman.org.

[4]. القرآن وإعجازه العلمي، محمد إسماعيل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ص108.

[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج1، ص5907، 5908.

[6]. المرجع السابق، ج1، ص5909.

[7]. الإعجاز العلمي في آيات السمع والبصر في القرآن الكريم، د. صادق الهلالي و د. حسين رضوان سليمان اللبيدي، مرجع سابق، ص24.

[8]. تركيب المخ البشري في ضوء القرآن، د. حسين رضوان اللبيدي، مقال منشور بمنتديات: مكتوب www.Maktoob.com.

[9]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص535.

[10]. خلق حاستي السمع والبصر، مقال منشور بمنتدى: الحوار الإسلامي المسيحيchristiandilogue.com..musilmwww.

[11]. معجزة السمع، د. محمد السقا عيد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[12]. معجزة السمع، د. محمد السقا عيد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[13]. من معجزات القرآن ما بين الطب والعلوم الحديثة، د. سامي نوح حسن الموسوي، دار السياب، لندن، ط1، 2007م، ص68، 69.

[14]. المرجع السابق، ص76، 77.

[15]. من آيات الله في الإنسان، د. مصطفى الأسود، مكتبة حسين العصرية، بيروت، ط1، 1431هـ/ 2010م، ص86، 87.

[16]. معجزة السمع، د. محمد السقا عيد، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[17]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص189.

[18]. البحر المديد، ابن عجيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1423هـ/ 2002م، عند تفسيره لآية: )وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)((الاعراف).

[19]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج1، ج1، ص258.

[20]. الإعجاز العلمي في آيات السمع والبصر في القرآن الكريم، د. صادق الهلالي و د. حسين رضوان سليمان اللبيدي، مرجع سابق، ص24، 25.

[21]. تركيب المخ البشري في ضوء القرآن، د. حسين رضوان اللبيدي، مقال منشور بمنتديات: مكتوب www.maktoob.com.

[22]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص544.

إنكار الإعجاز العلمي للقرآن بشأن إعادة تسوية البنان

مضمون الشبهة:

في محاولة لطمس الحقائق العلمية في القرآن الكريم ينكر الطاعنون الإعجاز العلمي الوارد في قوله سبحانه وتعالى: )بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4)(  (القيامة) زاعمين أن المعنى المقصود بها ـ كما تقول جميع كتب التفسير ـ هو استواء أصابع أيدي الكفار يوم القيامة، فتصبح كحوافر الحيوانات غير قابلة للانحناء لالتقاط الأشياء.

ويستدلون على هذا الإنكار بأن كلمة “التسوية” لم تأت أبدًا في القرآن الكريم بمعنى الخلق الكلي أو إعادة الخلق، وإنما جاءت بمعنى التعديل والتقويم والإتمام، كما تقول المعاجم اللغوية.

وجه إبطال الشبهة:

إن المراد من قوله تعالى: )بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4)((القيامة) هو إعادة خلق البنان (أطراف الأصابع) مقوَّمة متقنة ـ عند البعث ـ فالتسوية كناية عن الخلق؛ لأنها تستلزمه، فإنه ما سُوِّي إلا وقد أُعيد خلقه؛ قال تعالى: )الذي خلق فسوى (2)( (الأعلى)، يؤكِّد هذا أقوال المحققين من أهل التفسير. وقد جاء العلم حديثًا فأثبت أن جلد البنان يحتوي على رسوم وخطوط، تُرسم بعناية فائقة في نهاية الشهر الثالث وبداية الشهر الرابع من عمر الجنين، وهو لا يزال في بطن أمه، ثم تبقى هذه الخطوط ـ بما تحويه ـ ثابتة لا تتغير أبدًا؛ حتى تبقى هوية ربانية دائمة لكل واحد من البشر.

وقد نشأ عن هذا ما يُعرَف باسم “علم البصمة” الذي أثبت أن البصمة لا تتطابق في فردين أبدًا؛ حتى ولو كانا من التوائم المتماثلة، بل لا تتطابق بين أصبعين من أصابع اليد الواحدة أو القدم الواحدة في الفرد الواحد. فأيُّ إعجاز علمي هذا الذي أشار إليه القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان؟!

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

لقد كشف العلم حديثًا النقاب عن بعض أسرار البنان، فبيَّن أن البصمة تتكوَّن من خطوط بارزة في بشرة الجلد، تجاورها منخفضات، وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقية، تتمادى هذه الخطوط وتتلوَّى وتتفرَّع عنها تغصُّنات وفروع، لتأخذ في النهاية وفي كل شخص شكلًا مميزًا([1]).

“وتتكوَّن بشرة الجلد من خمس طبقات أسفلها الطبقة الملاصقة للجلد، وهي التي تجدِّد البصمة إذا تأثَّرت بعارض خارجي. وقد أثبتت دراسات الجنين البشري أن هذه الخطوط المميزة لكل فرد تُرسم بعناية فائقة في نهايات الشهر الثالث وبدايات الشهر الرابع من عمر الجنين وهو لا يزال في بطن أمه، وقد اكتمل هيكله العظمي، وتمَّت كسوته باللحم (العضلات والجلد) واكتملت أعضاؤه وأجهزته، وأخذت الملامح البشرية في الظهور عليه، وأصبح في الطريق إلى إنشائه خلقًا آخر…

وتبقى هذه الخطوط بأشكالها، وتفرعاتها، ومواضع اتصالها أو انفصالها ثابتة لا تتغير أبدًا؛ حتى تبقى هوية ربانية دائمة لكل واحد من بني الإنسان، إلا إذا تمَّ تشويه الأنامل تشويهًا كاملًا، ووصل هذا التشويه إلى الطبقة السفلى من الجلد وهي الطبقة المعوِّضة للبصمة، فإذا دُمِّرت هذه الطبقة فإن البصمة لا تُعوَّض، ويتم التحام الجلد ليبقى علامة مميزة أخرى بما يحمل من آثار التشوُّه.

ومن الثابت علميًّا أن البصمات هي صفات فردية محضة لا تُورَّث، ولا تتأثر بعامل النسب، ومن هنا كانت أهميتها في مجال تحقيق الشخصية، ويمكن استخدامها كذلك في التعرُّف على شيء من صفات تلك الشخصية من مثل الجنس (ذكر أو أنثى)، العمر، الحالة الصحية، الحجم (وذلك لتناسب حجم البصمة مع حجم الجسم)، والمهنة وغير ذلك، والبصمات تترك آثارها على كل جسم تلمسه، سواء كان هذا الجسم ذا سطح خشن أو أملس.

ومن هنا يمكن الاستفادة منها بإبرازها في تتبُّع العديد من المجرمين، ومعرفة تفاصيل حدوث الجريمة”([2]).

بصمات لبَنانَيْ شخصين مختلفين توضِّحان الفرق بين البصمات وإن تشابهت

وتأكيدًا لما سبق يذكر تاريخ العلوم أن العالم البولندي “بركنجي” ـ أستاذ التشريح وعلم وظائف الأعضاء بجامعة براسلاو ببولندا ـ من أوائل من لاحظوا أن بجلد الأصابع بروزات ذوات أشكال معينة. وفي عام 1858م أثبت السير “وليم هرشل” ـ عالم إنجليزي، كان يعمل موظفًا في بريد البنغال، ويرجع إليه الفضل في كونه أول من استخدم علم البصمة تطبيقيًّا ـ أن شكل بشرة الأصبع يدل على صاحب هذا الأصبع ويثبت فرديته.

وعلى الرغم من أن السير “فرنسيس جالتون” ـ عالم رياضيات، يعدُّ أول من وضع أسس علم الوراثة البشرية ـ قد أثبت عام 1892م أن صورة البصمة لأي أصبع تعيش مع صاحبها طول حياته فلا تتغير، إلا أن الريبة بقيت بين الناس والقضاة بشأن هذه البصمات إلى أن وقعت جريمة في مدينة ديتفورد بإنجلترا، وأمكن اكتشاف القاتل بمضاهاة بصمة أصبعه ببصمة تركها بموقع الجريمة، وكانت البصمة في اليوم التالي على الصفحات الأولى من صحف لندن، وأطلق عليها “البصمة التاريخية”؛ لأنها أزالت الشكوك بشأن البصمات ودلالتها أكثر من الإمضاء أو أي شيء آخر على إثبات شخصية المرء؛ فهي أدل على الإنسان من وجهه ومن صورته، وهي من أخص خصائصه.

ومن الثابت علميًّا أن جلد الأصبع لو احترق وتكوَّن مكانه جلد جديد لظهرت البصمات بأشكالها نفسها التي كانت عليها في الجلد القديم([3]).

إذًا فبصمات الشخص الواحد تظل ثابتة مدى الحياة لا تتغير أبدًا، ما لم تُصب بحرق أو تشويه كامل([4])، بل وتبقى بعد الوفاة إلى أن تُحلَّل أنسجة الجلد جميعها، ولا يكفي أن تسقط بشرة الجلد الخارجية لتزول البصمة؛ إذ إن الأدمة تحت البشرة تظهر البصمة بوضوح([5]).

وهذا ما حدا بالشرطة الجنائية والمخابرات العالمية في جميع الدول إلى الاعتماد عليها؛ للاستدلال على الأشخاص المطلوبين للعدالة أو المجرمين([6]).

ومن الشواهد الواقعية على ذلك ما حدث من بعض المجرمين بمدينة شيكاغو الأمريكية عندما تصوَّروا أنهم قادرون على تغيير بصماتهم، فقاموا بنزع جلد أصابعهم واستبداله بقطع لحمية جديدة من مواضع أخرى من أجسامهم، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما اكتشفوا أن قطع الجلد المزروعة قد نمت واكتسبت البصمات الخاصة نفسها بكل شخص منهم.

كما وجد علماء التشريح أن إحدى المومياءات المصرية المحنَّطة قد احتفظت ببصماتها جليَّةً([7]).

أشكال البصمات:

“تأخذ البصمة عدة أشكال تُؤخذ في مجالات التحقيقات الجنائية: قوسي (Arch) ـ خَيمي (Arch tented) ـ حَلَقي (Loop) ـ متدل حلقي (NutantLoop) ـ حلقي مزدوج (Twinned Loop) ـ حلزوني (Whorl) ـ جيبي جانبي (Lateral Pocket) ـ عرضي (Accidental) ـ مركب (Composite)”([8]).

وإليك صورًا توضيحية مكبَّرة لبعضها:

ويجمع هذه الأشكال أربعة أنواع من الخطوط فقط، وهي:

الأقواس، وليس لها زوايا.
المنحدرات، ولها زوايا نحو اليمين أو الشمال.
المستديرات، ولها زاويتان: يمينية وشمالية.
الخطوط المركبة، وهي أنواع متعددة([9]).

وبالإضافة إلى ما سبق فقد ذكر العلماء الحاسبون في علم البصمات “أن لبصمة الأصبع نحو مئة من الصفات والخصائص التي تحدِّد أشكالها ومواضعها، وهم يبنون حساباتهم على امتحان اثنتي عشرة خصيصة اتفق عليها رجال الضبط والأمن بكل البلاد، ولن نجد اثنين يشتركان في هذه الخصائص الاثنتي عشرة إلا مرة في كل أربعة وعشرين مليارًا من الأفراد([10])، هذا إذا أخذت بصمة أصبع واحد، فما بالك بالأصابع العشرة؟!

وقد ورد في الموسوعة العربية العالمية سنة 1989م أن سجل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في الولايات المتحدة الأمريكية جمع حوالي مئة وخمسة وسبعين مليونًا من بصمات الأصابع فلم يكن بينها اثنتان متشابهتان تمامًا”([11]).

وجدير بالذكر أن العالم “فرنسيس جالتون” قد وضع كتابه الشهير “بصمات الأصابع” الذي يُعتبر مرجعًا أساسيًّا في علم البصمات، واعتمدته الحكومة البريطانية عام 1901م، وحصر فيه أمر التعرُّف على بصمة الأصابع في نظام معين يقضي بأن لكل بصمة 12 ميزة خاصة. ومن الطريف أن من بين المليون الأول من البصمات التي حصلت عليها الشرطة في لندن، لم يعثروا على بصمتين متشابهتين في أكثر من 7 مميزات من بين المميزات الـ 12.

كما أنه توجد في كل بصمة أنواع من المميزات بأعداد متفاوتة، وقد يتجاوز عددها في بصمة الأصبع الواحد الخمسين، وقد يصل إلى المئة، وربما وجدنا في مساحة صغيرة من الجزء الأوسط للأصبع أكثر من عشرة منها.

وإليك نموذجًا من المميزات الخطية في الانطباعات الأصبعية في الأشكال الآتية:

نظرية الاحتمالات وعلم البصمات واحتمال تطابق بصمتين:

طوَّر هذه النظرية البروفيسور “سيمون نيوكومب” وهي تعتمد على أسس وقوانين محكمة، مثل جدول الضرب. ويقول “بول كريك” ـ أستاذ العلوم الجنائية في جامعة كاليفورنيا أن نظرية الاحتمالات هي المفتاح الوحيد لتفسير الأدلة الطبيعية.

ولنحاول تطبيق هذه النظرية على إمكانية تطابق بصمتين تطابقًا كاملًا من حيث: (النوع ـ الشكل ـ الموضع).

لنفرض أن أحدنا أخذ انطباعًا لإبهامه الأيمن والتقط صورة فوتوغرافية لهذا الانطباع، ثم كبَّرها عدة مرات كي يستطيع تحديد المميزات الخطية في بصمته، ولنفرض أنه بعد أن قام بهذا العمل وجد فيها (45 ميزة).

ترى ما هي فرص العثور على بصمة أخرى، سواء في بقية أصابعه العشرة، أو في أصابع يدي أي إنسان آخر يعيش حاليًّا على وجه البسيطة، وتحتوي على المميزات نفسها بالضبط، من حيث العدد والأشكال والمجموع والمواضع النسبية؟!

وبتعبير آخر: هل يمكن أن تتكرر البصمة نفسها مرتين وفي الوقت نفسه مع ما فيها من تفاصيل ذاتية بالغة الدقة؟!

إن كل ذي خبرة في الموضوع يستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات قائلًا ـ بثقة تامة وبكل بساطة: إن فرص تكرار بصمتين في آنٍ واحد هي مِثْل فرصة العثور على حبة رمل معينة من الرمال التي تقبع بمكان ما في الصحراء الكبرى أو الربع الخالي، ومن الطبيعي أن بمقدورنا أن نجد بصمة أخرى من النوع نفسه أو الزمرة، وقد نجد فيها نقطة زاوية أو مراكز متشابهة أو مماثلة أو أننا قد نجد كذلك النقطتين معًا.

وربما صادفنا العدد نفسه من المميزات أيضًا، أي: خمس وأربعين ميزة، ولكن الشيء الذي يستحيل أن نصادفه وبالتأكيد، هو المميزات الحلمية نفسها من حيث المواضع النسبية، وعندما يستبعد الخبراء احتمال وجود بصمتين متطابقتين في آنٍ واحد لهذه الدرجة من التطرف، إنما يستندون ـ كما رأينا ـ إلى قوانين ونظريات، ومن بينها نظرية الاحتمالات المشار إليها سابقًا، والتي تنص على أنه “إذا كانت الوقائع مستقلة بعضها عن بعض، فإن احتمال توافقها وحدوثها هو حاصل ضرب احتمالاتها المنفصلة”.

فإذا كان يوجد كمعدل وسطي عند شخص واحد من بين كل أربعين شخصًا بصمة دائرية بالسبابة اليمنى، وكان يوجد عند كل عشرين شخصًا بصمة دائرية بالإبهام الأيسر، فإن احتمال وجود البصمتين الدائرتين معًا في الأصبعين المذكورين عند أي شخص تختاره بشكل عفوي هو: 1/ 40 × 1/ 20 = 1/ 800.

وفيما يختص بالميزات الفردية، فقد اختلفت تقديرات العلماء والخبراء حول فرصة تكرارها في فترة زمنية واحدة، وأخص بالذكر منهم (جالتون، بلتازارو، رموس، ني وورث، تشريل)؛ فقد قدَّر “جالتون” أن هناك أقل من فرصة

واحدة من بين (64 مليارًا) لوجود بصمة واحدة مطابقة للأخرى، وهذا الرقم بالطبع أضعاف أضعاف عدد سكان الأرض في زماننا هذا!

وقد بَنَى “جالتون” تقديره هذا على أساس المميزات الرئيسية الأربعة للبصمة، وهي:

1.انتهاء الخط باتجاه أعلى أو أسفل.

2.تفرُّع الخط إلى فرعين أو أكثر.

3.وجود جزيرة أو نقطة.

4.وجود حلقة في نهاية الخط.

فإذا أخذنا الميزة الأولى من بصمة ما نجد أن احتمال وجود ميزة أخرى مطابقة لها في الموضع نفسه، من خلال الميزات الأربع الأساسية السابقة، هو:  1/ 4 × 1/ 4 = 1/ 16.

وإذا تابعنا تقدير الاحتمالات يتضح لنا أن فرصة وجود بصمتين متطابقتين هي فرصة بعيدة المنال جدًّا، إن لم نقل أنها مستحيلة، ولعل من أطرف الشروح المبسطة المتعلقة بتطبيق نظرية الاحتمالات، على البصمات وأقربها للأذهان ـ ما نشره “بيرت وينوورث” يقول:

إذا قبلنا تقدير (بلتا زار) بأن تكرار الميزة مرة واحدة كل أربع مرات (كما هو موضَّح سابقًا) فإننا سنجد عندما نرفع الرقم (4) إلى القوة (45) يصبح لدينا العدد الآتي:

(454) = 176, 706 , 694 , 600 , 995, 818 , 925 , 208 , 1

وهذا العدد أكثر من سيبتليون (Septillion)، ولكي نبيِّن للقارئ الكريم ماذا يعني السيبتليون، لنفرض أن شخصًا حاول أن يعدَّ السيبتليون بوضع شُرَط (جمع شرطة)، وهي جرَّة القلم على الورقة بمعدل ثلاث جرات في 

الثانية، فإنه في ظرف سنة واحدة سيتمكن من وضع (444, 674, 94) جرة فقط، وبما أن هذه المهمة شاقة جدًّا، لذا سيجد من الضروري الاستعانة بجهد كل شخص على وجه الأرض دون استثناء أحد مطلقًا، حتى الأطفال والمرضى سيضطر لإجبارهم على وضع جرَّات أقلامهم على الورق بمعدل ثلاث جرات في الثانية، وذلك دون توقُّف للنوم أو للراحة، ومع العلم أن عدد سكان العالم حاليًّا يبلغ حوالي (5, 5 مليارات نسمة تقريبًا([12])،

وعلى الرغم من استخدام ذلك العدد الهائل من الصفوف البشرية، فإن جهودهم المجتمعة لن تنتهي إلا بعد ما يقرب من (ثلاثة ملايين من السنين!)، وطبعًا هذا على افتراض أنه يمكن بالشكل النظري العثور على بصمتين 

متطابقتين عند شخصين مختلفين، ولكن مرة واحدة فقط في فترة أطول من تلك التي يقدِّرها الفلكيون لازمة لبرودة الشمس، ومن ثم فإن العثور على مميزات متطابقة عند شخصين مختلفين هي استحالة مطلقة!

ولقد قدَّر “جالتون” أن ثمة أقل من فرصة (من أربعة وستين مليارًا) لتكرار بصمة واحدة مرتين في وقت واحد!

ترى إذا قبلنا هذا التقدير، فماذا ستكون فرصتنا للعثور على مثيل مطابق ليجمع بصمات الأصابع العشرة؟! يتبيَّن من الحساب أنه ستكون فرصة واحدة من العدد الآتي:

(64×910)10= (976, 846, 606, 904, 921, 152, 1×9010).

وهذا العدد يفوق جميع الإدراك البشري!

ولقد اعتمد “بلتا زار” في تقديره على الحقيقة المعروفة وهي أن المعدل الأوسط من التفاصيل الدقيقة في بصمة الأصبع الواحدة هو (100 ميزة)، ومع وجود هذه الميزات المئة فإن فرصة تكرار أصبع واحدة تحمل مئة ميزة هي فرصة 

واحدة من عدد يتألف من (61 رقمًا)، وبحساب ذلك بصورة مفصلة يتبيَّن لي أننا نستطيع أن نعبِّر عن فرصة التكرار بالعد الخيالي الآتي:

376,301,  795, 401, 604, 069, 676, 221, 968, 167, 564, 705, 809, 716, 729, 171, 974, 937, 606, 1.

وإذا بلغ بك الفضول لمعرفة احتمالية تكرار جميع البصمات العشرة مجتمعة فما عليك إلا أن تضرب هذا العدد في نفسه تسع مرات([13])!!

ومن ثم فقد أثبت العلم حديثًا أن البصمة “لا تتطابق في فردين أبدًا حتى لو كانا من التوائم المتماثلة، بل لا تتطابق بين أصبعين من أصابع اليد الواحدة أو القدم الواحدة في الفرد الواحد”([14]).

هذا وقد أكَّد على جميع ما سبق من حقائق علمية المرجع الطبي الأجنبي (CyrilJohn Polson et al) حيث قال:

The pattern of each person’s impressions is unique. No two impressions have yet been found to coincide precisely unless both were made by one and the same area of friction skin. The accumulation of millions of records over a hundred million in the U. S. A alone, has as yet failed to disturb the validity of this observation.

The pattern of an individual’s friction skin remains unchanged throughout life. Herschel (1880 ـ 1916) first demonstrated this. His own impression taken when aged 28 and again at 82 were unchanged except for the addition of the coarse line due to old age and clearly recognizable as such.

وترجمة ملخصة لما سبق تشتمل على المعلومات الآتية:

إن نموذج البصمة لكل شخص يكون فريدًا أو وحيدًا، وعلى هذا لا توجد بصمتان حتى الآن تتطابقان تمامًا، إلا أن تكونا للشخص نفسه ومن مكان البصمة نفسه، وإن تجميع ملايين البصمات التي سُجِّلت لمئات الملايين من 

البشر في الولايات المتحدة الأمريكية (U.S.A)وحدها قد فشلت في الإخلال بصحة هذه المشاهدة.

كما لوحظ أن نموذج البصمة لأي شخص لا يتغيَّر على مدار رحلة العمر، فهذا هو العالم “Herschel” قد أوضح ذلك عندما أخذ بصمة أصابعه وعمره 28 سنة، ثم مرة أخرى عندما أصبح عمره 82 سنة، فوجد أن البصمة لم تتغير إلا من بعض الإضافات نتيجة لتجاعيد الزمن([15]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

لا شك أن الله تعالى الذي خلق الإنسان من عدم فجعله في أحسن تقويم لقادر على إعادة هذا الخلق العجيب ـ بكل ما فيه دون زيادة أو نقصان ـ مرة أخرى، وذلك أهون عليه؛ قال تعالى: )أيحسب الإنسان ألَّنْ نجمع عظامه (3) بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4)(  (القيامة).

وهنا أثار المشككون شبهتهم زاعمين أن المعنى المقصود من الآية الثانية هو استواء أصابع الكافر يوم القيامة فتصبح كحوافر الحيوانات غير قابلة للانحناء؛ لالتقاط الأشياء.

وهذا التفسير يخالف سياق الآية والسبب الذي من أجله نزلت.

ولعلَّ نظرة إلى الدلالات اللغوية التي اشتملت عليها هذه الآية الكريمة، وأقوال المفسرين حولها ـ توضِّح لنا بجلاء ما تحويه من إعجاز علمي رائع.

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

البَنَان: أطراف الأيدي والأرجل([16]).

وجاء في المخصص لابن سيده: البَنَان: واحدته بنانة. قال أبو عبيدة: البنان: أطرافها([17]).

وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: قال الخليل: البَنَان: أطراف الأصابع في اليدين([18]).

وجاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: بنان مفرده (بنانة): أطراف الأصابع، أو الأصابع ذاتها([19]).

من أقوال المفسرين حول الآية الكريمة:

يقول الفخر الرازي: “إنه نبَّه بالبنان على بقية الأعضاء؛ أي نقدر على أن نسوي بنانه بعد صيرورته ترابًا كما كان، وتحقيقه: أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضًا عليه في الإعادة، وإنما خصَّ البنان بالذكر؛ لأنه آخر ما يتم خلقه، فكأنه قيل: نقدر على ضمِّ سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولًا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف القول في كبار العظام”([20])؟!

ويحكي القرطبي قول القتبي والزجاج قائلًا: “وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميات على صغرها، ونؤلِّف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر”([21]).

وقال ابن كثير: “أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟! بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه؛ أي: قدرتنا صالحة لجمعها، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فنجعل بنانه ـ وهي أطراف أصابعه ـ مستوية، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج”([22]).

وقال الثعالبي: “نسوِّي بنانه، معناه: نتقنها سوية، قاله القتبي: وهذا كله عند البعث”([23]).

ويقول البقاعي: “هو تنبيه على التأمل في لطف تفصيل الأنامل وبديع صنعها الموجب للقطع بأن صانعها قادر على ما يريد”([24]).

ويؤكِّد صاحب الظلال على ما سبق فيقول: “النص يؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله، بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها، بل تُسوَّى تسوية، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودقَّ”([25]).

وقد رجَّح ما سبق من تفسير كثيرٌ من أئمة التفسير؛ قال الفخر الرازي: “أقرب إلى الصواب”([26]). وقال القرطبي: “أشبه بمساق الآية”([27]). ويقول ابن كثير: “والظاهر من الآية أن…” وذكر التفسير السالف الذكر([28]). ويقول الثعالبي: “أحرى مع رصف الكلام”([29]).

أما عن التفسير الذي تشبَّث به المشككون فهو يخالف سياق الآية والسبب الذي من أجله نزلت.

قال الشنقيطي: “هذا في الواقع لم نفهم له وجهًا مع السياق، فهو وإن كان دالًّا على قدرة الله وعجز العبد، ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده، ومجيء نظير ذلك في سورة (يس) يرشد إلى أنه سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب، وتحوُّل عظامه رميمًا، فهو قادر على أن يعيده تمامًا كما أنشأه أول مرة، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه؛ أي: يعدلها وينشئها كما كانت أول مرة”([30]).

وقيل أن هذه الآية: “نزلت في عدي بن أبي ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، حدثني عن يوم القيامة، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عدي: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، أوَيجمع الله العظام؟! فنزلت هذه الآية. ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصِّص الإنسان بهذا السائل”([31]).

ومعنى هذا أن كل منكر للبعث تنطبق عليه الآية التي بين أيدينا؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في الآية التي قبلها: Ze d [بصيغة العموم؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول علماء الأصول.

وأما قولهم: إن هذا التفسير قد ذكرته كتب التفسير كافة، فليس بمسوِّغ لقبوله؛ إذ إنها قد ذكرته من باب عَرْض المسألة برُمَّتها، ثم رجَّحت كثير منها القول الأول السالف الذكر ـ الذي اعتمدناه ـ وهذا دأب كثير من كتب التفسير؛ لا سيما القديم منها.

وبهذا يتبيَّن لنا مما سبق من الدلالات اللغوية وأقوال المفسرين أن البنان هو أطراف الأصابع التي هي أصغر جزء في جسم الإنسان، وقد سُمِّيت بذلك؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يَبِنَّ بها، يريد أن يقيم به([32]) “أي: يتحسَّس بها الأحوال لتركيز النهايات العصبية والحسية فيها. يقال: أبَنَّ بالمكان يَبِنُّ: إذا استقر وأقام فيه، ولذا قال تعالى: )بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4)((القيامة)، وقال: )واضربوا منهم كل بنان (12)((الأنفال)؛ أي: اضربوا على أيديهم التي بها يقاتلون”([33]).

ومن ثم رأينا القرآن الكريم يتحدَّى في الآية التي معنا من يشككون في يوم البعث، فيذكر أمرًا ما كان يخطر على بال البشر في ذلك العصر، وهو أن الله تعالى سوف يجمع هذه العظام ويعيد خلق هذا الإنسان كما أنشأه أول مرة، وأن القدرة الإلهية في الخلق تصل إلى حدِّ تمييز كل إنسان من غيره ببصمة الأصبع([34]).

تلك البصمة التي تعتبر ختمًا إلهيًّا جعله الخالق سبحانه وتعالى علامة جماعية فارقة للإنسان دون غيره من المخلوقات المعروفة لنا، كما جعله ميزة فردية لكل واحد من بني الإنسان تحدِّد شخصيته تحديدًا قاطعًا، وتفرده عن غيره إفرادًا مميزًا يتجاوز حدود الصفات الموروثة والمميزة لكل عرق ودم ولون، وذلك طيلة حياته.

فالآية بذلك تؤكِّد على إعادة بصمة كل بنان مع بعث كل ميت؛ تأكيدًا على طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في كل من الخلق والبعث، كما تشير إلى دقة تسوية البنان وإلى أهمية ذلك في حياة الإنسان([35]).

ولكن المفسرون القدامى كانوا يمرون على هذه الآية مرورًا عابرًا، ولا يفهمون ما فيها من إعجاز علمي؛ لأن بصمة الأصبع لم تكن قد اكتُشفت أو عُرف أهميتها ودورها في الكشف عن أي شخص وتمييزه من غيره([36]).

وظلَّ الأمر على هذا إلى أن جاء القرن التاسع عشر الميلادي، فاكتشف عالم التشريح “بركنجي” (Purkinje) عام 1823م حقيقة البصمات، ووجد أن الخطوط الدقيقة الموجودة في رءوس الأصابع (البنان) تختلف من شخص لآخر، ووجد ثلاثة أنواع من هذه الخطوط: أقواس أو دوائر أو عقد أو على شكل رابع يُدعَى: المركبات؛ لتركيبها من أشكال متعددة.

وفي عام 1858م ـ أي: بعد 35 عامًا ـ أشار العالم الإنجليزي “وليم هرشل” (WilliamHerschel) إلى اختلاف البصمات باختلاف أصحابها، مما جعلها دليلًا مميزًا لكل شخص.

وفي عام 1877م اخترع الدكتور “هنري فولدز” (HenryFaulds) ـ عالم إنجليزي، قضى أعوامًا في اليابان، يعمل في مستشفى تشوكيجيشي بطوكيو ـ طريقة وضع البصمة على الورق باستخدام حِبْر المطابع.

وفي عام 1892م أثبت الدكتور “فرانسيس جالتون” (FrancisGalton) أن صورة البصمة لأي أصبع تعيش مع صاحبها طوال حياته، فلا تتغيَّر رغم كل الطوارئ التي قد تصيبه.

وفي عام 1893م أسَّس “إدوارد هنري” (EdwardHenry) ـ مُفوَّض إسكتلند يارد ببريطانيا، وكان يعمل موظفًا بالشرطة ـ نظامًا سهلًا لتصنيف البصمات وتجميعها، لقد اعتبر أن بصمة أي أصبع يمكن تصنيفها إلى واحدة من ثمانية أنواع رئيسة، واعتبر أن أصابع اليدين العشرة هي وحدة كاملة في تصنيف هوية الشخص، وأُدخلت في العام نفسه البصمات كدليل قوي في دوائر الشرطة في إسكتلند يارد، كما جاء في الموسوعة البريطانية.

ثمَّ أخذ العلماء منذ اكتشاف البصمات بإجراء دراسات على أعداد كبيرة من الناس من مختلف الأجناس، فلم يُعثر على مجموعتين متطابقتين أبدًا([37]).

وذلك لأن العلم الحديث يؤكد أنه لا يمكن حدوث أي تشابه في بصمة إنسان وآخر على ظهر الأرض بين هذه البلايين من البشر، وقد ثبت علميًّا أن البصمة لا تقتصر على الأنامل وحدها، ولكن تكون أيضًا على الكف والقدمين([38]).

بصمة الأصبع تميز كل شخص من غيره

كل هذه الحقائق العلمية التي لم تُكتشف إلا في العصر الحديث يشير إليها القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، في كلمات قليلة ولكنها فاصلة وواضحة، لا لبس فيها، ولا تحتمل التأويل ـ كدليل على إعجاز الخلق، وكدليل آخر على الإعجاز العلمي للقرآن.

ومن هنا نعلم أن سرَّ تخصيص الله تعالى للبنان دون غيره من الأعضاء، وجعله إحدى آياته ـ هو أن أي عضو في جسم الإنسان قد يتشابه مع نظيره لدى إنسان آخر، أما جلد البنان فقد أثبت العلم الحديث ـ كما ذكرنا ـ أن لكل إنسان رسومًا وخطوطًا في بنانه تختلف عن الآخر؛ فلا يشبه بنان بنانًا من جميع البشر، ولذا كانت بصمة البنان أقوى برهانًا على إثبات شخصية المرء وأدلَّ عليه من أي شيء آخر([39]). فأي إعجاز بعد هذا؟!

وعلى الرغم مما ذكرناه من إعجاز علمي في الآية الكريمة إلا أن المشككين في الإعجاز العلمي للقرآن قد راحوا يختلقون الأدلة لإثبات ما أثاروه من طعون، فقالوا: إن التسوية لم تأت في القرآن أبدًا بمعنى الخلق الكلي أو إعادة الخلق، وإنما جاءت بمعنى التعديل والتقويم والإتمام.

وهذا الكلام ينمُّ ـ خاصة بعدما أثبته العلم من حقائق في هذا الصدد ـ عن فهم قاصر وفكر مضطرب؛ إذ إن قائليه قد وقفوا عند حرفية كلمة “التسوية” من حيث معناها اللغوي فحسب، ناسين أو متناسين أن السياق هو الذي يحدِّد المعنى المراد تحديدًا دقيقًا.

وبالنظر إلى الآية التي معنا نجد أنها قد جاءت في معرض الرد على منكري البعث في كل زمان ومكان ـ كما أوضحنا سابقًا ـ ومن ثم صوَّرت الآية طلاقة القدرة الإلهية أبلغ تصوير؛ حيث ذكرت أن الله قادر على إعادة تسوية البنان ـ الذي يحتوي على البصمة ـ وتركيبه في موضعه كما كان، فما بالك بالعظام الكبار؟!

إذًا فلفظ “التسوية” مناسب ـ هنا ـ تمام المناسبة لما سبق؛ إذ إن الأمر ليس مقصورًا على خلق البنان فحسب، وإنما يحتاج ذلك إلى تسوية وإتقان؛ حتى يكون البنان خاتمًا خاصًّا لكل إنسان، يميزه من غيره من البشر، وهذا هو الإعجاز العلمي الذي أشار إليه الخالق جلَّ وعلا في الآية الكريمة.

يقول ابن عاشور: “أُريد بالتسوية إعادة خلق البنان مُقوَّمة متقنة؛ فالتسوية كناية عن الخلق؛ لأنها تستلزمه، فإنه ما سُوِّي إلا وقد أُعيد خلقه؛ قال تعالى:)الذي خلق فسوى (2)((الأعلي)”([40]).

هذا بالإضافة إلى أن التسوية كما يقول علماء الأجنة هي مرحلة تميز الإنسان من غيره من المخلوقات؛ فالجنين قبل الشهر الثالث يكون أشبه بالحيوانات، لا تستطيع أن تميزه منها، فإذا جاء هذا الشهر بدأت مرحلة التصوير والتسوية والتعديل؛ حتى يصير الجنين في أحسن تقويم([41])؛ قال الله تعالى: )لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)( (التين).

وبذلك تذهب شبهة هؤلاء الطاعنين أدراج الرياح، وينجلي الفهم الصحيح للآية الكريمة واضحًا جليًّا، كالشمس في رابعة النهار.

3)  وجه الإعجاز:

لقد كشف العلم حديثًا النقاب عن بعض أسرار البنان؛ فأثبت أن جلد البنان (أطراف الأصابع) يحتوي على رسوم وخطوط بأشكال معينة ـ وهو ما يُعرَف باسم “البصمة” ـ تُرسم بعناية فائقة في نهاية الشهر الثالث وبداية الشهر الرابع من عمر الجنين، وهو لا يزال في بطن أمه، ثم تبقى هذه الخطوط بما تحويه ثابتة لا تتغيَّر أبدًا؛ حتى تبقى هوية ربانية دائمة لكل واحد من البشر.

كما أثبت العلم حديثًا أن البصمة لا تتطابق في فردين أبدًا؛ حتى لو كانا من التوائم المتماثلة، بل لا تتطابق بين أصبعين من أصابع اليد الواحدة أو القدم الواحدة في الفرد الواحد. وهذا ما حدا بالشرطة الجنائية والمخابرات في معظم دول العالم إلى الاستفادة منها في تتبُّع الأشخاص المطلوبين للعدالة أو المجرمين.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان؛ فقال تعالى: )بلى قادرين على أن نسوي بنانه (4)((القيامة)،جوابًا لنفي البعث في قوله السابق: )أيحسب الإنسان أَلَّنْ نجمع عظامه (3)((القيامة)،أفلا يُعدُّ هذا إعجازًا علميًّا رائعًا، تتجلَّى فيه طلاقة قدرة الخالق عز وجل، القائل في كتابه: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق((فصلت: ٥٣). 

(*) الرد على ادعاء الإعجاز في تسوية البنان، مقال منشور بموقع: مع اللادينيين والملحدين العرب www.ladeenion1.blogspot.com.الرد على الإعجاز الوهمي في تسوية البنان، مقال بمنتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.

[1]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص205 بتصرف.

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص157، 158.

[3]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا، مرجع سابق، ص206 بتصرف.

[4]. انظر: القرآن والطب الحديث، د. أحمد شوقي الفنجري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000م، ص128.

[5]. آيات سبقت العلم، د. مها محمد فريد عقل، مرجع سابق، ص6.

[6]. من معجزات القرآن ما بين الطب والعلوم الحديثة، د. سامي نوح حسن الموسوي، مرجع سابق، ص346 بتصرف.

[7]. الموسوعة العالمية في إعجاز القرآن والسنة النبوية المطهرة، أشرف فتحي الجندي، دار الروضة، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص316، 317 بتصرف.

[8]. معجزات القرآن العلمية في الإنسان مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، مرجع سابق، ص54.

[9]. من معجزات القرآن ما بين الطب والعلوم الحديثة، د. سامي نوح حسن الموسوي، مرجع سابق، ص346.

[10]. قام معهد الدراسات والأبحاث والأدلة الجنائية في شيكاغو بأمريكا بدراسة هذا الإعجاز، فاستعان بالحاسب الآلي وعلم الاحتمالات، وأفاد بأنه احتمال تماثل بصمتين تماثلًا كليًّا يمكن أن يكون مرة واحدة في كل 127 تريليار بصمة (أي 127 وأمامها 21 صفرًا)، وهو ما يقرب من اثني عشر مليون مليون مرة ضعف تعداد العالم كله، ترى كم يحتاج هذا العدد من الزمن لكي تتكرر بصمة واحدة؟!

[11]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا، مرجع سابق، ص206.

[12]. هذا العدد كان عندما كتب المؤلف كتابه، أما الآن فهو أكثر من ذلك.

[13]. علم البصمات، العقيد إبراهيم غازي، نقلًا عن: إشارات قرآنية للعلوم الرياضية والإعجاز الحسابي، عبد الباسط محمود بخيت، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006م، ص165: 170 بتصرف.

[14]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص156.

[15]. آيات سبقت العلم، د. مها محمد فريد عقل، مرجع سابق، ص5، 6.

[16]. لسان العرب، المعجم الكبير، مادة: بنن.

[17]. المخصص، باب: الأصابع وما فيها.

[18]. مقاييس اللغة، مادة: بن.

[19]. معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: بنن.

[20]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، عند تفسير قوله تعالى: )بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه (4)( (القيامة).

[21]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص94.

[22]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص448.

[23]. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، مرجع سابق، ج4، ص365.

[24]. نظم الدرر، البقاعي، تحقيق: عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ/ 1995م، عند تفسير قوله تعالى: )بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه (4)( (القيامة).

[25]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3768 ، 3769.

[26]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، عند تفسير هذه الآية.

[27]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص94.

[28]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص448.

[29]. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، مرجع سابق، ج4، ص365.

[30]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مرجع سابق، ج8، ص372.

[31]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج14، ج29، ص339.

[32]. انظر: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص62.

[33]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص159.

[34]. القرآن والطب الحديث، د. أحمد شوقي الفنجري، مرجع سابق، ص127 بتصرف.

[35]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص159 بتصرف.

[36]. القرآن والطب الحديث، د. أحمد شوقي الفنجري، مرجع سابق، ص127 بتصرف.

[37]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، مرجع سابق، ص169، 170.

[38]. القرآن والطب الحديث، د. أحمد شوقي الفنجري، مرجع سابق، ص127، 128 بتصرف.

[39]. الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، مرجع سابق، ص243، 244 بتصرف.

[40]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج14، ج29، ص341.

[41]. انظر: خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص372: 375.

الزعم بخطأ القرآن العلمي لإثباته الزوجية في كل الكائنات

مضمون الشبهة:

يزعم الطاعنون أن القرآن قد أخطأ من الناحية العلمية في قوله تعالى:)ومن كل شيء خلقنا زوجين(  (الذاريات: ٤٩)؛ إذ إن الآية تنص على ثبوت الزوجية في كل شيء في الكون- الكائنات الحية وغيرها- وهذا يعني أن كل شيء في الكون يتكون من ذكر وأنثى، وهذا غير صحيح، كما أن هذه الآية تتجاهل التكاثر اللاجنسي الذي يحدث في الكائنات الضئيلة مثل: الأميبا وسائر أنواع البكتيريا وكثير من أنواع النباتات، فأين الزوجية في كل الكائنات إذًا؟ وكيف يتفق القرآن مع حقائق العلم؟

وجها إبطال الشبهة:

1)  بالرجوع إلى أقوال أهل اللغة في معنى كلمة “زوج” يتبين أن لها عدة معان منها: الذكر والأنثى، والقرينان كالخف والنعال والجوارب، وكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا، وأنواع متشابهة وأصناف متعددة، وغير ذلك من المعاني التي ذكرها أهل اللغة، مما يبين أن قصر الزوجين على الذكر والأنثى فقط يدل على قصور فهم من الطاعن.

2)  لقد أثبت العلم حديثًا وجود الزوجية في كل شيء في الكون، وهذه الزوجية لا تقتصر على الكائنات الحية فحسب؛ حيث توجد في الإنسان والحيوان والنبات والخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية والأحماض الأمينية والذرة والطاقة… بل تستمر هذه الزوجية في كل أمر من أمور الكون.

التفصيل:

أولاً. الزوجية في اللغة لا تقتصر على الذكر والأنثى:

قبل الحديث عن الحقائق العلمية المتعلقة بالزوجية في الكائنات الحية، وأقوال أهل العلم في ذلك- لا بد من مناقشة ما أثاره المشتبه من زعمه أن قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)((الذاريات)؛ يعني أن كل المخلوقات الحية وغير الحية تتكون من زوجين: ذكر وأنثى، فهل ما أثاره المشتبه يتفق مع أقوال اللغويين والمفسرين في هذه الآية الكريمة، هذا ما سنفصل فيه القول في السطور الآتية:

·معنى الزوج في القرآن الكريم:

يقول الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن عند بيانه معنى كلمة الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها زوج؛ كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا زوج، قال تعالى:)فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة)، وقال: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة((البقرة: ٣٥)، وجمع الزوج: أزواج.

وقوله تعالى: )هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56)((يس)، و )احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله((الصافات / 23:22)؛ أي: أقرانهم المقتدين بهم في أفعالهم،)ولاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم((طه: ١٣١)؛ أي: أشباهًا وأقرانًا، وقوله: )سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)((يس)، )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكمتذكرون (49)( (الذاريات)، فتنبيه أن الأشياء كلها مركبة من جوهر وعَرَض، ومادة وصورة، وأن لا شيء يتعدى من تركيب يقتضي كونه مصنوعًا، وأنه لا بد من صانع؛ تنبيهًا إلى أنه تعالى هو الفرد.

وقوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)، فبيَّن أن كل ما في العالم زوج من حيث أن له ضدًّا، أو مثلاً ما، أو تركيبًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب، وإنما ذكر ها هنا “زوجين” تنبيهًا أن الشيء وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركيب جوهر وعَرَض، وذلك زوجان.

 وقوله:)وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى (53)(    (طه)؛ أي: أنواعًا متشابهة، وكذلك )وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10)((لقمان)، و )ثمانية أزواج من الضأن اثنينومن المعز اثنين((الأنعام: ١٤٣)؛ أي: أصناف، وقوله تعالى:)وكنتم أزواجًا ثلاثة (7)((الواقعة)؛ أي: قرناء ثلاثة، وهم الذين فسرهم فيما بعد؛ أي: في قوله تعالى: )فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحابالمشأمة ما أصحاب المشأمة (9) والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11)((الواقعة)، وقوله تعالى:)وإذا النفوس زوجت (7)((التكوير)؛ فقد قيل: قَرَنَ كلَّ شيعة بمن شايعهم في الجنة والنار نحو:)احشروا الذينظلموا وأزواجهم( (الصافات: ٢٢)([1]).

ويقول الزبيدي في تاج العروس: “ويوقعون- أي العرب- الزوجين على الجنسين المختلفين، نحو: الأسود والأبيض، والحلو والحامض”، ثم يقول: “والأصل في الزوج: الصنف والنوع من كل شيء، وكل شيئين مقترنين، شكلين كانا أو نقيضين: فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج”([2]).

ويقول ابن منظور في لسان العرب: “والزوج: الصنف من كل شيء، وفي التنزيل:)وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج)، قيل: من كل لون أو ضرب حسن من النبات”([3]).

وفي معجم اللغة العربية المعاصرة: “زوج:

1.   خلاف الفرد: مثل زوج من الجوارب.

2.   رجل المرأة، ويقال له كذلك: بعل، قرين.

3.   امرأة الرجل. 

4.   شكل له نقيض، كل واحد معه آخر من جنسه مثل (ذكر وأنثى) و(رطب ويابس) و (أسود وأبيض).

5.   شبيه وقرين، كقوله تعالى:)احشروا الذين ظلموا وأزواجهم( (الصافات: ٢٢).

6.   صنف: )وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج).

7.   اثنان من النوع نفسه أو متماثلان في الشكل والوظيفة”([4]).  

  ومما سبق من كلام أهل اللغة حول دلالة كلمة “زوج” نستنتج أن معنى الزوج في القرآن الكريم يشمل المعاني الآتية:

1.   الذكر والأنثى في الكائنات الحية.

2.   القرينين كالخف والنعال والجوارب.

3.   كل ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادًّا.

4.   الأشياء مكونة من جوهر وعَرَض ومادة وصورة.

5.   كل شيء مخلوق ومصنوع.

6.   الضد، والمثل، والتركيب.

7.   أنواعًا متشابهة.

8.   أصنافًا متعددة.

9.   قرناء في المكان والزمان([5]).

وهكذا يتبين أن قصر الزوجين على الذكر والأنثى فقط هو قصور في فهم الآية الكريمة؛ فالزوج في اللغة لا يقتصر على الذكر والأنثى كما توهم المشكك.

وإذا كان الأمر كذلك فإن هناك عدة أسئلة تطرح نفسها بعد هذا البيان هي: لماذا  أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى خلق زوجين من كل شيء؟

وماذا تعني الزوجية في كل المخلوقات إذا كانت كلمة زوج في اللغة لا تعني الذكر والأنثى فقط؟

وإذا كنا نعلم كما يعلم السابقون وقت نزول القرآن بزوجية الذكر والأنثى، فما هي الأزواج الأخرى التي لم يكن يعلمها السابقون وعلمناها نحن بفضل التقنيات العلمية الحديثة؟

كل هذه الأسئلة نجيب عنها في ضوء العلم الحديث من خلال الوجه الآتي:

ثانيًا. ثبوت الزوجية في كل شيء في الكون:

1)  الحقائق العلمية:

أ- الزوجية عند الإنسان والحيوان:

يبقى التكاثر بالتزاوج الجنسي بين الأعضاء الأنثوية والذكرية القاعدة العامة عند الإنسان، وعند أغلب الحيوانات، وكذلك عند النباتات، هذا التكاثر الجنسي المسمَّى بـ (التلاقح التقاطعي) بين الذكر والأنثى، والذي يمكن أن يكون خارجيًّا أو داخليًّا،له أهمية كبيرة في تكوين كائن جديد بعد تمازج الصبغيات التي تحمل تنوعًا في الخصائص الوراثية لصفات الأبوين.

فـ (التلاقح الخارجي) يُوجد مثلاً عند توتياء البحر أو أخينوس (oursin) الذي يُعرف بصعوبة التمييز بين ذكره وأنثاه، وعند حلول موسم التلاقح تتجمع توتياء البحر، وتقذف الأنثى مادة برتقالية اللون في مياه البحر، ويقذف الذكر مادة بيضاء، وهذه الخلايا الجنسية تُنتج في خمس غدد داخل القشرة الصلبة للحيوان؛ حيث تجذب الحوينات الذكرية من طرف البويضات وتلتف حولها، وكلبويضة تُلقح بحيوان واحد يقوم بوضع مادته الجينية داخل نواة البويضة التي بداخلهاكذلك مادتها الجينية؛ وبذلك تتم عملية (التلقيح الخارجي) التي تؤدي إلى دمج المادتين الجينيتين، وخلق خلية بويضة، التي تنقسم إلى أجزاء متعددة: 2، 4، 8… إلخ،وتكون بعد ذلك جنينًا، ثم يرقانة تتحول بعد ذلك إلى توتياء بحري ذكري أو أنثوي؛ وبهذا تكتمل الدورة التكاثرية الجنسية لهذا الحيوان، وأيضًا يحدث هذا النوع من التزاوج في الضفدعة.

أما (التلاقح الداخلي) فنجده بالطبع عند الإنسان وباقي الحيوانات الثديية؛ حيث إن ولادة كائن جديد يشكِّل حدثًا يكون في الحقيقة آخر مرحلة في سلسلة من الصيرورات الكيميائية والجسدية المعقدة عند الذكر والأنثى، ويمكن اعتبار الاتصال الجنسي بين الذكر والأنثى أولحلقة في هذه السلسلة التوليدية التي يليها الإخصاب، وهو اتحاد حيوان منوي أو مشيج ذكوري بالبويضة أو مشيج أنثوي كما هو الحال عند الإنسان، هذه العملية تتمخض عن مضغة أولى، تصبح فيما بعد جنينًا يتطور تدريجيًّا خلالمدة الحمل إلى أن يكتمل ويخرج إلى الوجود.

 وعندما يصل الحوين المنوي إلى الطبقة الخارجية للبويضة يرتبط الغشاء الخارجي لرأس الحوين ببروتين خاص يعرفه، ومع بدء هذا الارتباط يبدأ غشاء الغلاف الحافظ (الأكروزوم) بالذوبان، وفي الوقت نفسه يبدأ غشاء البويضة بإفراز مادة اسمها (نروتيزيلين) لجذب الحوينات إليها، وهذه المادة تزيد من قابلية حركة الحوينات لتأمين تفاعلها مع غشاء البويضة كما تزيد من تأثير (الأكروزوم) الموجود في رأس الحوين.

وبملامسة الحوين غشاء البويضة تدخل مواد أخرى دائرة العمل فتحقق فعاليات جديدة، يقوم بعد ملامسته للبويضة بإفراز مادة اسمها (أنتي- فرتيزيلين)، وهدفها تحييد مادة (الفرتيزيلين) وإزالة أثرها، وبهذا يوقف أول حوين يصل إلى البويضة وصول الحوينات الأخرى إليها، فبعد ثانيتين فقط من دخول الحوين إلى البويضة يقوم الغشاء المحيط بالبويضة بتحييد نفسه، فلا يسمح أبدًا لأي حوين آخر بالدخول، وإضافة إلى الإنزيمات تلعب الشحنة الكهربائية للبويضة وللحوين دورًا في عملية الإخصاب؛ فالبويضة تحمل شحنة سالبة على الدوام، بينما يحمل كل حوين شحنة موجبة، وبما أن الشحنات المتضادة تتجاذب فإن البويضة تجذب إليها جميع الحوينات، ولكن ما إن ينجح أحد الحوينات في الدخول إلى البويضة حتى تتغير الشحنة الكهربائية، فتتحول شحنة البويضة لتصبح شحنة موجبة (أي الشحنة نفسها التي تحملها الحوينات)، وبما أن الشحنات المتشابهة تتنافر فإن الذي يحصل- بعد أنيتم الاتحاد بين البويضة والحوين- أن البويضة تبدأ بدفع وطرد الحوينات الأخرى.

بعد ذلك يتم الدخول في المرحلة النهائية لعملية الإخصاب التي تبدأ عند دخول الحوين إلى البويضة؛ حيث ينفصل عنه ذَنَبُه ويبقى في الخارج، حيث تترك الحوينات أذنابها عند دخولها إلى البويضات([6]) !

صورة توضح الزوجية في الحيوان

ب‌- الزوجية في الكائنات الحية الدقيقة:

·      البكتيريا:

ثبت أن في البكتيريا خلايا موجبة وخلايا سالبة، ويحدث التزاوج الجنسي بين الخليتين بخروج أنبوب تزاوج، خيطي طويل يوصل بين الخليتين، وتقوم الخلية الموجبة بإفراغ محتواها في الخلية السالبة عبر الأنبوب.

·      الفطريات:

تنقسم الفطريات إلى أقسام حسب نوع التكاثر الجنسي، فهناك الفطريات البيضية التي تتكاثر تزاوجيًّا بالأؤوجونة (Oogonium) المؤنثة والأنثريدة (Antheridia) المذكَّرة، وقسم الفطريات التزاوجية الذي تتكاثر فطرياته بالتزاوج بين خيط موجب وخيط سالب، وقسم الفطريات الزقية الذي يتكاثر جنسيًّا ليعطي الجراثيم الزقية، وقسم الفطريات البازيدية الذي يتكاثر جنسيًّا ثم يعطي الجراثيم البازيدية، وهناك قسم الفطريات الناقصة الذي لم نكتشف بعد نوع التكاثر فيه، وكل فطر نكتشف تكاثره الجنسي من هذا القسم, ننقله إلى القسم الموافق له في التركيب الخيطي وغيره, فيجب ألا يخدعنا أحد بهذا القسم أنه لا يتكاثر جنسيًّا, إنه يتكاثر جنسيًّا, ولكن لم نتعرف على نوع التكاثر الجنسي فيه، ولا يوجد دليل علمي يثبت أنه لا يتكاثر جنسيًّا, فقط علمنا لم يصل بعد إلى اكتشاف التكاثر الجنسي في هذا القسم وكل يوم تتناقص أعداد أجناس هذا القسم، باكتشافنا للتكاثر الجنسي فيها.

·      الطحالب:

أما الطحالب فجميعها تتكاثر بالتكاثر الجنسي، وهذا معلوم لجميع طلاب كليات العلوم والزراعة الدارسين للطحالب؛ فالإسبيروجيرا يتكاثر جنسيًّا، والكلاميدوموناس والباندوراينا والفولفوكس والكلوريللا وكل الطحالب تتكاثر جنسيًّا, ومن يجهل ذلك عليه البحث فيه، والإتيان بخلاف ذلك بالدليل العلمي الموثَّق، وليس بالكتب القديمة التي لم تحدث معلوماتها إلى الآن([7]).

ت‌- الزوجية في النباتات:

يقرر العلم الحديث أن أزهار النباتات على اختلاف أنواعها تنقسم ثلاثة أقسام: أزهار مذكَّرة، وأزهار مؤنَّثة، وأزهار خُنْثَى تجمع الناحيتين من عضو التذكير وعضو التأنيث معًا، ومن الأمثلة الموضِّحة لذلك النخيل، فمنه نوع مذكر وآخر مؤنث، نبات الذرة يحمل في وقت واحد أزهارًا مذكرة وأخرى مؤنثة([8]).

ولتحقيق التزاوج بين النباتات خلق الله عز وجل أجنة نباتية تنشأ من التزاوج بين أعضاء التذكير والتأنيث؛ حيث ينتج النبات المزهر الحامل لحبوب اللقاح الدقيقة في مخاريط اللقاح الذكرية للأسدية، وهي الجزء المذكر من الزهرة.

صور التلقيح بين النباتات:

تحدث عملية التلقيح عندما تحمل الرياح أو الحشرات كالنحل وغيره حبوب اللقاح من مخاريط اللقاح الذكرية إلى الجزء المؤنث، والمسمَّى (المدقة)، الذي يضم المخاريط البذرية الأنثوية التي تصل المبايض التي تنتج البويضات، وبعد التلقيح تنشأ الأجنة النباتية.

وتلعب الهرمونات النباتية دورًا مهمًّا في عملية التلقيح، بحيث يفرز داخل (المدقة) سائل هرموني مائي لزج يسهل هبوط حبوب اللقاح- بفعل الجاذبية- في المخاريط البذرية الأنثوية، ويحدث النمو وتتكون الثمرات بعد عملية التلقيح.

وعملية التلاقح داخل مدقة زهرة تبدأ بهبوط حبوب اللقاح عبر المخروط لتصل إلى المبيض، وتلقح البويضة التي تتحول إلى جنين نباتي.

والتلقيح يمكن أن يكون ذاتيًّا أو غير ذاتي، فيمكن للبويضة الموجودة في البُذَيْرة أن تتلقح من حبة لقاح قادمة من حبات اللقاح للزهرة ذاتها، أو من زهرة أخرى موجودة على ذات النبتة، وفي كلتا الحالتين تُسمى عملية التلقيح هذه (تلقيحًا ذاتيًّا)، وقد سُمِّيت بهذا الاسم؛ لأن عملية التلقيح تتم ضمن نبتة واحدة.

أما إذا كانت حبة اللقاح قادمة من زهرة مجاورة- أي ليس من النبتة ذاتها- فإن هذه الحالة تُسمى (تلقيحًا غير ذاتي)، وكلتا الطريقتين عادية، ولكن لـ (التلقيح غير الذاتي) نتائج أفضل؛ حيث ينتج محاصيل وبذورًا أكثر، وذات جودة عالية كنبات الذرة، كما له ميزات تساعد في تطور خصائص النبات؛ فعندما تتلقح النبتة التي تحمل مثلاً خصائص (القدرة على محاربة الصقيع) مع نبتة أخرى من ذات النوع عندها خاصية (ضخامة ثمارها)، فسيكون هناك احتمال لبروز ذرية لديها خاصية محاربة الصقيع وخاصية ضخامة الثمار معًا.

وتتميز معظم الأزهار التي تُلقح عن طريق الطيور والحشرات بأن لها أزهارًا ملونة، ورائحة تجذب بها الحيوانات والحشرات، وعند ملامسة تلك الحيوانات للزهرة تلتصق حبوب اللقاح بأجسامها فتحملها بعد ذلك إلى الأزهار الأخرى، وتحمل الرياح اللقاح من زهرة إلى أخرى، ومن مخروط إلى آخر، وتتميز معظم الأزهار التي تُلقح بوساطة الرياح بأنها ليست ذات ألوان زاهية أو رائحة عطرية([9]).

وهنالك صور غريبة ومثيرة للكيفية التي يتم بها اللقاح بين النبات، ومن هذه الصور:

أن هناك كثيرًا من الأزهار تسجن الحشرات داخلها، ومن أمثلتها الزهرة المسماة “جاك في المقصورة”، ولهذا النبات نوعان من المجموعات الزهرية: ذكور وإناث، وهي تتكون داخل مقصورات تضيق عند منتصفها، ويتم التلقيح بواسطة ذبابة دقيقة تدخل إلى المقصورة، ولا تكاد تجتاز المنطقة الضيقة الوسطى حتى تجد نفسها سجينة، ليس بسبب الضيق فحسب، بل بسبب تغطية الجدران الداخلية بمادة شمعية منزلقة يتعذر معها على الحشرة أن تثبث أقدامها، وعندئذ تدور الحشرة بصورة جنونية داخل المكان، فتعلق حبوب اللقاح بجسمها، وبعد قليل تتصلب جوانب المقصورة بعض الشيء، فتستطيع الحشرة الخروج بعد أن يكون جسمها قد تغطَّى بحبوب اللقاح.

فإذا زارت مقصورة مذكرة أخرى تكررت العملية السابقة نفسها، أما إذا دخلت مقصورة أنثى، فإنها تُسجن في داخلها سجنًا دائمًا حتى تموت هي، وعند محاولتها اليائسة للخروج تقوم بتلقيح الأزهار الأنثى.

إن النبات في هذه الحالة لايهتم بخروج الحشرة؛ لأنها تكون قد أدت رسالتها، أما عند زيارتها للمقصورات المذكرة فإنه يُسمح لها بالخروج؛ لأنها لا تكون قد أدت رسالتها.

والزهرة هي عضو النبات المنوط بالتكاثر؛ ففيها أعضاء التذكير أو أعضاء التأنيث، وتُحاط هذه الأعضاء بطبقتين من الأوراق، تمتاز الخارجية منها بأوراقها الخضراء، وتتميز الداخلية بأوراقها التي كثيرًا ما تكون ملونة وذات رائحة جذابة، ورحيق حلو المذاق، وربما احتوت الزهرة الواحدة على كل أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث، وإما أن تكون مذكرة فقط أو مؤنثة فقط، وفي كل من الحالتين لا بد أن تتحد حبة اللقاح بنواة البيضة؛ ليتم تكوين الحبة أو البذرة التي تجمع من صفات كل من الأب والأم، وللتلقيح طرق كثيرة منها ما يقوم به الإنسان، كما في النخيل، ومنها ما تقوم به الحشرات، ومنها ما يقوم به الهواء، ومنها ما يتم بواسطة تيارات الماء.

وتمتاز الأزهار التي تُلقح بالهواء أن أعضاءها التناسلية معرضة للهواء، فتطول خيوط الأسدية وتستدق وتكبر المتك، وتتدلى خارج الزهرة حتى تهزها الرياح، فتتساقط منها حبات اللقاح خفيفة ملساء؛ حتى يسهل حملها بالهواء إلى المياسم التي أعدتها هي الأخرى لهذا اللقاء.

فإذا ما قام الهواء بنصيبه وسقطت حبة اللقاح على الميسم، والتصقت به وبرزت منها أنبوبة تُعرف بأنبوبة اللقاح التي لا تلبث أن تنمو وتخترق أنسجة الميسم والقلم، حتى تصل إلى المبيض؛ حيث توجد البويضات، ويتم تلقيح البويضة([10]).

هذا عن تكاثر النباتات المزهرة، أما النباتات غير المزهرة فتتكاثر بالنوعين: الجنسي وغير الجنسي، وذلك على مرحلتين في دورة واحدة تُعرف باسم “دورة تبادل الأجيال”، في المرحلة الأولى منها ينتج النبات كلاًّ من الخلايا الجنسية الذكرية والأنثوية، وتنفصل الخلايا الذكرية، وتتحرك في الأوساط المائية للوصول إلى خلية أنثوية من نبات آخر من النوع نفسه، والقيام بتلقيحها وإخصابها بالاتحاد معها، وفي المرحلة الثانية ينتج النبات خلايا تناسلية اسمها “الأبواغ” تتناثر عن النبات الحامل لها عند نضجها، وتنمو في الأوساط المناسبة لها نباتًا جديدًا.

ث‌- الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية‏:‏

أعطى الخالق سبحانه وتعالى لجسم الذكر البالغ القدرة على إنتاج خلايا جنسية ذكرية تُعرف باسم الحيوان المنوي‏,‏ كما أعطى لجسم الأنثى القدرة على إنتاج خلايا جنسية أنثوية تُعرف باسم البُيَيْضة ‏(تصغير بيضة‏),‏ وهذان الزوجان من الخلايا التناسلية إذا اتحدا فإنهما يكونان معًا نطفة مختلطة ‏(نطفة أمشاج‏)‏ إذا انغرست في جدار الرحم فإنها تبدأ في الانقسام المطرد بإذن الله لتخليق مولود جديد‏، ليس هذا فحسب، بل‏ يوجد في كل حيوان منوي صبغي جنسي واحد، إما (‏X‏) ويعني: الأنوثة، أو (‏Y‏) ويعني: الذكورة‏,‏ وتحتوي البييضة على الصبغي الأنثوي (‏X),‏ بينما الحيوانات المنوية إما أن تحمل الصبغي المذكر أو المؤنث‏,‏ فإذا كان الحيوان المنوي الذي أخصب البييضة مما يحمل صبغي التذكير جاء الجنين ذكرًا بإذن الله‏,‏ وإذا كان مما يحمل صبغي التأنيث جاء المولود أنثى بإذن الله‏.‏

فالزوجية موجودة حتى في نطف الذكر‏,‏ وليست بين نطفة الذكر ونطفة الأنثى فقط‏.‏

الزوجية تتضح في صبغيات الخلية البشرية للرجل

ج‌-  الزوجية في الصبغيات نفسها‏:‏

توجد الصبغيات في نواة الخلية الحية على هيئة خيوط متشابكة من مادة تُسمى باسم المادة المصبوغة أو كروماتين‏ (Chromatin).‏

تعطي للنواة مظهرًا شبكيًّا أو حبيبيًّا‏,‏ وتتكون هذه الصبغيات إلى حد كبير من الحمض النووي المعروف باسم الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين، أو الحامض الرايبوزي اللاأكسجيني‏ (DeoxyribonucleicAcidorDA) الذي يحمل الشفرة الوراثية للخلية‏,‏ بالإضافة إلى كَمّ من البروتينات بنسب متساوية تقريبًا، وكل واحد من هذه الصبغيات ‏(التي يعتبر عددها من العوامل المحددة للنوع‏)‏ يتكون من شريطين متصلين ببعضهما بجزء دقيق يُعرف باسم اللحمة المركزية ‏(Centromere) له مكان محدد على كل صبغي‏,‏ يكون أحيانًا قريبًا من وسط الصبغيين‏,‏ وغالبًا قرب أحد طرفيهما‏,‏ وهذه صورة من صور الزوجية المبهرة في الخلق‏.‏

ح‌-  ‏الزوجية في بناء جزيء الحمض النووي‏,‏ وفي بناء كل من سلمياته وجداريه‏:‏

ينبني كل جزيء من جزيئات الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين‏ (DNA) على هيئة سلم حبلي مفتول‏(أو ما يُعرف باسم اللولب المزدوج‏)‏ تتضح فيه الزوجية في جانبيه المصنوعين من جزيئات سكر الريبوز المنقوص الأكسجين‏,‏ وجزيئات من الفوسفات‏,‏ كما تتضح الزوجية في درجات هذا السلم الحبلي المفتول والتي تتكون كل درجة من درجاته من زوج من أربع قواعد نيتروجينية هي‏:‏ الأدينين‏ (Adenine=A), والثيامين‏ (Thyamine=T), والجوانين‏ (Guanine=G), والسيتوسين‏ (Cytosine=c)‏ على أن يرتبط الأولان في زوجية واضحة معًا‏,‏ وأن يرتبط الأخيران كذلك معًا‏,‏ ومعًا فقط في زوجية واضحة كذلك‏,‏ ليشكل كل زوج منهما درجة من سلميات جزيء الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين ‏(DNA)‏ على شكل نويدتين تتكون كل منهما من قاعدة نيتروجينية مستندة إلى زوج من السكر والفوسفات؛ تأكيدًا على أن الزوجية في الخلق من أدق الدقائق إلى أكبر الوحدات‏.

الزوجية في الخلق تتضح في بناء جزيء الحمض النووي الريبي منزوع الأكسجين الذي تُكتب به

الشفيرة الوراثية بداخل نواة الخلية الحية على هيئة لولب مزدوج الجانب

خ‌-  الزوجية في بناء كل من الأحماض الأمينية والبروتينات‏:‏

تُعد الأحماض الأمينية الوحدة البنائية الأساسية لمختلف جزيئات المواد البروتينية التي تنبني منها أجساد الكائنات الحية‏، والأحماض الأمينية من الأحماض الدهنية‏,‏ التي تذوب في الماء بسهولة في أغلب الأحيان‏,‏ ولها في حالتها المتبلورة نشاط ضوئي ملحوظ بسبب احتواء جزيئاتها على ذرة كربون محاطة بأربع مجموعات مختلفة هي‏:‏ مجموعة الأمين ‏(NH2) ومجموعة الكربوكسيل ‏(COOH) ومجموعة الحمض ‏(R)؛ وذرة إيدروجين ‏(H)؛ ولذلك فالجزيء غير متماثل‏,‏ وتتحرك هذه المجموعات لتتبادل الأوضاع حول ذرة الكربون؛‏ فقد توجد مجموعة الأمين ‏(NH2)‏ في مواضع مختلفة بالنسبة لمجموعة الكربوكسيل‏.‏

ونظرًا لعدم تماثل جزيء الحمض الأميني، فإن كل واحد من الأحماض الأمينية يمكن أن يوجد في شكلين أحدهما يدير مستوى الضوء المستقطب إلى اليمين، ويُعرف باسم الشكل اليميني‏ (Right-handedisomer)‏، والشكل الآخر يديره إلى اليسار‏، ويُعرف باسم الشكل اليساري‏ (Left-handedisomer)، وقد ثبت أن الأحماض الأمينية في أجساد جميع الكائنات الحية ‏(النباتية والحيوانية والإنسية‏)‏ هي من الأشكال المرتبة ترتيبًا يساريًّا‏,‏ فإذا ما مات الكائن الحي فإن الأحماض الأمينية اليسارية الترتيب في بقايا جسده تبدأ بإعادة ترتيب الذرات في داخل جزيئاتها من الترتيب اليساري إلى الترتيب اليميني بمعدلات ثابتة حتى يتساوى الشكلان‏,‏ ويُعـرف هذا الخـليط باسم الخـليط الراسمي‏ (RacemicMixture)‏، وهو خليط لا يمكنه تحريك مستوى الضوء المستقطب‏,‏ ولكنه يمثل صورة من صور الزوجية في أضيق صورها‏.‏

ويمكن استخدام نسبة الشكلين اليميني واليساري للحمض الأميني الواحد في بقايا أي من النبات أو الحيوان أو الإنسان في تحديد لحظة وفاته بدقة بالغة‏.‏

ومعروف من الأحماض الأمينية البانية للبروتينات عشرين نوعًا، كل منها ممثل بزوجية واضحة‏,‏ وباتحاد هذه الأحماض الأمينية العشرين يمكن بناء أكثر من مليون نوع من أنواع البروتينات‏,‏ والخلية الحية في جسم الإنسان قد أعطاها الله تعالى القدرة على إنتاج مئتي ألف نوع من أنواع البروتينات‏,‏ وبالمثل فإن كل جزيء من جزيئات البروتينات العديدة يمكن أن يكون له شكل يميني وآخر يساري‏,‏ وهي في أجساد جميع الكائنات الحية من الشكل اليساري‏.‏

وكذلك النويدات على الصبغيات- وهي أصغر وحدات الحمض النووي الريبي، والريبي المراسل (‏DNA,RNA‏)- منها اليميني واليساري‏,‏ وكلها في أجساد الكائنات الحية من الشكل اليميني‏.

وفوق ذلك فإن كل واحد من البروتينات له ضده (ProteinsAndAntiproteins), وكل جسم من الأجسام المكونة من البروتينات له ضده (BodiesAndAntibodies‏)، بالإضافة إلى أن من البروتينات بروتينات بانية وأخرى هادمة (ConstructiveProteinsandDestructiveones).

د‌- الزوجية في المادة وفي مركباتها‏:‏

تتضح الزوجية في مركبات المادة في شقيها الموجب (‏Cation‏) والسالب (‏Anion)، كما تتضح في تركيب الذرة بنواتها التي تحمل شحنة موجبة وإلكتروناتها التي تدور حول النواة حاملة شحنة سالبة مكافئة‏.‏

وقد ثبت أن للمادة قرابة الثلاثين نوعًا من أنواع اللبنات الأولية‏,‏ وكل واحدة منها لها نقيضها‏,‏ كما أن الجسيمات الأولية للمادة لها لكل جسيم نقيضه‏,‏ وأن المادة ككل لها نقيض المادة‏,‏ وإذا التقت النقائض فإن كل واحد منها يفني نظيره‏؛‏ لأنهما يتخليان عن طبيعتهما المادية‏,‏ ويتحولان إلى طاقة تعلن عن فناء المادة‏,‏ ومن هنا كان الوجود والعدم‏,‏ وكانت إمكانية الإيجاد من العدم- أي الخلق على غير مثال سابق-‏ وإمكانية الإفناء إلى العدم‏,‏ ولا يقدر على ذلك أحد غير الإله الخالق عز وجل‏,‏ وكذلك الطاقة فإن لكل صورة من صورها ما هو ضدها‏؛ فالكهرباء فيها الموجب والسالب‏,‏ والمغناطيسية فيها العادي والمقلوب المعكوس‏,‏ حتى الضوء له زوجية واضحة؛ لأنه يتحرك أحيانًا على هيئة أمواج‏,‏ وأحيانًا أخرى على هيئة جسيمات‏.‏

كذلك ثبت أن المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة ولجوهر واحد، كما خُلقت اللبنات الأولية للمادة على هيئة أزواج‏,‏ وتحويلها إلى طاقة على هيئة زوجية أيضًا‏,‏ وإمكانية رد الطاقة إلى حالة مادية.

فلكل جسيم في الذرة جسيم نقيض،‏ وهذه الجسيمات ونقائضها تكون المادة والمادة النقيضة‏,‏ وفي النقائض توجد كل الصفات نقائض معكوسة أيضًا من الشحنات الكهربية إلى المجالات المغناطيسية إلى اتجاهات الدوران‏,‏ وعلى ذلك فلا يمكن لمثل تلك النقائض أن تجتمع في مكان واحد وإلا أفنى بعضها بعضًا‏([11]).‏

2)  التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم آياته: )ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)( (الذاريات).

وفي هذه الآية الكريمة تأكيد على أن الزوجية آية من آيات الله في كل الكائنات، وقد سبق أن بينا معنى كلمة “زوج” في اللغة، وأنها لا تقتصر على معنى الذكورة والأنوثة فقط، والآن نقف مع أقوال المفسرين في بيان معنى هذه الآية الكريمة:

·  يقول الإمام القرطبي: “قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)؛ أي: صنفين ونوعين مختلفين. قال ابن زيد: أي: ذكرًا وأنثى، وحلوًا وحامضًا ونحو ذلك، وقال مجاهد: يعني: الذكر والأنثى، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والنور والظلام، والسهل والجبل، والجن والإنس، والخير والشر، والبكرة والعشي، وكالأشياء المختلفة الألوان من الطعوم والأراييح والأصوات؛ أي: جعلنا هذا كهذا دلالة على قدرتنا، ومن قدر على هذا فليقدر على الإعادة”([12]).

·  وذكر الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )ومن كل شيء خلقنا زوجين((الذاريات:49)،”أي: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات؛ ولهذا قال: )لعلكم تذكرون (49)( (الذاريات)؛ أي: لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له”([13]).

·  ويقول الإمام البغوي: “)ومن كل شيء خلقنا زوجين( (الذاريات:49)،: صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والحلو والمر”([14]).

·  ويقول الشيخ سيد قطب: “وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض- وربما في هذا الكون؛ إذ إن التعبير لا يخصص الأرض- قاعدة الزوجية في الخلق، وهي ظاهرة في الأحياء، ولكن كلمة “شيء” تشمل غير الأحياء أيضًا، والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية”([15]).

ومن خلال ما سبق من أقوال المفسرين يتبين أن الزوجية لا يقتصر معناها على الكائنات الحية فحسب، بل هي ثابتة في كل شيء، كما دلت على ذلك الآية الكريمة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا النص الكريم قد نزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا في زمن لم تكن فكرة عموم الزوجية حتى في عالم الأحياء معروفة، فضلاً عن عموم الزوجية في كل شيء، تبين لنا مدى المطابقة بين ما جاء به القرآن الكريم، وما توصل إليه العلم حديثًا عن اطراد الزوجية في كل شيء في الكون؛ في الإنسان، والحيوان، والنبات، والخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية، والحمض النووي، والأحماض الأمينية، والبروتينات، والذرة بنواتها التي تحمل شحنة موجبة وإلكتروناتها التي تحمل شحنة سالبة، وكذلك الطاقة وما تحمله من شحنات موجبة وسالبة… إلخ.

بل إن المتأمل في الكون يستطيع أن يستمر إلى ما لا نهاية؛ ليؤكد على حقيقة الزوجية في كل أمر من أمور هذا الكون، فصدق الله العظيم الذي أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق قبل أن يعلم أحد من البشر عنها شيئًا.

هل التكاثر اللاجنسي  ينفي الزوجية؟

أما ما زعمه المشتبه من أن التكاثر اللاجنسي دليل على نفي الزوجية عن بعض الكائنات البسيطة كالأميبا، فنحن نرد عليه زعمه بلغة العلم، ولو كلَّف المشتبه نفسه عناء البحث لمعرفة ما هو التكاثر اللاجنسي، وكيف يحدث لما أثار مزاعمه، ولعلم أنه لا ينفي الزوجية.

فإن كان التكاثر الجنسي كما هو معروف هو: إنتاج الكائن الحي لأفراد جديدة من نوعه عن طريق فردين (ذكر وأنثى) أو فرد واحد (خنثى) يحمل أعضاء التذكير والتأنيث معًا، وذلك باتحاد خلية ذكرية (الحيوان المنوي) مع خلية أنثوية (البويضة)، كل منهما فيه نصف عدد الصبغيات أو الكروموسومات الموجودة في خلية الذكر أو الأنثى، وينتج عن اندامجهما خلية ملقحة تسمى (الزيجوت)، وبها العدد الكامل من الصبغيات للكائن الحي.

هذه البويضة الملقحة (الزيجوت) تعتبر مثل الكائنات وحيدة الخلية، ولكنها تختلف عنها بأنها تقوم بعدة انقسامات ميتوزية لتكوين جميع خلايا الكائن الحي، وليس انقسام واحد كما في الكائن وحيد الخلية، فهذه الخلية الملقحة تبدأ بالانقسام إلى خليتين، ثم إلى أربع، ثم إلى ثمانية… وهكذا إلى أن يتم إنتاج جميع خلايا الكائن الحي.

أماالتكاثر اللاجنسي فهو إنتاج الكائن الحي لفرد جديد عن طريق فرد أبوي واحد فقط، وله عدة أنواع، منها: الانقسام الثنائي كما في الأميبا, والتبرعم كما في فطر الخمير, وفي بعض النباتات يكون التكاثر بالدرنات والترقيد… إلخ، ومردود كل ذلك إلى الانقسام الخلوي الميتوزي أيضًا كما في التكاثر الجنسي.

فالأميبا كمثال  تمر بعدة مراحل لإنتاج الفرد الجديد، هي:

الطور التمهيدي: تبدأ الكروموسومات في التكوين، وتكون على شكل خيوط طويلة ورفيعة، ويظهر كل كروموسوم مكون من جزئين، ويُدعى كل جزء كروماتيدة، ويرتبط الكروماتيدان مع بعضهما في نقطة تُسمى بالسنترومير، ويلتفان حول بعضهما البعض.

الطور الاستوائي: يتميز بتموضع واصطفاف الكروموسومات في المستوى الاستوائي للخلية مشكلة الصفيحة الاستوائية.

الطور الانفصالي:ينفصل السنترومير في هذا الدور، ويبتعد الكروماتيدان في كل كروموسوم عن بعضهما، ويتجه كل كروماتيد نحو القطبين؛ وبذلك يصبح عند كل قطب من قطبي الخلية مجموعتان متشابهتان من الكروموتيدات، والتي يمكن تسميتها الآن بالكروموسومات.

الطور النهائي: تفقد صبغيات كل مجموعة فرديتها مشكلة صبغين لنواة جديدة، ويختفي مغزل الانقسام، ويتكون غشاء خلوي (الغشاء الهيكلي) في وسط الخلية الأم؛ حيث يقسمها إلى خليتين بنتين متماثلتين وراثيًّا، ومماثلتين للخلية الأم، ثم يتم تكوين الحيوان وحيد الخلية.

ويُستنتج من كل ذلك ما يلي:

1.    أن طرق التكاثر في الكائنات الحية تكون زوجية، سواء أكان جنسيًّا أم لاجنسيًّا.

2.    أن الشكل النهائي للكائن الحي في التكاثر الجنسي يكون زوجينبالاقتران، ذكرًا أو أنثى.

3.    أن الشكل النهائي للكائن الحي في التكاثر اللاجنسي يكون زوجين بالتماثل والتطابق (أميبًا أمًّا وأميبًا ابنًا).

4.  أن جميع الكائناتالحية لا بد أن تخلق من خلية بها عدد زوجيمن الكروموسومات، سواء في التكاثر الجنسي أماللاجنسي.

5.    أن كل كروموسوم لا بد أن يكون زوجين من الكروماتيد متحدين.

6.  أن الكروماتيد الواحد يحمل في طياته عشرات الآلاف من الجينات، وكل جين بدوره يتألف من سلسلة من النيوكليوتيدات، وتطلق عليها اسم الأليل، هذا الأليل يتحد مع أليل آخر في الكروماتيد المقابل؛ إذًا كل جين يتكون في حقيقة الأمر من أليلين.

7.    أن مادة الكروماتين تنقسم إلى زوجين: كروماتين حقيقي، وكروماتين مغاير.

8.  أن الاستنساخ أيضًا فيه الزوجية؛ لأنه إنتاج نسخة من الكائن الحي عن طريق مضاعفة الخلايا اعتمادًا على تقنية الانقسام الميتوزية لخلايا الجنين الأصلية؛ ومن ثم فالكائنات التي تتكاثر لاجنسيًّا مثل الأميبا لا يمكن أن ننفي عنها الزوجية؛ إذ إن الأميبا الأم والأميبا الابن يُعدان زوجين بالتماثل([16]).

3)  وجه الإعجاز:

لقد قرر العلم الحديث انتشار الزوجية في الكون كله، ولا تقتصر هذه الزوجية على الكائنات الحية فحسب، بل تمتد إلى كل شيء في الكون، فكما توجد هذه الزوجية في الإنسان والحيوان توجد أيضًا في الحيوانات البسيطة، كالبكتيريا والفطريات والطحالب، كما توجد في النباتات المزهرة وغير المزهرة، كما توجد الزوجية في الخلايا التناسلية الذكرية والأنثوية، وفي بناء جزيء الحمض النووي (DNA)، وفي الأحماض الأمينية والبروتينات، وفي كل صور المادة ومركباتها… إلخ.

ولو تتبعنا صور الزوجية لوجدناها ثابتة في كل شيء في هذا الكون، وهذا عين ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:)ومن كل شيء خلقنا زوجين( (الذاريات: ٤٩)؛ حيث أقرت الآية الكريمة وجود الزوجية في كل شيء في الكون، ولم تقصره على الكائنات الحية؛ إذ لو قالت: (ومن كل حي خلقنا زوجين) لاختلف المعنى، ولكن نحن نتحدث عن كلام رب العالمين الذي أنزله على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يُوحى (4)( (النجم).   

(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص215، 216. 

[2]. تاج العروس، مادة: زوج.

[3]. لسان العرب، مادة: زوج.

[4]. معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: زوج.

[5]. تسعة معان للزوجية في القرآن الكريم وعالم النبات، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[6]. )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)((الذاريات) د. المصطفى موكينا، بحث منشور بموقع: الفرقان www.hoffaz.org.

[7]. تسعة معان للزوجية في القرآن الكريم وعالم النبات، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[8]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص139.

[9]. )وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون َ(49)((الذاريات) لمصطفى موكينا، بحث منشور بموقع: الفرقان www.hoffaz.org.

[10]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص138، 139.

[11]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص183: 187 بتصرف.

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج17، ص53.

[13]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص337.

[14]. معالم التنزيل، البغوي، مرجع سابق، ص379.

[15]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3385.

[16]. الرد على الملحدين.. الزوجية في الكائنات، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

الطعن في الإعجاز العلمي للقرآن في وصفه اهتزاز الأرض وربوها عند سقوط المطر

مضمون الشبهة :

ينفي بعض الطاعنين الإعجاز العلمي لقوله تعالى:)وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)( (الحج)؛ إذ إن اهتزاز الأرض وربوها (ارتفاعها) بعد سقوط المطر هي مجرد ملاحظات يمكن أن تُدرك بالعين المجردة في كل زمان ومكان، وهي من معارف الإنسان العربي العلمية آنذاك، فالآية على حد زعمهم لا علاقة لها بالإعجاز العلمي بتاتًا.

وجه إبطال الشبهة :

لقد أثبت العلم الحديث- بعد تطور علم التربة وتطور أدواته المعملية- حدوث حركة اهتزازية للتربة عند سقوط المطر عليها؛ حيث تحمل حبيبات التربة شحنات كهربائية، وعند نزول الماء بكمية مناسبة عليها تؤدي هذه الشحنات إلى اهتزاز حبيبات التربة، وقد لاحظ العالم (روبرت براون) هذه الحركة، فأطلق عليها اسم الحركة البراونية، وهذا الاهتزاز يؤدي إلى تخلل الماء بين صفائح التربة والفراغات بين الحبيبات؛ مما يؤدي إلى زيادة حجمها أو ربوها مما يساعد النبات على الاستفادة من الماء المخزن في التربة، وهذا عين ما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه من اهتزاز الأرض وربوها؛ حيث قال:)وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج)؛ مما يؤكد إعجاز القرآن الكريم العلمي وسبقه البحوث العلمية بقرون.

التفصيل :

1)  الحقائق العلمية:

تتكون تربة الأرض بواسطة التحلل الكيميائي والحيوي لصخورها‏,‏ كما تتكون نتيجة تفكك تلك الصخور بواسطة عوامل التعرية المختلفة التي تؤدي في النهاية إلى تكون غطاء رقيق لصخور الغلاف الصخري للأرض من فتات وبسيس الصخور على هيئة حطام مفروط يُعرف باسم عادم الصخور‏.

وعلى ذلك فإن تربة الأرض تمثل الطبقة الرقيقة من عادم الصخور الناتج عن تحلل أجزاء من الغلاف الصخري للأرض‏,‏ والذي يغطي صخور ذلك الغلاف في كثير من الأحوال‏,‏ سواء كان ناتجًا عن تحللها مباشرة‏,‏ أو منقولاً إليها ليغطيها،‏ والتربة بذلك تمثل الحلقة الوسطى بين الغلاف الصخري للأرض وكلًّا من غلافيها الهوائي والمائي‏؛ ولذلك فهي خليط من المعادن التي تفككت من صخور الأرض بفعل عوامل التعرية المختلفة‏,‏ ومن المركبات العضوية وغير العضوية الناتجة عن التفاعل والصراع بين تلك النُّطُق الثلاث من نُطُق الأرض‏,‏ أو المتبقية عن الكائنات الحية التي تعمر قطاع التربة‏,‏ وهي كثيرة، مثل: البكتيريا‏,‏ والطحالب‏,‏ والفطريات‏,‏ والنباتات بمختلف هيئاتها ومراتبها؛ فالتربة هي مصدر كل الغذاء والماء لحياة النباتات الأرضية؛ لأنها وسط تتراكم فيه بقايا كل من العمليات الأرضية‏,‏ والسلاسل الغذائية‏,‏ والتي تتحلل بواسطة الكائنات الدقيقة التي تزخر بها التربة والتي تجهز- بنشاطاتها- كل العناصر اللازمة لنمو النباتات الأرضية‏.‏

وتتكون التربة الأرضية أساسًا من معادن الصلصال‏,‏ والرمال‏,‏ وأكاسيد الحديد‏,‏ وكربونات الكالسيوم والماغنسيوم‏، وبالإضافة إلى التركيب الكيميائي والمعدني لتربة الأرض فإن حجم حبيباتها ونسيجها الداخلي له دور مهم في تصنيفها إلى أنواع عديدة‏,‏ وتُقسم التربة حسب حجم حبيباتها إلى التربة الصلصالية‏,‏ والطميية‏,‏ والرملية‏,‏ والحصوية‏,‏ وأكثر أنواع التربة انتشارًا هي خليط من تلك الأحجام‏.‏

ويقسم قطاع التربة من سطح الأرض إلى الداخل إلى النُّطُق الأربعة الآتية‏:‏

1.‏نطاق السطح الأرضي، أو‏ نطاق (o)‏: وهو غني بالمواد العضوية من مثل أوراق الأشجار وفتات زهورها‏,‏ وثمارها‏,‏ وأخشابها‏,‏ وتزداد فيها نسبة المواد الدبالية (Humus)؛‏ أي: العضوية المتحللة من أعلى إلى أسفل‏.‏

2.‏نطاق التربة العليا، أو نطاق (A): وتتكون أساسًا من فتات المعادن الخشن نسبيًّا‏,‏ ولكنها تزخر بالنشاط العضوي؛ مما يزيد من محتواها في المواد الدبالية والتي تصل إلى 30%‏ من مكوناتها في بعض الحالات‏.‏

3.‏نطاق ما تحت التربة العليا، أو نطاق (B): وهو نطاق يتجمع فيه كثير من العناصر والمركبات التي تحملها المياه الهابطة من السطح إلى أسفل من النطاقين العلويين‏؛ ولذا يُعرف باسم نطاق التجمع، ومع كثرة هبوط حبيبات الصلصال الدقيقة من النطاقين العلويين إلى نطاق ما تحت التربة أو نطاق التجمع هذا-‏ فإنه يحتفظ بالماء الهابط إليه من سطح الأرض‏.‏

وتمثل النُّطُق الثلاثة (‏O +A+B)‏ ما يُسمى بالتربة الحقيقية، وهي التي تزخر بالعمليات الحيوية‏,‏ وبكل صور الحياة التي تشتهر بها تربة الأرض، وتمتد إليها جذور النباتات من فوق سطحها‏.‏

4.‏نطاق الغلاف الصخري للأرض متأثرًا ببعض عمليات التجوية:‏ وهذه النطق لا تتمايز بهذا الوضوح إلا بعد تمام نضج قطاع التربة‏,‏ فكثيرًا ما تتكدس في نطاق واحد‏.‏

وتمثل مجموعة النباتات الدقيقة من مثل البكتيريا‏,‏ والفطريات‏,‏ والطحالب أهم أنواع الحياة في تربة الأرض‏,‏ وتشكل البكتيريا أغلبها‏ (‏نحو‏90%)، وتنقسم بكتيريا التربة إلى ذاتية التغذية‏,‏ وغير ذاتية التغذية‏,‏ ومن الصنف الأول بكتيريا العقد الجذرية، وقد أعطاها الله سبحانه وتعالى ‏ القدرة على تثبيت غاز النيتروجين وتحويله إلى مركبات نيتروجينية مهمة في التربة؛ ولذا تُعرف باسم بكتيريا النيتروجين‏,‏ وهناك بكتيريا الإيدروجين‏,‏ وبكتيريا الكبريت‏,‏ وبكتيريا الحديد وغيرها، وهي تلعب دورًا مهمًّا في تزويد التربة بالأغذية المناسبة للنباتات الأرضية‏,‏ واستكمالاً لهذا الدور المهم‏,‏ فإن البكتيريا غير ذاتية التغذية تقوم بتكسير المواد العضوية المعقدة، مثل المواد السيليولوزية والكربوهيدراتية والبروتينية والدهنية، وتحويلها إلى مواد يستطيع النبات الاستفادة بها([1])‏.

رسم تخطيطي في قطاع التربة يبين نُطُقَها الأربعة

لماذا تهتز التربة عند سقوط المطر عليها؟

اهتزاز الأرض أو التربة: هو حدوث حركة اهتزازية منفصلة للحبيبات المكونة للتربة، وليس بالطبع تحرك طبقات القشرة الأرضية كتلة واحدة كما يتم أثناء زلزلة الأرض.

ولتفهم حدوث اهتزازات هذه الحبيبات ينبغي الإلمام بشيء عن طبيعتها وصفاتها، وطبقًا لما يُعرف عن تقسيم قوائم التربة (SoilTexture) فإن حبيبة الطين يقل قطرها عن (00.002) من الملليمتر، وتتكون الحبيبة من طبقات متراصة (من صفائح السليكا والألومينا) كل طبقة فوق الأخرى، وتحمل الحبيبة على سطحها شحنات كهربائية سالبة أو موجبة على حسب نوع الطين (تنشأ من الزيادة أو النقصان في الشحنات الكهربائية للوحدات الداخلة في تركيب معدن الطين)، ويمكن الكشف عنها باستخدام المكروجراف الإلكتروني، والطين من الغرويات المعدنية التي تتمتع بكثير من صفات الدقائق الغروية.

رسم تخطيطي يوضح تبادل راقات من المعادن المختلفة في تكوين التربة الصلصالية، ويسمح هذا الاختلاف في التركيب للماء للدخول بين تلك الراقات مما يؤدي إلى اهتزاز التربة وربوها إلى أعلى

ومن ثم فعند نزول الماء على الأرض بكميات مناسبة يؤدي إلى اهتزاز حبيباتها، ويمكن تفسير ذلك بما يلي:

1ـ  ظهور الشحنة الكهربائية على سطوح الحبيبات يسبب عدم استقرارها، وحدوث حركات اهتزازية لا يمكن سكونها وثباتها إلا بعد تعادل هذه الشحنات بأخرى مخالفة لها في الشحنة (ناتجة عن تأين الأملاح بالتربة)؛ حيث يتم تلاقحها على سطح الحبيبة فتستقر وتسكن.

رقيقة من صلصال حامضي                            رقيقة من صلصال قلوي

2ـ  حدوث حركات واهتزازات لجزيئات التربة (الغروية)؛ نتيجة دفع الدقائق الطينية بجزيئات الوسط السائلي (الماء).

ولما كانت حركة جزيئات السائل ليس لها اتجاه فإن الدقيقة الغروية (حبيبة الطين) تهتز وتتحرك من مكانها؛ نتيجة لما تتعرض له من ضربات غير متساوية على جوانبها المختلفة.

وقد لاحظ العالم روبرت براون (عام 1243هـ – 1828م) هذه الحركة للدقائق الغروية، وأطلقعليها اسم الحركة البراونية، والوسط السائل (الماء) يكون هو الغالب على الجزء الصلب، وكلما كان الوسط السائلي متوافرًا بكميات مناسبة أدى ذلك إلى تباعد حبيبات التربة عن بعضها وسهولة حركتها، ما لم يحدث لها تخثر أو تجميع، فإذا نقص تقاربت الحبيبات وأبطأت حركتها واهتزازها.

ومن ثم فإن اهتزاز حبيبة التربة بتأثير دفع الهواء هو تأثير غير مباشر للماء أيضًا؛ فالماء يحل محل الهواء وينطلق الهواء من ثقوب محددة إلى الهواء الجوي على هيئة فقاقيع متقطعة، وقد يدفع حبيبات التربة جانبًا في اتجاه معين؛ لذا فاهتزاز حبيبة التربة ما هو إلا تأثير مباشر لضربات غير متساوية من جزيئات الماء على جوانب الحبيبة، وهي مستمرة متى ما وُجد الماء في التربة.

ربو التربة وازدياده بنزول المطر:

كما سبق ذكره من قبل فإن حبيبة الطين تتكون من طبقات متراصة، بين كل طبقة وأخرى مسافة بينية تتيح لجزيئات الماء وأيونات العناصر الذائبة فرصة الدخول فيها.

وتتشرب الحبيبة بالماء، والأيونات (صفة غروية)؛ فيتمدد بذلك معدن الطين، ويزيد سمك قطر الحبيبة، والماء الممسوك على سطح الحبيبات (الماء الشعري والهيجروسكوبي) له دور كبير في زيادة سمك التربة كلها بزيادة المسافة بين الحبيبات، وهكذا تربو الأرض بتأثير الماء.

ومن الأمثلة العملية في هذا المجال أنه عند وضع وزن معين من الطين في مخبار مدرج وصب كمية معينة من الماء عليه فإن حجم الطين يزداد بتشربه للماء، وينقص بسحب الماء منه بعملية تجفيف التربة، ويعتبر طين المونتوموربلونت من أحسن الأنواع التي لها القدرة على التمدد والانكماش بتأثير الماء علاوة على امتصاصه العديد من أيونات العناصر الغذائية بكميات كبيرة.

ومن هنا يتضح دور ذلك وأهميته بالنسبة للنبات؛ لأن كل حبيبة لها القدرة على حمل الماء بين طبقاتها، وحفظ جزيئات الماء على سطحها (غلاف يحيط بالحبيبة) بقوى الجذب الإليكتروستاتيكية والتحام جزيئات الماء ببعضها عن طريق الروابط الهيدروجينية (ويقل تأثير هذه القوى كلما كان جزيء الماء بعيدًا عن سطح حبيبة الطين)؛ فهي بمثابة وعاء يحفظ الماء من التسرب إلى أسفل بتأثير الجاذبية الأرضية أو غير ذلك.

وإن الدراسات العملية والعلمية، ومراجع علوم الأراضي، والبيئة النباتية لتؤكد حدوث الاهتزاز والربو لحبيبات الطين، وخير دليل على ذلك هو ذلك التبادل بين الأيونات المتحدة على سطوح الحبيبات، والأيونات الهيدروجينية؛ ليستفيد النبات من أيونات العناصر الغذائية لسد احتياجاته في بناء أنسجته.

أما ربو الحبيبة وانتفاخها فهذا دليل على احتفاظها بكمية من الماء في التربة، وإن لم يستطع النبات الحصول عليها يبدأ في الذبول، وقد يؤدي الأمر إلى موته إذا لم تُرْوَ الأرض([2]).

ويمكن تلخيص أسباب اهتزاز التربة وانتفاشها وربوها فيما يلي:

1.تتكون التربة أساسًا من المعادن الصلصالية‏,‏ ومن صفات تلك المعادن أنها تتشبع بالتميؤ؛ أي بامتصاص الماء مما يؤدي إلى زيادة حجمها زيادة ملحوظة فيؤدي ذلك إلى اهتزازها بشدة وانتفاضها فتؤدي إلى اهتزاز التربة بمجرد نزول الماء عليها‏.‏

2.‏تتكون المعادن الصلصالية من رقائق من أكاسيد السيليكون والألومنيوم تفصلها مسافات بينية مملوءة بجزيئات الماء والغازات‏,‏ وعند التسخين تطرد هذه الجزيئات؛ فتنكمش تلك الرقائق بطرد هذه الجزيئات البينية‏,‏ وعند إضافة الماء إليها تنتفض‏,‏ وتهتز وتربو نتيجة لملء المسافات البينية الفاصلة لرقائق المعدن بالمياه‏.‏

‏نظرًا لدقة حجم الحبيبات الصلصالية ‏(والتي لا يتعدى قطرها واحد على ‏256‏ من الملليمتر؛ أي: أقل من ‏0,004‏ من الملليمتر‏)‏، وهي المكون الرئيسي لتربة الأرض‏,‏ فإن اختلاط الماء بتلك التربة يحولها إلى الحالة الفردية، وهي حالة تتدافع فيها جسيمات المادة بقوة‏,‏ وبأقدار غير متساوية في كل الاتجاهات‏,‏ وعلى كل المستويات في حركة دائبة تُعرف باسم الحركة البراونية نسبة إلى مكتشفها‏,‏ وهي من عوامل اهتزاز التربة بشدة وانتفاضها‏,‏ وكلما كان الماء المختلط بالتربة وفيرًا باعد لمسافات أكبر بين حبيبات التربة‏,‏ وزاد من سرعة حركتها‏.‏

4.‏تتكون المعادن الصلصالية أساسًا من سيليكات الألومنيوم المميأة‏,‏ وهذا المركب الكيميائي له قدرة على إحلال بعض ذرات الألومنيوم بذرات قواعد أخرى مثل الماغنسيوم والكالسيوم‏,‏ وكنتيجة لإحلال ذرات الألومنيوم بذرات غيرها من العناصر ترتبط بعض الأيونات الموجبة الشحنة مثل الصوديوم والكالسيوم على حواف وأسطح راقات الصلصال لمعادلة الشحنات السالبة الناتجة عن إحلال ذرة الألومنيوم ثلاثية التكافؤ بذرة الكالسيوم أو الماغنسيوم ثنائية التكافؤ‏.‏

والأيونات الموجبة مثل أيونات الصوديوم والكالسيوم سهلة الإحلال بقواعد أخرى؛ مما يحدث اهتزازًا عنيفًا في مكونات رقائق الصلصال في وجود جزيء الماء القطبي الكهربية‏.‏

5.‏إن العمليات المعقدة التي كوَّنت تربة الأرض عبر ملايين السنين أَثْرَتها بالعديد من العناصر والمركبات الكيميائية اللازمة لحياة النباتات الأرضية‏,‏ كما أن الكائنات الحية الدقيقة والكبيرة- التي أسكنها الله سبحانه وتعالى‏ تربة الأرض- أدت ولا تزال تؤدي دورًا مهمًّا في إثرائها بالمركبات العضوية وغير العضوية‏,‏ وعند نزول جزيئات الماء ذات القطبية الكهربية‏,‏ وإذابتها لمكونات التربة فإن ذلك يؤدي إلى تأين تلك المكونات‏,‏ وإلى تنافر الشحنات المتشابهة على أسطح رقائق الصلصال وفي محاليل المياه؛ مما يؤدي إلى انتفاض تلك الرقائق واهتزازها بشدة‏.‏

6.‏تحمل الرياح‏‏ والطيور‏‏ والحشرات‏ والكائنات الدقيقة إلى التربة بذور العديد من النباتات، خاصة مما يُسمى بالبذور المجنَّحة والأبواغ والجراثيم وحبوب اللقاح التي تحملها الرياح لمسافات بعيدة‏,‏ وعندما ينزل الماء على التربة الأرضية وتستقي منه تلك البقايا النباتية القابلة للإنبات- مثل البذور- فتنشط أجنتها‏,‏ وتتغذى على المواد المذابة في مياه التربة- فإنها تنمو‏,‏ وتندفع جذورها إلى أسفل مكوِّنة المجموعات الجذرية لتلك النباتات‏,‏ وتندفع سويقاتها‏ (‏ريشتها‏)‏ إلى أعلى مسبِّبة اهتزازات عنيفة لمكونات التربة‏.‏

7.‏مع ازدياد هطول الماء على التربة تنتعش كل صور الحياة فيها من البكتيريا‏‏ والفطريات‏ والطحالب‏‏ وغيرها‏,‏ كما تغلظ المجموعات الجذرية للنباتات القائمة على سطح الأرض‏,‏ ويؤدي النشاط الحيوي لكل من هذه الكائنات إلى زيادة حجم التربة‏,‏ وإلى زيادة الأنشطة الكيميائية والفيزيائية فيها؛ مما يؤدي إلى انتفاض مكوناتها واهتزازها‏‏ وربوها‏ وكثرة الإنبات فيها‏.([3])

ومما سبق يتبين أننا أمام ثلاث صور:

الأولى: صورة الأرض قبل نزول المطر عليها مباشرة:

وفي هذه الصورة ترى أن حبيبات التربة وجزيئاتها تأخذ أقل حيزًا لها، والأرض قاحلة يابسة جدبة، وهنا تكون الأرض هامدة، وفيها نرى أن :

1ـ  جميع الكائنات الحية الدقيقة (بكتيريا- فطريات- أكتينوميسيتات- وغيرها) في حالة سكون تام، وانعدام حركة، مع شغلها أقل حيز في حياتها ومعظمها في حالة تجرثم، أو تكون حوافظ جرثومية تعمل كالدرع الواقي للكائن الحي من الظروف الخارجية القاسية، وأهمها غياب الماء.

2ـ  البيضات والبييضات الخاصة ببعض الكائنات الحية الأولية الأخرى في حالة كمون وسكون تام مع وجود أغلفة حامية لها من الظروف الخارجية القاسية.

البصلات والبصيلات والكورمات والريزومات والدرنات والبذور والحبوب في أقل صورة من النشاط الحيوي لها؛ حفاظًا على حياتها وبقاء لأجيالها القادمة.
الجذور النباتية والمجموعة الخضرية الخاصة بالنباتات في حالة سكون وهدوء عجيب، وقد أغلقت منافذها وتكون عليها طبقة شمعية وحراشيف شديدة التحمل للجفاف.

الثانية: حالة الأرض بعد نزول المطر عليها بمدة قصيرة:

وقت أن ينزل المطر على الأرض تحدث العمليات الفيزيائية والكيميائية والحيوية الآتية:

العمليات الفيزيائية الكيميائية:
ينزل المطر على الأرض فتتغير طاقة الوضع وطاقة الحركة لكل من المطر والأرض؛ فتهتز الأرض وتتحرك لانتقال الطاقة إليها من الماء.
يزداد تأين مكونات التربة غير العضوية في وجود الماء، ويزداد حجمها.
تتشرب المكونات العضوية غير القابلة للتأين الماء، وتنتفخ وتتباعد أجزاؤها عن بعضها البعض، ويزداد حجمها نتيجة لعمليات التشرب.

والنتيجة النهائية للعمليات السابقة هي اهتزاز التربة وتحركها مع غياب التشقق عنها.

وفي الوقت نفسه تحدث العمليات الحيوية الآتية:
تخرج الكائنات الحية الدقيقة من سكونها وتهتز وتتحرك.
تنشط البصلات والبصيلات والريزومات والكورمات وتهتز وتتحرك.
تفقس البيضات والبييضات وتهتز وتتحرك.
تنشط الديدان والحشرات في التربة وتهتز وتتحرك.
تنشط الجذور والسيقان ويزداد معدل امتصاص التربة، وتهتز جزيئاتها وتتحرك، والمحصلة النهائية للعمليات السابقة هي: أن الأرض تهتز وتتحرك.

الثالثة: صورة الأرض بعد نزول المطر عليها بمدة طويلة:

بعد نزول المطر على الأرض بمدة طويلة، تتوالى العمليات الفيزيائية والكيميائية والحيوية وتصبح صورة الأرض كما يلي:

تبدأ الكائنات الحية الدقيقة في النمو والتكاثر؛ فتزداد في الحجم والوزن، ويزداد المحتوى العضوي للتربة.
تبدأ الديدان والحشرات في النمو والتكاثر، وتعمل أنفاقا في الأرض فتنتفش التربة.
تبدأ البصلات والبصيلات والكورمات والريزومات والجذور في النمو مع زيادة في الحجم والوزن.
تنشط الجذور ويتدرن بعضها ويخزن فيه الغذاء المدخر الناتج عن عملية البناء الضوئي والتغذية.

المحصلة النهائية للعملية السابقة هي زيادة الحجم والوزن.

الرابعة: الصور السابقة مجمعة:

الأرض هامدة قاحلة ميتة؛ بسبب غياب الماء وسكون الكائنات الحية بها.

2.ينزل الماء على الأرض فتهتز ويزداد تأينها وتشربها، وتخرج الكائنات الحية من سكونها ومكامنها؛ فتهتز الأرض وتتحرك.

بعد مدة يزداد النشاط الحيوي والنمو وتموج الأرض بالحياة وتحيا وتربو([4]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

يصف الله تعالى حالة الأرض قبل سقوط المطر عليها، وحالتها بعد سقوطه بقوله:)وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج).

و “هامدة” في اللغة كما ورد في القاموس المحيط: “الهمود: الموت، وطفوء النار أو ذهاب حرارتها، وتقطع الثوب من طول الطي كالهمد، وفي الأرض: أن لا يكون بها حياة ولا عود ولا نبت ولا مطر”([5]).

أما “اهتزت” ففي المعجم الوسيط: “اهتز الشيء: تحرك، والنبات: نما وطال، والأرض: أخصبت وأنبتت”([6]).  

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:   

يقول ابن كثير: )فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج)؛ أي: فإذا أنزل الله عليها المطر (اهتزت)؛ أي: تحركت وحييت بعد موتها، (ربت)؛ أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون، من ثمار وزروع، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها([8]).

ويقول الإمام القرطبي: (هامدة) يابسة لا تنبت شيئًا، ثم يقول: وقوله تعالى: )فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت((الحج:5) ؛ أي: تحركت، والاهتزاز: شدة الحركة، يقال: هززت الشيء فاهتز؛ أي: حركته فتحرك… فالأرض تهتز بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية، و (ربت)؛ أي: ارتفعت وزادت، وقيل: انتفعت، والمعنى واحد وأصله الزيادة([9]). 

ويقول سيد قطب في قوله تعالى: )وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت( (الحج:5): الهمود درجة بين الحياة والموت، وهكذا تكون الأرض قبل الماء، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء، فإذا نزل عليها الماء “اهتزت وربت”، وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام؛ فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز، وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تنتفخ بالحياة عن النبات([10]).

وباستعراض أقوال المفسرين السابقة في الآية الكريمة، وما أخبر عنه القرآن الكريم في عبارات واضحة لا لبس فيها عن اهتزاز التربة وربوها بعد نزول الماء عليها- يتبين لنا مدى التطابق بين هذه الآية الكريمة وبين حقائق العلم التي أثبتت حدوث اهتزاز للتربة عند سقوط المطر عليها؛ حيث تحمل حبيبات التربة على سطحها شحنات كهربائية سالبة أو موجبة مما يسبب عدم استقرار للتربة، مما ينتج عنه حدوث حركة اهتزازية لا يمكن سكونها إلا بعد تعادل هذه الشحنات بأخرى مخالفة لها في الشحنة، وهذه الاهتزازات تمكن الماء من التحلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات، فتنتفخ الحبيبات، ويزداد حجمها.

وهاتان العمليتان لا يمكن أن توصفا بخير من الوصف القرآني: الاهتزاز والربو، فصدق الله العظيم الذي تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم فعجزوا.

3)  وجه الإعجاز:      

لقد أخبر القرآن الكريم عن عمليتي اهتزاز التربة وربوها بعد نزول المطر عليها، وهما عمليتان دقيقتان غير مشاهدتين، ولا محسوستين، ولا يمكن إدراكهما إلا من خلال استخدام المجهر؛ وقد جاء العلم حديثًا وأثبت حدوث اهتزاز التربة وزيادة حجمها بعد نزول المطر عليها؛ حيث تؤدي الشحنات الكهربائية التي تحملها حبيبات التربة إلى اهتزازها، وقد لاحظ العالم روبرت براون هذه الحركة، وأطلق عليها اسم الحركة البراونية، وهذا الاهتزاز يمكن الماء من التخلل بين الصفائح المكونة للتربة والفراغات بين الحبيبات؛ مما يؤدي إلى زيادة حجم الحبيبات التي تصبح مخازن للماء يستفيد منها النبات؛ حيث تتشرب البذور الموجودة في التربة الماء.

وتفاصيل هذه العلاقة بين اهتزاز الأرض وربوها وإنبات النبات وبين سقوط المطر لم يدركها الإنسان إلا بعد تقدم علم التربة، وتطور أدواته المعملية في العصر الحديث، وهذا يدل على إعجاز القرآن الكريم، وأن منزِّلَه هو من يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى. 

(*) منتدى: اللادينيين العرب www.ladeenyon.net.

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص220: 222.   

[2]. من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم النبات، د. قطب عامر فرغلي، هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ، ص13: 21.     

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص223، 224 بتصرف.    

[4]. )اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ( .. رؤية علمية جديدة، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[5]. القاموس المحيط، مادة: همد.  

[6]. المعجم الوسيط، مادة: هزز.

[7]. المعجم الوسيط، مادة: ربو.

[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص208. 

[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص13.   

[10]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، ص2411.

نفي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في الإخبار عن حفظ القمح في سنابله
 
مضمون الشبهة:
 
ينفي منكرو الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وجود إعجاز علمي في قوله تعالى:)فما حصدتم فذروه في سنبله( (يوسف: ٤٧)، منكرين أنها تنص على طريقة من أحسن الطرق والأساليب في الحفاظ على القمح حين تخزينه للسنوات الطوال.
 
زاعمين أن هذه الطريقة التي أخبر عنها القرآن ما هي إلا طريقة من الطرق البدائية المعروفة منذ زمن بعيد قبل القرآن، وما هو إلا حكاية لها، وليس به شيء من الإعجاز العلمي ولا غيره.
 
ويهدفون بذلك إلى تخلية القرآن الكريم من أي فضل أو سبق في مجال الإعجاز العلمي.
 
وجه إبطال الشبهة:
 
أكد العلم الحديث على أن حفظ حبوب القمح في سنابلها يُعد من أفضل تقنيات ووسائل تخزين القمح وحفظه بعيدًا عن الآفات والأضرار والتسوس، والحفاظ على قدرته الإنتاجية وقيمته الغذائية لفترات طويلة، وأن هذه الطريقة التي أخبر عنها القرآن الكريم، والتي علَّمها يوسف عليه السلام قومه وأرشدهم إليها- لم يسبق إليها، ولم يعرفها أحد، وإنما هي طريقة علمية إبداعية مبتكرة جاء بها الوحي الإلهي ليوسف عليه السلام، ولو أنها كانت طريقة بدائية معروفة عند القوم من قبل لما ذكرهم يوسف بها وأرشدهم إليها، فالمصريون القدماء ما كانوا يعرفون طريقة لحفظ الغلال إلا معزولة عن سنابلها.
 
وعلى هذا فإن الآية الكريمة تمثل إعجازًا علميًّا للقرآن الكريم في حفظ حبوب القمح بطريقة علمية مبتكرة؛ حيث أفادت أن التخزين بإبقاء الحبوب في سنابلها هو أحسن التقنيات والأساليب للإبقاء على الحبوب المحفوظة داخل السنابل من غير أن ينال منها الزمن.
 
التفصيل:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
يُعد نبات القمح من أهم المحاصيل الزراعية والاقتصادية في العالم؛ إذ يمثل المصدر الأول لغذاء الإنسان، والقمح من أقدم الأغذية التي عرفها الإنسان ومارس زراعتها منذ العصور القديمة، وكان من أقدم النباتات التي زُرعت في مصر القديمة.
 
والقمح من نباتات الحبوب التي تتبع الفصيلة النجيلية، وهي ذات بذور تُؤكل، وتتكون معظم الحبوب من النشا، ومن هذه الفصيلة- فضلاً عن القمح- الشعير والشوفان والأرز والذرة.
 
ويُزرع القمح في التربة بإلقاء البذور على عمق نحو خمسة سنتيمترات، وتنفلق الحبة عن جذر وجذع، ويستمد جنين النبات غذاءه من الغذاء المختزن في الحبة، أما بعد ذلك فإن الجذور تستمد غذاءها من التربة، وعند تمام نضج حبة القمح يتحول لونها من اللون الأخضر إلى اللون الأصفر الذهبي، وهي حبة جافة صلبة([1]).
 
“وحبة القمح تتكون من غلاف خارجي، يمثل هذا الغلاف 9%  من وزن القمح، وهو ما يُسمى بالنخالة، وتلي الغلاف الخارجي طبقة رقيقة جدًّا تمثل 3% من وزن الحبة، وهي تحتوي على عنصر الأزوت، أما ما تبقى من الحبة فهو الطبقة الداخلية النشوية، وهي قوام الدقيق الأبيض الصافي، وهذه الطبقة تشكل 85% من وزن الحبة، ثم الرشيم أو جنين القمح، وهو قسم صغير يتمركز في زاوية من زوايا حبة القمح، ويمثل 4% من وزنها، وهو لا يكاد يُرى بالعين المجردة إلا بصعوبة، وهو الذي ينتعش وينمو في الظروف الملائمة للزراعة، ويعطي نباتًا جديدًا ويعيد دورة الحياة”([2]).
 
صورة توضح الأشكال المختلفة لحبوب القمح
 
ولأهمية نبات القمح بوصفه المصدر الأول للغذاء البشري في العالم فقد اهتم العلماء بابتكار الوسائل للحفاظ عليه، وزيادة التقنيات المؤدية إلى وفرة إنتاجه وكثرته، كما تهتم الدراسات والبحوث العلمية في الدول النامية والمتقدمة بتحسين أصناف القمح واستنباط أصناف جديدة تتحمل العوامل البيئية غير الملائمة، بإيجاد أصناف مقاومة للجفاف، وأصناف أخرى مقاومة للبرودة، واهتموا أيضًا باستحداث الوسائل المختلفة لحفظ حبوب القمح لسنوات طويلة، وحفظه بعيدًا عن الآفات والتسوس والتلف.
 
وقد أثبت العلماء حديثًا أن أفضل الوسائل لحفظ حبوب القمح لفترات طويلة مع إجادة إنتاجها وسلامتها- أن تُترك الحبوب في سنابلها دون عزل؛ فالسنبلة تحيط بالحبوب جيدًا بمجموعة من الأغلفة والعصيفات التي تحول دون تأثر الحبة بالظروف البيئية المحيطة، وتعوق وصول الحشرات إليها، وتحافظ على قدرتها الإنتاجية لسنوات طويلة.
 
والسنبلة (Spike): عبارة عن مجموعة من الأزهار تجمعت بطريقة معينة، وبترتيب معين على محور يُسمى محور السنبلة، ويُسمى هذا التجمع بالنورة (inflorecence)، والسنبلة نوع من النورات غير محددة النمو؛ لأن طرف المحور لا ينتهي بزهرة توقف نموه؛ ولذلك يزداد المحور في الطول، وتزداد عدد الأزهار التي يحملها بزيادة طوله.
 
وينتمي القمح والشعير والذرة الشامية والذرة العويجة والأرز إلى العائلة النجيلية (FamilyGramineae) وهي أصل الغذاء في الأرض، وتتركب سنبلة القمح (أو نورة القمح) من عدد من السنبلات، وتتكون كل سنبلة من عدد الأزهار الجالسة (بدون عنق) على محور قصير مفصلي.
 
وتنظم الأزهار في صفين وتغلفها جميعًا قنبعتان يطلق على السفلية منها اسم القنبعة الأولى (FiristGlume) وعلى الثانية العلوية القنبعة الثانية (Second Glume)، وهي تنتمي إلى رتبة القنبعيات (OrderGlumiflora).
 
وتحيط بكل زهرة قناتان، أحدهما سفلية خارجية تقع في الجانب الأمامي من الزهرة وتُسمى العصيفة السفلى (Lemma)، والأخرى علوية داخلية تقع في الجانب الخلفي من الزهرة تُسمى العصيفة العليا (Palea).
 
إذًا الحبوب تُحاط من خارجها بالأغلفة الآتية:
 
القنابع (Glumes).
العصيفة العليا (Palea).
العصيفة السفلى (Lemma).
 
علاوة على أغلفة الحبة نفسها الملتصقة بالحبة, كل هذه الأغلفة لها دور رئيس في حفظ الحبوب بعيدًا عن التأثيرات البيئية الخارجية وعوامل التلف والإنبات؛ ومن ثم فإن حبوب القمح والشعير والأرز والذرة مغطاة بأغلفة خاصة من الأوراق هي: القنابع, والعصيفات، وأغماد الأوراق، علاوة على أغلفة (جدر) الحبة الملتصقة بتركيب الحبة تمامًا بطريقة يصعب إزالتها باليد، وهي الأغلفة التي تميز الحبوب عن البذور، وتجعلها من الثمار؛ فالحبوب ليست من البذور، وهي من الثمار الجافة من النوع بره (Coryopsis)، وهي كربلة واحدة تحتوي على بذرة واحدة.
 
صورة للأغلفة التي تحيط بحبةالقمح
 
وهذه الأغلفة تحمي الثمرة وقت وجودها على النبات وبعد حصاده، وتمنع إنباتها على النبات الأم أو في وقت الدراس والتخزين .
 
أهمية ترك الحبوب في سنابلها:
 
ترك الحبوب في أغلفتها وعلى محورها (السنبلة) يحفظ الحبوب من التلف لمدة طويلة؛ للأسباب الآتية:
 
– الأغلفة بها مواد مثبطة للنمو تمنع إنبات الحبوب وهو على النبات الأم، وبأغلفة الحبة مواد مثبطة للإنبات أيضًا تمنع إنبات الحبوب وقت الدراس والتذرية والتخزين السليم.
 
– الأغلفة تحمي الحبوب من الجفاف أيام الصيف وحمايتها من الرطوبة الخارجية أيام الشتاء.
 
– تحفظ الأغلفة درجة حرارة الحبوب من الارتفاع في الصيف، والانخفاض في الشتاء؛ لأن هذه الأغلفة عازلة للحرارة، وهذا يحفظ البذور بعيدًا عن التأثيرات الخارجية, ويساعد على حيوية الجنين، وصلاحية الغذاء المدَّخر فيها لمدة أطول.
 
– الأغلفة المحيطة بالحبوب تمنع وصول الرطوبة إلى الحبوب أو إلى فقدانها لرطوبتها الذاتية؛ وبذلك لا تنمو الفطريات وخاصة الجنس إسبرجيللاس (Aspergillus) وعفن الخبز (Rhizopus) والبنسليوم (Penicillus)، وهذا يحمي البذور من التحلل والتعفن أو احتوائها على السموم خاصة الأفلاتوكسين التي ينتجها الفطر أسبرجيللاس فلافس (Aspergillusflavus)، وهذه المادة السامة تؤدي إلى سرطان الكبد، وهي من أخطر آفات البذور والحبوب المحتوية على الزيوت والمخزنة بطريقة سيئة.
 
– وجود الأغلفة بين الحبوب يؤدي إلى تهويتها وعدم تكدسها، وعدم التهوية في التكدس يؤدي إلى سرعة تعفن الحبوب، وعزلها عن البيئة الخارجية يساعد على حيوية الجنين وعدم موته؛ وبذلك يمكن زراعته وإنباته بسهولة.
 
–  الأغلفة المغطاة للحبوب تمنع عملية الأكسدة الضوئية للمحتويات الغذائية المدَّخرة من الحبوب، وتمنع تزنخ المواد الدهنية فيها، وتحافظ على البروتين من التغيير؛ فالضوء يؤدي إلى الأكسدة الضوئية، والإسراع في تزنخ الدهون، وتغيير تركيب المواد الغذائية في الحبوب وغيرها.
 
–  الأغلفة تحمي الحبوب من سقوط جراثيم الفطريات والخلايا البكتيرية على الحبوب مباشرة أو وصولها إليها، فلا تنمو عليها وتتلفها بسهولة، كما أثبتت بعض التجارب العلمية أن الحبوب التي تُركت في السنابل لمدة عامين لم يطرأ عليها أي تغيير صحي، وبقيت على حالتها 100% بخلاف الحبوب المنزوعة الأغلفة، وأن البذور التي تُركت في سنابلها فقدت كمية مهمة من الماء وأصبحت جافة مع مرور الوقت مقارنة بالحبوب المفصولة من سنابلها؛ وهذا يعني أن نسبة (20,3%) من وزن الحبوب المجردة من سنابلها مكون من الماء مما يزيد تعفنها، وأن بادرات الحبوب المتروكة في سنابلها تفوقت في إنباتها وطول جذورها بنسة (20%)، وكذلك طول الرويشات والسيقان بنسبة (32%) على بادرات الحبوب منزوعة الأغلفة، وأن كمية البروتين في الحبوب المفصولة عن سنابلها  قد نقصت بنسبة (20%) بعد سنة واحدة، وبنسبة (32%) بعد سنتين([3]).
 
وعلى هذا فقد أثبت العلم الحديث مدى دقة تقنية حفظ حبوب القمح في سنابلها، ومدى نجاح هذه الطريقة في الحفاظ على حبة القمح من الأضرار والآفات، والإبقاء على القدرة الإنتاجية والغذائية لمدد طويلة، وقد اهتم الباحثون حديثًا بالمقارنة بين طرق التخزين المختلفة وهذه الطريقة، فوجدوا أن طريقة تخزين القمح بحفظه في سنابله أجدى وأنفع وأصلح في الحفاظ على حبوب القمح والإبقاء على قدرتها الإنتاجية.
 
وأثبتوا أن تخزين القمح بإبقاء الحبوب في سنابلها هو أحسن التقنيات والأساليب للحفاظ على الحبوب دون أن ينال منها الزمن؛ ففي بحث تجريبي لبعض العلماء نطلع منهم على الآتي؛ حيث يقولون: لقد قمنا ببحث تجريبي مدقق حول بذور قمح تركناها في سنابلها لمدة تصل إلى سنتين مقارنة مع بذور مجردة من سنابلها، وأظهرت النتائج الأولية أن السنابل لم يطرأ عليها أي تغيير صحي وبقيت على حالها بنسبة 100% .
 
العوامل المختلفة التي تؤدي دورًا في تغيير البذور أو فسادها:
 
o     عامل الزمن يدخل في سرعة تفاعلات التدهور والتمزق؛ مما يمكن من معرفة المدة القصوى للتخزين.
 
o  الحرارة لها تأثير مباشر في رفع الارتجاجات الجزئية؛ فارتفاع الحرارة يؤدي إلى ارتفاع تصادم الجزيئات مما يسهِّل تفاعلات التدهور والتمزق.
 
o مقدار الأكسجين وثاني أكسيد الكربون يدخل في طريقة الاستقلاب واللاحيهوائي للمتعضيات المجهرية والخلايا الحية للحبوب، هذا المقدار يؤدي دورًا كذلك في التفاعلات الإنزيمية والكيميائية على مستوى الأكسدة.
 
o     التمييه هو العامل الأكثر أهمية في تقنية التخزين، ويُعد القاعدة الأساسية لفساد الحبوب.
 
حفظ الجودة والنوعية للمواد الغذائية:
 
إن هدف استعمال التكنولوجيا في التخزين هو الوقاية من جميع الوسائل التي قد تؤدي إلى ضرر، خاصة في نوعية الحبوب وجودتها، هذه الوسائل التكنولوجية يمكن أن تبقي القيمة الصحية والغذائية إلى درجة عالية، وفي هذا المصطلح للنوعية هناك مظاهر مختلفة يمكن استخلاصها:
 
القيمة الغذائية:
 
في هذا الصدد فإن غياب أو عدم وجود مواد سامة يشكل المعيار الأول والمهم عند الاستعمال للتغذية البشرية أو الحيوانية، ويحبذ التحقق من غياب التعفنات من بكتيريا وفطريات وبقايا المواد السامة المستعملة في الزراعة.
 
القيمة التكنولوجية:
 
هذا النوع من القيمة يشكل القدرة على الاستعمال في الصناعات الأولية.
 
المواد والتقنيات المستعملة في البحث:
 
–   المواد الحية:
 
إن البحث الذي قمنا به كان على عينات من الحبوب بعد جني- لسنة 1419هـ- لحبوب قمح صلب، والعينات التي استُعملت هي بذور في سنابلها، وبذور معزولة من سنابلها لمدة سنة وسنتين على التوالي، وكذلك فإن النباتات المنحدرة من هذه البذور استُعملت في التجارب أيضًا.
 
–   التقنيات:
 
إنبات البذور:
 
تبدأ العملية الأولى بإبادة الجراثيم بواسطة ماء جافيل لمدة خمس دقائق، بعد ذلك تشللت خمس مرات بماء مقطر، ثم خضعت البذور إلى تبليل تحت ورقة مرشح بماء مقطر، الكل في علبة بتري، وقد حصل الإنبات تحت حرارة (25°C).
 
زرع النبيتات:
 
النبيتات التي حصلنا عليها بعد إنبات البذور المذكورة سلفًا نُقلت إلى إصيص مملوء برمل معقم (يومين تحت حرارة 100)، الإنبات قيد تحت حرارة  22°C و16 ساعة من الضوء الاصطناعي، مع ملاحظة أن الوسط الزراعي متكون من العناصر المغذية الكاملة.
 
وقد استُعملت النبيتات التي تم الحصول عليها في دراسة النمو الجذعي والجذري للنبات، وكذلك لاستخلاص صبغة اليخضور ومعايرتها.
 
فصل صبغة اليخضور:
 
في هذا الانفصال استعملنا التحليل الكروماتوغرافي على طبقة رقيقة من السليكا، والتفريق حصل بواسطة محلول مكون من أثير البترول/ أسيتون/ البنزين بمقادير أحجام 34/12/6.
 
النتائج:
 
– تأثير طريقة التخزين على نزاهة البذرة:
 
الحالة الصحية:
 
بعد مُضُيّ سنتين من التخزين يمكننا أن نلاحظ بالعين المجردة حالة الحبوب في سنابلها، وحالتها كذلك معزولة عن سنابلها؛ إذ  تبين لنا عدم التعفن- من أي نوع- للسنابل التي اختُزنت في مكان لم تُراعَ فيه الشروط الصحية للتخزين، والسنابل بقيت على حالها بنسبة 100%، على الرغم من أن مكان التخزين كان عاديًّا، ولم يُراعَ فيه أي شرط من شروط الحرارة أو الرطوبة أو ما إلى ذلك.
 
الوزن الطري:
 
في هذا الإطار تبين أن البذور التي تركناها في سنابلها فقدت كمية مهمة من الماء، وأصبحت جافة مع مرور الوقت مقارنة بالبذور المعزولة من سنابلها، وهذا يعني أن نسبة 20,3% من وزن القمح المجرد من سنبله مكون من الماء، مما يؤثر سلبًا على مقدرة هذه البذور من ناحية زرعها ونموها ومن ناحية قدرتها الغذائية؛ لأن وجود الماء يسهل من تعفن القمح وترديه صحيًّا.
 
مقارنة القدرة الإنباتية:
 
إن دراسة القدرة الإنباتية أثبتت القدرة الفائقة والسرعة المتفوقة للإنبات بالنسبة للحبوب المخزنة في السنابل.
 
صورتبين نمو بذور القمح  
 
    أ: بقيت في سنابلها.                 ب: معزولة عن سنابلها لمدة سنة.             ج: معزولة عن سنابلها لمدة سنتين.
 
– تأثير نوع التخزين على الحبوب والنباتات المنحدرة منها:
 
هذا الجزء من البحث يهتم بدراسة بعض مقاييس الشكل الخارجي والفيزيولوجي للنبيتات المنحدرة من حبات قمح في سنابلها، وحبات معزولة لمدة سنة، وأخرى معزولة لمدة سنتين من سنابلها، وهذه المقاييس تتلخص في:
 
      نمو الجذوع.
 
      نمو الجذور.
 
      مقدار اليخضور.
 
      القدرة التنفسية.
 
هذه المقاييس تعطي بشكل دقيق مدى صحة النباتات، وبمقارنة نمو نبتة منحدرة من حبة تُركت في سنابلها لمدة سنتين وأخرى عُزلت من سنابلها للمدة نفسها، كانت النتيجة أن التخزين في السنابل مكَّن من إعطاء نمو جيد مقارنة بالأخرى المعزولة عن سنابلها.
 
صورة نبيتات منحدرة من بذور:
 
 أ: في سنابلها لمدة سنتين.                       ب: معزولة عن سنابلها لمدة سنتين.
 
والرسم الآتي يثبت كذلك هذه النتيجة ويؤكدها عند الجذور والجذوع؛ إذ إن سرعة النمو عند الجذوع والجذور لنبات منحدر من حبات قمح تُركت في سنابلها لمدة سنتين ـ أهم وأكبر من النباتات المنحدرة من حبات قمح عُزلت عن سنابلها لمدة سنتين أيضًا، مما يؤكد طريقة التخزين في السنبل ويبين أوجه الإعجاز العلمي في كتاب الله.
 
رسم بياني لنمو الجذور والجذوع عند النوعين من البذور المستعملة:
 
  أ: في سنابلها لمدة سنتين.                 ب: معزولة عن سنابلها لمدة سنتين.
 
وموازاة مع هذه النتائج قمنا بتقدير البروتينات والسكريات العامة التي توجد في البذور السنبلية، والجدول الآتي يبين لنا أن البذور التي تبقى محفوظة في السنابل تبقى كميتها من البروتينات والسكريات العامة دون تغيير أو نقصان، أما البذور التي تُعزل من السنابل فتتقلص كميتها بنسبة 32 % من البروتينات مع مرور الوقت بعد سنتين وبنسبة 20% بعد سنة واحدة.
 
نوع البذور
 
 
 
كميةالبروتينات
 
mg / g MS
 
 
 
كمية السكريات
 
mg / g MS
 
 
 
 
سنبلية
 
 
 
2,25
 
 
 
29,24
 
 
 
 
معزولة عن سنبلها لمدةسنتين
 
 
 
1,7
 
 
 
29,75
 
جدول يبين كميات البروتينات والسكريات العامة في بذور القمح التي بقيت في
سنابلها والبذور التي جُردت منها
 
أما فيما يخص تركيبة اليخضور النباتي عند الأوراق؛ فقد أكدت نتائج استخلاص اليخضور النباتي عند العينات الثلاث ونباتات منحدرة منها أن اليخضور (أ و ب) يوجد عند الثلاث عينات مع مقادير متشابهة، والمقدار المهم يوجد عند حبات قمح تُركت في سنابلها([4]).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
ارتبطت حياة الإنسان منذ القدم على هذه الأرض بما يكفل لها البقاء والاستمرار وما يحافظ على الوجود ونموه، ويعود على الإنسان بالمنفعة وسد حاجته؛ ولذلك سعى الإنسان منذ قديم عهوده إلى إعمار الأرض والسعي فيها بما يحقق له البقاء ويحافظ على نسله، فعرف الإنسان القديم الرعي والزراعة والصيد ومختلف الحرف والمهن حسب مقدرات عصره وتوفر أدواته، وكانت الزراعة من الحرف القديمة التي عرفها الإنسان منذ قديم عصره؛ من البذر وإنبات النبات والجني والحصد، كما تعلم الإنسان منذ قديم عصره أن يحافظ على قوته وأطعمته من الهلاك والفساد، وابتكر كثيرًا من الطرق في ذلك.
 
ومن بين هذا التوجيه الحكيم ما جاء في قوله تعالى:)قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلًا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ماقدمتم لهن إلا قليلًا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون (49)(      (يوسف).
 
وهنا توجيه بليغ من الله تعالى- أخبر عنه في قرآنه الحكيم- إلى طريقة علمية مبتكرة في حفظ القمح وتخزينه لفترات طويلة دون تعرضه للتلف والفساد، وهذه طريقة علمية إبداعية في تخزين الحبوب؛ حيث إن ترك الحبوب في سنابلها وتخزينها على هذه الحال هو أبقى لها وأحفظ وأقوم على دوام قدرتها الإنتاجية العالية، فهي نصيحة يوسف عليه السلام لقومه مما علمه ربه عز وجل، وهي طريقة غير مسبوق إليها، وتدل على بيان القرآن الكريم المعجز، وحقيقته الإلهية.
 
ثم يأتي الطاعن- رغم هذا- ينفي عن هذه الآية الكريمة بيانها وإعجازها، ولا يروق له هذا التوجيه القرآني المعجز في حفظ القمح في سنابله وتخزينه على هيئته مما يجعله أكثر سلامًا وأدوم بقاء؛ زاعمًا أن هذه الطريقة التي أخبر عنها القرآن الكريم من الطرق البدائية في تخزين الحبوب ولم يسبق إليها القرآن، وليس بها شيء من الإعجاز العلمي أو غيره.
 
إلا أن الطاعن غاب عنه كثير من الحقيقة، وتقاصر فهمه عن إدراك إعجاز الآية الكريمة؛ فإن القدماء كانوا يقومون بتخزين الحبوب لأوقات قادمة، ولكنهم كانوا يخزنونها معزولة عن سنابلها إلا ما يأكلونه منها فيقومون بدرسه، ولو كان غير ذلك لما كان للنصيحة- بل لمجرد ذكرها هنا- فائدة أو معنى.
 
وهذا ما يتضح من خلال إيراد أقوال المفسرين في الآيات وفهمهم لها.
 
من أقوالالمفسرين في الآية الكريمة:
 
تتواتر آراء المفسرين وأقوالهم في تفسير هذه الآيات مؤكدة أنها دلت على طريقة حكيمة في تخزين الحبوب الغذائية والحفاظ عليها من التلف والفساد.
 
فقد جاء في تفسير ابن كثير: “)قال تزرعون سبع سنين دأبًا((يوسف:47) ؛ أي: يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات، ففسر البقر بالسنين؛ لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال: )فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون (47)( (يوسف)؛ أي: مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادَّخروه في سنبله، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه، إلا المقدار الذي تأكلونه، وليكن قليلاً قليلاً، لا تسرفوا فيه؛ لتنتفعوا في السبع الشداد، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع متواليات، وهن البقرات العجاف اللاتي يأكلن السمان؛ لأن سِنِيِّ الجدب يُؤكل فيها ما جمعوه في سِنِيِّ الخصب، وهن السنبلات اليابسات”([5]).     
 
وجاء في تفسير الرازي: “وقوله: )دأبًا( (يوسف:47)، قال أهل اللغة: الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة، وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله، وقد دَأَبَ يَدْأَبُ دَأْبًا ودَأَبًا؛ أي: زراعة متوالية في هذه السنين… )فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون(47)( (يوسف):كل ما أردتم أكله فدرسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه؛ لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح،)ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد( (يوسف:48) ؛ أي: سبع سنين مجدبات، والشداد: الصعاب التي تشتد على الناس، وقوله:)يأكلن ما قدمتملهن( (يوسف:48)،هذا مجاز؛ فإن السنة لا تأكل، فيجعل أكل أهل تلك السنين مسندًا إلى السنين، وقوله:)إلا قليلاً مما تحصنون (48)((يوسف)، الإحصان: الإحراز وهو إلقاء الشيء في الحصن، يقال: أحصنه إحصانًا إذا جعله في حِرْز، والمراد إلا قليلاً مما تحرزون؛ أي تدخرون”([6]).
 
فدل هذا المعنى على أن هذه الطريقة طريقة مبتكرة في هذا الوقت؛ إذ إن عادتهم كانت مستمرة في الزراعة والحصد والتخزين لفترات قريبة بعد عملية الدِّراس، وفصل الحبوب عن سنابلها، فدلهم على طريقة جديدة هي أحفظ وأبقى للحبوب عن الفساد والآفات والتسوس.
 
وجاء في تفسير الثعالبي: “و )دأبًا((يوسف:47): معناه: ملازمة لعادتكم في الزراعة.
 
وقوله:)فما حصدتم فذروه في سنبله((يوسف:47): إشارة برأي نافع؛ بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجتمع الطعام هكذا، ويتركب ويُؤكل الأقدم فالأقدم، ورُوي أن يوسف عليه السلام لما خرج ووصف هذا الترتيب للملك، وأعجبه أمره، قال له الملك: قد أسندت إليك تولي هذا الأمر في الأطعمة هذه السنين المقبلة، فكان هذا أول ما ولي يوسف، و)تحصنون (48)( (يوسف) معناه:  تحرزون وتخزنون؛ قاله ابن عباس، وهو مأخوذ  من الحصن، وهو الحرز والملجأ، ومنه تحصين النساء؛ لأنه بمعنى التحرز”([7]).   
 
وأكد على هذا أيضًا الشيخ الشعراوي في تفسيره فقال: “)قال تزرعون سبع سنين دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون (47)( (يوسف)؛ أي: كلوا البعض وليكن قليلاً قليلاً، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن سنين الجدب؛ لتأكلوا فيها ما جمعتموه في سنين الخصب، اتركوا البعض الآخر لاستمرار النوع، وتبين أن أفضل وسيلة لحفظ حبوب القمح في عصرنا هي أن نتركه في سنابله وكذلك الذرة نتركها في غلافها.
 
وكان تعبير الرؤيا دقيقًا؛ لأنه يريد أن يستبقي للناس حياتهم في زمن الجدب، ويستبقي لهم كذلك الضرع الحيواني، فتأكل الناس الحَبَّ، وتأكل الماشية التبن المتبقي، وكذلك ضمن الحق مقومات الحياة لكل ما يلزم للحياة”([8]).   
 
ويقول أيضًا: “والحفظ في السنابل يعلمنا قدر القرآن، وقدرة من أنزل القرآن سبحانه، وما آتاه الله عز وجل ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خُزِّن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس”([9]).
 
وهكذا يتبين- من خلال عرض آراء المفسرين وما جاء فيها من دلالات لفظية- أن طريقة تخزين القمح في سنابله من أفضل الطرق التي تحافظ على المحصول الزراعي من التلف والتسوس والفساد لفترات زمنية طويلة، وهي طريقة إبداعية مبتكرة لم يعرفها أحد من قبل، ولم يستخدمها المصريون القدماء من قبل، بل كانوا يدرسون المحاصيل الزراعية، ويخزنونها مفصولة عن سنابلها، فدلهم يوسف عليه السلام على هذه الطريقة الإبداعية في حفظ القمح لفترات طويلة دون أن يفسد، وهذا لا شك إعجاز علمي للقرآن الكريم في الإخبار عن هذه الوسيلة المبتكرة التي لم يسبق أحد إليها.
 
كما أن الآية الكريمة بهذا البيان الواضح والتفسير المعجز تتطابق مطابقة تامة مع سياق الحقائق العلمية الواردة عن هذه الطريقة في تخزين المحاصيل، بل إنها لتؤكد إعجاز القرآن الكريم في الإخبار عن هذه الطريقة والتوجيه إليها؛ حيث أثبت العلماء في العصر الحديث أن تخزين الحبوب الزراعية في سنابلها من أفضل الطرق والوسائل التي تحافظ على هذه الحبوب من مختلف الآفات والأضرار، وتجعلها أبقى على سلامتها وصلاحيتها لسنوات عدة، بالإضافة إلى الحفاظ على قدراتها الإنتاجية مهما تقدم بها الزمن.
 
فحفظ القمح في سنابله “من الوسائل الناجحة؛ لأن الحبوب في السنابل تكون محاطة بأغلفة واقية تحميها من الإصابة بالأمراض الفطرية وتعزلها عن تيارات الهواء المباشر الحامل لجراثيم هذه الأمراض، كما توفر لها حماية كافية من غزو الحشرات الثاقبة للبذور؛ لما تلاقيه من صعوبات في اجتياز هذه الأغلفة وما تحمله الأغلفة من أشواك مانعة، كما أن الأغلفة في حد ذاتها تعطي فرصة أحسن للتهوية المستمرة بما يقلل من فرصة ارتفاع الرطوبة حول البذور؛ وبالتالي يقلل من فرصة إنباتها، وأخيرًا فإن بعض أغلفة البذور تحتوي على مواد وكيماويات حافظة ومانعة ومعوقة للإنبات، وكذلك لإنبات الجراثيم البكتيرية والفطرية، وأهم هذه المواد ما يُعرف بحامض التساقط (الأبسيسيكABA)، وقد ثبت وجود هذه المادة في أغلفة الحبوب الجافة وفي الحبوب نفسها طالما كانت جافة بعيدة عن الرطوبة، وتُعتبر هذه المادة من أهم معوقات إنبات هذه البذور، وكذلك كافة أنواع الفطريات والجراثيم التي يحتمل أن تصيبها أثناء فترة التخزين”([10]). 
 
وعلى هذا، فإن العلم الحديث قد أثبت- بما لا يدع مجالاً للشك- أن تخزين القمح والمحاصيل الزراعية في أغلفتها وسنابلها يحافظ بدقة عليها لفترات طويلة من الزمن ولا يعتريها تغيير صحي ولا تفقد قدرتها الإنتاجية، على خلاف تخزينها منزوعة عن سنابلها وأغلفتها، وذلك لما في هذه الأغلفة والسنابل من حفاظ على الحبوب، وإمدادها بالقدرة الإنتاجية والغذائية وحمايتها من التعفن والتسوس؛ مما يدل على مدى دقة القرآن الكريم وبيانه المعجز، وسبقه العلمي في الإرشاد إلى هذه الوسيلة في تخزين المحاصيل الزراعية.
 
كما أننا نؤكد على أن  كلمة (مما تحصنون) تظهر أنهم استخدموا الصوامع والمخازن المحصَّنة في التخزين، وهذا لا يمنعنا من استخدام التقنيات الحديثة في تخزين الحبوب، ولكن سيدنا يوسف عليه السلام دلـهم على طريقة علمية وتقنية تصلح لما هو متاح من علم وتقنية يومها؛ لذلك نحن نحتاج إلى دراسات علمية بحثية في تخزين الحبوب والبذور والثمار تتلاءم مع دعوة القرآن الكريم للعلم واستغلال نواميس الله في الكون([11]).
 
صورة لصومعة حديثة يُخزن فيها القمح
 
وعلى هذا يتبين سبق القرآن الكريم وإعجازه العلمي ودقته البيانية في التوجيه الحكيم والإرشاد الطيب في استخدام هذه التقنية الفريدة في تخزين المحاصيل؛ حفاظًا منه على حياة الناس ومعايشهم، وابتكار وسيلة صالحة لحفظ أقوات الناس واستمرار حياتهم، فدل على هذه الطريقة في حفظ المحاصيل لتكون أبقى وأدوم على الصلاح وعدم التغير والحفاظ على قدرتها الغذائية والإنباتية، خلافًا لما لو تم تخزينها مفصولة عن سنابلها، وهذا ما جاء به العلم الحديث بتجاربه وأدواته، وبيَّن أن حفظ الحبوب الزراعية في سنابلها وأغلفتها يجعلها أكثر قدرة على الإنبات والإنتاج لفترات طويلة، ويجعلها أكثر حفاظًا على قيمتها الغذائية، وبعدًا عن عوامل التغير، وأكثر مقاومة للآفات والتسوس والتعفن.
 
وهذا ما يؤكد الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم النبات، ومختلف جوانب الحياة، فسبحان الذي خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وخلق كل شيء فقدَّره تقديرًا، وأنزل القرآن الكريم معجزًا للخلق في كل زمان.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
الحفاظ على حياة الناس وأغذيتهم مقصد من مقاصد الشرع الحكيم، وفضل من الله الخالق، وقد دل القرآن الكريم الإنسان على ما ينفعه وأرشده إلى ما يحقق مصالحه ومنافعه، ومن ذلك ما أخبر به القرآن الكريم عن حفظ الغلال والحبوب الزراعية لفترات طويلة من خلال تخزينها في سنابلها وأغلفتها، وهذه طريقة مبتكرة وتقنية فعالة تحافظ على الحبوب الغذائية والمحاصيل الزراعية لأطول مدة دون أن يصيبها الفساد والتعفن والآفات الضارة، كما تحافظ على قيمتها الغذائية وقدرتها الإنباتية والإنتاجية؛ الأمر الذي لا يتحقق عند فصلها عن سنابلها في هذه المدة.
 
وجاء العلم الحديث بتقنياته وتجاربه واستطاع أن يثبت ويؤكد أن هذه الطريقة في تخزين الحبوب الزراعية من أصلح الطرق وأنجعها في الحفاظ على المحاصيل الزراعية لأطول مدة زمنية دون تردٍّ في القدرات الغذائية والإنتاجية، وأن الأغلفة والسنابل تقي الحبوب من التعفن والرطوبة وتحافظ على قدراتها الإنتاجية، بالإضافة إلى استخدام الوسائل الأخرى من الحفظ والتخزين.
 
وهذا ما جاء به القرآن واضحًا بينًا لا مرية فيه ولم يسبق إليه أحد؛ إذ كان من عادة الناس والقدماء أن يدرسوا المحاصيل الزراعية بفصل الحبوب عن السنابل وتخزينها على هذا الحال، فجاءت هذه الطريقة أقوم في الاستخدام والحفاظ على المحاصيل لمدة أطول، فأرشدهم يوسف عليه السلام مما أوحاه إليه ربه وما أثبته القرآن الكريم إلى ما ينفعهم ويحافظ على حياتهم وأقواتهم من الهلاك، وهذا إعجاز بيِّن لا مرية فيه.        
 
 
(*) موقع: ابن مريم www.ebnmaryam.com.
 
[1]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج5، ص56، 57 بتصرف.  
 
[2]. أسرار عالم النبات، د. محمد غسَّان سلوم، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1410هـ/ 2009م، ص178.  
 
[3]. )فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ((يوسف:47) .. معجزة علمية، د. نظمي خليل أبو العطا، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
 
[4]. )فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ( (يوسف:47) ، د. عبد المجيد بلعابد، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.
 
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص480.
 
[6]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ج18، ص120.   
 
[7]. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1418هـ/ 1997م، عند تفسيره لهذه الآية.
 
[8]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ط1، ج6، ص3358.
 
[9]. المرجع السابق، ج11، ص6977.
 
[10]. علم النبات في القرآن الكريم، د. السيد عبد الستار المليجي، مرجع سابق، ص167.
 
[11]. )فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ((يوسف:47)  .. معجزة علمية، د. نظمي خليل أبو العطا، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

نفي الإعجاز العلمي للقرآن في إخباره عن جعل النار من الشجر الأخضر

مضمون الشبهة:

في إطار المحاولات اليائسة التي تستهدف تجريد القرآن الكريم من إعجازه العلمي، ينفي المغالطون الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80)(  (يس)، ذاهبين إلى أن المقصود بالشجر الأخضر لا يعدو أن يكون- كما فهم العرب القدماء- شجر المرخ والعفار الذي تتولد النار من قدحهما كالزناد، وليس له أية علاقة بعملية التركيب الضوئي التي تتم في الورقة الخضراء، وينتج عنها الأكسجين الذي يجب توافره لإشعال النار.

ويتساءلون: لماذا يحاول علماء المسلمين إلصاق هذه العملية- أي عملية البناء الضوئي- بالآية على الرغم من أنه لم يتم الكشف عنها إلا في العقود المتأخرة.

وجه إبطال الشبهة:

ليس صحيحًا ما ادعاه الطاعنون من أن قوله تعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس)،  لا يعدو أن يكون إشارة إلى شجر المرخ والعفار الذي تتولد النار من قدحهما؛ لأن هذا وإن كان هو المعنى الظاهر من الآية، إلا أن للآية معنى آخر لم يصل إليه علم الإنسان إلا في العقود المتأخرة؛ فالآية نص علمي مباشر في أهم العمليات الحيوية في الأرض، وهي عملية البناء الضوئي، التي تتم في النباتات الخضراء المحتوية على الكلوروفيل، وبموجبها تتحول الطاقة الشمسية إلى طاقة كيميائية مختزنة في شكل المركبات التي يتشكل منها جسم النبات ومادته العضوية، وهذه الطاقة هي التي تنطلق عائدة إلى صورتها الأولى الحرارية الضوئية في حالة الاحتراق أو التوقد، وتعرف أخشاب النبات لذلك كوقود، بل هي الأساس الذي تنشأ عنه أشكال الوقود الأخرى كالبترول والفحم، فكلاهما ناشئ من النباتات بعد دفنها في باطن الأرض أزمانًا طويلة. 

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

خُصَّت النباتات الخضراء بصبغ اليخضور (الكلوروفيل) الملوَّن لأوراق وأنسجة النباتات ذاتية التغذية باللون الأخضر، وأُعطي هذا الصبغ وغيره من الأصباغ النباتية القدرة على اصطياد وتخزين جزء من طاقة الشمس التي تصل إلى الأرض، وهي طاقة كهرومغناطيسية تتركب من موجات ذات البنفسجية، إلى الأطياف المرئية (أو أطياف النور الأبيض)، إلى الأشعة تحت الحمراء، إلى الموجات الراديوية بمختلف أطوالها.

وهناك ثمانية أنواع من هذه الأصباغ الخضراء التي تشبه في تركيبها الكيميائي جزيء الهيموجلوبين، الذي يعطي لدم الإنسان ولدماء كثير من الحيوانات لونها الأحمر القاني، والشبه تام في بناء كل من الجزيئين، فيما عدا استبدال ذرة الحديد المركزية في جزيء الهيموجلوبين بذرة ماغنسيوم في جزيء اليخضور، ويشير ذلك إلى وحدة البناء، كما يشير إلى وحدة الباني صلى الله عليه وسلم.

وتوجد الأصباغ الخضراء- مادة الكلوروفيل- في داخل جسيمات دقيقة للغاية بالخلية النباتية تُعرف باسم “البلاستيدات”، ويوجد منها ثلاثة أنواع مميزة هي: الخضراء، والملونة بألوان أخرى، والبيضاء، ويبدأ تكون كل منها من أجزاء أبسط وأدق كثيرًا في الحجم تُعرف باسم “البلاستيدات الأولية”.

والبلاستيدات هي جسيمات متناهية الضآلة في الحجم، توجد في داخل الخلايا العمادية- الطولية العمودية على جدار الأوراق النباتية- ولها حرية التحرك داخل الخلية؛ لزيادة قدرتها على اصطياد أشعة الشمس من أية زاوية تسقط بها على ورقة الشجر.

 والبلاستيدات جسيمات بييضية الشكل عادة، يحاط كل منها بغشاءين رقيقين؛ الخارجي منهما أملس، والداخلي متعرج على هيئة ثنيات داخلية تفصلها صفائح رقيقة جدًّا؛ وتحتوي الثنيات على الأصباغ الخضراء، بينما تفتقر إليها الصفائح الفاصلة بينها، وتحتوي البلاستيدات بالإضافة إلى الأصباغ النباتية على العديد من الأحماض الأمينية، والمركبات البروتينية الأخرى؛ كالدهون المفسفرة وغيرها، ويقوم الصبغ الأخضر (اليخضور) في هذه البلاستيدات بالتقاط الطاقة القادمة من الشمس واستخدامها في تأيين الماء الذي يُروى به النبات، أو الذي يمتصه من التربة إلى الأكسجين الذي ينطلق عبر ثغور ورقة النبات إلى الغلاف الغازي للأرض، والهيدروجين الذي يتفاعل مع ذرة الكربون المنتزعة من جزيء غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يأخذه النبات من الجو لتكوين السكريات والنشويات وغيرهما من الكربوهيدرات، وغاز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض لا تكاد نسبته تتعدى 03‚0%.

وتتم عملية البناء الضوئي التي تقوم بها النباتات الخضراء على مرحلتين؛ الأولى منهما تحدث في الضوء، والثانية تحدث في الظلام، والمرحلة الضوئية يتم فيها تأيين الماء إلى مكوناته من الأكسجين، والهيدروجين، وأعداد من الإلكترونات، وينطلق غاز الأكسجين  فيها إلى الجو، وتُستخدم كل من نوى ذرات الهيدروجين والإلكترونات الطليقة في المرحلة الثانية التي تتم في الظلام، والتي من نتائجها تحويل ذرة الكربون المنتزعة من جزيء غاز ثاني أكسيد الكربون إلى السكريات والنشويات، وغير ذلك من المواد الكربوهيدراتية.

وعلى العكس من ذلك فإذا أُحرق السكر أو أية مواد كربوهيدراتية في وجود الأكسجين، فإنه يتحول إلى ثاني أكسيد الكربون والماء، وتنطلق الطاقة، وكأن عملية التمثيل الضوئي هي عملية تكوين السكر بخلط ستة جزيئات من الماء مع ستة جزيئات من ثاني أكسيد الكربون في وجود الطاقة الشمسية ومادة اليخضور، فينتج عن ذلك جزيء واحد من السكر، وستة جزيئات من الأكسجين .

ويأخذ النبات من طاقة الشمس القدر اللازم لنموه، فيحول تلك الطاقة الضوئية الحرارية إلى عدد من الروابط الكيميائية بتفاعلها مع كل من الماء وثاني أكسيد الكربون، فيكون مختلف المواد الكربوهيدراتية- أي المكونة من الكربون والهيدروجين- التي يستخدمها النبات في بناء مختلف خلاياه وأنسجته، ويختزن الفائض عن حاجته على هيئة النشويات البسيطة والمركبة، والسكريات المتنوعة، كذلك فإن النبات يأخذ العديد من عناصر الأرض والماء الصاعدين مع العصارة الغذائية التي يمتصها النبات من التربة بواسطة جذوره، وتنتقل هذه العصارة الغذائية إلى كل من الساق والفروع والأوراق عبر أوعية خاصة تُعرف باسم “الأوعية الخشبية”، التي تمتد في جسم النبات كله حتى تصل إلى كل ورقة من أوراق النبات على هيئة عرق وسطي له تفرعاته العديدة التي تنقل تلك العصارة الغذائية إلى كل خلايا الورقة الخضراء؛ حيث يعاد تشكيلها على هيئة العديد من المركبات العضوية التي يحتاجها النبات، وتعود المركبات المصنعة في الأوراق الخضراء عبر أوعية خاصة تُعرف باسم “أوعية اللحاء”؛ لتقوم بتوزيعها على جميع خلايا النبات وأنسجته حسب احتياج كل واحد منها.

ومن المركبات العضوية التي تنتجها النباتات الخضراء: البروتينات من مثل الأحماض الأمينية والإنزيمات والهرمونات والدهون، مثل الزيوت، والفيتامينات التي تسهم في بناء مختلف الخلايا والأنسجة المتخصصة من مثل الألياف والأخشاب والزهور والثمار والبذور، والإفرازات النباتية المتعددة؛ كالمواد الصمغية والراتنجية وغيرها.

وباستمرار عملية التمثيل الضوئي تركز بلايين البلايين من ذرات الكربون المكونة لثاني أكسيد الكربون الجوي في داخل خلايا النباتات الخضراء، خاصة في الأوراق، وبذلك نجد أن وزن المادة الحية النباتية في تزايد مستمر مع الزمن؛ لأن كلًّا من الإنسان وأعداد كبيرة من الأنواع في مملكة الحيوان يتغذى على المواد النباتية ومنتجاتها، ويستخدم الطاقة الكيميائية المختزنة في تلك المواد النباتية لتكوين مركبات كيميائية أخرى تختزن أجزاء من تلك الطاقة، وتحول أجزاء منها إلى طاقة حرارية وحركية وكهربائية، ولما كان الإنسان وبعض أنواع الحيوان يأكلون كلًّا من النبات وبعض الحيوان، فإن جزءًا من طاقة الشمس ينتقل إلى هؤلاء الآكلين؛ وبذلك يزداد كَمُّ المادة الحية بتكرار تلك العمليات الحياتية، والتي يؤدي النبات الأخضر فيها دورًا أساسيًّا، ويصل معدل الإنتاج السنوي من المواد العضوية النباتية إلى أكثر من أربعة آلاف تريليون طن.

وتقوم النباتات الخضراء بتثبيت أربع مئة مليار طن سنويًّا في المتوسط من الكربون المستخلص من غاز ثاني أكسيد الكربون الجوي، وقد أدت هذه العملية دورًا مهمًّا في تكوين بلايين الأطنان من الفحم الحجري عبر تاريخ الأرض الطويل، خاصة في صخور العصر الفحمي (أو الكربوني).

والمنتجات النباتية هي مصدر الطاقة الحيوية في أجساد بني الإنسان وفي أجساد الحيوانات من آكلات الأعشاب، والتي تمثل مصدرًا أساسيًّا لطعام الحيوانات آكلة اللحوم، ومن فضلات كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون جميع أنواع المحروقات، وذلك بعد تجفيفها أو دفنها وتحللها بمعزل عن الهواء.

فالمادة العضوية في كل من النبات والحيوان والإنسان تتكون أصلاً من عناصر الأرض الأساسية، والماء- الهيدروجين والأكسجين- والنيتروجين وثاني أكسـيد الكربون.

وبعملية التمثيل الضوئي يبث النبات الأخضر الأكسجين  في جو الأرض ليجعله في متناول كل من الإنسان والحيوان اللذين يبثان ثاني أكسيد الكربون إلى جو الأرض، وكل من النبات والحيوان يعطي الإنسان الغذاء والطاقة.

والأرض تعطي كل الكائنات الحية مختلف العناصر التي تحتاجها، والماء الذي يعين على إتمام كل العمليات الحيوية بأمر الله وقدرته وتقديره.

والشمس تعطي جميع الصور الحياتية- من نباتية وحيوانية وبشرية- كل الطاقة التي تحتاجها، والله يهب ذلك كله من فضله وكرمه وجوده ومَنِّه وعطائه، وبديع صنعه، وعظيم حكمته.

فمركبات اليخضور تختزن الطاقة في خلايا الشجر الأخضر، ويقابلها في الخلايا الحيوانية جسيمات المتقدرات “الميتوكوندريا” (Mitochondria) التي تستهلك الطاقة المأخوذة من أي من النبات أو الحيوان، أو منهما معًا.

وعند جفاف الشجر الأخضر وغيره من النباتات الخضراء فإنها تتحول إلى أغلب مصادر الطاقة الطبيعية تقريبًا، ما عدا الطاقة النووية، وطاقة الرياح، وطاقة المد والجزر، والحرارة الأرضية، والطاقة الشمسية المباشرة.

والطاقة في الشجر الأخضر أصلها من طاقة الشمس؛ فعند جفاف النباتات الخضراء تتحول بقاياها إلى الحطب أو القش أو التبن أو الخشب أو الفحم النباتي- إذا أُحرق ذلك بواسطة الإنسان في معزل عن الهواء.

وإذا دُفنت البقايا النباتية في البحيرات الداخلية، أو في دلتاوات الأنهار، أو في الشواطئ الضحلة للبحار دفنًا طبيعيًّا، فإنها تتفحم بمعزل عن الهواء متحولة إلى الفحم الحجري، وإذا زاد الضغط والحرارة على الفحم الحجري في باطن قشرة الأرض فإنه يتحول إلى غاز الفحم الطبيعي.

وعندما تتغذى الحيوانات البحرية- خاصة الدقيقة منها- على النباتات الدقيقة أو على فتات النباتات الكبيرة ومنتجاتها الدقيقة، فإن طاقة الشمس المختزنة في تلك النباتات وفتاتها تتحول في أجساد الحيوانات إلى مواد بروتينية من الزيوت والدهون الحيوانية التي تتحلل بمعزل عن الهواء إلى النفط والغاز الطبيعي المصاحب له، وكلما زادت الحرارة والضغط على النفط المخزون في قلب قشرة الأرض تحول بالكامل إلى الغاز الطبيعي.

وعندما يُحرق أي من مصادر الوقود هذه طلبًا للطاقة الحرارية الكامنة فيه فإن أكسجين الجو يتحد مع كل من الهيدروجين والكربون المتجمعين في تلك المصادر محولاً إياها إلى بخار الماء وغاز ثاني أكسيد الكربون الذين ينطلقان عائدين إلى الغلاف الغازي للأرض.

وبذلك فإن الطاقة التي استمدها الشجر الأخضر من أشعة الشمس الواصلة إلى كوكب الأرض، فانتزع بها ذرة الكربون من جزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي للأرض- هي الطاقة نفسها التي تنطلق على هيئة اللهب الحار الناتج عن احتراق أي من مصادر الطاقة تلك في أكسجين الغلاف الغازي للأرض؛ من مثل الخشب أو الحطب أو القش أو التبن أو الفحم النباتي أو الفحم الحجري أو الغاز الفحمي أو النفط أو الغاز الطبيعي أو غاز الميثان الناتج عن تحلل الفضلات بصفة عامة، وبذلك تتحد ذرات الكربون المختزنة في تلك المصادر المتعددة للطاقة بذرات الأكسجين  الموجودة في الغلاف الغازي للأرض، كما تتحد ذرات الهيدروجين مع أكسجين الجو لتعود إليه على هيئة جزيئات كل من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، وتنطلق الطاقة.

وعلى ذلك فإن عمليات الاحتراق على سطح الأرض هي عمليات أكسدة لكل من ذرات الكربون وذرات الهيدروجين المختزنة في المواد العضوية لمختلف أشكال الوقود، لتعود مرة أخرى على هيئة ثاني أكسيد الكربون الجوي وبخار الماء، وهي تشبه عملية التنفس في كل من الإنسان والحيوان؛ حيث يُستفاد بالأكسجين  الموجود في الغلاف الغازي للأرض في أكسدة ذرات الكربون والهيدروجين الموجودة في المواد الغذائية لتتحول إلى ثاني أكسيد الكربون الذي انتُزع أصلًا من الغلاف الغازي للأرض بواسطة النباتات الخضراء، وبخار الماء الذي انتُزع من الأرض([1]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

حث الله عز وجل الإنسان في كتابه الكريم على التفكر والتدبر في السماوات والأرض، وفي الخلائق بأشكالها وأنواعها؛ وذلك لترسيخ الإيمان وتعميقه في نفوس البشر، وأن يحرصوا على زيادة الإيمان بالخالق سبحانه، ثم بكتابه؛ ليتخذوه دستورًا لحياتهم.

ويزخر القرآن الكريم بالآيات التي لها دلالات علمية واضحة- وإن شكك المشككون وطعن الطاعنون- والتي لم تتجلَّ إلا في العصر الحديث، عصر التجربة، والآية التي نحن بصددها مثل على هذا الإعجاز، يقول تعالى:)الذيجعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس).

ولكن هيهات أن يهدأ للطاعنين بال أو تسكن لهم جارحة، فأرادوا أن يطمسوا الحقيقة العلمية الباهرة التي تتجلى في هذه الآية، فقالوا: “إن القرآن لم يأتِ بجديد، فظاهر الآية كان واضحًا للعرب القدماء، فهم فهموا أن المقصود بالشجر الأخضر هو شجر المرخ والعفار الذي تتولد منهما النار”.

وفي الحقيقة نحن نسلم بما ذهبوا إليه ولا نختلف معهم فيه؛ فصحيح أن ظاهر الآية واضح لكل إنسان، وخاصة في عصر نزول القرآن الكريم، فإن المصدر الوحيد للوقود في جميع أنحاء العالم كان الشجر الأخضر ومشتقاته الذي يجف ويتحول إلى خشب، والناس كانوا يستعملون هذا الخشب للتدفئة والطهي، علمًا بأن الله تعالى يمكنه أن يذكر لنا الخشب أو الشجر اليابس بطريقة بلاغية مشابهة مع الإشارة إلى الموضوع نفسه([2]).

وإن كان هذا هو المعنى الظاهر من الآية، فإن لها معنى آخر لم يكن معلومًا للعرب أثناء نزول القرآن؛ إذ لم يتضح باطن الآية ويتجلَّ ما فيها من إعجاز إلا في عصر العلم والتجربة، فالآية نص علمي مباشر في أهم العمليات الحيوية في الأرض على الإطلاق، وهي العملية المعروفة بـ “البناء الضوئي”، والتي سبق لنا وأن بينا فحواها في الحقائق العلمية.

ومن المهم هنا أن نستعرض ما قاله المفسرون في تفسير هذه الآية الكريمة، وهذه التفسيرات قد تتفق مع الحقائق العلمية وقد تختلف معها، وهذا ليس بعيب؛ فهذه التفسيرات كانت ملائمة لحينها ومكانها، كما أنه يُؤخذ منها ويُرد عليها.

من أقوال المفسرين في الآية:

يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80) ( (يس): “أي: الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرًا نضرًا ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا، تُوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء… قال قتادة: … الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار، ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد فيأخذ منه عودين أخضرين ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار من بينهما، كالزناد سواء. رُوي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما”([3]).

ويقول القرطبي: “قوله تعالى:)الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا((يس:80) نبَّه تعالى على وحدانيته، ودلَّ على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب، وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع الحياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت، فكيف تخرج منه الحياة! فأنزل الله تعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا((يس:80)؛ أي: إن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضد النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير، ويعني بالآية ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب، ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل، يُؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار”([4]).

ويقول صاحب الظلال: “والمشاهدة الأولية الساذجة تقنع بصدق هذه العجيبة! العجيبة التي يمرون عليها غافلين، عجيبة أن هذا الشجر الأخضر الريان بالماء يحتك بعضه ببعض فيولد نارًا، ثم يصير هو وقود النار بعد اللدونة والاخضرار، والمعرفة العلمية العميقة لطبيعة الحرارة التي يختزنها الشجر الأخضر من الطاقة الشمسية التي يمتصها، ويحتفظ بها وهو ريان بالماء ناضر بالخضرة، والتي تولد النار عند الاحتكاك كما تولد النار عند الاحتراق، هذه المعرفة العلمية تزيد العجيبة بروزًا في الحس ووضوحًا.

والخالق هو الذي أودع الشجر خصائصه هذه، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، غير أننا لا نرى الأشياء بهذه العين المفتوحة ولا نتدبرها بذلك الحس الواعي، فلا تكشف لنا عن أسرارها المعجبة، ولا تدلنا على مبدع الوجود، ولو فتحنا لها قلوبنا لباحت لنا بأسرارها، ولعشنا معها في عبادة دائمة وتسبيح”([5]).

إن الآية الكريمة جاءت في معرض التحدي بين الكفر والإيمان؛ إذ يأتي الكافر بقطعة عَظْم بالية مستنكرًا أن تحيا بعد موتها، قال تعالى:)وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78)( (يس)، ولقد “تدرجت الإجابة من المجرد إلى المحسوس، ومن الغائب إلى الحاضر، فالذي خلقها أول مرة على غير مثال سابق من خاماتها الأولية قادر على إنشائها من جديد، وقد خلقها سبحانه وتعالى بقدرة وعلم: )وهو بكل خلق عليم (79)((يس)، ثم يأتي الله تعالى بالمحسوس والمشاهد والمعجز الدال دلالة قطعية على المقدرة والعلم والإتقان والإعجاز فقال:)الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس)، فالذي خلق النبات الأخضر وأنشأ به النار قادر على كل شيء؛ فالربط بين الشجر الأخضر والنار معجزة علمية، والربط بين الشجر والاخضرار معجزة كبرى، فإن غاب الشجر غابت النار والطاقة من على الأرض، وإن غاب الاخضرار من النبات هلك النبات واختفى المصدر الرئيس للطاقة الحيوية على الأرض.

فالطاقة الحيوية مصدرها الأصلي الشمس، والمنبت الرئيس للطاقة على الأرض هو النبات (الشجر)؛ حيث تسقط أشعة الشمس بضوئها وحرارتها على الأرض فترتفع درجة حرارة اليابسة والماء، ثم بعد غياب الشمس تفقد اليابسة ويفقد الماء حرارتهم، ولكن عندما تسقط أشعة الشمس على النبات فإنه يقوم بأهم وأعجز عملية حيوية على الأرض؛ حيث يحول طاقة الشمس من طاقة ضوئية إلى طاقة كيميائية مخزنة في الروابط الكيميائية لبعض المركبات الحيوية التي أنتجها النبات بما أودع الله فيه من خصائص حيوية”([6]).

 لقد جمعت الآية الكريمة بين عمليتين مهمتين هما:

عملية بناء الطاقة من عناصرها الأولية، ثم خزنها في شكل مركبات كيميائية، وهو ما يُعرف بـ “البناء الضوئي” (Photosynthesis)، وهو المستفاد من قوله تعالى:)الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا((يس:80).
عملية استخراج الطاقة من مركباتها الكيميائية في شكل طاقة حركة وطاقة حرارية وغير ذلك مما يحتاجه الكائن الحي، وهو ما يُعرف بـ “الهدم الحيوي” (Catabolism)، وهو المستفاد من قوله تعالى:)فإذا أنتم منه توقدون(80)( (يس).

وكلتا العمليتين- البناء والهدم- تجتمعان في كلمة واحدة هي الأيض (metabolism).

إن الله سبحانه وتعالى هيَّأ النبات الأخضر ليكون مصنعًا ربانيًّا خاصًّا تعمل وحداته الإنتاجية على تثبيت النار المنبعثة من ذلك الأتون المشتعل بها في كبد السماء، وهو الشمس، وخزنت هذه النار على هيئة مركبات كيميائية يمكن لكافة الكائنات الحية أن تلجأ إليها طالبة للطاقة أو الوقود، فإذا بالمركبات تلبي حاجة الطالبين)فإذا أنتم منه توقدون(80)((يس)؛ أي: تأخذون حاجتكم من الطاقة الحرارية، وكذلك كل طاقة أخرى تحتاجها حياة الكائنات الحية على اختلاف أشكالها وأنواعها([7]).

“مما سبق يتضح المضمون العلمي للآية الكريمة التي فهمها أهل البادية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخشب أو الحطب، أو بكل من المرخ والعفار، ونفهمها اليوم في إطار كل صور الطاقة ذات الأصل العضوي من النفط والغاز المصاحب له، إلى الفحم الحجري والغازات المصاحبة له، إلى الفحم النباتي، إلى كل من الخشب والحطب والقش والتبن، وغير ذلك من الفضلات النباتية والحيوانية التي يؤدي الدور الرئيس في تكوينها الشجر الأخضر، وما وهبه الله تعالى من قدرة فائقة على احتباس جزء من طاقة الشمس يعينه على إتمام عملية تأين الماء إلى أيوني هيدروجين يحمل كل منهما شحنة موجبة، وأيون أكسجين يحمل شحنة سالبة، ثم اقتناص ذرات الكربون من غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود بنسب ضئيلة جدًّا في الغلاف الغازي للأرض لا تتعدى 0,03%، وذلك بواسطة أيون الهيدروجين الناتج عن تحلل الماء، وإطلاق الأكسجين  إلى الغلاف الغازي للأرض، وكأن حركة الطاقة على الأرض- أو بالأحرى حركة الحياة- تتلخص في تبادل ذرة الكربون بين النبات والحيوان والإنسان، يأخذها النبات من الغلاف الغازي للأرض بعملية التمثيل الضوئي، ويهبها لكل من الإنسان والحيوان، ثم يطلقها كل من الإنسان والحيوان إلى الغلاف الغازي للأرض بعملية التنفس، وبين العمليتين يختزن لنا ربنا عز وجل كمًّا هائلًا من مختلف مصادر الطاقة تختزن فيه ذرات الكربون التي أخذها الشجر الأخضر من الجو وأعطاها للأرض، إما مباشرة، وإما عن طريق تخزينها على هيئة راقات هائلة من الفحم، أو مخزون ضخم من النفط والغاز يحرقه الإنسان فيرده مرة أخرى إلى الغلاف الغازي للأرض، فسبحان القائل:)الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس)” ([8]).

3)  وجه الإعجاز:

لقد اكتشف العلماء أن مصادر الوقود جميعًا تلك النطفة الخضراء الموجودة في النبات، فالنطفة تلك تخزن من وقود الشمس في أجزاء النبات وتحوله إلى مادة نباتية يسهل أكلها أو حرقها وإخراج الوقود الكامن في تلك الأجزاء، كما اكتشف العلماء في طبقات الأرض أن أصل البترول ومشتقاته- بنزين، كيروسين، وغيرهما- جميعًا متحولة من نبات مطحون بالتراب والصخور، أو حيوانات تغذت على نباتات وأخذت من النباتات الوقود، وبهذا العرف فإن جميع أنواع الوقود المستخدمة أصلها من الشجر الأخضر، ويقرر القرآن هذه الحقيقة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، قال تعالى:)الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون(80)((يس).

(*) موقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص566: 571 بتصرف.

[2]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، شركة حرف، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص103.

[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص582.

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص59، 60.

[5]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2977.

[6]. )مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا((يس:80)، معجزة قرآنية، د. نظمي خليل أبو العطا موسى، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[7]. علم النبات في القرآن الكريم، د. السيد عبد الستار المليجي، مرجع سابق، ص305، 306 بتصرف.

[8]. من آيات الإعجاز العلمي: النبات في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص572.

نفي الإشارات العلمية الواردة في إخبار القرآن عن البعوضة

مضمون الشبهة :

استنكر الطاعنون حديث القرآن الكريم عن خلق البعوضة في قوله تعالى:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦)، وقالوا: إن ضرب المثل بالبعوضة في هذا الموضع ليس دقيقًا؛ إذ ليست البعوضة دالة على عظمة الخلق كغيرها من المخلوقات الضخمة؛ كالفيل وغيره؛ ومن ثم فذكر هذه الحشرة بعيد كل البعد عن أن يكون بها أي إعجاز علمي معتبر- بالإضافة إلى أن تأنيث “بعوضة” في الآية الكريمة مجرد تأنيث لغوي وليس حقيقيًّا، وهذا يؤكد خلو الآية من أي إشارة علمية.

 وجها إبطال الشبهة :

1)إن ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالبعوضة في غاية الدقة؛ إذ البعوضة من أدل المخلوقات على عظمة الخالق، بل هي أدل على العظمة من غيرها من المخلوقات الضخمة؛ حيث إنها مع ضآلة حجمها لها عينان مركبتان؛ كل عين تتركب من ألف عُوَيْنة، ولها فَكّان علويان مسننان يشبهان الخنجرين، ولها فَكّان سفليان يشبهان المنشارين، ولها قلب مكوَّن من ثلاث غرف، وتمثل خطرًا لا يُستهان به على الإنسان والحيوان؛ فقد استطاعت أن تقتل ملايين البشر على مر العصور، بالإضافة إلى الإشارة العلمية في قوله: )فما فوقها((البقرة: ٢٦)؛ إذ إن البعوضة ليست النهاية في الضآلة، وإنما تحتوي على كائنات دقيقة ترتبط بعلاقات معقدة معها.

2)إن تأنيث القرآن للبعوضة تأنيث بيولوجي حقيقي وليس لغويًّا، بدلالة قوله تعالى:) فما فوقها((البقرة: ٢٦)، وهذا إعجاز علمي؛ حيث ثبت أن البعوضة الأنثى هي وحدها التي تمتص الدماء من الحيوانات والإنسان لتغذي بيضها عليه، أما الذكر فيتغذى على رحيق الأزهار؛ ومن ثم فإن الخطر على الإنسان يكمن في أنثى البعوض لا الذكر؛ لذلك خُصَّت بالحديث في هذه الآية.

التفصيل :

أولاً. دقة ضرب المثل بالبعوضة :

1)  الحقائق العلمية:

البعوضة حشرة ضئيلة الحجم، من ثنائيات الأجنحة (Diptera)، تتبع مجموعة ضخمة من البعوض تُعرف باسم (FamilyCulicdae)، وتضم ما بين ألفين وثلاثة آلاف نوع من البعوض‏.

ويتراوح طول البعوضة بين الثلاثة والتسعة ملليمترات‏,‏ وهي مع ضآلة حجمها فإن جسمها يتكون- كما تتكون أجساد غيرها من الحشرات- من رأس‏, وصدر‏,‏ وبطن‏,‏ ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة‏,‏ وزوج من الأجنحة الدقيقة القوية القادرة على الخفق المتواصل السريع، الذي يصل إلى ست مئة خفقة في الثانية الواحدة‏,‏ ولها قرنا استشعار في قمة الحساسية والكفاءة‏,‏ وعين البعوضة عين مركبة، تتألف من مئات العُيَيْنات المستقلة تشريحيًّا والمتكاملة وظيفيًّا؛ مما يعطيها قدرة هائلة للرؤية بالليل وبالنهار في كل أطياف الضوء‏,‏ ولها جميع الأجهزة الحيوانية كاملة على الرغم من ضآلة حجمها؛ فلها أيضًا فَكّان علويان مسنّنان يشبهان الخنجرين، ولها فَكّان سفليان يشبهان المنشارين، ولها قلب مكون من ثلاث غرف‏.

صورة لبعوضة

ومع ضآلة حجم البعوضة فإنها تمثل خطرًا لا يُستهان به على صحة كل من الإنسان والحيوان‏,‏ فالبعوضة الأنثى التي تتغذى على دماء كل من الإنسان وعلى دماء غيره من الحيوانات تصبح وسيلة خطيرة لنقل العديد من مسببات الأمراض من الفيروسات والبكتيريا والأوليات‏ (الطلائعيات‏) والفطريات‏, وغير ذلك من الكائنات الدقيقة التي تصيب كلاًّ من الإنسان والحيوان.

ومن الأمراض التي تنقلها البعوضة‏:‏ الملاريا الحميدة‏,‏ الملاريا الخبيثة‏,‏ داء الفيل‏,‏ الحمى الصفراء‏,‏ الحمى الشوكية‏,‏ الحمى النازفة‏,‏ مرض حمى أبي الركب ‏(أو حمى تكسير العظام أو حمى الركب النازفة‏),‏ حمى الوادي المتصدع‏,‏ مرض دودة القلب‏,‏ الالتهاب السحائي‏,‏ الالتهاب المخي‏,‏ الالتهاب المخي الشوكي‏.

والأمراض التي تنقلها البعوضة قد أدت إلى هلاك الملايين من البشر منذ بدء الخليقة وإلى يومنا الراهن؛ حيث لا تزال تصيب الملايين في كل عام إلى أن يشاء الله‏؛‏ ولذلك تُعد هذه الحشرة الضئيلة الحجم واحدة من أخطر الآفات الحشرية- المعروفة- الناقلة للأمراض([1]).

كيف تستطيع البعوضة تحديد مكان الإنسان أو الحيوان؟

تقوم البعوضة بتحديد مكان العائل بواسطة الشعيرات الحسية الدقيقة التي تتواجد على قرني الاستشعار وأجزاء الفم، وتنقسم هذه الشعيرات إلى نوعين: مستقبلات ميكانيكية (MechnoreceptorSensilla)، ومستقبلات كيميائية (ChemoreceptorSensilla)، وتقوم الأخيرة باستقبال رائحة ثاني أكسيد الكربون ودرجة الحرارة، وتقوم أيضًا بتحديد جزيئات الماء الذي سوف تضع فيه البيض([2]).

كيف تتم عملية امتصاص الدم؟!

تقوم البعوضةبعد الهبوط على سطح جسمالعائل بترطيب سطح الجلد، وذلك بإفراز لعابها لتسهل إمرار خرطومها في الجلد، ويشبه هذا الخرطوم إبرة المحقن أو الإسرينج؛ ولهذا الخرطوم ستة أجزاء جانبية (تشبه السكاكين) لتثبيت الخرطوم على سطح الجلد ليسهل دخوله في أقرب شريان سطحي؛ حيث لديها القدرة على تمييز وتحسس الأوردة، فتثقب البعوضة الوريد، ثم تمتص الدم بعد أن تفرز مادة مخدرة في الجلد، ويكمن السر في نقلها للأمراض في عملية التغذية من عدة عوائل؛ حيث إنها يمكن أن تأخذ الدم من عدة عوائل؛ وبذلك يمكن أن تنقل المرض من عائل لآخر من خلال فمها الثاقب الماص، وسبحان الله فإن للبعوضة في لعابها مادة مانعة للتجلط تشبه الـ (EDTA) تجعل الدم الممتص دائمًا سائلاً وسهلًا دخوله، فالبعوضة عندما تحط على هدف تقوم بتحديد مكان معين بواسطة الشفاه الموجودة في الخرطوم، فالبعوضة لها إبرة مغلفة بغلاف خاص تخرجها عندما تقوم بمص الدم، والجلد لا يُثقب بواسطة هذه الإبرة كما هو متصور، ولكن الذي يقوم بالعمل هو الفك العلوي الذي يشبه السكين والفك السفلي الذي يحتوي على أسنان مائلة نحو الداخل، فالفك السفلي يعمل بمقام المنشار؛ أي: يتحرك مثل المنشار، والجلد ينشق بمساعدة الفك العلوي الذي يكون بمقام السكين، ومن المكان المنشق يدخل الخرطوم إلى أن يصل إلى الوريد، وتقوم بعملية مص الدم في مدة قصيرة، والبعوضة عندما تلدغ الإنسان تنتفخ منطقة اللدغ، ويكون فيها احتكاك، وسبب ذلك هو اللعاب الذي قامت بإفرازه داخلها([3]).

صورة لبعوضة تقف على جلد بشري وهي تمتص الدماء:

وأنواع البعوض التي يتراوح عددها بين الألفين والثلاثة آلاف نوع نختار منها الأنواع الثلاثة الآتية:

بعوضة الإنفيل (‏Anopheles‏) التي تنقل طفيل مرض الملاريا ‏(مرض البرداء‏) بواسطة طفيل يُسمى (Plasmodium‏).
بعوضة الكيولكس (Culex‏) التي تنقل كلاًّمن طفيل مرض الفيلاريا‏,‏ وفيروس الحمى الدماغية‏.
البعوضة الزاعجة (‏Aedes‏) التي تنقل فيروسات الحمى الصفراء، والحمى الدماغية، وحمى الضنك المعروفة باسم حمى أبي الركب، أو حمى الركب النازفة، أو حمى تكسير العظام‏.

وتتم دورة طفيل مرض الملاريا ‏(البرداء‏)‏ بين بعوضة الإنفيل والإنسان؛ حيث تنفذ البعوضة مسببات المرض إلى مجرى دم الإنسان عند قرصه‏,‏ فتحملها مجاري الدم إلى الكبد؛ حيث يبدأ الطفيل في التكاثر لاجنسيًّا، ثم بعد ذلك يبدأ في مهاجمة خلايا الدمالحمراء التي تنفجر لتملأ كريات الدم الحمراء,‏ وإذا تعرض هذا المريض لقرصة أخرى من ناموسة الإنفيل فإن هذا الطور الجنسي من الطفيليات ينتقل إلى معدة البعوضة؛ حيث يتم تكاثره جنسيًّا وانتقاله إلى غددها اللعابية فيصبح جاهزًا لإصابة إنسان آخر تعضه هذه البعوضة‏,‏ وبذلك يصاب أكثر من ‏25‏ مليون إنسان بالملاريا سنويًّا في كل أنحاء الأرض‏,‏ ويُتوفى منهم قرابة مليون من الأفراد؛ مما يجعل الملاريا من أكثر الأمراض انتشارًا في كوكبنا الأرضي‏,‏ وقد عجزت أكثر دول العالم تقدمًا في مجال العلوم عن مقاومة أخطار البعوضة؛‏ ففي أغسطس من سنة ‏1995‏م انتشرت في مدينة نيوجيرسي ‏(في شرق الولايات المتحدة الأمريكية‏)‏ أسراب من البعوضة الزاعجة (Aedesalbopictus‏)، وكانت تهاجم الناس بشراسة بقرصاتها المؤلمة حتى في وضح النهار، وقد عُرفت باسم “النمر الآسيوي” (TheAsianTiger‏) لأصولهاالآسيوية‏,‏ ولشراستها في الهجوم‏,‏ وكانت هذه الحشرة قد ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية في سنة ‏1985‏م بعد أن غزت كلاًّ من جزر هاواي ومناطق من المحيط الهادي عقب الحرب العالمية الثانية ‏(1945‏م‏),‏ ولا تزال هذه الحشرة الصغيرة تجتاح آلاف الأنفس من أبناء القوة العسكرية الكبرى في العالم دون أن تنفعها أسلحتها في الدفاع عنهم([4])‏.‏

وهي تملك جهازًا لا تملكه الطائرات الحديثة، إنه جهاز رادار أو مستقبلات حرارية؛ بمعنى أن البعوضة لا ترى الأشياء بأشكالها وألوانها، بل بحرارتها.

والبعوضة تستطيع تمييز درجة حرارة الدم، فليس كل دم يناسبها، فقد ينام طفلان على سرير واحد وفي الصباح تجد جُبين أحدهما مليء بلسعات البعوض، أما الثاني فلا تجد أثرًا للسع البعوض فيه؛ وذلك لاختلاف درجة الحرارة بينهما.

والبعوضة تملك جهازًا للتخدير، فلو غرست خرطومها في جلد النائم لقتلها، ولكنها تخدر موضع لسعها، وحينما يزول أثر المخدر يشعر النائم بألم اللسع، في حين أن البعوضة تطير في جو الغرفة.

وتملك البعوضة جهازًا لتمييع الدم الذي يمتصه من الإنسان حتى يتيسر له المرور عبر خرطومها الدقيق؛ حيث تفرز مادة تمنع تجلط الدم في جلد العائل.

وللبعوضة خرطوم فيه سكاكين؛ أربع سكاكين تحدث في جلد الملدوغ جرحًا، ولا بد أن يصل الجرح إلى الوريد، والسكينتان الخامسة والسادسة تلتقيان لتشكلا خرطومًا لامتصاص الدم.

ويرف جناحا البعوضة عددًا كبيرًا من المرات في الثانية الواحدة؛ حيث يصل هذا الرفيف إلى درجة الطنين.

وفي أرجل البعوضة مخالب إذا أرادت أن تقف على سطح خشن، ولها محاجم إذا أرادت أن تقف على سطح أملس([5])‏. 

الكائنات الأصغر حجمًا من البعوضة:

قام الأستاذ الدكتور مصطفى إبراهيم حسن (أستاذ علم الحشرات الطبية، ومدير مركز أبحاث ناقلات الأمراض) بدراسة مستفيضة عن البعوضة والكائنات المرتبطة بعلاقات معقدة معها، سواء كانت أصغر منها أو أكبر، فالكائنات الأصغر منها تعيش داخل معدة البعوضة وفي غددها اللعابية؛ مثل: البكتيريا (17 نوعًا)، الفطريات (نوعان)، الفيروسات (حوالي ستة أنواع)، والأوليات (نوعان)، وأخيرًا الديدان الخيطية (ميكرو فيلاريا)، ولقد وُجد أن بعض هذه الكائنات مفيدة وضرورية لحياة البعوضة؛ مثل: البكتيريا والخميرة، وبعضها ضار بالبعوضة؛ مثل: الفيروسات والأوليات والديدان الخيطية.

تعريف البكتيريا المستوطنة للمِعَى الأوسط:

البكتيريا موجبة الجرام التي تم عزلها من المِعَى الأوسط هي: باسيلس ساتيلس، باسيلس سيرياس، باسيلس ثورينجينسيس، ستريبتوكوكس، بنيوموني، ستوماتوكوكس ميوسيلاجنوساس، ليستيريا دينتريفيكانس.

والبكتيريا سالبة الجرام التي تم عزلها هي:

إيشريشيا كولاي، سيراشيا ليكويفاشيانس، إسينيتوباكتر كالكويسيتكاس، نيسيريا ألونجاتا، نيسيريا مكوزا، أدواردزيلا تاردا، كليبسيلا تيريجينا، سالمونيلا أنتريديز، أنتيروباكتر كلواكي، سيتروباكتر دايفيرساس وشيجيلا، وهذه الأنواع مفيدة للبعوضة.
بكتيريا ولباشتيا، والتي تتواجد في مبيض البعوضة، وهي مفيدة للبعوضة.
بكتيريا باسيلس سفريكس وباسيلس ثرينجويينسس، وهذه البكتيريا تقتل البعوضة.

لا تستطيع البعوضة نقل فيروس الإيدز من إنسان إلى إنسان آخر؛ وذلك لأن كمية الفيروس المتواجدة في وجبة الدم التي تمتصها البعوضة تكون قليلة جدًّا، وتكون غير كافية لنقل المرض، ولكن البعوضة تقوم بهضم هذا الفيروس أثناء هضم وجبة الدم، وتحوِّله إلى أحماض أمينية تستخدمها البعوضة في بناء خلاياها المختلفة وتكوين البويضات.

فوائد البكتيريا المستوطنة لمعدة البعوضة:

تساعد البعوضة في تصنيع مضادات للفيروسات التي تهاجم البعوضة، والتي تدخل مع وجبة الدم؛ مثل: فيروسات حمى غرب النيل (WNV)، وحمى الدنج (DengueFever)، وحمى الوادي المتصدع، والتهاب الدماغ والمخ، والحمى الصفراء، وفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، ولقد تمكن الدكتور مصطفى إبراهيم حسن من عزل مركب وزنه الجزيئي 26 كيلو دالتون، وذلك بواسطة جهاز الفصل الكهربائي الذي يستطيع القضاء على فيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، ويحوِّله إلى أحماض أمينية تستفيد منها البعوضة في زيادة خصوبة البيض.

إن هذه البكتيريا تدافع عن البعوضة ضد المسببات المرضية المختلفة التي تدخل مع وجبة الدم التي تأخذها من إنسان أو حيوان مصاب بالمرض، وتحاول البكتيريا قتل تلك المسببات المرضية، ولكن إذا نجحت تلك المسببات في القضاء على البكتيريا المتعايشة مع البعوضة أو إضعافها، فإن تلك المسببات تتكاثر في العدد وتصل إلى مرحلة البكتيريميا في حالة البكتيريا، وفي هذه الحالة ينتقل المرض من البعوضة.

إن البعوضة لكي تنقل الأمراض للإنسان أو الحيوان لا بد أن تنجح المسببات المرضية المختلفة- بكتيريا، فيروسات، طفيليات- في القضاء على الكائنات الأدنى من البعوضة، التي تعيش داخل معدة البعوضة، ولكن هذه الكائنات الدقيقة- كما قلنا- تفرز مضادات تقتل هذه المسببات المرضية في معظم الأحيان؛ وبذلك لا تنتقل هذه المسببات المرضية من البعوضة إلى الإنسان، ومن هنا نجد أن هذه الكائنات الدقيقة تلعب دورًا حيويًّا ومهمًّا في المحافظة على حياة الإنسان، وقد تم التأكد من ذلك، وقد قمت- والكلام لا يزال للدكتور مصطفى إبراهيم حسن- بتغذية 1000 بعوضة على دم ملوَّث بتلك المسببات المرضية، وكانت النتيجة المذهلة أنه من بين 1000 بعوضة لم تستطع سوى اثنتين فقط نقل المرض، بينما 998 بعوضة لم تستطع نقل المرض على الرغم من أنهم تغذوا على الدم الملوَّث نفسه بالمسببات المرضية([6])‏.

الكائنات الأكبر حجمًا من البعوضة:

ترتبط البعوضة بعلاقات معقدة مع الكائنات الأكبر منها، وخاصة الإنسان والحيوان، فقد وُجد أن البعوضة تصيب الإنسان والحيوان بالعديد من الأمراض، ونجد أن البعوضة أيضًا ترتبط مع معظم أفراد المملكة الحيوانية بعلاقات كثيرة؛ فهي تُعتبر مصدرًا للغذاء لسمك الجامبوزيا والسحالي، والبرمائيات كالضفدعة، والطيور كالعصفور، وللثدييات مثل الخفاش، وفي الناحية الأخرى فإنها أيضًا تنقل العديد من الأمراض لها، مثل بعوضة الكيولكس التي تنقل مرض الملاريا للطيور والزواحف- كائنات أكبر من البعوضة- ويسببه نوع مختلف من طفيل الملاريا- الأدنى من البعوضة- والذي يتطور في معدة هذه الحيوانات، وهو غير الذي يصيب الإنسان([7])‏.

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

استنكر الطاعنون- قديمًا وحديثًا- حديث القرآن عن خلق البعوضة، فقال المشركون: إن الله أعظم من أن يذكر مثل هذه الحشرات في كتابه، وقال المعاصرون: إن ضرب المثل بالبعوضة في هذا الموضع ليس دقيقًا؛ إذ ليست البعوضة دالة على عظمة الخلق كغيرها من الحيوانات الضخمة كالفيل والأسد، وليست في الآية إشارة علمية أو إعجاز قرآني.

وللرد على ذلك لا بد من توضيح دقة خلق هذه الحشرة وعظمته، وفائدة هذا المثل في هذا المكان، وذلك من خلال ما يلي:

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

البعوضة: البعوض جنس حشرات مُضِرَّة من ذوات الجناحين، وهو الناموس([8])‏، جاء في معجم اللغة العربية المعاصرة: البعوض عدة أجناس من الحشرات الصغيرة المضرة، من فصيلة البعوض ثنائية الأجنحة، تغتذي الإناث منها بدم الإنسان؛ وبهذا تنقل إليه عدة أمراض، أما الذكور فتغتذي برحيق الأزهار، له عدة أسماء، منها: الناموس والبق([9])‏.

فوق: نقيض تحت، وقوله تعالى: )إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦)، قال أبو عبيدة: فما دونها، كما تقول إذا قيل لك: فلان صغير، وتقول: وفوق ذلك؛ أي: أصغر من ذلك. وقال الفراء: فما فوقها؛ أي: أعظم منها، يعني الذباب والعنكبوت([10])‏.

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

قال الله تعالى:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلاالفاسقين (26)((البقرة)، ذكر القرطبي في تفسيره أن ابن عباس قال: “لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين؛ يعني:)مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا((البقرة: 17)، وقوله:) أو كصيب من السماء((البقرة: 19)، قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال:)وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه((الحج: 73)، وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية. وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية”([11]).

وقال صاحب “صفوة البيان” في هذه الآية: “أي ليس الحياء بمانع لله تعالى من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الحقيرة والصغيرة في نظركم؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت، فإن فيها من دلائل القدرة، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول، ويشهد بحكمة الخالق، وقد جعلوا ضرب المثل بها ذريعة إلى إنكار كون القرآن من عند الله تعالى، وفي الآية إشعار بصحة نسبة الحياء إليه تعالى.

)بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦)  البعوض: ضرب من الذباب، ويُطلق على البق المعروف وعلى الناموس، )فما فوقها( (البقرة: ٢٦)  ؛ أي: في الحجم، أو في المعنى الذي وقع التمثيل فيه، وهو الصغر والحقارة”([12]).

وقال ابن القيم معلقًا على هذا المثل القرآني: “قوله تعالى:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦)،  الآية، وهذا جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكر الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة، فلو كان ما جاء به محمد كلام الله لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم الله تعالى بأن قال:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦)، فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه، وإبطال الباطل وإدحاضه، كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يُستحيى منه”([13]).

ويقول الشيخ الشعراوي: “وعندما ضرب الله مثلاً بالبعوضة استقبله الكفار بالمعنى الدنيوي دون أن يفطنوا للمعنى الحقيقي، قالوا: كيف يضرب الله مثلاً بالبعوضة، ذلك المخلوق الضعيف، الذي يكفي أن تضربه بأي شيء أو بكفك فيموت؟ لماذا لم يضرب الله تبارك وتعالى مثلاً بالفيل الذي هو ضخم الجثة، شديدة القوة، أو بالأسد الذي هو أقوى من الإنسان؟! وضرب لنا مثلاً بالبعوضة فقالوا:)ماذا أراد الله بهذا مثلًا((البقرة: ٢٦)،ولم يفطنوا إلى أن هذه البعوضة دقيقة الحجم خلقها معجزة؛ لأن في هذا الحجم الدقيق وضع الله سبحانه وتعالى كل الأجهزة اللازمة لها في حياتها، فلها عينان، ولها خرطوم دقيق جدًّا، لكنه يستطيع أن يخرق جلد الإنسان، ويخترق الأوعية الدموية التي تحت الجلد ليمتص دم الإنسان.

والبعوضة لها أرجل ولها أجنحة ولها دورة تناسلية ولها كل ما يلزم لحياتها، كل هذا في هذا الحجم الدقيق، كلما دق الشيء احتاج إلى دقة خلق أكبر.

ونحن نشاهد في حياتنا البشرية أنه مثلاً عندما اخترع الإنسان الساعة، كان حجمها ضخمًا لدرجة أنها تحتاج إلى مكان كبير، وكلما تقدمت الحضارة وارتقى الإنسان في صناعته وحضارته وتقدمه، أصبح الحجم دقيقًا وصغيرًا، وهكذا أخذت صناعة الساعات تدق حتى أصبح من الممكن صنع ساعة في حجم الخاتم أو أقل، وعندما بدأ اختراع المذياع أو الراديو كان حجمه كبيرًا، والآن أصبح في غاية الدقة لدرجة أنك تستطيع أن تضعه في جيبك أو أقل من ذلك، وفي كل الصناعات عندما ترتقي يصغر حجمها؛ لأن ذلك محتاج إلى صناعة ماهر وإلى تقدم علمي.

وهكذا حين ضرب الله مثلاً بالبعوضة وما فوقها؛ أي: بما هو أقل منها حجمًا، فإنه تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى دقة الخلق، فكلما لطف الشيء وصغر حجمه احتاج إلى دقة الخلق، ولكن الكفار لم يأخذوا المعنى على هذا النحو وإنما أخذوه بالمعنى الدنيوي البسيط الذي لا يمثل الحقيقة”([14]).

من هذا التفاسير يتبين أن من معاني هذا النص الكريم أن قدرة الله المبدعة في الخلق تتجلى في أدق المخلوقات حجمًا كما تظهر في أضخمها بناء، وتجليها في الكائنات المتناهية الضآلة في الحجم قد يكون أبلغ من وضوحها في الكائنات العملاقة، وكان الجهل بأخطار البعوض وبوجود كائنات أدق منه بكثير من وراء استنكار كل من الكفار والمشركين والمنافقين ضرب المثل في القرآن الكريم ببعض الحشرات؛ من مثل البعوض والذباب والنحل والنمل والفراش والجراد والقمل والمن.

ولـما لم يكن في زمن الوحي من يدرك من الكائنات الحية ما هو أدق من البعوضة، وذلك من مثل الفيروسات والبكتيريا، وغيرها من البدائيات والأوليات والفطريات، وغير ذلك من الكائنات الدقيقة، ومنها المتطفل وغير المتطفل- فقد جاءت الصياغة القرآنية المعجزة بقول الحق تبارك وتعالى:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦).([15])

إن ما تميزت به البعوضة من إمكانيات لا تتوافر في غيرها من المخلوقات مع ضآلة حجمها، وقدرتها على نقل الأمراض للإنسان بهذه الطريقة، وهو عاجز أمامها، لا يستطيع أن يصد خطرها عنه- ليدل على عظمة خلق الله وتحديه البشرية جميعًا في مثل هذا الخلق.

وأما عن كلمة)فما فوقها((البقرة: ٢٦)،فإن فيها إعجازًا علميًّا على كلا المعنيين اللذين ذكرهما المفسرون، وهما: الكائنات الأكبر منها، والكائنات الأصغر منها، وإن كان الراجح هو المعنى الأخير.

فإن ربط القرآن البعوضة بما فوقها- الأدنى منها- قد ألقى على تلك العلاقات المعقدة التي توجد بين الكائنات الدقيقة التي تعيش داخل معدة البعوضة، وبين قدرة البعوضة على نقل المرض للإنسان وقتله في أحيان كثيرة، فهذه الكائنات تحمي البعوضة، والشيء المعجز أنها تحمي الإنسان أيضًا عن طريق قتل المسببات المرضية التي تنتقل إليه إذا تغذت البعوضة على دمه.

أما إذا أخذنا معنى)فما فوقها((البقرة: ٢٦)، بأنه أكبر منها في الحجم، فإننا سنجد أن البعوضة ترتبط بعلاقات معقدة مع الكائنات الأكبر منها، وخاصة الإنسان والحيوان، فقد وُجد أن البعوضة تصيب الإنسان بالعديد من الأمراض([16]) كما سبق أن ذكرنا.

3)  وجه الإعجاز:

لقد جاءت الكشوف العلمية مؤيدة لعناية القرآن الكريم بالبعوضة؛ وذلك لأهميتها في حياة البشر رغم ضآلتها في عالم الأحياء، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن البعوضة تتمتع بما لم يتمتع به غيرها من المخلوقات؛ حيث لها عينان مركبتان؛ كل عين تتركب من ألف عُوَيْنة، ولها فَكّان علويان، وفَكّان سفليان، ولها قلب مكوَّن من ثلاث غرف، ولها ثلاثة قلوب، ومع ضآلة حجمها تمثل خطرًا لا يُستهان به على صحة كل من الإنسان والحيوان.

بالإضافة إلى إخبار القرآن أنها ليست أكثر الكائنات الحية ضآلة في الحجم- كما يتصورون- بل هناك ما هو فوقها في الضآلة ويفوقها في الخطورة؛ حيث ترتبط هذه الكائنات الدقيقة بعلاقات معقدة مع البعوضة، وقد ثبت أهميتها في هذه العلاقة.

ثانيًا. أنثى البعوض وحدها هي التي تمتص الدماء، والذكر يعيش على رحيق الأزهار:

1)  الحقائق العلمية:

من المعروف أن البعوض حشرة مصاصة للدماء، وأنها تعيش على الدم، لكن هذه المعلومة ليست صحيحة؛ لأن أنثى البعوض هي فقط التي تمص الدماء، فالأنثى تمص الدم وتتغذى عليه، وتتغذى أيضًا على رحيق الزهور، والسبب الوحيد لامتصاصها هذا الدم هو أن أنثى البعوض تحمل البيوض، وهذه البيوض تحتاج إلى بروتين لتكبر، وهذا البروتين موجود في الدم بالإضافة إلى المواد الدهنية والمواد السكرية، وبمعنى آخر: نستطيع أن نقول: إنها تحافظ على تواصل نسلها بهذه الطريقة.

إن الأنثى التي تكون حاملة للبيض تعمد إلى مص الدم من أجل تغذية البيض، وتضع الأنثى هذا البيض في الماء، فالبعوضة الأم بواسطة اللاقطات الحساسة الموجودة تحت بطنها تقوم بالبحث عن مكان مناسب لوضع بيضها، وعندما تجد المكان المناسب المحتوي على الماء تقوم بوضع بيضها، وطول كل بيضة لا يتجاوز الملليمتر الواحد، فتضعها واحدة تلو الأخرى أو في شكل مجموعة حسب نوع البعوض، ويصل عدد البيوضات التي تضعها في المجموعة 300 بيضة([17]).

وقد كشف العلم الحديث أن أنثى البعوض تختلف عن ذَكَره في عدة أشياء، منها: أن الأنثى هي التي تنقل الأمراض، وهي الأشد قوة وأكثر تعقيدًا؛ وذلك أن الذكور لا تظهر إلا في موسم الزواج فقط، كما أن الأنثى هي التي تلدغ وتمص الدماء وليس الذكر، لكن الأمر العجيب هو أنها لا تمصه لتتغذى عليه، ولا لتستفيد به لنفسها فقط؛ حيث قال العلماء: إن غذاء أنثى البعوض هو رحيق الزهور والدم، ولكن أنثى البعوض تحمل البيض الذي يحتاج إلى

 بروتين ليكبر؛ لذا فالأنثى الحاملة للبيض تلدغ وتمص الدم لتغذية بيضها([18]).

ويقول (Johnlioyd) في كتابه (BookOfGeneralLgnorance): “إن أنثى البعوض هي أخطر الحيوانات التي عاشت على وجه الأرض؛ حيث قتلت الملايين على مر العصور، فالبعوضة تحمل أكثر من مئة مرض

فتاك؛ مثل الملاريا، والحمى الصفراء، وحمى الضنك، والتهاب الدماغ، وداء الخيطيات، وداء الفيل، وحتى اليوم يقتل البعوض شخصًا واحدًا كل 12 ثانية”([19]).

وقد نص هذا العالم على أن أنثى البعوض هي التي تتسبب في هذه الأمراض وليس الذكر.

صورة إلكترونية للبعوضة الأنثى وهي التي تهاجم الإنسان

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

عندما تحدث القرآن الكريم عن الذباب والفراش والجراد تحدث عنهم بالجمع؛ وذلك لأن العلامات الموصوفة تشمل الذكر والأنثى معًا، ولكنه لما تحدث عن البعوضة عدَل سبحانه وتعالى إلى اللفظ المفرد المؤنث “البعوضة” كما في العنكبوت والنمل أيضًا، قال سبحانه وتعالى: )إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦).

وبالإضافة إلى أن لفظ “بعوضة” لفظ مفرد مؤنث، فإن كلمة “فما فوقها” التي أتت بعده تؤكد أن التأنيث هنا تأنيث بيولوجي وليس لغويًّا، ونص القرآن على أنثى البعوض دون ذكره هنا إعجاز علمي؛ حيث أثبت العلم الحديث أن الأنثى هي بالفعل التي تتغذى على الدماء وتنقل الأمراض، أما الذكر فهو يتغذى فقط على رحيق الأزهار.

وقد أشار الدكتور مصطفى إبراهيم- أستاذ ورئيس قسم الحشرات بجامعة الأزهر- إلى الإعجاز العلمي في تأنيث البعوضة في قوله تعالى:)إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها((البقرة: ٢٦) ؛ حيث قد أثبت عن طريق الأبحاث العلمية بوسائل تكنولوجية حديثة أن البعوضة في صيغة الأنثى هي التي تمتص الدم، وتنقل الأمراض، وأن ذكر البعوض يتغذى على رحيق الأزهار فقط، فالبعوضة الأنثى تضع المخدر قبل سحب الدم من الإنسان، وذلك بعد أن تتعرف على رائحة الإنسان على بعد خمسة كيلو مترات، وفي الظلام الدامس بالأشعة تحت الحمراء التي تكتشف بها فريستها في الظلام([20]).

3)  وجه الإعجاز:

إن إفراد لفظ “البعوضة” وتأنيثه في هذا النص القرآني يشير إلى تمايز الأنثى عن الذكر في هذه الحشرة الخطيرة، وإلى تفرد الأنثى وحدها- دون الذكر- بهذا الخطر الداهم، وهي حقيقة لم يعرفها الإنسان إلا في أواخر القرن التاسع عشر، حينما توصل العلماء بعد المتابعة الدقيقة إلى أن أنثى البعوض هي وحدها التي تمتص الدم، أما الذكر فيعيش على رحيق الأزهار.

(*) معنى:)إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا( (البقرة: ٢٦)،مقال منشور بموقع: ملتقى البشارة الدعويwww.albshara.com. تأويل القرآن من أجل احتكار العلم، مقال منشور بموقع: الحوار المتمدنwww.ahewar.org.

[1].من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص175، 176.

[2]. الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا((البقرة: ٢٦)، د. مصطفى إبراهيم حسن، بحث منشور ضمن بحوث المؤتمر العالمي العاشر للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مرجع سابق، ج1، ص51.

[3].حيوانات ذُكرت في القرآن الكريم، د. عاطف الهندي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[4].من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص177، 178 بتصرف.

[5]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في ممالك الطير والنحل والحشرات، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج12، ص279، 280 بتصرف.

[6]. الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا((البقرة: ٢٦) ، د. مصطفى إبراهيم حسن، مرجع سابق، ج1، ص52: 54.

[7]. المرجع السابق، ج1، ص56.

[8]. المعجم الوسيط، مادة: بعض.

[9]. معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: بعض.

[10]. لسان العرب، مادة: فوق.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص241، 242.

[12].صفوة البيان لمعاني القرآن، حسنين محمد مخلوف، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1987م، عند تفسير هذه الآية.

[13]. بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وعادل عبد الحميد العدوي وأشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1416هـ/ 1996م، ج4، ص946.

[14]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج1، ص104، 105.

[15]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص174.

[16]. انظر: الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا((البقرة: ٢٦)،  د. مصطفى إبراهيم حسن، مرجع سابق، ج1، ص56.

[17]. مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، يوسف نوفل، مرجع سابق، ص226 بتصرف.

[18]. لماذا أنثى البعوض، مقال منشور بموقع: www.forum.rjeem.com.

[19]. أضف إلى معلوماتك، مقال منشور بموقع: قلعة سكر نت www.qalatsuker.net.

[20]. ندوة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، مقال منشور بموقع: www.uv-edu.eg.

نفي الإعجاز العلمي في حديث الذبابة
 
مضمون الشبهة:
 
ثار كثير من الجدل- قديمًا وحديثًا- من قِبل بعض المشككين حول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء»، مدَّعين أنه مناقض للعقل، يأباه الطبع، مخالف للعلم وحقائقه.
 
ويتساءلون: كيف يكون في الذباب الذي هو مباءة الجراثيم دواء؟ وكيف يجمع الله الداء والدواء في شيء واحد؟ وهل الذباب يعقل حتى يقدم أحد الجناحين على الآخر؟!
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1) أثبتت الدراسات الحديثة وجود جراثيم على أحد جناحي الذبابة، وبكتريوفاج- قاتل للميكروبات- على الجناح الآخر، فإذا وقعت الذبابة في إناء فيه طعام أو شراب وجب أن تُغمس فيه؛ كي يقضي البكتريوفاج على الجراثيم التي في الجناح الآخر، ثم تخرج الذبابة من الإناء، وما تخلف إلا ميكروبات ميتة؛ ومن ثم لم تختلف معطيات العلم الحديث عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنًا من أن عامل المرض وعامل الدواء محمولان على جناحي الذبابة: «فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء».
 
2) لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف أحدًا بأن يأكل من الطعام الذي سقط فيه ذباب، فله أن يأكله، وله أن يتركه إذا عافته نفسه، ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج؛ إذ إن الحديث لا يتعلق بأي أصل من أصول الدين.
 
التفصيل:
 
أولاً. أثبتت الدراسات الحديثة وجود جراثيم على أحد جناحي الذبابة، وقاتل للميكروبات على الجناح الآخر:
 
1)   الحقائق العلمية:
 
أثبتت التجارب العلمية الحديثة أن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب، هي: أنه يحول البكتيريا إلى ناحيته؛ ومن ثم فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام، وألقى الجراثيم([1]) العالقة بأطرافه في ذلك الطعام أو الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم هو “مبيد البكتيريا” الذي يحمله الذباب في جوفه قريبًا من أحد جناحيه؛ ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه كافٍ لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به([2]).
 
الذبابة تقع على القاذورات والقمامة؛ ولذلك تعلق الجراثيم بأرجلها، فإذا وقعت
على طعام أو شراب لوَّثته بتلك الجراثيم وسبَّبت أمراضًا كثيرة
 
ولقد بدأت التجارب منذ بداية القرن العشرين في مجال المضادات الحيوية باستخدام الحشرات([3])، وكان من أغربها ما قامت به الدكتورة جوان كلارك في أستراليا، وذلك عندما خرجت بتجربة وجدت فيها أن الذباب يحوي على سطح جسمه الخارجي مضادات حيوية تعالج كثيرًا من الأمراض؛ أي إن الذباب فيه شفاء!
 
يحوي الذباب على سطح جسمه الخارجي مضادات حيوية تعالج كثيرًا من الأمراض
 
لقد استغرب كل من رأى هذا البحث، ولكن التجارب استمرت؛ إذ قام العلماء بعديد من الأبحاث في هذا المجال، ووجدوا أن الذباب الذي يحمل كثيرًا من الأمراض يحمل أيضًا كثيرًا من المضادات الحيوية التي تشفي من هذه الأمراض؛ ولذلك فإن الذبابة لا تُصاب بالأمراض التي تحملها!
 
وهذا أمر منطقي؛ لأن الذبابة تحمل كثيرًا من البكتيريا الضارة على جسدها الخارجي، ولكي تستمر في حياتها ينبغي أن تحمل أيضًا مواد مضادة للبكتيريا، وهذه المواد زوَّدها بها الله عز وجل؛ ليقيها من الفيروسات والأمراض.
 
والمفاجأة أن العلماء وجدوا أن أفضل طريقة لتحرير هذه المواد الحيوية المضادة أن نغمس الذبابة في سائل! لأن المواد المضادة للبكتيريا تتركز على السطح الخارجي لجسد الذبابة وجناحها.
 
إن هذه المعلومات لم تظهر إلا منذ سنوات قليلة، وعندما يتحدث عنها علماء الغرب أنفسهم، فإنهم يتحدثون بصيغة الاستغراب؛ لأنها معلومات جديدة بالنسبة لهم وغريبة
 
أيضًا، ففي إحدى الدراسات جاء في بداية المقالة ما يأتي :
 
The surface of flies is the last place you would expect to find antibiotics
 
وهذا يعني: “أن سطح الذباب هو آخر ما يتصور الإنسان أن يجد عليه مضادات حيوية”.
 
واليوم يحاول أطباء من روسيا تطوير علاج جديد بالذباب، فقد لاحظوا أن الذباب يحوي مواد كثيرة يمكنها المساعدة على الشفاء أكثر من الأدوية التقليدية، ويقولون: إن هذا العلاج الجديد سيشكل ثورة في عالم الطب.
 
 يقول العلماء: إن الذباب يحمل أنواعًا كثيرة من البكتيريا والفيروسات والجراثيم الممرضة، ولكنه في الوقت نفسه يحمل على سطح جسده مواد مضادة لهذه الجراثيم، وإن أفضل طريقة لاستخلاص المواد الحيوية المضادة من الذبابة يكون بغمسها في السائل، وهذه اكتشافات حديثة حيرت الباحثين، ولم يكن متوقعًا أبدًا أن يجدوا الداء والدواء
في مخلوق واحد.
 
وها هو البروفيسور (juan alvaez bravo) من جامعة طوكيو، يقول: إن آخر شيء يتقبله الإنسان أن يرى الذباب في المشفى، ولكننا قريبًا سوف نشهد علاجًا فعالاً لكثير من الأمراض مستخرجًا من الذباب!
 
وهناك بعض الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا يحاولون إيجاد طرق شفائية جديدة باستخدام الذباب، ويؤكدون أن العلاج بالذباب هو أمر مقبول علميًّا في المستقبل القريب؛ فمنذ أشهر قليلة حصل باحثون من جامعة (auburn) على براءة اختراع لاكتشافهم بروتين في لعاب الذبابة، هذا البروتين يمكنه أن يسرِّع التئام الجروح والتشققات الجلدية المزمنة.
 
ومنذ أيام فقط أعلن الباحثون في جامعة ستانفورد أنها المرة الأولى التي يكتشفون فيها مادة في الذباب يمكنها تقوية الجهاز المناعي للإنسان.تقول الباحثة كلارك بالحرف الواحد: (but we are looking where we belieue no – one looked before)
 
أي: إننا نبحث عن المضادات الحيوية في مكان لم يكن أحد يتوقعه من قبل([4]).
 
ما جاء في المراجع العلمية:
 
جاء في مجلة التجارب الطبية الإنجليزية، عدد 1307هـ/ 1927م، ما ترجمته: لقد أُطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حين من الزمن ماتت تلك الجراثيم واختفى أثرها، وتكوَّن في الذباب مادة سامة تُسمى “البكتريوفاج”، ولو عملت خلاصة من الذباب لمحلول ملحي لاحتوت على مادة البكتريوفاج التي يمكنها إبادة أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض.
 
وقد ذكرت الأبحاث العلمية أن الأستاذ الألماني بريفيلد من جامعة هالي بألمانيا وجد في عام 1871م أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيل من جنس الطفيليات سماه “أموزاموسكي” من عائلة “انترموفترالي” من تحت فصيلة “سيجومايسيس” من فصيلة “فيكومايسيس”، ويقضي هذا الفطر حياته في الطبقة الدهنية داخل بطن الذبابة على شكل خلايا مستديرة، ثم يستطيل ويخرج عن نطاق البطن بواسطة الفتحات التنفسية، أو بين المفاصل البطنية، وفي هذه الحالة يصبح خارج جسم الذبابة، وهذا الشكل يمثل الدور التناسلي لهذا الفطر، وتتجمع بذور الفطر في داخل الخلية إلى قوة معينة تمكِّن الخلية من الانفجار وإطلاق البذور خارجها، وهذا يكون بقوة دفع شديدة لدرجة تطلق البذور مسافة حوالي 2 مم من الخلية بواسطة انفجار الخلية.
 
واندفاع السائل يكون على هيئة رشاش، ويوجد دائمًا حول الذبابة الميتة، والمتروكة على الزجاج مجال من البذور لهذا الفطر، ورءوس الخلية المستطيلة التي تخرج منها البذور موجودة حول القسم الثالث والأخير من الذبابة على بطنها وظهرها، وهذا القسم دائمًا يكون مرتفعًا عندما تقف الذبابة على أي مسند لتحفظ توازنها واستعدادها للطيران، والانفجار- كما ذكرنا- يحدث بعد ارتفاع ضغط السائل داخل الخلية المستطيلة إلى قوة معينة، وهذا قد يكون ناتجًا عن وجود نقطة زائدة من السائل حول الخلية المستطيلة، وفي وقت الانفجار يخرج من السائل والبذور جزء من السيتوبلازم من الفطر.
 
وقد ذكر الأستاذ لانجيرون في عام 1945م أن هذه الفطريات تفرز إنزيمات قوية تحلل وتذيب أجزاء الحشرة الحاملة للمرض، ومن جهة أخرى فقد تم في سنة 1947م عزل مادة مضادة للحيوية بواسطة أدنشتين وكوك من إنجلترا ، ورولبس من سويسرا في سنة 1950م تُسمى “جافاسين” من فطر من الفصيلة نفسها التي ذكرناها، والتي تعيش في الذبابة، وهذه المادة المضادة للحيوية تقتل جراثيم مختلفة، من بينها الجراثيم السالبة والموجبة لصبغة جرام، وجراثيم الدوسنتاريا والتيفود.
 
وفي سنة 1948م عزل بريان وكورنيس وهيمخ وجيفيريس ومايكون من بريطانيا مادة مضادة للحيوية تُسمى “كلوتينيزين” من فطريات من فصيلة الفطر نفسه الذي يعيش في الذبابة، وتؤثر على الجراثيم السالبة لصبغة جرام من بينها جراثيم الدوسنتاريا والتيفود.
 
وفي سنة 1949م عزل كوكس وفارمر من إنجلترا، وجرمان ودوث وإتلنجر وبلاتنر من سويسرا مادة مضادة للحيوية تُسمى “أنياتين” من فطريات من صنف الفطر الذي يعيش في الذبابة، تؤثر بقوة شديدة على جراثيم جرام موجب، وجراثيم جرام سالب، وعلى بعض الفطريات الأخرى ومن بينها جراثيم الدوسنتاريا والتيفود والكوليرا.
 
ولم تدخل هذه المواد المضادة للحيوية بعد الاستعمال الطبي، ولكنها فقط من العجائب العلمية؛ لسبب واحد، وهو أنها بدخولها بكميات كبيرة في الجسم قد تؤدي إلى حدوث بعض المضاعفات؛ إذ إن قوتها شديدة جدًّا، وتفوق جميع المضادات الحيوية المستعملة في علاج الأمراض المختلفة، وتكفي كمية قليلة جدًّا لمنع معيشة أو نمو جراثيم التيفود والدوسنتاريا والكوليرا، وما يشبهها.
 
أما بخصوص تلوث الذباب بالجراثيم المرضية؛ كجراثيم الكوليرا والتيفود والدوسنتاريا وغيرها التي ينقلها الذباب بكثرة، فمكان هذه الجراثيم يكون فقط على أطراف أرجل الذبابة أو في برازها، وهذا ثابت في جميع المراجع البكتريولوجية.
 
ويُستدل من كل هذا على أنه إذا وقعت الذبابة على الأكل فستلمس الغذاء بأرجلها الحاملة للميكروبات المرضية- التيفود أو الكوليرا أو الدوسنتاريا- أو غيرها، وسيتلوث الغذاء كذلك إذا تبرزت عليه.
 
أما الفطريات التي تفرز المواد المضادة للحيوية، والتي تقتل الجراثيم المرضية الموجودة في براز الذبابة وفي أرجلها- فتوجد على بطن الذبابة، ولا تنطلق مع سائل الخلية المستطيلة من الفطريات، والمحتوي على المواد المضادة للحيوية إلا بعد أن يلمسها السائل الذي يزيد الضغط الداخلي لسائل الخلية، ويسبب انفجار الخلية المستطيلة، واندفاع البذور والسائل([5]).
 
من الناحية التطبيقية:
 
ومن الناحية التطبيقية قامت مجموعات من الباحثين المسلمين في كل من مصر والسعودية بإجراء عدد من التجارب على مجموعة من الآنية تحوي ماء وعسلاً، وعددًا من العصائر المختلفة، في تكرار متوازٍ، وتُركت تلك الآنية مكشوفة للذباب حتى يقع عليها، وفي بعضها غُمس الذباب، وفي مجموعة مماثلة لها لم يُغمس.
 
وعند الفحص المجهري تبين أن الشراب الذي لم يُغمس فيه الذباب قد أصبح مليئًا بالجراثيم والميكروبات، أما الذي غُمس فيه الذباب فكان خاليًا تقريبًا من ذلك.
 
وقد قام مجموعة من علماء الأحياء في جامعات القاهرة والملك عبد العزيز والأزهر بدراسات مختبرية لتحقيق الفرق بين تأثير السقوط والغمس للذبابة المنزلية على تلوث الماء والحليب والأغذية بالميكروبات والجراثيم، وقد أثبتت نتائج تلك التجارب التي كُرِّرت لعشرات المرات أن غمس الذباب في السوائل من مثل الماء والحليب والعصائر، وفي غيرها من المطعومات قد أدى إلى انخفاض واضح في كَمِّ الميكروبات عنه في مثيلاتها التي تُرك الذباب يسقط عليها ثم يغادرها، أو انتُزع منها دون أن يُغمس فيها؛ مما يوحي بأن غمس الذباب في السوائل محل البحث والدراسة قد أدى إلى إبراز عوامل مضادة للميكروبات.
 
كما أثبتت هذه الدراسة ما يأتي:
 
o  وجود عوامل مثبِّطة لنمو الكائنات الحية المسببة للعديد من الأمراض؛ كالفيروسات والميكروبات والجراثيم… وغيرها.
 
o  أن هذه العوامل المثبِّطة تقلِّل من عدد الجراثيم في المشروبات والمطعومات التي يقع عليها الذباب إذا غُمس فيها، وتحد من تكاثرها ونموها.
 
o  أن تأثير عملية الغمس على الكائنات الحية الدقيقة المسببة للأمراض هي أعلى منها على المجموع الكلي لتلك الكائنات.
 
o  إذا تُرك الذباب يقع على الأشربة والأطعمة ثم يطير عنها، أو يُنزع منها دون أن يُغمس غمسًا كاملاً فيها يؤدي إلى تلوث تلك الأشربة والأطعمة بأعداد هائلة من الكائنات الحية الدقيقة الناقلة للأمراض، ولكن إذا غُمست الذبابة في السوائل والأطعمة التي استخدمها الباحثون في التجربة، فإن أعداد تلك الكائنات الحية المجهرية تتناقص تناقصًا ملحوظًا إلى الحد الذي يجعل من شربها أو أكلها نوعًا من التطعيم عند العديد من هذه الكائنات المسببة للأمراض.
 
o  وهذه النتائج التي تم التوصل إليها تشير بوضوح إلى أن غمس الذبابة المنزلية في مختلف أنواع السوائل- محل البحث والدراسة- لا يؤدي فقط إلى تقليل أعداد الميكروبات، ولكن يحد أيضًا من نموها([6]).
 
2)    التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وبين ما جاء به الحديث الشريف:
 
مما سبق تتبين لنا حقيقتان علميتان:
 
الأولى: أن السطح الخارجي للذباب يحوي مضادات حيوية تقتل الجراثيم والفيروسات.
 
الثانية: أن أفضل طريقة لتحرير هذه المضادات الحيوية هي بغمس الذباب في السائل.
 
وقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن هاتين الحقيقتين في حديث واحد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء»([7]). وفي رواية الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحد جناحي الذباب سُمّ والآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام فامقلوه، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء»([8]).
 
وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله»([9]).
 
وفي رواية النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله»([10]).
 
الحديث صحيح وفي أعلى درجات الصحة (سندًا ومتنًا):
 
من مجموع الروايات السابقة يتبين لنا أن حديث الذبابة المطعون فيه حديث صحيح؛ فقد رواه سبعة من أئمة الحديث (البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والبزار)، وسند كل منهم صحيح؛ ومن ثم فالحديث صحيح وفي أعلى درجات الصحة من ناحية السند، فقد رُوي من طرق عدة، وعن غير واحد من الصحابة، ولم يُعرف لأحد من النقاد وأئمة الحديث طعنًا في سنده.
 
وأما من ناحية المتن فقد أثبت الطب الحديث- بما لا يدع مجالاً للشك- أن الحديث صحيح في معناه([11]).
 
دفاع العلماء عن هذا الحديث:
 
نقل الخطابي رحمه الله أن بعض من لا خلاق له تكلم في هذا الحديث، وقال: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة؟ وكيف يعلم الذباب حتى يقدِّم جناح الداء ويؤخِّر جناح الشفاء؟
 
قال: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل؛ فإن كثيرًا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة، وقد ألَّف الله بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان، وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلاً تستنبت- لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحًا وتؤخر آخر.
 
وقال ابن الجوزي: ما نُقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يُعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد- الكحل- لجلاء البصر، وذكر بعض حُذّاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء، فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى([12]).
 
وقال الذهبي: وقد نقل الأطباء أن الذباب يُسمى “الذراريح”، في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء. وقال ابن القيم: “وأما المعنى الطبي فقال أبو عبيد: معنى امقلوه: اغمسوه ليخرج الشفاء منه كما خرج الداء، يقال للرجلين: هما يتماقلان إذا تغاطّا في الماء، واعلم أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه، وهي بمنزلة السلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودع الله عز وجل في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية النافعة فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة.
 
ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيَّد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية، وقد ذكر غير واحد من الأطباء أن لسع الزنبور والعقرب إذ دلك موضعه بالذباب نفع منه نفعًا بينًا وسكنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دلك به الورم الذي يخرج في شعر العين، المسمَّى “شعرة”، بعد قطع رءوس الذباب أبرأه”([13]).
 
ولقد صدق القائل حين قال:
 
ومن العجائبِ والعجائبُ جمةٌ
 
قرب الشفاء وما إليه وصول
 
كالعِيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
 
والماءُ فوقَ ظهورِها محمول
 
 
قال الشيخ الزنداني: أجرى الدكتور نبيه باعشري- عميد كلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز- تجارب على الذباب رأيتها بعيني رأسي؛ حيث كان يرسل بعض المعيدين إلى مكان سوق السمك في جدة حيث الذباب، فيصطادون له ذبابًا، ويأتون به إليه، فيحبس الذباب، ثم يأتي بماء معقم وآنية معقمة، ويطرح الذباب في الأنبوبة، وينكسها على الماء؛ مما يضطر الذباب أن يسقط بنفسه، فإذا سقط غطَّى الأنبوبة، ثم يأخذ عينات من هذا الماء، فيزرع مزارع للجراثيم والبكتيريا، يزرع جزءًا من الماء في مزارع الجراثيم، ويزرع عُشْر مزارع للجراثيم، ثم يفعل ذلك للمرة الثالثة.
 
قال الشيخ الزنداني: كنت أرى بعيني رأسي مزارع الجراثيم التي أُخذت من سقوط الذباب بدون غمس، إذا بالجراثيم عبارة عن مستعمرات مختلفة بألوان مختلفة: أحمر، أسود، قاتم.
 
والمستعمرات الناتجة عن غمس الذباب مرتين أصغر، والتي نتجت من غمس الذباب ثلاث مرات أقل، أليس هذا دليلاً على أن الغمس أنزل مادة قضت على الجراثيم، ثم قال: هذه الجراثيم التي بقيت تنزل إلى المعدة، وفي المعدة إفرازات حمضية، هذه الإفرازات الحمضية تقتل الجراثيم، فتعالوا نضيف مواد حمضية مثل التي في المعدة، فأضاف المواد الحمضية فزاد التخلص من الجراثيم، ثم قال: هل تعرفون ما بقي من الجراثيم؟ كم يساوي؟ إنه جرثوم التطعيم، إذا دخل حث الجسم على صنع مواد مضادة تقتل الجراثيم، فتزيد الجسم صحة ووقاية. قال الدكتور باعشري: من قال للناس إن الذباب فيه داء؟!
 
كل الناس قبل الجراثيم وقبل اكتشاف الميكروسكوبات يرون الذباب حشرة صغيرة لا تضر أحدًا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن فيه داء»، والآن اكتشفوا الداء، وبعد فترة اكتشفوا الدواء، أتدرون أين الداء؟! في جناح الذبابة الآخر، أليس في هذا إعجاز قوي؟ أليس هذا دليلاً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أليس في هذا دليل على حفظ شرعة الرب العلي([14])؟!
 
ولقد فسر الدكتور مصطفى إبراهيم حسن- مدير مركز أبحاث ناقلات الأمراض بكلية العلوم جامعة الأزهر- نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة : «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم  فليغمسه، ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء»- فقال: نجد أن حرف الفاء في “فليغمسه” يفيد السرعة، بينما “ثم” تفيد التراخي والبطء؛ لذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغمس الذباب بسرعة؛ لأنه يتعلق على سطح السائل لوجود التوتر السطحي، وكلمة “ثم” بعد الغمس تعطي فرصة للأنواع المفيدة من البكتيريا والفطريات؛ لكي تفرز المواد المضادة للحيوية “الدواء” لكي تقضي على البكتيريا الضارة “الداء”.
 
ولقد أثبت الدكتور مصطفى إبراهيم حسن أنه لو أكل الإنسان أو شرب من الإناء فإن المادة الفعالة تظل نشطة في أمعاء الإنسان؛ لأن هذه البكتيريا في حالة معايشة في أمعاء العائل، كما أنها تتحمل درجات الحرارة العالية؛ أي إن الذباب حتى ولو سقط في إناء به طعام أو شراب ساخن أو بارد، فإن البكتيريا المفيدة- الدواء- تظل نشطة، وتفرز المادة الفعالة القاتلة لأنواع الميكروبات الأخرى بأقل تركيز وهو 5 ميكرو جرام، أي إن 5 جم من المادة كافية لتعقيم 1000 لتر من اللبن أو أي سائل أو طعام.
 
ولعل عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر بغمس الذباب تتضح في ميكانيكية إفراز المادة الفعالة؛ إذ إن إفراز أنواع البكتيريا النافعة والفطريات لهذه المواد لا تتم إلا في وجود وسط، وهو- هنا- الطعام أو الشراب الموجود داخل الإناء؛ حيث يسمح هذا
 
الوسط لأن يتقابل كل من الداء والدواء وجهًا لوجه دون عوائق، ويتم الالتحام، وعند ذلك تقوم الكائنات المفيدة بالقضاء على الكائنات الضارة.
 
ولقد وُجد أن المادة المضادة للحيوية والتي تقتل البكتيريا سالبة أو موجبة الجرام لا تتحرر من الخلايا الفطرية إلا إذا امتصت السائل، وعند ذلك فإنه بواسطة خاصية الضغط الإسموزي تنتفخ ثم تنفجر، وتطلق محتوياتها التي تُعتبر كالقنابل، وتقوم بالقضاء على البكتيريا الضارة([15]).
 
3)    وجه الإعجاز:
 
لقد حقق العلماء بأبحاثهم تفسير الحديث النبوي الذي يؤكد ضرورة غمس الذبابة كلها في السائل أو الغذاء إذا وقعت عليه؛ لإفساد أثر الجراثيم المرضية التي تنقلها بأرجلها أو ببرازها، هذا من ناحية.
 
ومن ناحية أخرى أشار الحديث إلى أن في أحد جناحي الذبابة داء، وهو يحمل جراثيم تسبب المرض، وفي الآخر شفاء، وهي المواد المضادة للحيوية التي تفرزها الفطريات الموجودة على بطنها، والتي تخرج وتنطلق بوجود سائل حول الخلايا المستطيلة للفطريات.
 
ثانيًا. لم يأمر الحديث الشريف أحدًا بأن يأكل من الطعام الذي سقط فيه الذباب، فله أن يأكله وله أن يتركه.
 
يدندن أعداء السنة- قديمًا وحديثًا- حول هذا الحديث ويدَّعون أنه مناقض للعقل، يأباه الطبع، وإننا نتساءل:
 
ألسنا نستعمل البنسلين إذا مرضنا؟! مع أنه مصنوع من العفن!
ألم نتداو بالستربتومايسين؟ مع أنه مصنوع من طفيليات العفن وجراثيم المقابر!
 
ومع ذلك فإن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: «فليغمسه كله»، وفي قوله: «ثم ليطرحه»، إنما هو للإرشاد والتعليم وليس على سبيل الوجوب.
 
فليس في الحديث أمر بالشرب من الشراب، ولا أمر بالأكل من الطعام بعد الغمس والإخراج، بل هذا متروك لنفس كل إنسان، فمن أراد أن يأكل منه أو يشرب بعد الغمس فله ذلك، ومن عافت نفسه ذلك فلا حرج عليه، والشيء قد يكون حلالاً، ولكن تعافه النفس؛ وذلك كالضب، فقد كان أكله حلالاً، ومع ذلك عافته نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأكل منه؛ لأنه لم يكن بديار قومه، ثم أليس فيما أرشد إليه المشرع الحكيم صلى الله عليه وسلم، والموحَى إليه من رب العالمين ما يُعتبر حفظًا من الإضاعة؟ بلى والله([16]).
 
إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تنزل لطبقة من الناس دون غيرها، ولكنها نزلت تخاطب الناس جميعًا على اختلاف مستوياتهم العلمية والفكرية والاجتماعية، والفقراء منهم والأغنياء، وكذلك نزلت تخاطب الناس في كل العصور، كل عصر يفهم من الحديث النبوي الشريف على قدر فهمه وتقدم العلم فيه.
 
ولعل هذا الحديث الشريف نزل للفقراء من الناس الذين لا تجد الأسرة منهم طعامًا إلا إناء فيه طعام، أو إناء فيه شراب، وكل أعضاء الأسرة يجتمعون إلى هذا الإناء ويأكلون ما فيه، وليس لديهم غيره، فإذا وقعت ذبابة في هذا الإناء أو ذاك، وأخرجوها منه، وعافتها نفوسهم، ولم يأكلوا منها، فسوف تبيت الأسرة كلها على الطوى، ولن تجد بيتًا من بيوتهم خاليًا من الذباب، ومعنى هذا حدوث مجاعة في هذه الطبقة من الناس، فلا مناص أمامهم من تناول طعامهم وشرابهم الذي ليس لديهم غيره، إذا سقطت فيه ذبابة وأخرجوها منه([17]).
 
إن كثيرًا من الناس في البيئات الفقيرة لا يريقون الشراب ولا الطعام الذي سقط فيه الذباب، وإنما يخرجونه، ثم يشربون منه، ويأكلون ولا يرون في ذلك حرجًا، ولا تعافه نفوسهم؛ لأنهم لم يحصلوا على هذا الشراب أو الطعام إلا بعد الكد والتعب والعرق، ونحن نرى بأعيننا من يفعل ذلك، وهو راضٍ بما صنع قرير العين بطعامه وشرابه.
 
ومما ينبغي أيضًا أن نوضحه وننبه إليه أننا حينما ننتصر للحديث الشريف الصحيح رواية ومعنى، ليس معنى هذا أننا لا نحض الناس على مقاومة الذباب، وتطهير البيوت والمنازل، والشوارع والطرقات، وعلى حماية طعامهم وشرابهم منه، كلا وحاشا.
 
فالإسلام دين النظافة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، ودين الوقاية من الأمراض والشرور، وقد جاء الإسلام بالطب الوقائي كما جاء بالطب العلاجي، وسبق إلى بعض ما لم يُعرف ولم يُتوصل إليه إلا في العصور الحديثة.
 
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمِّروا الآنية- يعني غطُّوها- وأَوْكوا الأسقية- يعني اربطوا أفواهها حتى لا يتقذر الماء، أو تدخل فيه  بعض الحشرات الضارة- وأجيفوا الأبواب- أغلقوها- وأكفتوا صبيانكم عند العشاء»([18])؟ فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى صيانة أطعمتنا، وصيانة أوعية مياهنا، والمحافظة على أولادنا الصغار من ظلمة الليل، وما عسى ينالهم في الظلمة من أذى أو شر([19]).
 
ومن ثم فالحديث النبوي لم يدع أحدًا إلى صيد الذباب ووضعه عنوة في الإناء، ولم يشجع على ترك الآنية مكشوفة، ولا على الإهمال في نظافة البيوت والشوارع، ولا يتعارض مع الحماية من أخطار انتشار الذباب بأي صورة، ولم يُجبر من وقع الذباب في إنائه واشمأز من ذلك على تناول ما فيه: )لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦).
 
وهذا الحديث لا يمنع أحدًا من القائمين على صحة الناس، ولا من الأطباء من التصدي للذباب ومقاومته بالوسائل المختلفة. ولا يمكن أن يتبادر إلى الذهن- ذهن علماء الدين أو غيرهم- أن هذا الحديث يدعو إلى إقامة مزارع للذباب، فليس معنى الحديث أن نربي الذباب لنستعمله في علاج الأمراض، لا، ولكن الحديث يذكر حالة معينة، وهي سقوط الذباب في إناء، ويذكر أنه لا ضرر من أكل ذلك الطعام بعد إخراج الذبابة منه، وعلل ذلك بأسباب أثبتت الدراسات العلمية الحديثة صحتها.
 
وإذا كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدًا إلى وضع الذباب في الإناء عنوة، أو إلى الشرب أو الأكل من الإناء الذي وقع فيه الذباب، إلا أنه صلى الله عليه وسلم يلفت نظرنا إلى أن لكل داء دواء، ويدفعنا الحديث في آخره إلى البحث عن الدواء أو الشفاء في جناحي الذباب؛ لمعالجة الأمراض التي ينقلها الذباب؛ بل إن العلم أثبت أن المادة المضادة للحيوية المعزولة من جناحي الذبابة تستطيع أن تقضي على كثير من المسببات المرضية الأخرى غير المتواجدة على الذباب.
 
o      وأخيرًا نستطيع أن نجمل وجوه الاستفادة من هذا الحديث في النقاط الآتية:
 
أن الذباب ناقل للأمراض، فنتحرز منه ما أمكن.
أنه يحمل الجراثيم في أحد جناحيه.
أنه حينما ينزل في طعام أو شراب فإنه يضع جناحه الحامل للمرض، كما في رواية الإمام أحمد: «… فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء».
أن الجناح الآخر فيه دواء يقضي على المرض الناتج عن جناحه الممرض.
أن ضرر الذباب إنما يتقى بغمسه في الإناء الذي وقع فيه.
في الحديث دعوة نبوية شريفة بعدم إهدار الطعام الذي وقع فيه الذباب، خاصة للفقراء.
في الحديث رد على كل من يدَّعي أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالأساطير؛ إذ كل كلمة نطق بها هي الحق من عند الله تعالى.
 
 
 
 
(*) موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق. وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.
 
[1]. الميكروب أو الجرثومة Germ: تركيب ينمو في الكائن العضوي أو في عضو منه، ويُطلق اللفظ أيضًا على أصغر عضو يسبب المرض. وفي تعريف آخر يُعرَّف الميكروب أو الجرثومة بأنه: جنين البذرة أو الجسم العضوي الذي يولد كائنًا حيًّا كالبوغ والبكتيريا والميكروبات التي تعيش وتولد أحياء شبيهة بها.
 
والخلية الجرثومية Germ cell: تطلق على الخلية التكاثرية التي تحتفظ بالاستمرارية على الرغم من التغيرات الحادثة في الخلايا الجسمية، فقد تصاب الخلايا الجسمية بالأذى دون أيِّ آثار على الخلايا الجرثومية، وهذه الخلايا في حال طبيعتها مستعدة للاقتران أو التزاوج Conjugation.
 
[2]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص899.
 
[3]. العلاقة بين الميكروبات والحشرات قد تكون علاقة حمل (Phoresy) أو تكافلية أو معايشة، وقد تمت دراسة دور الميكروبات المصاحبة للحشرات في نقل المرض أو إفساد الغذاء بواسطة عديد من العلماء، وكذلك ناقش علماء آخرون علاقة المعايشة بين الميكروبات والأنواع المختلفة من الحشرات.
 
[4]. الذباب فيه شفاء، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس: عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
 
[5]. دفاع عن السنة ورد شُبَه المستشرقين والكُتّاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص368: 370 بتصرف.
 
[6]. الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص900، 901. وانظر: آيات الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، مرجع سابق، ص148، 149.
 
[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، (6/ 414)، رقم (3320).
 
[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11661). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (39).
 
[9]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأطعمة، باب: في الذباب يقع في الطعام، (10/ 231)، رقم (3846). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3844).
 
[10]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: الذباب يقع في الإناء، رقم (4279). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (4262).
 
[11]. انظر: دفاع عن السنة ورد شُبَه المستشرقين والكُتّاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مرجع سابق، ص350: 359.
 
[12]. ضلالات منكري السنة، د. طه حبيشي، مطبعة رشوان، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص366.
 
[13]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ج4، ص112، 113.
 
[14]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص1016، 1017.
 
[15]. الداء والدواء في جناحي الذباب، د. مصطفى إبراهيم حسن، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (27)، جمادى الأولى 1428هـ، ص13 بتصرف.
 
[16]. دفاع عن السنة ورد شُبَه المستشرقين والكُتّاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مرجع سابق، ص372، 373.
 
[17]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج6، ص71 بتصرف.
 
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يُقتلن في الحرم، (6/ 409)، رقم (3316).
 
[19]. دفاع عن السنة ورد شُبَه المستشرقين والكُتّاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مرجع سابق، ص373.

التشكيك في الإعجاز العلمي لقوله تعالى: (وإن يسلبهم الذبابُ شيئًا لا يستنقذوه منه)

مضمون الشبهة:

يشكك الطاعنون في الإعجاز العلمي لقوله تعالى: )وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعُف الطالبُ والمطلوبُ(73)( (الحج)، زاعمين أن اختصاص الذباب بالذكر في الآية لا علاقة له بالإعجاز العلمي؛ إذ إن أي حشرة- كما يزعمون- لو سلبت الإنسان شيئًا فلا يستطيع أن يستنقذه منها، فلا يوجد مسوِّغ للقول بإعجاز علمي في هذه الآية.

وجه إبطال الشبهة:

لقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة مدى عجز الإنسان عن استنقاذ ما يسلبه الذباب منه؛ حيث زوَّده الله عز وجل بقدرة فائقة على المناورة أثناء الطيران؛ مما يعينها على الاستلاب من طعام الإنسان وشرابه والهروب بعيدًا في عملية استلاب حقيقية، كما أن الذباب يقوم بصب مادة من لعابه، وإنزيمات معدته على الطعام، فيفككه ويذيبه قبل أن يمتصه؛ أي يحوِّله إلى مادة أخرى تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن استنقاذه منه، هذا بالإضافة إلى سلب الذباب صحة الإنسان وقوته- بل ربما حياته- بما ينقله إليه من أمراض خطيرة عديدة، كالتيفود والكوليرا، وكل هذا يؤكد الإعجاز العلمي في الآية الكريمة، واختصاص الذباب دون غيره من الحشرات أو الحيوانات بهذا التحدي الإلهي المعجز.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

الذباب ينتمي لرتبة ثنائية الأجنحة، والتي تحتوي على 85 ألف نوع، فليس المقصود به الذبابة المنزلية التي نراها تروح وتجيء هنا وهناك وحسب، بل إن هناك أكثر من 40 ألف جنس من الذباب منتشر في جميع أرجاء العالم وبيئاته المختلفة، نذكر منها:

ذبابة تسي تسي:

ومعنى تسميتها- حسب اللغة السيشوانية في بوتسوانا- الذبابة المدمرة للماشية، وتتخذ من قارة أفريقيا موطنًا أساسيًّا لها؛ حيث تنتشر في مساحة شاسعة تُقدر بنحو 10,5 مليون كم2، فيما يُعرف بـ “أحزمة تسي تسي”، وتُعد أخطر حشرة في العالم؛ ذلك بأنها تحمل جرثومة تريبا نسوما بروساي المميتة، فهي تصيب الماشية- لا سيما الأبقار- بمرض قاتل، وتنقل للإنسان مرض النوم.

الذباب الأسود:

ينتشر هذا النوع من الذباب حول مجاري الأنهار، ويهاجم الإنسان والحيوان في شكل أسراب ضخمة، والذبابة السوداء صغيرة الحجم- أقصى طول لها لا يتعدى 0,5سم، قوية البنيان، لونها إما أسود أو رمادي.

ذبابة الخيل:

منها نحو 3500 نوع، منتشر في كل المناطق الاستوائية ـ في الغابات والأحراش والمناطق المفتوحة ـ والمعتدلة في الكرة الأرضية، وتتميز بكبر حجمها (0,5: 2,5سم) وسرعة طيرانها، أما لونها فبني وأسود وأصفر وأخضر.

الذباب القملي:

عبارة عن مجموعة من الحشرات الصغيرة (2,5: 10ملي) تشبه القمل والقراد، ويطلق على أفرادها اسم “البرغش”، ومنها نحو 200 نوع، وكلها طفيليات خارجية تتغذى على دم الحيوانات والطيور.

ذبابة الرمل:

منها 700 نوع، وهي ذبابة صغيرة الحجم لا يتعدى طولها في أحسن الحالات (0,4 سم)، صفراء اللون أو بنية، تغطي جسمها شعيرات كثيفة.

ذبابة الإسطبل:

تعتبر واحدة من الذباب الواخز، واسعة الانتشار، تعيش في البيئات ذات الحرارة المعتدلة، وتنشط إبان فصلي الخريف والصيف.

الذبابة النارية:

وهي نوع عجيب من الذباب يضيء ليلاً، ومنه نحو ألفي نوع، تقطن المناطق الاستوائية والمعتدلة، والعضو المسئول عن الإضاءة فيها يوجد تحت سطح الجسم، ويُعرف ضوؤه بـ “الضوء البارد”؛ نظرًا لأنه لا يشع أية حرارة.

ذبابة الفاكهة:

ذبابة تهاجم الثمار في بداية النضج، وتضع بيضها بداخلها، وتتغذى يرقاتها على لب الثمار فتتلفها؛ الأمر الذي يؤدي إلى تدهور المحصول وتدهور جودته.

الذبابة المنزلية:

وهي واحدة من أخطر الحشرات، وأكثرها إيذاء لبني الإنسان؛ وذلك لما تسببه من أمراض وعلل، وهي نهارية النشاط، تعمل طول النهار، ولا تهدأ إلا ليلاً؛ حيث تختفي تمامًا.

وهناك غير ذلك من الأنواع  كثير([1]).

صورة لبعض أنواع الذباب المختلفة

الذباب وما يسلبه من الإنسان:

الذباب المنزلي من الحشرات الشرهة، ويتغذى على القاذورات والأطعمة الملقاة في القمامة، كما أنه يقع على أي طعام أو شراب في المنزل ويسلب منه، بينما يعجز الإنسان عن مقاومته في أغلب الأحوال؛ وذلك لأن حركات الذبابة المنزلية على درجة عالية من التعقيد؛ إذ تبدأ في الاستعداد للطيران بتحديد العضلات التي سوف تستخدمها‏,‏ ثم تأخذ وضع التأهب للطيران، وذلك بتعديل وضع أعضاء التوازن فيالجهة الأمامية من الجسم‏,‏ حسب زاوية الإقلاع‏,‏ واتجاه الريح وسرعته، وذلك بواسطة خلايا حسية خاصة موجودة على قرون الاستشعار في مقدمة الرأس،‏ وهذه العملياتالمعقدة لا تستغرق أكثر من واحد من مئة من الثانية‏.‏

ومن الغريب أن الذبابة لهاقدرة على الإقلاع عموديًّا من المكان الذي تقف عليه‏,‏ كما أن لها القدرة على المناورة بالحركات الأمامية والخلفية والجانبية بسرعة فائقة لتغيير مواقعها‏,‏ وبعدطيرانها تستطيع الذبابة زيادة سرعتها إلى عشرة كيلو مترات في الساعة‏,‏ وهي تسلك في ذلك مسارًا متعرجًا، ثم تحط بكفاءة عالية على أي سطح، بغض النظر عن شكله‏,‏ وارتفاعه‏,‏واستقامته أو انحداره‏,‏ وملاءمته أو عدم ملاءمته لنزول شيء عليه‏.‏

ويساعد الذبابة على هذه القدرة الفائقة في المناورة جناحان ملتصقان مباشرة بصدرها بواسطة غشاء رقيق جدًّا مندمج مع الجناح،‏ ويمكن لأي من هذين الجناحين أن يعمل بشكل مستقل عن الآخر‏, وإن كانا يعملان معًا في أثناء الطيران على محور واحد إلى الأمام أو إلى الخلف، يدعمهما نظام معقد من العضلات يعين هذين الجناحين على أن يتما إلى مئتي خفقة في الثانية,‏ وعليها أن تستمر على ذلك لمدة نصف الساعة، وأن تتحرك لمسافة ميل كامل على هذه الحال‏.‏

وتستمد الذبابة مهاراتها الفائقة في الإقلاع‏ والطيران والهبوط من التصميم المثالي لجسدها‏ ولأجنحتها؛ إذ إن النهايات السطحية للأوردة المنتشرة في تلك الأجنحة تحمل شعيرات حساسة جدًّا لقياس ضغط الهواء واتجاه الرياح‏,‏ كذلك فإن أجهزة الحس الموجودة تحت الأجنحة‏, وخلف رأس الذبابة تقوم بنقل معلومات الطيران إلى دمائها باستمرار، ثم إلى رأسها الذي يرسل أوامره إلى العضلات باستمرار أيضًا لتوجيه الأجنحة في الاتجاه الصحيح‏,‏ وبذلك يتم توجيه الذبابة في أثناء الطيران بدقة وإحكام فائقين؛ مما يعينها على إصابة الهدف‏,‏ وتجنب المخاطر بكفاءة عالية.

البنية التشريحية للذبابة

ويعين الذبابة في ذلك أيضًا عينان مركبتان‏,‏ لا يزيد حجم الواحدة منهما عن نصف المليمتر المكعب‏,‏ وتتكون كل عينمنهما من ستة آلاف عيينة سداسية لها القدرة على الرؤية في جميع الاتجاهات‏,‏ وكلواحدة من هذه العيينات مرتبطة مع ثماني خلايا عصبية مستقبِلة للضوء‏,‏ اثنان منها للألوان‏,‏ وستة متخصصة في ضبط تحركات الذبابة؛ لأنها تكشف كل شيء في المجال البصري لها، وبذلك يكون مجموع الخيوط العصبية في الواحدة من عيني الذبابة ما يُقدر بـ ‏48 ألف خيط عصبي، يمكنها معالجة أكثر من مئة صورة في الثانية الواحدة‏.

هذا بالإضافة إلى مليون خلية عصبية متخصصة بالتحكم في حركة الذبابة من أعلى إلى أسفل وبالعكس‏,‏ ومن الأمام إلى الخلف وبالعكس، كل ذلك يعين الذبابة على الانقضاض على الشراب أو الطعام فتحمل منه- بواسطة كل من فمها والزغب الكثيف المتداخل الذي يغطي جسمها- ما تحمل ثم تهرب مبتعدة([2]).

صورة مكبرة لخرطوم فم الذبابة

حتى لو استطاع الإنسان الإمساك بالذبابة التي سلبت شيئًا من طعامه فإنه يظل عاجزًا عن استخلاص ما سلبته الذبابة منه؛ وذلك لأن الذباب عندما يحط على شيء من الطعام، فإن كان سائلاً سلب قطرة منه، وأوصلها فورًا إلى جهازه الهضمي الذي يمتصها، ويحولها إلى جهازه الدوري ومنه إلى مختلف خلاياه‏,‏ وإن كان مادة صلبة صب عليها لعابه، وإنزيمات معدته وعصائرها الهاضمة فيفككها فورًا ويذيبها؛ أي يهضمها قبل أن يمتصها ويوصِّلها مهضومة إلى جهازها الهضمي ومنه إلى جهازها الدوري، ثم إلى مختلف خلايا جسم الذبابة؛ حيث يتحول جزء من هذا الطعام إلى طاقة‏,‏ ويتحول جزء آخر إلى مكونات الخلايا والأنسجة‏,‏ وإلى عدد من المركبات العضوية التي يستخدمها الجسم‏,‏ ويتحول الباقي إلى فضلات تتخلص منها الذبابة‏,‏ ولا سبيل أبدًا إلى استرجاع أي من ذلك([3])؛ حيث تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن الاستفادة منه؛ لأنه قد صار مهضوم طعام ذباب، ولم يعد جزيئة من سكر أو زعفران أو عسل أو دقيق أو غير ذلك([4]).

رسم يوضح أجزاء فم الذباب

صورة للجهاز الهضمي للذباب

سلب الذباب لصحة الإنسان:

من أهم الأمراض التي يسببها الذباب:

مرض النوم الأفريقيSleepingSicknessAfrican:

يسببه طفيل من نوع المثقبات يُسمى “تريبانوسوما”، على شكل دودي وله زائدة سوطية يتحرك بواسطتها، وينقله إلى دم الإنسان ذبابة تسي تسي التي تستوطن أفريقيا الاستوائية جنوب الصحراء الكبرى، ويؤثر ذلك الطفيل على الجهاز العصبي المركزي تأثيرًا عنيفًا.

وعندما تلدغ الذبابة الجسم بفمها الذي يشبه الإبرة المجوفة يتورم مكان اللدغة ويحمر، وبعد ذلك تتورم الغدد الليمفاوية الموضعية وتتضخم تضخمًا كبيرًا، وسرعان ما تظهر الأعراض الأخرى للمرض، وهي ارتفاع درجة الحرارة والقشعريرة والصداع الشديد، وإذا لم يُعالج المريض في هذا الطور من المرض يدخل في غيبوبة تنتهي غالبًا بالوفاة.

وذبابة تسي تسي الناقلة لمرض النوم الأفريقي تتغذى على الدم، شأنها شأن البعوضة الناقلة لمرض الملاريا، ولهذه الذبابة القاتلة نوعان: نوع يهاجم الإنسان، ونوع يهاجم الحيوان.

وتُكافح تلك الذبابة بالمبيدات، وبطرق أخرى، مثل: الإشعاع الذي يسبب تعقيم الذكور؛ فينقطع نسل تلك الذبابة.

والمناطق الموبوءة تصل مساحتها إلى عشرة ملايين متر مربع، وتجتاحها- بسسب المرض- المجاعات، وقلة الأرزاق والمزروعات والتربية الحيوانية؛ لذلك فإن مكافحة الذبابة لا تقضي على المرض في الإنسان فحسب، ولكنها تقضي على الفقر والمجاعات أيضًا.

حمى التيفود:

هي نتيجة العدوى ببكتيريا السالمونيلا التي اكتُشفت عام 1880م، وطول الجرثومة 1/ 250 من الملليمتر، وعرضها 1/ 2000 من الملليمتر، وبالرغم من صغر حجم الجرثومة فإن لها شعيرات تتحرك بواسطتها، وتهاجم الجهاز الهضمي، وتخرج في براز المريض، وتنتقل العدوى بواسطة يد المريض نفسه- إذا لم يغسلها جيدًا- أو بواسطة الذباب المنزلي الذي يقع على براز المريض المحتوي على الجراثيم.

ويشكو مريض التيفود من ارتفاع درجة الحرارة، وصداع، وآلام بالبطن مصحوبة بإسهال أو بإمساك، ويظهر على الجلد طفح وردي من اليوم السابع إلى العاشر من المرض، كما يشكو المريض من ضعف عام ودوخة، ويبتدئ المريض في التحسن بعد أربعة أسابيع إلا إذا عُولج فينتهي المرض بعد أيام من العلاج.

الكوليرا:

مرض يسببه ميكروب نشيط الحركة، وله زائدة دقيقة تساعده على الحركة، ولميكروب الكوليرا أنواع متعددة، وتُعتبر منطقة غرب البنغال هي الأرض الأم للكوليرا، ومنها يبدأ وباء الكوليرا ليشمل مساحات واسعة من العالم في جميع القارات.

وتوجد ميكروبات الكوليرا في براز المريض، فإذا تبرَّز في مواد الماء لوَّثها بالميكروب، وينتقل المرض لمن يشرب من هذا الماء، وإذا تبرَّز في العراء وقع عليه الذباب وتعلَّق بأرجله، وبعد ذلك يقع الذباب على الأطعمة في الأسواق والمنازل فيلوِّثها، فتصير هذه الأطعمة مصدرًا للعدوى بمرض الكوليرا.

ومن علامات هذا المرض: أن له فترة حضانة من 1: 5 أيام، وبعدها يبدأ الإسهال ببراز مائي بكميات كبيرة جدًّا، تسبب جفافًا بالجسم، وغالبًا يكون القيء مصاحبًا للإسهال، وإذا لم يُسعف بالعلاج بإعطائه سوائل بالوريد وغذاء ومضادات حيوية، فإنه سرعان ما يموت، والجسم في حالة جفاف شديد.

الزحال (الدوسنتاريا):

 ميكروب المرض يوجد في براز المريض؛ وبالتالي ينقله الذباب، وقد ينتقل بواسطة الإنسان إذا لم يغسل يديه جيدًا بعد قضاء الحاجة، ومن أهم علامات المرض الدوسنتاريا الحادة، وخروج براز مدمَّم مع مخاط كثير، وعملية التبرز تكون مصحوبة بآلام شديدة.

والدوسنتاريا أنواع، من أهمها:

الدوسنتاريا الباسيلية.
الدوسنتاريا الأميبية.

الدوسنتاريا الباسيلية Bacillary Dysentery:

وتنقسم إلى أربعة أقسام رئيسية، تختلف في شدة الأعراض، وتكثر في المناطق الاستوائية؛ حيث يكثر الذباب، وأعراض المرض تختلف شدتها باختلاف نوع الميكروب المسبِّب للدوسنتاريا، إلا أن الأعراض الرئيسية هي: إسهال، وآلام أثناء التبرز، ومغص بالبطن، وبراز مدمَّم يحتوي على قيح، وترتفع درجة حرارة الجسم، ويشكو المريض من ضعف عام، ومن أهم المضاعفات: التهاب بالمفاصل، والتهاب بقزحية العين، والعلاج بقتل الميكروب بالمضادات الحيوية مع تعويض السوائل التي فقدها الجسم، وفي الحالات الشديدة في البلاد الاستوائية حيث لا يتوافر العلاج قد تحدث الوفاة بعد أيام قلائل.

الدوسنتاريا الأميبية Amoebic Dysentery:

هي إسهال مدمَّم أيضًا، ولكنه بسبب طفيل هو نوع من الأميبا، والبراز يكون مصحوبًا بقيح ومخاط كثير، وله رائحة كريهة، ويشكو المريض أيضًا من آلام بالبطن في منطقة القولون، وقد يحدث خراج بالكبد، والتهاب كبدي أميبي، ويعالج في الطب بأدوية تقتل الأميبا.

مرض عمى النهر (داء الديدان الحلزونية)Onchocerciasis:

 هو مرض ينتقل بواسطة الذباب الأحدب، أو الذبابة السوداء (Simulium)، والذبابة صغيرة الحجم جدًّا (في حجم رأس الدبوس)، وطول الدودة الأنثى نحو نصفسنتيمتر، أما قطرها فهو 0,3 من الملي، أما الدودة الذكر فأقل في الطول من الدودة الأنثى، وتنتقل الإصابة بتلك الدودة من إنسان مريض إلى إنسان سليم بواسطة لدغة الذبابة التي تعيش على امتصاص دم الإنسان؛ وبذلك تصل اليرقات المعدية للدودة إلى الغدد اللعابية في الذبابة، فما تلدغ إنسانًا بعد ذلك إلا أعدته بتلك اليرقات، وتعيش تلك الذبابة في أفريقيا الاستوائية وجنوب الجزيرة العربية، ودول شمال أمريكا الجنوبية على شواطئ الأنهار، وتلدغ الذبابة الإنسان أثناء النهار فقط، وتنمو كل يرقة إلى دودة بالغة تستقر في جسم الإنسان المريض وتكون حولها ورمًا؛ لذلك نجد الإنسان الذي لدغته الذبابة المعدية يشكو من عدد من الأورام تحت الجلد، وكل ورم يحتوي على دودة حلزونية كاملة النمو، وتنتج هذه الديدان يرقات معدية تتحرك في أنحاء الجسم حتى تصل إلى العين، وقد تسبب العمى، وكثير من الناس في المناطق الموبوءة بتلك الذبابة فقدوا أبصارهم، وتصل اليرقة المعدية تحت الجلد، فتنمو إلى الدودة البالغة بعد 3 ـ 4 شهور، وتكون حويصلة تظهر على شكل ورم تحت الجلد، وتضع الدودة الأنثى يرقات معدية تنطلق تحت الجلد، ومنه إلى أعضاء الجسم، وخصوصًا العين، فإذا ماتت اليرقات في العين فإنها تسبب العديد من الأمراض في العين، تنتهي غالبًا بالعمى؛ ولذلك يُسمى المرض أحيانًا مرض “العمى النهري”، أو “عمى النهر”.

دورة حياة الدودة الحلزونية بين الإنسان والذباب

الإصابة بالدودة الحوامة (LoaLoa):

 تنتقل بواسطة ذبابة تُسمى (Chrysops)؛ أي “الذبابة ذات القرون” أو “الذبابة ذات العيون الذهبية”، وهي تعيش على امتصاص دم الإنسان، وتستوطن وسط أفريقيا فقط على شواطئ الأنهار؛ حيث الحرارة مرتفعة، والرطوبة عالية، ويمتص هذا الذباب دم الإنسان أثناء النهار فقط، وأثناء ذلك تنتقل اليرقات من دم الإنسان إلى الذبابة، فإذا لدغت إنسانًا بعد ذلك فإنها تنقل يرقات الدودة إليه.

ويشكو المصاب بتلك الدودة من إحساس حركة تلك الديدان تحت جلده، فهذه الديدان جوَّالة داخل الجسم لا تهدأ أبدًا، وقد تصل إلى ما تحت ملتحمة العين، فتشاهَد تجري تحتها.

طول الدودة البالغة ستة سنتيمترات، وقطرها أقل من نصف ملليمتر، ولا تسبب ضررًا بجسم الإنسان، ويرقات هذه الدودة تتحرك بنشاط في دم الإنسان، إلا أنها تختفي من الدم أثناء الليل، وما إن يطلع النهار حتى تعود إلى الدم من جديد. أما لماذا تترك الدم أثناء الليل وتعود إليه أثناء النهار؟ فلا يدري أحد السر في ذلك([5]).

وهكذا يقف الإنسان عاجزًا لا يستطيع أن يسترجع ما سلبه الذباب منه، سواء من طعامه وشرابه أو صحته.

2)  التطابق بين حقائق العلم والآية الكريمة:

يقول الله تعالى في محكم آياته: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب(73)((الحج). والاستلاب في اللغة هو الاختلاس، والسلب هو نزع الشيء من الغير على القهر. يقول الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية الكريمة:”)وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه( (الحج:73)،الاستنقاذ والإنقاذ: التخليص. قال ابن عباس: كانوا يُطْلون أصنامهم بالزعفران فتجف، فيأتي فيختلسه. وقال السدي: كانوا يجعلون للأصنام طعامًا فيقع عليه الذباب فيأكله. )ضعف الطالب والمطلوب(73)( (الحج)، قيل: الطالب الآلهة، والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس. وقيل: الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم، فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. وقد قيل:  )وإن يسلبهم الذباب شيئًا((الحج:73)، راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لهم والوقار معها. وخُصَّ الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابًا مطاعين”([6])؟!  

ويقول الإمام ابن كثير: “أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ما استطاعوا خلق ذبابة، بل لو استلبتهم الذبابة شيئا من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها، فمن هذه صفته وحاله كيف يُعبد ليرزق ويستنصر”([7])؟!

ويقول رحمه الله في موضع آخر: “)وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه((الحج:73)؛‏ أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد‏,‏ بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه‏,‏ لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب‏,‏ ثمأرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك‏,‏ هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها‏؛ ولهذا قال‏: )ضعف الطالب والمطلوب (73) ((الحج) “([8]).

وهكذا يؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة العلمية التي لم يكن للناس أي علم بها قبل العصر الحديث، وهي أن الإنسان يعجز عن استعادة شيء سلبه الذباب منه؛ حيث يتمتع الذباب بقدرة فائقة على المراوغة والمناورة أثناء الطيران بدقة وإحكام فائقين؛ مما يعينه على إصابة هدفه وتجنب المخاطر بكفاءة عالية، مما يعين الذباب على الانقضاض على الطعام والشراب، فتحمل منه بواسطة كل من فمها والزغب الكثيف المتداخل الذي يغطي جسمها ـ ما تحمل، ثم تهرب مبتعدة في عملية استلاب حقيقية بمعنييها: الاختلاس، أو نزع الشيء على القهر.

ومن ناحية ثانية فلو تمكن الإنسان من الإمساك بالذباب فإنه يعجز عن استرداد ما سلبه منه من طعام أو شراب؛ وذلك لأن الذباب يفرز الإنزيمات الهاضمة على جزيئات طعامه، فهو لا يملك جهازًا هضميًّا معقدًا، فيهضم الطعام في مكانه قبل أن يمتصه بخرطومه، فهو لا يمتصه إلا متحولاً مهضومًا متغيرًا تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن استنقاذه منه، أو إعادته لما كان عليه؛ لأنه قد صار مهضوم طعام ذباب وليس طعامًا.

ومن ناحية ثالثة فقد أثبت العلم أن الذباب ينقل أمراضًا عديدة للإنسان، ويسلبه قوته وصحته، وربما حياته أيضًا، ومن الأمراض التي ينقلها للإنسان: حمى التيفود، والدوسنتاريا بأنواعها، والسل المعوي، والكوليرا، والكثير من الأمراض والطفيليات، والعديد من الأمراض التي لم يكن الإنسان يعلم عنها شيئًا إلا مع بداية النهضة العلمية والتقدم التكنولوجي الهائل؛ مما يثبت إعجاز القرآن الكريم، وأن منزِّله عز وجل لم يختص الذباب عبثًا بهذه الحقائق، بل هو خالق كل شيء والعليم بكل شيء سبحانه وتعالى.

3)  وجه الإعجاز:

  لقد كشف العلم الحديث عن أسرار إعجازية جديدة لقوله تعالى:)وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه( (الحج:73)؛‏ حيث أثبت العلم أن حركة الذبابة المنزلية على درجة عالية جدًّا من التعقيد، فقد زوَّدها الخالق بالقدرة على المناورة أثناء الطيران بالحركات الأمامية والخلفية؛ حيث تستطيع تغيير مواقعها بدقة وإحكام فائقين مع تجنبها للمخاطر.

كما أثبت العلم أن الذباب لا يملك جهازًا هضميًّا معقدًا، فهو يمتص السوائل ويحوِّلها إلى جهازه الدوري ومنه إلى مختلف خلاياه، وأما الطعام الصلب فيصب عليه لعابه وإنزيمات معدته فيفككه ويذيبه؛ أي يهضم الطعام قبل أن يمتصه، فلا يمتصه إلا وقد صار مهضومًا تعجز كل وسائل العلم وأجهزته عن استنقاذه منه.

كما أثبت العلم أن الذباب لا يسلب الإنسان طعامه وشرابه فحسب، بل يسلبه صحته وقوته، وربما حياته أيضًا؛ حيث ينقل إلى الإنسان كثيرًا من الأمراض الخطيرة، مثل: حمى التيفود، والدوسنتاريا، والكوليرا، وغير ذلك من الأمراض الكثير.

كل هذا يثبت إعجاز القرآن العلمي وتحديه في قوله تعالى: )وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب(73)((الحج).

(*) تأويل القرآن من أجل احتكار العلم، كامل النجار، مقال منشور بموقع: الحوار المتمدن www.ahewar.org.

[1]. انظر: موسوعة عالم الحشرات: أسراره وعجائبه، د. حسن عبد الله الشرقاوي، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، ص122: 133.

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص156: 158. 

[3]. المرجع السابق، ص161. 

[4]. مثل العاجز عن خلق الذباب، محمد عتوك، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة www.55a.net. 

[5]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج6، ص67: 70 بتصرف.

[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص97.

[7]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص276.

[8]. المرجع السابق، ج3، ص235.

الطعن في إخبار القرآن عن بيت العنكبوت
 
مضمون الشبهة:
 
تواصلاً لسلسلة الشبهات والطعون حول إعجاز القرآن الكريم في خلق الحيوانات، يعرض المغرضون طعونهم حول العنكبوت وبيته في قوله تعالى: )مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهنالبيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41) ( (العنكبوت)، زاعمين أن إخبار القرآن الكريم عن بناء العنكبوت بيتها لم يقصد به أن الأنثى هي التي تقوم ببناء هذا البيت؛ لأن التأنيث الوارد في الآية تأنيث لغوي، ولا علاقة له بالتأنيث البيولوجي.
 
كما يزعمون أن وصف بيت العنكبوت بالوهن والضعف لا يتفق مع العلم الحديث الذي أثبت أن خيوط العنكبوت أقوى من مثيلها من الصلب ثلاث مرات؛ ولذلك تُستخدم في صنع الملابس الواقية من الرصاص، وأقوى من بيت الحرير وأكثر منه مرونة.
 
ويتساءلون: كيف يوصف بيت هذه مكوناته بالضعف والوهن؟!
 
وجها إبطال الشبهة:
 
لقد أشار القرآن الكريم إشارة واضحة إلى أن أنثى العنكبوت هي التي تقوم ببناء البيت وليس الذكر، وذلك في قوله سبحانه وتعالى:)اتخذت بيتًا((العنكبوت/٤١)، والتأنيث هنا ليس تأنيثًا لغويًّا؛ حيث إن العرب كانت تستخدمها للمذكر والمؤنث معًا، فلو أراد القرآن الذكر لقال: اتخذ بيتًا، ولم يقل: )اتخذت بيتًا( (العنكبوت/٤١)، وجاء العلم الحديث وبيَّن أن مهمة بناء البيت هي مهمة تضطلع بها الإناث التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي يُنسج منها البيت.
 
2.أخبر القرآن الكريم أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت، وهذه حقيقة علمية واضحة أقرها العلم الحديث؛ إذ إنه ضعيف من الناحية المادية، فلا يقي صاحبه حرًّا، ولا بردًا، ولا يحميه من أعدائه الطبيعيين، بالرغم من أن خيوطه من أقوى الخيوط، وضعيف من الناحية المعنوية؛ حيث تأكل أنثاه ذكره، ويأكل الأولاد بعضهم بعضًا، وليس هناك بيت أضعف من بيت تنهار فيه العلاقات الأسرية، ويمكر كل فرد من أفراده بالآخر، وقد أيدت كتب اللغة المعنيين؛ حيث يأتي البيت بمعنى منزل الرجل، ويأتي بمعنى امرأة الرجل وأولاده، فقد يكون البيت المادي هو الضعيف وقد تكون الأسرة هي الواهنة.
 
التفصيل:
 
أولا. أنثى العنكبوت هي التي تقوم ببناء البيت وليس الذكر:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
العنكبوت حيوان من مفصليات الأقدام‏، ويُصنف في طائفة العنكبيات،‏‏ التي تجمع رتبة العناكب أو العنكبوتيات‏ ‏ مع عدد من الرتب الأخرى التي تشمل مجموعات العقارب‏‏,‏ والقراد‏.
 
والعنكبوت‏‏ ينقسم جسمه إلى مقدمة يلتحم فيها الرأس مع الصدر‏,‏ ومؤخرة غير مقسمة تشمل البطن،‏ وتحمل المقدمة أربعةأزواج من الأقدام‏,‏ وزوجين من اللوامس‏,‏ وزوجًا من القرون الكلابيةعلى هيئة الكماشة أو المخالب التي تحتوي على غدد السم‏,‏ ويفصل مقدمة الجسم عنمؤخرته خصر نحيل‏.‏
 
وللعنكبوت عيون بسيطة يصل عددها إلى الثماني‏,‏ وقد يكون أقل من ذلك‏,‏ وهو حيوان مفترس يعيش على أكل الحشرات‏,‏ وله جلد سميك مغطًّى بالشعر‏,‏ ينسلخ عنه من سبع إلى ثماني مرات حتى يصل إلى اكتمال النضج‏.‏
 
البنية التشريحية للعنكبوت
 
وعلماء الحيوان يعرفون اليوم أكثر من ثلاثين ألف نوع من العناكب التي تتباين في أحجامها ‏(‏بين أقل من المليمتر والتسعين مليمترًا‏)‏ وفي أشكالها‏,‏ وألوانها‏,‏ ومعظمها يحيا حياة برية‏ فردية في الغالب، إلا في حالات التزاوج وفقس البيض عن الذرية‏,‏ وتمتد بيئة العناكب منمستوى سطح البحر إلى ارتفاع خمسة آلاف متر‏,‏ وللعنكبوت ثلاثة أزواج من نتوءات بارزة ومتحركة في أسفل البطن، لها ثقوب دقيقة يخرج منها السائل الذي تُصنع منه خيوطنسيج البيت الذي يسكنه؛‏ ولذلك تُعرف باسم المغازل‏,‏ وهذه المادة السائلة التيتخرج من عدد من الغدد الخاصة إلى خارج جسم العنكبوت عبر مغازل المؤخرة تجف بمجرد تعرضها للجو‏,‏ وينشأ عن جفافها خيوط متعددة الأنواع والأطوال والشدة‏,‏ تختلف باختلاف الغدد التي أفرزتها‏، ويوجد للعنكبوت أيضًا أربعة أزواج من الأرجل المفصلية.‏
 
وقد يمكث العنكبوت في بيته الذي يزاول فيه جميع أنشطته الحياتية‏,‏ وقد يتخذ له عشًّا أو مخبأً غير البيت، يرتبط به بخيط يُعرف باسم خيط المصيدة،‏ ويهرب إلى هذا المخبأ في حالات الخطر‏([1]).‏
 
وقد ثبت علميًّا أن بناء بيت العنكبوت هي مهمة إناث العناكب التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية، وقد يشترك الذكر أحيانًا بالمساعدة في عمليات التشييد أو الترميم أو التوسعة، إلا أن أصل البناء عملية أنثوية محضة([2]).
 
فأنثى العنكبوت هي التي تبني البيت؛ فهي التي تغزله، وهي التي ترغِّب الذكر في الدخول فيه؛ حيث تقوم أمامه بحركات مُغْرية، وتُسمعه بعض الألحان الطنانة، فيأوي إلى بيتها، وبعد التلقيح تأكله إن لم يفر ويهرب كما سنفصله في الوجه الثاني.
 
وكتب الأستاذ عبد الوهاب الراوي يقول: أنثى العنكبوت هي التي تنسج خيوط بيتها وليس ذكرها، ويُعتبر هذا البيت شَرَكًا للإيقاع بالفريسة… إن الأسباب أو الأغراض التي جعل الله سبحانه وتعالى الأنثى- وليس الذكر- تنسج خيوط شبكة البيت، هي أن الأنثى أنشط من الذكر في الاقتناص، فتنسج شركًا فتهجع إليه للإيقاع بفرائسها من الحشرات العابرة، وتعمل الشبكة كأكياس لحفظ البيض، وكبيت لحماية صغار العنكبوت، وقليلاً ما يبقى بيت العنكبوت أكثر من يوم واحد؛ إذ يتلف بعد عدد من القنص، وحتى لا تضيِّع العنكبوت البروتين الذي منه نسجت بيتها، تجمع الخيوط بلفة واحدة فتلتهمها؛ لكي تغزلها ثانية في اليوم التالي.
 
وعندما تكون الأنثى في دور الاقتناص تهجع ساكنة إلى الشبكة ممدِّدة أحد أرجلها الثمانية؛ لكي تتحسس حركة الشبكة في حالة دخول حشرة غريبة فتنقض عليها، أما إذا دخل ذكر العنكبوت الشبكة للتآلف معها، فيداعب الشبكة بحركة تفهمها الأنثى، وتميزها من حركة حشرة غريبة.
 
وتأكيدًا لهذه الحقيقة العلمية- أن الأنثى هي التي تنسج البيت وليس الذكر- يقول عالم الأحياء الشهير ديفيد أتنبرو Sir David Attenborough ([3]): يوجد ما يقارب من 30000 من الأجناس المتنوعة للعناكب المعروفة
 
 إلى الآن، ومن المحتمل وجود العدد نفسه منها ما زال لم يُكتشف بعد، وفي كافة العناكب المعروفة حقيقة فإن الأنثى دائمًا هي التي تنسج الشبكة- البيت- (Webb)([4]).
 
وفي أسفل بطن أنثى العنكبوت ثلاثة أزواج من النتوءات، بها ثقوب دقيقة يخرج منها سائل خاص، هو المادة الخام لصناعة خيوط الحرير، وذلك السائل يجف فورًا عند ملامسته الهواء، وينشأ عن ذلك خيوط حرير العنكبوت، مثله في ذلك مثل حرير دودة القز، وخيط العنكبوت مكون من عدد كبير من الخيوط، وهو خيط متين، بل هو من أقوى الخيوط بالنسبة لسمكه.
 
صورة لخيوط العنكبوت وهي تنتج من غدد الحرير، وكأنه معمل لإنتاج الخيوط
 
وتبني أنثى العنكبوت البيت من خلال الخطوات الآتية:
 
أولاً تنسج خيطًا واحدًا من الحرير.
ثم تكمل الإطار الخارجي، ومن وسط الخيط العلوي تنسج خيطًا آخر إلى أسفل.
وتبدأ من وسط هذا الخيط فتنسج خيطًا من كل اتجاه في زوايا متساوية تشبه أسلاك عجلة الدراجة.
وبعد أن تنتهي من ذلك تبدأ من الوسط، وتصل الخيوط بعضها ببعض في اتجاه دائري، حتى ينتهي بناء البيت.
 
وتصمم أنثى العنكبوت البيت ليكون مصيدة للحشرات، وتضع أنثى العنكبوت مواد لاصقة على الخيوط، فما إن تصل حشرة إلى بيت العنكبوت حتى تلتصق أقدامها بالخيوط اللزجة، فتسرع أنثى العنكبوت وتحيط فريستها بخيوطها، وكأنها تكفِّنها بعد أن تلدغها بسُمِّها، وبعد ذلك تمتص عصارة جسم الحشرة وتتغذَّى عليها.
 
وينسج العنكبوت المنزلي بيته من خيوط حريرية متشابكة، وتقبع أنثى العنكبوت في ركن البيت حتى إذا وقعت حشرة في شراك البيت أسرعت إليها ولدغتها بسُمِّها وافترستها.
 
ولا دور لذكر العنكبوت في بناء البيت ولا في صيد الحشرات، وهو صغير الحجم جدًّا بالنسبة للأنثى، ولا عمل له إلا تلقيح الأنثى، وبعد ذلك تفترسه الأنثى([5]).    
 
ومن آراء العلماء المتخصصين يتبين “أن الذي يقوم ببناء البيت أساسًا هي أنثى العنكبوت؛ وعلى ذلك فإن مهمة بناء بيت العنكبوت هي مهمة تضطلع بها إناث العناكب التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي ينسج منها بيت العنكبوت، وإن اشترك الذكر- في بعض الأحيان- بالمساعدة في عمليات التشييد أو الترميم أو التوسعة، فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة”([6]).
 
2)  التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
ذهب الطاعنون إلى إنكار الحقيقة العلمية الواردة في قوله تعالى:)كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا( (العنكبوت/٤١)، والتي أخبرت أن أنثى العنكبوت هي التي تبني البيت وليس الذكر، وزعموا أن القرآن جرى هنا على لغة العرب الذين أنَّثوا لفظ “العنكبوت” من قديم جاهليتهم الوثنية، وهو تأنيث لغوي لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي، وهذا مردود؛ إذ إن تأنيث العنكبوت هنا تأنيث بيولوجي يُقصد منه الإخبار عن أن الأنثى هي التي تبني البيت، ويتضح ذلك من خلال ما يأتي:
 
التفسير اللغوي للآية:
 
جاء في لسان العرب تحت مادة (عنكب): العنكبوت: دويبة تنسج في الهواء، وعلى رأس البئر نسجًا رقيقًا مهلهلاً، مؤنثة، وربما ذُكرت في الشعر:
 
قال أبو النجم: مما يسدي العنكبوت إذ خلا.
 
وقال أيضًا: كأن نسج العنكبوت المرمل.
 
قال الفراء: العنكبوت أنثى، وقد يذكِّرها بعض العرب، وأنشد قوله:
 
على هطالهم منهم بيوت
 
كأن العنكبوت هو ابتناها
 
 
قال: والتأنيث في العنكبوت أكثر، والجمع: عنكبوتات وعناكبُ وعناكيبُ.
 
وقال ابن الأعرابي: العنكب الذَّكَر منها، والعنكبة الأنثى.
 
وقيل: العنكب جنس العنكبوت، وهو يُذكَّر ويُؤنَّث، أعني العنكبوت.
 
قال المبرد: العنكبوت أنثى ويُذكَّر([7]).
 
من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
 
قال القرطبي: “وقال النحاة: إن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة؛ لأنها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة، وحكى الفراء تذكيرها”([8]).
 
وذكر صاحب “فتح البيان في مقاصد القرآن”: “أن العنكبوت تقع على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ونونه أصلية، والواو والتاء مزيدتان، بدليل قولهم في الجمع: عناكيب، وفي التصغير: عُنَيْكيب، وهذا مطرد في أسماء الأجناس، ويُجمع على عكاب وعكبة وأعكاب، وعناكب وعنكبوتات أيضًا، وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجًا رقيقًا، وقد يقال لها عنكبات، والغالب في استعماله التأنيث”([9]).
 
إن ما ذُكر في كتب اللغة والتفسير يقطع بأن لفظة “العنكبوت” ليست للتأنيث فقط، وإنما استخدمها العرب للمذكر أيضًا كما ذكرنا منذ قليل، وطالما أنها تُستخدم للتذكير والتأنيث ففعلها يأتي موافقًا للنوع المقصود؛ لذلك جاءت تاء التأنيث في الفعل “اتخذت” لتدل على أن المقصود من العنكبوت هي “الأنثى” وليس الذكر، ولو أراد الله عز وجل الذكر أو الجنس كله لقال: “اتخذ” كما قال الشاعر:
 
كأن العنكبوت هو ابتناها
 
حيث جاء هو للدلالة على المذكر، ولم تأتِ هي التي تدل على المؤنث.
 
وتسمية السورة الكريمة بصياغة الإفراد “العنكبوت” يشير إلى الحياة الفردية لهذه الدويبة فيما عدا لحظات التزاوج وأوقات فقس البيض، وذلك في مقابلة كل من سورتي النحل والنمل، والتي جاءت التسمية فيها بالجمع للحياة الجماعية لتلك الحشرات التي سُمِّيت باسمها السورتان الكريمتان الأخيرتان([10])؛ ومن ثم نجد التطابق بين قوله تعالى: )كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا( (العنكبوت/٤١)،  وبين الحقيقة العلمية التي أثبتها العلم الحديث من أن أنثى العنكبوت هي التي تقوم ببناء البيت- واضحًا جليًّا، ولـِمَ لا والذكر لا يقترب من بيتها إلا لتلقيحها فقط، ويكون ذلك على استحياء منه؛ لخوفه الشديد من أن تأكله بعد إتمام عملية التلقيح، ثم يفر هاربًا بعد قضاء وطره منها إن استطاع الهروب.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
أثبت العلم الحديث أن مهمة بناء بيت العنكبوت هي مهمة تضطلع بها إناث العناكب، التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي ينسج منها بيت العنكبوت، وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد أو الترميم أو التوسعة فإن العملية تبقى عملية أنثوية محضة، ومن هنا كان الإعجاز العلمي في قول الحق عز وجل:)اتخذت بيتًا((العنكبوت/٤١)؛ حيث إن فيه إشارة واضحة إلى أن الذي يقوم ببناء البيت أساسًا هي أنثى العنكبوت.
 
ثانيًا. بيت العنكبوت أوهى البيوت على الإطلاق:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
إن بيت العنكبوت هو من الناحية المادية البحتة أضعف بيت على الإطلاق؛ لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة متناهية في الصغر، تتشابك مع بعضها البعض تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان؛ ولذلك فهي لا تقي حرارة شمس، ولا زمهرير برد، ولا تحدث ظلاًّ كافيًا، ولا تقي من مطر هاطل، ولا من ريح عاصف، ولا من أخطار المهاجمين، وذلك على الرغم من الإعجاز في بنائها، فخيوط بيت العنكبوت حريرية دقيقة جدًّا، يبلغ سمك الواحدة منها في المتوسط واحدًا من مليون من البوصة المربعة، أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان، وهي على الرغم من دقتها الشديدة أقوى خمس مرات من نظيرها من الصلب، وتتميز بمقاومة أكبر من مثيلتها من الصلب، سواء نسبت تلك المقاومة لوحدة الأحجام أو لوحدة الوزن من الخيط المختبر، بل إن الدراسات الحديثة قد أثبتت أن الخيط من حرير عنكبوت من نوع نيفيلا (Nephila) وهو من مجموعة الحائك الدوار (Orbweaver) يُعد أقوى ثلاث مرات من مثيله المصنوع من المادة المعروفة باسم كيفلار (Kevlar)، وهي مادة ذات أساس بترولي تُستخدم في صناعة الصديرية الواقية من طلقات الرصاص؛ لذلك يُعد حرير العنكبوت واحدًا من أقوى المواد الموجودة على سطح الأرض؛ لأنه يتحمل شدًّا يصل إلى 42000 كيلو جرام على السنتيمتر المربع، مما يكسبه قابلية هائلة للمط (Stretching)، وأعطاه قدرة على الإيقاع بالفريسة من الحشرات دون أن يتمزق، خاصة أن العنكبوت يبني بيته من ضفائر تضم الواحدة منها عددًا من هذه الخيوط المضفرة والمجدولة تجديلاً قويًّا([11]). 
 
ومع كل هذه القوة التي تتمتع بها هذه الخيوط يبقى البيت ضعيفًا أشد الضعف.
 
شكل يوضح الخيوط التي يُبنى منها بيت العنكبوت
 
هذا من الناحية المادية، أما من الناحية المعنوية فإن بيتها ضعيف جدًّا؛ لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد؛ وذلك لأن الأنثى في بعض أنواع العنكبوت تقضي على ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب، وذلك بقتله وافتراس جسده؛ لأنها أكبر حجمًا وأكثر شراسة منه، وفي بعض الحالات تلتهم الأنثى صغارها دون أدنى رحمة، وفي بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير.
 
وعندما يفقس البيض تخرج صغار العناكب (SpiderLings) فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض، فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام، أو من أجل المكان، أو من أجلهما معًا، فيقتل الأخ أخاه وأخته، وتقتل الأخت أختها وأخاها؛ حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات التي تنسلخ من جلدها، وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى، والواحد تلو الآخر، لينتشر  الجميع في البيئة المحيطة، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها، ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العنيكبات، ويكرر من ينجو منها المأساة نفسها التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية، وانعدامًا لأواصر القربى([12]).
 
يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: “فبينما يُؤسس بيت النحل على نظام مثالي وخَلْق عظيم، يسود بيت العنكبوت نظام عدواني وانحطاط خُلُقي، وبينما يعيش النحل في بيته على الود والتعاون والتراحم والتعاطف، يعيش العنكبوت في بيته على الخداع والغدر والأنانية والظلم.
 
هل نتصور أُمًّا تأكل أولادها؟ أو أولادًا يقتلون آباءهم ويأكلونهم؟ يحدث ذلك في مجتمع العنكبوت، وهل نتصور أهل بيت ينصبون الشراك لضيوفهم؛ ليقعوا فيها ويأكلونهم؟ يحدث ذلك في بيت العنكبوت، فأي حشرة تمر ببيت العنكبوت وتظن فيه ملجأ، وتتوسم فيه أمنًا لها وحماية، ما إن تدخله وهي تمنِّي نفسها بطعام وراحة وكرم ضيافة، حتى تجد فيه شَركَـًا خادعًا لها وهلاكًا محققًا”([13]).
 
إن أنثى العنكبوت تأكل زوجها مباشرة بعد المعاشرة التزاوجية الأولى؛ أي: في ليلة الزفاف إن صح القول، فهي تأكل الزوج مباشرة بعد قضاء وطرها منه، تقوم بقتله بأبشع طريقة، وذلك بإحداث ثقوب في داخل جسمه بعد لفِّه في داخل الكفن الأبيض، ثم تقوم بمص جسمه وهو حي يتألم.
 
أما فراخها فإنها تقوم بأكل قسم منهم مباشرة بعد التفقيس، ويحدث ذلك بعد أسبوعين من قتل الزوج والتهامه.
 
إن العنكبوت تبني لتقتل، وتقتل حتى لو لم تكن جائعة، والأكثر من ذلك رعبًا أنها تقوم بمص دماء ضحاياها وأجسامهم وهم أحياء، إنه بيت مملوء بالرعب والإرهاب والأهوال([14]).
 
وقد كشفت دراسة علمية حديثة عن أسرار جديدة في العلاقة بين أنثى العنكبوت والذكر، غير ما هو معروف من التهام الأنثى الذكر بعد عملية التزاوج، وهو ما أظهرته الدراسة من أن الأنثى تأكل الذكر حتى قبل أن يتم التزاوج.
 
فقد أجرى بعض الباحثين أبحاثهم على العنكبوت المعروف باسم “صياد السمك”، وهو عنكبوت يبلغ طوله ثلاثة سنتيمترات، ويتغذى على فراخ الضفادع والسمك الصغير جدًّا.
 
وقام الباحثون بإطعام بعض الإناث إلى حد التُّخَمة، في حين أطعموا البعض الآخر طعامًا خفيفًا، وجاءت النتيجة عكس التوقعات؛ حيث كان الباحثون يتوقعون أن تقبل الإناث المتخمة بالطعام على التزاوج طالما أن بطونها مملوءة بالطعام بالفعل، لكن تبين العكس تمامًا، فقد أقبلت الإناث المتخمات بالطعام على التهام الأزواج بنفس الهمة والنشاط اللذين أقبلت بهما الجائعات، ومن هنا اتضح أن غريزة الالتهام عند العنكبوت الأنثى أهم من غريزة التزاوج.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تقبل إناث العنكبوت على التهام الأزواج؟!
 
 الإجابة توصل إليها الباحثون، وهي أن لدى إناث العنكبوت هرمونًا معينًا يدفعها للالتهام، ولكن لماذا الالتهام؟
 
لأن عالم العنكبوت مبني كله على هذه القاعدة، كلما زادت القدرة على الالتهام ضمن العنكبوت البقاء مدة أطول في الحياة، وهكذا فإن الحفاظ على الحياة أهم من إنجاب أطفال آخرين، إنه عالم العناكب([15])!
 
  وقد تبين حديثًا أن النسيج العنكبوتي لا يدوم أكثر من ليلة واحدة، ولا يصلح بعدها لصيد الطرائد؛ لأنه يجف وتفقد مادته اللاصقة خصائصها، ويتمزق خِرَقًا بالية عند الفجر بعد أداء مهمته، إذًا هو بيت بمنتهى الضعف، بيت لا يدوم إلا ليلة واحدة أو أقل([16]). 
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
زعم المشككون أن القرآن خالف الحقائق العلمية الحديثة في قوله تعالى: ) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون(41)( (العنكبوت)؛ حيث ذكر القرآن أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت، في حين أن العلم الحديث ذكر أن خيوط العنكبوت أقوى من مادة الكيفلار ثلاث مرات، وهذه المادة أقوى المواد الموجودة على سطح الأرض، وتتضح الإجابة عن ذلك من خلال ما يأتي:
 
من الدلالات اللغوية في الآية:
 
البيت: لكلمة بيت في كتب اللغة معان كثيرة، من هذه المعاني:
 
البيت من الشعر. بيت الرجل: داره، وقصره. بيت الله: الكعبة. بيت الرجل: امرأته، ويُكنى عن المرأة بالبيت، وقال ابن الأعرابي: العرب تكني عن المرأة بالبيت، قاله الأصمعي وأنشد:
 
أكبر غيرني أم بيت؟
 
وقال الجوهري: البيت عيال الرجل. والبيت: التزويج([17]).
 
الوهن: الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم ونحوه، وفي التنزيل العزيز:)حملته أمه وهنًا على وهن( (لقمان/١٤)، جاء في تفسيره: ضعفًا على ضعف.
 
ورجل واهن في الأمر والعمل، وموهون في العظم والبدن، وقد وهن العظم يهن وهنًا وأوهنه يوهنه، ووهنته توهينًا، ورجل واهن: ضعيف لا بطش عنده([18]).
 
من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
 
جاء في تفسير القرطبي: “قال الفراء: هو مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دون الله آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرًّا ولا بردًا، ولا يحسن الوقوف على العنكبوت؛ لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء، فشُبِّهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، )وإن أوهن البيوت((العنكبوت/٤١)،؛ أي: أضعف البيوت )لبيت العنكبوت((العنكبوت/٤١)، قال الضحاك: ضُرب مثلاً لضعف آلهتهم ووهنها، فشبهها ببيت العنكبوت”([19]).
 
يقول صاحب “فتح البيان”: “)مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء((العنكبوت/٤١)، يوالونهم ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله، سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات )كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا((العنكبوت/٤١)، لنفسها تأوي إليه، وإن بيتها في غاية الضعف والوهن، لا يغني عنها شيئًا لا في حر ولا قُرّ ولا مطر، كذلك ما اتخذوه وليًّا من دون الله، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع، ولا يغني عنهم شيئًا، شبَّه حال من اتخذ الأصنام والأوثان والأحبار والرهبان أولياء وعبدها واعتمد عليها، راجيًا لنفعها وشفاعتها- بحال العنكبوت التي اتخذت بيتًا لا يغني عنها في مطر ولا أذى.
 
)وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت((العنكبوت/٤١)، لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام بيتًا، ولا يدانيه في الوهن، والوهن شيء من ذلك، فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر، فكما أن أوهن البيوت بيته، كذلك أضعف الأديان دين عبدة الأوثان، ومن يعبد غير الله، أو يتخذه وليًّا وأربابًا من دونه كمقتدي الأحبار والرهبان ومقلدهم”([20]).
 
ويقول الشيخ الشعراوي عن هذه الآية: “فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت، وإنما في اتخاذ هذه الخيوط الواهية بيتًا له، وهبة ريح كافية للإطاحة بها، ويُشترط في البيت أن يكون حصينًا يحمي صاحبه، وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط… إلخ، أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسها لكان أنسب، وكذلك الكفار اتخذوا من الأصنام آلهة، ولو اتخذوها دلالة على قدرة الحق في الخلق لكان أنسب وأجدى. وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هبة ريح، وتقطعه وأنت مثلاً تنظف بيتك، وربما تقتل العنكبوت نفسه، فكذلك طبق الأصل يفعل الله بأعمال الكافرين: ) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورًا(23)((الفرقان)”([21])؛ ومن ثم نجد المفسرين ذهبوا إلى أن بيت العنكبوت الذي تتخذه سكنًا لها لا يغني عنها شيئًا، ولا يقيها حرًّا ولا بردًا، فهو أضعف البيوت وأوهنها، وهذا الوصف للقرآن الكريم لا يعارض حقائق العلم الحديث في شيء، وكيف لكلام الخالق أن يتعارض مع الحقائق؛ إذ إنه سبحانه وتعالى وصف البيت بالضعف ولم يصف الخيط، فما الفائدة من بيت يقضي عليه الهواء أو قطرات المطر مهما بلغت قوة هذه الخيوط؟!
 
إن قوة هذه الخيوط لا تفيد البيت في شيء، فهل يحمي هذا البيت العنكبوت ويقيها من أعدائها الطبيعيين؛ كالضفادع والطيور والقوارض والزواحف؟!
 
الجواب بالنفي قطعًا؛ فهذا البيت لا يؤمِّن الحماية لساكنه، ليس فقط لكونه مكشوفًا، بل أيضًا لكونه دليلاً قاطعًا على وجود هذه العنكبوت في ذلك المكان، ويكشف محل تواجدها خلافًا لكل البيوت الأخرى، فالكائنات التي تفترس العناكب تعرف مكان وجودها من بيتها([22]).
 
هذا بالنسبة للضعف المادي لهذا البيت وكون خيوطه أقوى الخيوط على سطح الأرض، وهذا إعجاز إلهي، ودلالة كبيرة على عظمة الخالق وقدرته سبحانه وتعالى على خلق أضعف البيوت من أقوى الخيوط؛ ومن ثم ينتفي التعارض المزعوم بين القرآن الكريم والعلم الحديث ويزول الإشكال.
 
وما ذكرناه يتوافق تمام الموافقة مع المعنى الأول من المعاني التي ذكرناها لكلمة “بيت” وهو المنزل، ولا يتناقض مع العلم الحديث في شيء.
 
وكما أثبت العلم الحديث ضعف بيت العنكبوت من الناحية المادية أو البيت الخارجي لهم- كما بينا- نجده يثبت ضعف هذا البيت من الناحية المعنوية، أو الأسرة نفسها التي هي بحق أوهى الأسر ترابطًا وتآلفًا.
 
فالعناكب أمة من الأمم، ويوجد في العالم أكثر من ثلاثين ألف نوع من العناكب، تتفاوت في الأحجام والأشكال ونمط المعيشة، ويغلب عليها المعيشة الفردية والعدائية لبعضها البعض، ولا يوجد إلا أنواع قليلة جدًّا تعيش في جماعات، والإناث أكبر حجمًا من الذكور، والزوجان من العناكب يلتقيان في الغالب وقت التزاوج فقط، ويقوم الذكر قبل الجماع برقصات وطقوس معينة أمام الأنثى يُقصد منها الحد من الغريزة العدوانية لدى الأنثى، وعند انتهاء عملية التلقيح يغادر الذكر في الغالب عش الأنثى خوفًا من أن تقوم بقتله.
 
وقتل الذكر بعد الانتهاء من عملية التلقيح يحدث بين كثير من أنواع العناكب، وأكثرها شهرة عنكبوت الأرملة السوداء التي سُمِّيت بذلك؛ لأن الأنثى تقتل ذكرها بعد انتهائه من عملية التلقيح، أما بعض أنواع العناكب فتترك أنثاها الذكر ليعيش في العش بعد عملية التلقيح؛ ليقوم الأبناء بقتله وأكله بعد أن يخرجوا من البيض، وفي أنواع أخرى تقوم الأنثى بتغذية صغارها حتى إذا اشتد عودهم قتلوا أمهم وأكلوها.
 
ومما سبق يتضح أن البناء الاجتماعي والعلاقات الأسرية في بيت العنكبوت تتصف بأنها مبنية على مصالح مؤقتة، حتى إذا انتهت هذه المصالح انقلب الأفراد أعداء، وقام بعضهم بقتل بعض؛ فهذه أنثى العنكبوت تسمح للذكر بدخول عشها لوجود مصلحة التلقيح، حتى إذا قضت وطرها منه انقلبت عليه وقامت بقتله وأكله، وأخرى تقدم زوجها طعامًا لأولادها، وفي نوع آخر يأكل الصغار أمهم أول ما تقوى أعوادهم.
 
وهذا العداء الشديد الذي يتجلى فقط بعد انقضاء المصالح، وهذه العلاقة الهشة الضعيفة بين أفراد بيت العناكب- يجعل هذا البيت بحق أوهى بيوت المخلوقات المعروفة.
 
وقد ذكرنا أن العرب استخدمت كلمة “بيت” بمعنى امرأة الرجل وعياله، وقد توصل العلم الحديث إلى أن العلاقة الأسرية بين العناكب علاقة تحكمها المصلحة حتى إذا انقضت المصلحة انقلبوا أعداء يقتل بعضهم بعضًا كما فصلنا سابقًا، ولا تجتمع هذه الخصال السيئة والعلاقات الهشة في أي بيت لمخلوق آخر؛ مما يجعل بيت العنكبوت بمعنى المرأة والأولاد هو أوهن بيوت المخلوقات قاطبة.
 
وإذا قبلنا أن المقصود في الآية الكريمة هذا المعنى للبيت؛ أي بمعنى العلاقات الأسرية، فإن وصف القرآن الكريم له بأنه أوهن البيوت يتطابق مع ما بينه الله تعالى لعباده من خلال ملاحظات العلم الحديث لحياة العناكب، ويكون وجه الشبه في المثل المضروب في القرآن الكريم واضحًا جدًّا؛ حيث إن الذين يتخذون من دون الله تعالى أولياء إنما يتخذونهم لمحاولة تحقيق مصالح دنيوية، حتى إذا تحققت هذه المصالح انقلبوا أعداء، إما في الدنيا أو في الآخرة، يقول الله تعالى:)الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين(67)( (الزخرف)، وهذه العلاقة المؤقتة والمصلحة الآنية تنطبق على العنكبوت وأهل بيته كما ذكرنا([23]).   
 
وعند النظر إلى آخر الآية المذكورة نجد أنها خُتمت بقوله تعالى:)لو كانوا يعلمون(؛ لأن هذه الحقائق لم تكن معروفة لأحد من الخلق في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده؛ حيث لم تُكتشف إلا بعد دراسات مكثفة في علم سلوك حيوان العنكبوت، قام بها مئات من العلماء لمئات من السنين حتى تبلورت في العقود المتأخرة من القرن العشرين؛ ولذلك ختم ربنا سبحانه وتعالى الآية بقوله: )لو كانوا يعلمون(([24]). 
 
3)  وجه الإعجاز:
 
أثبت العلم الحديث أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت وأضعفها، وذلك من ناحيتين:
 
الناحية المادية:حيث لا يقيها حرًّا ولا بردًا، ولا يحميها من أعدائها الطبيعيين الذين يستدلون على مكانها من خلال بيتها.
والناحية المعنوية:حيث إن أنثى العنكبوت تأكل ذكرها بعد أن يلقِّحها وتقضي وطرها منه، وكذلك تفعل ببعض صغارها، بل ويقتل الصغار بعضهم بعضًا، وليس هناك بيت أضعف من بيت تنهار فيه العلاقات الأسرية كذلك، ويبيِّت كل فرد من أفراده الغدر والمكيدة للآخر بدلاً من أن يُبنى على السكينة والمودة فيما بينهم.
 
وهذا يتطابق مع ما جاء في الآية الكريمة من قوله: )وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت((العنكبوت/٤١)؛ حيث إن اللغة أقرت أن العرب كانت تطلق كلمة بيتًا على دار الرجل وامرأته وعياله.
 
 
 
 
(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، دار العين، القاهرة، ط1، 2005م. القرآن والتفسير العصري، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط3. تشبيه قرآني ضعيف كما أثبت العلم الحديث ) أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ((العنكبوت/٤١) ، مقال منشور بموقع: نادي الفكر العربي www.nadyelfikr.com.
 
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص139، 140.
 
[2]. انظر: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص368.
 
[3]. المعروف عن السير ديفيد أتَّنبرو أنه منذ سنة 1952م وحتى الوقت الحاضر يعمل برعاية قناة التلفاز الـ (بي بي سي)، للقيام ببعثات حول العالم في الأنثوغرافيا أو الأنثروبولوجيا الوصفية؛ حيث يقوم بالتصوير مع الشرح المفصل لمختلف النباتات والحيوانات، ولقد قام أتنبرو بهذه الرحلات في معظم أرجاء العالم، وتُعرض أفلامه العلمية دوريًّا منذ نصف قرن وحتى الآن، ونُشرت مؤلفاته حول تلك الرحلات، فهو يُعتبر بحق أشهر عالم أحياء في الوقت الحاضر.
 
[4]. معجزات القرآن العلمية في الأرض مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، مرجع سابق، ص124، 125 بتصرف.
 
[5]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج6، ص107.
 
[6]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص141.
 
[7]. لسان العرب، مادة: عنكب.
 
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج13، ص345.
 
[9]. فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق بن حسن القنوجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420هـ/ 1999م، ج5، ص238.
 
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص140.
 
[11]. المرجع السابق، ص141، 142.
 
[12]. المرجع السابق، ص143.
 
[13]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج6، ص108، 109.
 
[14]. انظر: من معجزات القرآن ما بين الطب والعلوم الحديثة، د. سامي نوح حسن الموسوي، دار السياب، لندن، 2007م، ص233، 234.
 
[15]. ثبت علميًّا، محمد كامل عبد الصمد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط4، 1430هـ/ 2009م، ج5، ص239، 240.
 
[16]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في ممالك الطير والنحل والنمل والحشرات، د. ماهر أحمد الصوفي، المكتبة العصرية، بيروت، 1429هـ/ 2008م، ج12، ص298.
 
[17]. لسان العرب، مادة: بيت.
 
[18]. لسان العرب، مادة: وهن.
 
[19]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج13، ص345.
 
[20]. فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق بن حسن القنوجي، مرجع سابق، ج5، ص238.
 
[21]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ص11178.
 
[22]. تشبيه قرآني ضعيف كما أثبت العلم الحديث )أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ( (العنكبوت/٤١)، مقال منشور بموقع: نادي الفكر العربي www.nadyelfikr.com.
 
[23]. تأملات في تفسير معنى قوله تعالى: )وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ((العنكبوت/٤١)، د. صلاح رشيد، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.
 
[24]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص144 بتصرف.

دعوى خطأ القرآن في إخباره عن أكل النحل من الثمرات

مضمون الشبهة:

يدَّعي بعض المغالطين أن القرآن الكريم أخطأ في إخباره عن أكل النحل من الثمرات؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )ثم كلي من كل الثمرات(  (النحل/٦٩)، وهذا في زعمهم يناقض العلم الحديث، الذي أثبت أن النحل لا يأكل من الثمار أو الفاكهة كما ذكر القرآن، وإنما يتغذى على رحيق الأزهار وحبوب اللقاح.

   ويستدلون على هذا بأن الثمار أو الثمرة تعني الجزء الصالح للأكل؛ كالموز والتفاح والبرتقال والبطاطس والخيار… إلخ؛ مستندين في ذلك إلى آيات من القرآن الكريم؛ منها قوله سبحانه وتعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ( (البقرة/١٢٦).

وجه إبطال الشبهة:

إن قول الله تعالى: )ثم كلي من كل الثمرات(  (النحل/٦٩)، يعني إلهامه سبحانه وتعالى للنحلة أن تأكل من كل الثمرات التي تشتهيها، والثمرات المقصودة في الآية هي الأزهار، كما أفادت ذلك كتب اللغة، وأقوال المفسرين، وعلم النبات، وهذه حقيقة علمية أثبتها العلم الحديث؛ حيث توصل إلى أن الشغالات من إناث نحل العسل تتغذى على رحيق الأزهار وحبوب اللقاح التي تشتهيها؛ ومن ثم، فإن الآيات التي استدلوا بها على دعواهم خطأ القرآن الكريم لا تُعد دليلاً بحال.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

من الثابت علميًّا في العصر الحديث أن الشغالات من إناث نحل العسل تتغذى على كل مل تشتهيه من رحيق الأزهار([1]) وحبوب اللقاح([2])؛ فيخرج من بطونها عسلاً شهيًّا.

وقد ألـهمت هذه الشغالات اختيار فرق من المستكشفات من بينهن يغادرن الخلية للبحث عن الأزهار الحاملة للرحيق، ثم يعدن لإخبار بقية الشغالات عن أمكنة وجود تلك الزهور، وعن أنواعها، وأنواع ما تحمله من رحيق، وتحدد لهن الموقع بدقة فائقة، عن طريق لغة تخاطبها، وهي الرقص، فتتحرك جامعات الرحيق من الشغالات إلى تلك المناطق، متنقلة من زهرة إلى أخرى؛ لجمع ما تستطيع جمعه من الرحيق وحبوب اللقاح، ومع تنقلها تحمل بعض حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، فتعين على إخصابها؛ مما يؤدي إلى إنتاج الثمار والبذور التي تساعد على تكاثر النبات واستمرارية سلالاته.

وتتغذى الشغالات الجانية لعسل النحل على جزء مما تجمعه، ويتغذى عدد من أفراد خليتها على جزء آخر منه، ويمكنها الباقي من صناعة الشراب الشافي من العسل، والغذاء الملكي، والشمع، والسم.

صورة لتنقل النحل بين الأزهار

صورة لنحلة وهي تمتص الرحيق

وبالإضافة إلى الرحيق تجمع الشغالات حبوب اللقاح، ويبلغ متوسط ما تجمعه الشغالة الواحدة من تلك الحبوب نحو عشرين مليجرامًا في كل طلعة، وتجمع هذه الحبوب في سلات خاصة على أرجلها الخلفية، وتعود إلى خليتها مثقلة بما تحمله من الرحيق وحبوب اللقاح؛ لتفرغه في عيون خاصة بالخلية.

صورة لنحلة وهي عائدة إلى الخلية محمَّلة بحبوب اللقاح

ولقيام شغالات النحل بهذه المهمة خير قيام فقد زُوِّدت بحواس متطورة للبصر والشم والتذوق، وبأجهزة خاصة لتقدير المسافات والاتجاهات والأزمنة، بواسطة ما يُعرف باسم “الساعة الحيوية”، ومن هذه الأجهزة: ثلاثة عيون بسيطة، وزوج من العيون المركبة التي تحتل مكانًا مناسبًا من رأسها، وتتكون كل عين منها من  4000 – 5000 عوينة متجانسة، وهذا النظام الإبصاري المعقد والمكون من العيون المركبة والبسيطة يعين النحلة على الرؤية من مسافات بعيدة ومرتفعات شاهقة؛ حيث تستطيع شغالة النحل الطيران لمسافة تتراوح بين 11,7 كم ذهابًا، ومثلها إيابًا من الخلية وإليها، بسرعة تصل إلى 24 كم/ساعة في الذهاب، ونصف ذلك في الإياب، وقد أُعطيت عيون النحلة القدرة على تمييز عدد من أطياف النور الأبيض، بالإضافة إلى الأشعة فوق البنفسجية التي لا تراها عين الإنسان؛ وبذلك تستطيع تمييز ألوان الزهور بدقة فائقة، كما أُعطيت قدرات عالية لكل من حاستي الشم والتذوق؛ لتمايز بين الزهور بواسطة روائحها، وروائح ما بها من الرحيق، ومن حبوب اللقاح، ولتمايز بين طعوم ما بها من سكريات، فتقبل على المناسب منها، وتتجنب غير المناسب.

كذلك زُوِّدت شغالات النحل بزوجين من الأجنحة الغشائية موزعين على جانبي جسمها، وبفم قارض لاعق، وبزوج من قرون الاستشعار التي يتألف الواحد منها من (11 – 12) عقلة، تحتوي العُقَل الست الأولى منها على حفرة صغيرة، يحف بها من أسفل أقراص سمعية مرنة، يتصل كل منها بعصب حسي دقيق، وبمراكز لكل من اللمس والشم، ويبلغ عدد المراكز الحسية على قرن الاستشعار الواحد ما يصل إلى نحو ألفين وأربع مئة مركز، كل هذه التجهيزات أعانت الإناث من شغالات النحل على جمع أكبر قدر ممكن من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح([3]).

صورة تشريحية لجسم النحلة الشغالة

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

إن خلق الله سبحانه وتعالى للنحل آية من الآيات الكونية الدالة على عظيم خلقه ودقيق إبداعه في صنعه؛ ففيه من العجائب ما يبهر العقول ويحيِّر الألباب، من ذلك هدايته وإلهامه سبحانه وتعالى لشغالة النحل أن تأكل من كل ما تشتهيه من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، قال الله سبحانه وتعالى: ) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً( (النحل/٦٩).

وهنا أثار الطاعنون شبهتهم قائلين: إن القرآن أخطأ في إخباره عن أكل النحلة من الثمرات؛ لأن العلم الحديث قد أثبت أن النحل لا يأكل من الثمار أو الفاكهة، وإنما يتغذى على رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، كما يستدلون على تلك الدعوى بآيات من القرآن الكريم نفسه.

والجواب عن هذه الشبهة يتبين مما يأتي:

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

الثمر: حمل الشجر؛ أي ما ينتجه الشجر([4]).

قال ابن فارس: “الثمر هو شيء يتولد عن شيء متجمعًا، ثم يُحمل عليه غيره استعارة؛ فالثمر معروف، يقال: ثمرة وثمر وثمار وثمر”([5]).

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

يقول ابن عطية: “و “مِنْ” للتبعيض؛ أي: كلي جزءًا أو شيئًا من كل الثمرات، وذلك أنها إنما تأكل النوار([6]) من الأشجار”([7]).

وهذا ما ذكره القرطبي([8]) وابن جزي الغرناطي([9]) في تفسيريهما.

وقال أبو حيان الأندلسي: “وظاهر “مِنْ” في قوله: )ثم كلي من كل الثمرات(  (النحل/٦٩)،أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً”([10]).

ومن خلال أقوال المفسرين نلحظ أولاً: أن لفظ “مِنْ” جاء بمعنى التبعيضية؛ فأفادت أن إلهام الله سبحانه وتعالى للنحل كان بأن تأكل جزءًا من الثمار، وليس كل الثمار، وهذا الجزء هو ما تأخذه النحلة من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح.

وهي تحتمل معنيين آخرين:

أن يُراد بها ابتداء الغاية؛ والمعنى المقصود: أن النحل يأكل الرحيق، ويكون أكلها مبتدأ من هذه الأزهار، وليس من مكان آخر، وهذا المعنى والذي قبله يُعدان من أشهر معاني حرف الجر (مِنْ).
أن يُراد بها بيان الجنس؛ ويكون المعنى بيان ما ألهمه الله للنحل أن يأكله، وهو الثمرات، وليس أي جنس آخر من أجناس الطعام، كقوله سبحانه وتعالى:)ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق((الكهف/٣١).

وكل هذه المعاني صحيحة لا تعارض بينها، واتساع اللغة العربية يضيف إلى آيات القرآن الكريم آفاقًا كثيرة من المعاني والدلالات البديعة الجميلة.

يقول الخطيب الشربيني: “لفظ “مِنْ” هذا للتبعيض، أو لابتداء الغاية”([11]).

كما نلحظ من أقوال المفسرين تفسيرهم كلمة “الثمرات” بالأزهار؛ لأنها نتاج الأشجار وتتولد عنها، وحمل الشجر ثمرات، فتعتبر الأزهار من حمل الأشجار، وهذا يؤيد ما جاء في اللغة؛ ومن ثم فإطلاق كلمة “الثمرات” على الأزهار هو من المجاز المعروف، باعتبار ما سيكون([12])، تمامًا كقوله تعالى:) ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرًا( (يوسف/ 36)، وإنما يعصر العنب، ولكن أطلق عليه الخمر باعتبار ما سيكون عليه عصير العنب بعد وقت، وهكذا أطلق على الأزهار “ثمار”، باعتبار ما ستؤول  إليه من الثمار النافعة، بقرينة المشاهد المحسوس من معاينة كل الناس أن النحل إنما يقف على الأزهار، ولا يأكل من الثمرات الحقيقية شيئًا.

ومن الملاحظ أن معظم المفسرين القدماء لم يتطرقوا لمعنى كلمة الثمرات في الآية التي معنا؛ ظنًّا منهم أن معناها واضح لا لبس فيه، ولكن هناك قلة من هؤلاء المفسرين علموا بمدى التردي اللغوي في عصرهم، فقاموا بتفسير تلك الكلمة، وقد سبق ذكرهم([13]).

أما عن تعريف كلمة “الثمرات” من الناحية العلمية، فيقول الدكتور السيد المليجي- أستاذ علم النبات- : “الثمرة هي مبيض الزهرة بعد تمام إخصابه بحبوب اللقاح”([14]).

وعليه، فإن هذا هو المراد من الآية التي معنا، يقول الدكتور زغلول النجار: واضح الأمر أن المقصود بالثمرات هنا هي الزهور بما فيها من الخلايا التناسلية التي تنتجها النباتات المزهرة، والرحائق المصاحبة لها، وهذه الخلايا التناسلية منها الأنثوية (بويضات الزهور)، والذكرية (حبوب اللقاح أو غبار الطلع)، وباتحادهما تتم عملية إخصاب الزهور وإنتاج
الثمار المعروفة لنا في أغلب الأحوال؛ لأن بعض الثمار قد تنتج عن تضخم مبيض الزهرة وحده، أو الكأس وحده، أو غير ذلك من أجزاء الزهرة، ونستند في ذلك إلى قول الحق
تعالى: )وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارًا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين((الرعد/٣)([15]).

وعليه، فإن تعريف مثيري الشبهة لكلمة “الثمرات”- أنها الجزء الصالح للأكل؛ كالموز والتفاح والبطاطس والبرتقال… إلخ- هو تعريف لا يمت للغة العربية ولا للعلم الحديث بصلة.

أما عن الآيات التي استدلوا بها لمحاولة إثبات دعواهم بخطأ القرآن الكريم- ومنها قوله تعالى: )الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم( (البقرة/٢٢)، وقوله تعالى: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدًا آمنًا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر( (البقرة/١٢٦)- فإنها لا تُعد دليلاً البتة على ما ادَّعوه؛ لما قد سبق بيانه حول دلالة كلمة الثمرات لغويًّا وعلميًّا؛ حيث إن كلمة “الثمرة” كلمة عامة تشمل كل ما يحمله الشجر من زهر أو ثمار يستفيد منها الإنسان؛ وبذلك فإن استخدامها هنا بمعنى الثمار أو الفاكهة لا يتنافى مع استخدامها هناك- أي: في الآية- طالما أن كتب اللغة قد نصت على هذا.

ومن خلال ما سبق يتبين أن قول الله تعالى: )ثم كلي من كل الثمرات(  (النحل/٦٩)،  يشير إلى حقيقة علمية، توصل إليها العلم حديثًا، وهي أن الشغالات من إناث عسل النحل تتغذى على كل ما تشتهيه من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، فيخرج من بطنها عسلاً شهيًّا.

ولقيام النحلة الشغالة بهذه المهمة فإنها تقضي وقتًا طويلاً من عمرها القصير في ذهاب وإياب بين الخلية والحقل؛ تلقح عرضًا ما تقف عليه من أزهار، وتجمع منها ما تستطيع من غذاء، مستعينة- لإرشاد زميلاتها إلى مكان الغذاء وهن في ظلام الخلية- بحركات راقصة تحدد المسافة وتعين الاتجاه، مستفيدة من موقع الشمس من خلال ضوئها المرئي والمستقطب، والزهرة من جانبها لا تكف عن إغراء النحلة وجذبها بعطرها القوي، ورحيقها الحلو المذاق، وبحبوب لقاحها ذات القيمة الغذائية العالية، وأمن هذا الترابط بينهما المصدر الغذائي الكامل للنحلة والتلقيح الخلطي المضمون للزهرة؛ لكي تنتج الثمرة، إلا أن النحلة لا تقترب من زهرة أو تطير مسافات بعيدة تبحث عنها إلا إذا كانت موثقة ضمن برمجتها الفطرية، التي تشمل رائحة الزهرة، ولونها، وتصميمها، ومرونة تمايلها، وسعة عطائها، ومدى بعدها، ويسر تناولها، وسلامة نتاجها، وتركيز فروزها،  وثراء حبوب لقاحها، وروائح تنثر عليها وحولها، وأشعة تنعكس عليها وتكشف عما خفي من رحيقها، وأشياء أخرى غير معروفة الله أعلم بها؛ حفاظًا على النحلة من زهرة تميتها وأخرى تعبث بها.

وهذا يبين سبب إهمالها لعديد من أنواع الأزهار، جزئيًّا أو كليًّا، فهي لا تمتص الرحيق من زهرة الكمثرى؛ لأن تركيز السكر فيه 20% وأقل، وهي نسبة متدنية مجهدة، وتكتفي منها بأخذ وفرة من حبوب اللقاح، ولا تحاول زيارة زهرة الخطمي إلا لمامًا؛ لخلوها من الرحيق، ثم لا تجد في حبوب اللقاح فيها ما تريد من مواد مغذية، وهكذا لا تزور أزهار الزيتون والطماطم وغيرها؛ لفقر في محتوياتها، ولا تبدد طاقتها وتضيع وقتها في التردد على بعض الزهور، مثل زهرة الفل ذات العطر الفواح؛ لخلوها من حبوب لقاح ورحيق، وتعرض عن زهرة العسل وأمثالها مع ما في رحيقها من وفرة وعطر لطيف؛ لقصر خرطومها وعجزه عن الوصول إلى مواضعه في العمق، ثم هي تبتعد عن زيارة زهرة الدفـلى وأشباهها؛ لـما فيها من سم قاتل.

والسبب في هذا كله أنه قد ثبت علميًّا أن الإرهاق الذي يصيب النحلة الشغالة جراء جمع طعامها يقلل من عمرها، ولو أنها جرت وراء كل زهرة تتفتح لانخفض معدل أعمارها إلى حد تشرف فيه على التلف، ولكنها تعلمت أن تبتعد عما لا يخدمها من أنواع الأزهار، ليس بطريق التجربة والخطأ؛ إذ لا وقت لديها للتجارب، ولا تدرك ما تفعل، ولكن بإعجاز إلهي أرشدها على نحو سليم لا فرصة فيه للخطأ ولا إرادة لها معه إلى ما ينبغي لها أن تقبل عليه أو تدبر عنه، وأودع في جيناتها الوراثية هذه القدرات الراسخة، وجعلها إرثًا عامًّا للأجيال الجديدة، كل بدوره على تعاقب السنين،  )قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(50)( (طه)([16]).

وبعد، فإن قال قائل: كيف تستقيم تلك الحقائق مع قوله تعالى: )كل الثمرات( ؟! قلنا: لقد حمل أكثر المفسرين ذلك على التبعيض؛ لأن العموم في الآية غير مراد. قال ابن قتيبة: )ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ( (النحل/٦٩) ؛ أي: من الثمرات، و “كل” ها هنا ليس على العموم، ومثل هذا قوله تعالى: )تدمر كل شيء بأمر ربها( (الأحقاف/٢٥)([17]). وذكر الطاهر ابن عاشور في تفسيره أن (كل) هنا مستعملة في معنى الكثير، وهو استعمال وارد في القرآن الكريم والكلام الفصيح، قال تعالى: )ولو جاءتهم كل آية(  (يونس/٩٧)، وقال تعالى: )والشياطين كل بناء وغواص(  (ص/37)([18]).

ونخلص من ذلك إلى أن قوله تعالى: )ثم كلي من كل الثمرات(  (النحل/٦٩)، مطابق تمام المطابقة للغة وللعلم الحديث، فلو جاءت الآية بنص (كلي من رحيق الأزهار) لكان هناك خطأ؛ لأن النحل- كما ذكرنا- يتغذى على رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، والعكس صحيح، وحاشا لله سبحانه أن يكون هناك أدنى خطأ في كتابه، فالقرآن الكريم قد شمل ما يتغذى عليه النحل في كلمة واحدة فقط- وهي الثمرات- في إعجاز لغوي وبياني وعلمي ليس له مثيل، وصدق الله العظيم حين قال: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا(  (النساء/82)([19]).

3)  وجه الإعجاز:

أثبت العلم حديثًا أن الشغالات من إناث النحل تتغذى على رحيق الأزهار وحبوب اللقاح التي تشتهيها، من خلال رحلة طويلة من عمرها القصير، تقضيها في ذهاب وإياب بين الخلية والحقل، دون أن تضل طريقها؛ لتسلم ما جمعته، ولتخبر بقية الشغالات عن أمكنة وجود تلك الزهور بدقة فائقة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلمية، فقال تعالى: )ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً(  (النحل/٦٩)، وقد عبر تعالى في هذه الآية عن غذاء النحل بكلمة واحدة، وهي “الثمرات”، التي تعني الأزهار لغة واصطلاحًا.

(*) النحل في كتاب محمد، مقال منشور بموقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. الرحيق: هو عبارة عن محلول مائي غني بالكربوهيدرات التي أهمها السكريات، يُفرَز بواسطة غدد خاصة في الزهرة، توجد عادة في قاعدة السداة (أعضاء التذكير)، وهي غدد معقدة البناء تقوم على تنظيم عمليات تركيب الرحيق وتدفقه إلى داخل الزهرة باستمرار طول فترة حياتها.

[2]. حبوب اللقاح (غبار الطَّلْع): هي حبوب متناهية الصغر، الواحدة منها عبارة عن خلية ذَكَرِية كاملة داخل زهرة النبات، محاطة بغلاف داخلي هش وغلاف خارجي مقاوم لكل من التفكك والتعفن والحرارة العالية وكل من الحموضة والقلوية الشديدتين، وهذه الحبوب غنية بكل من البروتينات، والأحماض الأمينية، والفيتامينات والخمائر، بالإضافة إلى عدد من العناصر المعدنية. 

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص98: 100 بتصرف. وانظر: النحل معجزة المعجزات، د. هاني عبد الحميد عبد السميع، مكتبة المعارف الحديثة، الإسكندرية، ص176: 178. مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، د. يوسف نوفل، مرجع سابق، ص362: 369. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا، مرجع سابق، ص167: 170.

[4]. انظر: العين، تهذيب اللغة، لسان العرب، القاموس المحيط، تاج العروس، مادة: ثمر.

[5]. مقاييس اللغة، مادة: ثمر.

[6]. النُّوَّار: الزهور.

[7]. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية، تحقيق: عبد الله إبراهيم الأنصاري والسيد عبد العال السيد إبراهيم، مؤسسة دار العلوم للطباعة والنشر، قطر، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج4، ص182.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج10، ص135.

[9]. انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي الغرناطي، دار الضياء للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 1430هـ/ 2009م، ج1، ص849.

[10]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420هـ، ج6، ص560.

[11]. تفسير السراج المنير، الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ج2، ص192.

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج10، ص135. وانظر: التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص207.

[13]. انظر: تفسير قوله تعالى عن النحل: )ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ( (النحل/٦٩)، ، مقال منشور بموقع: الإسلام سؤال وجواب www.islamqa.com. )ثُمَّ كُلِي( (النحل:69) .. ردًّا على شبهات الملحدين، مقال منشور بموقع: منتديات أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

[14]. علم النبات في القرآن الكريم، د. السيد عبد الستار المليجي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005م، ص31.

[15]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص98 بتصرف.

[16]. )ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ((النحل/٦٩)، لقمان إبراهيم القزاز، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[17]. غريب القرآن، ابن قتيبة، مرجع سابق، ج1، ص246.

[18]. انظر: التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج11، ج23، ص265.

[19]. )ثُمَّ كُلِي(  .. ردًّا على شبهات الملحدين، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

الطعن في إعجاز القرآن بشأن خلق الإبل

مضمون الشبهة:

يواصل منكرو الإعجاز العلمي في القرآن والسنة طعونهم وتشكيكاتهم في قضايا الإعجاز العلمي للقرآن الكريم عن الحيوان، فينكرون الإعجاز العلمي في إخبار الله تعالى عن خلق الإبل؛ حيث قال تعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبلكيف خُلقت(17)( (الغاشية)، زاعمين أن الآية لا تحمل أي دلالات علمية عن الإبل وخَلْقها، ولا تعطي أي حقيقة علمية عنها، سوى مجرد الحث على النظر إلى هيئتها وشكلها، وهل أصبح النظر إلى هيئة الشيء وتركيبه- على حد زعمهم- دليلاً على اكتشاف الأسرار العلمية به، أو إخبارًا عن حقائق خَلْقه، فضلاً عن أن يكون إعجازًا علميًّا.

ويهدفون من وراء ذلك إلى تخلية القرآن الكريم من أي فضل وسبق في مجال الإعجاز العلمي والحقائق العلمية الحديثة، ونفي توصله إلى كثير من هذه الحقائق منذ زمن بعيد.

وجه إبطال الشبهة:

الإبل إحدى مخلوقات الله تعالى العجيبة في خلقها وتركيبها وهيئتها، فهي غاية في القوة والشدة، ومع ذلك فهي لينة، طيعة للحمل الثقيل، وتبرك فيُحمل عليها، أما غيرها من ذوات الأربع لا يُحمل عليها إلا وهي قائمة.

كما أن لها من القدرة العجيبة على تحمل العطش والصبر عليه في الحر الشديد، بل إنتاج الماء من خلال تخزينها للدهون والشحوم في سنامها بطريقة كيميائية تعجز مصانع الأرض قاطبة عن مضاهاتها في كفاءتها ودقتها، كما أن الجمل قد زُوِّد في تركيبه وخَلْقه بكل ما يناسبه للتكيف والتعايش مع البيئة الصحراوية، وذلك في خَلْق الأنف وتجويفها، ورموش العينين، والأذن، والتركيب الجسدي العملاق في تحمل الحر الشديد والبرد القارس، ونظام قدمه وخُفِّه في تيسير عملية السير على الرمال الناعمة، وقدرته أيضًا على شرب الماء المالح وتحويله إلى ماء عذب في أمعائه، وطرد الأملاح مع البول، وقدرته على أكل الأشواك والنباتات الصحراوية الـمرة والجافة دون ظمأ، وتحمله الكبير للعطش والجوع لأسابيع عدة.

فلو نظرنا إلى مظاهر خلق الإبل وتأملناها لوقفنا على خالق بديع محكم، خلق هذا الكائن ليتوافق تمامًا مع بيئته الصحراوية القاسية، وليخدم الإنسان ابن البادية؛ ولذلك جاء التوجيه من الرب العلي والحث على تأمل هذا الكائن واكتشاف أسراره ودقائق خلقه، فقال تعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت (17)( (الغاشية).

فهذه الآية الكريمة تدل دلالة علمية واضحة على دقة خلق الجمل، وعجيب صنعه من خلال دلالتها عليه، وتوجيهها لتأمل خلقه وكشف أسراره، فإنها وإن لم تقدم حقيقة علمية ملموسة عن الإبل، إلا أنها قدمت ما هو أعظم من ذلك؛ حيث أعطت مفتاح الوصول لهذا الخلق العجيب من خلال هذا التوجيه الحسن، والإرشاد الجميل لتأمل هذا الخلق واكتشاف أسراره، وكفى بهذا إعجازًا بليغًا.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

لقد بيَّن العلم الحديث الميزات الجسدية والصفات التشريحية ووظائف الأعضاء عند الإبل، مما يدل على عجيب خلقها، وإبداع صنعها، ويدل أيضًا على عظمة الخالق وقدرته الفائقة العجيبة في خَلْقه، والإبل تنتمي إلى مجموعة من الحيوانات الثديية المشيمية المجترة Ruminant Placental Mammals، وإلى قسم خاص منها يُعرف باسم “ذوات الحافر (الخف) مزدوج الأصابع”.

وهي من آكلات العشب التي يجمعها القرآن الكريم تحت مسمَّى “الأنعام”؛ لما فيها من نعم الله العظيمة على الإنسان، وتشمل كلاًّ من الإبل والبقر والضأن والماعز، وتضم الإبل بالإضافة إلى الجمال مجموعة الغزلان، وكلاهما يُصنف في عائلة واحدة تُعرف باسم عائلة “الإبليات” أو “الجمليات”، وبها نوعان متميزان هما: نوع الجمل، ونوع اللاما الذي يشبه الجمل ولكن لا سنام له، ومن الجمال ما له سنام واحد وهو الجمل العربي، وما له سنامان وهو الجمل الآسيوي، وينتشر في آسيا الوسطى وصولاً إلى منشوريا في بلاد الصين.

جمل عربي ذو سنام واحد

جمل آسيوي ذو سنامين

اللاما التي تشبه الجمل، ولكنها بلا سنام

والإبل بأنواعها تتميز عن جميع الأنعام بميزات بدنية وتشريحية ووظائفية عجيبة؛ فالإبل عمَّرت الأرض قبل خلق الإنسان بحوالي خمسين مليون سنة، وازدهرت ازدهارًا هائلاً في عهد الإيوسين (The Eocene Epoch) المعروف باسم “فجر الحياة الحديثة”، والجمل العربي الذي يعيش في المناطق الصحراوية الجافة القاحلة الشديدة الحرارة في نهار الصيف، والشديدة البرودة في ليل الشتاء، قد تم استئناسه من قبل خمسة آلاف سنة في شبه الجزيرة العربية من مجموعة برية كانت تعيش فوق هضاب حضرموت.

ومن الجزيرة العربية انتشرت الجمال العربية إلى كل من أفريقيا وآسيا وجنوب أوربا، عبر الوجود الإسلامي في تلك البلاد، والذي عمر شبه الجزيرة الأيبيرية- بلاد الأندلس- لأكثر من ثمانية قرون كاملة.

وقد ثبت للباحثين والمراقبين أن الجمل العربي هو بحق سفينة الصحراء، وأنه أصلح الوسائل الفطرية للسفر والحمل والتنقل في الأراضي الصحراوية الجافة؛ فهو يستطيع قطع مسافة تصل إلى ثلاثين كيلو مترًا في اليوم، متحملاً الجوع والعطش لعدة أيام متتالية في شدة حرارة نهار صيف الصحراء، ويستطيع حمل أكثر من نصف طن من المؤن والركاب والسير بهم وبها لأكثر من عشرين ميلاً في اليوم دون طعام أو شراب وذلك لعدة أيام متتالية، بما خصه الله تعالى من ميزات جسدية وتشريحية ووظائفية لا تتوافر لغيره من الحيوانات، ومن هذه الميزات ما يمكن إيجازه في النقاط الآتية:

أولاً: من الصفات الجسدية للجمل:

ضخامة الجسم، وارتفاع القوائم، وطول العنق في تناسق عجيب يمكِّن الجمل من سرعة الحركة، واتساع مجال الرؤية، ومن اختزان كميات كبيرة من الماء والغذاء والدهون والطاقة تعينه على احتمال الجوع والعطش لفترات لا يقوى عليها حيوان آخر.
لرأس الجمل أنف ذو منخارين أعطاهما الله تعالى القدرة على الانغلاق كليًّا؛ تحاشيًا لرمال الصحراء العاصفة، ومنعًا لجفاف القصبة الهوائية، وله زوج من العيون الحادة الإبصار، ترتفعان فوق رأسه المحمول على عنقه الطويل، وجسده المرتفع عن الأرض مما يوسع مجال الرؤية، ولكل واحدة من هاتين العينين المندفعتين إلى الخلف طبقة من الأهداب تقيها من هبوب العواصف الرملية في الصحراء وما تحمله من أذى وقذى، ولفم الجمل شفتان عريضتان، السفلى منهما مشقوقة حتى تمكنه من تناول الأعشاب الشوكية دون أن تؤذيه.
وعلى جانبي رأس الجمل أذنان صغيرتان يكتنف كلاًّ منهما شعر كثيف لوقايتهما من الرمال العاصفة، خاصة أن الله تعالى قد أعطاهما القدرة على الانثناء إلى الخلف، والالتصاق بجانبي الرأس؛ لمنع دخول الرمال فيهما.
أقدام الجمل منبسطة على هيئة الخف المكون من نسيج دهني سميك، يعين الجمل على السير فوق الرمال الناعمة وأيضًا التربة الخشنة والصخور الناتئة.
ذيل الجمل محاط بشعر كثيف يحمي أجزاء جسده الخلفية من كل أذى، خاصة من الرياح العاصفة المحمَّلة بالرمال.
طول سيقان الجمل تبعده عن التأثر بحرارة الأرض، وارتفاع سنامه يبعد غالبية جسده عن التأثر بحرارة الشمس؛ لأن تكتل كمية كبيرة من الدهون في منطقة السنام يحول دون انتشار حرارة الشمس إلى داخل بقية الجسم، خاصة أن الخالق العظيم قد ألهم الجمل بالوقوف متعامدًا مع أشعة الشمس قدر الاستطاعة حتى لا يتعرض لها من جسده إلا أقل مساحة ممكنة.
خلق الله تعالى للجمل وسادة حرشفية قرنية أسفل صدره تُعرف باسم “الكلكل”، ووسائد متشابهة فوق كل ركبة من ركبه، وهذه الوسائد تمكِّن الجمل من الرقود على الأرض مهما كانت قاسية وخشنة دون أذى، كما تعينه على رفع جسده عن الأرض لعزله عن حرارتها، وللسماح لتيار من الهواء أن يتحرك بين جسمه وبين الأرض لتهويته وتلطيف درجة حرارته.
جعل الله تعالى للجمل جلدًا غليظًا جدًّا، يجعله قادرًا على تحمل العواصف الحارة المحمَّلة بالرمال عند هبوبها، وعلى مقاومة لسعات الحشرات وقرصات غيرها من الطفيليات، خاصة أن هذا الجلد قليل المرونة يغطيه وبر سميك يدفئ جسم الجمل في الشتاء، ويحفظ حرارته من التصرف إلى الخارج، ويحميه من حرارة الشمس الحارقة في الصيف، خاصة أنه يعكس أشعتها بلونه الفاتح، كذلك يمتاز جلد الجمل بقلة انتشار الغدد العرقية فيه؛ مما يقلل من فقدان مخزونه المائي عن طريق العرق.
يساعد طول عنق الجمل وارتفاع أقدامه على تمكينه من تناول أوراق الأشجار العالية، وتساعد شفته السفلى المشقوقة على تناول الأعشاب الشوكية دون أن تؤذيه، خاصة أن الله تعالى قد جعل للجمل ميلاً فطريًّا للأعشاب المالحة التي تكثر في الصحاري الجافة، وذلك مثل أنواع الحلفاء (Halophytes)، وللجمل قدرة فائقة على استيعاب كميات كبيرة من أملاح هذه الأعشاب دون التأثير على درجة ارتوائه أو شعوره بالعطش، وذلك مثل أملاح الصوديوم والكالسيوم واللينيوم والفوسفور والنحاس وغيرها، وكل واحد من هذه الأملاح يلعب دورًا مهمًّا في حياة الجمل، وفي تخليق أعداد من الإنزيمات اللازمة لنشاطه الحيوي، والجمل يستهلك من هذه الأملاح ما يحتاجه، ويختزن الباقي في الكبد لاسترجاعه عند الحاجة إليه.

أجزاء الجمل

ثانيًا: من الصفات التشريحية للجمل:

الجمل من الثدييات المشيمية المجترة، ولكنه يختلف عن كثير منها بتضاؤل المعدة الثالثة، وبوجود ما يُسمى مجازًا باسم “الأكياس المائية في المعدة الأولى”، وهذه الأكياس عبارة عن انثناءات تضم الملايين من الخلايا الغددية التي تلعب دورًا رئيسيًّا في تفعيل عملية الهضم، وإنتاج كم كبير من السوائل.
كذلك فإن البلعوم الطويل للجمل يحتوي على عدد هائل من الغدد التي تعمل على ترطيب الوجبة الغذائية الجافة؛ مما يعين على سهولة تحركها إلى باقي أجزاء الجهاز الهضمي، خاصة أن الجمل يعتمد في غذائه أساسًا على الأعشاب الجافة، وأوراق الأشجار الشمعية القاسية.
زوَّد الله تعالى الجهاز الهضمي للجمل بالعديد من الإنزيمات المنتجَة فيه، والكائنات الدقيقة المتعايشة معه؛ لتقوم بتحليل المواد السيليولوزية القاسية في معدة الاجترار إلى عدد من المركبات النيتروجينية مثل: الأمونيا واليوريا، ثم بناء عدد من الأحماض الأمينية والبروتينات والدهون، وفي تجهيز عدد من الفيتامينات اللازمة لحياة الجمل، ومن العجيب أن يصل تركيز أحد الفيتامينات المهمة مثل: (فيتامين د) في جسم الجمل إلى خمسة عشر ضِعْفًا لما هو موجود في أجساد باقي الحيوانات المجترة، على الرغم من فقر غذاء الجمل بصفة عامة؛ وذلك لأن هذا الفيتامين يلب دورًا مهمًّا في تركيز الكالسيوم في العظام، وهو أمر يحتاجه الجمل بهيكله العظمي الضخم.

ثالثًا: من الصفات الوظائفية لأعضاء جسم الجمل:

الجمل من ذوات الدم الحار، ولكن الله تعالى قد وهبه القدرة على تغيير حرارة جسده ليتوافق مع درجات الحرارة المحيطة به صيفًا وشتاءً، ونهارًا وليلاً، دون أن يصاب بأذى، ويتراوح المدى الحراري لدماء الجمل بين 34˚م، 41˚م، وهو مدى يُعتبر قاتلاً للعديد من الأحياء.
يؤدي نقصان كمية الماء في أجسام معظم الحيوانات إلى زيادة لزوجة دمائها؛ مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الجسم، وينتهي بالكائن إلى الوفاة، أما الجمل فتبقى لزوجة دمه ثابتة مهما نقص الماء في جسمه؛ مما يسمح لعملية النقل الحراري أن تتم بين القلب والأطراف بسهولة ويسر.
الارتفاع في درجة حرارة جسم الجمل يعين على نقص استخدام الأكسجين، مما يبطئ من عملية التمثيل الغذائي في داخل جسمه؛ وبالتالي يحد من ارتفاع درجة حرارته، وهذا بعكس المعروف عند الحيوانات الأخرى.
يستطيع الجمل العيش دون شرب الماء لعدة أسابيع، وكمية الماء التي يتناولها ترتبط بنوعية الأكل الذي يأكله، وعلى درجة الحرارة الخارجية حوله، وفي الجو البارد يستطيع الجمل العيش على كمية الماء الموجودة فيما يتناوله من طعام إذا كان غضًّا طريًّا، وفي هذه الحالة يمكنه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل إلى الشهر الكامل، أما في الأجواء الحارة ومع تناول الطعام اليابس فإن الجمل بإمكانه الاستغناء عن شرب الماء لمدة تصل إلى الأسبوع؛ ولذلك وهب الله تعالى الجمل القدرة على تحمل ندرة كل من الماء ومصادر الغذاء في الصحراء، وقلة تنوع تلك المصادر، وضعف محتواها الغذائي، كما أعطاه القدرة على شرب كميات كبيرة من الماء عند توافره دون أن يؤذيه ذلك، وأعطاه القدرة كذلك على تحمل إنقاص وزنه بمعدل الثلث، وزيادته بالمعدل نفسه دون التعرض لأية مخاطر صحية، علمًا بأن ذلك يودي بحياة غيره من الحيوانات([1]).

وبهذا فقد أفصح العلم الحديث عن صفات عجيبة في خَلْق الجمل من حيث تركيبه وتشريحه ووظائف أعضائه، فهو خلق عجيب في الصنع والتركيب والتكيف مع بيئته التي يعيش فيها، وبه كثير من الخصائص والمميزات التي كشف عنها العلم الحديث، والتي لا تتوافر لحيوان غيره؛ مما يجعله حيوان الصحراء الأول.

كما أن العلماء لا يتوقفون في كشف أسرار إعجاز الخلق في الإبل عند الشكل والبنيان الخارجي، بل يبحثون في خصائص أعضاء الإبل الوظيفية؛ لإظهار ما فيها من غوامض وأسرار أودعها الله تعالى فيها؛ ومن ذلك تحملها للجوع والعطش، وما تقوم به من عمليات في الاحتفاظ بالماء وتخزينه، والقدرة على تحمل درجات الحرارة العالية دون عرق أو فقدان للماء.

وللجمل أساليب عدة في الحفاظ على مخزونه من الماء، وتحمل الحرارة القائظة دون عطش أو حاجة للماء، من هذه الأساليب أن الجمل لا يتنفس من فمه، ولا يلهث أبدًا مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب بخر الماء من هذا السبيل، كذلك يمتاز الجمل بأنه لا يفرز إلا مقدارًا ضئيلاً من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها درجة الحرارة بين الليل والنهار.

ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في جسم الجمل أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر؛ أي بين 34˚م و 41˚م، ولا يعرق الجمل إلا إذا تجاوزت حرارة جسمه 41˚م، ويكون هذا في فترة قصيرة من النهار، أما في المساء فإن الجمل يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق الإشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء، وهذه الآلية وحدها توفر للجمل خمسة ألتار كاملة من الماء، ولا يفوتنا أن نقارن بين هذه الخاصية التي يمتاز بها الجمل وبين نظيرتها عند الإنسان الذي تثبت درجة حرارة جسمه العادية عند حوالي 37˚م، وإذا انخفضت أو ارتفعت يكون هذا نذير مرض ينبغي أن يتدارك بالعلاج السريع، وربما تُوفي الإنسان إذا لم يسارع إلى خفض درجة حرارته إذا ارتفعت إلى مستوى 42˚م.

وهناك أمر آخر يستحق الذكر، وهو أن الجسم يكتسب الحرارة من الوسط المحيط به بقدر الفرق بين درجة حرارته ودرجة حرارة ذلك الوسط، ولو لم يكن جهاز ضبط حرارة جسم الجمل ذكيًّا ومرنًا بقدرة الخالق اللطيف- لكان الفرق بين درجة حرارة الجمل ودرجة حرارة هجير الظهيرة فرقًا كبيرًا يجعل جسمه يمتص كمية هائلة من حرارة الجو المحيط، ولكن عندما ترتفع درجة حرارة جسم الجمل إلى 41˚م في نهار الصحراء الحارق يصبح هذا الفرق ضئيلاً، وتقل تبعًا لذلك كمية الحرارة التي يمتصها الجسم، وهذا يعني أن الجمل الظمآن يكون أقدر على تحمل القيظ من الجمل الريان، فسبحان الله العليم بخلقه.

ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) سببًا جديدًا يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذي يحتاجه من الشحوم الموجودة في سنامه- أو سناميه- بطريقة كيميائية يعجز الإنسان عن مضاهاتها، فمن المعروف أن الشحم والمواد الكربوهيدراتية لا ينتج عن احتراقها في الجسم سوى الماء وغاز ثاني أكسيد الكربون الذي يتخلص منه الجسم في عملية التنفس، بالإضافة إلى تولد كمية كبيرة من الطاقة اللازمة لمواصلة النشاط الحيوي، والماء الناتج عن عملية احتراق الشحوم من قبيل الماء الذي يتكون على هيئة بخار حين تحترق شمعة على سبيل المثال، ويستطيع المرء أن يتأكد من وجوده إذا قرَّب لوحًا زجاجيًّا باردًا فوق لهب شمعة، فإنه يُلاحظ أن الماء الناتج عن الاحتراق قد تكاثف على اللوح، وهذا أيضًا هو مصدر البخار الخارج مع هواء الزفير، ومعظم الدهن الذي يختزنه الجمل في سنامه- أو سناميه- يلجأ إليه الجمل حين يشح الغذاء أو ينعدم، فيحرقه شيئًا فشيئًا، ويذوي معه السنام يومًا بعد يوم حتى يميل على جنبه، ثم يصبح كيسًا خاويًا متهدلاً من الجلد إذا طال الجوع والعطش بالجمل المسافر المنهك.

ومن حكمة خلق الله في الإبل أن جعل احتياطي الدهون في الإبل كبيرًا للغاية يفوق أي حيوان آخر، ويكفي دليلاً على ذلك أن نقارن بين الجمل والخروف المشهور بإليته الضخمة المملوءة بالشحم، فعلى حين نجد الخروف يختزن زهاء 11كجم من الدهن في إليته، نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك المقدار بأكثر من عشرة أضعاف- أي نحو 120كجم- وهي كمية كبيرة بلا شك يستفيد منها الجمل بتمثيلها وتحويلها إلى ماء وطاقة وثاني أكسيد الكربون؛ ولهذا يستطيع الجمل أن يقضي حوالي شهرًا ونصف الشهر بدون ماء يشربه، ولكن آثار العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه، وبالرغم من هذا فإنه يمضي في حياته صلدًا لا تخور قواه، إلى أن يجد الماء العذب أو المالح فيعب منه عبًّا حتى يطفئ ظمأه.

وهناك أسرار أخرى عديدة لم يتوصل العلم بعد إلى معرفة حكمتها… ولعل في المقارنة بين بعض قدرات الإبل والإنسان ما يزيد الأمر إيضاحًا بالنسبة لنموذج الإبل الفريد في الإعجاز؛ فقد أكدت تجارب العلماء أن الإبل التي تتناول غذاء جافًّا يابسًا يمكنها أن تتحمل قسوة الظمأ في هجير الصيف لمدة أسبوعين أو أكثر، ولكن آثار هذا العطش الشديد سوف تصيبها بالهزال لدرجة أنها قد تفقد ربع وزنها تقريبًا خلال هذه الفترة الزمنية، ولكي ندرك مدى هذه المقدرة الخارقة نقارنها بمقدرة الإنسان الذي لا يمكنه أن يحيا في مثل تلك الظروف أكثر من يوم واحد أو يومين، فالإنسان إذا فقد نحو 5% من وزنه ماء فقد صواب حكمه على الأمور، وإذا زادت هذه النسبة إلى 10% صُمَّت أذناه، وخلط وهذى، وفقد إحساسه بالألم، وهذا من رحمة الله به ولطفه في قضائه، أما إذا تجاوز الفقد 12% من وزنه ماء فإنه يفقد قدرته على البلع، وتستحيل عليه النجاة حتى إذا وجد الماء إلا بمساعدة منقذيه، وعند إنقاذ إنسان أشرف على الهلاك من الظمأ ينبغي على منقذيه أن يسقوه الماء ببطء شديد؛ تجنـبًا لآثار التغير المفاجئ في نسبة الماء بالدم، أما الجمل الظمآن إذا ما وجد الماء يستطيع أن يعب منه عبًّا دون مساعدة أحد ليستعيد في دقائق معدودات ما فقد من وزنه في أيام الظمأ.

وثمة ميزة أخرى للإبل على الإنسان، فإن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ ظمأه من أي نوع وجد من الماء، حتى وإن كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة؛ وذلك بفضل استعداد خاص في كُليتيه لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيد معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم، أما الإنسان الظمآن فإن أية محاولة لإنقاذه بشرب الماء المالح تكون أقرب إلى تعجيل نهايته.

للجمل وقفة قلما نجدها في حيوان آخر، وله ثبات قوي على الأرض بواسطة أخفافه

وأعجب من هذا كله أن الجمل إذا وُضع في ظروف بالغة القسوة من هجير الصحراء اللافح فإنه سوف يستهلك ماء كثيرًا في صورة عرق وبول وبخار ماء مع هواء الزفير حتى يفقد ربع وزنه دون ضجر أو شكوى، والعجب في هذا أن معظم هذا الماء الذي فقده استمده من أنسجة جسمه ولم يستنفد من ماء دمه إلا الجزء الأقل؛ وبذلك يستمر الدم سائلاً جاريًا موزعًا للحرارة ومبددًا لها من سطح الجسم، وهذا أمر لا يدانيه فيه كائن آخر، فإن أخطر ما يتعرض له الإنسان الظمآن هو أن نسبة الماء في دمه تقل حتى يغلظ ويبطؤ دورانه، فلا تتوزع الحرارة في أنسجة جسمه؛ ومن ثم ترتفع درجة حرارته ارتفاعًا فجائيًّا لا تتحملها أجهزته- وخاصة دماغه- وفي هذا يكون حتفه([2]).

وهكذا يتبين من خلال هذه المقارنة بين بعض قدرات الإبل والإنسان مدى تفرد خلق الإبل في الدقة والإعجاز، وعجيب صنعها وتركيبها، كما أن هناك مظهرًا آخر من مظاهر إعجاز خلق الإبل وعجيب خلقها، ويتمثل ذلك في إنتاجها اللبن، فهو أعجوبة من الأعاجيب التي خصها الله سبحانه للإبل؛ حيث تُحلب الناقة لمدة عام كامل في المتوسط بمعدل مرتين يوميًّا، ويبلغ متوسط الإنتاج اليومي لها من 5: 10 كجم من اللبن.

ويختلف تركيب لبن الناقة بحسب سلالة الإبل التي تنتمي إليها، كما يختلف من ناقة لأخرى، وكذلك تبعًا لنوعية الأعلاف التي تتناولها الناقة والنباتات الرعوية التي تقتاتها، والمياه التي تشربها وكمياتها، ووفقًا لفصول السنة التي تُربى فيها، ودرجة حرارة الجو أو البيئة التي تعيش فيها، والعمر الذي وصلت إليه هذه الناقة، وفترة الإدرار وعدد المواليد والقدرات الوراثية التي يمتلكها الحيوان ذاته، وطرائق التحليل المستخدمة في ذلك.

وعلى الرغم من أن معرفة العناصر التي يتكون منها لبن الناقة على جانب كبير من الأهمية، سواء لصغر الناقة أو للإنسان الذي يتناول هذا اللبن، فإنها من جانب آخر تشير وتدل دلالة واضحة على أهمية مثل هذا اللبن في تغذية الإنسان وصغار الإبل، وبشكل عام يكون لبن الناقة أبيض مائلاً للحمرة، وهو عادة حلو المذاق لاذع، إلا أنه يكون في بعض الأحيان مالحًا، كما يكون مذاقه في بعض الأوقات مثل مذاق المياه، وترجع التغيرات في مذاق اللبن إلى نوع الأعلاف والنباتات التي تأكلها الناقة، والمياه التي تشربها، كذلك ترتفع قيمة الأس الهيدروجيني PH- وهو مقياس الحموضة- في لبن الناقة الطازج، وعندما يُترك لبعض الوقت تزداد درجة الحموضة فيه بسرعة.

ويصل محتوى الماء في لبن الناقة بين 84% و 90%؛ ولهذا أهمية كبيرة في الحفاظ على حياة صغار الإبل، والسكان الذين يقطنون المناطق القاحلة- مناطق الجفاف- وقد تبين أن الناقة الحلوب تفقد أثناء فترة الإدرار ماءها في اللبن الذي يُحلب في أوقات الجفاف، وهذا الأمر يمكن أن يكون تكيفًا طبيعيًّا؛ وذلك لكي توفر هذه النوق وتمد صغارها والناس الذين يشربون من حليبها- في الأوقات التي لا تجد فيها المياه- ليس فقط بالمواد الغذائية، ولكن أيضًا بالسوائل الضرورية لمعيشتهم وبقائها على قيد الحياة، وهذا لطف وتدبير من الله عز وجل.

وكذلك فإنه مع زيادة محتوى الماء في اللبن الذي تنتجه الناقة العطشى ينخفض محتوى الدهون من 3,4% إلى 1,1%، وعمومًا يتراوح متوسط النسبة المئوية للدهون في لبن الناقة بين 6,2% إلى 5,5%.

وبمقارنة دهون لبن الناقة مع دهون ألبان الأبقار والجاموس والغنم لُوحظ أنها تحتوي على أحماض دهنية قليلة، كما أنها تحتوي على أحماض دهنية قصيرة التسلسل، ويرى الباحثون أن قيمة لبن الناقة تكمن في التراكيز العالية للأحماض الطيّارة التي تُعتبر من أهم العوامل المغذِّية للإنسان، وخصوصًا الأشخاص المصابين بأمراض القلب.

ومن عجائب لبن الإبل أن محتوى اللاكتوز في لبن الناقة يظل دون تغيير منذ الشهر الأول لفترة الإدرار، وحتى في كل من الناقة العطشى والناقة المرتوية من الماء، وهذا لطف من العلي القدير فيه رحمة وحفظ للإنسان والحيوان؛ إذ إن اللاكتوز- سكر اللبن- سكر مهم يُستخدم كمليِّن وكمُدِرّ للبول، وهو من السكاكر الضرورية التي تدخل في تركيب أغذية الرُّضَّع.

وفضلاً عن القيمة الغذائية العالية للبن الإبل، فإن له استخدامات وفوائد طبية عديدة تجعله جديرًا بأن يكون الغذاء الوحيد الذي يعيش عليه الرعاة في بعض المناطق، وهذا من فضل الله العظيم وفيضه العميم([3]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

يتبين إعجاز الخالق الحكيم في كثير من خلقه؛ إذ يدل هذا الكون العجيب بكل كائناته على خالق محكَم ومدبِّر حكيم، تتجلَّى عظمته وقدرته في مخلوقاته، ويشهد له الخلق بالوجود والدقة والحكمة.

ومن بين هذه المخلوقات التي يتجلى فيها أسرار خلق الله، وبديع صنعه، وعجيب تصويره، وقدرته الفائقة- الإبل، والتي حث القرآن الكريم على تأمل خلقها، واكتشاف كنهها بالنظر إليها، والتطلع إلى إبداع صنعها، وكشف أسرار تركيبها، والوقوف على إعجاز الخالق في خلقها، وقد جاء البيان القرآني في صيغة رائعة من الحث والدفع لهذا التأمل بقوله تعالى: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت(17)((الغاشية).

فهذه دعوة من القرآن الكريم لتأمل الإبل كيف خُلقت، وصُوِّرت على هذا النحو الإعجازي المبهر الذي يشهد للخالق عز وجل بالقدرة والحكمة والإتقان وعظمة الخلق، فهي نظرة ليست بالنظرة العابرة العشواء، وإنما نظرة تدبر وتفكر وتأمل في هذا الخلق؛ لإدراك عظمته وإعجازه العجيب، والوقوف على حقيقته.

 ثم يأتي الطاعن لينفي عن هذه الآية الكريمة بيانها وإعجازها، ولا يروق له هذا التوجيه القرآني البليغ لكشف أسرار هذا الكائن العجيب وتأمل خلقه، زاعمًا أن الدعوة إلى النظر للشيء لا تفي ببيان ما فيه من إعجاز، أو تدل على حقيقة من حقائقه، فليس من الإعجاز في شيء أن يُحث أحد على النظر إلى خلق من المخلوقات، وليس فيه دلالة على الإخبار عن أسراره وحقائقه.

إلا أن الطاعن غاب عنه كثير من دلالات هذه الآية الكريمة، وجانبه الصواب في فهمها، فإن الآية الكريمة وإن كانت لا تخبر عن حقائق علمية بينة في خلق الإبل، وليس في نصها شيء من حقائق العلم ونظرياته، إلا أنها تقدم ما هو أعظم من هذا؛ ففيها مفتاح الوصول إلى تلك الحقائق بذلك التوجيه الجميل من الله العليم الخبير بأسرار خلقه.

وهذا ما يتضح من خلال إيراد الأدلة اللغوية في إيضاح معنى النظر في الآية الكريمة وما جاء فيها من أقوال المفسرين وفهمهم لهذه الآيات.

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

ذكرت المعاجم اللغوية أن النظر يأتي بمعنى التفكر في الشيء وتقديره وتأمله؛ فقد جاء في لسان العرب: “النظر: حس العين… وتقول: نظرت إلى كذا وكذا من نظر العين ونظر القلب… والنظر: الفكر في الشيء تقدره وتقيسه منك”([4]).

وجاء في تاج العروس في معنى نظر: “تأمله بعينه- هكذا فسره الجوهري- وفي البصائر: والنظر أيضًا تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يُراد به التأمل والفحص، وقد يُراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص”([5]).

وهكذا فإن النظر يدل على تأمل الشيء وإدراكه وحصول المعرفة منه.

من أقوال المفسرين في الآية:

تتوالى آراء المفسرين عند تفسير هذه الآية مؤكدة أن النظر للإبل هنا هو نظر تأمل واعتبار بهذا المخلوق العجيب، واكتشاف أسراره، والوقوف على دقائق خلقه، وتأمل إعجاز الخالق عز وجل في خلقه.

فقد جاء في تفسير الطبري قوله: “القول في تأويل قوله تعالى : )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت (17)( (الغاشية)، يقول تعالى ذكره لمنكري قدرته على ما وصف في هذه السورة من العقاب والنكال الذي أعده لأهل عداوته، والنعيم والكرامة التي أعدها لأهل ولايته: أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قدرة الله على هذه الأمور إلى الإبل كيف خلقها وسخرها لهم، وذللها وجعلها تحمل حملها باركة، ثم تنهض به، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار، يقول جل ثناؤه: أفلا ينظرون إلى الإبل فيعتبرون بها، ويعلمون أن القدرة التي قدر بها على خلقها، لن يعجزه خلق ما شابهها”([6]).

فالنظر هنا نظر تأمل وإدراك في كيفية الخلق والتذليل والتسخير، فيتأملونها ويقفون على قدرة الله في خلقها، وقد أكَّد هذا الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية، وذكر بعضًا من أسرار خلق الإبل، فقال: “قوله تعالى:)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت(17)( (الغاشية)، قال المفسرون: لـما ذكر الله عز وجل أمر أهل الدارين تعجب الكفار من ذلك، فكذبوا وأنكروا؛ فذكَّرهم الله صنعته وقدرته، وأنه قادر على كل شيء، كما خلق الحيوانات والسماء والأرض. ثم ذكر الإبل أولا؛ لأنها كثيرة في العرب، ولم يروا الفيلة، فنبههم جل ثناؤه على عظيم من خلقه قد ذللـه للصغير، يقوده وينيخه وينهضه، ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك، فينهض بثقيل حمله، وليس ذلك في شيء من الحيوان غيره، فأراهم عظيمًا من خلقه مسخرًا لصغير من خلقه؛ يدلهم بذلك على توحيده وعظيم قدرته… وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش، حتى إن إظماءها ليرتفع إلى العشر فصاعدًا، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما لا يرعاه سائر البهائم”([7]).

وجاء في تفسير البغوي قوله: “وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات؛ فقال مقاتل: لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا الشاذ منهم. وقال الكلبي: لأنها تنهض بحملها وهي باركة. وقال قتادة: ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وسُئل الحسن عن هذه الآية، وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال: أما الفيلة فالعرب بعيدة العهد بها، ثم هو لا خير فيه؛ لا يُركب ظهرها، ولا يُؤكل لحمها، ولا يُحلب دَرُّها، والإبل أعز مال للعرب وأنفسها؛ تأكل النوى والقت وتخرج اللبن. وقيل: إنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا إلى كُناسة إسطبل حتى ننظر إلى الإبل كيف خُلقت”([8]).

وقد ذكر الإمام ابن كثير عجائب خلق الإبل عند تفسيره هذه الآية، فقال: “يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته:)أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت(17)((الغاشية)، فإنها خلق عجيب، وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتُؤكل، ويُنتفع بوبرها، ويُشرب لبنها؛ ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خُلقت”([9]).

وأيضًا فقد ذكر الرازي في تفسيره بعض أسباب اختصاص الله تعالى الإبل بالحث على تأمل خلقها دون الحيوانات الأخرى، فقال: “أما المقام الأول فنقول: الإبل له خواص؛ منها: أنه تعالى جعل الحيوان الذي يُقتنى أصنافًا شتى؛ فتارة يُقتنى ليُؤكل لحمه، وتارة ليُشرب لبنه، وتارة ليحمل الإنسان في الأسفار، وتارة لينقل أمتعة الإنسان من بلد إلى بلد، وتارة ليكون له به زينة وجمال، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل، وقد أبان الله عز وجل عن ذلك بقوله: )أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون(71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون(72)((يس)، قال:)والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحونوحين تسرحون (6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس( (النحل/7:5)، وإن شيئًا من سائر الحيوانات لا يجتمع فيه هذه الخصال، فكان اجتماع هذه الخصال فيه من العجائب.

وثانيها: أنه في كل واحد من هذه الخصال أفضل من الحيوان الذي لا يوجد فيه إلا تلك الخصلة؛ لأنها إن جُعلت حلوبة سقت فأروت الكثير، وإن جُعلت أكولة أطعمت وأشبعت الكثير، وإن جُعلت ركوبة أمكن أن يقطع بها من المسافات المديدة ما لا يمكن قطعه بحيوان آخر، وذلك لما ركب فيها من قوة احتمال المداومة على السير، والصبر على العطش، والاجتزاء من العلوفات بما لا يجتزئ حيوان آخر، وإن جُعلت حملة استقلت بحمل الأحمال الثقيلة التي لا يستقل بها سواها، ومنها: أن هذا الحيوان كان أعظم الحيوانات وقعًا في قلب العرب؛ ولذلك فإنهم جعلوا دية قتل الإنسان إبلاً، وكان الواحد من ملوكهم إذا أراد المبالغة في إعطاء الشاعر الذي جاءه من المكان البعيد أعطاه مئة بعير؛ لأن امتلاء العين منه أشد من امتلاء العين من غيره؛ ولهذا قال تعالى: )ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6)( (النحل).

ومنها: أني كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق، فقدَّموا جملاً وتبعوه، فكان ذلك الجمل ينعطف من تل إلى تل، ومن جانب إلى جانب، والجميع كانوا يتبعونه، حتى وصل إلى الطريق بعد زمان طويل، فتعجبنا من قوة تخيل ذلك بالحيوان أنه بالمرة الواحدة كيف انحفظت في خياله صورة تلك المعاطف، حتى إن الذي عجز جمع من العقلاء إلى الاهتداء إليه فإن ذلك الحيوان اهتدى إليه، ومنها: أنها مع كونها في غاية القوة على العمل مباينة لغيرها في الانقياد والطاعة لأضعف الحيوانات كالصبي الصغير، ومباينة لغيرها أيضًا في أنها يُحمل عليها وهي باركة ثم تقوم.

فهذه الصفات الكثيرة الموجودة فيها توجب على العاقل أن ينظر في خِلْقتها وتركيبها، ويُستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم سبحانه، ثم إن العرب من أعرف الناس بأحوال الإبل؛ في صحتها وسقمها، ومنافعها ومضارها؛ فلهذه الأسباب حسن من الحكيم تعالى أن يأمر بالتأمل في خلقتها”([10]).

وأيضًا يذكر هذا المعنى ويؤكد عليه صاحب “الظلال” عند تفسيره للآية فيقول: “والإبل حيوان العربي الأول، عليها يسافر ويحمل، ومنها يشرب ويأكل، ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل، فهي مورده الأول للحياة، ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان، فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذَلول يقودها الصغير فتنقاد، وهي على عِظَم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف، مرعاها ميسر، وكلفتها ضئيلة، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال، ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض؛ لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل وهي بين أيديهم، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت(17)((الغاشية)، أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون: كيف خُلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها، المحقق لغاية خلقها، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعًا! إنهم لم يخلقوها، وهي لم تخلق نفسها، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته، التي تدل عليه، وتقطع بوجوده كما تشي بتدبيره وتقديره”([11]).

وهكذا فقد أجمعت كلمة المفسرين على أن المقصود بالنظر في هذه الآية هو نظر التأمل والاعتبار والاكتشاف، والوقوف على الحقائق وأسرار الخلق، وما يتميز به هذا الحيوان من عجائب وميزات تدل على إعجازها وغريب صنعها، وهذا كله يجعل الإشارة لتأمل هذا الخلق واعتبار إعجازه لمما يشهد للقرآن الكريم بالإعجاز والتفرد، وأنه كلام الخالق الحكيم المطلع على أسرار خلقه.

وعلى هذا فمن خلال إيراد الأدلة اللغوية وأقوال المفسرين يتبين أن هذه الآية القرآنية الكريمة تمثل إعجازًا علميًّا بليغًا للقرآن الكريم؛ حيث حث على تأمل هذا الخلق خاصة، وبيان دقيق صنعه وخصائصه، وعجائب تركيبه، والتنبيه على تتبع كيفية خلقه، والوقوف على إعجاز الخالق الحكيم فيها، وهي بذلك تدل دلالة قاطعة على إعجاز القرآن الكريم في هذا البيان وذلك الحث على تأمل خلق الإبل، وإن كان لم يفصل حقائقها العلمية.

ومن ثم فإن الآية الكريمة بهذا البيان والتفسير تتطابق مطابقة واضحة مع سياق الحقائق العلمية الواردة عن هذا الخلق، بل إنها لتؤكد إعجاز القرآن الكريم في هذا التنبيه والتوجيه، فقد شغلت الإبل بال العلماء في العصر الحديث، واتجهت أنظارهم إليها، وكثرت أبحاثهم ودراساتهم عنها، محاولين كشف حقائقها والوقوف على أسرارها ودقة خلقها، وتفسير اللغز الموجود عند الإبل في كونها تتحمل العطش فترات طويلة من الزمن في الحر القائظ، فهل تنتج الماء أم تخزنه؟ فإلى أي شيء ترجع هذه القدرة؟!

“على أية حال، فإن علماء الفسيولوجيا والبيولوجيا في العصر الحديث قد تمكنوا من حل هذا اللغز، فوجدوا- وهم للأسف من الغربيين- أن للجمل قدرة على إنتاج الماء من الشحوم الموجودة في سنامه بطريقة كيميائية تعجز مصانع الأرض قاطبة عن مضاهاتها في كفاءتها وعظمتها ودقتها، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على عظمة الخالق الذي أبدع كل شيء خلقه، صنع الله ومن أحسن من الله صنعًا.

فمن المعروف لعلماء الفسيولوجيا والكيمياء أن أفضل مادة خام لإنتاج الماء وأسهلها منالاً هي الشحوم والمواد الكربوهيدراتية، ويرجع السر في ذلك إلى أن هذه المواد لا ينتج عن احتراقها في الجسم أية مواد ثانوية، بل كل ما ينتج عن الاحتراق هو الماء وغاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يتخلص منه الجسم في عملية التنفس، بالإضافة إلى تولد كمية كبيرة من الطاقة يستغلها الجمل لمواصلة نشاطه الحيوي.

ويقوم الجمل بتخزين الشحوم في أماكن مخصصة لهذا الغرض، وهو لا يخزنها تحت الجلد كما هو الحال في الإنسان؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لهلك الجمل ومات بسبب السخونة الزائدة في جسم الجمل عن الإنسان، ولكن الخالق العليم الذي أبدع في خلقه وصنعه لمخلوقاته شاء أن يخزن الجمل شحمه في سنامه فقط، بحيث لا يترك شيئًا منه في أي مكان آخر من سطح جسمه؛ ولذلك لا يعاني الجمل من الحر، ولا يفقد جسمه كميات كبيرة من العرق نتيجة لذلك؛ وبالتالي يحافظ على الماء الموجود في جسمه من الفقد بسبب العرق.

ومن حكمة خلق الله في الإبل أن جعل احتياطي المادة الخام الضرورية لإنتاج الماء- أي الشحوم- كبيرًا للغاية يفوق أي حيوان آخر”([12]).

فهذا الخلق العجيب قد زوَّده الله تعالى بكافة إمكاناته وقدراته للعيش في الصحراء، وملاءمة بيئته والتكيف معها، والقدرة على تحمل الظمأ، بل وإنتاج الماء من خلال تخزينه الدهون والشحوم في سنامه، “فالإبل حيوانات قادرة على تخزين كميات من الدهن يمكن أن تُستخدم في حال نقص الغذاء والماء، كما يمتاز كرشها بسعته الكبيرة لنحو 250 لترًا من الماء، كما يمكنها الاستفادة من الغذاء الفقير والألياف إلى مواد بروتينية غذائية كاللحم والجلد والوبر طوال العام بخلاف غيره، ويُعد الملح عاملاً حاسمًا في مرور المياه في الأحشاء والكُلَى، وقد ثبت أن عدم كفاية الملح في غذاء الجمل يؤدي إلى خفض إنتاج اللبن في إناثه التي تزداد أهميته عندما تكون كميات مياه الشرب محدودة، ومن هنا نرى أن تناوله للمياه المالحة أو أكله للنباتات والشجيرات له حكمة ربانية عظيمة في نفع الناس.

كما أن ضخامة جهازه الهضمي يؤدي إلى بقاء الغذاء فيه مدة طويلة، ويهيئ فرصة كبيرة للكائنات الحية الدقيقة الموجودة في الكرش للقيام بهضم السليلوز المكون الرئيسي في غذاء الإبل، كما يجب أن نشير هنا إلى دور السنام- وهو مخزن الدهن في الجسم- في حفظ حياة الجمل، وبخاصة في أثناء الجوع الشديد، كما يستخدم السنام في توليد الطاقة اللازمة لكي يواصل الجمل حركة السير عبر الصحراء، وتوزع أهمية الدهن في السنام تسهيل عملية تبخر العرق من على باقي الجسم؛ فتلطف حرارة الجو وأشعة الشمس، فقد يهزل الجمل ويتلاشى سنامه شيئًا فشيئًا، فإذا ما تحسنت الظروف ونال الجمل بعد الرحلة قسطًا وافرًا من الغذاء ومن الراحة- يعود السنام إلى سابق عهده ممتلئًا بالدهن.

وصبر الجمل على الظمأ دليل على قدرة الله وإعجازه في خلقه، وفسَّر بعض العلماء ذلك بأن المركز الفعلي للإحساس بالعطش يقع في الدماغ المتوسط في منطقة الوطاء بجوار الغدة النخامية (Pituitary gland) مباشرة؛ حيث يمكن لهذا المركز الحسي أن يعرف نسبة الملح إلى الماء في الدم ويتحكم في هذه الحالة، وذلك بالتعاون مع الكُلى، حتى إذا بلغ النقص في هذه النسبة بمقدار 1,3% من النسبة الأصلية يقوم المركز بإرسال إشارات حسية للجدار البطني للوطاء الذي يفرز هرمونًا للجزء الخلفي، ويحتوي عرق الجمال على بوتاسيوم يعادل أربعة أمثال محتواه من الصوديوم؛ مما يساعد على الاحتفاظ بالماء وتركيزه داخل الخلية، والغطاء الوبري للجمل خفيف وعازل للحرارة، وهذا ما يسمح بالتبخر من على سطح الجسم”([13]).

وهكذا فقد كشف العلم الحديث كثيرًا من عجائب خلق الإبل وإمكاناتها، وما حباها الخالق الحكيم من قدرات وميزات جعلها تفوق كثيرًا الحيوانات الأخرى في القوة والتحمل والعيش في الصحراء، وهكذا تتطابق الحقائق العلمية مع بيان القرآن الكريم، وتبين إعجازه حين نبَّه الناس إلى هذا الكائن العجيب، وتأمل هذا الخلق المتفرد؛ للوقوف على أسراره ودقائقه ومعرفة خلقه إذعانًا لله تبارك وتعالى بالتفرد في الخلق والأمر والتدبير، إيمانًا بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وهكذا دلت الآية الكريمة على هذا الخلق آمرة بالنظر إليه وتأمل خلقه واكتشاف أسراره، فإن لم تكن قد أخبرت عن حقيقة علمية ملموسة في الإبل إلا أنها قدمت مفتاح الوصول إلى تلك الحقائق بذلك الأمر الجميل، والحث الدافع، والتوجيه الحسن، فسبحان الله رب العالمين.

3)  وجه الإعجاز:

الإبل خلق من مخلوقات الله تعالى عجيبة الصنع وغريبة التركيب، وقد نبه القرآن الكريم في إعجاز بيِّن إلى تأمل خلقها، وحث على النظر إليها، والوقوف على أسرارها، واكتشاف عجائب خلقها ودقته، فقال تعالى في بيان معجز: )أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت(17)((الغاشية)، فأعطى الله تبارك وتعالى- بهذا التنبيه والحث والإرشاد- سبيل الوصول إلى حقائق هذا المخلوق واكتشاف كنهه وأسراره، والوقوف على إعجاز الخالق الحكيم في خلقه؛ إذعانًا له بالربوبية والألوهية والتفرد بالخلق.

وجاء العلم الحديث وكشف عن أسرار هذا الكائن الذي ظل لغزًا عجيبًا أمام العلماء، وأثار كثيرًا من الجدل حولهم، وكان مثار تساؤلاتهم واستفساراتهم أيامًا طويلة، لقد بيَّنوا دقائق خلق هذا الكائن في هيئته وتركيبه ووظائفه، وبيَّنوا أسباب قدرته على تحمل الظمأ في الحر القائظ لأيام طويلة ولأكثر من شهر، وقدرته على شرب الماء المالح وأكل الأشواك والنباتات الصحراوية الجافة، وما زوَّده الله من إمكانات عجيبة في تخزين الدهون وتحويلها إلى ماء يتغذى عليه في أوقات الجفاف وانعدام الماء، وما خصه الله تعالى بالمحافظة على حرارة جسمه، وما إلى ذلك من قوة على حمل الأثقال والسير بها أميالاً دون جوع أو عطش، وبالإضافة إلى بنيانه القوي الذي يتحمل البرد والحر، وتكيفه مع البيئة الصحراوية في هيكله وتركيب أنفه وعينه وأذنه، وكذلك نظام قدمه وخُفِّه ليستطيع السير على الرمال الناعمة دون تعثر، وغير ذلك كثير من الحقائق العلمية المبهرة التي وقف عليها العلماء في العصر الحديث، والتي تبين بصدق أن الإبل مخلوق عجيب في حاجة إلى التأمل والاعتبار، وهذا ما دل عليه الخالق الحكيم في بيان معجز، وتوجيه بليغ؛ حيث حث الناس على النظر إلى تأمل هذا الخلق وكشف أسراره، فأي إعجاز هذا؟! وأي بيان بليغ ذاك؟!

(*) موقع: الحوار المتمدن www.ahewar.org.

[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص272: 278 بتصرف.

[2]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في خلق الحيوانات البرية والبحرية وبعثها وحسابها، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج6، ص136: 141 بتصرف.

[3]. آيات الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص220: 222 بتصرف.

[4]. لسان العرب، مادة: نظر.

[5]. تاج العروس، مادة: نظر.

[6]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج24، ص388.

[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج20، ص34، 35.

[8]. معالم التنزيل، البغوي، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرين، دار طيبة، السعودية، ط4، 1417هـ/ 1997م، ج8، ص409، 410.

[9]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص503.

[10]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421هـ/ 2000م، ط1، ج31، ص143، 144.

[11]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3898.

[12]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط7، 1427هـ/ 2006م، ص158.

[13]. الإعجاز القرآني في علوم الأحياء والبيولوجيا، أحمد المرسي حسين جوهر، مكتبة الإيمان، مصر، ص214، 215.

دعوى أن استنكار القرآن لصوت الحمار يتنافى مع منهج العلم
 
مضمون الشبهة:
 
يسخر بعض المغرضين من قوله تعالى: )واقصدْ في مشيك واغضضْ من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(19)((لقمان)، زاعمين أن الآية الكريمة تعبر عن نظرة الإنسان القديم إلى الكائنات حوله، فحين استنكرت صوت الحمار لم تستقصِ سائر المخلوقات على سطح الأرض، فأين المنهج العلمي للقرآن؟!
 
وجه إبطال الشبهة:
 
تؤكد الدراسات الحديثة أن الضوضاء صورة من صور تلوث البيئة، وأن هناك علاقة وثيقة بين الاستقرار البدني والنفسي للكائن الحي- بل والجمادات- في وسط ما، وبين مستوى الضجيج السائد في ذلك الوسط، كما ثبت بالقياس أن شدة صوت نهيق الحمار تتجاوز المئة ديسيبل، وأن كثرة التعرض لهذا الصوت قد تصيب الإنسان بالعديد من الأمراض، كما أن صوت الحمار ينشأ عن الشهيق، فينشأ نتيجة ذلك تردد معين مُضِرّ بالأذن البشرية، كما يزيد صوته قبحًا؛ لذا استنكره القرآن الكريم.
 
التفصيل:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
ثبت علميًّا أن شدة صوت نهيق الحمار تتجاوز المئة ديسيبل، وأن كثرة التعرض لهذا الصوت قد يصيب الإنسان بالعديد من الأمراض، كما أن صوت الحمار ينشأ عن الشهيق، فينشأ نتيجة لهذا تردد معين مُضِرّ بالأذن البشرية.
 
شدة الصوت مقدرة بـ (الهيرتز)؛ أي بعدد الذبذبات في الثانية
 
وتؤكد الدراسات الحديثة أن الضوضاء صورة من صور تلوث البيئة، وأن هناك علاقة وثيقة بين الاستقرار البدني والنفسي للكائن الحي- بل والجمادات- في وسط ما، وبين مستوى الضجيج السائد في ذلك الوسط، فالضوضاء الصاخبة تؤدي إلى خلل واضح في أنشطة ووظائف الأجهزة المختلفة في جسم الإنسان؛ مثل زيادة إفراز مادة الأدرينالين؛ مما يؤدي إلى توتره العصبي، ويقظته الزائدة، وشدة انتباهه فوق الطاقة، مما يزيد من إرهاقه وشعوره بالإعياء الفائق عن الحد، فجسم الإنسان- كأي كائن آخر- يستقبل الموجات الصوتية كما يستقبل غيرها من صور الطاقة بدرجات متفاوتة، وينتج عن ذلك قدر من ردود الأفعال المتباينة في مختلف أجهزته، خاصة في كل من جهازه العصبي المركزي، وجهازه السمعي، وجهازه الدوري، وفي أنظمة غدده الصماء وإفرازاتها الداخلية (الهرمونات)؛ وذلك لأن الأصوات تحدث تغيرات في ضغط الهواء بالزيادة (التضاغط) والنقصان (التخلخل)، وتندفع هذه التغيرات على هيئة موجات من الذبذبات المنتشرة في كل الاتجاهات من مصدر الصوت بسرعات تُقدر بنحو 330 مترًا في الثانية في المتوسط.
 
تتشكل موجات الصوت عندما يجعل جسم مهتز الوسط المحيط به يهتز، وعندما يتحرك الجسم إلى الخارج يحدث منطقة ضغط، وعندما يتحرك الجسم بعد ذلك إلى الداخل تتكون منطقة تمدد تُسمى “تخلخل”، وتتكون موجات الصوت من سلسلة الضغوط والتخلخلات التي يولدها الجسم المهتز
 
وتعتمد طبقة الصوت على عدد الذبذبات في الثانية التي تؤثر في طبقة الهواء، دون أن تتأثر سرعة الصوت، أما شدة الصوت فتعتمد أساسًا على سعة الذبذبة، وتتناقص بالتدريج بالبعد عن مصدر الصوت، وأقل تردد للموجات الصوتية تسمعه أذن الإنسان هو 20 هيرتز (أي عشرون ذبذبة في الثانية)، وأعلاه هو 15000: 20000 هيرتز، والموجات الصوتية تنقل الطاقة من المصدر إلى أذن المستمع أو إلى أجهزة الاستقبال، ومن الثابت أن بعض الحيوانات- من أمثال الخفافيش والحيتان الزرقاء والدلافين وبعض الحشرات- لها قدرة استماع فوق صوتية تتراوح بين 30 و 100كيلو هيرتز.
 
والموجات الصوتية لا تتحرك في الفراغ، فهي تحتاج إلى وسط من الهواء أو السوائل كالماء أو الجوامد كي تتحرك فيه، وتتحرك الموجات الصوتية في الهواء بسرعة تُقدر بنحو 1200 كيلو متر في الساعة عند مستوى سطح البحر، ومع زيادة كثافة الوسط الذي تتحرك فيه الموجات الصوتية، فإن سرعتها تزداد بصورة مطردة حتى تصل إلى 4800 كيلو متر في الساعة في الأوساط المائية، وإلى أضعاف تلك السرعة في الجوامد([1]).
 
ولقد أشار العلماء إلى ما تحدثه الضوضاء من تأثير على صحة الإنسان النفسية؛ إذ إن التعرض أو الاستماع لأصوات عالية- والتي تُذكر تحت اسم “الشدة الضوضائية”- تؤدي إلى التوتر، والتوتر عامل مسبِّب للمرض النفسي واضطرابات أخرى مصاحبة؛ منها:
 
·       الصداع.
 
 
 
·       القلق.
 
 
 
·       الغثيان.
 
 
 
 
·       عدم الاستقرار.
 
 
 
·       التقزز.
 
 
 
·       الفشل الجنسي.
 
 
 
 
·       فقدان التحكم الحسي.
 
 
 
·        تغيرات في المزاج والعاطفة.
 
 
 
 
·       حب الجدل (حتى في الأمور التافهة).
 
 
 
 
 
·       اللامبالاة (وهذا عامل غير متوقع يعمل على زيادة القابلية للاضطرابات السيكولوجية).
 
 
 
 
 
 
 
 
وقد تم التوصل إلى كل هذه النتائج مجتمعة في الدراسة التي أجراها كوهين وزملاؤه ميللر واستراكهوف 1966م-  1969م.
 
فلا شك أن التلوث الصوتي أو الضوضائي، ويُراد به الضجيج والضوضاء والأصوات العالية تؤذي السمع، وتتعب الأعصاب، وتشوِّش على العقل، وتقلق الراحة، وتطرد النوم، وتؤثر في حياة الإنسان تأثيرًا سيئًا، وخصوصًا المرضى والأطفال، والذين يشتغلون بالعلم والفكر ويحتاجون أبدًا إلى الهدوء([2]).
 
   كما أن قول الحق عز وجل:)إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)( (لقمان)؛ أي: بمعنى أوحش، تؤكده الدراسات الحديثة؛ إذ تتوافر لدى أصحاب الأصوات الجميلة عدة عوامل تعطي أصواتهم قوة وجمالاً وطلاوة، منها: قبة الحنك لديهم عالية وعميقة، وتُسمى بـ “المحرابية” (أي: نصف دائرة) أو “سقف الحلق”. وتتشكل 3/4 قبة الحنك الأمامية الصلبة من النتوءين الحنكيين لعظمي الفك العلوي، وهي تأخذ شكلاً مقعرًا بالاتجاهين الأمامي والجانبي، ويحيطها من الأمام الأسنان العلوية، وتنتهي في الخلف بقسم يُسمى “شراع الحنك”.
 
لذلك فإنه من المعروف أن ذوي العرق الأسمر يتمتعون بأصوات جميلة أخّاذة؛ فالزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية يشكِّلون عُشْر السكان؛ أي يجب أن يكون المغنون ذوو الأصوات الجميلة منهم يمثلون عشر المغنين، ولكن هذه النسبة ترتفع عن ذلك بكثير، ومن المعروف عن الزنوج امتلاكهم لقبة حنك عالية وعميقة، لكن عند إمعان النظر لتجويف الفم لدى الحمار نجد أن قبة الحنك لديه مسطحة تمامًا، مما يعطي قبحًا أكثر عند إخراجه الصوت بالشهيق، بخلاف الإنسان الذي يعطيه بالزفير، وهو قبح ثان آخر؛ لذلك سُمِّي بـ “النهيق”، وإذا رفع شفته العلوية ليغطي أنفه كان القبح أشد([3]).
 
فإذا ما اقترن قبح الصوت مع ارتفاعه- كما أشرنا- يتأكد أن القرآن كان معجزًا عندما أخبر أن أنكر الأصوات صوت الحمير )إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)( (لقمان).
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية والآية الكريمة:
 
يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى:  ) واغضضْ من صوتك( (لقمان :19): “أي: انقص منه؛ أي: لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي. وقوله تعالى: )إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(19)((لقمان) ؛ أي: أقبحها وأوحشها”([4]).
 
وجاء في تفسير ابن كثير: “وقوله: )إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19) ( (لقمان) قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أي: غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علو صوته ورفعه”([5]).
 
وبمناقشة موضوع الآية مناقشة علمية لا بد من معرفة ماهية الصوت؛ فالصوت كما يعرفه الفيزيائيون: هو ظاهرة طبيعية تنشأ عن اهتزاز الأجسام ندركها بحاسة السمع، وينقسم إدراكنا إياها إلى قسمين: شدة الصوت وحدته، أما شدة الصوت فهي الطاقة الصوتية التي تعبر وحدة المساحة في وحدة الزمن، وتُقاس بالديسيبل، وأما حدته فهي تردد الموجات الصوتية، وتُقاس بالهيرتز.
 
وبالرجوع للآية الكريمة )إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(19)( (لقمان) فقد قال العلماء فيها: إن أنكر بمعنى أقبح وأوحش، وهذا يعتمد على معنى القبح في المناظير المختلفة.
 
كما أن صوت الحمار ينشأ عن الشهيق، بينما ينشأ صوت بقية الكائنات الحية عن الزفير، ونتيجة لهذا ينشأ تردد معين مضر بالأذن البشرية([6]). وهذا ما جاءت به الآية الكريمة وأكَّده العلم الحديث.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد أثبت القرآن الكريم من خلال قوله تعالى:)واقصدْ في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)( (لقمان) أن الضوضاء صورة من صور تلوث البيئة، وأن هناك علاقة وثيقة بين الاستقرار البدني للكائن الحي، وبين مستوى الضجيج في ذلك الوسط.
 
وهذا ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة، كما أشارت الآية إلى أن صوت الحمار يعرِّض الإنسان للإصابة بالعديد من الأمراض، “فالإشارة القرآنية التي تقول: )إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(19) ( (لقمان) فيها من السبق العلمي ما لم يكن معروفًا في زمن الوحي بالقرآن الكريم، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها في كتاب أُنزل على نبي أُمِّيٍّ، وفي أمة غالبيتها الساحقة من الأميين من قبل أربعة عشر قرنًا، وإلماحاتها إلى أخطار التلوث البيئي بالضجيج على صحة الإنسان- هي حقائق لم تُعرف إلا في أواخر القرن العشرين”([7]).  
 
 
 
 
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.
 
[1]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص497، 498.
 
[2]. انظر: التلوث الصوتي، هيثم الفقي، بحث منشور بمنتدى: الدكتورة شيماء عطا الله www.shaimaaatalla.com.
 
[3]. أثر هيكلة الفم على جمال الصوت، مقال منشور بموقع: www.studentals.net.
 
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج14، ص72.
 
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج3، ص446.
 
[6]. )إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير(19)( (لقمان) ، حسين الصادق، مقال منشور بمنتديات: طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن www.skfupm.kfupm.edu.sa.
 
[7]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص500.

إنكار الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لاتعلمون)

مضمون الشبهة:    

ينكر بعض المغرضين الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8) (  (النحل)، زاعمين أن هذه الآية بها عجز علمي وليس إعجاز علمي؛ لأنها- في ظنهم- دليل على أن القرآن الكريم كتاب لـحظي لا يصلح لكل العصور إلا لعصر البداوة الأول. ويتساءلون: هل نركب الآن البغال والخيول والحمير في تنقلاتنا وسفرنا؟! ولماذا لم يتنبأ القرآن بوجود سيارات وحافلات؟!

وجه إبطال الشبهة:

إن قوله تعالى: )والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة( ( النحل:88)  ليس المراد منه بيان أن هذه الحيوانات تُتخذ للركوب والزينة فحسب، وإنما يُراد به معنى آخر، وهو السر وراء ذلك الترتيب المعجز: )والخيل والبغال والحمير( ( النحل:88)؛ حيث تشترك جميعًا في صفات واحدة وخصائص متشابهة، وهذا ما كشف عنه العلم الحديث.

ولما كان القرآن الكريم صالحًا لكل زمان ومكان جاء قوله تعالى: ) ويخلق ما لا تعلمون (8)( (النحل)  في ختام تلك الآية إشارة تنـبئية إلى ما يستجد مستقبلاً من وسائل نقل أخرى؛ كالسيارات والطائرات والقطارات… إلخ، كما ذكر ذلك كثير من المفسرين والباحثين في العصر الحديث، فأي إعجاز علمي هذا؟!

التفصيل:

إن من نعم الله عز وجل على بني آدم تسخيره لهم جميع ما في الكون لصالحهم، من ذلك الخيل والبغال والحمير التي يركبونها، وهي زينة لهم، بالإضافة إلى وسائل نقل أخرى في كل زمان ومكان، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:)والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون(8)( (النحل)، أفلا يُعد هذا إعجازًّا علميًّا رائعا؟!

لا شك أن هذه الآية تحوي إعجازًا علميًّا من ناحيتين:

الأولى: يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: إن هذه الآية الكريمة جمعت الخيل والبغال والحمير على أساس علمي؛ فالثلاثة من عائلة واحدة، وهي “العائلة الخيلية”، وتشترك جميعًا في صفات واحدة وخصائص متشابهة، فهي تتحرك بقوائمها الأربعة حركات من شأنها أن يتوزع وزن الجسم بالتساوي على هذه القوائم، وأثناء وقوفها لا تبذل جهدًا عضليًّا يُذكر؛ لذلك تقضي الخيول فترة نومها واقفة على قوائمها الأربعة، وكذلك تفعل البغال والحمير.

ويقف الحصان وكل العائلة الخيلية على قوائمه، يقف على ثلاثة منها، ويريح الرابعة بالتبادل مع القوائم الأخرى؛ وذلك لأن في مفاصل أرجله أربطة حافظة تحول دون ثني المفصل أثناء الوقوف والسكون.

وهذه الدواب الثلاث تتناول العشب، ولا تتناول النباتات الشوكية كما يفعل الجمل، كما أنها تتحمل المشاق، وهي أيضًا تعتمد على حاستي السمع والشم أكثر من اعتمادها على الحواس الأخرى؛ لأنها ليست حادة البصر؛ لذلك ذكرت الآية الكريمة: )والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة((النحل:8)على أساس علمي: تشريحي وفسيولوجي، وهذا إعجاز علمي.

وليس هذا فحسب، بل إن ترتيب ذكر الدواب الثلاث في الآية- الخيل أولاً ثم البغال ثم الحمير- له أسباب علمية، وهي:

1.على أساس الحجم؛ فالخيل أكبر من البغال حجمًا، والبغال أكبر حجمًا من    الحمير.

2.على أساس القوة البدنية؛ فالخيل أقوى من البغال، والبغال أقوى من الحمير.

3.على أساس تمييز الألوان؛ فالحصان يميز أربعة ألوان، والبغل يميز ثلاثة ألوان، والحمار يميز لونين فقط: الأصفر والأخضر، وبه عمى للألوان الأخرى([1]). 

هذا بالإضافة إلى أن الخيل تمتلك 64 نوعًا من الكروموزومات، في حين تمتلك الحمير 62 كروموزومًا، أما البغال فتأتي في الوسط بـ 63 كروموزومًا([2]).

“وهكذا تظهر عظمة المولى في الترتيب من حيث المتعة بالركوب؛ فهي تكون في ركوب الخيل، ومتوسطة في ركوب البغال، وقليلة في ركوب الحمير، وهذا التوجيه نلمسه في حياتنا العلمية”([3]).

الثانية: قوله تعالى: )ويخلق ما لا تعلمون(8) ( (النحل):

يأتي هذا القول المعجز في ذيل الآية إشارة إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات، من المراكب ووسائل النقل التي وهب الله تعالى الإنسان القدرة على اختراعها، وهذا ما ذكره كثير من المفسرين والباحثين في العصر الحديث.

يقول الشيخ المراغي: “)ويخلق ما لا تعلمون(8)((النحل) غير هذه الدواب مما يهدي إليه العلم وتستنبطه العقول؛ كالقُطُر البرية والبحرية، والطائرات التي تحمل أمتعتكم وتركبونها من بلد إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، والمناطيد الهوائية التي تسير في الجو، والغواصات التي تجري تحت الماء إلى نحو أولئك مما تعجبون منه، ويقوم مقام الخيل والبغال والحمير في الركوب والزينة”([4]).

وقال الشيخ السعدي: “)ويخلق ما لا تعلمون(8)((النحل) مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، فإنه لم يذكرها بأعيانها؛ لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد، أو يعرفون نظيره، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه، فيذكر أصلاً جامعًا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون، كما ذكر نعيم الجنة وسمَّى منه ما نعلم ونشاهد نظيره، كالنخل والأعناب والرمان، وأجمل ما لا نعرف له نظيرًا في قوله: )فيهما من كل فاكهة زوجان(52)( (الرحمن(، فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب؛ كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن، وأجمل الباقي في قوله: ) ويخلق ما لا تعلمون(8)( “([5](النحل).

ويقول صاحب الظلال: “)ويخلق ما لا تعلمون (8) ( (النحل).. يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة؛ ليظل المجال مفتوحًا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم.

فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تُكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها.

ولا يقولوا: إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها، وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها!

إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها، ومقدرات الحياة كلها؛ ومن ثم يهيئ القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة، ويتمخض عنه العلم، ويتمخض عنه المستقبل، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة.

ولقد جدَّت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان، وستجدُّ وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان، والقرآن يهيئ لها القلوب والأذهان، بلا جمود ولا تحجر)ويخلق ما لا تعلمون (8)(  (النحل) “([6]).

وقال الطاهر ابن عاشور: “فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتُسمى الدرّاجة الهوائية، وأرتال السكك الحديدية، والسيارات المسيرة بمصفَّى النفط وتُسمى أوتومبيل، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفَّى في الهواء، فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها”([7]).

ويؤكد الدكتور إبراهيم بن صالح الحميضي ذلك التفسير فيقول: “هذه الآية من أوضح الآيات الدالة على الإعجاز العلمي المعروف؛ فالله عز وجل لما ذكر الخيل والبغال والحمير والفلك لم يكتفِ بذلك، بل قال: )ويخلق ما لا تعلمون (8) ( (النحل)للدلالة على أن هناك أولاً مخلوقات لا يعرفها العرب المخاطَبون بالقرآن في مكة وفي جزيرة العرب… وهناك مركوبات ستأتي في المستقبل مثل السيارات والطائرات والقطارات، فلا شك أن هذه الآية فيها دلالة    واضحة على ما استُجِدَّ من المركوبات، وهذا من الإعجاز العلمي أو الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم”([8]).

وقد نص على ذلك الإعجاز العلمي في الآية كثير من الباحثين، يقول الدكتور مصطفى يعقوب في بحث له: “لقد ذكر الله تعالى حقيقة جديدة لم يكن أحد يدرك أبعادها زمن نزول الوحي، يقول تعالى: )ويخلق ما لا تعلمون (8)( (النحل) ، فماذا تعني هذه العبارة؟ لهذه العبارة دلالات متعددة، أهمها:

أنها تشمل كلوسائلالنقلالتي اخترعها الإنسان حتى الآن، وكل ما سيخترعه مستقبلاً.
أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي تضمن إشارة إلىوسائلالنقل، من خلال قولهتعالى:)ويخلق ما لا تعلمون(8)( (النحل) ، وهذا دليل على إعجاز القرآن في هذا المجال([9]).

وربما قال قائل هنا: إن وسائل النقل الحديثة من اختراع الإنسان، فكيف يقول القرآن:)ويخلق ما لا تعلمون(8) ( (النحل)”؟!

قال الطاهر ابن عاشور: “وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله؛ فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم، وبما تدرجوا في سلم الحضارة، واقتباس بعضهم من بعض- إلى اختراعها، فهي   بذلك مخلوقة لله تعالى؛ لأن الكل من نعمته”([10]).

ويقول الدكتور مصطفى يعقوب: “تشير العبارة القرآنية  )ويخلق ما لا تعلمون(8)((النحل) إلى أن كل ما يصنعه الإنسان من وسائلللنقل- سواء كانت برية أو بحرية أو جوية- إنما خالقها هو الله تعالى؛ فالمواد التي يصنع منها   الإنسان هذه الوسائل هيمن صنع الله تعالى، ومن المعلوم أن أهم عنصر يميز حضارة العصر الحديث هو الحديد، وهذا العنصر نزل من السماء، قال تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( (الحديد/25).

إذًا فالوسائل التي أُتيحت للإنسان لصناعة هذه الوسائل هي من تسخير الله، فالله عز وجل سخَّر لهم الموادالأولية، وسخَّر لهم العلوم الكافية، وسخَّر لهم الحيوانات والطيور ليتعلموا منها”([11]).

ويؤكد هذا الدكتور النابلسي فيقول: إن إديسون- مخترع المصباح الكهربائي- يقول: العبقرية تسع وتسعون بالمئة، منها عرق- أي جهد- وواحد بالمئة إلهام، والله عز وجل حينما يجد عبدًا جادًّا في البحث عن شيء- فبعد تعب     طويل وجهد جهيد- يلقي في ذهنه الكشف العلمي. فكأن الآية أشارت أيضًا إلى أن هذه المخترعات لولا أن أصحابها صدقوا في الوصول إليها لما وصلوا، إنما وصلوا بمعونة من الله عز وجل، فعزى صنع الطائرة كفكرة إلى الله، عزىتأمين وقودها أيضًا إلى فضل الله عز وجل ([12]).

وعليه، فإن وسائل النقل الحديثة ومعظم الاختراعات هي في الأصل تقليد أو محاكاة للطبيعة، وأهم مثال على ذلك الطائرة، فلولا وجود الطيور ربما لم يفكر الإنسان في الطيران أصلاً، ولولا وجود قوانين سخَّرها الله لم يتمكن     الإنسان من استغلال طاقة الهواء لحمل الطائرة، إذًا كل ما نراه من حولنا مسخَّر لخدمتنا؛ ولذلك يقول تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(13)( (الجاثية)، فهل نتفكر في هذه المعجزات العظيمة؟!

ولو تأملنا الآية الكريمة: ) أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار(16)( (الرعد)، لرأينا فيها إشارة إلى أن كل ما نراه من حولنا هو مخلوق من مخلوقات الله، حتى       الطائرة مثلاً هي مخلوق من مخلوقات الله، فالمادة الأولية التي صُنعت منها الطائرة خلقها الله بلا شك، والوقود الذي يسيِّر الطائرة هو من صنع الله، والهواء الذي يحمل الطائرة من صنع الله الذي أتقن كل شيء، حتى تصميم  الطائرة أخذه الإنسان من الطيور، وهي مخلوقات في الطبيعة من صنع الله عز وجل، حتى الإنسان الذي يقود الطائرة هو من صنع الله، إذًا من الذي خلق الطائرة، الله أم الإنسان([13])؟!

وجه الإعجاز:

أثبت العلم الحديث أن الخيل والبغال والحمير ينتمون إلى عائلة واحدة، وهي العائلة الخيلية؛ ومن ثم فهم يشتركون جميعًا في صفات واحدة وخصائص متشابهة؛ تشريحية وفسيولوجية، كما أن لترتيبها بهذا الشكل- الخيل، والبغال والحمير- أسبابًا علمية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحقائق العلمية، فقال تعالى:)والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة((النحل:8)، ثم ختم هذه الآية بإشارة تنبئية فريدة إلى وسائل النقل التي استُجدت في العصر الحديث، والتي ستُستجدُّ مستقبلاً، فقال تعالى: )ويخلق ما لا تعلمون (8)( (النحل)، أفلا يُعد هذا إعجازًا علميًّا؟!

(*) أين الإعجاز في هذا؟ مقال منشور بمنتديات: الكنيسة www.arabchurch.com.

[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج7، ص76، 77 بتصرف.

[2]. موقع: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة www.ar.wikipedia.org.

[3]. الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، المكتبة القيمة، القاهرة، ص178.

[4]. تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، ج14، ص57.

[5]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج1، ص436.

[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2161، 2162.

[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص111.

[8]. التفسير المباشر، مقال منشور بموقع: إسلاميات www.islamiyyat.com.

[9]. الإعجاز العلمي في وسائل النقل، د. مصطفى يعقوب، بحث منشور بموقع: شبكة الإعجاز في القرآن والسنة www.miracweb.net.

[10]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص111.

[11]. الإعجاز العلمي في وسائل النقل، د. مصطفى يعقوب، بحث منشور بموقع: شبكة الإعجاز في القرآن والسنة www.miracweb.net.

[12]. الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) ( (النحل)، د. محمد راتب النابلسي، مقال منشور بموقع: www.nabulsi.com.

[13]. دراسة تؤكد أن معظم الاختراعات هي تقليد للطبيعة، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.hanialtanbour.com.

الطعن في آية تكوُّن اللبن من بين فرث ودم

مضمون الشبهة:

يدَّعي بعض المشككين أن قوله تعالى: )نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين (66)((النحل)، يتناقض مع معطيات العلم الحديث؛ إذ إن اللبن لا يخرج من البطن ولا علاقة له بالفرث أو الدم، وإنما يخرج من غدد لبنية في ضروع الأنعام.

هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن الكريم، وطمس الحقائق العلمية التي جاء بها.

وجه إبطال الشبهة:

إن الآية الكريمة تشير إلى تكون لبن الأنعام من مادتي الفرث والدم في أصل مصدره؛ لأنه موضع العظة والعبرة، ولم تشر الآية مطلقًا إلى مكان خروجه- الذي هو من الضرع كما هو معروف ومشاهَد- كما يدَّعي الطاعنون، وقد دل على هذا ما أفادته اللغة وأقوال المفسرين، وهو ما أثبته العلم حديثًا؛ حيث توصل إلى أن اللبن يتكون في الأساس من خلاصة محتوى الأمعاء الدقيقة- من الغذاء المهضوم- والأغشية التي تغلفها، وهي الأوردة الدموية التي تمتص هذه الخلاصة فتوصلها إلى الغدد اللبنية في ضروع الأنعام، فيتكون من خلالها  )لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين(66)((النحل).

التفصيل: 

1)   الحقائق العلمية:

أثبت العلم حديثًا أن اللبن يتكون في بطون الأنعام بالتنسيق المحكم والتدرج الدقيق بين الجهاز الهضمي والجهاز الدوري والجهاز التناسلي عن طريق الغدد اللبنية في الضروع وغيرها من الأجهزة؛ حيث إن لكل جهاز وظيفة خاصة يقوم بها ليتكون في نهاية المطاف اللبن الخالص السائغ للشاربين. ويمكن أن نجمل مراحل تكون اللبن في الآتي:

عملية الهضم في الكرش:

وهو تحول العلف الذي تأكله الأنعام بعد هضمه جزئيًّا بشتى عمليات الهضم إلى فرث رائق.

عملية استخلاص الأحماض الأمينية من بين الفرث:

يحدث تخمر وتغيير في تركيب الفرث من جراء هدم فلورا- الكائنات الدقيقة- الكرش لهذا السليلوز والمواد السكرية؛ مما يؤدي إلى إنتاج ثلاثة أحماض دهنية، وهي: حمض الخليك، وحمض البيوترك، وحمض البروبيونيك، فتمتص الشعيرات الدموية المنتشرة حول الكرش هذه الأحماض، وذلك دون مرورها في القناة الهضمية إلى الأمعاء- كما هو متبع مع باقي الغذاء- فتصل إلى الغدد اللبنية.

وبانتقال الفرث إلى الأمعاء الدقيقة تستمر عملية الهضم، فيتعرض الفرث للإنزيمات الهاضمة في الأمعاء والبنكرياس والعصارة الصفراء- من الحويصلة الصفراوية- في الكبد، وبهذا يتم تحليل الأطعمة المحتوية على الجزيئات المعقدة جدًّا إلى جزيئات بسيطة؛ فالنشاء والسكريات المعقدة تتحول إلى سكريات بسيطة (الجلوكوز)، والدهون تتحول إلى أحماض دهنية وجليسرين، والبروتينات تتحول إلى أحماض أمينية، أما الفيتامينات والأملاح والماء فلا تحتاج إلى هضم قبل امتصاصها، كما تقوم الخملات في الأمعاء الدقيقة بامتصاص المواد الغذائية المحللة بعدة طرق، وتصل هذه المواد إلى داخل الأوردة الدموية الصغيرة الواقعة تحت النسيج الطلائي، ومنها إلى الأوردة الدموية الأكبر فتدخل في تيار الدورة الدموية لكي تصل إلى القلب.

عملية الاستخلاص من بين الدم:

بعد امتصاص الأحماض الدهنية عن طريق الشعيرات الدموية المنتشرة حول الكرش تصل هذه الأحماض وتسير في الدم ومنه إلى الكبد؛ حيث تتم عمليات معقدة يتحول فيها حمض البروبينك إلى مادة الأوكسال اسيتيت، التي تتحول بدورها لإنتاج جزيء جلوكوز الذي يمر عبر الأوردة الدموية التي تغذي الضرع ليتحد مع جزيء الجلاكتوز لينتج جزيء اللكتوز (سكر اللبن)، وأما حمض الخليك فيقوم بتكوين دهن اللبن، وأما حمض البيوترك فيقوم بتكوين بروتين اللبن([1]).

تكوين اللبن في ضروع الأنعام:

الضرع مدينة صناعية، يتكون من فصوص، وكل فص يتكون من عدد من الفصيصات، وكل فصيص يحتوي ما بين 150: 220 حويصلة مجهرية، والحويصلة المجهرية عبارة عن تركيب يشبه الكيس؛ حيث يُصنع اللبن ويُفرز، وكل حويصلة تُعد وحدة صناعية مستقلة متكونة من تجويف لجمع اللبن، محاط بطبقة واحدة من الخلايا الطلائية (اللبنية)، وكل خلية في هذه الوحدة الصناعية وحدة متكاملة قائمة بذاتها، تحول ما بداخل جوفها من مواد أولية قادمة من الدم إلى قُطيرة لبن تُفرز في ذلك التجويف([2]). 

يقول الدكتور زغلول النجار: “والغدد اللبنية المبطنة لضروع الأنعام هي غدد ذات فراغات كبيرة (أسناخ) يتكون فيها اللبن باستخلاصه من الشرايين الحاملة للدم المؤكسد، والأوعية الليمفاوية الحاملة لسوائلها عديمة اللون

(الليمف)، وما بها من مواد غذائية مستمدة من الفرث المهضوم هضمًا جزئيًّا في معدة الحيوان”([3]).

وقد أثبتت الأبحاث عن طريق استخدام النظائر المشعة داخل الضرع أن أهم المكونات الخاصة باللبن يتم تخليقها داخل الضرع في الأبقار، وهناك كثير من مكونات اللبن لم يتم التعرف على طريقة تخليقها في اللبن حتى الآن،

وبعض العلماء يعتقد أن هذه المكونات يتم تخليقها على مراحل متتالية ومعقدة من الصعب تتبعها حتى الآن، وفي الواقع فإن عملية انتقال المكونات من الدم إلى اللبن تخضع لعدة عوامل؛ منها ألا يزيد ضغط اللبن داخل

البُصَيْلات عن ضغط الدم داخل الشرايين المغذية لها؛ وذلك لضمان استمرارية انتقال المكونات من الدم إلى اللبن بطريقة طبيعية، وتُعتبر عملية الضغط داخل البصيلات من الأمور المهمة التي تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على سرعة عملية الحليب في المزارع([4]).

شكل يوضح كيفية تكون اللبن من بين فرث ودم

2)   التطابق بين حقائق العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:

     كثيرة هي الآيات التي أودعها الخالق سبحانه وتعالى في هذا الكون؛ كي يتأملها الإنسان ويتفكر فيها، فما من شيء خلقه الله عز وجل إلا وفيه إعجاز وقدرة تستوجب منا التوقف، من ذلك خلقه للأنعام التي فيها من الآيات العظيمة ما يدعو إلى العجب؛ كتكون اللبن في أصل مصدره من مادتي الفرث والدم، قال تعالى:)وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرثودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين (66) ( (النحل).

وهنا أثار الطاعنون شبهتهم قائلين: إن اللبن لا يخرج من البطن ولا علاقة له بالفرث أو الدم، وإنما يخرج من غدد لبنية في ضروع الأنعام، وليس كما أخبر القرآن.

والجواب عن هذه الشبهة يكون من خلال ما يأتي:

من الدلالات اللغوية في الآية:

الفرث: هو السرجين ما دام في الكرش([5]). والسرجين هو الأكل المهضوم هضمًا جزئيًّا في بطون الأنعام([6]).  

من أقوال المفسرين:

قال ابن الجوزي: “والمعنى: أن اللبن كان طعامًا، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي منه فرث في الكرش، وخلص من ذلك الدم)لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين(66)(“([7]) (النحل).

وقد ذكر هذا التفسير كثير من المفسرين؛ كابن قتيبة([8])، والنحاس([9])، والقرطبي([10]).

ومما يؤكد هذا التفسير لفظ (خالصًا) في الآية الكريمة، قال الطبري: “خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به”([11]).

ومن ثم فالآية بهذا المفهوم تتضمن حقيقة علمية أثبتها العلم حديثًا، وقام بتفسيرها في ضوء معطياته وأدواته المتطورة.

يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: يبدأ تكون اللبن من المواد الغذائية الموجودة في طعام الحيوان، فما إن يصل الغذاء إلى الأمعاء حتى يُهضم، وتُمتص العناصر الغذائية من الأمعاء إلى الدم من خلال الأوردة الدموية، ويصل إلى الكبد؛ حيث تحدث معظم العمليات الحيوية، وبعد أن تحدث العمليات الحيوية في الكبد تصل المواد الغذائية إلى الدم، ومن ثم إلى خلايا الضرع وقنواته، وهناك يُصنع اللبن في عمليات حيوية في غاية الدقة والإعجاز في الخَلْق، ويُفرز اللبن خالصًا من كل الشوائب في قنوات الضرع([12]).

وقد أوضح تلك الحقيقة العلمية المستشرق الفرنسي موريس بوكاي، فقال: لكي نفهم المعنى الدقيق الذي تتضمنه هذه الآية من القرآن بشأن مصدر تكوين لبن الحيوان- يلزم أن نستعين بحقائق علوم الحيوان في تخصص (الألبان)، وأن نستعين أيضًا بحقائق علم وظائف الأعضاء.

وتقول لنا حقائق هذه العلوم الحديثة: إن المواد الأساسية التي تتكفل بتغذية الجسم عمومًا تنتج عن تفاعلات كيميائية تحدث في القناة الهضمية التي تدخل إليها هذه المواد من إنزيمات موجودة بالأمعاء لتختلط بالمواد الغذائية، وعندما تصل هذه المواد الموجودة بالأمعاء إلى مرحلة معينة من التفاعل الكيميائي تمر داخل جدران الأمعاء من خلال الخملات نحو الدورة الدموية العامة، ويتم هذا الانتقال بإحدى طريقتين: الانتقال مباشرة بواسطة الأوعية الليمفاوية، أو الانتقال بطريقة غير مباشرة عن طريق الكبد؛ حيث يلزم أن تطرأ عليها بعض التغييرات الناتجة عن إفرازات الكبد، ثم تخرج من الكبد إلى الدورة الدموية، ومن خلال هاتين الطريقتين يمر كل شيء ليدخل في الدورة الدموية.

والغدد الثديية هي التي تفرز مكونات اللبن، ومن الضروري أن تتغذى هذه الغدد الثديية لتقوم بوظيفتها في إفراز مكونات اللبن بمنتجات هضم الأغذية- كما سبق أن أوضحناه- وهي تأتي إلى الغدد الثديية بواسطة الدورة الدموية، وهكذا يلعب الدم في الدورة الدموية دور المحصل والناقل للمواد المستخرجة من الأغذية بالنسبة للغدد الثديية، كما هو الشأن في تغذية الدم لأي عضو آخر من الأعضاء ذات الوظائف الحيوية في الجسم.

كل شيء يحدث إذًا بدءًا من التقاء محتوى الأمعاء مع الدم في جُدُر الأمعاء نفسها، وهذه الحقيقة تُعتبر اليوم من أهم اكتشافات علوم الكيمياء البيولوجية وعلوم وظائف الأعضاء، وهي لم تكن معروفة على الإطلاق في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إن معرفتها قد تحققت فحسب في العصر الحديث.

وها هو القرآن الكريم في الآية المشار إليها يربط بين إدرار اللبن وبين المكونات الغذائية وبين الدورة الدموية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا([13]).

ويقول الدكتور حامد عطية: “ما كان أحد يعلم قبل اكتشاف أجهزة التشريح في القرنين الماضيين أسرار ما يجري في الجهاز الهضمي عند الحيوان والإنسان، ووظائف ذلك الجهاز المعقد، وعلاقته بالدورة الدموية، ومراحل تكون اللبن في بطون الأنعام، فلما تكاملت صناعة الأجهزة والتجارب العلمية عبر قرون- عرف الإنسان أن مكونات اللبن تُستخلص بعد هضم الطعام من بين الفرث، وتجري مع مجرى الدم لتصل إلى الغدد اللبنية في ضروع الإناث، التي تقوم باستخلاص مكونات اللبن من بين الدم دون أن تبقى أية آثار في اللبن من الفرث أو الدم، وتُضاف إليه في حويصلات اللبن مادة سكر اللبن التي تجعله سائغًا للشاربين”([14]).

وعليه، فمن خلال ما سبق يتبين أن الآية الكريمة تشير إلى مكونات اللبن الأولية، وهي (الفرث والدم)، لا إلى مكان خروجه- الذي هو من الثدي أو الضرع كما هو معروف ومشاهَد- كما يدَّعون.

    يقول الأستاذ عبد الوهاب الراوي: “المعنى الدقيق المناسب للآية)من بين فرث ودم( (النحل:66) هو من بين خلاصة محتوى الأمعاء والأغشية التي تغلفها وتربطها بالجدار البطني، والتي تحوي شبكة واسعة شاملة من العروق الدموية المسماة علميًّا “المساريقا” Mesentery))… وفي قوله تعالى: )من بين( دلالة واضحة على عملية الامتصاص التي تجري بين جُدُر الأمعاء الدقيقة والأوعية الدموية”([15]).

وهذا المعنى العلمي يتسق كل الاتساق مع ما جاءت به اللغة العربية، يقول الطاهر ابن عاشور: “وليس المراد- أي بكون اللبن من بين الفرث والدم- أن اللبن يتميَّع([16]) من بين طبقتي فرث ودم، وإنما الذي أوهم ذلك من توهمه حمله )بين( على حقيقتها من ظرف المكان، وإنما هي تُستعمل كثيرًا في المكان المجازي، فيُراد بها الوسط بين مرتبتين؛ كقولهم: الشجاعة صفة بين التهور والجبن، فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم، مع كونه موافقًا للحقيقة.

والمعنى: إفراز ليس هو بدم؛ لأنه ألين من الدم، ولأنه غير باق في عروق الضرع كبقاء الدم في العروق، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه، وليس هو بالفضلة؛ لأنه إفراز طاهر نافع مغذٍّ، وليس قذرًا ضارًّا غير صالح للتغذية كالبول والثفل.

وموقع )من بين فرث ودم((النحل:66)موقع الصفة لـ )لبنًا((النحل:66) قُدِّمت عليه للاهتمام بها؛ لأنها موضع العبرة، فكان لها مزيد اهتمام، وقد صارت بالتقديم حالاً.

ولـما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جُعل مفعولاً لـ)نسقيكم(، وجُعل )مما في بطونه( (النحل:66)، تبيينًا لمصدره لا لمورده، فليس اللبن مما في البطون؛ ولذلك كان)مما في بطونه((النحل:66)،متقدمًا في الذكر؛ ليظهر أنه متعلق بفعل )نسقيكم(، وليس وصفًا للبن.

    وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها للبن قوله تعالى: )خالصًا سائغًا للشاربين (66)( (النحل)؛ فخلوصه: نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل، وسوغه للشاربين: سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شربه؛ فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهمه.

وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية؛ إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذ أن يعرف دقائق تكوينه، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمع”([17]).

 ومن ثم فإن إشارة الله تعالى لمعجزة تكون اللبن من بين فرث ودم في الآية لم تأتِ اعتباطًا، وإنما جاءت لحكمة عظيمة بالغة، وهي العظة والعبرة؛ لأنه أمر يدعو بحق إلى العجب العجاب، وأما خروج اللبن من ضروع الأنعام فهو أمر معلوم ومشاهَد؛ لذا لم يتطرق إليه القرآن الكريم لا من قريب ولا من بعيد، وليس كما يدَّعي المشككون افتراء.

وختامًا فإن هذه الحقائق العلمية عن إخراج اللبن في ضروع الأنعام )من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين(66)((النحل)، لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها بهذه الإشارات البالغة الدقة والكمال والشمول والإيجاز في كتاب أُنزل على نبي أُمِّيٍّ من قبل أربعة عشر قرنًا، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين- لـممّـا يقطع بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية- ولم يقطعه لرسالة سابقة أبدًا- وحفظه في لغة وحيه نفسها- اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا، وتعهد بذلك إلى أن يشاء الله؛ حتى يبقى القرآن الكريم حجة على جميع خلقه إلى قيام الساعة([18]).

3)  وجه الإعجاز:

بعد تقدم العلم الحديث في اكتشاف أسرار الجهاز الهضمي والدورة الدموية توصل العلماء إلى كيفية تكون لبن الأنعام؛ حيث أثبتوا أن الإنزيمات الهاضمة تحوِّل الطعام إلى فرث يسير في الأمعاء الدقيقة، فتمتص العروق الدموية المواد الغذائية الذائبة من بين الفرث، فتسري في الدم، حتى تصل إلى الغدد اللبنية في ضروع الأنعام؛ فيتكون بذلك اللبن.

وقد أشار إلى هذه الحقائق العلمية القرآن الكريم، فقال تعالى: )وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين(66)((النحل).

(*) إعجاز القرآن بين الحقيقة والبرهان، شاكر فضل الله النعماني، مقال منشور بموقع: الملحدين العرب www.el7ad.com. هل اللبن في الثدي أم في البطن.. خطأ علمي آخر، مقال منشور بموقع: منتديات الكنيسة www.arabchurch.com.

[1]. إشارات إعجازية في تكوين لبن الأنعام، د. حامد عطية محمد، بحث منشور ضمن بحوث المؤتمر العالمي العاشر للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، دار جياد، السعودية، 1432هـ/ 2011م، ج1، ص31، 32 بتصرف. آية اللبن )مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ((النحل:66)، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بمنتدى: قصة العلوم www.allsc.info.

[2]. آية اللبن ) مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ( (النحل :66) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بمنتدى: قصة العلوم www.allsc.info.

[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص318.

[4]. إشارات إعجازية في تكوين لبن الأنعام، د. حامد عطية محمد، مرجع سابق، ص36 بتصرف.

[5]. العين، الصحاح في اللغة، مقاييس اللغة، المحكم والمحيط الأعظم، مختار الصحاح، لسان العرب، القاموس المحيط، المزهر في علوم اللغة، تاج العروس، مادة: فرث.

[6]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص318.

[7]. زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط3، 1404هـ، ج4، ص107.

[8]. انظر: غريب القرآن، ابن قتيبة، تحقيق: أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ/ 1978م، ج1، ص245.

[9]. انظر: معاني القرآن الكريم، النحاس، تحقيق: محمد علي الصابوني، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1409هـ، ج4، ص81.

[10]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج10، ص124.

[11]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج17، ص240.

[12]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج7، ص36 بتصرف.

[13]. التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث، د. موريس بوكاي، ترجمة: علي الجوهري، مكتبة القرآن، القاهرة، ص241،      242 بتصرف.

[14]. إشارات إعجازية في تكوين لبن الأنعام، د. حامد عطية محمد، مرجع سابق، ج1، ص40.

[15]. معجزات القرآن العلمية في الأرض مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، مرجع سابق، ص132.

[16]. يتميَّع: يخرج وينزل.

[17]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص200، 201.

[18]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص321.

دعوى تناقض القرآن مع الواقع بشأن حركة الدواب

مضمون الشبهة:

يدَّعي المشككون في صحة القرآن الكريم أن قوله سبحانه وتعالى:) والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي علىٰ بطنه ومنهم من يمشي علىٰ رجلين ومنهم من يمشي علىٰ أربع((النور/٤٥) يتناقض مع الحقائق الثابتة؛ إذ حصرت الآية حركة الدواب في المشي على البطن وعلى رِجْلين وعلى أربع، ولم تخبر أن من الحشرات ما يمشي على أكثر من ذلك، في حين أن 70 % من المملكة الحيوانية يسير على ست أرجل أو أكثر.

وجه إبطال الشبهة:

إن الآية الكريمة لم تحصر حركة الدواب في المشي على البطن وعلى الرِّجْلين وعلى الأرجل الأربع- كما توهم المدعون- وإنما جعلت ذلك أمثلة للحركة؛ لذلك جاءت “من” التبعيضية قبل كل نوع من أنواع الحركة للإخبار أن ذلك للبعض وليس للكل، ثم ذكر قوله: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)( (النور) للدلالة على أن هناك أنماطًا أخرى غير ذلك، ولو عدَّد الله سبحانه وتعالى كل الأنواع لبعدت هذه الآية كل البعد عن بلاغة العرب وفصاحتهم، ولأصبحت ثقيلة من كثرة الأنماط الحركية المكررة دون أية فائدة.

التفصيل:

لم تحصر الآية الكريمة حركة الدواب في المشي على البطن وعلى رجلين وعلى أربع- كما توهم المدعون- وإنما ذكرت بعض أنواع الحركة فقط باعتبارها أمثلة لحركات الدواب؛ والدليل الصريح على ذلك أن “من” المذكورة في كل نوع من أنواع الحركة تبعيضية؛ أي: هي للبعض وليس للكل.

يقول الله سبحانه وتعالى: )والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي علىٰ بطنه ومنهم من يمشي علىٰ رجلين ومنهم من يمشي علىٰ أربع( (النور/٤٥) ؛ أي: بعض هذه الدواب يمشي على بطنه، وبعضها يمشي على رجلين، وبعضها يمشي على أربع أرجل، فحرف “من” الذي استُعمل للتبعيض ذُكر ثلاث مرات في الآية؛ وذلك للإخبار أن هذا إنما هو للبعض وليس للكل؛ إذًا فلم يحصر الله الحركة في تلك الأنماط الثلاثة فقط، وإنما ذكرها كمثال، وزاد على ذلك بأن ذكر )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)((النور)في نهاية الآية؛ مما يفيد أن هناك أنماطًا أخرى، والذي خلق المشي دون أرجل، ثم المشي على اثنين، ثم أربع- قادر على خلق المشي على مضاعفات هذه الأرقام (6-  8 … إلخ)، فتكرار الأرقام لا يفيد كثيرًا في السياق، ولو قال الله سبحانه وتعالى: من يمشي على بطنه، ومن يمشي على رجلين، ومن يمشي على أربع، ومن يمشي على ست، ومن يمشي على ثمان، ومن يمشي على أربع وأربعين، ومن يمشي على ألف… إلخ- لو قال الله ذلك لبعد كل البعد عن بلاغة العرب وفصاحتهم، ولكن استعاض الله عن كل هذا بالبلاغة القرآنية التي صيغت بها الآية، وهذا هو جمال اللفظ القرآني وإعجازه الذي لولاه لظهرت تلك الآية لائحة ثقيلة الظل مكررة من كثرة الأنماط الحركية عديمة الفائدة ([1]).

وقد وضحت ذلك كتب التفسير، وذكرت أن “من” هنا للتبعيض، ومن هذه التفاسير ما ذكره القرطبي فقال: “ليس في الكتاب ما يمنع من المشي على أكثر من أربع، وقيل: فيه إضمار، ومنهم من يمشي على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبي”([2]) ([3]).

وقال الطاهر ابن عاشور: “ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة؛ لأن الماشي بلا آلة مشية متمكنة أعجب من الماشي على رجلين… وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة؛ لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.

وجملة )يخلق الله ما يشاء((النور:45) زيادة في العبرة؛ أي: يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا، فهي جملة مستأنفة”([4]).

وقال الشعراوي: “والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حيز مكاني إلى حيز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يوضح لنا سبحانه وتعالى أن المشي أنواع: فمن الدواب من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع.

وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بسطًا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب من له أربع وأربعون مثلاً، وفي تنوع طرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته سبحانه وتعالى وبديع خلقه؛ لذلك قال بعدها: )يخلق الله ما يشاء( (النور:45) ؛ لأن الآية لم تستقصِ كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت )يخلق الله ما يشاء( (النور:45) تندرج مثلاً (أم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه وتعالى”([5]).    

وما ذكره أصحاب اللغة والنحو يثبت أن “من” هنا للتبعيض ولا يصح غير ذلك؛ يقول صاحب الجنى الداني في حروف المعاني: “من” حرف جر يكون زائدًا وغير زائد؛ فغير الزائد له أربعة عشر معنى، ومن هذه المعاني: التبعيض؛ نحو قوله سبحانه وتعالى: )منهم من كلم الله( (البقرة/253)، وعلامتها جواز الاستغناء عنها بـ “بعض”، ومجيئها للتبعيض كثير([6]).

وإذا نظرنا إلى الآية التي معنا وجدنا أن العلامة التي ذكرها تنطبق عليها؛ حيث يجوز حذفها ووضع “بعض” مكانها، فنقول: فبعضهم من يمشي على بطنه، وبعضهم من يمشي على رجلين، وبعضهم من يمشي على أربع.

وهذه الآية الكريمة تدور حول بيان قدرة الله سبحانه وتعالى في عملية الخلق؛ لذلك تقدم ذكر المخلوقات التي تدل على هذا الأمر أكثر من غيرها، وهي المخلوقات التي تمشي على البطن كالأفعى، تلتها المخلوقات التي تمشي على رجلين كالطير والإنسان؛ لأنها أدل على قدرة الله من تلك التي تمشي على أربع؛ وبهذا ترتبت المخلوقات بحسب قوة العلاقة المعنوية مع موضوع الحديث، وهو قدرة الله([7]).                                                         

زواحف تمشي على بطنها

رتبة القرود تمشي على اثنين وأربع

سلاحف تمشي على الأربع

يخلق ما يشاء

والغالبية العظمى من الحشرات بذوات “دورة الحياة الكاملة”؛ أي: بيضة ثم يرقة ثم عذراء ثم حشرة كاملة، واليرقة طور مهم يستهلك قدرًا كبيرًا من فترة حياة الحشرة، وهو ما نسميه بالدودة، وفيه تتحرك الحشرة على بطنها؛ أي: إن معظم ذوات الست أرجل لهن مرحلة طويلة يتحركن فيها على بطونهن كما جاء في الآية الكريمة([8]).

وقد وضحت هذه الآية الكريمة أن طرائق تحرك الدواب هي وسيلة من وسائل تصنيفها الجيدة، وحركة الدابة هي انتقالها من مكان إلى آخر سعيًا وراء طلب الطعام والشراب، أو للهرب من الأعداء، أو للارتحال عند التغيرات البيئية إلى مكان أنسب، والطريقة الأولى التي حددتها الآية الكريمة في حركة الدواب، هي المشي على البطن، كما هو شائع في الديدان وفي العديد من طائفة الزواحف.

ومن أكبر مجموعات الحياة الحيوانية ما يُجمع تحت شعبة خاصة تُعرف باسم “شعبة مفصليات الأقدام”، التي تضم أكبر عدد من أفراد الحيوانات البحرية والأرضية وأنواعها؛ حيث يصل عدد أنواع هذه الشعبة إلى مليون وأكثر من المليون نوع، وتتميز الأفراد في شعبة مفصليات الأقدام بأقسامها المقسمة إلى عدد من الحلقات المرتبطة ببعضها البعض بمفاصل تسمح لكل منها بالحركة، وبهياكلها الكيتينية، وبأطرافها المقسمة والمفصلية والموجودة في هيئة زوجية على كل حلقة من حلقات الجسم، وهنا تتعدد الأرجل إلى العشرات بل المئات حتى الآلاف؛ ولذلك خُتمت الآية الكريمة التي نحن بصددها بقول الحق سبحانه وتعالى: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)((النور)، تأكيدًا على طلاقة القدرة الإلهية في الخلق، وقدرته سبحانه وتعالى على البعث، وتأكيدًا على وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه الذين خلقهم جميعًا في الأصل من الماء، وجعل حياتهم قائمة عليه بعلمه وحكمته وإرادته، حتى يكون في تنوع الخلق من منشأ واحد، وفي زوجية كاملة ما يشهد له بالوحدانية الكاملة فوق جميع خلقه([9]). 

إن هذه الحقائق التي مؤداها أن الله سبحانه وتعالىخلق كل دابة من ماء، وأنه يمكن تقسيم دواب الأرض على أساس من طرائق حركتها، ووسائل تلك الحركة لم تكن معروفة في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده، وورودها في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها كافٍ للشهادة للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية، وحفظه حفظًا كاملاً في لغة وحيه نفسها- اللغة العربية- على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد، وتعهَّد سبحانه وتعالى بهذا اللفظ إلى ما شاء الله، حتى يبقى القرآن الكريم شاهدًا على جميع الخلق إلى قيام الساعة([10]).

الخلاصة:

تتنوع حركة الدواب بين المشي على البطن، والمشي على رجلين، والمشي على أربع، والمشي على أكثر من ذلك، وقد صنَّف القرآن الكريم الدواب بناء على حركتها، وساق ذلك في أسلوب علمي بليغ، يجمع بين الوضوح والإيجاز، فذكر من أمثلة الحركة الأنواع الثلاثة التي ذكرناها باعتبارها أمثلة، ثم أعقبها بقوله سبحانه وتعالى: )يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير(45)((النور) للدلالة على طلاقة قدرته في تنويع خلقه، وجاءت “من” في قوله سبحانه وتعالى: )فمنهم(تبعيضية؛ للدلالة على عدم حصر أنواع الحركة في هذه الثلاثة.

(*) مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، يوسف نوفل، مكتبة الإيمان، مصر، ط1.

[1]. المرجع السابق، ص477 بتصرف.  

[2]. هو الصحابي الجليل أبيُّ بن كعب.  

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص292.  

[4]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج5، ج9، ص264.  

[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج17، ص10300.  

[6]. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة ومحمد نبيل فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ/ 1992م، ص309.  

[7]. قال سبحانه وتعالى: )وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ((النور:45) ، عزام محمد ذيب الشريدة، مقال منشور بشبكة: الفصيح لعلوم العربية www.alfaseeh.com.

[8]. مملكة الحيوان: دعوة مفتوحة إلى حدائق الإيمان، يوسف نوفل، مرجع سابق، ص477.

[9]. انظر: تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 1431هـ/ 2010م، ج2، ص310: 316.

[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الحيوان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص340.

الطعن في إخبار القرآن بأن الدواب والطير أمم كالبشر

مضمون الشبهة:

يدَّعي الطاعنون أن قوله تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم((الأنعام/٣٨) مخالف للمعارف العلمية، ويتساءلون: كيف تُوصف الحيوانات بأنها أمم مماثلة لمجتمعات البشر المنظمة، وإن جاز لأحد أن يصف مجتمعًا كالنحل- مثلاً- بأنه أمة ومجتمع، فلا يصح بحال أن يُطلق هذا الوصف على العناكب التي تأكل الأنثى فيه زوجها بعد التلقيح، فكيف يوصف بأنها أمة كالبشر؟!

وجه إبطال الشبهة:

لقد أثبتت جهود العلماء والباحثين في علم الحيوان أن عالم الحيوان يزخر بما لا يُحصى من الغرائب والعجائب، وأن هذه الحيوانات سواء ما يدب منها على الأرض، أو يطير في السماء بجناحيه، أو يسبح في الماء- إنما هي شعوب وقبائل وأمم تربطها صلات وعلاقات وثيقة، فهي لا تختلف في حياتها ونشاطها عن أمم البشر.

كما أن سلوكها لا يخلو من التفكير والمنطق والتخطيط، واستشراف المستقبل، سواء في بنائها لمنازلها، أو رعايتها لأبنائها، أو التعاون فيما بينها، أو في التكافل والتعاون مع غيرها، ويوجد بينها خداع وغدر وأنانية وظلم أيضًا كما هو موجود في مجتمع العناكب؛ مما يؤكد كونها أمما مماثلة لأمم البشر في كثير من النواحي، كما جاء في قوله عز وجل: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم((الأنعام/٣٨) ، وبهذا تتطابق الآية مع ما أثبته العلم الحديث، فأين المخالفة إذًا؟! 

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

لقد أثبتت جهود الباحثين على مر العصور وفي مختلف بلاد العالم أن عالم الحيوان يزخر بما لا يُحصى من الغرائب والعجائب، كما أن المجموعات الحيوانية التي تشارك الإنسان في العيش على ظهر الأرض كثيرة ومتنوعة بدرجة تفوق كل خيال، وقد أصبح من المعروف حاليًّا أنه يوجد ما يقرب من مليون نوع من الحيوانات المختلفة التي توصل العلم إلى معرفتها، ولا شك أن هذا العدد الضخم من الحيوانات تحتاج دراسته العلمية المنهجية إلى ترتيب وتبويب؛ لذلك نشأ علم خاص بهذه الموضوعات التصنيفية أُطلق عليه اسم “علم تصنيف الحيوان”.

ويرتكز المفهوم العام لهذا العلم على أساس تقسيم هذا العدد الضخم من الحيوانات المعروفة إلى مجموعات كبيرة تتشابه في صفاتها الرئيسية، ويُطلق عليها اسم “الشُّعَب”، وتضم الشعبة الواحدة عدة “طوائف”، وتحتوي كل طائفة على مجموعة من “الرتب”، وتنقسم الرتبة الواحدة إلى عدة “فصائل”، والفصيلة تشتمل على عدة “أجناس”، والجنس على عدة “أنواع”، وطبقًا لهذا النظام التصنيفي نجد أن عالم الحيوان يحتوي على ست طبقات أساسية تتدرج من الأدنى إلى الأعلى كما يلي: (النوع- الجنس- الفصيلة- الرتبة- الطائفة- الشعبة)([2]).

ويقول علماء البيئة- على سبيل المثال- حول أعداد بعض أنواع دواب الأرض وحشراتها وطيورها:

2,000 فصيلة من فصائل الحيوانات.

2.400,000 نوع من أنواع الفراش، والفراش نوع واحد من أنواع الحشرات، وهو ينتمي إلى رتبة “حرشفية الأجنحة”.

8,600 نوع من الطيور تتفاوت من الطائر الطنان أصغرها إلى النعامة أضخمها.

4.مئات الآلاف من الأنواع البحرية حتى هذه الساعة، ورغم كل التقدم الذي نعيشه لم يستطع العلماء حصر أعداد أنواع الحيوانات البحرية؛ لصعوبة العمل داخل الماء، ولكن قدَّروها بمئات الآلاف.

ملايين الأنواع من الحشرات البرية والجبلية والسهلية والصحراوية([3]).

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل لكل نوع من هذه الأنواع- والتي يُعد أفرادها بالملايين- حياتها؟ وهل يُعتبر كل نوع منها أمة كأمم البشر، لها خواصها وحياتها المتفردة؟

وللإجابة عن هذا السؤال نسوق هذه الحقائق العلمية عن مملكة الحيوان:

الجوانب العلمية التي اكتشفها العلم الحديث في التماثل بين الإنسان وسائر الكائنات الحية:

من المعروف أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تحكمه العقلانية والمنطقية في السلوك، فبالإضافة إلى مميزاته البدنية، فإن الميزة الفريدة التي تجعله في صعيد مختلف عن باقي الكائنات الحية هي العقل والمنطق، وعلى ضوء ذلك فإن الإنسان يتميز بمحاسبة النفس واستشراف المستقبل، فضلاً عن رد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة([4]).

فهل تفتقد الكائنات الحية الأخرى العقل والمنطق في سلوكها؟ وهل حياتها تخلو من التفكير والتخطيط واستشراف المستقبل، ورد الفعل تجاه الأحداث الحاصلة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الاطلاع عن كثب على بعض هذه السلوكيات؛ لمعرفة كنهها ومنشئها، ونحن هنا نسوق بعض الأمثلة فقط للتدليل على ما نقول، وليس غرضنا الحصر:

القندس مهندس السدود:

يعتبر هذا الحيوان مهندسًا بارعًا وبنّاء ماهرًا في الوقت نفسه؛ حيث ينشئ عشه بمهارة فائقة، وبالمهارة نفسها ينشئ سدًّا منيعًا لتهدئة سرعة المياه الجارية وحماية عشه منها، وهو يبذل جهدًا خارقًا وعلى مدى عدة مراحل لإنجاز هذا العمل المرهق؛ ففي المرحلة الأولى يقوم بتجميع كَمّ هائل من أغصان الأشجار ليستخدمها في غذائه، وفي بناء عشه والسد الذي أمامه؛ ولهذا يقوم هذا الحيوان بقرض الأشجار المتوافرة لقطعها، وأثبتت الأبحاث العلمية أنه يقوم بحسابات دقيقة عند عملية القطع، كما يفضل العمل على ضفة المياه التي تهب عليها الرياح؛ حتى تساعده المياه في جلب تلك الأغصان باتجاه عشه.

ويتميز عش هذا الحيوان بتخطيط بارع ومفصل؛ إذ يحتوي على مدخلين سفليين تحت سطح الماء، وغرفة خاصة أعلى من مستوى الماء للتغذية، وفوقها غرفة خاصة للنوم، إضافة إلى قناة خاصة للتهوية، ويقوم القندس بتجميع الأغصان واحدًا فوق الآخر؛ لتشكيل الهيكل الخارجي للعش بعناية كبيرة مستخدمًا أعوادًا صغيرة مع كمية من الطين؛ حيث لا يترك فيه أية فجوة أو ثقب.

أما المواد التي يستخدمها القندس في بناء عشه فهي تساعد على تماسكه من جهة، والحفاظ على درجة الحرارة داخله من جهة أخرى، فبالرغم من انخفاض درجة الحرارة في الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر فإن الحرارة داخل العش تبقى فوق الصفر باستمرار، ويقوم القندس أيضًا بإنشاء مخزن للأغذية تحت العش يتغذى منه طوال فصل الشتاء، وفي تلك الأثناء يقوم القندس بإنشاء قنوات تحتية على شكل شبكة، ويبلغ طول هذه القنوات مترين، يستطيع بواسطتها أن يصل إلى اليابسة؛ حيث توجد الأشجار التي يتغذى عليها.

والسدود التي يبنيها تتألف من النباتات والأحجار التي يركمها فوق بعضها البعض بالطريقة نفسها التي يبني بها العش، ويبذل هذا الحيوان جهده في رص الأغصان على شكل مثلث طويل يربط بين ضفتي المياه، إضافة إلى رتق الفجوات الموجودة في السد عبر ملئها بالمواد اللازمة، وكل هذا يحدث وهو يسبح ضد تيار الماء ويمتطي كومة عشه في الوقت نفسه، وعند حدوث أية فجوة أو خلل في بناء السد يقوم القندس باستخدام الطين أو أغصان الأشجار لملئه ثانية، وهكذا يتحول السد إلى نوع من الحوض العميق يستطيع من خلاله أن يجعل من عشه مخبأ كبيرًا للأغذية والمؤونة تساعده على الحياة طوال فصل الشتاء، ويستطيع القندس أن يوسع من المساحة المائية داخل العش لنقل أكبر كمية ممكنة من الغذاء والمواد اللازمة لبناء العش وترميمه، حتى إن هذا الأسلوب يجعل العش في مأمن من الأعداء، وفي هذا يشبه عش القندس قلعة محاطة بخنادق الدفاع يصعب الهجوم عليها،وفيما تقدم لـخصنا سلوك هذا الحيوان كمثال على العقلانية والتخطيط والحساب الدقيق في كل مرحلة من المراحل.

صورة لبيت القندس

دودة الإمبراطور التي تعمل وفق مخطط متعدد المراحل:

من المؤكد أن القندس ليس الحيوان الوحيد الذي يبدي سلوكًا مخططًا مدروسًا؛ فهناك العديد من الأمثلة الحية والتي لا يمكن حصرها، والحيوان الآتي يُعتبر أصغر بكثير من القندس، ولا يُنتظر منه أي دليل على سلوك عقلي أو ما يؤكد وجود عقل أو ذكاء في بنيته، هذا الحيوان يُدعى “دودة القز”، وهي من الحشرات التي تفرز يرقتها خيوط الحرير، وكباقي أنواع اليرقات فإنها تقضي فترة من فترات حياتها داخل شرنقة، وعند خروجها من الشرنقة تقوم بإخفاء نفسها داخل ورقة نباتية، وعملية الاختفاء تتم بمنتهى الإحكام وفق مخطط مدروس مسبق، وعبر مراحل تتطلب خبرة وقدرة فائقة؛ لصعوبة طي الورقة الخضراء؛ وبالتالي لا يمكن لها أن تخفي جسم الدودة بسهولة؛ لذا وجب إيجاد حل لهذه المشكلة.

لذا فقد استطاعت أن تجد حلاًّ بسيطًا لكنه يفي بالغرض إلى أبعد حد؛ حيث تقوم الدودة بقرض جزء الورقة المتصل بالنبات لقطعها، ولمنع سقوطها تقوم بربطها بشكل محكَم عبر إفراز خيوط الحرير، ثم تبدأ الورقة بالتيبس وتنكمش الورقة اليابسة حول نفسها، وبعد ساعات تأخذ الورقة شكلها النهائي كأنبوب يصلح أن يكون مخبأ أمينًا لها، وسرعان ما تلجه متخذة إياه مسكنًا لها.

وللوهلة الأولى يمكن أن يفكر المرء بأن الحشرة قد خطت هذه الخطوة المنطقية لتوفير مخبأ أمين لنفسها، وهذا صحيح، ولكن بدخولها داخل الورقة المتيبسة قد تصبح صيدًا سهلاً للطيور؛ لأن اللون المختلف لهذه الورقة يجلب انتباهها، وهذا يعني نهاية الدودة المختبئة داخلها، وفي هذه الخطوة بالذات تقدم الدودة على اختراع جديد بواسطته تنقذ نفسها من مخالب الطيور؛ إذ تقوم بإجراء عملية حسابية دقيقة كالذي يقوم بها إخصائيو الرياضيات، استنادًا إلى مبدأ الاحتمالات؛ لأن الدودة تقوم بالعمل نفسه في أوراق نباتية أخرى، وتقوم بربط هذه الأوراق حول الورقة التي تختبئ داخلها كنوع من أنواع التمويه ضد الأعداء، وهكذا يصبح على غصن واحد أكثر من ورقة (6 -7)، واحدة منها فقط تحوي الدودة المختبئة والباقية خالية تمامًا، وإذا حدث وتناول أحد الطيور هذه الأوراق فيصبح احتمال وقوع الدودة كفريسة 6/1([5]).

لا شك أن كل هذه الظواهر السلوكية تعتمد على منطق معين.

التنظيم والتعاون لدى النمل:

النمل مشهور بمقدرته الفائقة على التنظيم والحياة الاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر فهو يوزع حجرات عشه بحسب الاختصاص: حجرات مخزن الطعام، حجرات للصغار، حجرة للملكة، ويعتمد النمل مبدأ تقسيم العمل كما يفعل الإنسان؛ فمجموعة تختص بالحراسة على أبواب الأعشاش، وأخرى بالتنظيف، وأخرى من جنود فرسان، وأخرى من النمل الكسول.

أضف إلى ذلك، فالتعاون والود على أشده عند النمل، لدرجة أنه يتبادل الطعام مع بعض، أو يطعم بعضه البعض([6]).

الحياة الاجتماعية للنحل:

لقد أدهش النحل العلماء بحياته الاجتماعية؛ حيث يتخذ له من تجاويف الأشجار وما شابهها مساكن على هيئة مستعمرات، في كل منها ملكة، وعدة مئات من الذكور، و10 – 80 ألفًا من الشغالات، فإن في كل مستعمرة ملكة واحدة وظيفتها وضع البيض، وأيضًا إفراز المواد المهمة اللازمة لوحدة المستعمرة وتسيير النظام فيها، أما وظيفة الذكور فهي تلقيح الملكة، بينما تقوم الشغالات بجميع الأعمال الأخرى من جمع الغذاء، وإنتاج عسل النحل، وتنظيم حرارة الخلية، والنظافة، والدفاع، ولكل مرحلة من الحياة في الخلية نظام معين، ويتم أداء جميع الوظائف دونما تقصير، بدءًا من العناية باليرقات وحتى توفير الاحتياجات العامة للخلية([7]).

الدب القطبي ومساكنه:

تنشئ أنثى الدب القطبي ملجأً ثلجيًّا عندما تكون حاملاً أو بعد وضعها لوليدها، وهذا الملجأ تحت ركام الجليد، وعدا هذا فإنها تعيش في ملاجئ أو مساكن معينة، وعمومًا تضع الأنثى وليدها في منتصف الشتاء، ويكون الوليد الصغير لحظة ولادته أعمى ولا شعر له، إضافة إلى صغر حجمه؛ لذا فالحاجة ماسة إلى ملجأ لرعاية هذا المولود الصغير الضعيف، والملجأ التقليدي يتم إنشاؤه على شكل مترين طولاً ونصف متر عرضًا؛ لأن الملجأ يكون على شكل كرة ارتفاعها نصف متر أيضًا.

ولكن هذا المسكن أو الملجأ لم ينشأ هكذا دون أي اهتمام أو تخطيط، بل حُفر تحت الجليد بكل عناية واهتمام وسط بيئة مغطاة بالجليد، وتم توفير كل وسائل الراحة والرعاية للوليد الصغير في هذا الملجأ، وعمومًا فإن لهذه الملاجئ أكثر من غرفة تنشئها الأنثى بمستوى أعلى قليلاً من مدخل الملجأ؛ كي لا يسمح للدفء بالتسرب إلى الخارج.

الدب القطبي

وطيلة فصل الشتاء تتراكم الثلوج على الملجأ ومدخله، وتحافظ الأنثى على قناة صغيرة للتهوية والتنفس، ويكون سقف الملجأ بسمك يتراوح ما بين 75 سم إلى 2 متر، ويقوم هذا السقف بدور العازل الحراري فيحافظ على الدفء الموجود داخل الملجأ؛ ولهذا تبقى درجة الحرارة ثابتة داخله.

وقد قام أحد الباحثين في جامعة أسلو النرويجية ويُدعى (PaulWatts) بتثبيت ميزان حرارة في سقف أحد ملاجئ الدِّبَبَة لقياس درجة الحرارة، وتوصل إلى نتيجة مذهلة؛ فدرجة الحرارة خارج الملجأ كانت حوالي 30 تحت الصفر، أما داخل الملجأ فلم تنزل الحرارة  تحت 2-3 أبدًا، والظاهرة اللافتة للانتباه هي كيفية قياس أنثى الدب لسمك السقف الثلجي كي يتواءم مع درجة عزله الحراري لداخل الملجأ، إضافة إلى كون الوسط داخل الملجأ بهذه الحرارة ملائمًا للأنثى من ناحية تنظيم استهلاك مخزونها الدهني في جسمها أثناء سباتها الشتوي، والأمر الآخر المحير هو خفض أنثى الدب القطبي لجميع فعالياتها الحيوية إلى درجة كبيرة أثناء سباتها الشتوي؛ كي لا تصرف طاقة زائدة، ولتساعد على إرضاع صغيرها، وطيلة سبعة أشهر تحول الدهن الموجود في جسمها إلى بروتين لازم لتغذية صغارها، أما هي فلا تتغذى وتنخفض دقات قلبها من 70 ضربة في الدقيقة إلى 8 ضربات في الدقيقة؛ وبالتالي تنخفض فعالياتها الحيوية، ولا تقوم بقضاء حاجاتها أيضًا، وبهذه الطريقة لا تصرف طاقاتها اللازمة لتنشئة الصغار الذين سيولدون في تلك الفترة، فسبحان الخالق الذي جعل لكل نوع من المخلوقات طريقته في الحياة، والتي تتوافق تمامًا مع الوسط البيئي الذي يعيش فيه.

مساكن التماسيح:

تقوم أنثى التمساح بجمع النباتات المتعفنة وتخلطها بالطين؛ لتصنع منها تلة ارتفاعها 90 سم، ثم تحفر حفرة في قمة هذه التلة لتضع فيها بيضها وتغطيها بعد ذلك بالنباتات التي تكون قد جمعتها من قبل، ثم تبدأ بحراسة هذه التلة من خطر الاعتداء، وعندما يبدأ البيض بالفقس تقترب الأم عند أصوات صغارها وهم يصدرون أصواتًا متميزة، وتقوم بإزالة النباتات التي غطتها بها، ويبدأ الصغار بالتسلق إلى أعلى، وتجمعهم الأم في تجويف فمها المتسع وتذهب بهم إلى الماء ليبدءوا حياتهم.

انظر كيف يبني التمساح بيته!

الضفادع:

يُعتبر هذا النوع من أبرع البرمائيات في إنشاء مسكنه، ويقوم الذَّكَر بإنشاء هذا المسكن على ضفة الماء، فالذكر يشرع في الدوران حول نفسه في الطين حتى يُحْدِث فيه ثقبًا واضحًا، ثم يقوم بتوسيع حوافي هذا الثقب، وعند اكتمال هذه الخطوة يبدأ بتكوين جدران طينية متينة لهذا الثقب، وفي النهاية يكون قد بنى مسكنه.

بطريق الإمبراطور وصبره الخيالي:

هناك حيوان يُظْهِر عزمًا غريبًا في الحفاظ على بيضه، وصبرًا لا مثيل له، وتفانيًا مثيرًا للدهشة، وهذا الحيوان هو البطريق الإمبراطور، فهذا الحيوان يعيش في القطب الجنوبي الذي يتميز بظروف بيئية قاسية جدًّا.

تبدأ أعداد كبيرة من هذا الحيوان- تُقدر بـ 25000 بطريق- رحلتها للتزاوج، ويُقدر طريق الرحلة بعدة كيلو مترات لاختيار المكان المناسب للتزاوج، وتبدأ هذه الرحلة من شهري مارس وأبريل- بداية موسم الشتاء في القطب الجنوبي- ومن ثم تضع الأنثى بيضة واحدة في شهر مارس، والزوج من البطريق لا يبني عشًّا لبيضه، بل لا يستطيع ذلك؛ لعدم وجود ما يبني به في بيئة مغطاة بالجليد، بيد أنه لا يترك بيضته تحت رحمة برودة الجليد؛ لأن هذا البيض معرَّض للتجمد بمجرد تعرضه لبرودة الجليد القاسية؛ لذا يحمل بطريق الإمبراطور بيضه على قدميه، ويقترب الذكر من الأنثى بعد وضعها للبيضة الوحيدة بعدة ساعات لاصقًا صدره بصدرها ويرفع البيضة بقدميه، ويحرص كلاهما أشد الحرص على ألا تمس البيضة الجليد، ويقوم الذكر بتمرير أصابع قدميه تحت البيضة؛ ومن ثم يرفع الأصابع ليدحرج البيضة باتجاهه، وهذه العملية تتم بكل هدوء وإتقان؛ لتجنب كسر البيضة، وأخيرًا يقوم بحشر البيضة تحت ريشه السفلي لتوفير الدفء اللازم لها.

إن أهم ميزة تميز البطريق عن سائر الحيوانات صبره وحِلْمه

وعملية وضع البيضة تستهلك معظم الطاقة الموجودة في جسم الأنثى؛ لذا فإنها تذهب إلى البحر لتجمع غذاءها وتسترجع طاقتها، في حين يبقى الذكر لحضن البيض.

وتتميز فترة حضانة البيض لدى بطريق الإمبراطور بصعوبة، مقارنة بباقي أنواع الطيور، إضافة إلى حاجتها الشديدة للصبر من جانب الذكر، فهو يقف دون حراك مدة طويلة، وإذا لزمت الحركة فإنه لا يفعل ذلك إلا لأمتار قليلة براحة القدمين.

وعند الخلود إلى الراحة يستند الطير على ذَنَبِه كما لو أنه قدم ثالثة، ويرفع أصابع قدميه بصورة قائمة كي لا تلمس البيضة الجليد.

ومن الجدير بالذكر أن درجة الحرارة في الأقدام المغطاة بالريش السفلي أكثر بـ 80 درجة عن المحيط الخارجي؛ لذلك لا تتأثر البيضة بظروف البيئة الخارجية القاسية.

وتزداد ظروف البيئة قسوة كلما تقدم الشتاء بأيامه وأسابيعه، حتى إن الرياح والعواصف تبلغ سرعتها 120- 160 كم في الساعة، وبالرغم من ذلك يبقى الذكر ولمدة أشهر دون غذاء ودون حراك إلا للضرورة، ضاربًا مثلاً مثيرًا للدهشة في التضحية من أجل العائلة، وتبدي العائلة تضامنًا كبيرًا لمقاومة البرودة القاسية؛ إذ إن حيوانات البطريق تتراص بعضها مع بعض واضعة مناقيرها على صدورها؛ وبذلك يصبح ظهرها مستويًا، فتشكل دائرة فيما بينها وسدًّا منيعًا من الريش في مواجهة البرد القارس، وتحدث هذه العملية بإخلاص وتنظيم دقيقين دون أن تحدث أية مشكلة بين الآلاف من هذه الطيور المتراصة، وتظل هكذا لمدة أشهر عديدة بصورة من التعاون المدهش والمثير للحيرة والإعجاب.

وبعد ستين يومًا من الظروف القاسية يبدأ البيض في الفقس، ويستمر الذكر في تفانيه من أجل الصغير، علمًا بأن هذا الذكر لم يتغذَ أبدًا طيلة فترة الرقود على البيض.

ومن المعلوم أن البطريق الخارج لتوه من البيض حيوان ضعيف يحتاج إلى تغذية وعناية مستمرة؛ فيفرز الذكر من بلعومه مادة سائلة شبيهة بالحليب يتم إعطاؤها للفرخ الصغير ليتغذى عليها، إن المتوقع من هذا الحيوان غير العاقل أن يترك هذا البيض وشأنه، ويفكر في الخلاص والنجاة من البرد القاسي، إلا أن لطف الله تعالى بهذه الحيوانات جعلها ترأف ببيضها وفرخها، وتظهر هذه الصورة الرائعة من التكاتف والتعاون والتضحية، ولكنها تعد له مسكنًا آمنًا وغذاء كافيًا، وتتحمل قساوة الطقس ضمن سلوك يتم بأعلى درجات التضحية والإخلاص والرقة([8]).

نماذج من التعاون والتكافل بين الكائنات الحية:

في الأمثلة السابقة عرضنا بعض أوجه الحياة الاجتماعية والسلوكية لبعض الحيوانات والحشرات والطيور، والتي ينم سلوكها عن التفكير والتخطيط واستشراف المستقبل، والتنظيم وتقسيم العمل بين أفراد المجموعة الواحدة… إلخ، ولكن هناك أمثلة أخرى في الطبيعة على التعاون والتكافل بين الأنواع المختلفة للأحياء، والتي يمكن رصدها كثيرًا.

وعلى سبيل المثال يقول الباحث المعروف بيتر كروبوتكين (PeterKropotkin) الذي سجَّل مشاهداته عن التعاون بين الكائنات الحية وألَّف فيه كتابًا، يقول هذا الباحث في كتابه عن التعاون بين الأحياء ما يلي: عندما بدأنا نُجري بحثًا عن موضوع “البقاء من أجل الحياة” فوجئنا بوجود أمثلة عديدة عن التعاون والتكافل بين الكائنات الحية، وظهرت أمامنا حقيقة واضحة، وهي أن التعاون ليس فقط من إدامة النسل، بل من أجل سلامة الأفراد وتوفير الغذاء لهم، فالتعاون وتبادل المنفعة يعتبران قاعدة عامة في عالم الأحياء، والتعاون المتبادل يمكن رؤيته حتى في أدنى حلقة من سلسلة الأحياء.

ومن الذين شاهدوا وبحثوا هذه الأمثلة الحية عالم وباحث مشهور في علم وظائف الأعضاء الطبي كينيث ووكر (KennethWalker)؛ حيث سجَّل مشاهداته في رحلة صيد في شرق أفريقيا قائلاً:هناك أمثلة عديدة للتعاون المتبادل بين الحيوانات ما زالت حية في ذاكرتي عندما رأيتها في رحلة صيد قمت بها في شرقي أفريقيا قبل سنوات، وشاهدت بأم عيني كيف أن قطعانًا من الغزلان والحمير الوحشية تتعاون فيما بينها في سهول آهتي؛ حيث يضعون من يترصد العدو القادم لينبه القطيع حين قدومه، ولم أكن خارجًا لصيد الحمار الوحشي، ولكني فشلت في اصطياد غزال واحد؛ لأنني كلما اقتربت من غزال لاصطياده ينبه الحمار الوحشي القطيع بقدومي؛ وبذلك يفلت مني، ووجدت هناك تعاونًا بين الزرافة والفيل؛ فالفيل لديه حاسة سمع قوية، وآذانه الواسعة تُعتبر رادارًا لاقطًا لأي صوت، مقابل حاسة بصر ضعيفة، أما الزرافة فلها حاسة بصر قوية، وتُعتبر كمراصد مرتفعة للمراقبة، وعندما تتحد جهود الفريقين لا يغلبان لا من نظر ولا من سمع، ولا يمكن الاقتراب من قطعانهما.

والمثال الأغرب هو التعاون بين وحيد القرن والطير الذي يحط على ظهره لالتقاط الطفيليات الموجودة على جلده، فكلما تحس الطيور باقترابي تبدأ بإخراج صوت معين تنبه به وحيد القرن، وعندما يبدأ الحيوان بالهرب تبقى الطيور على ظهره كأنها راكبة عربة قطار تهتز باهتزازه.

صورة تبين التكافل والتعاون بين الحمر الوحشية والغزلان

ومشاهدات كينيث ووكر ما هي إلا جزء يسير من أمثلة عديدة يمكن لنا أن نشاهدها على التعاون المتبادل بين الأحياء، ويمكن للإنسان أن يجد أمثلة لهذا التعاون بين الحيوانات التي تعيش بالقرب منه، والمهم أن يتفكر الإنسان في ماهية هذه الأمثلة.

تنبيه الكائنات الحية بعضها البعض بالخطر القادم:

من أهم فوائد العيش ضمن تجمعات هو التنبيه للخطر القادم، وتوفير وسائل الدفاع بصورة أكثر فاعلية؛ لأن الحيوانات التي تعيش ضمن تجمعات تقوم عند إحساسها بالخطر القادم بتنبيه الباقين بدلاً من الهرب والنجاة، ولكل نوع من أنواع الأحياء طريقته الخاصة بالتنبيه، على سبيل المثال فإن الأرنب يقوم برفع ذيله بصورة قائمة عند قدوم العدو المفترس كوسيلة لتنبيه باقي أفراد القطيع، أما الغزلان فتقوم بأداء رقصة على شكل قفزات.

أما الطيور الصغيرة فتقوم بإصدار أصوات خاصة عند قدوم الخطر، فطيور goldenoriole تقوم بإصدار أصوات ذات ترددات عالية مع فواصل متقطعة، وأذن الإنسان تتحسس هذا النوع من الصوت على شكل صفير، وأهم ميزة لهذا الصوت هي عدم معرفة مصدره، وهذا لا يكون لصالح الطير المنبه بالطبع؛ لأن الخطورة تكمن في معرفة مكان الطير الذي يقوم بوظيفة التنبيه بالخطر، وتقل نسبة الخطورة لعدم معرفة هذا الصوت.

أما الحشرات التي تعيش ضمن مستعمرات فوظيفة التنبيه والإنذار تقع على عاتق أول حشرة ترى وتحس، إلا أن الحشرة التي تقوم بالإنذار تفرز رائحة الإنذار، مما يجلب نظر العدو؛ أي إن الحشرة المنذرة تضحي بحياتها من أجل سلامة المستعمرة.

أما الكلاب البرية فتعيش ضمن مجاميع كبيرة، ومساكنها التي تسع 30 كلبًا تكون شبيهة بمدينة صغيرة، ويعرف الأفراد بعضهم بعضًا في هذه المستعمرة، وهناك دائمًا حراس مناوبون في مداخل هذه المدينة الصغيرة، يقفون على أطرافهم الخلفية مراقبين البيئة من جميع الجهات، وإذا حدث أن أحد المراقبين رأى عدوًّا يقترب يبدأ من فوره بنباح متصل شبيه بصوت الصفير، ويقوم باقي الحراس بتأكيد هذا الخبر بواسطة النباح أيضًا، وعندئذ تكون قد علمت المجموعة بقدوم الخطر، ودخلت مرحلة الاستعداد للمجابهة.

وهنا نقطة مهمة ينبغي التأكيد عليها، فتنبيه الكائنات الحية عند قدوم الخطر مسألة تثير الاهتمام والفضول، والأهم من ذلك أن هذه الكائنات تفهم بعضها البعض، والأمثلة التي أوردناها- مثل الأرنب الذي يرفع ذيله عند إحساسه بالخطر- هي علامات يفهمها باقي الحيوانات، ويدخلون مرحلة التيقظ على هذا الأساس؛ حيث يبتعدون إنْ أوجب الأمر الابتعاد، أو يختفون إن كان هناك مجال للاختفاء، والأمر المثير للاهتمام هو: أن هذه الحيوانات كانت تُفهم من هذه الإشارات أن عليها الشروع في الهرب، فهذا يستوجب أن تكون الحيوانات قد تكلمت مع بعضها البعض واتفقت على هذا القرار.

مجابهة الأحياء للخطر جماعيًّا:

لا تكتفي الحيوانات التي تعيش على شكل مجموعات بإنذار بعضها البعض بقدوم الخطر، بل تشارك أيضًا بمجابهته؛ مثلاً الطيور الصغيرة تقوم بمحاصرة الصقر أو البوم الذي يتجرأ ويدخل مساكنها، وفي تلك الأثناء تقوم بطلب المساعدة من الطيور الموجودة في تلك المنطقة، وهذا الهجوم الجماعي الذي تقوم به يكفي لطرد الطيور المفترسة.

ويشكل السرب الذي تطير ضمنه الطيور خير وسيلة للدفاع؛ فالزرزور مثلاً تترك بينها مسافات طويلة أثناء الطيران، وإذا رأوا طائرًا مفترسًا يقترب – كالصقر- سرعان ما يقللون ما بينهم من مسافات، مقتربين من بعضهم البعض، بذلك يقللون من إمكانية اقتحام الصقر للسرب، وإذا أمكن له ذلك فسيجد مقاومة شديدة، وربما يُصاب بجروح في جناحيه ويعجز عن الصيد.

أما الثدييات فإنها تتصرف على هذه الشاكلة أيضًا خصوصًا إذا كانت تعيش ضمن قطعان، ومثال ذلك الحمار الوحشي، يدفع بصغاره نحو أواسط القطيع في أثناء هربه من العدو المفترس، وهذه الحالة درسها جيدًا العالم البريطاني جين جودال (JaneGoodall) في شرق أفريقيا، فقد سجل في مشاهداته كيف أن ثلاثة من الحمر الوحشية تخلفت عن القطيع، وحُوصرت من قِبل الحيوانات المفترسة، وعندما أحس القطيع بذلك سرعان ما قفل راجعًا مهاجمًا الحيوانات المفترسة بحوافره وأسنانه، ونجح القطيع مجتمعًا في إخافة هؤلاء الأعداء وطردها من المكان.

وعمومًا فإن قطيع الحمر الوحشية عندما يتعرض للخطر يظل زعيم القطيع متخلفًا عن باقي الإناث والصغار الهاربين، ويبدأ الذكر يجري بصورة ملتوية موجهًا ركلات قوية إلى عدوه، وفي بعض الأحيان يرجع لمقاتلته.

ويعيش الدلفين ضمن جماعات تسبح سويًّا، وتقوم بمهاجمة عدوها اللدود- الكواسج- بصورة جماعية أيضًا، وعندما يقترب الكوسج من هذه الجماعة يشكل خطرًا جسيمًا على صغار الدلفين، فيبتعد اثنان من الدلفين عن الجماعة ليلفتا انتباه الكوسج إليهما ويبعدانه عن الجماعة، وعندئذ تنتهز الجماعة تلك الفرصة في الهجوم فجأة، وتوجيه الضربات تلو الضربات لهذا العدو المفترس.

التكاتف والتعاون بين طيور أفريقيا:

تعيش طيور أفريقيا على شكل جماعات متعاونة ومتناسقة في أروع صورة ممكنة، ومصدرها الغذائي يتكون من الفواكه التي تحملها أغصان الأشجار التي تعيش عليها، وللوهلة الأولى تبدو لنا عملية التغذي على الفواكه التي توجد في قمة الأغصان غاية في الصعوبة لسببين:

أولهما: عدم إمكان الوصول للفاكهة الموجودة في قمة الأغصان وأطرافها من قِبل جميع الطيور،بل من قِبل الطير الأقرب منها فقط.

وثانيهما: شحة المكان الذي يمكن للطير أن يحط عليه فوق الشجرة، فالمتوقع لهذا الطير أن يعاني من الجوع حتمًا.

ولكن الحقيقة والواقع عكس ذلك تمامًا، تتحرك هذه الطيور الأفريقية نحو أغصان الأشجار وكأنها متفقة فيما بينها مسبقًا على أن تكون حركتها بالتناوب؛ حيث تتراص فيما بينها على غصن الشجرة، ويبدأ الطير الأقرب إلى الفاكهة بتناولها، يأخذ حصته منها؛ ومن ثم يناولها إلى الذي بجانبه، وهكذا تتجول الفاكهة من فم إلى آخر حتى أبعد طير على غصن الشجرة، وبذلك تتشارك الطيور في التغذية.

ويُثار هنا تساؤل مفاده: كيف أمكن لهذه الحيوانات أن تتصرف وفق هذا الناموس والتعاون فيما بينها؟ وكيف لا يفكر الطير الأقرب إلى الفاكهة بالاستحواذ عليها دون الباقين؟ ومن أين أتى هذا النظام والانتظام في التغذية بين هذه الطيور في تطبيق لا نظير له في الأحياء؟ علمًا بأن لا أحد من هذه الطيور يسلك سلوكًا من شأنه أن يخلخل النظام على غصن الشجرة، مع هذا لا يشبع العدد المتوقف على غصن الشجرة في المرة الواحدة لعدم كفاية الفاكهة الملتقطة والموجودة على ذلك الغصن؛ لذلك تقوم هذه الطيور بالوقوف على غصن آخر مليء بالفاكهة، ولكن هذه المرة يكون الطير الأكثر جوعًا والأبعد عن الفاكهة في المرة الماضية الأقرب إلى الفاكهة، وتبدأ دورة التغذية من جديد وفق نظام يتسم بالعدالة والدقة.

الحيوانات المتعاونة عند الولادة:

تكون الحيوانات- وخصوصًا الثدييات- أكثر تعرضًا للخطر في أثناء الولادة؛ لأن الأم ووليدها يكونان لقمة سائغة للحيوانات المفترسة، ولكن الملاحظ أن هذه الحيوانات تكون بحماية أحد أفراد القطيع عندما تضع وليدها، على سبيل المثال تختار أنثى الأنتيلوب مكانًا أمينًا بين الأعشاب الطويلة لتضع وليدها، ولا تكون وحدها في أثناء الولادة، بل تكون بجانبها أنثى أخرى من القطيع نفسه كي تساعدها وقت الحاجة.

وهناك مثال آخر للتعاون بين الحيوانات في أثناء الولادة وهو الدلفين، فالوليد الصغير عندما يخرج توًّا من رحم أمه عليه أن يخرج إلى سطح الماء للتنفس؛ لذلك تدفعه أمه بأنفها إلى أعلى كي يستطيع التنفس، وتكون الأم ثقيلة الحركة قبل الولادة، ويقترب منها أنثيان من الجماعة نفسها لمساعدتها لحظة الولادة، وتسبح هاتان المساعدتان جانبي الأم لحظة الولادة لمنع أي ضرر يلحق بها في تلك اللحظة الحرجة، خصوصًا أن الأم تكون ثقيلة الحركة ومعرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى.

ويكون الوليد الجديد لصيقًا بأمه طيلة الأسبوعين الأولين، ثم يبدأ السباحة شيئًا فشيئًا بعد ولادته بفترة قصيرة، وتدريجيًّا يبدأ بالاستقلال عن أمه، وفي هذه الحالة تكون الأم ضعيفة بعض الشيء، ولا تستطيع أن تتأقلم مع حركات الوليد الجديد؛ لذا تتدخل أنثى أخرى لحماية الصغير وتوفير العون الكامل للأم حتى تلتقط أنفاسها.

وبالأسلوب نفسه تلد الفيلة أولادها؛ حيث تكون هناك أنثى أخرى دومًا لمساعدة الأم أثناء الولادة، تختفي الأم ووصيفتها داخل الأعشاب الطويلة بكل مهارة حتى تنتهي عملية الولادة، وتستمران في رعاية الفيل الجديد طيلة حياتهما، وتتميز الأم بحساسية مفرطة، خصوصًا عندما تكون بجانب وليدها.

وهناك أسئلة عديدة تطرح نفسها في هذا المجال؛ مثلاً: كيف تتفاهم الفيلة أو غيرها من الحيوانات مع بعضها، أو الأنثى التي تصبح مساعدة كيف تفهم أو تشعر باقتراب موعد الولادة لقريبتها؟

الحيوانات الحاضنة لصغار غيرها:

تمتاز الثدييات بأنها تنشئ علاقات قرابة وطيدة فيما بينها، على سبيل المثال الذئاب تعيش ضمن عائلة واحدة تتألف من ذكر وأنثى وصغيرهما، وربما واحد أو اثنين من ولادات سابقة، وكل الحيوانات البالغة تقوم بمهمة حماية الصغار، وأحيانًا تبقى إحدى الإناث في الوكر لتقوم بمهمة الحاضنة لأحد الصغار طول الليل، بينما تقوم الأم بالخروج إلى الصيد مع باقي أفراد الجماعة.

تعيش كلاب الصيد الأفريقية ضمن جماعات تتألف الواحدة منها من عشرة أفراد، وتبدأ توزيع الواجبات بين الذكور والإناث التي تتمثل في حماية الصغار وتغذيتهم، وتتسابق فيما بينها على رعايتهم، وعند اصطيادها لفريسة تقوم بتشكيل حلقة حولها حماية لها من هجوم الضباع، ولإفساح المجال للصغار بالتغذي عليها.

يعيش البابون أيضًا ضمن جماعة يقوم زعيمها برعاية المرضى والجرحى من أفرادها، حتى إن البالغين يتبنون بابونًا صغيرًا في حالة فقدانه لأبويه، فيأذنون له بالسير معهم نهارًا والـمبيت عندهم ليلاً، وقد تغير الجماعة مكانها، عندئذ تقوم بمسك صغيرها ليمشي الهوينى في حالة كونه صغيرًا جدًّا لا تستطيع ضبط توازنه في أثناء حملها له، والصغير قد يتعب أثناء سيره ويتسلق ظهر أمه غالبًا، وهذا يؤدي إلى تقهقرهم عن الجماعة، ولو فطن زعيم الجماعة لهذا الأمر لقفل راجعًا إلى حيث تقف الأم، ويبدأ بمرافقتهم في أثناء المسير والوقوف كلما وقف البابون الصغير.

أما بنات آوى فتعيش مع أمهاتها حتى بعد انقطاعها عن الرضاعة، وتصبح يافعة تساعد أمها عند ولادتها لرضيع جديد، فتجلب الغذاء للصغار، أو تذهب بهم إلى مكان بعيد لحين ابتعاد الخطر الداهم، وليست بنات آوى وحدها التي تهتم برعاية أشقائها، بل تقوم بالمهمة نفسها طيور مثل دجاج الماء والسنونو.

والتعاون في عالم الطيور يتخذ شكلاً آخر؛ لأنه يكون بين أزواج الطيور، مثل طير النحل، يتعاون الزوجان في تنشئة أطفالهما، وهذا التعاون من الممكن مشاهدته لدى الطيور بكثرة([9]).

بعد استعراض هذه النماذج من حياة بعض الكائنات الحية من حيوانات وطيور وحشرات- يتضح لنا أن سلوك تلك الكائنات وما فيه من عمل دءوب ومثابرة، وتنظيم واع، وتعاون وتكاتف، وتكافل وتضحية، كل هذا ينم عن تفكير منطقي، بالرغم من أن ما ذكرناه من نماذج يدور عن حمر وحشية أو طيور أو حشرات أو دلافين… إلخ.

والتفسير الوحيد الذي يمكن للإنسان العاقل أن يتوصل إليه أمام هذه الأمثلة أننا أمام مجتمعات تشبه أمم البشر ومجتمعاتهم في كثير من الجوانب.

2)  التطابق بين الحقائق العلمية والقرآن الكريم:

لقد أشار الله تعالى في كتابه الكريم إلى أن الدواب والطير أمم ومجتمعات مثل البشر، وذلك في قوله تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شىء ثم إلى ربهم يحشرون (38) ( (الأنعام).

وبالرجوع إلى معاجم اللغة وأقوال المفسرين في معاني هذه الآية الكريمة تتضح هذه الحقيقة لكل ذي عقل.

فمن أقوال أهل اللغة:

يقول الجوهري في الصحاح في اللغة: “والأمة: الجماعة، قال الأخفش: هو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوانات أمة”([10]).

ويقول الراغب الأصفهاني: “والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا، وجمعها: أمم، وقوله تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم((الأنعام:38)؛ أي: كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة([11])، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع”([12]).

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

يقول الإمام القرطبي: “)إلا أمم أمثالكم( (الأنعام:38) ؛ أي: هم جماعات مثلكم في أن الله عز وجل خلقهم، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تجاوزوا فيهم ما أُمرتم به”، ثم يقول: “قال سفيان بن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه، فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاووس، فهذا معنى المماثلة- واستحسن الخطابي هذا-وقال مجاهد في قوله عز وجل: )إلا أمم أمثالكم( (الأنعام:38)، قال: أصناف لهن أسماء تُعرف بها كما تُعرفون”([13]).

وقال الإمام الطبري في تفسيره: “بل جعل كل ذلك أجناسًا مجنسة وأصنافًا مصنفة، تُعرف كما تُعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب”([14]).

وقال الإمام ابن القيم: “وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة، وذلك ممتنع من جهة الخِلْقة والصورة، وعدم من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق”. ثم يقول: “والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبًا محتالاً، وبعضها متوكلاً غير محتال، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقًا مضمونًا وأمرًا مقطوعًا، وبعضها لا يعرف ولده البتة، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه، وبعضها تضيع ولدها وتكفل ولد غيرها، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها، وبعضها يدخر، وبعضها لا تكسب له، وبعض الذكور يعول ولده، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه، وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها، وبعضها يتمها من قبل آبائها، وبعضها لا يلتمس الولد، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه، وبعضها يعرف الإحسان ويشكره، وبعضها ليس ذلك عنده شيئًا، وبعضها يؤثر على نفسه، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدًا يدنو منه، وبعضها لا يأكل إلا الطيب، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث، وبعضها يجمع بين الأمرين، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها، وبعضها حقود لا تنسى الإساءة، وبعضها لا يذكرها البتة، وبعضها لا يغضب، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يسترضى حتى يرضى، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه، وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده، وبعضها يقبل التعليم بسرعة، وبعضها مع الطول، وبعضها لا يقبل ذلك بحال”([15]).

وهكذا فإن أقوال أهل اللغة وأهل التفسير تؤكد ما أشارت إليه الآية الكريمة من أن الطيور وسائر الدواب في البر والبحر أمم مثل البشر؛ من حيث أن الله رازقهم ومحييهم ومميتهم، ومن حيث الطباع والسلوك والأخلاق، ولا تعني المماثلة هنا المماثلة التامة بين أمم الحيوان وأمم البشر، فهذا لم يقل به أحد؛ لأن الله تعالى قد كرم بني آدم على سائر الخلق، ولكن المماثلة هنا في بعض الجوانب والسلوكيات.

وما أشار إليه القرآن الكريم هو عين ما توصل إليه علماء الحيوان في العصر الحديث؛ حيث أثبتت جهود الباحثين في علم الحيوان، وفي مختلف بلاد العالم أن عالم الحيوان يزخر بما لا يُحصى من الغرائب والعجائب، كما اكتشف هؤلاء الباحثون أن هذه الحيوانات سواء ما يدب منها على الأرض، أو يسبح في الماء، أو يطير في السماء، إنما هي شعوب وأمم لا تختلف في أسلوب حياتها عن أمم البشر، ولا سيما في حالات السلم والحرب، والسعي لطلب الغذاء، ورعاية الصغار، وما تلجأ إليه من حيل للتغلب على ما يواجهها من مخاطر وصعاب.

هل العناكب أمة كالبشر؟

أما ما زعمه المشتبه بأننا إن جاز لنا أن نطلق على مجتمع النحل بأنه أمة كالبشر، فلا يجوز هذا بحال في حق العناكب، التي تأكل فيه الأنثى زوجها، بل بنيها لو تمكنت منهم.

ونحن لا نختلف معه في أن النحل غير العناكب؛ فبيت النحل يُؤسس على نظام مثالي، وخَلْق عظيم، ويعيش في بيته على الود والتعاون، والتراحم والتعاطف، بينما يسود بيت العنكبوت نظام عدواني، وانحطاط خلقي، ويعيش العنكبوت في بيته على الخداع والغدر، والأنانية والظلم، ولكن هل يستطيع أحد أن ينكر أن هناك من البشر من ينفر من الناس وينفر منه الناس، ويعيش على الخداع والغدر والأنانية والظلم والقتل والخيانة، ولا يلقى الناس منه إلا نكران الجميل والأذى، لا شك أن أمثال هؤلاء كثيرون في دنيا البشر، ولا يخلو منهم مجتمع من المجتمعات، ثم لماذا لا ينظر الطاعنون إلا إلى الجانب المظلم من حياة العناكب، ولا ينظرون إلى الجانب المشرق منها، وهي هندسة أنثى العنكبوت لبيتها، نعم فالعنكبوت مهندس إنشائي بارع؛ حيث تقوم بالخطوات الآتية في بناء بيتها:

أولاً تنسج خيطًا واحدًا من الحرير.
ثم تكمل الإطار الخارجي، ومن وسط الخيط العلوي تنسج خيطًا آخر إلى أسفل.
وتبدأ من وسط هذا الخيط فتنسج خيطًا من كل اتجاه في زوايا متساوية تشبه أسلاك عجلة الدراجة.
وبعد أن تنتهي من ذلك تبدأ من الوسط وتصل الخيوط بعضها ببعض في اتجاه دائري، حتى ينتهي بناء البيت.

وتصمم أنثى العنكبوت البيت ليكون مصيدة للحشرات، وتضع أنثى العنكبوت مواد لاصقة على الخيوط، فما إن تصل حشرة إلى بيت العنكبوت حتى تلتصق أقدامها بالخيوط اللزجة، فتسرع أنثى العنكبوت وتحيط فريستها بخيوطها، وكأنها تكفنها بعد أن تلدغها بسمها، وبعد ذلك تمتص عصارة جسم الحشرة وتتغذى عليها([16]).

وثمة نقطة أخرى تسترعي الانتباه، وهي أن العنكبوت الذي يخرج لتوِّه من البيضة يملك المعرفة الضرورية لنسج شبكة دون الحصول على أي تدريب- خلاف المهندس الإنشائي- وبفضل هذه المعرفة تولد أجيال من العناكب لديها القدرة على نسج الشباك؛ فالعنكبوت الوليد لا يتلقى أي تدريب أبدًا، ولا يحضر أية دورات تعليمية، في حين ينبغي على المهندس الإنشائي أن يدرس في الجامعة لمدة أربع سنوات على الأقل كي يكتسب المعرفة الضرورية لتشييد مبنى، كما أنه يستخدم مئات الأعمال الأكاديمية المطبوعة في السابق كمصدر للمعرفة، ويجري حساباته على الكمبيوتر، ولديه معلمون يوجهونه ويعلمونه كيفية إجراء الحسابات.

وعلى نحو مماثل فإن بناء شبكة تكبر العنكبوت بمئات المرات يستلزم- على الأقل- القدر نفسه من الحسابات اللازمة لبناء مبنى، ولا يكفي أن تكون متعلمًا جامعيًّا كي تخطط وتحسب مقدار الشد في الخيوط التي تكون الشبكة، وقوة الأساس الذي يقوم عليه، واستقامة الشكل الهندسي، والمقاومة والمرونة اللازم توافرها من أجل الرياح، وحركة الفريسة، والخصائص الفيزيائية والكيميائية للخيوط، والعديد من التفاصيل الأخرى التي لم نستطع سردها، وفي كل الأحوال لا توجد جامعة لصغار العناكب التي تبدأ بعد فترة قصيرة من قدومها إلى العالم في إنتاج الخيوط وبناء الشباك والصيد([17]).

فهل بعد هذه الحقائق الناصعة عن حياة العناكب يزعم زاعم أنه لا يصح أن يطلق عليها أمة كالبشر؟!

3)  وجه الإعجاز:

تؤكد لنا الدراسات العديدة التي أجراها العلماء والباحثون في عالم الحيوان أن المجموعات الحيوانية التي تعيش على وجه الأرض كثيرة ومتنوعة، وقد قام العلماء بتصنيفها إلى شعب وطوائف ورتب وفصائل وأجناس وأنواع، ولقد أثبتت تلك الدراسات أن مجتمع الحيوانات يزخر بالعديد من الغرائب والعجائب التي أدهشت هؤلاء الباحثين؛ مما يدل على سلوك واع منظم تسلكه تلك الحيوانات ينم عن تفكير منطقي، واستشراف للمستقبل، واستعداد للأحداث الطارئة.

وباستعراض بعض النماذج من حياة بعض الحيوانات والطيور والحشرات؛ كالقندس مهندس السدود، أو بطريق الإمبراطور وكيفية الحفاظ على بيضه ورعايته لأبنائه، أو دودة القز وعملها لليرقات الخادعة، أو النمل وتوزيع الأدوار فيه… وغير هذا كثير – تأكد لنا التماثل في كثير من النواحي بين المجتمع الحيواني والمجتمع البشري.

وهذا الذي توصل إليه العلماء حديثًا نجد قرآننا الكريم قد ذكره قبلهم بأكثر من أربعة عشر قرنًا في قوله تعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم( (الأنعام:38)، فلا يمكن وصف كل هذه الأجناس من الدواب والطيور والحشرات إلا بوصف الأمم الذي وصفها به القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

(*) إعجاز القرآن بين الحقيقة والبهتان، شاكر فضل الله النعماني، مقال منشور بموقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[2]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص146.

[3]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في خلق الحيوانات البرية والبحرية وبعثها وحسابها، د. ماهر الصوفي، المكتبة العصرية، بيروت، 1429هـ/ 2008م، ج11، ص95، 96.

[4]. التضحية عند الحيوانات، هارون يحيى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص14.

[5]. التضحية عند الحيوانات، هارون يحيى، مرجع سابق، ص14: 17.

[6]. معجزات القرآن العلمية في الأرض مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، دار العلوم، الأردن، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص107 بتصرف.

[7]. القرآن والعلم، هارون يحيى، تعريب: د. إبراهيم الصنافيري، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص66.

[8]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في خلق الحيوانات البرية والبحرية وبعثها وحسابها، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج11، ص244: 249.

[9]. التضحية عند الحيوانات، هارون يحيى، مرجع سابق، ص113: 126 بتصرف.

[10]. الصحاح في اللغة، مادة: أمم.

[11]. السُّرْفة: دُويبة صغيرة أو دودة تبني لنفسها بيتًا حسنًا عجيبًا.

[12]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص23.

[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص419، 420.

[14]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1400هـ/ 2000م، ج11، ص344.

[15]. شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت، 1398هـ/ 1978م، ج16، ص26.

[16]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2006م، ج6، ص107.

[17]. معجزة العنكبوت، هارون يحيى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ص124.

الزعم أن وصف القرآن للناصية بالكذب لا إعجاز فيه

مضمون الشبهة:

لقد تعرّض قول الله سبحانه وتعالى: )كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية (15) ناصية كاذبة خاطئة (16)(  (العلق) ـ لطعون الطاعنين وشكوك المغرضين، الذين قالوا تعليقًا على هذه الآية: إن الناصية لا تكذب فكيف يسند إليها الكذب؟ ولا تجترح الخطايا فكيف تسند إليها الخطيئة؟ كما زعموا أن الآية لا تحوي أي إعجاز علمي؛ إذ إن الناصية كما يظنون لا يتجاوز معناها مقدمة الرأس أو الشعر، والمعنى في الآية لا يتجاوز الكناية عن المهانة فقط، ولا توجد صلة بين هذا وبين الجزء المسئول عن اتخاذ القرار في مخ الإنسان.

وجه إبطال الشبهة:

لقد اكتشف العلماء حديثًا أن الفص الأمامي أو الجبهي للمخ (Frontal lobe)”جبهة الإنسان وناصيته” ـ هو المسئول عن اتخاذ القرار والتحكم في الأقوال بجعلها صادقة أو كاذبة، والتحكم في الأفعال بجعلها خطأ أو صوابًا، كما لاحظ العلماء أن تلك المنطقة هي المسئولة عن الكفر والإيمان، وهذا ما أشار إليه بوضوح قوله تعالى:)ناصية كاذبة خاطئة(16)( (العلق)، وقد أوضح هذا المفسرون، وهذا لا شك إعجاز علمي رائع، فلم الطعن والتشكيك؟!

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

 لقد اكتشف العلماء حديثًا أن الفص الجبهي أو الأمامي ((The Frontal lobeللمخ هو المسئول عن الصدق والكذب، والصحة والخطأ، والكفر والإيمان، وغير ذلك مما يجعله مركزًا لقيادة الإنسان وتوجيهه.

ولكن ماهو الفص الجبهي للمخ؟ وأين يقع؟ وما هي تلك الوظائف العديدة التي يقوم بها؟

إن مخ الإنسان يتكون من كتلة بالغة التعقيد من الخلايا والأنسجة العصبية الممتدة من الحبل النخاعي الشوكي والمحتواة في داخل الجمجمة، وتنقسم هذه الكتلة العصبية بالغة التعقيد إلى ثلاث وحدات رئيسة على النحو الآتي:

البصلة المخية(النخاع المستطيل Medulla Oblongata) وتصل المخ بالحبل العصبي المركزي المعروف باسم الحبل النخاعي الشوكي (The Spinal Cord) ليكونا معًا الجهاز العصبي المركزي (The Central Nervous System)، ويقوم النخاع المستطيل بتنظيم عدد من وظائف الأعضاء الأساسية والتنسيق بينها، وذلك من مثل: التنفس، ضغط الدم، دقات القلب وغيرها، ويعرف باسم الجزء الأسفل أو الخلفي من المخ (The Hindbrain).
المخيخ(The Cerebellum): ويوجد فوق النخاع المستطيل مباشرة، ويعرف أحيانًا باسم الجزء الأوسط من المخ (The midbrain)، ويقوم بالتنسيق بين العمليات العضلية المعقدة من مثل: انتصاب القامة، وحركات الأطراف.

ويكون كل من النخاع المستطيل والمخيخ ما يعرف باسم جذع المخ (The brainStem).

المخ(The Cerebrum): ويعرف باسم الجزء الأمامي من المخ (The forebrain) ويمثل أكبر الأجزاء الثلاثة حجمًا، وتتركز فيه كل عمليات تلقي المعلومات من جميع مراكز الحس في الجسم، وكما تتركز فيه مراكز تحليل هذه المعلومات، والتنسيق بينها وتكاملها، وكذلك تتركز فيه مراكز جميع الأنشطة العقلية والسلوكيات الذكية، ويتغطى المخ بطبقة سميكة نسبيًّا من الخلايا العصبية تعرف باسم المادة الرمادية (The Gray Matter)، ويربطها مع بعضها البعض ومع باقي أجزاء الجهاز العصبي المركزي طبقة خيطية دقيقة توجد أسفل منها وتعرف باسم المادة البيضاء (The White Matter) وتعرف الطبقتان باسم غطاء المخ (The Cerebal Cotex) ويتعرج سطح المخ بالعديد من الطيات المقعرة والمحدبة المتداخلة في بعضها البعض بشكل فائق التعقيد.

ويقسم المخ ذاته إلى أربعة فصوص رئيسية (لكل منها وظائفه الخاصة به) كما يلي:

الفص الجبهي أو الأمامي (The Frontal Lobe)([1]): ويقع في الجزء الأمامي من المخ ممثلًا أكبر أجزائه، ويعتبر مركز التحكم في معظم الأنشطة الذهنية، من مثل: الحواس والعواطف والمشاعر والذاكرة والنطق واللغة، وفي حركة معظم أجزاء الجسم، وتتركز أغلب هذه الصفات في غطاء مقدمة هذا الفص الأمامي (The per – frontal Area) الذي يعرف باسم غطاء مقدمة الفص الجبهي للمخ ( Cortex The per – frontal) ويقع هذا الغطاء خلف الجبهة تمامًا في المسافة بين العينين ومنبت شعر الرأس؛ ولذلك فهو المقصود بالتعبير القرآني (الناصية).

وقد ثبت بالتجربة أن الناصية (غطاء مقدمة الفص الجبهي للمخ) تتحكم في الإرادة، والمشاعر والأحاسيس، والقدرة على التخطيط، واتخاذ القرارات، والحكم على الأشياء والتمييز بينها، والتفاعل مع الآخرين، والتبصر في الأمور، والثبات العاطفي، والقدرة على ضبط السلوك، وعلى مواجهة المشاكل، وعلى الشعور بالمسئولية، وغير ذلك من الوظائف العقلية العليا والصفات المحددة لشخصية الإنسان الفرد.

رسم تخطيطي يوضح موقع الناصية في المسافة بين العينين ومنبت الشعر

ويأتي خلف تلك المقدمة الجبهية أو الناصية بقية الفص الأمامي للمخ، ويقع في غطائه مراكز التحكم في حركة مختلف أجزاء جسم الإنسان؛ ولذا يعرف باسم غطاء الجزء المخي المرتبط بالحركة (TheMotorAssociaionCortex)؛ وبالإضافة إلى تحكمه في التنسيق بين حركات مختلف أجزاء الجسم، يقع فيه مركز التخيل (The Imagination Center)، وفي وسطه مركز التحكم في الكلام وفي الحدس والتوقع (منطقة بروكا Broca’s Area)([2]).

كما أن التوجيه الإرادي للنظر في اتجاه محدد يقع في الفص الجبهي، فهناك في الفص الجبهي ما يماثل منطقة بروكا من تلفيف القشرة الحركية، وهي منطقة تختص بتحريك العينين، ومنطقة فوقها تختص بتحريك الرأس بحركة دائرية، وكلا المنطقتين توجه النظر وتركزه في اتجاه معين وفق حركة إرادية، وهاتان المنطقتان توجهان قشرة الحركة الأولية (Primary Motor Cortex) لإدارة الرأس وتركيز العينين في اتجاه محدد.

وكذلك التحكم الإرادي لحركة جميع أجزاء الجسد يقع في الفص الجبهي؛ فقد أثبتت الأبحاث أن المنطقة الحركية الإضافية والمنطقة قبل الحركية تعملان باعتبارهما منشئتين للوظيفة الحركية، وتخزنان برامج الحركة التي تعتبر جزءًا من التخطيط الخاص بتحكم مجموعة معينة من العضلات على القيام بحركة طوعية؛ كذلك يمكن الاستنتاج أنه كما هو الحال فيما يتعلق بالنطق واختيار الألفاظ وتحريك الرأس والعينين، فإن قشرة الفص الجبهي أو الناصية هي المختصة بالتحكم الواعي للقيام بعمل طوعي أو عدم القيام به، مما يتطلب تحريك بعض أجزاء الجسد أو كله.

كما يقع التناسق بين حركة النطق وحركات الجسم في الفص الجبهي؛ كما توصل العلم إلى أن قشرة المخ في الفص الجبهي تتحكم في سلوك الإنسان([3]).

رسم يوضح أجزاء المخ الرئيسة

2.الفص الجداري (The Parietal Lobe): ويقع في قمة المخ، خلف الفص الجبهي مباشرة، وبه مراكز التوجيه المكاني، والتمييز بين الأشكال والأحجام والتضاريس المختلفة، وبه مراكز الاتجاهات، ومراكز القدرات الحسابية، ومراكز التعبير عن العواطف وفهمها.
الفص الصدغي (The Temporal Lobe):ويوجد أسفل الفص الجداري، وبه مراكز التحكم بالسمع وفي كل من ذاكرتي الكلام والأصوات.
4.الفصالخلفي (The Occipital Lobe): ويقع في خلف المخ، وفي قاعدته مركز الإبصار، وفوقه منطقة القراءة والذاكرة البصرية، والمنطقة المصاحبة للرؤية، والتي إذا تعرضت للتلف فإن صاحبها يرى ولكنه لا يستطيع التمييز بين ما يراه([4]).
جهاز كشف الكذب يوضح وظيفة الناصية:

لقد فكر فريق من العلماء في سنة 2006م في إيجاد وسيلة لمعرفة المنطقة المسئولة عن الكذب في الإنسان، وكان هدفهم من هذه التجربة أن يخترعوا أو يصمموا جهازًا يكشف الكذب عند الإنسان، فاللصوص والمجرمون البارعون في الكذب كانوا يتحايلون على كل الأجهزة التي اخترعها العلماء سابقًا، والأجهزة السابقة كانت تقيس نبرة الصوت وتقيس دقات القلب، وتقيس أيضا كمية العرق التي يفرزها الإنسان، وعندما يبدأ الإنسان بالكذب فإن شيئًا ما سيضطرب وإما أن يحدث تسريع في دقات القلب، وإما أن تحدث زيادة في الإفرازات العرقية لدى الإنسان، أو يحدث تنفس سريع.

ولكن الكذابين المحترفين كانوا يتحايلون على كل هذه الأجهزة، فتجدهم يجلسون بكل هدوء ولا يظهر عليهم أي أثر أثناء التحقيق معهم، وبالتالي أثبتت كل هذه الأجهزة فشلها، فلجأ العلماء في هذه التجربة الجديدة إلى الدماغ، وقالوا: لا بد أن يكون فيه منطقة مسئولة عن الكذب قد تكون في أسفل الدماغ أو في الجهة اليمنى أو اليسرى أو الأمامية؛ فأحضروا من أجل هذا الهدف ما يسمى بـ “جهاز المسح الوظيفي” الذي يعمل بالرنين المغناطيسي (FMRA).

 صورة لجهاز المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهو جهاز مخصص لقياس نشاط أي منطقة من مناطق الدماغ بطريقة الموجات المغناطيسية

ما مهمة هذا الجهاز وكيف يعمل؟

إنه عبارة عن جهاز يرصد نشاط الدماغ؛ حيث يوضع المريض ويحاط دماغه بقرص معين وتوضع خلف هذا القرص الأجهزة المربوطة مع أجهزة الكمبيوتر، ويعمل هذا الجهاز دون أن يمس الإنسان، إنما هي صور تؤخذ بموجات كهرومغناطيسية فقط، فالدماغ كما نعلم في حالة نشاط دائم، والله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان قسم دماغه إلى مناطق، فكل منطقة لها عمل ولها وظيفة محددة، وعندما قام العلماء بتجربة هذا الجهاز (الرنين المغناطيسي) وطلبوا من إنسان أن يكذب، فالذي حدث أنهم لاحظوا وجود نشاط كبير في المنطقة الأمامية العليا من الدماغ ـ أي في منطقة الناصية ـ وناصية الرأس هي أعلى منطقة الرأس.

ولاحظوا أيضا أن هذه المنطقة يجري فيها الدم بسرعة؛ لأن عمليات كثيرة تتم بها أثناء الكذب، فخرجوا بنتيجة مؤداها: أن المنطقة الأمامية العليا من الدماغ هي المسئولة عن الكذب، وربما كان الاكتشاف الأهم أنهم وجدوا أن الإنسان عندما يكون صادقًا فإنه لا تكاد أية منطقة في دماغه تكون ذات نشاط؛ أي إنه لا يصرف أية طاقة تذكر.

صورة لمنطقة الناصية

لاحظ العلماء أن النشاط يكون أكبر ما يمكن في منطقة الناصية أثناء الكذب، بينما لم يلاحظوا نشاطا يذكر أثناء الصدق، وهذا ما جعلهم يعتقدون أن الدماغ قد فطر على الصدق!

الكذب يتطلب طاقة أكبر:

لقد خرج العلماء بنتيجة أخرى هي أن عملية الكذب تتطلب إسرافًا في الطاقة؛ فالإنسان عندما يكون صادقًا لا يصرف أية طاقة من دماغه، وعندما يكذب فإنه يصرف طاقة كبيرة بسبب هذا الكذب، وطبعًا هذه النتائج نتائج يقينية لأنهم رصدوا حركة الدم داخل هذا الدماغ في الخلايا العصبية للدماغ، ووجدوا أن المنطقة الأمامية ـ منطقة الناصية ـ تزداد نشاطًا بشكل كبير أثناء عملية الكذب.

مركز الخطأ في الناصية:

بعد ذلك قام العلماء في جامعة (ميشيغان) الأمريكية أيضًا في عام 2006م بإجراء تجربة فريدة من نوعها أرادوا بها أن يعالجوا ظاهرة الخطأ، فالإنسان عندما يقوم باتخاذ القرارات، فإنه قد يتخذ قرارًا مصيبًا وقد يتخذ قرارًا خاطئا، فأرادوا أن يعلموا ما هي المنطقة المسئولة عن الخطأ في الدماغ فماذا فعلوا؟ لجئوا إلى الجهاز نفسه ـ أي (FMRA) جهاز المسح الوظيفي بالرنين المغناطيسي ـ وجاءوا بأناس وأخبروهم بأن يرتكبوا أخطاء متنوعة، وكانت نتيجة البحث الذي نشرته مجلة علم الأعصاب حديثًا، أن المنطقة الأمامية العليا ـ أي منطقة الناصية ـ هي المسئولة عن الخطأ لدى الإنسان؛ لأنهم لاحظوا نشاطًا كبيرًا يحدث في هذه المنطقة أثناء ارتكاب أي خطأ، وكلما كان الخطأ أكبر كان النشاط أكبر لهذه المنطقة([5]).

الناصية مسئولة عن الكفر والإيمان:

لقد كانت المفاجأة أن المنطقة المسئولة عن الكذب والصدق في الدماغ، هي ذاتها المسئولة عن الكفر والإيمان، وهي المنطقة الأمامية من الدماغ أو منطقة الناصية، وتحديدًا ما يسمى (VMPC)أوventral medial prefrontal cortex.ويقوم العلماء في جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvaniaاليوم بدراسة الموجات الاهتزازية التي يبثها الدماغ، ومنهم الدكتور”KnightRobert” الذي قام بدراسة دقيقة للدماغ باستخدام جهاز المسح بالرنين المغناطيسي الوظيفيfMRI، وباستخدام موجات غاما التي يبثها الدماغ، يقول هذا الباحث: إن الموجات التي يبثها دماغ الإنسان تتغير مع طريقة تفكيره، تتغير أثناء الكذب وأثناء الخطأ، وأثناء الإيمان بشيء ما، أو خلال إنكار شيء ما.

لقد وجد العلماء أيضًا أن هذه المنطقة تنمو أثناء الإيمان عندما يعيش الإنسان حالة من الاندماج مع معتقدات معينة، ولكن في حالة الممارسات السيئة والاضطرابات في العقيدة وعدم الإيمان بالله، فإن هذه المنطقة “تتآكل” مع الزمن ويقل عدد خلايا الدماغ فيها وتصبح أصغر حجمًا، وبالتالي تزداد الاضطرابات النفسية لدى هؤلاء، ويزداد لديهم القلق والإحباط، وربما يسهل عليهم الانتحار([6]).

مركز الإبداع والقيادة:

وقد قام بعض العلماء حديثًا بتجربة أرادوا أن يعرفوا من خلالها مكان القيادة لدى الإنسان؛ ففي دراستهم لعمليات الإبداع والإدراك لدى الإنسان، وبهدف تطوير مدارك هذا الإنسان قالوا لا بد أن نبحث عن المنطقة المسئولة عن اتخاذ القرارات وعن الإبداع، التي تتحكم في نجاح الإنسان وفشله؛ فقاموا بإحضار بعض الناس وطلبوا منهم أن يتخذوا بعض القرارات المهمة، وجعلوهم أيضًا يفكرون تفكيرًا إبداعيًّا؛ فوجدوا ـ بعد أخذ القياسات من الجهازFMRI ـ أن منطقة الناصية أيضًا تنشط عندما يتخذ الإنسان قرارًا حاسمًا في حياته، وعندما يفكر تفكيرًا إبداعيًّا؛ أي عندما يحاول أن يستكشف ويتفكر ويتدبر أو أن يفعل أشياء فيها إبداع؛ ومن ثم فإن منطقة الناصية هي المسئولة عن هذا الأمر كذلك([7]).

يتبين من الشكل أن منطقة الناصية تنشط أثناء الأعمال الإبداعية، وكذلك أثناء اتخاذ القرارات الكبيرة في حياة الإنسان، وهي بحق من أهم مناطق الدماغ

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه آيات القرآن الكريم:

لقد أشارت الآيات القرآنية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان إلى أن الناصية ـ لا سيما الفص الأمامي الجبهي منها ـ تتحكم في الإرادة والمشاعر والأحاسيس والقدرة على التخطيط واتخاذ القرارات والحكم على الأشياء والتمييز بينها والتفاعل مع الآخرين والتبصر بالأمور… إلخ.

وكل هذه المهام التي تقوم بها الناصية واضحة في قوله تعالى: )ناصية كاذبة خاطئة (16)((العلق)، وفي قوله تعالى:)ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها((هود: ٥٦)، وقد جاء العلم مؤخرًا بأحدث الأجهزة والمعدات ليبرهن على تلك الحقيقة القرآنية، وقد تعرض المفسرون لهذه الآيات وكانت لهم بعض الأقوال والإشارات التي يقترب بعضها من تلك الحقيقة العلمية، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فنحن لا نحمِّل هؤلاء العلماء والمفسرين ما ليس بوسعهم فعله أو إدراكه في تلك الآونة التي لم تشهد هذه الثورة العلمية والتكنولوجية التي نشهدها في الوقت الحاضر.

يقول ابن كثير في تفسيره: )ناصية كاذبة خاطئة (16)((العلق)، يعني: ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها([8]).

ويقول القرطبي: “)ناصية كاذبة خاطئة (16)((العلق)، ؛ أي: ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ، والمخطئ غير مأخوذ، ووصف الناصية بالكاذبة الخاطئة، كوصف الوجوه بالنظر في قوله تعالى:)إلى ربها ناظرة (23)((القيامة)، وقيل: أي صاحبها كاذب خاطئ، كما يقال: نهاره صائم وليله قائم؛ أي: هو صائم في نهاره ثم قائم في ليله”([9]).

ويقول ابن عاشور: “ووصف الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي، والمراد: كاذب صاحبها خاطئ صاحبها؛ أي: آثم، ومحسن هذا المجاز أن فيه تخييلا بأن الكذب والخطء باديان من ناحيته، فكانت الناصية جديرة بالسفع”([10]).

ويقول صديق حسن القنوجي: ” )كاذبة(؛ أي: في قولها، )خاطئة(  في فعلها”([11]).

الأحاديث النبوية التي تعضد الآيات فيما ذهبت إليه:

فهناك بعض الأحاديث النبوية التي أشارت إلى الناصية وعظمت من شأنها، من ذلك الحديث النبوي الذي أخرجه أحمد في مسنده، قال: «حدثنا يزيد، أنبأنا فضيل بن مرزوق، حدثنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي ـ إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجًا، قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها»([12]).

3)  وجه الإعجاز:

إن ما أشارت إليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من وصف دقيق للناصية، وما تقوم به من دور في اتخاذ القرار والتحكم في الأقوال والأفعال بالصدق أو الكذب والتحكم في الإرادة والمشاعر والأحاسيس، إلى غير ذلك مما توصل إليه العلم الحديث ـ لأصدق دليل على أن ذلك القرآن من عند رب العالمين، فلا غرابة إذًا أن يسبق كل المعارف المكتسبة بأكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولا يمكن أن يكون صناعة بشرية، ولا يقول بذلك عاقل، فالحمد لله على نعمة الإسلام ونعمة القرآن وبعثة سيد الأنام.

(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. وهو يحتوي على خمسة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة، وهي:

1 ـ مركز الحركة الأولي (Primary Motor Area): ويقوم بتحريك العضلات الإرادية للجهة اليسرى من الجسم.

2 ـ مركز الحركة الثانوي الأمامي (Secondary Motor Area): ويقوم بتحريك العضلات الإرادية للجهة اليمنى من الجسم.

3 ـ الحقل العيني الجبهي (Frontal Eye Field): ويقوم بالتحريك المتوافق للعينين إلى الجهة المقابلة.

4 ـ مركز بروكا لحركات النطق (Motor Speech Area of Broca): ويقوم بتنسيق الحركة بينالأعضاء التي تشترك في عملية الكلام، كالحنجرة واللسان والوجه.

5 ـ القشرةالأمامية الجبهية (Pre-Frontal Cortex): وتقع مباشرة خلف الجبهة وهي تمثل الجزءالأكبر من الفص الأمامي للمخ، وترتبط وظيفتها بتكوين شخصية الفرد ولها أيضًا تأثيرفي تحديد المبادرة (Initiative)  والتمييز (Judgement). (مصدر القرار في الناصية، مقال منشور بموقع: مكنون الإعجاز العلمي www.maknoon.com).

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص373: 376.

[3]. الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ، دراسة إعجازية لسورة العلق، د. محمد يوسف سكر، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.

[4]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص375، 376.

[5]. القيادة والإبداع والكذب والخطأ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[6]. ناصيتي بيدك، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[7]. القيادة والإبداع والكذب والخطأ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص528.

[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج20، ص125، 126.

[10]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج15، ص450.

[11]. فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن القنوجي، مرجع سابق، ج7، ص508.

[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (5/ 266: 268)، رقم (3712). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

 دعوى خطأ القرآن في إخباره عن طور المضغة
 
مضمون الشبهة:
 
يواصل المغرضون طعونهم وتشكيكاتهم حول مراحل خلق الجنين وأطوار تكوينه، فيدعون خطأ القرآن الكريم في الإخبار عن طور المضغة في خلق الجنين في قول الله تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم((الحج: ٥). زاعمين أن المعنى اللغوي لكلمة مضغة لا يدل بأي حال على الجنين في هذه المرحلة، فما هو بقطعة لحم، ولا يشبه اللحم في اللون ولا في الهيئة، ولا يوجد عليه ما يشبه الأسنان، ولا شيء مما يجعله شبيهًا بالمضغة، ولا حتى من حيث الحجم؛ إذ إن حجمه في هذه المرحلة حوالي 1 سم.
 
وإنما جاء القرآن بهذا المصطلح تقريبًا لمفهوم هذه المرحلة لأذهان العرب في وقت نزوله؛ لأن المشاهد بالعيان أن المرأة إذا سقط حملها في هذه المرحلة يكون كقطعة اللحم الممضوغة، وهذا ما لا إعجاز علمي فيه، ولا حقيقة علمية ظاهرة.
 
وهم يخلصون بهذا إلى نفي إعجاز القرآن الكريم في الإخبار عن مرحلة المضغة في خلق الجنين، بل يثبتون خطأ القرآن وقصوره عن حقيقة هذه المرحلة.
 
وجه إبطال الشبهة:
 
أكدت الأبحاث العلمية الحديثة أن الجنين في مرحلة المضغة يأخذ في النمو والتطور؛ حيث يظهر عليه عدد من الفلقات تعرف باسم الكتل البدنية (Somites)، والتي تبدأ بفلقة واحدة ثم تتزايد حتى تصل إلى ما بين 40 و 45 فلقة في تمام الأسبوع الرابع وبدايات الأسبوع الخامس من عمر الجنين، ونظرا لهذه الفلقات المتعددة من الكتل البدنية فإن الجنين يبدو كأنه قطعة صغيرة من اللحم الممضوغ، بقيت عليها طبعات أسنان الماضغ، ومع استمرار نمو المضغة تتغير هذه الفلقات بشكل مستمر في أشكالها وأحجامها ومواضعها، ويصحب ذلك التغير شيء من الانتفاخ والتغضُّن والتثني، تمامًا كما يحدث مع قطعة العلك الممضوغة مع تكرار مضغها؛ وعلى هذا فإن هذه التسمية تفي تمامًا بحقيقة وهيئة هذه المرحلة من خلق الجنين، فكلمة المضغة تعني قطعة اللحم الممضوغة، أو صغار الأمور، وبهذا تتضح دقة القرآن الكريم المنتاهية في وصف هذه المرحلة، وهذا لا شك إعجاز علمي، فلم الطعن والتشكيك إذًا؟!
 
التفصيل:
 
1)  الحقائق العلمية:
 
أثبت علماء الأجنة والوراثة في العصر الحديث أن الجنين بعد أن يتعلق بالرحم وينغرس فيه ـ يأخذ في التطور السريع والنمو المتلاحق عبر مجموعة من الأطوار والمراحل تتميز عن بعضها، وأهم ما يميز الجنين بعد مرحلة التعلق أو الانغراس بداية ظهور الكتل البدنية أو الفلقات على الجنين، وهي التي يتكون منها أعضاء الجنين وعضلاته وعظامه، وذلك منذ بداية الأسبوع الرابع، وتأخذ هذه الفلقات في التزايد والكثرة؛ مما يجعل الجنين كأنه قطعة من اللحم الممضوغ.
 
“وتعتبر الفترة من اليوم العشرين إلى الخامس والعشرين من لحظة الإخصاب مرحلة انتقالية بين طوري العلقة والمضغة لبدء تكون الكتل البدنية فيها، وتستمر مرحلة المضغة من اليوم السادس والعشرين إلى الثاني والأربعين من عمر الجنين، وبنهاية الأسبوع الثالث يبدأ الشريط الأوّلي([1]) في الانحسار التدريجي حتى يختفي في نهاية الأسبوع الرابع تقريبًا بعد أن كان في ذروة نشاطه طوال الأسبوع الثالث من عمر الجنين ـ بين اليوم الخامس عشر والحادي والعشرين ـ حينما تبدأ الكتل البدنية في التخلق…
 
وطور المضغة يتميز بتزايد عدد الكتل البدنية حتى يصل إلى أكثر من (20)  كتلة على كل جانب، ويبلغ عدد الكتل البدنية عند اكتمالها ما بين (42)، (45) على كل جانب من جوانب المضغة من مقدمتها إلى مؤخرتها، ولا يكاد عددها يكتمل حتى تبدأ هذه الكتل في التمايز من القمة في اتجاه المؤخرة إلى قطاع عظمي، وقطاع عضلي، وقطاع جلدي، وهذه الكتل البدنية هي أبرز ما يميز الجنين في هذه المرحلة، ويمكن التعرف عليها من النظر إلى السطح الخارجي للجنين، ويمكن تحديد عمر الجنين عن طريق عدد هذه الكتل البدنية الظاهرة على سطحه، وهي تبدأ في الظهور من نهاية الأسبوع الثالث إلى نهاية الأسبوع الخامس، وتتحول إلى العظام والعضلات في الأسبوع السادس والسابع، وإن كان الهيكل العظمي لا يكتمل إلا في نهاية الأسبوع السابع، والهيكل العضلي لا يكتمل إلا بنهاية الأسبوع الثامن”([2]).
 
صورة حقيقية لجنين بشري في نصف أسبوعه الرابع، وقد ظهرت عليه الفلقات التي جعلته يبدو وكأنه قطعة صغيرة ممضوغة من اللحم عليها طبعات أسنان ماضغها
 
وعلى هذا فإن الجنين يتطور تطورًا كبيرا في هذه المرحلة عن مرحلة الانغراس رغم قصر المدة الزمنية بينهما؛ حيث يأخذ الجنين في هذه المرحلة في تكوين الكتل البدنية التي تمثل الجهاز الهيكلي للجنين فيما بعد.
 
وهكذا “يبدأ تخلق الجهاز الهيكلي في جنين الإنسان في الشهر الثاني من العمر الجنيني، وينشأ هذا الجهاز من الأديم المتوسط Mesoderm، وحصرًا من الكتل البدنية (جسيدات)Somites التي يبدأ ظهورها في الأسبوع الثالث من العمر الجنيني والتي يتراوح عددها ما بين 40 ـ 60 كتلة بدنية؛ حيث يكتمل تخلقها عند الإنسان في اليوم الـ 40 من العمر الجنيني؛ أي بمعدل وسطي ثلاث كتل بدنية يوميًّا.
 
وتنشأ الكتل البدنية من الخلايا الإنسية المنفصلة عن كتلة الخلايا الجانبية التي تنشأ أساسًا من الخيط الأوّلي (البدائي) Primotive Streak؛ حيث تشكل هذه الكتل الخلوية شريطين يمتدان على جانبي الأنبوب العصبي Neural Tube، ثم يبدأ هذان الشريطان بالانقسام؛ حيث يشكل كل شريط سلسلة متتالية من الكتل التي تسمى الكتل البدنية (جسيدات) والتي تتوزع على النحو الآتي: 4 كتل بدنية قفوية، 8كتل رقبية، 12 ـ 18 كتلة صدرية، 5 ـ 7 كتل قطنية، 3 ـ 5 كتل عجزية، وتبدأ هذه الكتل بالانقسام في نهاية الشهر الأول من العمر الجنيني؛ حيث تنقسم كل كتلة بدنية إلى جزئين:
 
               ‌أ-   جزء ظهري (وحشي) يشكل الكتل (القسيمات) العضلية Myotomesالتي تتطور عن بعضها الكتل العضلية المتموضعة وحشيًّا، والعضلات فوق المحورية، وأدمة الجلد Dermis، بينما تتطور عن الكتل العضلية الأخرى الأرومات العضلية Myoblasts.
 
            ‌ب-جزء بطني(إنسي) يشكل الكتل الصلبة (بضع الصلبة) Sclerotomesالتي تتطور لتعطي أجزاء من الهيكل المحوري، وتساهم في تشكيل العمود الفقري والغضاريف، والأرومات العظمية وخلايا النسيج الضام.
 
والجدير بالذكر أن الكتل البدنية تبدأ بالاختفاء عند الإنسان في نهاية الأسبوع السادس من العمر الجنيني؛ بسبب تمايز هذه الكتل إلى أنسجة أخرى أو هجرتها إلى أماكن أخرى”([3]).
 
“وبظهور الكتل البدنية تباعًا ينمو الجهاز العصبي للجنين من ميزاب (شق) عصبي NEURAL GROOVE إلى قناة عصبية تنمو في منطقة الرأس لتكون المخ بنتوءاته المختلفة: المخ المقدمي PROSEN CEPHALON، والمخ المتوسط MESENCEPHALON، والمخ المؤخريRHOMBEN CEPHALON.
 
كما تنمو بسرعة انحناءات الرأس وتظهر فتحة الفم البدائية قريبة من صفيحة القلب، وذلك في جنين عمره 23 يومًا (ذو عشر كتل بدنية)، وفي اليوم السادس والعشرين ـ جنين ذو عشرين كتلة بدنية ـ تكون فتحة الفم البدائية منفصلة عن القناة الهضمية الأمامية FOREGUT بواسطة الغشاء الفموي البلعومي BUCCO PHARYNGEALMEMBRANE.
 
وفي اليوم الثامن والعشرين تظهر حويصلة العين كامتداد من المخ المقدمي Forebrain، أما في اليوم الثلاثين ـ جنين ذو 28 كتلة بدنية ـ فتظهر حويصلة السمع OTIC VESICLE، كما يظهر في الفترة نفسها تقريبًا لوح قرص الشم OLFACTORY PLACODE، ويظهر في الفترة ذاتها الحبل السري وهو الذي كان في المرحلة السابقة (مرحلة العلقة) يعرف بالمعلاق CONNECTING STALK.
 
وفي هذه الفترة تكون الأوعية الدموية قد ظهرت بوضوح في الجنين، وفي خارج الجنين في الغشاء المشيمي CHORION والمعلاق CONNECTING STALK، ويتصل الأورطيان الظهريان في جهة صحيفة القلب الأولية التي تتحول إلى أنبوبة للقلب على شكل (S)، وسرعان ما تظهر الغرف المختلفة في القلب مكونة الأذينين ـ متصلتين دون فاصل ـ والبطينين ـ متصلين دون فاصل ـ وبصلة القلب BULBUS CORDIS وجيب القلب SINUS VENOSUS.
 
وفي نهاية هذا الأسبوع يتصل الأورطيان الظهريان ويكونان شريانًا واحدًا هو الأورطي الظهري، وتكون الدورة الدموية في الجنين تامة ومتصلة بالدورة المشيمية في رحم الأم، وبذلك يتمكن الجنين من أخذ غذائه من الأم.
 
وفي هذا الأسبوع يلتف الجنين حول محوره حتى يصبح عنق كيس المح ضيقًا، وبذلك تتحول القناة الهضمية إلى قسمين: أمامي FORGUT وخلفي  HIND GUT، وتقع القناة الهضمية الأمامية تحت القلب مباشرة، ويفصل فتحة الفم عن القناة الهضمية الغشاء الفموي البلعومي، ثم يلي ذلك الفتحة التي تصل ما بين طبقة الأنتودرم وكيس المح وهي تشكل الفتق السري.
 
ثم يليها من الجهة المؤخرية القناة الهضمية المؤخرية والتي تنتهي عند غشاء المذرقCloacal Membraneفي مؤخرة الجنين الذي يكون في قمة نموه، ويظهر في القناة الهضمية برعمي البنكرياس والكبد.
 
وفي هذه الفترة أيضًا تظهر حويصلة الإبصارVESICLE OPTIC كامتداد من المخ المقدمي ويظهر في الوقت نفسه حويصلة السمع.
 
وفي هذه الفترة أيضًا تظهر بداية الجهاز التنفسي كميزاب من قاع البلعوم، ثم تظهر القصبة الهوائية وبرعما الرئة.
 
أما الجهاز البولي فيظهر في كل مقطع وكتلة أنابيب أولية للكلى، وتظهر مع ظهور الكتلة البدنية؛ أي من جهة الرأس والعنق حتى تصل إلى مؤخرة الجنين وتتصل هذه الأنابيب ببعضها.
 
وفي نهاية هذا الأسبوع تكون أنابيب الكلى المتوسطة قد ظهرت، وفي الوقت ذاته تندثر الأنابيب الأوليةMESONEPHROS، وفي الأسبوع التالي تظهر بداية الأنابيب الأخيرة التي تشكل الكلى الحقيقية.
 
وفي كل مقطع وعاء دموي وأنابيب كلوية وعضلات وفقرة عظمية.
 
ومما تقدم يظهر بوضوح أن مرحلة الكتل البدنية تجعل الجنين يبدو وكأنه مضغة، وخاصة عند ظهور الأقواس البلعومية”([4]).
 
وهكذا يتبين أن الجنين في هذه المرحلة تظهر عليه كثير من الفلقات والشقوق التي يتكون منها جهازه الهيكلي من العضلات والعظام والجلد، وهذه الفلقات والشقوق تجعل الجنين في مظهره كأنه قطعة من اللحم ممضوغة، تظهر عليها آثار فك الماضغ من النتوءات والثنايا التي تمثلها هذه الفلقات والكتل، هذا وإن لم يكن الجنين في حقيقته قطعة من اللحم في هذه المرحلة، إلا أنه يشبهها في الشكل والهيئة.
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
 
لقد شغلت قضية خلق الإنسان العقل البشري منذ بداية هذه الخليقة بحثًا عن مبدأ الإنسان ومعاده، وما وراء هذا الخلق من أسرار وحكم، وخالق بديع.
 
ولهذا جاء القرآن الكريم بتفصيل كبير لمسألة خلق الإنسان، وبين بداية هذا الخلق؛ لأن الله خلق آدم أبا البشر من طين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وخلق منه حواء زوجته، ثم خلق نسله من اجتماع ماء الرجل وبويضة المرأة، كما فصّل القرآن المراحل التي يمر بها هذا الخلق في أرحام الأمهات؛ حتى يكتمل الإنسان خلقًا تامًّا في شيء من الإعجاز والدقة.
 
ومن هذه المراحل التي ذكرها القرآن الكريم في حديثه عن خلق الجنين مرحلة المضغة، تلك المرحلة التي يبدأ فيها تكون الجنين وخلق أجهزته وأعضائه المختلفة، قال تعالى:)يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم( (الحج: ٥)، وقال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا( (المؤمنون).
 
وهكذا يتحدث القرآن الكريم عن هذه السلسلة المترابطة في خلق الجنين ونموه وتطوره في مراحل متعاقبة حتى يصير خلقًا تامًّا في إعجاز باهر؛ فهذا هو الإنسان المخلوق من طين ثم من نطفة لا قيمة لها، ثم يأخذ في النمو والتطور ويأخذ خلقه حتى يصير ذلك الكائن المثالي العاقل المفكر المبدع، في صورته البديعة وخلقه المتكامل.
 
هذه هي الحقائق الإعجازية البينة في خلق الإنسان، تنطق بذاتها، وتدل بحقيقتها على عظم الخالق وإبداعه، وهي في الوقت نفسه حقائق علمية واضحة، توافق ما جاء به العلم الحديث في التعبير عن هذه المراحل من خلق الجنين ودقة الدلالة عن هذه المراحل وحقائقها دون شك أو لبس، إلا أن الطاعنين يحاولون ـ رغم هذا ـ الغض من هذا الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والنيل من هذه الحقائق البينة في خلق الإنسان، ولا يروق لهم هذا البيان المعجز للقرآن الكريم في حديثه عن الخلق وغيره من الحقائق العلمية، فيزعمون أن القرآن قد قصر عن التعبير بدقة عن مراحل خلق الجنين، وخالف فيها العلم الحديث وحقائقه، هادفين من وراء ذلك إلى نفي الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم وإثبات قصوره عن حقائق العلم الحديث.
 
إلا أن هذا الزعم يذهب سدى مع التحقيق العلمي المنصف لمسائل خلق الجنين وغيرها، فلا يثبت لدينا أي خلاف بين العلم الحديث وما أشارت إليه آيات القرآن، بل يتبين الاتفاق التام بينهما.
 
فلقد ذكر القرآن الكريم المضغة باعتبارها مرحلة يمر بها الجنين في طريق خلقه وتكوينه، وتأتي هذه المرحلة حسب الترتيب القرآني بعد مرحلة العلقة التي يعلق فيها الجنين أو الكيسة الأريمية برحم الأم، ويتغذى من دمائها ويتصل بها اتصالًا مباشرًا، ثم يتحول الجنين من هذه الخلايا المتعددة إلى ظهور الكتل البدنية والتي تمثل أجهزة الجنين وعضلاته وجلده ويتكون منها الجهاز الهيكلي والعضلي، وهي نقلة سريعة بين المرحلتين، كما تظهر على الجنين في هذه المرحلة مجموعة من الشقوق من جهة الرأس وفي الأقواس البلعومية، وتتعدد الكتل البدنية وتتوالى في الظهور على كل جانب من محور الجنين، ويبلغ عددها عند اكتمالها من 42 إلى 45 كتلة على كل جانب من القمة إلى المؤخرة، وهذه الكتل والشقوق والأقواس تجعل الجنين على هيئة المضغة، أو المادة التي لاكتها الأسنان، وظهرت عليها طبعات فم الماضغ، وهذا المصطلح يعبر بدقة عن هيئة الجنين في هذه المرحلة وحقيقته، ولعل هذا المصطلح في وصف هذه المرحلة هو أنسب المصطلحات وأفضلها للتعبير عن الجنين وحقيقة خلقه وهيئته.
 
وهذا ما تبينه الدلالات اللغوية لهذا اللفظ، وتفسير الآيات القرآنية التي تدل على هذه المرحلة.
 
 من الدلالات اللغوية وأقوال المفسرين في الآية الكريمة:
 
جاء لفظ مضغة في المعاجم العربية دالًّا على المادة التي لاكتها الأسنان، وكذلك على صغار الأشياء؛ فقد جاء في لسان العرب: “مضغ: مَضَغَيَمْضَغويَمْضُغمضغًا: لاك… والمضغ: جمع مضغة، وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ… ومُضُغ الأمور: صغارها”([5]).
 
وكذلك جاء هذا المعنى عند المفسرين؛ حيث ذكروا أن المضغة قطعة من اللحم قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط؛ فقد جاء في تفسير ابن كثير عن المضغة: “هي قطعة كالبضعة من اللحم لاشكل فيها ولا تخطيط”([6]).
 
وجاء في تفسير القرطبي: “وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ”([7]).
 
وهكذا تتفق المعاني اللغوية والتفسيرية لكلمة “مضغة” في الدلالة على القطعة الصغيرة من اللحم الممضوغ، والتي لا شكل لها ولا هيئة سوى دلالة مظهرها وهيئتها على المضغ، وهذا ما أوضحته الدلالات العلمية، بأن الجنين في مرحلة المضغة هو عبارة عن قطعة صغيرة جدا تظهر كالمادة التي طبعت عليها آثار المضغ.
 
فالجنين بعد تحوله من مرحلة العلقة مباشرة يأخذ شكله في التغير إلى مرحلة جديدة يظهر عليها علامات عديدة من التثني والنتوء؛ نتيجة الكتل البدنية والأقواس البلعومية، فيظهر كأنه قطعة ممضوغة.
 
وقد رأينا في مرحلة العلقة أن الجنين أصبح يشبه العلقة في مظهره من جراء تطاوله، وتثلمه، وظهور بعض الفلقات فيه، وخط طولي في وسطه، ولكن سرعان ما يفقد هذا المظهر بعد أن ينحني رأسه وذيله اتجاه بطنه في اليومين الرابع والعشرين والخامس والعشرين، وبعد أن ينطوي جانبا الجنين على نفسيهما؛ فيفقد الجنين مظهر العلقة.
 
ومما يساهم في ذلك أيضًا هو أن الساق الموصلة (CONNECTINGSTALK) التي كانت تميز الجنين على أنه علقة تتحول إلى حبل سري؛ فهذه الساق التي كانت تلتصق بالجنين وكيس المح عند ذيل الجنين، ما تلبث أن تهاجر وتلتحق بالمعي الأوسط الذي تخلق من جهة بطن الجنين، فتنتفي صورة الساق الموصلة، ويفقد الجنين بذلك آخر عامل يربطه بصورة “العلقة”.
 
وبعد، تتكاثر الفلقات التي تتكون في مرحلة العلقة حتى يبلغ عددها نهاية الأمر 42: 44 فلقة، يظهر بينها فراغات وأخاديد، وتكون بذلك أبرز علامات هذه الفترة، وتظهر أولى هذه الكتل من جهة الرأس، ثم يتوالى ظهورها تباعًا من الرأس إلى مؤخرة الجنين وفق جدول زمني دقيق للغاية، حتى إنه يمكن معرفة عمر الجنين بمعرفة عدد الكتل البدنية كالآتي:
 
العمر بالأيام
 
 
 
عدد الكتل البدنية
 
 
 
 
20 – 21
 
 
 
1-3
 
 
 
 
22-23
 
 
 
4-12
 
 
 
 
24-25
 
 
 
13-20
 
 
 
 
26-27
 
 
 
21-29
 
 
 
 
28-30
 
 
 
30-35
 
 
 
 
31-35
 
 
 
36-42 (أو 44)
 
 
 
 
نرى في الصورة جنينا في أسبوعه الرابع والنصف، وقد بدت عليه “الفلقات” (Somites)، وهي تبدو وكأنها وجبة أسنان مضفية على الجنين مظهر المضغة كما تشير إليه الآية)فخلقنا العلقة مضغة(
 
(المؤمنون: 14)
 
نرى في الصورة كيف أن الأقواس البلعومية ظهرت في جنين عمره 28 يومًا مؤكدة مظهر المضغة
 
 
 
وليست الكتل البدنية وحدها السبب في تسمية هذه المرحلة بالمضغة، فهناك تفاصيل أخرى ـ وإن كانت دقيقة ـ تجعل تسمية المضغة ملائمة للجنين؛ فبالإضافة إلى الكتل الخارجية الظاهرة للعين، هناك أيضًا كتل داخلية تعرف باسم: القطع البدنية (METAMERES)، يتكون بداخلها أنابيب بدائية للكلى (PRONEPHROS)، تظهر مع ظهور الكتل البدنية في جهة الرأس والعنق، وتمتد إلى مؤخرة الجنين (CAUDAL PORTION)، في خط مواز للكتل الخارجية، وكأن هذه الكتل تولدت تحت وطأة مضغ الأسنان للجهة الخارجية، فأصبح لدينا إلى جانب آثار الطبع الخارجية آثار طبع داخلية مرادفة لها، هذه الكتل، إلى جانب التفاصيل الأخرى التي ذكرناها سابقًا، تجعل وصف المضغة دقيقًا كل الدقة، بارعًا كل البراعة في وصف تلك المرحلة.
 
ومن الجدير بالذكر أن وصف الله سبحانه وتعالى للجنين بأنه مضغة في هذه الفترة يشير إلى أن الجنين طريًّا بالغ الطراوة؛ فالقطعة التي يلوكها الفم طرية، وخصوصًا بعد مضغها، وإذا ألقينا نظرة إلى المادة التي يتألف منها الجنين في فترة المضغة، نرى أنها مؤلفة من أنسجة تسمى: أنسجة ميزانكيمية (MESENCHYMAL TISSUES)، وهي كما يصفها العلماء “أنسجة منتظمة برخاوة”، وهذه الطراوة مهمة حتى ينطوي الجنين على نفسه في مختلف النواحي، وهذا يشير إلى معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الفترة تتطلب رخاوة لدى أنسجة الجنين حتى يستطيع أن يتشكل، وخصوصًا أن النصين القرآنيين: )ألم يك نطفة من مني يمنى (37) ثم كان علقة فخلق فسوى (38)( (القيامة)، و)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا(  (المؤمنون) يشيران إلى أن الجنين يستقيم في المرحلة التي تلي مرحلة المضغة من جراء تصلبه؛ مما يدل على أنه كان رخوا قبل ذلك.
 
ومن العوارض التي تظهر عند الجنين في هذه الفترة، والتي تجعل تسمية “المضغة” تنطبق عليه:
 
تبدو فلقات الجنين وكأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها ـ وذلك للتغير السريع في شكل الجنين ـ ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة؛ فالجنين يتغير شكله الكلي، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى.
 
وكما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث فيها تغضُّن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تمامًا.
 
تتغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله مع تكون أنسجة جديدة، ويشبه ذلك التغير وضع المادة وشكلها حينما تلوكها الأسنان، فيدور الجنين ويتقلب في جوف الرحم كما تدور القطعة الممضوغة في جوف الفم([8]).
 
وأيضا ينطبق معنى الشيء الصغير للفظ المضغة على حجم الجنين في هذه المرحلة؛ حيث إن طول الجنين في نهاية هذه المرحلة يبلغ حوالي 1سم، وهو حجم صغير جدًّا كما يشير إليه معنى كلمة “مضغة”.
 
وعلى هذا فإن إطلاق مصطلح المضغة على الجنين في هذه المرحلة يفي تمامًا ويعبر بدقة عن طبيعة هذه المرحلة في خلق الإنسان، وهذا من الإعجاز البيِّن للقرآن الكريم في وصف خلق الجنين، وهذا ما وضحه العلم الحديث وكشف عن أسراره.
 
3)  وجه الإعجاز:
 
لقد عبر القرآن الكريم بدقة متناهية وإعجاز بليغ عن مرحلة “المضغة”، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الجنين في التكون والتطور، وتظهر عليه الكتل البدنية التي تمثل أعضاءه وعضلاته وعظامه، وهذا المصطلح يدل على هذه المرحلة دلالة واضحة بيِّنة، ويفي بالدلالة عليها بدقة؛ فلفظ المضغة يدل على المادة الممضوغة التي لاكتها الأسنان.
 
وهذا ما أكده العلم الحديث وبينه بوضوح؛ حيث أكد العلماء على أن الجنين في هذه المرحلة يمر سريعًا بمجموعة من التطورات في الهيئة والمظهر؛ حيث تظهر على الجنين مجموعة من الكتل البدنية والتي يبلغ عددها عند اكتمالها ما بين 42، 44 كتلة، وينحني رأس الجنين وتتميز الأقواس البلعومية؛ مما يجعل مظهره في حالة من التثني والتغضُّن والانتفاخ، وهي الهيئة نفسها التي تأخذها صورة المادة الممضوغة، والتي طبعت عليها أسنان الماضغ، وأيضًا فالجنين في هذه المرحلة لا يزيد حجمه عن 1 سم؛ مما يجعل لفظ المضغة يدل دلالة واضحة ومعجزة عليه في هذه المرحلة، بما لايقوم به لفظ آخر، وهذا إعجاز علمي بيِّن للقرآن الكريم في وصف هذه المرحلة.
 
 
 
(*) الرد على الإعجاز العلمي حول التكوين الجنيني في القرآن، د. محمد السوري، مقال منشور بموقع: مع اللادينيين والملحدين العرب www.ladeenion1.blogspot.com.
 
[1]. في حوالي اليوم الخامس عشر من عمر النطفة الأمشاج تبدأ حزمة من خلايا الطبقة العليا للقرص الجنيني في الترتيب على هيئة خط طولي يُعرف باسم الشريط الابتدائي أو الأولي (the primary or prelimitivestreak)، وباستطالة هذا الشريط الابتدائي بإضافة خلايا جديدة عند نهايته الخلفية، تتضخم نهايته الأمامية على هيئة ما تُعرف باسم العقدة الابتدائية، وفي الوقت نفسه يتكوَّن على الشريط الأولي انخفاض أولي ضيق يستمر إلى حفرة ضئيلة في العقدة الابتدائية تعرف باسم الحفرة الابتدائية.
 
[2]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص322، 323.
 
[3]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص211، 212.
 
[4]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص253: 255.
 
[5]. لسان العرب، مادة: مضغ.
 
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.
 
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج12، ص6.
 
[8]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص290: 294.   
دعوى خطأ القرآن في إخباره بأسبقية خلق العظم على خلق اللحم
 
مضمون الشبهة:
 
يزعم الطاعنون خطأ القرآن في إخباره بأسبقية خلق العظم على اللحم في قوله تعالى:)فكسونا العظام لحمًا ((المؤمنون: ١٤)؛ قائلين: إن العلم الحديث قد أثبت أن العظم واللحم قد تكونا معًا بالتوازي وليس عظم قبل لحم، كما أن ما ذكره القرآن الكريم يتعارض مع ما جاءت به السنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مر ثنتان وأربعون ليلة على نطفة بعث الله إليها ملكًا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها…».
 
هذا بالإضافة إلى أن الحديث لم يأت بجديد في هذا الصدد؛ فالتوراة قد ذكرت تلك المراحل ـ التي ذكرها الحديث ـ في سفر أيوب الذي كتب منذ أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد.
 
وجها إبطال الشبهة:
 
1)   أثبت العلم الحديث صحة ما ورد بالقرآن الكريم بخصوص أسبقية خلق العظم على اللحم، وقد شهد بذلك أشهر علماء الأجنة أمثال الدكتور “كيث مور”، صاحب أشهر كتاب في علم الأجنة: (The Developing human)؛ إذ يقول في كتابه ما يؤكد صحة القرآن:
 
During the seventh week‚ the skeleton begins to spread throughout the body and the bones take their familiar shapes. At the end of the seventh week and during the eighth week the muscles take their positions around the bone forms.
 
وترجمة هذا: أثناء الأسبوع السابع يبدأ الهيكل العظمي بالانتشار خلال الجسم، وتأخذ العظام أشكالها المألوفة، وفي نهاية الأسبوع السابع وأثناء الأسبوع الثامن، تأخذ العضلات موقعها حول تكوينات العظام.
 
2) لا تعارض بين الحديث الشريف: «إذا مر ثنتان وأربعون ليلة على النطفة…» والقرآن الكريم فيما يخص مسألة ترتيب مراحل الخلق؛ إذ إن الحديث لم يلتزم الترتيب في ذكره لمراحل الخلق؛ ذلك لأن الواو العاطفة الموجودة في الحديث، إنما هي لمطلق الجمع والمشاركة، ولا تفيد الترتيب، وعلى هذا تنتفي فكرة التعارض.
 
كما أن الترتيب الوارد في النص التوراتي: “يداك كونتاني وصنعتاني كلّي جميعًا…” ترتيب خطأ، وإن كان ظاهره يوحي بالتشابه مع ما أورده الحديث الشريف من ترتيب؛ ذلك لأن الفاء الواردة في النص التوراتي قد أفادت الترتيب والتعقيب، الأمر الذي حسم الموضوع، وأكد لنا خطأ هذا الترتيب وتعارضه مع ما أقره العلم الحديث.
 
أولا. إثبات العلم الحديث لأسبقية خلق العظم على خلق اللحم:
 
1) الحقائق العلمية:
 
أثبت العلم الحديث أن للجنين أطوارًا يمر بها([1])، ومن بين تلك الأطوار طورا العظام وكسوتها باللحم؛ فنجد العلم الحديث عند دراسته لتطور الجهاز الهيكلي([2]) يقرر أن هذا الجهاز الهيكلي يتخلق في جنين الإنسان في الشهر الثاني من العمر الجنيني، وينشأ هذا الجهاز من الأديم المتوسط (Mesoderm) وحصرًا من الكتل البدنية (جسيدات) (Somites) التي يبدأ ظهورها في الأسبوع الثالث من العمر الجنيني، والتي يتراوح عددها بين 40: 60 كتلة بدنية؛ إذ يكتمل تخلقها عند الإنسان في اليوم الأربعين من العمر الجنيني؛ أي بمعدل وسطي ثلاث كتل بدنية يوميًّا، وتنشأ الكتل البدنية من الخلايا الإنسية المنفصلة عن كتلة الخلايا الجانبية التي تنشأ أساسًا من الخيط الأوّلي (البدائي) (Primotive streak)؛ إذ تتشكل هذه الكتل الخلوية فتكون شريطين يمتدان على جانبي الأنبوب العصبي (Neuraltub)، ثم يبدأ هذان الشريطان بالانقسام؛ حيث يشكل كل شريط سلسلة متتالية من الكتل التي تسمى الكتل البدنية (جسيدات)، والتي تتوزع على النحو الآتي: 4 كتل بدنية قفوية، 8 كتل رقبية، 12: 18 كتلة صدرية، 5: 7 كتل قطنية، 3: 5 كتل عجزية، وتبدأ هذه الكتل بالانقسام في نهاية الشهر الأول من العمر الجنيني؛ حيث تنقسم كل كتلة بدنية إلى جزأين:
 
‌أ. جزء ظهري (وحشي) يشكل الكتل (القسيمات) العضلية (Myotomes) التي تتطور عن بعضها الكتل العضلية المتموضعة وحشيًّا، والعضلات فوق المحورية، وأدمة الجلد (Dermis)، بينما تتطور عن الكتل العضلية الأخرى الأرومات العضلية (Myoblasts).
 
‌ب. جزء بطني (أنسي) يشكل الكتل الصلبة (بضع الصلبة) (Sclerotomes) التي تتطور لتعطي أجزاء من الهيكل المحوري، وتساهم في تشكيل العمود الفقري، والغضاريف، والأرومات العظمية، وخلايا النسيج الضام([3])كما يتبين في الشكل الآتي:
 
رسم تخطيطي يوضح توزيع الكتل البدنية في جنين الإنسان
 
1.     الكتل البدنية.
 
 
 
2.     قسيمات عضلية.
 
 
 
3.     قسيمات أدمية.
 
 
 
 
4.     كتل صلبة.
 
 
 
5.     أوعية دموية.
 
 
 
6.     حبل ظهري.
 
 
 
 
7.     الأنبوب العصبي.
 
 
 
8.     نهاية رأسية.
 
 
 
9.     تكون الجهاز العصبي.
 
 
 
 
10 .   صفيحة عصبية.
 
 
 
11.  طيات عصبية.
 
 
 
12.      ميزاب عصبي.
 
 
 
 
13.  كتل بدنية.
 
 
 
14.     نهاية ذيلية.
 
 
 
 
 
والجدير بالذكر أن الكتل البدنية تبدأ بالاختفاء عند الإنسان في نهاية الأسبوع السادس من العمر الجنيني بسبب تمايز هذه الكتل إلى أنسجة أخرى أو هجرتها إلى أماكن أخرى.
 
تطور خلايا الكتل الصلبةSclerotomes:
 
تتكاثر خلايا الكتل الصلبة، وتشكل جزءًا من النسيج المتوسطي الجنيني Mesenchyme الذي تتحور خلاياه إلى عديد من الأشكال:
 
بعض الخلايا تتحور إلى خلايا أصلية ليفية تسمى أرومات ليفيةFibroblasts، وتساهم في تشكيل خلايا النسيج الضام.
بعض الخلايا تتحور إلى خلايا أصلية غضروفية([4])تسمى أرومات غضروفيةChondroblasts، وتساهم كذلك في تشكيل غضاريف الجسم.
بعض الخلايا تتحور إلى خلايا أصلية عظمية([5])تسمى أرومات عظمية Osteoblosts، وهي تشكل الكتل العظمية.
تطور النسيج الضامConnectiveTissue:
 
تنشأ كل أنواع النسيج الضام من النسيج المتوسطي (Mesenchyme) الذي يسمى بالنسيج الضام الجنيني (Embryonic Connective Tissue)، والذي ينشأ بشكل مبكر في الجنين؛ إذ ينشأ بعد تخلق الأدمات الجنينية الثلاث مباشرة، ويملأ الفراغات بينها، ويتكون هذا النسيج من مجموعة خلايا مغزلية ذات استطالات طويلة تسمى خلايا جنينية([6])، أو خلايا متوسطية  (Mesonchymal Cells)، وتتشابك استطالات هذه الخلايا فيما بينها مشكلة شبكة تتموضع فيها المادة بين الخلوية (Inter CellularSubstance) التي تنشأ في المرحلة الجنينية من ارتشاح البلازما الدموية إلى المسافات بين الخلوية، ويساهم في تكوينها إفرازات خلايا النسيج الضام التي تنشأ من تمايز الخلايا المتوسطية التي تتميز بقدرتها الفائقة على التحول إلى أشكال خلوية أخرى؛ لذلك تسمى هذه الخلايا المشكلة للبداءة النسيجية؛ حيث تنشأ جميع خلايا النسيج الضام نتيجة تحور هذه الخلايا وتمايزها الذي يبدأ بين الشهر الأول والثاني من العمر الجنيني عند الإنسان.
 
تطور الغضاريفCartilages:
 
يبدأ تشكل الغضاريف عند الإنسان في الأسبوع الخامس من العمر الجنيني، وينشأ النسيج الغضروفي ـ أسوة بكل الأنسجة الضامة الأخرى ـ من النسيج المتوسطي mesonchyme؛ حيث تتجمع الخلايا المتوسطية بعد أن تفقد استطالاتها في أماكن تشكل الغضاريف، مشكلة المراكز المولدة للغضروف (Centers Of Chondrification)، وتتحور الخلايا المتوسطية في هذه المراكز إلى أرومات غضروفية (Chondro Blasts) تقوم بإفراز بعض المواد التي تؤدي إلى تشكيل المادة الأساسية “المطرق” (Matrix)، والألياف المرنة والكولاجينية، ثم تتحور الأرومات الغضروفية إلى خلايا غضروفية (Chondro Cytes) تتكثف حولها المادة الأساسية على شكل محفظة خلوية.
 
أما سمحاق الغضروف([7]) (Perichondrium) فينشأ في المراحل الأخيرة من تشكل الغضروف؛ نتيجة تكثف الخلايا المتوسطية حول المراكز المولدة للغضروف. وحسب نوع الألياف الموجودة في المادة الأساسية “المطرق” (Matrix) وكميتها يتميز في الجنين ثلاثة أنواع من الغضاريف، وهي:
 
الغضروف الزجاجي(Hyaline cartilage)
الغضروف المرن(Elastic cartilage)
الغضروف الليفي  (fibro cartilage)
 
والجدير بالذكر أن هيكل الجنين في بداية تخلقه يكون ذا طبيعة غضروفية، وتشكل الغضاريف الزجاجية معظم هيكله، كما هو موضح بالشكل الآتي:
 
تطور النسيج العظمي(Bonetissue):
 
تتخلق العظام في المرحلة الجنينية من خلايا الأديم المتوسط (Mesoderm) وحصرًا من الكتل البدنية “جسيدات” (Somites) التي تنشأ في الأسبوع الثالث من العمر الجنيني من خلايا الأديم المتوسط في منطقة جار المحوري (Bara Axial)، ونتيجة لانقسام الجسيدات تعطي أقسامها البطنية الكتل الصلبة “بضع الصلبة” (Sclerotomes) فتتحور خلايا الكتل الصلبة لتعطي الأرومات العظمية (Osteo Blasts)، والتي تبدأ بالانقسام والهجرة إلى أماكن تشكل الكتل العظمية؛ حيث تقوم بإفراز إنزيم الفوسفاتيز الذي يؤدي إلى ترسيب أملاح الكالسيوم من الدم المحيط مما يؤدي إلى تعظم هذه الخلايا وتحولها إلى خلايا عظمية (Osteocytes) التي تحيط نفسها بالجويفات العظمية (Bone Lacunae)، وبذلك تتشكل كتل عظمية متكلسة.
 
والنسيج العظمي يتكون عمومًا من خلايا عظمية ومواد بين خلوية، وينشأ هذا النسيج من مصدرين هما:
 
نسيج متوسطي جنيني(MesenChyme):
 
يبدأ التعظم في هذا النسيج من المركز، وينتقل باتجاه المحيط، وهذا ما يسمى بـ “التعظم الغشائي” (OssificationIntraMembranous)؛ حيث تتمايز الخلايا المتوسطية (Mesenchymalcells) في المركز إلى أرومات عظمية تسمى “أرومات العظم” (Osteoblasts)، وتتموضع بين هذه الخلايا المادة الأساسية التي تدمج بمادة العظمين، ومن ثم تتحول الأرومات العظمية إلى خلايا عظمية، ونتيجة ترسب أملاح الكالسيوم من الدم المحيط تتشكل في المادة الأساسية الألياف العظمية كما تترسب على سطوح الخلايا العظمية مشكلة الجويفات العظمية (Bone Lacunae)، وتتعظم بهذه الطريقة عظام الجمجمة والوجه.
 
2.نسيج غضروفي (Cartilaginons Tissu):
 
يعتبر النسيج الغضروفي المصدر الثاني للنسيج العظمي، حيث يحدث التعظم في هذه الحالة داخل النسيج الغضروفي، الذي يتخلق في الجنين قبل النسيج العظمي، ويسمى هذا التعظم بالتعظم الغضروفي ((Cartilaginous Ossification، ويحدث هذا التعظم نتيجة تحور الخلايا الغضروفية إلى أرومات عظمية ((Osteoblasts تحيط بها المادة الأساسية للغضروف (مطرق) (Matrix)، ثم ترشح إلى هذه المادة أملاح الكالسيوم، وبالتالي تتحول المادة الأساسية للغضروف إلى مادة أساسية عظمية، وتتشكل الصفائح العظمية (BoneIaminae)، ومن ثم تتحول الأرومات العظمية إلى خلايا عظمية ((Osteocytes.
 
إن العظم المتشكل بهذه الطريقة يكون في بداية الأمر غير كامل التعظم؛ لأنه يحتوي في مركزه على بعض الأجزاء الغضروفية المتبقية، كما أنها تقوم بتحطيم بعض الصفائح العظمية، مما يساهم في تشكيل القناة النقوية التي تملأ بنقي العظام (Bone Marrow).
 
ومن الجدير بالذكر أن معظم عظام الجسم تتعظم بطريقة التعظم الغضروفي؛ لأن هيكل الجنين يتكون أساسًا من الغضاريف([8]).
 
وقد صرح علماء الأجنة أن في الأسبوعين الخامس والسادس تبدأ المرحلة الغشائية، ويظهر النسيج السابق للعظام، وفي أواخر الأسبوع السادس تأتي المرحلة الغضروفية، ثم تظهر في الأسبوع السابع أماكن تمعظم في أقواس الفقرات، وتبدأ الأضلاع ـ عندئذٍ ـ تظهر، وتتكون العضلات حول العظام وتكسوها باللحم.
 
وبالتوفيق بين ما اكتشفه العلم الحديث وعلم الأجنة فإن العظام تنقسم إلى قسمين هما:
 
العظام الغضروفية:وهي التي تتكون من الغضاريف أولًا، ثم تمتلئ بالعظام تدريجيًّا.
عظام غشائية:وهي التي كانت نسيجًا من الغشاء ثم بني عليها العظم دون أن تسبقه مرحلة نشوء الغضاريف، وبين مرحلة اللحم؛ إذ وجد علم الأجنة أن في الأسابيع الخامس والسادس والسابع تحدث أحداث جسام في الجنين، وقد اكتشف أن أهم ما يميز هذه المرحلة هو تحويل الكتل البدنية إلى عظام، فتظهر براعم الأطراف في بداية الأسبوع الخامس، ويسبق الطرف العلوي الطرف السفلي ببضعة أيام، ويحتوي البرعم الطرفي في أول الأمر على خلايا غير مميزة، ثم تتكشف في الأسبوع السادس وتتحول إلى خلايا غضروفية، وتبدأ هذه الخلايا بإفراز النسيج الغضروفي مكونة بذلك عظام الأطراف، وهي العضد والزند والكعبرة في الطرف العلوي، وعظمة الفخذ وقصبة الساق والشظية في الطرف السفلي، كما يتكون بذلك رسغا اليد والقدم، وسلاميات أصابع اليدين والقدمين([9]).
 
جنين في الأسبوع السابع وبداية ظهور الفقرات الغضروفية
 
جنين في الأسبوع الخامس (35 يوما منذ بدء التلقيح)، الرأس والعين واضحتا المعالم، والأطراف العلوية والسفلية تبدو وكأنها مجاديف أو زعانف، ومع هذا فإن البداية الأولى لليد والأصابع تبدو من خلال الصورة باهتة، ولكنها عما قريب ستكون واضحة
 
وهذا ما نجد الدكتور “كيث مور” يؤكده؛ إذ يقول:
 
During the seventh week‚ the skeleton begins to spread throughout the body and the bones take their familiar shapes. At the end of the seventh week and during the eighth week the muscles take their positions around the bone forms.
 
وترجمة هذا: أثناء الأسبوع السابع، يبدأ الهيكل العظمي بالانتشار خلال الجسم، وتأخذ العظام أشكالها المألوفة، وفي نهاية الأسبوع السابع وأثناء الأسبوع الثامن تأخذ العضلات موقعها حول تكوينات العظام([10]).
 
وكذلك أثبت علم الأجنة أن خلايا العظام هي التي تتكون أولًا في الجنين، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وهذا ما نجد صاحب كتاب: “علم الأجنة الطبي” (Medical Embryology)يصرح به؛ إذ يقول: وتظهر هذه العضلات لتكسو العظم في الأسبوع السادس والسابع ـ منذ بدء التلقيح ـ بينما تظهر العظام ذاتها في الأسبوع الخامس والسادس، ويقول أيضًا: وهكذا نرى الأسبوع الرابع (21: 30) مخصصًا لظهور الكتل البدنية، والأسبوع الخامس والسادس لتحول الكتل البدنية إلى قطاع عظمي وعضلي، والأسبوع السادس والسابع لتكسى العظام بالعضلات([11]).
 
صورة رائعة للأرجل والأقدام… الدماء تغذي العظام التي تبدو قانية… تزحف العظام على الغضاريف فتترسب في مكانها بعد أن تقوم بامتصاص الغضروف. هذا الجنين يبلغ من العمر أربعة أشهر، وأرجله لا تكف عن الحركة، ومع ذلك فإن الأم لا تحس بها إلا في نهاية الشهر الرابع من الحمل، وإذا كانت خروسًا (بكرية) فإنها تحتاج إلى عشرة أيام أخرى قبل أن تتأكد من حركات الجنين
 
وبهذا يتضح لنا مما سبق أن تكوين العظام يسبق تكوين العضلات، ثم كسوة هذه العظام بالعضلات.
 
2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه القرآن الكريم:
 
حتى وقت قريب كان يعتقد أن العظام والعضلات يظهران معًا وينموان معًا، إلا أن بعض الناس قد زاد فقال: إن العضلات تتكون قبل تكون العظام، غير أن البحوث الأخيرة لعلم الأجنة قد أظهرت حقيقة مختلفة تمامًا لم ينتبه إليها أحد، وهي أن نسيج الغضاريف في الجنين يتحول إلى عظام أولًا، ثم يتم اختيار خلايا العضلات من الأنسجة الموجودة حول العظام لتتجمع هذه الخلايا وتلف العظام، وهذه الحقيقة العلمية التي كشفها العلم حديثًا قد أخبرنا بها ربنا عز وجل في القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام؛ إذ يقول في كتابه الكريم: )وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا( (البقرة: 259)، وقال: )فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)((المؤمنون).
 
وهذه الحقيقة العلمية التي وردت في هذه الآيات منذ قرون يتم شرحها في كتاب علمي حديث بعنوان: “نشوء الإنسان” (Developing Human) للعالم الشهير “كيث مور”، ويتضح مدى تطابقها مع ما وصل إليه العلم الحديث من اكتشافات تخص الجنين وتكونه.
 
ولكن مع ما أثاره الطاعنون بخصوص هذا الموضوع ـ أيهما خلق قبل الآخر: العظم أم اللحم؟ ـ وجب علينا أن نفند ما ظنوه دليلًا على ما ذهبوا إليه من: خلق اللحم قبل العظم؛ وذلك إيضاحًا للحق ودرءًا لأي شكوك قد تنتاب فؤاد المرء، من أجل ذلك كان لزامًا علينا معرفة ما اتخذه المدلسون مدخلًا لإضلال الناس.
 
فيقولون: إن النساء منذ العصر الحجري ترى الجنين الساقط في فترات مبكرة من الحمل على هيئة خثرات دموية ـ قطعة لحم ـ خالية من أي عظام، ومن هنا كان اعتقادهم بأسبقية خلق اللحم على العظم، وما ذكروه هو حق أريد به باطل؛ إذ تناسوا سؤالًا مهمًّا كان من الواجب أن يطرحوه على أنفسهم، وهو: ما هو حجم الجنين في مراحل الحمل الأولى؟ فلو كلفوا أنفسهم البحث عن الإجابة؛ لاتضح لهم خطأ ما ذهبوا إليه؛ فمن اليوم الأول للحمل وحتى نهاية الأسبوع الثالث لو حدث إجهاض فلا يمكنك أن ترى جنينًا، ولا حجمًا يمكنك أن تقول عليه لحمًا سوى المشيمة التي تتكون في الأسبوع الثاني، أما في الأسبوع الرابع فيكون حجم الجنين فيه 4 مليمتر؛ أي أقل من نصف سنتيمتر، وهذا معناه أنه لو حدث إجهاض في نهاية الشهر الأول، فإن السيدة التي أجهضت ونزل حملها لن تستطيع أن ترى جنينًا كاملًا أيضًا، وما تراه ـ عندئذٍ ـ من قطعة لحم ما هو إلا المشيمة وشيء ضئيل من الحبل السري، وفي الأسبوع الخامس يكون حجم الجنين 8 ملييمترات؛ أي أقل من سنتيمتر واحد، ويكون حجم الجنين في الأسبوع السادس 13 ملييمتر، ويكون في الأسبوع السابع 18 ملييمتر؛ أي أقل من 2سنتيمتر، أما الأسبوع الثامن فيكون حجم الجنين فيه 30 ملييمتر؛ أي 3 سنتيمترات([12])، وهذا مع العلم أن الجنين في الأسبوع الثامن يكون قد تكون بالفعل وأصبح مميز الشكل، ولكن عين المرأة الناظرة إلى الجنين الساقط تقول: إنه قطعة لحم ـ على الجنين كله ـ رغم اكتمال تكوينه في المرحلة الجنينية (Embryonic Stage)؛ وذلك لصغر حجمه إذ يبلغ 3 سنتيمتر، والسؤال الآن: هل الحكم يكون لعين المرأة الناظرة له ـ العين المجردة ـ أو يكون للواقع والحقيقة التي لا تدركها العين المجردة، وإنما بواسطة المجهر الضوئي وعلم التشريح وعلم الأنسجة؟ فما تحدث عنه القرآن لم تثبته العين المجردة ـ الملاحظة العادية ـ ولكن تم إدراكه كما أخبرنا آنفًا على المستوى البحثي من علم التشريح وعلم الأنسجة والموجات الصوتية التي تتتبع نمو الجنين في المراحل المختلفة، وهذا قمة الإعجاز؛ إذ لم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدوات تشريح، ولا أتيح له عدد من الأجنة التي تنزل في مراحل مختلفة عند إجهاض النساء، ليقوم بعمل تشريح للأنسجة ودراستها، وعمل شرائح ووضعها تحت ميكروسكوب، ولا كان لديه ـ أيضًا ـ موجات صوتية، فسبحان الله العظيم؛ فلو كان الأمر مبنيًا على رؤية العين المجردة لما كان هناك جديد، فضلًا عن أن يكون هناك إعجاز.
 
نأتي لقضية أخرى قد أثارها الطاعنون وهي الترتيب الوارد في قوله تعالى:)فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)((المؤمنون)؛ إذ يقولون: إن الترتيب فيها ترتيب عكسي للأحداث، لا يتفق مع علم الأجنة في شيء.
 
ومن المعلوم أن رأيهم هذا مبني على زعمهم الخطأ بأسبقية خلق اللحم على خلق العظم؛ إذ إن علم الأجنة الحديث قد توصل مؤخرًا إلى الترتيب الذي ذكره القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام في مسألة خلق العظم قبل اللحم؛ فقد قال بهذا الترتيب كبار علماء الأجنة أمثال: “تاجاتات تاجاسون”([13])، والبروفيسور “مارشال جونسون”([14])، وكذلك عالم الأجنة الشهير “كيث مو”.
 
وإذا ذهبنا وتأملنا ما ورد في تفسير آيات القرآن الكريم، نجد مثلًا ما قاله ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:)فخلقنا المضغة عظامًا((المؤمنون:14) “يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها”([15])، وقال الشوكاني: “أي جعلها الله سبحانه وتعالى متصلبة؛ لتكون عمودًا للبدن على أشكال مخصوصة”([16])، وقال الألوسي: “وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظامًا من المضغة، وهذا تصيير بحسب الوصف، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها”([17])، ثم يبدأ الجنين الطور الأخير من التخليق، وهو طور كساء العظم باللحم، وفي هذا الطور يزداد تشكل الجنين على هيئة أخص؛ فنجد ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: )فكسونا العظام لحمًا( (المؤمنون:14)،يقول: “أي جعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه”([18])، وقال الشوكاني: “أي أنبت الله سبحانه وتعالى على كل عظم لحمًا على المقدار الذي يليق به ويناسبه”([19]).
 
وهذا يتوافق مع ما ثبت في علم الأجنة ـ كما ذكرنا ـ من أن العظام تخلق أولًا ثم تكسى بالعضلات في نهاية الأسبوع السابع وخلال الأسبوع الثامن من تلقيح البويضة؛ حيث تكون جميع الأجهزة الخارجية والداخلية قد تشكلت، ولكن في صورة مصغرة ودقيقة، وبنهاية الأسبوع الثامن تنتهي مرحلة التخليق، والتي يسميها علماء الأجنة بالمرحلة الجنينية، هذا وقد أكد علم الفحص بأجهزة الموجات فوق الصوتية أن جميع التركيبات الخارجية والداخلية في الشخص البالغ تتخلق من الأسبوع الرابع وحتى الأسبوع الثامن من عمر الجنين.
 
وبالرجوع إلى جميع كتب التشريح في العالم لا تجد خلافًا حول حقيقة أن لكل عضلة في جسم الإنسان منبتًا تنبت منه، ومكانًا تغرس فيه، ولا خلاف في جميع المراجع العلمية على أن هذا المنبت هو منبت عظمي، وكذلك المغرس يكون في العظام، فكيف تنبت العضلة قبل خلق المنبت؟!
 
وتفريعًا على الطعن السابق يضيف الطاعن طعنًا آخر مؤداه أن القرآن عندما تحدث عن طور المضغة ثم تحولها إلى عظام نجده قد عبر بمصطلح العظام، في حين أن العلم الحديث أثبت أن العظام لم تكن قد اكتملت في ذلك الوقت، وإنما تكون على هيئة غضاريف، فالعمود الفقري يكون كله غضروفيًّا، ثم تتحول هذه الغضاريف إلى عظام ناضجة، كما أن هذه الغضاريف لا تتحول كلها إلى عظام، ولكن منها ما يتحول إلى عضلات؛ ومن ثم فإن التعبير القرآني تعبير غير صحيح.
 
وردًا على ذلك نقول: إن المسألة برمتها تدور حول اللغة، فالطاعن ليس على إدراك كامل بلغة القرآن، وهي لغة العرب، كما أن المسألة في طرف منها تخص قضية المصطلح في حد ذاته، فلماذا لا يكون الغضروف عظمًا في قوله تعالى: )فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا((المؤمنون:14) ، وذلك على اعتبار ما سيكون؛ كقول الساقي: )إني أراني أعصر خمرًا( (يوسف: 36)؛ إذ يمكن في لغة العرب، وهي لغة القرآن إطلاق اسم العضو في مراحل نموه قبل النضج التام، وكذلك إطلاق الثمرة للدلالة على الشجرة؛ ونقول كذلك: روينا الزيتون سواء كان الري في وقت طرح للزيتون، أو في وقت خلو الشجرة منه، هذا من ناحية.
 
ومن ناحية أخرى فإن الغضروف مرحلة من مراحل نمو العظام؛ فهي تكون غضروفًا أولًا، ثم تتحول إلى عظام، فالتركيب النسيجي للغضاريف التي تتحول إلى عظام هو نفسه للغضاريف التي تتوقف عند مرحلة الغضروف مع زيادة في نسبة الكولاجين فيها، أما في باقي التكوين فهو نفسه دون زيادة.
 
ولو أن الطاعن كلف نفسه مطالعة لسان العرب أو أي معجم لغوي، لوجد أن الغضروف هو كل عظم رخص لين في أي موضع كان.
 
فببساطة شديدة الغضاريف في لغة العرب هي عظام، ولكنها لينة، وعندما يقول سبحانه وتعالى: )فخلقنا المضغة عظامًا( (المؤمنون:14)، فهذا صحيح لما بيناه، وقد يكون السبب في كون الله عز وجل لم يحددها بأنها غضاريف أن الجسم لا يكون كله عظمًا لينًا قبل نشوء اللحم؛ فعظام الترقوة تبكر في النضج قبل بناء العضلات فتكون عظمًا وليس غضروفًا، فاللفظ القرآني إذًا لفظ عام؛ إذ ليس مهمة القرآن أن يحدد درجة لين تلك العظام خاصة وأن بعضها لا يتصلب ويظل عند مرحلة الغضروف، وبعضها ينضج ويكون عظمًا قبل بناء اللحم، وكذلك فإن مصطلح الغضروف لا يعبر عن العظم، ولكن مصطلح العظام يعبر عن الغضاريف([20]).
 
وعلى هذا يكون إطلاق القرآن الكريم واستخدامه لمصطلح العظام هو الذي يعبر عن هذه المرحلة من حياة الجنين تعبيرًا دقيقًا؛ فكلمة عظم تشير في اللغة العربية إلى ما هو قوي وشديد، قال ابن فارس: “العين والظاء والميم أصل واحد يدل على كبر وقوة، فالعظم مصدر الشيء العظيم، وعظمة الذراع مستغلظها… ومن الباب: العظم معروف وسمي بذلك لقوته وشدته”([21]).
 
وشدة العظم شدة نسبية، فإذا قارنّا نسيج المضغة الميزانكيمي مع الغضروف، استنتجنا أن الغضروف أشد من النسيج الميزانكيمي؛ وذلك لأنه في نهاية المطاف نسيج متكثف، والتكثف أشد وأغلظ وأثقل من النسيج الميزانكيمي اللين، وهو أصلب منه، وبالتالي فالغضروف من الناحية اللغوية نوع من العظام.
 
وهكذا فإن الحقائق العلمية تتفق مع معاني ودلالات النص القرآني: )فخلقنا المضغة عظامًا( (المؤمنون:14)، بأن هيكلًا صلبًا يتولد في المرحلة التي تقع بعد مرحلة المضغة داخل النسيج اللين الذي يتألف منه الجنين.
 
وقد يتساءل البعض قائلا: إن العظام ـ في هذه المرحلة ـ لم يكتمل تطورها بعد، ولم تظهر في صورتها النهائية، فهل لنا أن نقول: إن العظام ظهرت قبل اللحم كما تشير إليه الآية: )فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا((المؤمنون:14)، والحال أن تمامها يتأخر إلى ما بعد طور العظام؟ وذلك أن نموذجًا غضروفيًّا يتكون، ومن ثم يتخلق اللحم، وأثناء كسو اللحم يتعظّم النموذج الغضروفي تدريجيًّا، نقول:
 
إن ذكر خلق المضغة عظامًا جاء مقرونًا بفاء الترتيب والتعقيب، وهذه الفاء توجه الأنظار إلى ابتداء الخلق وليس إلى صيرورته؛ فهي تقارن بين الطور الذي نتكلم عنه بالنسبة للطور الذي قبله، ومن ثم فإن خلق الغضروف هو بمثابة خلق عظام بالنسبة لطور المضغة، لا بالنسبة إلى الأطوار المتأخرة؛ حيث يكتمل تخلق العظام([22]).
 
وخلاصة القول: إن استعمال حرف الفاء في هذا الموضع للدلالة على (الترتيب والتعقيب)، الذي يسوقنا إلى أن ننظر إلى تخلق العظام بالنسبة للطور الذي سبقه، وتغيير الفعل من العام (خلق) إلى الخاص (كسا) للدلالة على التفصيل بعد الإجمال، واستعمال الترتيب والتعقيب مع التفصيل بعد الإجمال لعدم نفي تطور العظام، والإشارة إلى أن طورًا ثانيًا للعظام له مميزات خاصة يعقب طور تخلق العظام البدائي، وعدم ذكر نهاية خلق العظام على خلاف الأطوار التي سبقته، ووضع كلمة (عظام) في الآية في مكان يؤكد ابتداء تخلقها ولا ينفي مآلها من خلال المجاز باعتبار ما سيكون ـ نقول: إن ذلك كله يدل على براعة مطلقة تبلغ الغاية في البلاغة؛ إذ جاء الكلام مطابقًا للحقائق العلمية الغيبية في الخلق، والتكلم عنها بهذا الشكل يحتاج إلى مشاهدة، وفطنة عالية، وحضور ثاقب، وتمكن في اللغة العربية إلى أقصى درجاته([23]).
 
وهكذا تكون مطابقة الحقائق العلمية والدراسات الجنينية الحديثة مع ما ورد بالقرآن الكريم خير دليل على إعجازه، والسؤال الآن: من أخبر محمد بن عبد الله العربي الأمي بكل هذه الحقائق؟! ثم من كان يجرؤ من البشر في زمانه صلى الله عليه وسلم ،بل بعد زمنه بعشرة قرون ـ أن يحدد تاريخًا باليوم من عمر الجنين يفصل به  مثلًا بين مرحلتين مختلفتين تمام الاختلاف، بل يذكر فيه تفاصيل لم تعرف إلا بعد أبحاث مضنية شاقة، وبعد تقدم وسائل المعرفة واختراع المجاهر الدقيقة؟!
 
3)  وجه الإعجاز:
 
 لقد أثبت العلم الحديث أن العظام في تخلقها تسبق اللحم، وهذا ما أخبر به القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحماً((المؤمنون:14).          
 
وبهذا يتضح لنا مدى مطابقة العلم الحديث وما اكتشفه من حقائق ـ استغرقت عشرات السنين للوصول إليها ـ مع ما ورد بالقرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام، في زمن لم يعرف المجاهر والميكروسكوبات الدقيقة.
 
ثانيا. نفي التعارض بين السنة والقرآن في خلق العظم واللحم:
 
إن ما أثاره بعض الواهمين حول وجود تعارض بين آيات الذكر الحكيم والسنة النبوية فيما يخص مراحل تكوين الجنين ـ لهو زعم باطل، كما أن هناك أمرًا لافتًا للنظر، ومستفزًّا لقرائح الآخرين، وهو أن يدعي هؤلاء كذلك على العلم التجريبي، وهو علم قوامه الملاحظة والتجربة والبرهان، وليس مجرد حدس وتخمين، فلم نعد ندري؛ أهم أعلى من العلم الذي لا يطمئن إلى نتيجة إلا بعد جهود مضنية وأبحاث شاقة قد تأخذ عشرات السنين؟! أم ماذا يكونون؟! وفي نظرنا أن المسألة تنحصر في أحد احتمالين لا ثالث لهما، أولهما: أنهم عالمون يفقهون ويدركون ما لا يفقهه العلم ويدركه، والثاني: أنهم لا يعلمون عن ذلك العلم شيئًا.
 
إن الطاعن عند قراءته للأحاديث النبوية، وبخاصة حديث: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا فصورها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك…»([24])ـ نقول: إن الطاعن عند قراءته لهذا الحديث لاحظ من ظاهره تعارضه مع القرآن؛ إذ وجد القرآن يقول: )فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا((المؤمنون:14)، فمراحل تكون الجنين في الحديث تختلف عما في الآية الكريمة، وبخاصة طور العظم وكسوته باللحم، كما لاحظ الطاعن من ظاهر الحديث كذلك أن اللحم يخلق قبل العظم، بينما يحدث العكس في الآية الكريمة؛ إذ يخلق العظم قبل اللحم.
 
والرد على ما أثاره الطاعن سهل ميسور؛ فالمسألة برمتها تخص قضية مهمة من قضايا اللغة العربية، وتتمثل في دلالات الحروف ومعانيها، فقد كانت مقاصد كلام العرب ـ على اختلاف صنوفه ـ مبنيًّا أكثرها على اختلاف معاني حروفه، ولهذا فعند تأملنا للحديث الشريف، واستخراج مثل هذه الحروف، نجد أن بغيتنا موزعة بين حرفين هما: الفاء في (فصورها)، والواو العاطفة، فماذا إذًا أفادت هذه الحروف؟
 
لقد ذهب العلماء ـ ومنهم ابن مالك ـ إلى أن الفاء تكون في بعض دلالاتها ـ وهي المقصودة هنا ـ للمهلة، وتكون بمعنى (ثم)، ومثال ذلك قوله تعالى: )ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63)((الحج)، وقد فسرت الآية على أن كلمة “فتصبح” معطوفة على محذوف تقديره: أنبتنا به، فطال النبت، فتصبح ـ آنذاك ـ مخضرة([25]).
 
فإذا ما قسنا هذه القاعدة على كلمة “فصورها” يتضح لنا أن هذه الكلمة؛ أولا بها إجمال ثم فصل بعدها، كما يتضح أن الفاء فيها للمهلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «بعث الله إليها ملكًا»؛ أي: بعثه بأمر ما، وهذا الأمر يتضح في كلمة “فصورها”، والتصوير هو الخلق المكتمل؛ مصداقًا لقوله تعالى: )في أي صورة ما شاء ركبك (8)((الانفطار). والخلق المكتمل لا يأتي دفعة واحدة، وإنما يمر بأطوار ومراحل شتى، وهذه الأطوار هي ما ذكرت بعد ذلك مفصلة بالحديث الشريف من خلق السمع والبصر والجلد واللحم والعظام، وبهذا يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجمل مراحل الخلق بهذه الكلمة لإبانة قدرة الله عز وجل، ثم ما لبث أن فصلها، تأكيدًا لقدرته عز وجل واعترافًا بها.
 
ونأتي لقضية أخرى هي ترتيب مراحل الخلق؛ فمراحل الخلق في القرآن كالآتي: النطفة، العلقة، المضغة، العظام، كسوة العظام باللحم، الإنشاء خلقًا آخر. وهذا ما أيده العلم الحديث وأثبت مدى مطابقته له، بينما نجد الحديث يذكر لنا مراحل الخلق كالآتي: السمع، البصر، الجلد، اللحم، العظام، ومن ظاهر الحديث قد يظن أن الترتيب قد اختلف عما في القرآن، إلا أن ذلك لم يكن اختلافًا، وتوجيه ذلك أمران:
 
أن الواو في الحديث الشريف هي الواو العاطفة، وقد ذهب جمهور النحويين إلى أنها للجمع المطلق، فإذا قلت قام زيد وعمرو، احتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكونا قاما معًا في وقت واحد، والثاني: أن يكون المتقدم قام أولا، والثالث: أن يكون المتأخر قام أولا، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء بعد شيء. كما أن الواو تنفرد في العطف بأمور منها: باب المفاعلة والافتعال، نحو: تخاصم زيد وعمرو، واختصم زيد وعمرو، وهذا أحد الأدلة على أنها لا ترتب([26]).
 
نخلص من هذا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه لم يلتزم الترتيب؛ فإذا ما سألنا ـ مثلا ـ شخصًا ما عمن حضر اليوم إلى الاجتماع، فسيقول: أحمد ومحمد ومحمود، فهل ذلك يعني أن أحمد هو من حضر أولًا؟ وهل يلزم أن يكون محمود هو آخر من حضر؟! إلا أن الموضوع في نهاية المطاف يفيد أنهم جميعًا قد حضروا.
 
استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لخصيصة من خصائص اللغة العربية، وهي التقديم والتأخير، الأمر الذي يدفعنا لرد ما أثاره الطاعن حول خطأ الترتيب في الحديث؛ ليكون السؤال الصحيح هو: لماذا قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السمع والبصر والجلد واللحم وهي مراحل تالية على خلق العظام؟
 
فهذه إذًا هي الصياغة الصحيحة للسؤال، فنقول وبالله التوفيق: إن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تقديم وتأخير؛ فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بمراحل السمع والبصر والجلد واللحم مع كونها متأخرة في المجيء؛ ذلك لأن هذه المراحل هي المنظورة أولًا لأعين الناس، ومثال ذلك قوله تعالى: )فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال (17)((الرعد)؛ إذ نجد الله تعالى قد بدأ بالزبد في البيان، مع أنه متأخر في الكلام السابق؛ لأن الزبد هو المنظور أولا لأعين الناس([27]).
 
وبهذا تتبين حكمة تقديم الجلد واللحم على العظم في الحديث الشريف؛ ومن ثم فلا تعارض بينه وبين ما ورد في القرآن الكريم.
 
نأتي لقضية أخرى، وهي القول بأن مراحل تكون الجنين قد تم ذكرها في سفر أيوب الذي كتب منذ أكثر من 2000 سنة قبل الميلاد.
 
نقول وبالله التوفيق: إن النص التوراتي يفتقد الدقة؛ فنجده يقول: “يداك كونتاني وصنعتاني كلّي جميعًا. أذكر أنك جبلتني كالطين. أفتعيدني إلى التراب. ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب. منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي…” (أيوب 10: 8 ـ 12)، وبنظرة فاحصة لهذا النص نجد الآتي:
 
“ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن”، فهذه عبارة تعرض فكرة أثبت العلم خطأها، وهي نظرية الجنين القزم([28])؛ حيث كان يعتقد أن الجنين يكون على شكل إنسان مصغر في نطفة الرجل، ثم ينمو داخل رحم المرأة، ووصولهم إلى أمرين أحدهما: أن الإنسان يكون كامل الأعضاء قزمًا في الحيوان المنوي، ولا ينمو إلا في تربة خاصة كالرحم، وثانيهما: أن يكون الإنسان كامل الأعضاء قزمًا في دم الحيض، لكنه في انتظار المني؛ ليقوم بمهمة عقد الجنين ويغلظ قوامه، وهذا ما يتضح من العبارة السابقة؛ إذ تقوم الأنفحة بعقد الحليب وتحويله إلى جبن، وعلى هذا فلا يكون هناك دور للمنيّ سوى عمله كمساعد كما تعمل الأنفحة كمساعد للحليب في صنع الجبن (عملية تخثير اللبن)، وهذا غير صحيح وبالأخص عندما يتبين أن العلم الحديث قد توصل إلى أن الجنين يتخلق من نطفتي المرأة والرجل، وهذا ما ذكره القرآن؛ إذ يقول:(إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)((الإنسان).
نأتي لعبارة أخرى وهي: “جبلتني كالطين”؛ فكاف التشبيه هنا من شأنها إثارة
الشك في مسألة خلق الإنسان، هل هو مخلوق من الطين أو كالطين؟! في الوقت نفسه نجد القرآن الكريم قد جاء حاسمًا لمسألة خلق الإنسان؛ فيقول:(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)((المؤمنون).
ونأتي ـ كذلك ـ لعبارة ثالثة تقول: “كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب”؛ إذ نلاحظ من العبارة تعارضها الواضح مع ما أثبته العلم الحديث بخصوص مراحل نمو الجنين وترتيبها؛ فنجد المراحل كما قررها العلم الحديث كالآتي: مرحلة النطفة، العلقة، المضغة، العظام، كسوة العظام باللحم، التسوية والتعديل، وهذا ما نجد القرآن الكريم قد أخبر به منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام، فنجده يقول:(ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)((المؤمنون).
 
فإن قال قائل: كيف ننكر على النص التوراتي ما أتى به من ترتيب، ولا ننكر ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكًا فصورها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها…».
 
فنقول: إن الحديث الشريف لم يلتزم الترتيب في بيان مراحل نمو الجنين؛ فالواو المستعملة هي الواو العاطفة التي تفيد مطلق الجمع، ولا تفيد الترتيب، وذلك ما أثبتناه آنفًا، أما النص التوراتي فقد التزم الترتيب. إلا أن قائلا قد يقول: إن ما أخبرنا به ـ كدليل على عدم التزام الترتيب في الحديث الشريف ـ هو موجود كذلك في النص التوراتي، وعلى هذا يكون الترتيب في النص التوراتي صحيحًا.
 
وعلى فرض صحة ما ذهب إليه القائل من أن الواو تفيد في النص التوراتي ما أفادته الواو في الحديث الشريف وهو مطلق الجمع، وبالتالي فلا يكون هناك التزام بترتيب:
 
فنقول: إن كلامه كان يمكن القول بصحته لولا وجود الفاء الواردة بعبارة: “فنسجتني بعظام وعصب”؛ إذ أفادت الفاء الترتيب والتعقيب، وعلى هذا فإنها تكون فارقة بين مرحلتين، وهما: مرحلة الكسوة بالجلد واللحم، ومرحلة النسيج بالعظام والعصب، وبهذا يتضح خطأ الترتيب في النص التوراتي.
 
(*) وَهْم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.
 
[1]. أطوار خلق الجنين هي: (1) طور النطفة، (2) طور العلقة، (3) طور المضغة، (4) طور العظام، (5) طور كساء العظام باللحم، (6) طور النشأة والقابلية.
 
[2]. الجهاز الهيكلي: هو الهيكل العظمي المكوِّن لجسم الإنسان والمحدِّد له، بعد تحوُّله من مرحلة الغضروف إلى مرحلة العظام.
 
[3]. الخلايا الضَّامة: هي الخلايا التي تتكوَّن من ألياف مجعَّدة، تتوالد من خلايا ثابتة ومتفرقة تُسمَّى الجذعات الليفية (Fibroblastes)، وتعتبر بمثابة مصانع حقيقية لهياكل الحماية وأنسجتها، والخلايا الضامة تمثِّل نوعًا مميزًا من خلايا الجسم؛ لأنها تعمل بلا كلل، وتنتج ما يتعدَّى حجمها المتواضع، ويمكن أن نعتبرها الأبسط بناءً بين الخلايا الأخرى؛ إذ يمكن زرعها خارج جسم الإنسان لتعيش وسط بيئة غذائية تناسب وظيفتها في إعادة لحم الجروح، وسدِّ الثغرات في أي مكان من الجسم، وهي موجودة بين الدَّم.
 
[4]. الخلايا الغضروفية: هي التي تشكِّل مادة تدعيم ممتازة للفقرات؛ فهي تعمل بمثابة مخمر لها؛ بحيث يؤلِّف الغضروف مساحة احتكاكية بين المفاصل وفي الأذن الخارجية والأنف، وهي تشكل نسيجًا مرنًا ومتماسكًا.
 
[5]. الخلايا العظمية: وهي التي تعمل على تنظيم النسيج العظمي، وتمدُّه بأسباب الحياة؛ فهو يحتوي على خلايات تنظِّم أنوياته في عملية تكليس العظام، وتتحاشى هذه الخلايا التصادم مع الأوعية الدموية والأعصاب في الهيكل العظمي، مع ما لهذه الأوعية والأعصاب من دقة متناهية في الصِّغر.
 
[6]. الخلايا الجنينية: وتُسمَّى أيضًا بالخلايا الجذعية وبالخلايا المتعددة القدرات (Pluripotent stem Cells) وهي التي يتم الحصول عليها من أجنَّة يقاس عمرها بالأيام (فهي خلايا بدائية تظهر بعد 6: 12 يومًا من الإخصاب)، وهي تملك القدرة أو القابلية في هذه المرحلة على التطور والنمو والانقسام بلا حدود، وإعطاء الخلايا المتخصصة كلها، كما يمكنها أن تتحول إلى أي نوع من أنواع أعضاء أو أنسجة الجسم البشري تقريبًا، وهذا يجعلها شيئًا ثمينًا بالنسبة للعلماء والباحثين في العلوم الحيوية والبيولوجية.
 
[7]. السِّمحاق: هو قشرة رقيقة فوق عظم الرأس وبين الجلد واللحم، وتُسمَّى “الشجة” إذا بلغ إليها الضرب على الرأس.
 
[8]. علم الجنين، د. موفق شريف جنيد، مرجع سابق، ص211: 216.
 
[9]. خلق الإنسان بين العلم الحديث والقرآن، محمد محمود عبد الله، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية، 2009م، ص61.
 
[10]. الرد على شبهات حول طور العظام، مقال منشور بموقع: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com. 
 
[11]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص256.
 
[12]. أيهما خلق أولًا: العظام أم اللحم؟ بحث منشور بموقع: حراس العقيدة www.horras.net .   
 
[13]. تاجاتات تاجاسون: رئيس قسم التشريح والأجنة في جامعة شاينج ماي بتايلاند، ثم عميد كلية الطب بها.
 
[14]. مارشال جونسون: رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة توماس جيفرسون بفيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
 
[15]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.    
 
[16]. فتح القدير، الشوكاني، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 1414هـ، ج3، ص683.      
 
[17]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، مرجع سابق، عند تفسير هذه الآية.    
 
[18]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص240.    
 
[19]. فتح القدير، الشوكاني، مرجع سابق، ج3، ص683.
 
[20]. أيهما خلق أولًا: العظام أم اللحم؟ بحث منشور بموقع: حراس العقيدة www.hurras.net.     
 
[21]. مقاييس اللغة، مادة: عظم.      
 
[22]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، مرجع سابق، ص325.     
 
[23]. المرجع السابق، هامش ص329.
 
[24]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (9/ 3760)، رقم (6602).      
 
[25]. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، ص62 بتصرف.      
 
[26]. المرجع السابق، ص158: 160.      
 
[27]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1406هـ/ 1985م، ج7، ص50، 51.
 
[28]. الجنين ونشأة الإنسان بين العلم والقرآن، د. شريف كف الغزال، مقال منشور بموقع: www.islamicmedicine.org.

دعوى خطأ القرآن في وصف القلب بأنه يعقل

مضمون الشبهة:

يقول الله سبحانه وتعالى: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)، ويقول الله تعالى أيضًا: )ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)((الأعراف).

لقد خطّأ بعض الطاعنين أمثال هذه الآيات التي تصف القلب بأنه يعقل، وزعموا أن القرآن يتناقض مع العلم تناقضًا واضحًا، وقالوا: إن القلب ما هو إلا مضخة للدم، وليس أداة للتفكير أو التعقل.

وجه إبطال الشبهة:

لقد أكدت الحقائق الطبية حديثًا أن القلب ليس مجرد مضخة للدم، وإنما هو عضو حيوي وفعال بشكل هائل، وله علاقة وطيدة بشعور الإنسان وعاطفته وحدسه وتفكيره، وبذلك تتطابق الحقائق الطبية مع القرآن الكريم وأقوال المفسرين وعلماء المسلمين تمام المطابقة، فأي إعجاز هذا؟!

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

علاقة القلب بالمخ والدماغ بشكل عام:

لقد أثبتت أحدث دراسات القلب أنه عضو حيوي وفعال في جسم الإنسان، وأنه يعمل على تواصل دائم مع مخه عبر (000,40) خلية عصبية تم اكتشافها مؤخرًا فيه وفي الغشاء البريتوني (Peritoneum) المحيط به والمعروف باسم (الصفاق)([1])، وأنه يفرز كما من الهرمونات إلى تيار الدم الذي يضخه إلى مختلف أجزاء الجسم وأولها المخ، كذلك ثبت أن المخطط الكهربائي للقلب هو أكبر بمئة ضعف من المخطط الكهربائي للمخ.

 وفي كل نبضة ينبضها القلب يولد طاقة مغناطيسية تفوق الطاقة المغناطيسية للمخ بخمسة آلاف ضعف، وبها يتواصل مع المخ ومع باقي أجزاء الجسم؛ فالقلب يتحدث مع المخ، وينسق معه جميع أنشطته، فكما ينشط المخ بمراكز ذاكرته وحسه بواسطة التغذية الراجعة عبر كل من الشبكات العصبية والدموية، فكذلك القلب الذي يعمل جهازًا لتخزين المعلومات عن طريق التغذية الراجعة عبر كل من الأعصاب والدم كما أثبت الدكتور “بول بيرسال” في مؤلفه المعنون: (شفيرة القلب)([2]).

وقد توصل العلماء إلى أن القلب يخلق قبل الدماغ في الجنين، ويبدأ القلب بالنبض منذ تشكله وحتى موت الإنسان، ومع أن العلماء يعتقدون أن الدماغ هو الذي ينظم نبضات القلب، إلا أنهم لاحظوا شيئًا غريبًا وذلك أثناء عمليات زرع القلب ؛ فقد رأوا أنهم عندما يضعون القلب الجديد في صدر المريض يبدأ بالنبض على الفور دون أن ينتظر الدماغ حتى يعطيه أمرًا بالنبض، وهذا يشير إلى استقلال عمل القلب عن الدماغ، بل إن بعض الباحثين اليوم يعتقد أن القلب هو الذي يوجه الدماغ في عمله([3]).

وقد ثبت بالملاحظات الدقيقة أن القلب هو أكثر أجزاء الجسم تعقيدًا وأكثرها دقة وغموضًا، وأنه يتحكم في المخ أكثر من تحكم المخ فيه، ويرسل إليه من المعلومات أضعاف ما يتلقى منه في علاقة عجيبة بدأت الدراسات الطبية في الكشف عنها، ويشبهها أطباء القلب بجهاز إرسال إذاعي بين القلب والمخ يعمل بواسطة عدد من الحقول المغناطيسية التي يصدر أقواها من القلب إلى المخ فيسبق القلب المخ في ردّات فعله([4]).

 ومما يؤكد هذا التأثير المتبادل بين القلب والدماغ ما قاله الدكتور أحمد كنعان؛ فقد أوضح أن أحد العلماء الذين يعملون على نظرية الطاقة القلبية في جامعة أريزونا قد أجرى بحثا على (300 شخص) تعرضوا لزراعة القلب، ووجد أن الطاقة والمعلومات تتفاعل تبادليًّامابينالقلبوالمخبصورةكهرومغناطيسية، فيتلقى مخ الشخص الذي زرع فيه القلب إشارات كهرومغناطيسيةمنالقلبالمزروع تختلف عنالإشارات التي كان يتلقاها منالقلبالأصلي، وقد تحدث العلماء لفترة طويلة عن استجابة القلب للإشارات القادمة منالمخ، ولكنهم في السنوات الأخيرة اكتشفوا أن هذه العلاقة ثنائية الاتجاه، وأنكليهما يؤثر في الآخر، وذكر الباحثون أربع وسائل يؤثر القلب بها على المخ:

عصبيًّا من خلال النبضات العصبية.
كيميائيًّا بواسطة الهرمونات والناقلاتالعصبية.
فيزيائيًّا بموجات الضغط التي تنتج عن تدفقالدم إلى الدماغ.
بواسطة المجال الكهرومغناطيسي للقلب، وهوأقوى كهربائيًّا ( 60 مرة ) من المجال الكهربائي للمخ، وأقوى مغناطيسيًّا خمسة آلاف مرةمن المجال المغناطيسي للمخ([5]).

ولقد جاءت النتائج لتعلن أن ما توصلوا إليه يوضح أن الذاكرة لا تقتصر على الدماغ فحسب، بل إنها تتوزع على الجسم، وإن للقلب الحصة الكبرى منها؛ فلقد تم إجراء بحوث على عدد كبير من الناس لمعرفة علاقة ومدى استجابة القلب والدماغ ـ كلٌّ على انفراد لما يرى الإنسان من حوله ويسمع ـ فتبيّن أن القلب أسرع تأثيرًا من الدماغ، وأن الإشارات الكهربائية التي يرسلها القلب أقوى من تلك التي يرسلها الدماغ بمئة ضعف، وأنهما يتبادلان التأثير الكهرطيسي بينهما، وأن القلب يرسل للدماغ إشارات تجعله يتخذ قرارًا ما ليرسل أوامره للجسم باتخاذ سلوك ما. فعندما عرضت صور على المتبرعين للاختبار من مختلف التأثيرات العاطفية كمناظر الذعر والموت والقتل والصداقة والرومانسية، جاءت استجابة القلب أسرع من الدماغ بكثير، وأن الدماغ يأخذ قناعاته من تلك الإشارات التي يرسلها له القلب والمتعلقة برد فعله على تلك المناظر، فصعق العلماء لذلك لأن هذا يعني ببساطة تغييرًا جذريًّا لما كان سائدًا من الاعتقاد بأن العقل هو رأس كل سلوك وذاكرة وعاطفة وتصرف وقناعة.

وبعد استمرار التجارب تبين لهم أن القلب يتأثر بالبيئة ويفكر ويرسل للدماغ رسائله ليحللها ويأمر الجسم بتطبيقها؛ أي إن القلب مع الدماغ يمثلان الجهاز التشريعي بينما بقية الأعضاء تمثل الجهاز التنفيذي.

يقول أحد الباحثين: لو كنا قد توصلنا إلى كل تلك الإنجازات العلمية باستخدام الدماغ وحده دون القلب، فعلينا إعادة النظر بتفكيرنا في كل ما حولنا باستخدام القلب الذي له نمط تفكير مختلف تمامًا عن طريقة التفكير التقليدية للدماغ.

وعندما تنقل قلبًا، يمكن أن يسترجع المتلقي الذي خضع للعملية بعضًا من ذكريات الواهب، وحسب ما ذكره البروفيسور “بول بيرسال” تتغير نفسية المتلقي بنسبة 5 إلى 10%، وتخلص العديد من التحاليل الطبية التي أوردتها بحوث كثيرة في هذا المجال إلى أن القلب دماغ صغير، وهو أيضًا يضم عدة خلايا عصبية تمتلك ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، كما أنه يرسل معلومات إلى الدماغ أكثر مما يرسلها إليه هذا الأخير([6]).

تظهر هذه الصورة الخلايا العصبية داخل القلب، وهي خلايا معقدة جدًّا لم يعرف العلماء حتى الآن طريقة عملها

وللتأكيد على هذه العلاقة المتبادلة بين القلب والدماغ نذكر بعض الشواهد:

فالمعالـِجة النفسية “Linda Marks” تقول ـ بعد عملها لمدة عشرين عامًا في مركز القلب ـ : كان الناس يواجهونني بسؤال: ماذا تعملين في هذا المركز وأنت تعلمين أن القلب مجرد مضخة للدم ليس له علاقة بالحالة النفسية للإنسان؟ وكنت أجيب بأنني أحس بالتغيير الذي يحصل في نفسية المريض قبل عملية زرع القلب وبعدها، وأحس بتغير عاطفته، ولكن ليس لدي الدليل العلمي إلا ما أراه أمامي. ولكن منذ التسعينيات تعرفت على إحدى المهتمات بهذا الموضوع، وهي ليندا راسك التي تمكنت من تسجيل علاقة بين الترددات الكهرطيسية التي يبثها القلب والترددات الكهرطيسية التي يبثها الدماغ، وكيف يمكن للمجال الكهرطيسي للقلب أن يؤثر في المجال المغناطيسي لدماغ الشخص المقابل!

أما البروفيسور “Gary Schwartz” اختصاصي الطب النفسي في جامعة أريزونا، والدكتورة “Linda Russek” فيعتقدان أن للقلب طاقة خاصة بواسطتها يتم تخزين المعلومات ومعالجتها أيضًا؛ ومن ثم فإن الذاكرة ليست فقط في الدماغ، بل قد يكون القلب محركًا لها ومشرفًاعليها. وقد قام الأطباء ببحث ضم أكثر من 300 حالة زراعة قلب، ووُجد أن جميعها قدحدث لها تغيرات نفسية جذرية بعد العملية.

ويقول الدكتور “Schwartz”: قمنا بزرع قلب لطفل من طفل آخر أمه طبيبة،وقد توفي وقررت أمه التبرع بقلبه، ثم قامت بمراقبة حالة الزرع جيدًا، وتقول هذه الأم: “إنني أحس دائما بأن ولدي ما زال على قيد الحياة، فعندما أقترب من هذا الطفل (الذي يحمل قلب ولدها) أحس بدقات قلبه، وعندما عانقني أحسست بأنه طفلي تمامًا، إن قلب هذا الطفل يحوي معظم طفلي”!

والذي أكد هذا الإحساس أن هذا الطفل بدأ يظهر عليه خلل في الجهة اليسرى، وبعد ذلك تبين أن الطفل المتوفى صاحب القلب الأصلي كان يعاني من خلل في الجانب الأيسر من الدماغ يعيق حركته، وبعد أن تم زرع هذا القلب تبين بعد فترة أن الدماغ بدأ يصيبه خلل في الجانب الأيسر تمامًا كحالة الطفل الميت صاحب القلب الأصلي.

وتفسير ذلك أن القلب هو الذي يشرف على عمل الدماغ، والخلل الذي أصاب دماغالطفل المتوفى كان سببه القلب، وبعد زرع هذا القلب لطفل آخر، بدأ القلب يمارس نشاطهعلى الدماغ وطور هذا الخلل في دماغ ذلك الطفل.

تقول الدكتورة “ليندا”: من الحالات المثيرة أيضًا أنه تم زرع قلب لفتاة كانت تعاني من اعتلال في عضلة القلب، ولكنها أصبحت كل يوم تحس وكأن شيئًا يصطدم بصدرها فتشكو لطبيبها هذه الحالة فيقول لها: هذا بسبب تأثير الأدوية، ولكن تبين فيما بعد أن صاحبة القلب الأصلي صدمتها سيارة في صدرها، وأن آخر كلمات نطقت بها أنها تحس بألم الصدمة في صدرها([7]).

علاقة القلب بالإدراك والفهم والتفكير وتخزين الكلمات:

أجرى معهد رياضيات القلب العديد من التجارب، أثبت من خلالها أن القلب يبث ترددات كهرطيسية تؤثر على الدماغ وتوجهه في عمله، وأنه من الممكن أن يؤثر القلب على عملية الإدراك والفهم لدى الإنسان، كما وجدوا أن القلب يبث مجالًا كهربائيًّا هو الأقوى بين أعضاء الجسم؛ لذلك من المحتمل أن يسيطر على عمل الجسم بالكامل.

كما وجدوا أن دقات القلب تؤثر على الموجات التي يبثها الدماغ (موجات ألفا)، فكلما زاد عدد دقات القلب زادت الترددات التي يبثها الدماغ.

وفي بحث أجراه الباحثان “Rollin MCCraty”و “Mike Atkinson”، وتم عرضه في اللقاء السنويللمجتمع البافلوفي عام 1999م، ثبت أن هناك علاقة بين القلب وعملية الإدراك، وقد أثبت الباحثان هذه العلاقة من خلال قياس النشاط الكهرطيسي للقلب والدماغ أثناء عملية الفهم؛ أي عندما يحاول الإنسان فهم ظاهرة ما، فوجدوا أن عملية الإدراك تتناسب مع أداء القلب، وكلما كان أداء القلب أقل كان الإدراك أقل([8]).

مقطع من الخلايا العصبية للقلب

علاقة القلب بالعاطفة والشعور والانفعال:

أكدت الدراسات الحديثة على أن القلب لا يقتصر دوره على ضخ الدم، بل له علاقة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ بالإدراك والفهم والتفكير وتخزين الذكريات، كما أن له علاقة بالعاطفة والشعور والانفعال؛ فقد أوضح أطباء القلب بجامعة بيل الأمريكية ومعهد هارتمان بولاية كاليفورنيا‏ بأن القلب جهاز فائق التعقيد‏,‏ وأن من صور هذا التعقيد وجود جهاز عصبي معقد بالقلب يشبه المختمامًا، له ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد.

وقد اتضح ذلك بجلاء عند نقل قلب من إنسان إلىإنسان آخر، فيأخذ القلب المنقول معه من الذكريات والمواهب‏‏ والعواطف، والمشاعر‏,‏والهوايات‏,‏ والسجايا والتفصيلات الخاصة بالشخص الذي أخذ منه القلب‏,‏ والتي تبدو غريبة كل الغرابة عن صفات الشخص الذي تم نقل القلب إليه‏([9]).

وقد أشارت الدراسات إلى أن المرضى الذين استبدلت قلوبهم بقلوب اصطناعية، فقدوا الإحساس والعواطف والقدرة على الحب؛ ففي 11/ 8/ 2007م نشرت جريدة Washington Postتحقيقًا صحفيًّا حول رجل اسمهPeter Houghton، وقد أجريت له عملية زرع قلب اصطناعي، يقول هذا المريض: “إن مشاعري تغيرت بالكامل، فلم أعد أعرف كيف أشعر أو أحب، حتى أحفادي لا أحس بهم ولا أعرف كيف أتعامل معهم، وعندما يقتربون منيلا أحس أنهم جزء من حياتي كما كنت من قبل”.

لقد أصبح هذا الرجل غير مبال بأيشيء، لا يهتم بالمال، لا يهتم بالحياة، لا يعرف لماذا يعيش، بل إنه يفكر أحيانًا في الانتحار والتخلص من هذا القلب المشئوم! لم يعد هذا الإنسان قادرًا على فهم العالم من حوله، لقد فقد القدرة على الفهم أو التمييز أو المقارنة، كذلك فقد القدرة على التنبؤ، أو التفكير في المستقبل أو ما نسميه الحدس، حتى إنه فقد الإيمان بالله، ولميعد يبالي بالآخرة كما كان من قبل!

وحتى هذه اللحظة لم يستطع الأطباء تفسيرهذه الظاهرة، لماذا حدث هذا التحول النفسي الكبير، وما علاقة القلب بنفس الإنسان ومشاعره وتفكيره؟ يقول البروفيسور “Arthur Caplan” رئيس قسم الأخلاق الطبية في جامعةبنسلفانيا: “إن العلماء لم يعطوا اهتمامًا لهذه الظاهرة، بل إننا لم ندرس علاقة العاطفة والنفس بأعضاء الجسم، ولكننا نتعامل مع الجسم وكأنه مجرد آلة”([10]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه القرآن الكريم:

لقد ادّعى بعض المغرضين أن القرآن قد أخطأ عندما وصف القلب بأنه يعقل في قوله تعالى:)أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)، ولكن هؤلاء الطاعنون كانوا في غفلة عن تلك الحقيقة القرآنية التي اكتشفها العلم مؤخرًا، وهي أن القلب عضو حيوي وفعال ومسئول بشكل كبير في الجسم البشري؛ فلا يقتصر دوره على ضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم ليبعث فيها الحياة، وإنما له علاقة أيضًا بالمخ وبالدماغ ككل، كما أن له علاقة بالتفكير والفهم والإدراك والشعور والعاطفة والانفعال، بل إن العلماء قرّروا أن القلب دماغ صغير، وهو يضم عدة خلايا عصبية تمتلك ذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، كما أنه يرسل معلومات إلى الدماغ أكثر مما يرسلها إليه الأخير، ومن أجل كل ذلك فليس بمستغرب بعد ذلك أن يقول القرآن:)فتكون لهم قلوب يعقلون بها((الحج:46).

وإذا كان العلماء والأطباء لم يتفقوا جميعًا على تحديد محل العقل فإن هذا لا ينفي اتفاقهم على أن القلب له علاقة بالفهم والإدراك والتفكير والشعور والانفعال والعاطفة، وكلها أمور تحتاج إلى تعقل وبصيرة كما أشار القرآن.

وقد أجمع المفسرون وعلماء الإسلام ـ مثل الأطباء ـ على أهمية القلب كعضو فعال وحيوي في جسم الإنسان، وأنه قد نال ـ لعظمة دوره ـ تشريف القرآن عندما نسب إليه التعقل في قوله تعالى: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها((الحج:46)، لكن المفسرين وعلماء الإسلام قد اختلفوا في ماهية العقل ومحله من جسم الإنسان، فهناك من علماء التفسير من يذهب إلى أن محل العقل هو الدماغ، ولكن أغلبهم قد ذهب إلى أن العقل محله القلب.

فالقرطبي يقول في تفسيره لقوله تعالى: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها((الحج:46): “أضاف العقل إلى القلب؛ لأنه محله كما أن السمع محله الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وروي عن أبي حنيفة، وما أراها عنه صحيحة”([11]).

ويقول الرازي في تفسيره لقوله تعالى: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها( (الحج:46): “فيه دلالة على أن القلب آلة هذا التعقل، فوجب جعل القلب محلًا للتعقل”([12]).

ويقول السمرقندي في قوله تعالى: )ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)((الحج): “يعني: العقول التي في الصدور”([13]).

ويقول الماوردي في قوله تعالى: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها((الحج:46): “يدل على أمرين: على أن العقل علم، ويدل على أنه محله القلب”([14]).

ويقول الثعالبي في قوله تعالى: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها( (الحج:46): “هذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالًا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ”([15]).

ويقول الشوكاني في تفسير الآية السابقة: “وأسند التعقل إلى القلوب؛ لأنها محل القلب”([16]).

ويقول صديق حسن القنوجي في تفسير الآية السابقة: “وأسند التعقل إلى القلوب؛ لأنها محل العقل كما أن الآذان محل السمع”([17]).

أما عن ماهية العقل عند العلماء المسلمين فقد أفاض علماء المسلمين في الحديث عنها ولا نريد الإطالة بعرض أقوالهم؛ فهي “تفيد في مجملها ـ كما يقول الشيخ سليمان الخراشي ـ بأن العقل غريزة قد وهبها الله سبحانه وتعالى لمخلوقه (الإنسان) ليتميز بها من غيره من المخلوقات في إدراك عالمه الذي يحيط به، أو إن شئت فقل: هو ملكة في النفس تستعد بها للعلوم والإدراكات مستعينًا بمجموعة من الحواس التي تشكل نافذة على هذا العالم الرحيب، ومعتمدًا في أعماله على عدة ملكات وهبها الله للإنسان ليستقيم بها عمل العقل، وقد حصرها بعض العلماء في خمس ملكات، وهي: ملكة الإرادة، ملكة الإدراك، ملكة الاستنتاج، ملكة الحافظة، ملكة الذاكرة”([18]).

3)  وجه الإعجاز:

لقد توصل العلم الحديث إلى الحقيقة التي سطرها القرآن منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام، وهي علاقة القلب بالتفكير والإدراك والفهم والتدبر والعاطفة والشعور والانفعال… إلخ؛ ولهذا جاءت آيات كثيرة تؤكد هذا المعنى، كقوله تعالى:)أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)(  (محمد)… إلخ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يدعي بعض المغالطين أن القرآن قد أخطأ حين نسب التعقل إلى القلب؟ وكيف يزعم هؤلاء أن القلب ما هو إلا مضخة للدماء؟! 

(*) موقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. الصفاق: غشاء رقيق يبطِّن جدار الجسم المحيط بالجوف العام.

[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص387، 388.

[3]. أسرار القلب والروح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[4]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص389.

[5]. القلب والعقل بين الطب والشريعة، أحمد كنعان، بحث منشور بموقع: www.ssfcm.org.

[6]. قلوب يعقلون بها، د. خالد العبيدي، بحث منشور بموقع: خالد العبيدي www.khalid-alubaidy.com.

[7]. أسرار القلب والروح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[8]. أسرار القلب والروح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[9]. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص388، 389.

[10]. أسرار القلب والروح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج2، ص77.

[12]  مفاتيح الغيب، الرازي، مرجع سابق، عند تفسير هذه الآية.

[13]. بحر العلوم، السمرقندي، دار الفكر العربي، بيروت، 1997م، عند تفسير هذه الآية.

[14]. النُّكت والعيون، الماوردي، تحقيق: السيد عبد المقصود عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت، عند تفسير هذه الآية.

[15]. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، الثعالبي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، عند تفسير هذه الآية.

[16]. فتح القدير، الشوكاني، مرجع سابق، عند تفسير هذه الآية.

[17]. فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق حسن القنوجي، مرجع سابق، ج4، ص482.

[18]. ماهية العقل عند العلماء، سليمان الخراشي، مقال منشور بشبكة: المنهاج الإسلامية www.webache.googzeusercontent.com.

الطعن في إخبار القرآن عن مسئولية الجلد عن الشعور

مضمون الشبهة:

في غمار حملة التشكيك الموجَّهة إلى القرآن الكريم ينفي المغالطون سبق إعجاز القرآن الكريم في إخباره عن مسئولية الجلد عن الشعور, في قوله عز وجل: )إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا (56)( (النساء). زاعمين أن القرآن لم يأت بجديد عند حديثه عنها؛ فهي من الملاحظات العادية, والتي يمكن لأي شخص كان ـ في أي وقت ـ أن يعيها ويدركها.

وجه إبطال الشبهة:

ثبت علميًّا أن الجلد هو مركز الإحساس في جسم الإنسان, كما ثبت أن عملية الإحساس هذه عملية معقدة في طبيعتها, وصعبة على الإدراك المباشر, فهي ليست كالملاحظات العادية التي يدركها الناس؛ فقد كان الاعتقاد السائد ـ قديمًا ـ أن الجسم كله حساس للآلام, ولم يكن واضحًا لأحد آنذاك أن هناك أعصابًا متخصصة في جسم الإنسان لنقل أنواع الألم، حتى كشف لنا علم التشريح اليوم عن دور النهايات العصبية المتخصصة المتواجدة في الجلد وحده في نقل أنواع الآلام المختلفة، وهذا ما يتطابق مع ما أشارت إليه الآية الكريمة، فأي إعجاز علمي هذا؟!

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

أثبت العلم الحديث أن الجلد عضو إحساس من الطراز الأول, كما أن به خريطة مدهشة من الأعصاب، ولم يكتشف العلماء أعضاء استقبال أحاسيس اللمس والألم والضغط والحرارة في الجلد إلا في عصر العلم الحالي، وذلك لأن أكثر الحقائق العلمية الدالة على ذلك لا تعرف إلا بواسطة الميكروسكوب العلمي، الذي لم يخترعه الإنسان إلا مؤخرًا.

ولقد كان الاعتقاد السائد منذ عدة قرون أن الجسم كله حساس للآلام، ولم يكن واضحًا لأحد يومذاك أن هناك أعصابًا متخصصة في جسم الإنسان لنقل أنواع الألم، حتى كشف علم التشريح اليوم النهايات العصبية المتخصصة في نقل أنواع الآلام المختلفة.

لقد بدأ العلماء يكتشفون أن جلد الإنسان أكثر من مجرد غطاء خارجي للجسم؛ إذ يؤكدون أن الجلد ينتج مواد تجعل الجسم سليمًا من الداخل؛  فخلايا الجلد ـ على سبيل المثال ـ تساعد الكبد في صنع مواد كيميائية تؤثر في الكوليسترول([1]).

 وحاسة اللمس تتواجد في أماكن عديدة من الجسم؛ فهي منتشرة على كل سطح الجلد وداخل الأجهزة الباطنة، وسطح الجلد حساس لثلاثة أنواع من الحس اللمسي؛ فحاسة اللمس تهتم بكل ما يتعلق بالحجم والوزن والكثافة والألم, وكذلك الإحساسات الحرارية, فهي تمكننا من أن  نفرق بين سخونة وبرودة المادة التي نلمسها وليونتها وصلابتها, هل هي رطبة أم خشنة, لزجة أم جافة؟

وحاسة اللمس المتمركزة على سطح الجلد تعمل بصفة أحوط كجهاز استعلامي, وجهاز إنذار وحماية للبدن, فأي حس ألمي يترجمه الدماغ على أن الجسم في حالة خطر فيحدث ردة فعل حامية  عاجلة أتوماتيكية (آلية) ولا إرادية.

هذا الانعكاس الحامي يجعل الفرد يبعد يده بكل سرعة إذا لمست  نارًا مثلًا أو شيئًا
آخر يجهله أو لم يقع التعرف عليه, فيحدث  إحساسًا بالخوف, والخوف لايكون إلا من الشيء المجهول مطلقًا أو من الشيء المخيف  عن دراية وتجربة, والسؤال الذي يجب أن ندرك إجابته هو: كيف نحس؟

لقد حاول الباحثون أن يفهموا كيف يحس الإنسان فوجدوا أن الإحساسات اللمسية عند الإنسان مرتبطة بمعلومات ترسلها في شكل إشارات ملتقطة عن طريق عديد من النهايات العصبية([2]), وتوصلوا إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد نوع واحد من الخلايا([3]) بل هناك أنواع عدة,  فللضغط والألم  خلايا خاصة, وكذلك للبرودة والحرارة خلايا خاصة في التحسس والتقاط الإشارات وإرسالها إلى الدماغ؛ فالحرارة يقع إدراكها عن طريق كريات أو جسيمات (Ruffinie)، وكذلك البرودة يقع إدراكها عن طريق جسيمات (Krause)، وكذلك جسيمات (Meissna) الحساسة للضغط الخفيف, وجسيمات (Pacini) الحساسة للضغط العميق, ولكن كيف تصل هذه الإحساسات إلى الدماغ؟

كيفية انتقال الإشارات:

للألياف العصبية في الجسم ردة فعل دائمة لكل أنواع المنبهات؛ فدرجة حساسية الجلد تختلف حسب كثافة النهايات العصبية والجسيمات اللمسية وتواجدها في المكان اللمسي, فالإدراك اللمسي أقوى ما يكون في راحة اليد وبالأخص في أطراف الأصابع, وفي أطراف الشفاه (بالأخص تحسس الحرارة مما يقي الفرد الإصابة بالحروق جراء لمس مواد شديدة السخونة), ويبدو عكس ذلك في أدنى درجاتها الحسية في الظهر, وفي الوجه الخلفي للأعضاء, ومن المعلوم أن نوعية الجلد تدخل أيضًا في تقييم رهافة الإدراج الحسي, فعندما تكون الجلدة رقيقة يكون الحس اللمسي أقوى, وبعد ذلك يتم إيصال المعلومة إلى الدماغ في شكل دفعات كهربائية([4]), إلا أنه مهما كان نوع الإحساس اللمسي فإنه يوجد فارق زمني بين اللحظة التي يقع فيها الإدراك الحسي, وبين  اللحظة التي يتقبل فيها الدماغ المعلومة.

شكل يبين كيفية انتقال الإشارات المختلفة إلى الدماغ, إذ نجد أن العصبونات الحسية([5])تملك نهايات
عصبية حساسة تسمى المستقبلات, تستجيب للمنبهات مثل الضوء أو الحرارة  أو المواد الكيميائية داخل
الجسم  وخارجه, ثم تقوم العصبونات الحسية بنقل المعلومات المتعلقة بالمنبهات من المستقبلات إلى
الجهاز العصبي  المركزي

اللاقطات الحسية الجلدية:

تنقسم إلى نوعين:

نوع يتكون من التشجير (أو التغصن أو التجزؤ) العصبي, وهذا داخل البشرة.
نوع آخر يتكون من جسيمات أو كريات حسية تسكن داخل الأدمة([6]),  وهذا الجسيم الحسي عبارة عن جسم صغير جدًّا بيضاوي الشكل، يتكون من ثلاثة أجزاء:

أ- جزء عصبي.

ب- نسيج صامد, لين.

ج- نسيج صامد مقاوم يحمي العصب.

ومن بعض هذه الجسيمات الحسية:

o    جسيمات باسيني  pacini ، وهي أكبر الجسيمات حجمًا, قياسها من مليمتر واحد إلى خمسة مليمترات, وهي تتواجد في قاعدة الأدمة؛ أي في أبعد مكان بالنسبة لكل الجسيمات, وهي تتمركز بكثرة في راحة اليد وأسفل القدمين, وتختص بالإعلام من الإحساس بالضغط العميق واللمس والاهتزازات, وتقوم بإبلاغ الدماغ عن تحركات الجسم بصفة فورية, وهي توجد كذلك أيضًا في بعض الأجهزة الأخرى من بينهما المفاصل  والأعقاب.

o    جسيمات روفينيRuffiniتشبه الأولى إلا أنها مستطيلة أكثر وأصغر حجمًا: (من مليمتر واحد إلى مليمترين), يحيط بها نسيج كثيف ومتعدد التجهيز العصبي, وهي تختص بتحسس البرودة والحرارة والضغط وتمدد الجلد.

o    جسيمات ميسنير Meissnerتوجد في الأدمة, وهي جزيئات صغيرة جدًّا, لا يفوق حجمها جزء من عشر للمليمتر, وهي لاقطات سطحية تتحسس سرعة اندفاع المؤثر عند ارتطامه بالجلد، مما يفسر عدم الإحساس بالملابس بعد زمن قصير من لبسها.

o    جسيمات كروسKrause وهي الأصغر؛ فحجمها يتراوح من 0,030مم إلى 0,10مم ، وهي متواجدة داخل اللسان والأغشية المخاطية والملتحمة.

o    جسيمات أو أقراص ميركل  Merkelوهي لاقطات سطحية تُقدِّر ثُلمة الجلدة؛ فهي مختصة إذًا في الضغط الموضعي، وتحدد كذلك موقع الإثارة وسرعتها([7]).

وجدير بالذكر أن هناك تداخلًا في مهام كل هذه الجسيمات, أما النوع الثاني من نوعي اللاقطات الحسية الجلدية فهو المسمى بنهايات الأعصاب الطرفية، وهذا النوع هو عبارة عن شبكة عصبية كثيفة في الطبقة الخارجية من الجلد في جميع أجزاء الجسم, وهي المسئولة عن الشعور بدرجات الحرارة, كما أن هذه النهايات العصبية مسئولة عن تمدد أوعية الجلد الدموية أو انكماشها استجابة لدرجة الحرارة المحيطة؛ فإذا كان الجو حارًّا تمددت الأوعية فيفقد الجسم جزءًا من حرارته, أما إذا كان الجو باردًا انقبضت الأوعية الدموية فيحتفظ الدم بحرارته, ويصاحب ذلك الشعور قشعريرة طفيفة([8]).

وفيما يلي شكل  توضيحي للجسيمات السابقة ونهايات الأعصاب الطرفية:

   طبقات الجلد:

أ.  طبقة البشرة (Epidermis).

هي الطبقة الخارجية السطحية للجلد, وهي أصغر الطبقات سمكًا, ويبلغ سمكها 0,2مم في المتوسط, كما أن هذه الطبقة لا تحتوي على أية أوعية دموية, وهي تستمد غذاءها من الأدمة، إلا أنها تحتوي على خلايا أخرى مهمة كانت في الأصل خلايا عصبية في الجنين, ولكنها هاجرت إلى الجلد واحتفظت بشكل الخلايا العصبية ذات الأذرعة المتعددة.

وتتألف البشرة من عدة طبقات من الخلايا مرصوصة بعضها فوق بعض, أعلاها الطبقة القرنية, وأسفلها طبقة الخلايا القاعدية, وفيما بينهما ثلاث طبقات أخرى من الخلايا تسمى: الطبقة الشائكة، والطبقة الحبيبية، والطبقة الرائقة.

شكل يوضح طبقات البشرة

ب. طبقة الأدمة:

تقع طبقة الأدمة تحت البشرة مباشرة, ويبلغ سمكها حوالي 2مم؛ أي عشرة أضعاف سمك طبقة البشرة، وهذه الطبقة تشكل الدعامة الرئيسية للجلد وتعطي الشكل الخارجي الجميل للجلد؛ لوجود أنسجة مطاطة وأنسجة الكولاجين بها, فإذا فقدت هذه الطبقة بمرور الزمن أو بتأثير أشعة الشمس بعضًا من مكوناتها الرئيسية, تبدأ مظاهر الشيخوخة في الظهور, كذلك فإن جروح هذه الطبقة لا تندمل كاملة, بل تترك ندبات مكونة من أنسجة ضامة([9]).

كذلك تتكون الأدمة من طبقة ألياف كثيفة أسفل البشرة؛ فهي تتكون من أنسجة ليفية راسخة، وأنسجة ليفية مرنة، وأنسجة ليفية عضلية, كما أن الطبقة العلوية من الأدمة
تتكون من الطبقة الحلمية (Papillary layer), وتبرز الطبقة السطحية من الأدمة كالأصابع في طبقة البشرة, وتحتوي هذه على نهايات الشعيرات الدموية والأعصاب, كما
أن اتصال البشرة بالأدمة تكون طبقة تتداخل مع الأدمة, وتكون هذه دعامة قوية لطبقة البشرة وتحميها من معظم المؤثرات, وكذلك من الأمراض الجلدية التي تؤثر على منطقة الحلمة.

إن الطبقة السفلية من الأدمة هي طبقة من الشبكية (Reticular layer)؛ إذ إن الإصابات أو الالتهابات الجلدية التي تؤثر على هذه الطبقة قد ينتج عنها ندبات.

وتحتوي طبقة الأدمة على الأوعية الدموية والليمفاوية كما تحوي شبكة من الألياف العصبية, وكذلك نهايات عصبية وكرات عصبية متخصصة تؤدي وظائف عصبية مختلفة, وهذه النهايات العصبية للجلد مختلفة الأنواع؛ فمنها: ماهو حر, والبعض ينتهي في جراب الشعر، والآخر له نهايات منتفخة, كما أن هناك نهايات عصبية متخصصة في الأدمة, منها: كريات فاتر ـ ميسينر، كذلك كريات ميركل العصبية الموجودة في اللسان, وهناك كريات في ملتحمة العين, أما كريات رفنز فهي موجودة في بطن الأقدام.

    جلد فاتح                         جلد قاتم

جـ. طبقة تحت الأدمة (The subcutaneous Tissue hypode rmis):

هي الطبقة التي تتألف من نسيج ضام دهني, وهذه الطبقة تشكل امتدادًا لطبقة الأدمة, وتحتوي هذه الطبقة على خلايا دهنية, تقوم بتخزين الدهون الزائدة عن حاجة الجسم, كما أن توزيع الدهن بها يعطي جسم الإنسان الشكل المميز للجنس؛ إذ يختلف التوزيع بين الذكر والأنثى([10]).

                      الحرق الجلدي:

وبعدما تحدثنا عن طبقات الجلد، نتحدث الآن عن الحرق الجلدي، الذي يتألف من ثلاثة مستويات:

o    حرق من الدرجة الأولى “يختص بطبقة البشرة”.

o    حرق من الدرجة الثانية “يختص بطبقة الأدمة”.

o    حرق من الدرجة الثالثة “يختص بطبقة ما تحت الأدمة”.

وهذه فقرة طبية تتحدث عن الإحساس بالحرارة ذكرتها الدكتورة مها محمد فريد عقل ـ أستاذ الباثولوجيا الإكلينيكية بكلية الطب، جامعة الأزهر ـ في بحث لها بعنوان “آيات سبقت العلم” تبين مراحل حرق الجلد:

Temperature senses: The temperature senses employ two Kinds of Skin receptors, they seem to include two types of free nerve endings, called heat receptors and cold receptors. The heat receptors are most sensitive to temperatures above 25º C and become unresponsive at temperatures above 45º C . As 45º C is approached, the pain receptors are also triggered, producing a burning sensation (Johan W.Hole, Jr.,1992).

Seymour et al., 1983 reported that burns are classified as first, second, or third degree. First degree burns are characterized by simple erythema of the skin, with only microscopic destruction of superficial layers of the epidermis. Second degree burns extend through the epidermis into the dermis, by definition viable epithelial elements from which epithelial regeneration can occur are retained in second – degree burn injury. Third degree burns are characterized by total irreversible destruction of all the skin, dermal appendages, and epithelial elements. Spontaneous regeneration of epithelium is not possible, and the burns are described as full – thickness.

One of the most frequent therapeutic errors in the treatment of patients with major burns is the overuse of sedation. An insignificant burn of a minute area  incurred during a common household mishap may be quite painful.

If there is full thickness skin destruction, the intrinsic sensory nerve endings have also been destroyed and the wound itself is painless. In contrast, the second – degree burn can be quite painful initially. Therefore the requirement for sedation is inversely proportional to the depth of the initial thermal injury.

John W.Hole,Jr.,1992 reported that visceral pain: As a rule, the pain receptors are the only receptors in the visceral organs.The pain receptors in these organs seem to respond differently to stimulation than those associated with the surface tissue. For example, localized damage to the intestinal tissue, as may occur during surgical procedures, may not elicit any pain sensations even in a conscious person. When the visceral tissues are subjected to a more widespread stimulation, however, as when the intestinal tissue are stretched or when the smooth muscles in the intestinal walls undergo spasms, a strong pain sensation may follow. Once again, the resulting pain seems to be related to the stimulation of mechanical sensitive receptors and to a decreased blood flow, accompanied by a lower tissue oxygen concentration and an accumulation of pain-stimulating chemicals.

وترجمة ملخصة لما سبق تشتمل على المعلومات الآتية:

يعتبر الجلد العضو الذي يمتلك خاصية الإحساس بدرجة الحرارة، وذلك بسبب وجود مستقبلات لدرجة الحرارة بالجلد، وجهاز الاستقبال الخاص بالحرارة الموجود بالجلد يكون أكثر حساسية للحرارة فوق درجة 25º، ثم عندما تقترب درجة الحرارة من 45ºم فإنه يحدث إثارة لجهاز الاستقبال الخاص بالآلام، مما ينتج عنه الإحساس بآلام الاحتراق (Burning sensation)،ويمكن تقسيم الاحتراق الذي يصيب الجلد إلى ثلاث درجات: أولى ثم ثانية ثم ثالثة، وتعتبر الدرجة الثالثة أشد الدرجات إحراقًا لطبقات الجلد (تحرق جزءًا أكثر سمكًا)

– وتتميز درجة الاحتراق الأولى بوجود مجرد احمرار بسيط مع وجود تحطم قليل (ميكروسكوبي ) للطبقة السطحية في طبقة البشرة.

–  أما الدرجة الثانية من الاحتراق فتمتد من طبقة البشرة إلى الطبقة التي تحتها (الأدمة) ويمكن الإعادة للطبقات المحترقة.

وتتميز الدرجة الثالثة من الاحتراق بوجود تكسير أو تحطيم لطبقات الجلد غير قابل للإعادة؛ فالتجدد التلقائي لطبقات الجلد في هذه الدرجة (الدرجة الثالثة) غير ممكن، ويوصف الحريق بأنه كامل السماكة (أي: احتراق كامل للجلد).

وفي هذه الحالة يعتبر فرط العلاج بالمسكنات للمرضى أصحاب الاحتراق الكامل لطبقات الجلد واحدة من أكبر الأخطاء العلاجية؛ وذلك لأن احتراق طبقات الجلد بصورة كاملة يؤدي إلى احتراق الأعصاب الموجودة به، وعلى هذا الأساس يكون الجرح  (موضع الحرق) غير مؤلم Painless  ، وذلك على عكس حريق ضئيل غير مهم لمنطقة صغيرة قد تحدث نتيجة حادث  عارض بسيط أثناء الأعمال المنزلية المعتادة قد يؤدي إلى إحساس بالآلام، وعلى هذا الأساس فاحتياج المريض إلى المسكنات يكون في علاقة عكسية مع شدة الاحتراق (مدى سماكة احتراق الجلد)، فكلما كان الاحتراق عميقًا يشمل طبقات الجلد المختلفة (أي: الجلد ذو سماكة كبيرة) كاملًا كان الاحتراق غير مؤلم؛ ومن ثم فلا حاجة إلى فرط استخدام المسكنات، أما الأعضاء الداخلية  بالجسم فإن الإحساس بالآلام بها يكون مختلفًا عن النسيج السطحي (الجلد)؛ فقد لوحظ أن الإصابة المباشرة لأي جزء من الأمعاء قد لا تكون مصاحبة بأي آلام تذكر، ولكن مجرد زيادة في الغازات بالأمعاء أو تقلص العضلات بها يصاحبه الإحساس بآلام شديدة.

وعلى هذا فالإحساس بالآلام في معظم  الأعضاء الداخلية، إنما يكون نتيجة للحركة الميكانيكية، ونقص في معدل تدفق الدم المصاحب بانخفاض في تركيز الأكسجين في الأنسجة وتراكم منبهات الآلام الكيميائية([11]).

2)  التطابق بين حقائق العلم الحديث وما أشارت إليه الآية الكريمة:

ورد في كتاب الله عز وجل صور من نعيم أهل الجنة، وصور أخرى من عذاب أهل النار، ومن الصور التي ذكرت في كيفية عذاب أهل النار يوم القيامة: أن النار تحرق جلودهم، قال تعالى: )إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيما (56)((النساء), فأخبر الله تعالى أنهم سيصلون نارًا تشويهم وتحرق جلودهم، فإذا احترقت تلك الجلود وانتهت فإنه عز وجل يبدلهم جلودًا غيرها، وهذا التبديل للجلود ليدوم وليستمر شعورهم وإحساسهم بالألم والعذاب, وفي هذه الآية الكريمة سبق علمي؛ فقد أخبرت هذه الآية القرآنية أن الإحساس بالألم في الجلد؛ فقال عز وجل:)كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب((النساء:56) ؛ إذ علل المولى تبديل الجلود، فقال:)ليذوقوا العذاب((النساء:56)، وكان هذا ما توصل إليه علم التشريح الحديث.

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

نصليهم: الإصلاء، مصدر أصلاه، ويقال: صلاه صليًا, ومعناه: شيُّ اللحم على النار. نضجت: بلغت نهاية الشي، يقال: نضج الشواء: إذا بلغ حد الشي، ومعنى “نضجت جلودهم”؛ أي: كلما احترقت فلم يبق فيها حياة “بدلناهم”: عوضناهم جلودًا غيرها، “ليذوقوا العذاب”: تعليلًا لقوله: “بدلناهم”؛ ليدوم ذوقهم للعذاب.

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

يخبرنا الطبري في تفسيره عن معنى قوله عز وجل: )سوف نصليهم نارًا((النساء:56), فيقول: “سوف ننضجهم في نار يصلون فيها؛ أي: يشوون فيها، وقوله:)كلما نضجت جلودهم((النساء:56)؛ أي: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت ولم يعد بعدها حياة، وقوله:)بدلناهم جلودًا غيرها( (النساء:56)؛ أي: غير الجلود التي نضجت فانشوت”([12]).

وقد دارت معاني الآية الكريمة حول كيفية من كيفيات عذاب أهل النار؛ إذ في احتراق الجلد ألم شديد، وحول هذا المعنى دارت التفاسير المختلفة، مثل: تفسير ابن كثير، وتفسير مقاتل بن سليمان، وتفسير النسفي، وتفسير أبي السعود، والشوكاني، وغيرهم من كبار المفسرين.

لقد ورد ذكر كلمة (جلود) في القرآن الكريم بلفظ الجمع في ستة مواضع، قال عز وجل:)إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا (56)(  (النساء)، وقال عز وجل: )يصهر به ما في بطونهم والجلود (20)( (الحج)، وقوله عز وجل: )الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد (23)( (الزمر)، وقد تكرر ثلاث مرات على التوالي؛ فقد قال عز وجل:)حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون (22)((فصلت).

هذا، ولم يأت الجلد أبدا في القرآن الكريم بلفظ مفرد، وفي هذا إشارة علمية عظيمة كشف العلم الحديث عنها وخلاصتها:

خلايا الجلد أسرع انقسامًا من غيرها من الخلايا.
خلايا الجلد أسرع تغيرًا وتبدلا من غيرها من الخلايا.
يتغير تركيب الجلد من مكان لآخر على سطح الجسم الواحد؛ فجلد جفون العين يختلف عن جلد قناة الأذن الخارجية, ويختلف عن جلد باطن القدم.

وهكذا تكسو الإنسان مجموعة من الجلود وليس جلدًا واحدًا، سواء من حيث المكان (على سطح الجسم) أم الزمان (التبدل والتغير)، وهكذا تظهر الإشارة العلمية بجلاء([13]).

ويقول الدكتور كارم غنيم في مقال له: وفي تبديل الجلود أثناء العذاب أسئلة يعرضها صاحب (مفاتيح الغيب)، ويجيب عنها، ونوجز كلامه فيما يلي:

السؤال الأول: لما كان الله عز وجل قادرًا على إبقائهم (أي: الكفار) أحياء في النار أبد الآباد، فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل إليها الآلام الشديدة، حتى لا يحتاج إلى تبديل  جلودهم بجلود أخرى؟

والجواب: أنه عز وجل لا يسأل عما يفعل، بل نقول: إنه عز وجل قادر على أن يوصل إلى  أبدانهم  آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع أنه عز وجل أدخلهم النار.

السؤال الثاني: الجلود العاصية إذا احترقت، فلو خلق الله مكانها جلودًا أخرى وعذبها كان هذا تعذيبًا لمن لم يعص وهو غير جائز؟

والجواب: هنا وجوه، منها: أن يجعل النضج غير النضيج، فالذات واحدة، والمتبدل هو الصفة، فإذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي، وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة.. المعذب هو الإنسان؛ وذلك لأن الجلد ما كان جزءًا من ماهية الإنسان، فإذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجديد سببًا لوصول العذاب إليه لم يكن ذلك تعذيبًا إلا للعاصي، وكلما ظنوا أنهم احترقوا ونضجوا وانتهوا إلى الهلاك أعطاهم الله قوة جديدة من الحياة بحيث  ظنوا أنهم يحدثوا ويجددوا، فيكون المقصود من)بدلناهم جلودًا غيرها((النساء:56): بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه. وبنحو هذا كان فهم النيسابوري في تفسيره المسمى “غرائب القرآن ورغائب الفرقان”.

ونعود إلى شهاب الدين الآلوسي في تفسيره “روح المعاني”, لنجده يشرح )ليذوقوا العذاب((النساء:56) فيقول: “… والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه، أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرًا، أو على سرايته للباطن.

ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته عز وجل على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق، أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب  صيانة بدنها عن الاحتراق.

وقيل: السر في ذلك أن النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن”([14]).

والمتأمل في الآية الكريمة يجد أن القرآن قد عبر عن فقدان الجلد لتوصيل المؤثرات الواقعة عليه بلفطة “النضج”, والنضج علميًّا هو “تجلط” أو “تخثر” بروتينات الألياف العصبية (في حالة حروق الدرجة الثالثة)؛ نتيجة تعمق المؤثر وتغلغله إلى الطبقة تحت الجلدية، وذلك لشدته العنيفة، ولما كان المقصود هو إذاقة العذاب للكافرين في جهنم، استلزم هذا تجديد طبقات الجلد مرة أخرى؛ ليشعر الإنسان بالألم، فإذا ازداد الإحراق، وتعمق أثره وتجلطت بروتينات الألياف العصبية السفلية، وفقد الإنسان القدرة على الإحساس بالألم ـ تكرر تجديد الجلد بكافة طبقاته؛ ليتكرر شعور الإنسان بالألم… وهكذا، وكما عبرت عنه الآية: )إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا (56)( (النساء)، وهكذا نجد القرآن يشير إلى حقيقة علمية لم يتوصل العلماء إلى معرفتها إلا حديثًا، بعدما تقدمت علوم التشريح، والأنسجة، واخترعت أجهزة التكبير والقياس؛ فالآية تشير إلى مركز الإحساس في الجلد، وتشير ـ كذلك ـ إلى وجود البروتينات التي تتجلط بحرارة النار الشديدة.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئًا ولا كاتبًا، فكيف جاء بهذه الحقيقة العلمية؟ كيف به يتحدث عن خصائص الأعصاب الحسية ووظائف مراكز الحس بالألم الموجود في الجلد, إنه بلا شك رسول يتلقى الوحي من الله الخالق العظيم، وما تلقاه بلا شك وحي الله الذي ختم به حلقات اتصال السماء بالأرض؛ ولذلك أودع فيه أسرارًا لن تنتهي إلى يوم القيامة.

3)  وجه الإعجاز:

كان الاعتقاد السائد منذ عدة قرون أن الجسم كله حساس للآلام, ولم يكن واضحًا لأحد في ذلك الوقت أن هناك أعصابًا متخصصة في جسم الإنسان لنقل أنواع الألم, حتى كشف علم التشريح اليوم عن دور النهايات العصبية المتخصصة في الجلد في نقل أنواع الآلام المختلفة.

وقد أثبت العلم الحديث أن الإحساس بحر النار, إنما يكون في الجلود الحية؛ حيث خلق الله نهايات عصبية في الجلد حساسة, فإذا نضج الجلد ماتت هذه النهايات العصبية, فينعدم الإحساس بحر النار, وعندئذٍ لا يمثل الاستمرار في النار أي نوع من الألم للكافر؛ لأن مراكز الإحساس بالألم قد حطمت, لكن العليم الخبير بأسرار خلق الإنسان، يعلم هذا السر فأشار إليه في كتابه قبل ألف وأربع مئة عام, وبيّن عز وجل الطريقة التي سيستمر بها العذاب للكافرين في النار، فقال عز وجل:  )إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا (56)((النساء)

(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[1]. تقارير علمية، يحيى أحمد كوسا، دار البشير، ط1، 1411هـ/ 1991م، ص209 بتصرف.

[2]. النهايات العصبية: هي التي من وظيفتها بعث الدَّفعات العصبية إلى الجهاز العصبي، والذي يقوم بالتوجيه والسيطرة على أعضاء الجسم, وهذه النهايات العصبية تكون موزَّعة في مختلف أعضاء الجسم بما فيه أعضاء الحواس الخمس.

[3] . الخلية: هي الوحدة التركيبية والوظيفية في الكائنات الحية, وهناك نوعان من الخلايا: خلايا حقيقية النوى وهي كائنات حية تحتوي على مادة وراثية متواجدة ضمن نواة الخلية يحيط بها غلاف نووي يفصلها عن الهيولى, وخلايا غير حقيقية النوى، وهي كائنات حية تتواجد مادتها الوراثية في الهيولى وليست محددة بغلاف نووي.

[4]. الدَّفعات الكهربية: وتُسمَّى أيضًا الدَّفعات العصبية، وهي عبارة عن تحوير فوري وموضعي لنفوذية غشاوة العصبون, وهذا من شأنه أن يمكٍّن شوارد الصوديوم من دخول الخلية عبر أنفاق شاردية انتقائية ممَّا يُحدث زوالًا للاستقطاب، فيصبح كامن الراحة بالغشاوة إيجابيًّا, وبسرعة تخرج شوارد البوتاسيوم من الخلية عبر أنفاق شاردية خاصة بها وعندئذٍ يصبح كامن الغشاوة سالبًا, ولكن في قيمة أدنى من كامن الراحة، وتلك هي عملية الاستقطاب, ثم تكون العودة للوضع الطبيعي, وهي حالة الفرط في الاستقطاب, وهكذا دواليك من مشبك إلى آخر إلى أن تصل الدَّفعة العصبية إلي الدِّماغ.

[5]. العصبونات: هي الخلايا العصبية الموجودة في الجهاز العصبي، وهي ثلاثة أنواع: الحسيَّة والترابطية والحركية.

[6]. الأدمة: هي الطبقة الثانية من طبقات الجلد, والتي يبلغ سمكها حوالي 2مم, وهي تتألَّف من نسيج ضام يحمل الأوعية الدموية والليمفاوية التي تغذِّي الجلد، وهي التي تشكِّل السُّمك الرئيسي للجلد.

[7]. انظر: من آيات الله في الإنسان, د. مصطفى الأسود, مرجع سابق، ص110، 111. وانظر: الموسوعة العلمية الميسرة, أكاديميا إنترناشيونال, 2006م/ 2009م.

[8]. الجلد، بحث منشور بموقع: www.moqatel.com.

[9]. النسيج الضَّام: هو أحد الأنسجة الأربعة الرئيسية في جسم الإنسان, وهذه الأنسجة هي: النسيج الطلائي والعضلي والعصبي، والنسيج الضام يشتمل على عديد من الأنسجة، منها النسيج الضام الأصيل (connective tissues), والنسيج الضام الهيكلي (skeletal Tissues)، وكذلك النسيج الوعائي (skeletal tissues).

.[10] حول هذا الموضوع انظر: من آيات الله في خلق الإنسان , د. مصطفى الأسود، مرجع سابق. محمد، رواية حوارية, نور الدين أبو لحية, دار الكتاب الحديث,1430هـ/2009م. الموسوعة العلمية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية, د. هاني مرعي القليني ومجدي فتحي السيد, مرجع سابق. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في خلق الإنسان وبعثه وحسابه, د. ماهر أحمد الصوفي, مرجع سابق. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية, د. أحمد مصطفى متولي, مرجع سابق. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطيبة في ضوء القرآن والسنة, د. أحمد شوقي إبراهيم, دار الفكر العربي, القاهرة، ط1, 1423هـ/2002م. موسوعة جسم الإنسان: اللمس, الذوق، الرائحة, بريان فارد, المركز العالمي للموسوعات، دار إلياس العصرية, القاهرة، ط1, 1986م. من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم, د. زغلول النجار, مرجع سابق.

[11]. آيات سبقت العلم، د. مها محمد فريد عقل، مكتبة الطاهر، القاهرة، ص10: 14 بتصرف.

[12]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، دار هجر، القاهرة، ط1، ج7، ص162.

[13]. الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)((النساء)، عادل الصعدي، بحث منشور بموقع: جامعة الإيمان www.jameataleman.org.

[14]. إعجازات قرآنية في وظائف جلدية، د. كارم غنيم، مقال منشور بموقع: www.mazameer.com.

الطعن في كون الوجه مرآة للنفس

مضمون الشبهة:

ينفي الطاعنون الحقيقة العلمية التي أخبر عنها المولى سبحانه وتعالى في قوله سبحانه وتعالى: )سيماهم في وجوههم((الفتح: 29)، والتي تدل على أن الوجه مرآة النفس، وأنه يظهر عليه ما يدور من خلجات النفس الإنسانية. ويستدلون على زعمهم هذا بأن كثيرًا من الناس يستطيع أن يخفي في صدره ما لا يبديه على وجهه؛ فتراه يبتسم لك وهو أشد ما يكون كراهية لك كالمنافقين.

وجه إبطال الشبهة:

أثبت العلم حديثًا أن الوجه مرآة النفس؛ حيث توصل إلى أن بالوجه خمسًا وخمسين عضلة نستخدمها دون إرادة أو وعي في التعبير عن العواطف والانفعالات، وتحيط بتلك العضلات أعصاب تصلها بالمخ، وعن طريق المخ تتصل تلك العضلات بسائر أعضاء الجسم، لذلك ينعكس على وجهك كل ما يختلج في صدرك، أو تشعر به في أي جزء من جسمك، وإذا حاول الإنسان أن يخفي ما يؤثر عليه فلا يمكنه أن يحتفظ بذلك دائمًا، ويتشكل وجهه تدريجيًّا على الرغم منه؛ وفقًا لحالات شعوره، وهذا يتطابق تمام المطابقة مع قوله سبحانه وتعالى:)سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح: ٢٩)، وقوله: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم (58) ((النحل).

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

مع تقدم الدراسات النفسية ومعرفة العلاقة بينها وبين قضايا التشريح وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء ـ وذلك بعد اكتشاف المعدات والأدوات والوسائل المعينة على الكشف والرصد ـ قد توصل الإنسان إلى معرفة الصلة الكائنة بين ما يحصل من استجابات عضلية وعصبية وغير ذلك؛ كآثار ونتائج لما يحصل للإنسان من أحوال مفرحة أو مزعجة، وأن ذلك كله يؤثر على تروية الوجه بالدم نقصانًا وزيادة، ويؤثر على توتر الأربطة والأعصاب، وكذا على شد العضلات بمستويات وكيفيات تتناغم مع طوارئ الأحداث ونوعيتها، لدرجة أنه قد قرر علماء النفس: أن الوجه مرآة النفس.

وفي هذا السياق نورد ما يقوله الدكتور “جايلورد هاروز”: إن وجهك هو رسولك إلى العالم، ومنه يمكن أن يتعرف الناس على حالك، بل يمكنك إذا نظرت إلى المرآة أن تعرف حالتك تحديدًا، وأن تسأل وجهك عما يحتاج إليه، فتلك الحلقات السوداء التي تبدو تحت العينين تدل دلالة واضحة على احتياج الإنسان إلى التغذية، وتنقية الجو الذي يعيش فيه، فهو يفتقر إلى الغذاء والهواء.

وأما هذه التجاعيد التي تُظهر بوضوح مدى ما أصاب الإنسان من سنين، فهي علامات على كيفية سير حياة صاحب الوجه.

والطب الحديث يقرر أن بالوجه خمسًا وخمسين عضلة نستخدمها دون إرادة أو وعي في التعبير عن العواطف والانفعالات، وتحيط بتلك العضلات أعصاب تصلها بالمخ، وعن طريق المخ تتصل تلك العضلات بسائر أعضاء الجسم.

وكذلك ينعكس على الوجه كل ما يختلج في صدرك أو تشعر به في أي جزء من جسمك؛ فالألم يظهر واضحًا أول ما يظهر على الوجه، والسعادة مكان وضوحها وظهورها هو الوجه، وكل عادة حسنت أو ساءت تحفر في الوجه أثرًا عميقًا؛ لذلك فإن الوجه هو الجزء الوحيد من جسم الإنسان الذي يفضح صاحبه وينبئ عن حاله، ولا يوجد عضو آخر يمكن به قراءة ما عليه الإنسان.

 بل إن العلماء يقولون بإمكان قراءة طبع الشخص وخلقه من تجاعيد وجهه؛ فأهل العناد وقوة الإرادة الذين لا يتراجعون عن أهدافهم من عادتهم زم الشفاه، فيؤدي ذلك إلى انطباع تلك الصورة، حتى حين لا يضمرون عنادًا.

أما التجاعيد الباكرة حول العينين فترجع إلى كثرة الضحك والابتسام، وأما العميقة فيما بين العينين فتدل على العبوس، والخطباء ومن على شاكلتهم من محامين وممثلين تظهر في وسط خدودهم خطوط عميقة تصل إلى الذقن، وكذا الكتبة على الآلة والخياطون ومن يضطرهم عملهم إلى طأطأة الرأس تظهر التجاعيد في أعناقهم، وتتكون الزيادات تحت الذقن.

ولقد بين علم الكيمياء الحياتية أن الحزن وما يصاحبه من عوارض عضوية في الجسم ناتج عن مواد كيميائية هرمونية وغير هرمونية تفرزها خلايا الجسم وتصبها في الدم بتحريض من الجهاز العصبي، فالعلاقة بين النفس والبدن وثيقة جدًّا، وبقدر ما تترفع النفس عن أهوائها ونزواتها، وتعلقها المرضي بالأشياء الدنيوية الزائلة ـ وهي الجنس والولد والمال والسلطان ـ تسعد الروح ويرتاح البدن؛ لذلك فإنه غالبًا ما يصاحب الحزن المرضي، والقلق النفسي الدائم مضاعفات في الدورة الدموية والقلب والرئتين، والجهاز الهضمي والبولي، وجهاز المناعة، ومختلف أعضاء الجسم([1]).

ويقول الدكتور”ألكسيس كاريل” الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة: إن شكل الوجه يتوقف على الحالة التي تكون عليها العضلات المنبسطة التي تتحرك داخل الدهن تحت الجلد، وتتوقف حالة هذه العضلات على حالة الأفكار.

حقًّا؛ إن كل إنسان يستطيع أن يضفي على وجهه التعبير الذي يريد، ولكن يحتفظ دائمًا بهذا القناع، ويتشكل وجهنا تدريجيًّا على الرغم منا؛ وفقًا لحالات شعورنا، ومع التقدم في السن يصبح صورة مطابقة لمشاعر الشخص برمته ورغباته وآماله، ويعبر الوجه أيضًا عن أشياء أعمق من نواحي نشاط الشعور؛ فيمكن للمرء أن يقرأ فيه ـ فضلًا عن رذائل الشخص وذكائه ورغباته وعواطفه وأكثر عاداته تخفيًّا ـ جبلة جسمه، واستعداده للأمراض العضوية والعقلية، فالواقع أن مظهر الهيكل العظمي والعضلات والدهن والجلد وشعر الجسم يتوقف على تغذية الأنسجة، وتغذية الأنسجة محكومة بتركيب الوسط الداخلي؛ أي بأنواع نشاط الأجهزة الغددية والهضمية، وعلى ذلك فمظهر الجسم يدلنا على حالة الأعضاء، والوجه بمثابة ملخص للجسم كله؛ فهو يعكس الحالة الوظيفية للغدد الدرقية، والمعدة والأمعاء، والجهاز العصبي في آنٍ واحد، وهو يدلنا على النزعات المرضية لدى الأفراد([2]).

يقول الدكتور أحمد عبده عوض: إن وجه الإنسان هو الشاشة البيضاء التي تظهر عليها آثار ما يعتمل في داخل الإنسان من مشاعر، فلا نجد صعوبة في أن نرى عليها الإحساس بالرضا والاطمئنان، كما نرى عليها مشاعر السعادة والحزن والغضب والخوف، وأحيانًا تكون هذه المشاعر أقوى من أن تقنع بالظهور على شاشة الوجه، فتدفع الجسم كله أو بعضه، أو القيام بحركات عصبية تعبر عنها فعلًا سواء في الفرح أو الحزن.

وإذا أردنا أن نتتبع مشاعر الإنسان في محاولة لمعرفة مصدرها، وكيف تعبر عن نفسها، فإننا سنجد أمامنا أولًا الجوارح، ثم الأعصاب التي تنقل إلى المخ ما نراه أو نسمعه مبهجًا كان أو محزنًا؛ فتنطلق منه إشارات أو أوامر ـ هكذا يقول العلم ـ محصلتها في النهاية تلك المشاعر التي نراها بوضوح على شاشة الوجه، أو في صورة حركات عصبية معبرة عنها، وكل هذا يحدث في ثانية أو بعض ثانية.

وقد جعل الخالق سبحانه وتعالى عضلات الوجه صغيرة ومنتشرة على نحو يجعلها تغطي كل أجزاء الوجه، وأنها تأتي من عظام الرأس وتندغم في لحم الوجه مختفية تحت طبقة رقيقة من الدهن، وتختلف تمامًا عن سائر عضلات الجسم، وهذه العضلات تؤدي هذا الدور بكفاءة([3]).

2)  التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وما أشارت إليه الآيات الكريمات:

من عظمة كتاب الله سبحانه وتعالى أنه أشار إلى كثير من الحقائق العلمية التي تتحدث عن خلق الإنسان وأسرار جسمه البديع، وهذه الحقائق تحقيقًا لقوله سبحانه وتعالى:)سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( (فصلت: ٥٣).

ونتوقف هنا لاستجلاء الآيات التي تختص بدلالة قسمات الوجه على واقع الإنسان، وأنها ترجمة حقيقية لما تنطوي عليه نفسه من خلال ما يطلق عليه اسم سيما الإنسان، أو قسمات وجهه ومحياه، ومن تلك الآيات قوله سبحانه وتعالى: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح:29)، وقوله سبحانه وتعالى: )تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافًا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273)((البقرة)، وقوله: )ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم( (محمد: ٣٠).

من الدلالات اللغوية في الآيات:

“السِّيما، والسِّيماء، والسِّمة، والسُّومة: العلامة”([4])، وقال الليث: والسيماء ياؤها في الأصل واو، وهي العلامة التي يعرف بها الخير والشر… وفيه لغة أخرى السيماء بالمد([5]).

من أقوال المفسرين في الآيات:

يقول الإمام الطبري: “قوله سبحانه وتعالى: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح:29)؛أي: علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم، ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يعرفون بها؛ لما كان من سجودهم له في الدنيا.

وقال آخرون: ذلك أثر يكون في وجوه المصلين، مثل أثر السهر، الذي يظهر في الوجه مثل: الكلف والتهيج والصفرة، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله ـ تعالى ذكره ـ أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود، ولم يخص ذلك على وقت دون وقت، وإذا كان ذلك كذلك ، فذلك على كل الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار عناء فرائضه وتطوعه، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرة في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود”([6]).

ويقول صاحب الظلال: “)سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح:29) ؛ سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية. ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف، وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: )من أثر السجود((الفتح:29)، فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة. واختار لفظ السجود؛ لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها، فهو أثر هذا الخشوع، أثره في ملامح الوجه؛ حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة، ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا”([7]).

وقال ابن كثير: “والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه؛ فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته”([8]).

“وقوله سبحانه وتعالى:)للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافًا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273) ( (البقرة)فيه دليل على أن للسيما أثرًا في اعتبار من يظهر عليه ذلك”([9]).

وقال السعدي: “قوله سبحانه وتعالى: )تعرفهم بسيماهم( (البقرة:273) ؛ أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله سبحانه وتعالى:)يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف( (البقرة:273) ؛ فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم”([10]).

فواضح من عموم هذه الآيات وتفسيراتها أنها تشير إلى حقيقة مفادها أنه من خلال استجلاء سيما الإنسان، وقسمات وجهه فإنه تحصل لنا ترجمة بالوجه ـ في مقاطعه وملامحه وحالته من الإشراق أو غيره ـ لما يعتمل في أعماق نفسه، ولما يستكن بين جوانح ذلك الإنسان؛ مما يمكن أن نعبر عنه بأن الوجه ترجمان النفس، فمثلًا قول الله سبحانه وتعالى: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم (58)((النحل) يدل على أن الجاهلين الذين انحرفت فطرتهم ولم تعد تتقبل مقادير الله التي تخالف أهواءهم، قد صاروا يمقتون ولادة الأنثى لهم؛ بحيث كان وجه أحدهم يكاد ينطق بتلك الكراهية لشدة ظهور آثار الحزن وعلامات الحسرة والأسى على وجهه لدى ولادة تلك الأنثى، وهكذا سطرت الآية الكريمة هذه الحقيقة.

وبالمقابل نجد أن الإنسان الذي تحصل له مسرة، ويمر بحال من الابتهاج فإن وجهه يكاد يفصح عما هو عليه من السرور والبهجة، وذلك من خلال تهلل قسمات وجهه، والإشراقة التي تعلوه، ولقد جاء ذكر ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى ضمن عدة نصوص، منها قوله سبحانه وتعالى عن المصلين الذين يتبتلون لربهم، ويستروحون نسائم القرب من مولاهم؛ فتحصل لهم طمأنينة القلب وانشراح الصدر، وبالنتيجة يترجم هذا الحال على قسمات الوجه، قال سبحانه وتعالى: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح:29)، وعلى الطرف المناقض، فإن الإنسان الكافر ـ بما يتفاعل في خبيئة نفسه من الكنود والجحود والشك والضلال ـ يكاد وجه أحدهم ينطق بذلك كله، قال سبحانه وتعالى: )تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر((الحج: ٧٢).

نعم لقد دلت نصوص القرآن الكريم على هذه الناحية بشكل يشعر أنها حقيقة وليست من قبيل المجاز؛ وذلك بعبارات الإثبات وعبارات التقرير والتأكيد، وهنا يخطر ببال الإنسان ما كان عليه واقع علماء الفراسة في القديم؛ حيث كانوا يستدلون بالظاهر على الباطن، ولكننا نسارع هنا لنقول: إن هذا الاستدلال من أولئك العلماء بالفراسة إنما كان يعتمد على آثار ومقارنات دون دليل ومعيار مادي يمكن الترجمة عنه بأسلوب تجريبي منضبط ومطرد، في حين أن الحقيقة التي دلت عليها نصوص القرآن الكريم قد استطاع العلم الآن أن يقدم البراهين عليها([11]).

حيث استطاع العلم الحديث أن يتعرف على الإنسان من ملامح وجهه، وتغير الملامح مرتبط بتغير الخوالج النفسية، وربما نستدل على المجرم من تفاعلات أعصاب وجهه، وربما يظهره وجهه من ملامح تتبدى في صورة مرئية يلحظها الرائي له، ويستفاد من ذلك في علوم الإجرام والأنثروبولوجيا، كما أثبت العلم أن إحساس الفرد بالأسى أو بالأسف أو بالندم أو بالفرح أو بالحزن إنما يكشف عنه من خلال وجهه([12]).

أما عن قول المدعين بأن كثيرًا من الناس يستطيع أن يخفي في صدره ما لا يبديه على وجهه؛ فتراه يبتسم لك وهو أشد ما يكون كراهية لك كالمنافقين.

فللإجابة عن ذلك نقول: حقًّا إن كل إنسان يستطيع أن يضفي على وجهه التعبير الذي يريد، لكن يحتفظ دائمًا بهذا القناع، ويتشكل وجهنا تدريجيًّا على الرغم منا؛ وفقا لحالات شعورنا، ومع التقدم في السن يصبح صورة مطابقة لمشاعر الشخص برمته، ورغباته وآماله، ويعبر الوجه أيضًا عن أشياء أعمق من نواحي نشاط الشعور؛ فيمكن للمرء أن يقرأ فيه ـ فضلا عن رذائل الشخص، وذكائه ورغباته وعواطفه، وأكثر عاداته تخفيًّا ـ جبلة جسمه، واستعداده للأمراض العضوية والعقلية؛ فالواقع أن مظهر الهيكل العظمي والعضلات والدهن والجلد وشعر الجسم يتوقف على تغذية الأنسجة، وتغذية الأنسجة محكومة بتركيب الوسط الداخلي؛ أي بأنواع نشاط الأجهزة الغددية والهضمية، وعلى ذلك فمظهر الجسم يدلنا على حالة الأعضاء، والوجه بمثابة ملخص للجسم كله، فهو يعكس الحالة الوظيفية للغدد الدرقية، والمعدة والأمعاء، والجهاز العصبي في آنٍ واحد، وهو يدلنا على النزعات المرضية لدى الأفراد.

ومن ثم فإن بوسع الملاحظة الدقيقة أن تستنبط ما بداخل جسم الإنسان وروحه من خلال تعابير صفحة وجهه.

وهكذا يصل العلم أخيرًا إلى ما سبق القرآن بتقريره في آياته الشريفة من أن الوجه مرآة النفس، وأن عليه تنعكس حالات الإنسان لا سيما العاطفية منها، وما يتصل بشعوره ووجدانه؛ فمن السهل ملاحظة الأسى والأسف ظاهرين على الوجه بما يخالطه من علامات القناعة والسواد، بعكس السعادة والطمأنينة والإيمان والسكينة؛ إذ تخط على الوجه علامات النور والرضا([13]).

3)  وجه الإعجاز:

قرر علماء النفس أن الوجه مرآة النفس، وأنه رسول الإنسان إلى العالم؛ وذلك بناء على ما توصل إليه الطب حديثًا من أن بالوجه خمسًا وخمسين عضلة، نستخدمها دون إرادة أو وعي في التعبير عن العواطف والانفعالات، فتعكس على الوجه كل ما يختلج في الصدر أو يشعر به الإنسان في أي جزء من جسمه، وهذه الحقيقة العلمية قد أخبر عنها القرآن الكريم في أكثر من آية، منها قوله سبحانه وتعالى: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود((الفتح:29)،وقوله سبحانه وتعالى: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم (58)( (النحل).

(*) موقع: الذاكرة www.alzkera.eu. محمد والمعجزات العلمية في القرآن والحديث، نور الدين أبو لحية، دار الكتاب الحديث، القاهرة، 1430هـ/ 2009م.

[1]. )سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ( (الفتح:29) ، د. عبد الحفيظ الحداد، بحث منشور بـمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (32)، صفر 1430هـ، ص30، 31.

[2]. الوجه مرآة النفس معجزة علمية، عبد الرازق نوفل، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[3]. الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، المكتبة القيمة، القاهرة، ص244، 245 بتصرف.

[4]. المخصص، مادة: العلامة.

[5]. تهذيب اللغة، مادة: سام.

[6]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، مرجع سابق، ج22، ص264.

[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3332.

[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص204.

[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج3، ص341.

[10]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي، مرجع سابق، ص116.

[11]. )سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ((الفتح:29)، د. عبد الحفيظ الحداد، مرجع سابق، ص30، 31.

[12]. الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، مرجع سابق، ص244.

[13]. الوجه مرآة النفس معجزة علمية، عبد الرازق نوفل، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

الطعن في الآيات الواردة في جعل الليل سكنًا والنهار معاشًا

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المغرضين في الآيات الكريمة الواردة في جعل الليل سكنًا والنهار معاشًا، كقوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا الليل لباسًا (10) وجعلنا النهار معاشًا (11)( (النبأ)، زاعمين أنها تتناقض مع العلم الحديث الذي استطاع الإنسان فيه أن يتغلب على ظلمة الليل بالكهرباء وغيرها، فلم يعد هناك فرق بين ليل ونهار؛ حتى صار كثير من الناس يؤدون أعمالهم ليلًا.

ومن ثم فلم يعد ـ في ظنهم ـ النوم مقتصرًا على الليل، ولا العمل مقتصرًا على النهار، كما ذكر القرآن الذي لا يتناسب إلا مع البيئة البدوية القديمة.

وجه إبطال الشبهة:

لقد جعل الله سبحانه وتعالى الليل للسكن والنوم، والنهار للسعي والعمل، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات كثيرة، منها الآية محل الشبهة، وبهذا قال جميع المفسرين؛ اعتمادًا على ما جاءت به اللغة والآثار الصحيحة، وهذه حقيقة علمية أثبتها الطب الحديث من خلال تجاربه وأبحاثه؛ حيث توصل إلى أن السكن والنوم يكونان ليلًا وفي أوقات القيلولة فحسب، أما العمل ليلًا والنوم نهارًا لفترات طويلة فإنه يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية في جسم الإنسان؛ مما يسبب له أمراضًا نفسية وعضوية، فهل بعد هذا كله يدَّعون أن القرآن الذي حوى العديد من الإشارات العلمية اليقينية ـ لا يتناسب إلا مع البيئة البدوية القديمة؟!

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

لقد أثبت العلم الحديث من خلال التجارب العلمية والدراسات المختبرية أن أفضل نوم للإنسان هو نومه بالليل؛ خاصة في الساعات الأولى منه؛ لأنه يجدد النشاط ويقوي الذاكرة، ويريح أغلب أجهزة الجسم، كما أثبت أن كثرة النوم بالنهار ـ في غير ساعات القيلولة ـ ضار بالصحة، فهو يؤثر على نشاط الدورة الدموية تأثيرًا سلبيًّا، ويتهدد عضلاته بالتيبس، كما يتهدد وزنه بالزيادة المفرطة، وجسده بالترهل؛ نظرًا لتراكم الدهون في أجزاء مختلفة منه، كما يؤدي إلى شيء من القلق والتوتر النفسي.

وربما كان مرد ذلك إلى الحقيقة الكونية التي مؤداها أن الانكماش الملحوظ في سمك طبقات الحماية الموجودة في الغلاف الغازي للأرض ليلًا، وتمددها نهارًا يؤدي إلى زيادة قدرتها على حماية الحياة الأرضية في النهار عنها في الليل حين ترق طبقات الحماية الجوية تلك رقة شديدة قد تسمح لعدد من الأشعة الكونية بالنفاذ إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وهي أشعة مهلكة مدمرة لمن يتعرض لها لمدد زائدة؛ لذا كان الاستخفاء في الليل والظهور في النهار([1]).

ومن ناحية أخرى أثبت الطب الحديث أن بجسم الإنسان غدة تسمى “الغدة الصنوبرية”، تقع تحت الدماغ، تقوم بإنتاج أحد الهرمونات المهمة لحياة الإنسان، ألا وهو هرمون الميلاتونين، الذي تفرزه ليلًا، وتتوقف عنه نهارًا، وهذا الهرمون يلعب دورًا مهمًّا في المحافظة على جسد الإنسان؛ لأنه من مضادات الأكسدة   Anti – Oxidats، فيقلل من فرص التعرض لأمراض القلب والشرايين بالتقليل من فرص تجلط الدم، ويعمل على المحافظة على الخلايا العصبية وخلايا الدماغ، كما يعمل على تقوية جهاز المناعة بالجسم، ويؤخر ظهور آثار الشيخوخة عليه، ويبدو أن التعرض لطاقة الشمس بالنهار يزيد من قدرة الغدة الصنوبرية على إفراز هرمون السيرتونين نهارًا، وعلى إفراز الميلاتونين ليلًا، بينما تعرض الإنسان ليلًا للأضواء الاصطناعية لا يساعد على إنتاج السيرتونين، ويثبط من قدرة هذه الغدة على إفراز الميلاتونين الذي تتناقص معدلات إنتاجه بزيادة شدة الضوء الذي يتعرض له الإنسان، وتزيد تلك المعدلات كلما اشتد الظلام.

ومن بديع خلق جسم الإنسان أنه بمجرد أن تلتقط عيناه شعاع النور في النهار ترسل رسالة إلى الساعة الحياتية([2]) في جسده عن طريق جهازه العصبي؛ فيتوقف إنتاج الميلاتونين، ويبدأ الجسد في إنتاج غيره من الهرمونات، مثل هرمون النهار المعروف باسم “السيروتونين”، وتنعكس هذه العملية مباشرة بمجرد غياب الشمس([3]).

ودعمًا لما سبق من حقائق يقول الدكتور النابلسي: أوضحشيء في جسم الإنسان أن كميات الهرمونات في الدم تتبدل من النور إلى الظلام؛ فهذه الهرمونات لها نسب في الليل، ولها نسب في النهار؛ لأن النهار جعل للمعاش، والليل للسكن؛ ففي الليل يزداد هرمون النمو، وتزداد هرمونات الإخصاب، ويقلّ استهلاك السكر ثلاثين في المئة عما هو في النهار، ولهذا تقلّ فاعلية الجهاز التنفسي في الليل ثلاثين بالمئة عما هي في النهار.

وهذا التبدل يحدد مستوى حيوية وظائف الجسم التي تزداد نهارًا، وتتدنى ليلًا؛ فالحرارة مثلًا تصل في الجسم الإنساني إلى أدنى مستوًى لها خلال الليل، وتأخذ في الارتفاع إلى أقصى درجة في الساعة السادسة صباحًا، ويتبدل نبض القلب من الليل إلى النهار، ويتبدل الضغط الشرياني من الليل إلى النهار، أما المعدة فتكون قدراتها الإفرازية، وقدراتها على هضم الطعام قليلة في أثناء الليل([4]).

وفي بريطانيا أكد الدكتور “جيمس هور” ـ مدير معامل أبحاث النوم بجامعة لوبرا ببريطانيا ـ أن عدم النوم ولو لليلة واحدة يضيع على الإنسان مقدرة الابتكار والإتيان بأفكار جديدة، وقد توصل إلى هذه النتيجة بعد تجربة أجراها على طلاب جامعيين بعد أن قضوا ليلة لم يذوقوا فيها طعم النوم، وجرى توجيه أسئلة إليهم، فكانت إجاباتهم عنها تفتقر إلى الفورية والنشاط الذهني([5]).

وليس الأمر هنا مقصورًا على الإنسان وحده، بل يتعدى ذلك إلى الكون جميعه.

يقول الباحث هارون يحيى: الكثير جدًّا من الأنشطة على سطح الأرض تحدث نهارًا وتبطئ ليلًا لتخلد للهدوء؛ فعلى سبيل المثال تبدأ مع شروق الشمس عملية النضج في أوراق النبات، ومن ثم تزداد عملية التمثيل الضوئي، أما بعد الظهر فيحدث العكس؛ أي تبطئ هذه العملية، ويزداد التنفس؛ لأنه مع ازدياد درجة الحرارة يزداد النضج، ويقلّ ليلًا مع انخفاض درجة الحرارة؛ فيرتاح النبات، ولولا ذلك لماتت معظم النباتات، وعلى هذا فالليل مهم لراحة النباتات وحيويتها بقدر أهميته للإنسان وباقي الكائنات الحية.

كما تقلّ الحركة ليلًا في الجزيئات، وفي النهار يحرك الإشعاع الذي تنشره الشمس الذرات والجزيئات في الغلاف الجوي للأرض، ويرفع من مستويات الطاقة فيها، وعندما يخيم الظلام تنخفض هذه الطاقة([6]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآيات الكريمة:

إن تخصيص الليل للسكن والنوم، وتخصيص النهار للسعي والعمل حقيقة قرآنية، ذكرها الله تعالى في آيات كثيرة، منها قوله سبحانه وتعالى:)هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67)( (يونس)، وقوله سبحانه وتعالى: )وهو الذي جعل لكم الليل لباسًا والنوم سباتًا وجعل النهار نشورًا (47)( (الفرقان)، وقوله سبحانه وتعالى: )ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86)((النمل)، وقوله سبحانه وتعالى: )وجعلنا الليل لباسًا (10) وجعلنا النهار معاشًا (11)((النبأ).

وقد طعن في هذه الحقيقة الثابتة بعض المغرضين، مستدلين بظهور الكهرباء التي جعلت كثيرًا من الناس يؤدون أعمالهم بالليل، ومن ثم فالليل والنهار ـ في ظنهم ـ متساويان لا تخصيص بينهما في السكن أو العمل، والجواب عن هذه الشبهة يكون من خلال ما يأتي:

من الدلالات اللغوية في الآيات:

تسكنوا: من السكن، وهو كل ما سكنت إليه واستأنست به من أهل وغيره([7]).
مبصرًا: أي يبصر فيه، وصار الشيء مبصرًا؛ أي مضيئًا([8]).
لباسًا: لباس كل شيء غشاؤه، ولباس الليل ظلمته التي يسكن فيها([9]).
نشورًا: مأخوذ من نشر الشيء ينشره نشرًا ونشورًا، إذا أحياه بعد موته، ومنه يوم النشور، وهو يوم البعث والحساب([10]).
معاشًا: المعاش أو المعيشة، هو ما يعاش به أو فيه، والنهار معاش للخلق؛ أي يلتمسون فيه معايشهم([11]).

من أقوال المفسرين في الآيات:

يقول ابن كثير: في تفسير الآية الأولى: هو “الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه؛ أي: يستريحون فيه من نصبهم وكلالهم وحركاتهم، )والنهار مبصرًا(؛ أي: مضيئًا لمعاشهم وسعيهم، وأسفارهم ومصالحهم”([12]).

وأما عن الآية الثانية، فيقول السعدي: “أي: من رحمته بكم ولطفه أن جعل الليل لكم بمنزلة اللباس الذي يغشاكم، حتى تستقروا فيه وتهدءوا بالنوم وتسبت حركاتكم؛ أي: تنقطع عند النوم، فلولا الليل لما سكن العباد ولا استمروا في تصرفهم، فضرهم ذلك غاية الضرر، ولو استمر أيضًا الظلام لتعطلت عليهم معايشهم ومصالحهم، ولكنه جعل النهار نشورًا ينتشرون فيه لتجاراتهم وأسفارهم وأعمالهم؛ فيقوم بذلك ما يقوم من المصالح”([13]).

وأما عن الآية الثالثة فيقول صاحب التفسير الوسيط: “لقد أوجدنا لهم ليلًا يسكنون فيه، وأوجدنا لهم نهارًا يبتغون فيه أرزاقهم، وجعلنا الليل والنهار بهذا المقدار، لتتيسر لهم أسباب الحياة والراحة، فكيف لم يهتدوا إلى أن لهذا الكون خالقًا حكيمًا قادرًا”([14])؟!

ويقول الفخر الرازي: “لما قال: )هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا( (يونس:67)،فلم لم يقل: والنهار لتبصروا فيه؟ جوابه: لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل، وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود، بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية”([15]).

وأما عن الآية الرابعة، فيقول الطبري: “وجعلنا الليل لكم غشاء يتغشاكم سواده، وتغطيكم ظلمته، كما يغطي الثوب لابسه؛ لتسكنوا فيه عن التصرف لما كنتم تتصرفون له نهارًا… وجعلنا النهار لكم ضياء؛ لتنتشروا فيه لمعاشكم، وتتصرفوا فيه لمصالح دنياكم، وابتغاء فضل الله فيه”([16]).

ومن خلال العرض السابق يتضح جليًّا أن الله سبحانه وتعالى خصص الليل للنوم والسكن، وخصص النهار للسعي والعمل، وليس كما يدّعون.

وهذه حقيقة علمية كونية، أكدت جميع البحوث الطبية الحديثة صحتها، وأن محاولة الإنسان مخالفة سنة الكون هذه بأن ينام في النهار، ويسعى في الليل ـ يعرض صحته لنكسات وأذيَّات كثيرة.

وقد نقل الدكتور حسان شمسي باشا فقرات من بحث مهم أجري في جامعة هارفرد الأمريكية تؤكد أن العمل الليلي يشكل مصدر خطر صحي في العالم المتحضر اليوم يشمل ازدياد العقم والأرق، كما يترافق بنقص في قدرة الإنسان على إنجاز عمله بشكل تام، ونقص في تيقظه، مما يؤدي إلى نقص معدل الإنتاج وزيادة معدل الحوادث.

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل في الوقت الذي تخلد فيه الكائنات الأخرى للنوم، ثم هو يحاول أن ينام في الوقت الذي يبلغ فيه استيقاظه الغريزي ذروته. ويؤدي هذا السلوك إلى إحباط النظام الطبيعي لساعته الحيوية (البيولوجية)، هذه المشكلة تشمل الملايين العاملين في المناوبات الليلية والمسافرين كثيرًا عبر القارات، وإن استمرار عملهم لفترة طويلة ليلًا مع عدم إمكانية تكييف ساعاتهم الحيوية مع تغير نظام حياتهم اليومي يؤدي إلىنقص في القدرة على الإنجاز مع ازدياد الحوادث الناجمة عن التعب والإعياء.

ولعل الدكتور الراوي ـ الذي يعتبر الرائد في أبحاث الإعجاز الطبيفي القرآن ـ هو أول من أشار إلى الإعجاز العلمي في الآيات السابقة، فأكد أن قوانين الطب تمنع الاستمرار في العمل الليلي بصورة دائمة، وتفرض وجوب المناوبة على الأعمال بصورة دورية بين الليل والنهار إن لم يجد المرء العمل النهاري الدائم، وإن الاستمرار في العمل ليلًا والنوم نهارًا له خطربالغ على كافة أجهزة البدن وخاصة الجهاز العصبي، وأن النوم الليلي يعتبر غذاء مشبعًالهذا الجهاز، قادرًا على إعادة الحيوية والفعالية العضوية للحجرالدماغية.

وتؤكد الأبحاث الطبية المعاصرة أن ضوء الشمس يبقي على الجهازالعصبي ـ وإن نام صاحبه ـ بحالة من التوتر الحاد، وليست له القدرة على الاسترخاء الوظيفيالضروري لراحته؛ الأمر الذي يؤدي ـ مع استمرار نومه نهارًا ـ إلى تعرض الجسم للسقم والضعفوالانهيار، وأن الظلام يعتبر من أهم العناصر التي تحتاجها الجملة العصبية أثناء النوم ليتم ترميمها، وأن النوم العميق الذي لا بد منه لراحة الأعصاب لا يحصل إلامع هدوء الليل وظلمته([17]).

وبهذا يتبين لكل مدَّع إعجاز القرآن الكريم الذي أشار إلى تلك الحقائق العلمية والطبية في آيات كثيرة، وذلك منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، فكيف يدّعون بعد كل هذا أن القرآن لا يتناسب إلا مع البيئة البدوية القديمة؟!

3)  وجه الإعجاز:

أثبتت التجارب والدراسات الطبية الحديثة أن النوم ليلًا ـ لا سيما في الساعات الأولى منه ـ هو النوم الصحي لحياة الإنسان؛ كي يستعيد النشاط والحيوية في أثناء النهار، أما العمل ليلًا والنوم نهارًا لفترات طويلة يضر بالجسم ضررًا بالغًا؛ حيث تختل عنده الساعة البيولوجية، فيؤدي ذلك إلى أمراض نفسية وعضوية، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في آيات كثيرة؛ منها قوله سبحانه وتعالى:)هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67)((يونس).

(*) التناقضات الواضحة بين العلم وصحيح دين الإسلام، مقال منشور بموقع: الملحدين العربwww.el7ad.com.

[1]. انظر: تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج1، ص50، 51، ج2، ص403، 404.

[2]. الساعة الحياتية (البيولوجية): هي مجموعة خلايا بجوار الغدة النخامية، تستشعر ضوء الشمس الذي يسقط على قاع الشبكية، فتعرف أن الوقت نهار، فإذا غابت هذه الأشعة التي تسقط على قاع الشبكية، عرفت الخلايا أن الوقت ليل.

[3]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج4، ص498 بتصرف. وانظر: من آيات الله في الإنسان، د. مصطفى الأسود، مرجع سابق، ص80. الإعجاز العلمي في قوله:)وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)((الروم)، مقال منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآنwww.kenanaonline.com.

[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الإنسان، د. محمد راتب النابلسي، مرجع سابق، ص73 بتصرف.

[5]. السهر: أسبابه وأقسامه، محمد الهبدان، مقال منشور بموقع: منتديات الدررwww.maknoon.com.

[6]. القرآن والعلم، هارون يحيى، ترجمة: د. إبراهيم الصنافيري، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص103 بتصرف.

[7]. لسان العرب، مادة: سكن.

[8]. لسان العرب، القاموس المحيط، مادة: بصر.

[9]. لسان العرب، مادة: لبس.

[10]. تاج العروس، لسان العرب، مادة: نشر.

[11]. تاج العروس، لسان العرب، مادة: عيش.

[12]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص424.

[13]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مرجع سابق، ج1، ص584.

[14]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد سيد طنطاوي، مرجع سابق، ج10، ص87.

[15]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ج24، ص188.

[16]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج24، ص151، 152.

[17]. الآية الكونية العظمى في تعاقب الليل والنهار، مقال منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.science4islam.com.

دعوى أن وقوع الشيب لأسباب نفسية ضرب من الخرافات

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المغرضين في قول الله سبحانه وتعالى: )فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شِيبًا (17)( (المزمل)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له أبو بكر رضى الله عنه: «قد شِبْتَ، قال: شيَّبتني هود والواقعة والمرسلات…». مستدلين على طعنهم هذا بأن القول: إن الشيب يقع بسبب العوامل النفسية؛ كالخوف والفزع ما هو إلا ضرب من الخرافات التي كانت منتشرة في الجاهلية، وأنه يخالف الحقائق العلمية الحديثة التي أثبتت أن الشيب يكون نتيجة نقص في كمية الصباغ بطبقة الكراتين.

وجه إبطال الشبهة:

إن ما ذكره القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف من كون الشيب يحدث لأسباب نفسية كالخوف والفزع ـ قد أثبته الطب الحديث؛ حيث إن هذه الحالات النفسية يصاحبها إفراز مادة الأدرينالين، وهي من المواد القاتلة لخلايا التلوين، وقد أوضح فريق من علماء اليابان أن التعرض لهذه الظروف يصيب الخلايا المسئولة عن تزويد جريبات الشعر باللون الطبيعي بالتلف، وكذلك يؤدي إلى موت الأوعية الدموية والخيوط العصبية المغذِّية للبصيلات المسئولة عن إنتاج هذا الصبغ، الأمر الذي يسبِّب الشيب المبكر.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

الشيب هو ابيضاض الشعر بفقدانه مادته الملوِّنة الموجودة بخلايا التلوين (Melanocytes) في عمق البصيلة الشعرية، ويتناقص عدد خلايا التلوين بمعدل 1% في كل سنة تقريبًا، ويخضع نشاطها إلى مفعول هرمون خاص، وبنقص إفرازه تدريجيًّا مع تقدُّم العمر يضعف نشاط خلايا تلوين الشعر؛ فيَبْيَضّ لونه بالتدريج.

وثبت أن من أسباب التعجيل بظهور الشيب تكرُّر حالات الفزع، والأزمات النفسية، والشدائد التي يمرُّ بها الإنسان؛ وذلك لما يصاحب تلك الحالات من إفراز مادة الأدرينالين، وهي من المواد القاتلة لخلايا التلوين، وقد يُصاحب ابيضاض الشعر بقلة كثافته أو تساقطه، نظرًا لموت الأوعية الدموية والخيوط العصبية المغذية للبصيلات المسئولة عن إنتاجه([1]).

وقد كشف علماء في اليابان عن ارتباط ظهور الشيب بمرور الإنسان بظروف عصيبة، والشعور بالضغط النفسي. وأوضح العلماء أنه عند التعرُّض لهذه الظروف تتعرض الخلايا الجذعية المسئولة عن تزويد جريبات الشعر باللون الطبيعي للتلف وهو ما يسبِّب الشيب.

وقد نقلت صحيفة ديلي تلغراف ([2]) عن الباحثة “إيمي نيشيمورا” من جامعة كانازاوا في اليابان ـ والتي قادت فريق البحث ـ قولها: إن جريبات الشعر يمكن أن تتعرض للضغط الجيني الذي يتلف بدوره الحمض النووي الريبي في الجسم، إن خلايا الحمض النووي الريبي تتعرض لهجوم دائم من جانب عوامل ضارة مثل الأشعة فوق البنفسجية والإشعاع النووي؛ حيث إن خلية واحدة عند الثدييات يمكن أن تواجه نحو مئة ألف حالة مدمِّرة يتعرض لها الحمض النووي الريبي يوميًّا.

وعَزَت “نيشيمورا” فقدان الشعر لونه الطبيعي إلى الموت التدريجي للخلايا الجذعية المسئولة عن الخلايا الصبغية التي تكسب الشعر لونه الطبيعي، أظهرت دراسات سابقة أُجريت على الفئران أن التلف الذي يصيب الحمض النووي الريبي لا يمكن إصلاحه بسبب تعرضه للإشعاعات النووية التي تسبب الشيب([3]).

وهناك أبحاث عديدة تشير إلى أن الجينات المتبدلة تلعب دورًا أساسيًّا في عملية الشيخوخة عامة، وأن فقدان الخلايا الجذعية يمكن أن يؤدي إلى التراجع في عملية تجدُّد الأنسجة، ويسرِّع بذلك الشيخوخة، وقال الباحثون في الدراسة التي نشرتها مجلة الخلايا: اكتشفنا في هذه الدراسة أن الشيب هو أحد أكثر الإشارات وضوحًا على الشيخوخة وعلى تلف الخلايا الجذعية المسئولة عن تزويد جريبات الشعر بلونه الطبيعي.

وفي بحث نشرته مجلة (ASEB) الأمريكية ( Federation of the American Societies for Experimental Biology) صرَّح البروفيسور “هاينز ديكر” ـ من معهد الفيزياء الحيوية التابع لجامعة يوهانس جوتنبيرغ ـ أنالبحث الذي شارك فيه باحثون من جامعة برادفورد في بريطانيا تعرَّف ولأول مرة على آلية شيب الشعر، أو تحوُّله إلى اللون الأبيض، وكان سائل بيروكسيد الهيدروجين المعروفبوصفه مادة مبيِّضة للشعر نقطة بداية البحث؛ حيث اكتشف فريق البحث أن هذه المادةتزداد وتتضاعف مع تقدم الإنسان في العمر، وتراجع كفاءة جسمه بشكل يؤدي إلى صعوبة تحويلها إلى ماء وأكسجين، وهو ما يؤدي بدوره إلى منع تكوُّن مادة الميلانين التي تنتجها الخلايا الصبغية، والجدير ذكره أن هذه المادة تشكِّل مصدر ألوان الشعر والعين والجلد.

ويخضع الشعر لتأثير العديد من الهرمونات؛ فيزداد نموه بزيادة إفراز هرمون الثيروكسين من الغدة الدرقية لدى النساءوالرجال، بينما يقلِّل هرمون الإستروجين ـ الذي يفرزه المبيض عند النساء ـ من نمو الشعر.

وتستمر عملية نمو الشعر نحو أربع سنوات عند الرجال وست سنوات عند النساء، ليبلغ طول نمو الشعر نحو 80 سم، وبعد النشاط الحادِّ تبدأ البُصيلة بمرحلة الراحة التي تستمر من ثلاثة إلى ستة أشهر قبل أن تبدأ بالعمل ثانية، فتكوِّن شعرة جديدة تدفع القديمة خارجًا لتسقط.

ويعتمد لون الشعر على مدى نشاط الخلاياالملونة التي تفرز مادة الميلانين البُنِّية اللون، فسواء أكان الشعر أشقرًا أم داكنًا يرجع إلى كمية الميلانين المنتجة وطريقة توزيعها، أما الشعر الأحمر فيحتوي على صبغةإضافية غنية بالحديد.

صورة حقيقية لخليةmelanocyteوهي ترسل مادة الميلانين إلى الخلايا

ويتكوَّن الشعر من ألياف رقيقة مُركَّبة من البروتينات، ويظهر في جسم الجنين خلال الشهرين الأولين من عمره، ويتركَّز في الحواجب والشفة العليا والذقن، أما شعر باقي مناطق الجسمفيظهر في الشهر الرابع، ويتكون من لُبٍّ وقشرة والطبقة الكيراتينية والغلاف الجدري الداخلي، ويبلغ العدد الإجمالي للشعر في الإنسان زهاء الخمسة ملايين شعرة منها: 100,000ـ 150,000 في فروة الرأس، ويفقد الإنسان نحو مئة شعرة يوميًّا، يتم تعويض 90 %منها من خلال النمو الجديد.

ولا يعني ظهور الشيب مطلقًا التقدُّم في السن؛ فقد يظهر الشيب قبل البلوغ أو بعد ذلك نتيجة ظروف معينة، كما أن الاستعداد الشخصي والعوامل النفسية والوراثية لها أثر مهم في ظهور الشيب المبكِّر، كما تجدر الإشارة إلى أن بعض حالات الشيب المبكر تكون مؤقتة؛ إذ قد تعاود الخلاياالملونة نشاطها مرة أخرى بعد زوال المؤثِّر، ومن ثم يعود لون الشعر إلى وضعه العادي، أما إذا كان المؤثر على الخلايا الأم (الكيراتينوسايتس) التي تنتج الخلايا الملونة، فإن فرصة إعادة تلوُّن الشعر تكاد تكون معدومة، وتستمر الشعرة فاقدةً لونها.

وتؤكِّد العديد من الدراسات أن العامل النفسي يمكن أن يؤثر على الشيب؛ فالخوف الشديد يمكن أن يؤدي إلى تعطيل تشكُّل مادة الميلانين بسبب انخفاض كفاءة الخلايا في القيام بالتفاعلات الحيوية اللازمة، ومن ثم نرى أطفالًا أو شبابًا في سن صغيرة وقد شاب شعر رأسهم.

ومُلخَّص الحقيقة العلمية المكتشفةحديثًا أن هذه المادة تنتج في جميع أنحاء الجسم نتيجة العمليات الحيوية داخل الخلايا، وتنتج أيضًا في بصيلات الشعر، ولكن كميتها قليلة وتزداد تدريجيًّا مع تقدُّم العمر؛ حيث يعجز الجسم عن تفكيك هذه المادة إلى ماء وأكسجين، وذلك بواسطة الإنزيمcatalyse؛ حيث يقلِّل الجسم من إنتاج هذا الإنزيم مع تقدم السن؛ ولذلكفإن المادةH2O2 تهاجم إنزيم tyrosinaseالمسئول عن إنتاج المادة الصبغية، ومن ثم تتعطَّل عملية إنتاج صبغة الشعر (الميلانين)، ويبدأ الشيب بالظهور([4]).

ويفسِّر الدكتور محسن سليمان ـ أستاذالأمراض الجلدية والتجميل بطب القصر العيني ـ ظاهرة شيب الشعر نتيجة الضغوط والتوترات العصبية والنفسية قائلًا: وتفسير هذه الظاهرة بأن تلك المؤثِّرات تؤدي فعلًا إلى ظهور الشعر الأبيض؛ نتيجة توقف نشاط الخلايا الملونة، فإذا نقصت إفرازات تلك الغدة فإن الشعر يفقداللون، كما أن النقص في إفرازات الغدة الدرقية يؤدي إلى ظهور الشعر الأبيض كذلك.

وأوضحت الأبحاث الطبية أن هناك أكثر من حوالي 26 حالة من هذا النوع، وأشهر هذه الحالات التي يذكرها التاريخ حالة (ماري أنطوانيت)([5]) في أثناء الثورة الفرنسية، التي قرَّرت إعدامها بالمقصلة، وفي يوم التنفيذ 1793م لم يعرفها الناس؛ حيث إن شعرها تحوَّل خلال ساعات إلى اللون الأبيض نتيجة الفزع والشدِّ العصبي العنيف([6]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه القرآن والحديث:

زعم المغرضون أن حديث القرآن والسنة عن شيب الرأس بسبب الأهوال والخوف ما هو إلا ضرب من الخرافات، وأنه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ وحيه من الدجالين والمشعوذين، بل والجهَّال أيضًا، وأن الحقيقة أن الشيب لا يكون إلا بسبب كبر السن أو لعوامل  وراثية.

ومن ثم راحوا يردِّدون قول الله سبحانه وتعالى في وصف يوم القيامة وشدَّته: )فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شِيبًا (17)( (المزمل)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له أبو بكر رضى الله عنه: «قد شِبْتَ، قال: شيَّبتني هود والواقعة والمرسلات…». ومن هنا نبين في هذه السطور أن الحقائق العلمية الصحيحة والتي توصَّل إليها العلم الحديث ـ تثبت ما ذكره القرآن والحديث، ويتضح ذلك من خلال ما يأتي:

من الدلالات اللغوية في الآية والحديث:

الشيب: هو بياض الشعر، والمشيب مثله، وربما سُمِّي الشعر نفسه شيبًا، ويقال: شيَّبه الحزن، وشيَّب الحزن رأسه وبرأسه، وأشاب رأسه وبرأسه([7]).

من أقوال المفسرين وشُرَّاح الأحاديث:

يقول القرطبي في قول الله سبحانه وتعالى: )فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شِيبًا (17)( (المزمل)؛ “أي يشيب فيه الصغير من غير كِبَر، وذلك حين يقال: يا آدم قم فابعث بعث النار، وقيل: هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان، ولكن معناه: أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة”([8]).

وقال صاحب فتح البيان: “)يجعل الولدان شِيبًا(17)((المزمل)،  لشدة هوله؛ أي: يصير الولدان شيوخًا شمطًا، والشيب جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلًا؛ لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه، وضعفت أعضاؤه، وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة”([9]).

ويقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: “ووصف اليوم بأنه )يجعل الولدان شِيبًا(17)((المزمل)،وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان؛ لأنه شاع أن الهمَّ مما يسرع به الشيب، فلما أُريد وصف هَمِّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أُسند إليه: يشيب الولدان الذين شَعْرُهم في أول سواده، وهذه مبالغة عجيبة، وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب”([10]).

وأما الحديث الذي معنا فقد رواه عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «قال أبو بكر: يا رسول الله قد شِبْتَ، قال: شيَّبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كُوِّرت»([11]).

وشِبْت: من الشَّيب، وهو بياض الشعر، وشيَّبتني: من التشيُّب؛ وذلك لما في هذه السور من أهوال يوم القيامة.

إن الآية والحديث يشيران إلى تأثير العامل النفسي على شيب الشعر؛ حيث إن الخوف يؤدي إلى هذا الشيب، وتخبرنا الدراسات العلمية التي أجراها الباحثون لمعرفة أسرار الشيب ـ أن العوامل النفسية مهمة جدًّا في تسريع ظهور الشيب؛ حيث يؤدي الخوف والاضطرابات النفسية إلى سلسلة من الاضطرابات في نظام عمل الإنزيمات، ونظام عمل الخلايا مما يؤدي إلى ظهور الشيب.

وذلك بسبب ما يسبِّبه هذا الخوف من إفراز مادة الأدرينالين، وهي من المواد القاتلة لخلايا التلوين، والمسبِّبة لموت الأوعية الدموية والخيوط العصبية المغذِّية للبُصيلات المسئولة عن إنتاجه.

3)  وجه الإعجاز:

من الحقائق العلمية التي ذكرها القرآن والسنة أن الشعر يشيب من شدة الأهوال والخوف؛ فقال سبحانه وتعالى: )فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شِيبًا (17)( (المزمل)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «شيَّبتني هود والواقعة… »، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الشيب بسبب الضغط النفسي واقع بالفعل وليس خرافة؛ حيث تتعرَّض الخلايا المسئولة عن تزويد جريبات الشعر باللون للتَّلف أثناء هذه الظروف مما يسبِّب الشيب.

(*) موقع: الحوار المتمدن www.ahewar.org. قراءة علمية وإعجازية في وهن العظام عند الرجال، د. محمد الدين، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.

[1]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص474، 475.

[2]. صحيفة ديلي تلغراف: صحيفة يومية محافظة تصدر في بريطانيا، صدر العدد الأول منها في 29 يونيو 1855م، ومقرها في لندن.

[3]. انظر: تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج1، ص50، 51، ج2، ص403، 404.

[4]. القرآن الكريم واكتشاف أسرار الشيب، عبد الدائم الكحيل، شبكة الدفاع عن السنة www.dd_sunnah.net.

[5]. ماري أنطوانيت: ملكة فرنسا، وزوجة الملك لويس السادس عشر، ولما قامت الثورة الفرنسية، قُدِّمت الملكة وزوجها للمحاكمة، فحكم على لويس السادس بقطع الرأس ونُفِّذ الحكم في ساحة الكونكورد، بينما أُعدمت أنطوانيت في 16 أكتوبر1793م، بعد أن اقتيدت بعربة مكشوفة دارت بها في شوارع باريس، وقصُّوا شعرها الطويل، ثم وضعوا رأسها الصغير في المكان المخصص في المقصلة التي أطاحت برأسها.

[6]. الشيب المبكر ظاهرة تغزو رءوس الشباب، شبكة: الملتزم الإسلامي www.mltzm.com.

[7]. لسان العرب، مادة: شيب.

[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص50.

[9]. فتح البيان في مقاصد القرآن، صديق بن حسن القهوجي، مرجع سابق، ج7، ص252.

[10]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص275.

[11]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة الواقعة، (9/ 130)، رقم (3515).

الطعن في قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض الطاعنين أن القرآن الكريم لم يأت بجديد في قوله تعالى:)وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)( (الأنبياء)؛ فالحقيقة العلمية التي أشارت إليها الآية قد لاحظها الناس منذ القدم. كما يدّعون أن القرآن قد أخطأ في هذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خلق الملائكة من نور، كما أنه نص في آيات أخرى على أن الجن خلق من النار؛ فقال سبحانه وتعالى:)والجان خلقناه من قبل من نار السموم(27)((الحجر)، ونص كذلك على أن آدم خلق من الصلصال؛ فقال سبحانه وتعالى: )خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) ((الرحمن).

وجه إبطال الشبهة:

إن الماء أصل جميع الكائنات والمخلوقات الحية؛ فمنه خلقت بنسب كبيرة، وبه تستمر حياتها في النمو والعطاء على أكمل وجه، فإذا قلَّ الماء عن حده الطبيعي باتت حياة هذه الكائنات مهددة بالخطر والهلاك، وهذه حقيقة علمية قد توصل إليها علم الأحياء وعلم الكيمياء الحيوية وعلم وظائف الأعضاء حديثًا، وليست مجرد ملاحظة لاحظها الناس قديمًا، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى: ليس صحيحًا زعمهم أن القرآن أخطأ حينما قرر أن الله تعالى خلق من الماء كل شيء حي، في حين خلق الملائكة من نور، وخلق الجن من نار، وخلق آدم من صلصال؛ لأن الله تعالى قال: )وجعلنا من الماء كل شيء حي( (الانبياء:30)، ولم يقل: (وخلقنا من الماء كل شيء حي)، وهذا تغيير للنص القرآني، والفارق واضح بين “جعل” و “خلق”، فـ “جعل” تفيد التحول والصيرورة من شيء إلى آخر، وأما “خلق” فتفيد الخلق من العدم وعلى غير مثال سابق.

التفصيل:

1)  الحقائق العلمية:

لقد أثبت العلم حديثًا أن الماء أصل الوجود على كوكب الأرض، فهو سابق في وجوده على جميع الخلائق، ومن ثم فهو ضروري لبناء أجساد كل الكائنات الحية، كما أنه ضروري لمساعدتها على الاستمرار في القيام بمختلف نشاطاتها ومظاهرها الحيوية، وذلك من خلال ما يأتي:

إن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الكائنات الحية؛ فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان تتراوح بين 71% في الإنسان البالغ، و93% في الجنين ذي الأشهر المحدودة، بينما يكون الماء أكثر من 80% من تركيب دم الإنسان، وأكثر من 90% من أجساد العديد من النباتات والحيوانات.
إن جميع أنشطة الحياة وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلى الإخراج ومن النمو إلى التكاثر، لا تتم في غيبة الماء، بدءًا من التمثيل الغذائي، وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض، وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها، وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل خلال جدار الخلايا، وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة، مما يعين على النمو والتكاثر، وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات.

هذا بالإضافة إلى ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام، وهضمه، وتمثيله، ونقله، وتوزيعه، ونقل كل من الفيتامينات، والهرمونات، وعناصر المناعة، ونقل الأكسجين إلى جميع أجزاء الجسم، وإخراج السموم والنفايات إلى خارج الجسم، وحفظ حرارة الجسم ورطوبته، وما يترتب على ذلك من العمليات الحيوية، وعلى ذلك فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدًا؛ فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أكسجين الهواء، ولكن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية، فبالإضافة إلى منافعه العديدة وفي مقدمتها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم، بما له من سعة حرارية كبيرة، ومنظم لضغط الدم، ولدرجات الحموضة ـ فإن في نقصه تعطش الخلايا ويضطرب عملها، وتتيبس الأنسجة، وتتلاصق المفاصل، ويتجلط الدم ويتخثر، ويوشك الكائن الحي على الهلاك، ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية؛ فإذا فقد الإنسان على وجه المثال 1% من ماء جسده أحس بالظمأ، وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلى 5% جف حلقه ولسانه، وصعب نطقه، وتغضن جلده، وأصيب بانهيار تام، فإذا زادت النسبة المفقودة على 10% أشرف الإنسان على الهلاك والموت، وفي المقابل فإن الزيادة في نسبة الماء بجسم الكائن الحي على القدر المناسب له قد تقتله، فالزيادة في نسبة الماء بجسم الإنسان قد تسبب الغثيان، والضعف العام، وتنتهي بالغيبوبة التي تفضي إلى الموت([1]).

هذا عن وظائف الماء وفوائده للإنسان والحيوان، فأما عن دور الماء الحيوي للنبات فهو كالآتي:

الماء سائل له من الصفات ما يمكنه من إذابة أكبر قدر ممكن من مادة الأرض وحملها إلى النبات ليحولها بدوره إلى مادة صالحة لغذاء الإنسان والحيوان.
الماء وسط لانتشار المحاليل الضرورية التي يتكون منها البروتوبلازم، الذي تجرى به جميع العمليات البيوكيميائية، التي نتج عنها ظاهرة الحياة النباتية.
الماء ضروري في عمليات البناء الضوئي؛ حيث يتم فيها الإنزيمات.
الماء هو الوسط الذي تذاب فيه الأملاح ويقوم النبات بامتصاصها واستخدامها في عمليات البناء الخاصة به.
الماء ضروري للوصول إلى حالة الامتلاء في الخلية والأعضاء الغضة.
الماء هو شبكة الترابط بين أنسجة النبات المختلفة.
تتم بعض الظواهر الحيوية في النباتات حينما تتوافر لها ظروف مائية خاصة، مثل تفتح الثمار الجافة لنشر البذور، وكذلك تفتح الحوافظ الجرثومية([2]).

وعليه، فإن تلك الحقائق العلمية قد أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم من خلال ما يأتي:

–     أثبت علم الأحياء أن الماء يحتل أكبر نسبة بين سائر المواد التي تتركب منها الخلية الحية، وهي وحدة البناء في كيان كل كائن حي، إنسانًا كان أو حيوانًا أو نباتًا.

–     أثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث كافة التفاعلات والتحولات التي تتم داخل جسم الأحياء؛ فهو إما وسط، أو عامل مساعد، أو داخل في التفاعلات أو ناتج عنها.

–     أثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه، التي بدونها لا تتوافر مظاهر الحياة ومقوماتها([3]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:

لقد حبا الخالق سبحانه وتعالى الماء خواص فيزيائية وكيميائية عجيبة، تجعله بحق على قمة السوائل الأخرى بلا منازع، فهو عصب الحياة ومصدرها، وضمان استمراريتها لجميع المخلوقات الحية، وبدونه تنتهي الحياة بأكملها، قال الله سبحانه وتعالى:)وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30) ( (الأنبياء).

وهنا أثار الطاعنون شبهتهم قائلين: إن القرآن لم يأت بجديد في هذه الآية؛ فالحقيقة العلمية التي أشارت إليها الآية كان قد لاحظها الناس منذ القدم، كما أن القرآن قد أخطأ في هذه الآية؛ لأنه قد خلق الملائكة من نور، كما نص في آيات أخرى على أن الجن خلق من نار، وأن آدم خلق من صلصال؛ أي الطين اليابس.

وللجواب عن هذه الشبهة لا بد أولًا من إبراز الدلالات اللغوية في الآية، يليها أقوال المفسرين.

من الدلالات اللغوية في الآية الكريمة:

جعلنا: جعل الله الشيء يجعله جعلًا؛ أي خلقه([4])؛ لأنه فعل متعدٍّ لمفعول واحد([5]).

من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:

قال البغوي: “المفسرون يقولون: إن كل شيء حي مخلوق من الماء، كقوله تعالى:)والله خلق كل دابة من ماء( (النور: ٤٥)”([6]).

ويقول صاحب التفسير الوسيط: “أي: وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة كل شيء متصف بالحياة الحقيقية، وهو الحيوان، أو كل شيء نامٍ، فيدخل النبات”([7]).

ويزيد الدكتور عبد الكريم الخطيب الأمر وضوحًا فيقول: “قوله تعالى: )وجعلنا من الماء كل شيء حي(  (الانبياء:30) إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة وهو الماء، فهو أصل كل حي، وبذرة كل حياة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه؛ فالإنسان والحيوان والنبات قوامهم جميعًا الماء، الذي به لبست ثوب الحياة، وتستمد منه بقاءها ووجودها، فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات، وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث”([8]).

ومن خلال العرض السابق يتبين لنا أن الماء أصل كل الكائنات والمخلوقات الحية؛ فمنه خلقت، وبه تستمر حياتها في النمو والعطاء على أكمل وجه، فإذا قلَّ الماء عن حده الطبيعي باتت حياة هذه الكائنات مهددة بالخطر والهلاك.

وهذه حقيقة علمية قد توصل إليها العلم حديثًا، في حين أن القرآن قد أشار إليها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن؛ فقال: )وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)( (الأنبياء).

ومن ثم فإن قولهم: إن هذه الحقيقة قد لاحظها الناس منذ القدم قول يحتاج إلى بيان وتوضيح:

إن الذي لاحظه الناس قديمًا هو أهمية الماء بالنسبة للكائنات الحية؛ فهي لا تستطيع أن تعيش بدونه وقتًا طويلًا، ولكنهم لم يلاحظوا التركيب الداخلي لهذه الكائنات، وما به من أسرار؛ لأن هذا لا يخضع للملاحظة والمشاهدة الطبيعية، وإنما يخضع للميكرسكوب والأجهزة الحديثة؛ ومن ثم فإن تلك الحقيقة القرآنية التي أشارت إليها الآية الكريمة لم يتوصل إليها إلا حديثًا، من خلال أكثر من فرع من فروع العلم: علم الأحياء، وعلم الكيمياء الحيوية، وعلم وظائف الأعضاء.

يقول الدكتور أحمد فؤاد باشا: “لاحظ الإنسان منذ القدم أن الأحياء النباتية والحيوانية تكون رطبة طالما هي حية، فإذا ماتت جفت، ومن هنا أحس بفطرته السوية التي خلقه الله عليها بأن الماء وثيق الصلة بالحياة وأهلها، وعندما نزل القرآن الكريم كان موافقًا لما أحسه الإنسان بالفطرة النقية؛ فقال سبحانه وتعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30) ( (الأنبياء).

وأخذ العلم يكشف رويدًا رويدًا عن بعض جوانب هذه الحقيقة القرآنية إلى أن تأكد العلماء بما لا يدع مجالًا للشك أن نعمة الماء ضرورية لوجود الحياة التي نعرفها، وسبب رئيسي لاستمرارها؛ فلا حياة بلا ماء، حتى إن بعض العلماء يصفون الحياة بأنها “ظاهرة مائية”؛ إذ لا يوجد بين الأحياء كائن دق أو كبر يستطيع الحياة بدون الماء، ولا يوجد تفاعل كيميائي واحد يحدث في جسم كائن حي إلا وللماء دور أساسي فيه”([9]).

هذا عن تفنيد الطعن الأول، فأما عن تفنيد الطعن الثاني، وهو: زعمهم أن القرآن أخطأ في تلك الآية عندما قرر أن الله تعالى خلق من الماء كل شيء حي، في حين خلق الملائكة من نور، كما نص في آيات أخرى على أن الجن خلق من النار، وأن آدم خلق من صلصال ـ فيكون كالآتي:

أولا: قال سبحانه وتعالى: )وجعلنا من الماء كل شيء حي((الأنبياء:30)  ، ولم يقل: (وخلقنا من الماء كل شيء حي)؛ ومن ثم فهذا ليس عدولًا في فهم النص القرآني، وإنما تغيير  له، وفي هذا مخالفة؛ فثمة فارق كبير بين “جعل” و “خلق”، فـ “جعل” تفيد التحول والصيرورة من شيء إلى شيء، أما “خلق” فتفيد الخلق من العدم وعلى غير مثال سابق.

ثانيا: أما زعمهم أن الإنسان خلق من صلصال كالفخار ولم يخلق من الماء فالرد على هذا جد بسيط؛ فالصلصال عبارة عن اختلاط الماء بالطين، فالطين لا يخلو من الماء، فهو خليط من التراب والماء، يعضد ذلك قوله تعالى: )وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا((الفرقان: ٥٤(، ومن ثم فإن مادة خلق الإنسان هى الماء والطين.

وإذا انتقلنا إلى قوله تعالى: )والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27) ( (الحجر) نجد خطأ آخر وقع فيه المشككون، فربنا سبحانه وتعالى لم يقل: إنه خلق الجان من نار، وإنما قال: (من نار السموم)، وهذه غير تلك؛ فنار السموم هى اختلاط الهواء بألسنة اللهب، والهواء يكون محملًا ببخار الماء؛ ومن ثم فإن اختلاط الهواء ـ الذى هو محمل ببخار الماء ـ بألسنة اللهب ينتج عنه نار السموم، وهى المادة التى خلق منها الجان؛ ومن ثم فالماء موجود فى مادة خلق الجان، ولكن بنسبة معينة، والله تعالى قال: )وجعلنا من الماء كل شيء حي( (الانبياء:30)، و”من” هنا تفيد التبعيض.

أما قولهم إن الملائكة خلقت من نور وليس من الماء فمردود عليه؛ فمعلوم أن الماء حينما يتبخر بنسب عالية، فإن ذلك البخر تتكون منه السحب، كما يتم البخر لغاز الميثان، ثم يحدث تأين لغاز الميثان فى السحب الركامية، وينتج عن ذلك شحنات كهربائية، وهذه الشحنات يتم تفريغها إما بين سحابة وأخرى (cloud and cloud)، أو بين سحابة والأرض (cloud and ground)، والبرق هذا النور اللامع الشديد هو نتيجة هذا التفريغ.

الذى نريد قوله ـ دون إسهاب ـ يمكن أن نلخصه على النحو الآتي:

فلقد بدأنا بالماء وانتهينا بالنور الذي هو مادة خلق الملائكة.

ودعونا نتأمل قوله تعالى: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)( (النور)، فسبحان من هذا كلامه.

وبهذا يظهر التوافق بين الآيات؛ فهي كلام الله عز وجل.

3)  وجه الإعجاز:

لقد أثبت علم الأحياء وعلم الكيمياء الحيوية وعلم وظائف الأعضاء حديثًا ـ أن الماء أصل الوجود على كوكب الأرض؛ فهو سابق في وجوده على جميع الخلائق، ومن ثم فهو ضروري لبناء أجساد كل الكائنات الحية، كما أنه ضروري لمساعدتها على الاستمرار في القيام بمختلف نشاطاتها ومظاهرها الحيوية؛ لأنها قد خلقت منه بنسب كبيرة، فإذا قلَّ الماء عن حده الطبيعي باتت حياة هذه الكائنات مهددة بالخطر والهلاك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقائق العلمية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن؛ فقال سبحانه وتعالى: )وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30) ( (الأنبياء).

(*) تخبُّط القرآن في خلق الإنسان، كامل النجار، مقال منشور بموقع: اللادينيين العرب www.ladeenyon.com.

[1]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص122، 123 بتصرف. انظر: )وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ((الأنبياء:30)، د. زين العابدين متولي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2007م، ص110، 111.

[2].)وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ((الانبياء:30)، د. زين العابدين متولي، مرجع سابق، ص114: 116.

[3]. بحث في معجزات الماء، د. محمد محمد الحسيني، سلسلة البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف، 1428هـ/ 2007م، ج1، ص81، 82 بتصرف. الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، مرجع سابق، ص87 بتصرف.

[4]. لسان العرب، مادة: خلق.

[5]. تاج العروس، مادة: خلق.

[6]. لباب التأويل في معالم التنزيل، البغوي، مرجع سابق، ج5، ص316 بتصرف.

[7]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد سيد طنطاوي، مرجع سابق، ج9، ص39.

[8]. التفسير القرآني للقرآن، د. عبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي، القاهرة، ج9، ص868.

[9]. رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤدا باشا، مرجع سابق، ص107.