الكتب
أوهام الملحدين أوهى من بيت العنكبوت
معركة الوجود بين القرآن والتلمود
المرئيات
القرآن أنقذ العلم التجريبي
الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في علم الأجنة
خوارق العادات
موقف العلم التجريبي
بين التدبير الإلهي والعناية الإلهية
مغالطة المسخ وانشقاق القمر ووكالة ناسا
معجزة القرآن – مناقشة عقلية
معجزة القرآن وعجز العرب عن مضاهاته
مسألة مذهلة في التشابه بين معجزة موسى ومعجزة القرآن
المقالات
التشكيك في إعجاز القرآن الكريم عن الإتيان بمثله
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم ليس معجزة لغوية؛ فمن مارس شيئا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارا في البيان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن**.
وجوه إبطال الشبهة:
القرآن الكريم كتاب الله الذي أعجز البشر أن يأتوا بمثله، وإعجازه لهم من وجوه عدة: لغته، ومعانيه، وبلاغته، وبيانه، وما فيه من تشريعات سنها الله لعباده، وما فيه من حقائق علمية يؤكدها العلم كلما تطورت البشرية.
ويزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم ليس معجزا في لغته ولا بيانه، ويدعون أن من يتمكن من اللغة العربية وفنونها الأدبية شعرا أو نثرا، ويدرك قدراتها في التعبير يستطيع أن يأتي بمثل القرآن الكريم في نظمه وأسلوبه ولغته، وقد أوقعهم في هذا الوهم الباطل ما لمسوه في القرآن الكريم من وضوح ويسر، وسلاسة في التعبير والبيان.
ويمكننا إبطال هذه الشبهة من وجوه:
1) لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – مادية، وهي في عالم المحسوس “الظاهرة التبعية المعجزة”، أما بالنسبة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت معجزته الخالدة هي القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بمثل أصغر سورة منه.
2) إن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة باد عواره، باق عاره، ولقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم عن ذلك في عصر نزول القرآن نفسه، – وما أدراك ما عصر نزول القرآن – وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي – وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؛ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم لها بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.
3) إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما، وعلى الرغم من التقدم الهائل في شتى المعارف البشرية لا يجرؤ أحد على قبول هذا التحدي.
التفصيل:
أولا. لقد جاءت كل معجزات الأنبياء قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – مادية في عالم المحسوس، أما بالنسبة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت معجزته الخالدة في القرآن الكريم الذي لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بمثله، أو حتى بأصغر سورة من سوره.
فسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت معجزته الخالدة هي القرآن نفسه؛ أي أن القرآن هو التصديق وهو النبوة معا، ولم تأته النبوة والآيات البينات منفصلا بعضها عن بعض، وبما أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – خاتم الأنبياء، فيجب أن تبقى معجزته خالدة، وكلما تقدمت الإنسانية في المعارف والعلوم يظهر إعجاز القرآن بشكل أوضح، ويتضح ذلك في عدة نقاط وهي:
نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – التي هي القرآن والسبع المثاني سبق فيها الطرح العام المعقول عن المدرك من المحسوس بصياغة مشابهة لما يفهمه أهل ذلك العصر ويعقلونه، فكلما تقدم الزمن تدخل طروحات القرآن ضمن المحسوسات المدركة، وهذا ما يسمى بـ “التأويل المباشر”؛ أي: مطابقة المدرك من المحسوس مع النص، وهذا ما يصدق قول الله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت)، وهذا هو السبب الثاني في أنه سمي “قرآنا” من الاستقراء؛ حيث إن السبب الأول: هو المقارنة؛ أي قرن أحداث الطبيعة بأحداث التاريخ؛ فقوله تعالى: )كل في فلك يسبحون (33)( (الأنبياء)، والفلك هو الاستدارة، فكل شيء في هذا الكون – من أصغر الجزيئات إلى أكبرها – يتحرك ضمن أفلاك؛ أي: حركة منحنية، هذا ما عرفناه الآن ووصفه القرآن قبل أربعة عشر قرنا في عالم المعقولات، والآن أصبح في عالم المحسوسات والمعقولات معا.
لقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة للوجود؛ بحيث تفهم فهما نسبيا حسب الأرضية المعرفية للعصر الذي يحاول فهم القرآن فيه، فقد حوى القرآن الحقيقة المطلقة، والفهم النسبي لهذه الحقيقة في آن واحد، وهذا ما لا يمكن لإنسان أيا كان أن يفعله.
أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز فهو: أننا نعلم الآن أن هناك نوعين من الصياغة اللغوية: الصياغة العلمية الموضوعية؛ كصياغة إسحاق نيوتن، وألبرت أنشتاين، وابن الهيثم لنظرياتهم، وهناك الصياغة الأدبية الخطابية والشعرية الغنية بالصور الفنية؛ كصياغة شكسبير، وبوشكين، والمتنبي، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن صياغة نظريات نيوتن، وأنشتاين، وابن سينا، وابن الهيثم، صياغة كصياغة المتنبي وبوشكين، وشكسبير، دون أن تؤثر هذه الصياغة على الدقة العلمية، ودون أن تكون على حسابها؟
إلى يومنا هذا لم نر هذا النوع من الصياغة، وهذا هو الوجه الثالث من الإعجاز.
إن كل ما كتب عن إعجاز القرآن عند السلف، إنما يتعلق بالجزء الأدبي من الوجه الثالث للإعجاز. نقول: إنه لو كان الإعجاز فقط أدبيا، وافترضنا أنه لا يمكن تقليد صياغة القرآن من الناحية الأدبية الفنية، فهذا يعني أن الإعجاز واقع على العرب فقط دون غيرهم؛ لأن الصياغة القرآنية جاءت بلسان العرب.
والحقيقة أن هذا الإعجاز واقع على العرب وعلى غيرهم من الأقوام؛ لأن المطلوب هو إتيان الناس بمثله، كل في لغته؛ العربي بالعربية، والفارسي بالفارسية، والإنكليزي بالإنكليزية، وهكذا دواليك. فلو كان المقصود بالإعجاز الصياغة فقط دون المضمون، لأمكن للناس صياغة بعض القطع الأدبية التي تشبه القرآن من الناحية اللفظية فقط[1].
وعلى ذلك: فإن معجزة القرآن اللغوية خالدة على مر الأزمان، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله على الإطلاق.
لقد سجل التاريخ عجز أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن – وما أدراك ما عصر نزول القرآن -، وهو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها؟ حتى أدركت هذه اللغة أشدها، وتم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها.
ورغم ذلك التفوق تحداهم القرآن أفرادا وجماعات، وكرر التحدي في صور شتى متهكما بهم متنزلا معهم إلى الأخف فالأخف، فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم – بل ورمى العالم كله – بالعجز في غير مواربة فقال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، وقال عز وجل: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة)، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز: لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله: )ولن تفعلوا(، ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الأعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلما يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ: )فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)( (الكهف)، حتى استيأسوا من قدرتهم، واستيقنوا عجزهم، وما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الخوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، وتلك حيلة يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعا عن القلم واللسان.
ومضى عصر القرآن والتحدي قائم ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا على هذا الدين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، قال تعالى: )وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل( (سبأ:٥٤).
ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد كانوا أشد عجزا، وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز فكانت شهادتهم على أنفسهم، مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائما أمامهم من الوجدان والبرهان ولا يزال هذا دأب القرآن إلى أن تقوم الساعة[2].
ثانيا. وإن في التاريخ لعبرا تؤثر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة، فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن، ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة، باد عواره، باق عاره وشناره، فمنهم عاقل استحيى أن يتم تجربته فحطم قلمه وصحيفته[3]، ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافة، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين، ومنهم طائش برز بها إلى الناس فكان سخرية للساخرين ومثلا للآخرين.
ومن هذه المحاولات ما ظهر منذ فترة على “الشبكة الإلكترونية” من كلام مسجوع من تأليف عربي يدين بالإسلام، يعيش في أمريكا، يحاول فيه أن يقلد النسق القرآني، من حيث تقسيم الكلام إلى عبارات مسجوعة تنتهي بحرف الميم أو النون مسبوقة بمد يائي، أو واوي، وظن المسكين أنه قد أتى بما لم تستطعه الأوائل، كما ظن أنه بعلمه هذا قد أبطل التحدي الذي تحدى الله به الإنس والجن، حين قال عز وجل: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
وكأنه يقول: هاأنذا قد أتيت بمثله، وإذا فقد أبطلت التحدي، وأبطلت دعوى إعجاز القرآن الذي قامت عليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا فالإسلام ليس من عند الله، إنما هو صناعة بشرية قام بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعل المسكين لم يعلم أن مسيلمة الكذاب قد قام بمثل هذا العمل من قبل، وأتى بسجعات مثل سجعاته قال إنها مثل القرآن.[4] وكما مر الزمان، وبطلت سجعات مسيلمة، سيظل القرآن هكذا يتحدى الإنس والجن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن حدث نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر، وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستح فليصنع ما يشاء.
ومما سبق ذكره يتبين أن العرب ببلاغتهم وفصاحتهم لم يستطيعوا أن يأتوا بآية من مثله، مع أن القرآن نزل بلغتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).
ومن الآية يتضح التحدي العظيم الذي تحداه القرآن لأعدائه.
وعلى غرار ما ذكر يبرهن القرآن على مدى إعجازه، وأنه لا يمكن لأي مغرور أن يأتي بسورة من مثله، ولو أصر هذا المغرور بما ملك من ملكات أدبية، وكبر عليه أن يقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان؛ ليجرب نفسه، ويبرز قوته، قائلين له: أخرج لنا أحسن ما عندك؛ لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، غير أننا نعظه بواحدة أخرى: ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الرؤية، ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة فإن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه، ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها.
وفي صفحات التاريخ بعض الوقائع غر أصحابها الغرور؛ فانطلقوا يواجهون هذا التحدي، وأولى هذه الوقائع ما حدث مع الشاعر العربي لبيد بن ربيعة، الشهير ببلاغة منطقه، وفصاحة لسانه ورصانة شعره، فعندما سمع بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات ردا على ما سمع وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها إلى جوار أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، – ولم يكن قد أسلم بعد -، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى أنه صرخ من فوره قائلا: “والله ما هذا بشر، وأنا من المسلمين”[5].
وكذلك نجد أن القرآن الكريم تحدى الملحدين في بعض من سوره، وفي هذا التحدي ينهج القرآن نهجا تنازليا مع الملحدين؛ حيث يتنزل معهم إلى أقل قدر ممكن من التحدي؛ حتى لا تكون لهم حجة.
ومن هذا المنطلق، يتحدى القرآن كل من تسول له نفسه محاولة الإتيان بمثله، وليستعن على ذلك بمن يستطيع معاونته من البشر.
إن سورة الإسراء تؤكد تلك الحقيقة الناصعة في الإعجاز القرآني، وأن الإنس والجن معا لو اجتمعوا على قلب رجل واحد منهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلن يأتوا بمثله، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
ولما عجز المشركون عن الإتيان بمثل القرآن تراه يتنزل معهم إلى الأدنى من مثله، فيتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله.
فها هي سورة هود تعرض لذلك التحدي في سخرية ومشاكلة عجيبة تقول: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)( (هود).
ومن البدهي أن يعجز الماديون المشركون عن مواجهة ذلك التحدي الأدنى، ورغم ذلك يدفعهم العناد، والإصرار على المكابرة، إلى توالى افتراءاتهم وأكاذبيهم على الله، حتى بعد أن تنزل القرآن معهم إلى أقل قدر ممكن يتحقق معه الإعجاز، ومن ثم طلب منهم أن ياتوا بسورة من مثله، أية سورة ولو كانت قصيرة.
وذلك تقول سورة يونس: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس).
كما تؤكد سورة البقرة هذا التحدي فتقول: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
ثالثا. يقول – عز وجل – عن القرآن الكريم: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
إن التحدي الوارد في هذه الآية الكريمة لا يشمل العرب في زمن نزول القرآن وحدهم، إنما يشمل الإنس والجن في كل مكان وزمان، حتى في وقتنا الحالي وإلى يوم الدين، وهذا التحدي الوارد في الآية والذي يشمل القرآن كله، قد خففه الله تعالى، واكتفى أن يأتي المخالفون بسورة واحدة فقط تماثل سور القرآن المجيد.
يقول تعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثلـه وادعــوا شهداءكـم مـن دون الله إن كنتــم صادقيـن (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
وفي واقع الأمر إننا نجد أن هذا التحدي المذكور في هذه الآية يمثل أقل بكثير من 1% من القرآن، فالتحدي لا ينص على ضرورة الإتيان بسورة طويلة، بل يمكن للمعارضين والمتشككين أن يأتوا بسورة تماثل السور الصغيرة، وإن أصغر السور وأقصرها هي سورة الكوثر التي تتكون من عشر كلمات عدا البسملة. ولكن القرآن يؤكد على أن المعارضين والمتشككين لن يستطيعوا أن يأتوا حتى بسورة قصيرة من عشر كلمات تماثل سورة الكوثر القصيرة. فإذا عرفنا أن القرآن بأجمعه يتكون من 77845 كلمة، فإن تحدي المعارضين أن يأتوا ولو بسورة واحدة تتكون من عشر كلمات لهو أمر في غاية السهولة واليسر؛ إذ إنه يمثل نسبة 77845: 10، ومع هذا.. فإن الله تعالى يؤكد بكل اليقين على أن الذين في قلوبهم ريب.. لن يستطيعوا أن يقبلوا هذا التحدي البسيط في حجمه.. العظيم في مضمونه[6].
إن هذا هو التحدي الذي ذكره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن شاعرا ولا أديبا، ولم يحضر ندوات الشعر ولا منتديات الأدب، بل إنه حتى لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة، ومع ذلك تحدى جميع مفكري العالم من الأدباء والشعراء والعلماء والحكماء.. أن يتكاتفوا سويا ويجمعوا جهدهم ويوحدوا طاقتهم ليأتوا بسورة قصيرة.. تتكون من عشر كلمات تماثل أقصر سورة من سور القرآن الكريم، ثم يقول لهم بكل جرأة وبأتم يقين: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)(.
إن الأمر إذا ليس مجرد طفرة بشرية.. وليس بسبب تقدم علمي أو تأخر تقني، فرغم اختراع القواميس الإلكترونية التي هي في حجم الكتيب الصغير، والتي تستطيع أن تترجم أية كلمة إلى عدة لغات بمجرد الضغط على بعض الأزرار، فإن الإنسان لم ولن يتمكن من أن يؤلف سورة تضارع سورة صغيرة من سور القرآن الكريم.. حتى ولو كانت تتكون من عشركلمات فقط.
يقول صاحب الظلال: عند تفسير قوله تعالى: )الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات( (البقرة:257).
“إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء جيئة من هنا وذهابا من هناك، بدلا من التعبير الذهني المجرد؛ إذ لا يحرك خيالا، ولا يلمس حسا، ولا يستجيش وجدانا، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ.
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا ذهنيا أيا كان. لنقل مثلا: الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان. والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران.. إن التعبير يموت بين أيدينا، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع”[7].
إن بعض الناس يظن أن القرآن معجزة لغوية فحسب؛ ولذلك فإنهم يتصورن أنه لا يمكن الإتيان بما يشابهه من الناحية البلاغية، وهذا ظن خاطئ عن القرآن المجيد. إن الله تعالى لم يصف أبدا القرآن الكريم بأنه معجزة بلاغية فحسب، بل هو معجزة بلاغية وأدبية وعلمية وتربوية. إنه معجزة من حيث إنه كتاب سماوي يهدف إلى هداية الإنسان إلى طريق الله تعالى. نعم إن البلاغة جزء من الإعجاز ولكنها ليست كل الإعجاز، والتحدي القرآني لا يقتصر فقط على الأسلوب البليغ. إن الأمر ليس مجرد مقارنة كلمات متماثلة، فالقرآن ليس مجموعة من الكلمات البليغة والأساليب البيانية مرصوصة بدون معنى أو بغير مضمون.
إن القرآن كتاب، وهو بهذه الصفة يقدم لنا مضامين، ويبرز معاني، ويتناول بالبحث موضوعات. وحين قسم القرآن إلى سور – كما يقسم الكتاب إلى فصول – صارت كل سورة تعكس في جوهرها القرآن ككل، فهي أيضا تحتوي على مضامين تهم الإسلام والمسلمين، وتشتمل على موضوعات تبحث في أمور المؤمنين، وتمتلئ بالمعاني والأنباء عما تأتي به الأيام في مستقبل أتباع هذا الدين… فالتماثل الذي يطلبه التحدي القرآني ليس فقط في الأسلوب البليغ، بل في المعاني التي تبينها آ يات القرآن، وفي النبوءات التي تحتويها تلك الآيات، والتي بتحققها… ولو بعد زمن طويل… يتبين أنها أعظم دليل على أنها فعلا آيات من عند الله تعالى، وليست مجرد كلمات بليغة من قول البشر[8].
ولنعد الآن إلى سورة الكوثر.. إن الآية الأولى فيها تقول: )إنا أعطيناك الكوثر (1)( (الكوثر)، و “الكوثر” اسم مشتق من الكثرة، وليس “الكوثر” اسما فقط لنهر في الجنة لم يره أحد، ولكن الكوثر يدل على الكثرة التي قضى الله تعالى أن يعطيها للنبي صلى الله عليه وسلم.. الكثرة من المؤمنين. فهذه الآية تتضمن نبأ غيبيا للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سوف يتبعه جمع غفير من الناس، وسوف يؤمن به كثرة عظيمة من الأتباع، رغم أن الكثرة من الناس كانت تعارضه عند نزول هذه السورة التي نزلت في مكة أثناء عصر الاضطهاد والمعاناة في أول مراحل الدعوة. وإذا كان الكوثر اسما لنهر في الجنة أيضا.. فلا يجوز الاعتراض أو الإيماء بأن أحدا لم ير ذلك النهر ولا يعرف ما إذا كان هذا الوجود حقيقيا أم لا؛ لأن تحقق النبوءة التي تحتويها الآية عن نوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – للكثرة من الأتباع هو الدليل على وجود ذلك النهر فعلا في الجنة. فالله سبحانه يقول إن في هذه الآية نبأين من أنباء الغيب.. أحدهما أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – الكثرة من الأتباع والأنصار، والثاني هو أن الله تعالى قد قضى أن يهب الرسول – صلى الله عليه وسلم – نهرا في الجنة، ويمكن الاستدلال على تحقيق النبأ الثاني الذي لا يمكن أن يراه أحد الآن.. من تحقق النبأ الأول الذي سوف يرى الناس تحققه في مستقبل الأيام، فالذي حقق النبأ الأول هو الذي سوف يحقق أيضا النبأ الثاني.
فالأمر إذن ليس مجرد كلمات مرصوصة، وليست هي أسطورة تحتوي على الأنهار أو البحار التي لم يرها أحد ولا هي مجرد وعود بأمور في الغيب تساق بغير دليل على تحققها، وإنما هي “آية” من آيات الله تعالى.. آية من آيات القرآن الكريم، آية تحتوي على مضمون وموضوع وأنباء غيبية، آية من صنع الله تعالى وليست مجرد كلمات بليغة مرصوصة من صنع البشر[9].
والآية الثانية: )فصل لربك وانحر (2)( تحتوي على نبأ غيبي بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – سوف يتمكن من أداء فريضة الحج، وسوف يصلي في مكة وينحر الذبائح التي هي منسك من مناسك الحج، الأمر الذي يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يكون له الأمر في مكة، وسوف يستتب له الأمر فيها، رغم أنه حين نزلت هذه الآية كان يلقى اضطهادا شديدا من أهل مكة.. هو والقلة التي آمنت معه. وقد تحققت كل هذه الأنباء الغيبية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهد الناس تحققها. بل إن فتح مكة وخضوعها لأمر الرسول كان سببا جعل معظم الناس يصلون إلى اليقين بمصداقيته وبحقيقة دعواه، فإنهم سمعوا منه هذه الأنباء الغيبية في أول الدعوة، وظنوا أنها ليست سوى أحلام وأوهام لا يمكن أن تتحقق أبدا، فلما رأوا تحققها بأعينهم.. أدركوا أنها حقائق وآيات من قول الله وليست من قول البشر.
والآية الثالثة: )إن شانئك هو الأبتر (3)( تحتوي أيضا على أنباء غيبية.. فهي تشير إلى أن أعداء الرسول – صلى الله عليه وسلم – سوف يموتون دون أن يكون لهم ولد من الذكور يخلفهم ويخلد ذكراهم، فسوف ينمحي أثرهم، ولا يكون لهم نسل يفخر بالانتساب إليهم، بينما يزيد نسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باعتباره الأب الروحي لكل أمته. كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل من ألد أعدائه الذين ماتوا وهم كفار.. وكلاهما كان له ولد من الذكور عندما نزلت هذه السورة. الأول كان ابنه خالد بن الوليد، والثاني كان ابنه عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، ولكن كلاهما دخل في الإسلام، وكلاهما قطع كل الروابط مع أبيه، وصار لا ينتسب إليه إلا بالاسم فقط؛ لأنه أصبح ينتسب إلى الإسلام وإلى رسول الإسلام باعتباره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول – صلى الله عليه وسلم – هو أب لكل أمته.. كما يبين القرآن أن أزواجه أمهات للمؤمنين يقول تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( (الأحزاب: ٦).
ولقد تحققت كل تلك الأنباء الغيبية، وفي تحققها أبلغ دليل وأقوى برهان على أن آيات سورة الكوثر إنما هي – بحق – من عند الله تعالى، وأنها آيات في كتاب عزيز.. )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).
وهكذا يظهر للعيان كيف أن آيات سورة الكوثر هي فعلا آيات من عند الله عز وجل، وهي آيات القرآن الكريم التي تتضمن الكثير من أنباء الغيب؛ ولذلك فقد وصفه سبحانه بقوله تعالى: )إن هـو إلا ذكر للعالميـن (87) ولتعلمـن نبـأه بعـد حيــن (88)( (ص).
والآن.. إن التحدي الذي ساقه القرآن منذ أربعة عشر قرنا لا يزال قائما..
فهل يجرؤ أحد على قبول تحدى القرآن الكريم؟ وهل يستطيع أحد أن يقدم لنا من كتابه المقدس تحديا مثلما قدم القرآن الكريم؟ )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)( (البقرة)[10]!
ولعله يحسن بنا أن نؤكد أن القرآن ليس مجرد كلام قد يؤتى بمثله، فهو ليس بكلام بشر، بل هو كلام رب البشر، وإن كان يحلو للمتحذلقين أن يدعوا أن بإمكانهم الإتيان بمثل القرآن في نظمه الذي يخيل لهم أنه سهل المنال، فعليهم أن يعلموا أن معجزة القرآن فاقت معجزة اللغة – وإن كانوا عاجزين عنها وحدها – فاقت ذلك إلى معجزة كلام يستشفى بتلاوته من الأمراض البدنية والنفسية، وإلى معجزة كلام يؤثر في النفوس التي تسمعه، وإن كانت لا تؤمن به، بل ومن لا يفقهون العربية أصلا، وإلى معجزة كلام يؤثر على الجن والشياطين؛ فلا يستطيعون أن يخترقوا حجبه، ولا أن يصمدوا في مواجهته، هذا كله فضلا عن كونه كلاما ينبئ عما يجهله علماء القرن الواحد والعشرين من الأمور العلمية الصرف، هذا بالإضافة إلى ما فيه من الأنباء بالغيب مما مضى ومما يستقبل من الزمان.
فإن استطاع أحد الزاعمين أن يأتي بمثله ولو في سورة واحدة، فقد سلمنا له بأن القرآن ليس بمعجزة، وإن لم يستطيعوا، ولن يستطيعوا، فحري بالمرء أن يعرف قدره، وأن يقف عند حده.
(*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1397هـ/ 1977م. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420 هـ/ 2000م. www.islamyat.com
[1]. الكتاب والقرآن، محمد شحرور، الأهالي للنشر والتوزيع، دمشق، د. ت، ص186 وما بعدها.
[2]. النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1397هـ/ 1977م، ص113، 114.
[3]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، مصر، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص7.
[4]. ومن ذلك أيضا ما اشتهر عن تلك الكتب التي وضعها زعماء فرقتي “القاديانية” و “البهائية”؛ لتكون دستورا دينيا لهم كالقرآن، وقد لفقوها تلفيقا ركيكا من آيات قرآنية وكلمات عامية، وبدلوا فيها أصول الإسلام، وادعوا فيها لأنفسهم النبوة أو الألوهية، ولكن أتباعهم لم يجرءوا أن يذيعوا تلك الكتب، وشمس العلم طالعة، فأخفوها إلى أن يجيء وقت يفشو فيه الجهل بالعلوم والآداب، وتستعد فيه النفوس لقبول أمثالهم، فلينظروا آخر الدهر.
وفي عصرنا هذا برز علينا من يزعم أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، فألف هذه السورة ـ إن جاز التعبير ـ “قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقا، فآمنوا بي ولا تخافوا، وإن لكم عند الله جنات نزلا فلاأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى، إنكم لتقوموا السبيل إلى قيلتي العليا، فقال لهم توما الحواري: مولانا إنا لا نملك من ذلك علما، فقال عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلا، ومن عرفني فكأنما عرف الله، وإنكم منذ الآن تعرفونه وتنصرونه يقينا “.
ولا يخفي على القارئ ما في النصمن تلفيق، فضلا عن ركاكة الأسلوب وفساد العبارة، فأما التلفيق فواضح حيث إننا نقول لصاحب هذا النصالمنحل: هل كان النصزمن عيسى ـ عليه السلام ـ فإذا كان كذلك فكيف يتحدى القرآن الناس ولم يخرج هذا الذي يفوق القرآن من أتباع عيسى عليه السلام ؟!، وإذا لم يكن، فقد حرنا في فهم هؤلاء، فمرة يقولون: صلب عيسى، فكيف بمن صلب قبل مولد نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأكثر من خمسمائة سنة يقول بعده بأكثر من ألف سنة ما يتحداه به، وإذا كان، فمن الذي أخذ عن عيسى ـ عليه السلام ـ هذا الكلام؟ وكيف بنبي من أولي العزم من الرسل أن يتحدى نبيا مثله تمنى أن يكون من أتباعه؟!
إنه لا يخفى أن المحاولات التي حاولت أن تأتي بمثل القرآن ساذجة، وليست من المعارضة في شيء؛ لأن المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد، ومن يحاول ذلك في القرآن، فإن ذلك محال، والتجربة أصدق شاهد وخير برهان.
[5]. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة: د. عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط22، 1424هـ/ 2001م، ص124.
[6]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص21.
[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج3، ص292، 293 بتصرف.
[8]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص26.
[9]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص28.
[10]. القرآن معجزة الإسلام، مصطفى ثابت، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص330 بتصرف.
الزعم أن وجود المتشابه في القرآن الكريم ينافي إعجازه وبلاغته، ولا فائدة منه
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن المتشابهات في القرآن الكريم تنافي بلاغته، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( (آل عمران: ٧).
ويتساءلون: ألا يعد وجود هذه المتشابهات نقصا في البلاغة والإحكام**؟!
وجوه إبطال الشبهة:
من أصول البلاغة أن يكون الكلام محكما موجزا بعيدا عن التكرير والإعادة؛ حتى يصيب معانيه في قوة ورصانة.
ويتوهم بعض أصحاب الشبهات أن المتشابهات من آيات القرآن تقلل من بلاغته وإحكامه، وتبعد به عن القوة والرصانة، ويدعون بأن قوله تعالى: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( دليل على أن المتشابهات لا فائدة منها، ولا تحقق فهما دقيقا محكما لمعاني القرآن كما يتوهمون.
وقد رد اللغويون وعلماء البلاغة على هذه الشبهة بالوجوه الآتية:
1) أن آيات القرآن، إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.
2) أن الحكمة من إنزال المتشابه في القرآن أن القرآن نزل بلغة العرب، وتبعا لمعانيها ومذاهبها، وهي لغة فيها الإيجاز والإطناب، والاختصار والإطالة، والتوكيد والتجريد، والتلميح والتصريح، والخفي والجلي.
3) أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادها وطلبها، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء).
التفصيل:
أولا. آيات القرآن: إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.
المحكم والمتشابه في القرآن:
يوصف القرآن كله بأنه محكم؛ كما في قوله تعالى: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود) والمراد بالإحكام هنا: اتفاقه وعدم تطرق النقص والخلل إليه.
ويوصف كذلك بأنه كله متشابه، كما في قوله تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم( (الزمر: ٢٣). ومعنى متشابه: أنه يشبه بعضه بعضا في صدق أخباره، وعدالة أحكامه، وسمو بلاغته، وروعة نظمه، ونصوع حقائقه، وتصديق بعضه بعضا؛ فلا تناقض فيه ولا تضارب.
ويوصف القرآن أيضا بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه، وهو ما جاء في قوله عز وجل: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)؛ فقسمت الآية الكريمة آيات الكتاب قسمين: محكمات هن أم الكتاب وأساسه ومعظمه، وأخر متشابهات، والمراد بالمحكم هنا: البين بنفسه، الدال على معناه بوضوح، فلا يعرض له شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى؛ كما قال الراغب في “مفرداته”[1].
معنى المتشابه ومظاهر تشابهه وأسبابه:
والمراد بالمتشابه هنا: ما أشكل تفسيره؛ لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى؛ فلذا قيل: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
قال الراغب: وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:
محكم على الإطلاق.
متشابه على الإطلاق.
محكم من وجه ومتشابه من وجه آخر[2].
والمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط.
متشابه من جهة المعنى فقط.
متشابه من جهتيهما.
وبين الراغب أن المتشابه من جهة اللفظ ضربان: منه ما يرجع إلى غرابة اللفظ أو اشتراكه، ومنه ما يرجع إلى جملة الكلام المركب.. إلخ.
والمتشابه من جهة المعنى: ما يتعلق بأوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.
ثم ذكر الإمام الراغب المتشابه من جهة اللفظ والمعنى جميعا بأضربه الخمسة، ومثل لها من جهة الكمية؛ كالعموم والخصوص، أو من جهة الكيفية؛ كالوجوب والندب، أو من جهة الزمان؛ كالناسخ والمنسوخ، أو من جهة المكان؛ كالأمور المتصلة بعادات الجاهلية، وما كان عليه العرب، أو من جهة الشروط التي يصلح بها العمل أو يفسد. ثم جمع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل للوقوف عليه؛ كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته؛ كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة.
وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم. ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه في قوله – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس رضي الله عنهما: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.
قال: وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله: )وما يعلم تأويله إلا الله( ووصله بقوله: )والراسخون في العلم( جائز، وأن لكل واحد منهم وجها، حسبما دل عليه التفصيل المتقدم.
وخلاصة هذا الكلام: أن في القرآن آيات محكمات واضحات الدلالة، بينات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أم الكتاب، وأصله الذي يجب أن يرد إليه ما سواه؛ ليفهم في ضوئه.
وهناك آيات متشابهات تشابها كليا حقيقيا فلا يمكن أن يعلمها إلا الله – ولا يحاول أن يعرف حقيقتها إلا الذين في قلوبهم زيغ وانحراف – أو تشابها جزئيا إضافيا وهذا هو أكثر المتشابه، وهو الذي يعلمه الراسخون برده إلى المحكمات التي هي الأصل[3].
يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في “الإتقان”: “قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب؛ لأنه إليها ترد المتشابهات، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله في كل ما تعبدهم به من معرفته، وتصديق رسله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وبهذا الاعتبار كانت “أمهات”. ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.
ومعنى ذلك: أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات. ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم، لم تبال بما أشكل عليك.
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ: التقدم إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع.
وهذا كما يوجد في كتاب الله، يوجد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لوازم الكلام، ومقتضيات الخطاب، فإذا وجد في كلام الله المعجز؛ فلأن يوجد في كلام رسوله من باب أولى[4].
ثانيا. ربما يسأل أحدهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن من أراد لعباده الهدى والتبيان؟
والجواب: أن القرآن نزل بلغة العرب ومعانيها ومذاهبها، فلا حرج من وجود المتشابه في القرآن.
فالقرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز، والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء وإغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليها إلا اللقن[5] وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا؛ حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس.
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، منه ما يجل ومنه ما يدق؛ ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه؛ ولتكون للعالم فضيلة النظر وحسن الاستخراج؛ ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا لم يكن عالم ومتعلم، ولا خفي ولا جلي؛ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها؛ فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.
وعلى هذا المثال كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف، الذي يتحير فيه العالم المتقدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز[6].
وأصل التشابه: أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان؛ قال الله – عز وجل – في وصف ثمر الجنة: )وأتوا به متشابها( (البقرة: ٢٥)؛ أي: متفق المناظر، مختلف الطعوم، وقال: )تشابهت قلوبهم( (البقرة: ١١٨)؛ أي: يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة.
ومنه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره؛ وشبهت علي: إذا لبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه؛ لأنهم يشبهون الحق بالباطل.
ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها[7].
ثالثا. القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادهـا وطلبهـا، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) ( (النساء).
ففي قوله تعالى: )منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران:٧)، دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: )كتاب أحكمت آياته( (هود: ١)، وقال: )تلك آيات الكتاب الحكيم (1)( (يونس: ١)، والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣)، والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى:،)ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء: ٨٢)، فلا تعارض بين هذه الآيات؛ لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.
وسبب وقوع المتشابه في القرآن: هو كونه دعوة وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة. وقد خوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع؛ فجاء على أسلوب مناسب لجميع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم[8] الخطابة والمقالة؛ فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة. وإعجاز القرآن منه إعجاز نظمي، ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز؛ فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها – فيما تعرض إليه – جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر، وربما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم[9].
على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:
أحدهما: كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين؛ حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.
والآخر: تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة؛ حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة – في كل زمان – لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة؛ من أجل هذا كانت الشريعة صالحة لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.
فإذا أدركت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بـ “المتشابه” في القرآن[10].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله تعالى: )هن أم الكتاب(، قال الشريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأن سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها؛ كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إليها في همه[11].
قوله تعالى: )الراسخون في العلم( استعارة، والمراد به: المتمكنون في العلم تشبيها لهم برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوارة، وهو أبلغ من أن يقال: والثابتون في العلم.
في قوله تعالى: )كل من عند ربنا( زيدت كلمة “عند” للدلالة على أن “من” هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي؛ أي: هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه، وليس كقوله تعالى:)ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك( (النساء: ٧٩).
)وما يذكر إلا أولو الألباب( (آل عمران: ٧) تذييل – ليس من كلام الراسخين – مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم[12].
(*) www.islameyat.com.
[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص254.
[2]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص267، 268.
[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص268: 270 بتصرف.
[4]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج3، ص682.
[5]. اللقن: سريع الفهم.
[6]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص87.
[7]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص100: 103 بتصرف.
[8]. هجيراهم: أي عادتهم ودأبهم.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص156، 157.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص158.
[11]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص169، 170 بتصرف يسير.
[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ص168.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
اعجازات القرآن
الله سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزة باقية إلى يوم القيامة، ولذلك وضع فيه الدليل تلو الدليل على ما يتحدى به غير المؤمنين ليرد على ادعاءاتهم، ولقد قيل إن عصر المعجزات انتهى، ولكن معجزات القرآن لا تنتهي حتى تقوم الساعة، ومعاني الآيات لا تتضح في عصر واحد.
بل كل عصر نصل إلي معنى لم نكن قد وصلنا إليه، والقرآن معجزة ومنهج، المنهج وهو ما رسمه الله لنا كطريق للعبادة والحياة ثم تفسيره وبيانه كاملا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل ب ” افعل” و ” لا تفعل” بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصلوات المفروضة فيه مثلا خمس لا تزيد ولا تنقص إلى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلق بمنهج السماء، كلها أشياء حسمت وبينت تماما، ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت لتعطي كل جيل معنى اعجازيا لم يصل إليه الجيل الذي قبله.
ولو أن معجزة القرآن توقفت عند نزول القرآن لجمد القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديدا، ولكن لأن هذا الكتاب معجزة باقية متجددة، فهو يعطي لكل جيل عطاء جديدا، وهكذا نجد في كل عصر عطاء للقرآن لم يكن موجودا في العصر الذي قبله.
فإذا قرأنا مثلا الآية الكريمة: ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) الروم 1 /3
وجدنا أن أدنى حين نزل القرآن كانت ” كما قلنا” بمعنى المكان القريب من أرض العرب، ولما تقدم العلم واستطاع الإنسان أن يصور سطح الأرض بالأقمار الصناعية، وجد أن مكان المعركة بين الروم والفرس هو أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض، وإذا قرأنا الآية الكريمة: ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم) الأنفال 42
نجد أن الله سبحانه وتعالى قد حدد ثلاثة مواقع: موقع المؤمنين وهم قريبون إلى المدينة المنورة، وموقع الكفار وهم بعيدون عن مكة المكرمة، أي أن المؤمنين أقرب إلى مدينتهم وأهلهم، والكفار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم، ثم قال تعالى: ( والركب أسفل منكم ) . والركب هو قافلة أبو سفيان التي أفلتت من المؤمنين.
والمعروف إن أبا سفيان لكي يفلت من المؤمنين غي ر مساره واتخذ طريق الساحل وهنا يجب أن نلتفت إلى قول الله تعالى: ( أسفل منكم ) . أي موقع منخفض عنكم.
والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن انخفاضا في الأرض، ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر، فيقال: هذا المكان يعلو ألف متر مثلا عن سطح البحر أو مائة متر أو غير ذلك.
إذن فسطح البحر المقياس الذي اتخذه العالم كله بيساوي صفرا في الارتفاع، تقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا، ولذلك قوله تعالى:{ أسفل منكم} يلفتنا إلى هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بأن يبين هذا، بل بين لنا أن هناك بقعة على سطح الأرض هي أكثر انخفاضا على سطحها، وهي التي دارت عليها المعركة بين الفرس والروم.
وإذا قرانا القرآن الكريم، نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد لفتنا إلى مصدر العلم للبشرية كلها، فقال سبحانه وتعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين( البقرة 31.
وهكذا حدد القرآن الكريم في إعجاز مذهل مدخل العلم للبشر، فأنت حين تريد أن تعلم طفلك عندما يبدأ يميز الأشياء، لا بد أن تعلمه الأسماء أولا، فتقول له: هذا كوب، وهذا قلم وهذا كرسي، وهذا طعام إلى غير ذلك.
ونحن نقول إذا لم نعلم الطفل هذا فانه لا يستطيع أنيفهم شيئا ولكنه إذا تعلم الأسماء أصبح بعد ذلك قادرا على استيعاب العلم، ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشرية كلها، لا بد أن نبدأ بأن نعلم أطفالنا أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك تختلف نظم التعليم من دولة إلى أخرى ومن طريقة إلى طريقة، ولكنها كلها لا بد أن تبدأ بتعليم الأسماء، وهكذا نعرف أن بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.
فقد بدأ الحق جل جلاله بتعليم الإنسان الأسماء، وما زالت هذه البداية موجودة حتى الآن في كل نظم التعليم، الأسماء أولا، فإذا تعلم الطفل الأسماء بدأ يستوعب أي شيء آخر، ونحن لا نعلم الطفل الأسماء في المدرسة فقط.
ولكن هذا هو علم الفطرة، تبدأ الأم مع طفلها قبل أن يذهب إلى المدرسة، والأم المتعلمة وتلك التي لم تنل حظا من التعليم، كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء، لأن علم الفطرة تكون منه البداية دائما، ثم بعد ذلك يتطور ويتبدل، ولا يمكن أن يتم التفاهم بين الأم وطفلها ولا بين طفل وطفل آخر إلا إذا تعلما الأسماء أولا، والعلم في الدول المتقدمة والدولة المتخلفة أيضا لا بد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس التفاهم في الحياة، ولكن هناك إعجاز آخر بالعلم البشري لا بد أن نلتفت إليه، وهو يحمل ألينا الدليل اللغوي على وجود الله.
دعوى اقتباس الإسلام علم الأجنة من الأمم السابقة
مضمون الشبهة:
لما عجز أعداء الإسلام عن الطعن في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ولم يجدوا بدًّا من الاعتراف بوقوعه بعد إقرار العلم الحديث له ـ راحوا يزعمون أن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من حقائق ومعلومات في علم الأجنة مأخوذ من الأمم السابقة؛ كاليونانيين والأطباء العرب وأصحاب الكتب المقدسة.
ويستدلون على ذلك بأن أبقراط وأرسطو وجالين قد نصوا على المراحل التي يمر بها الجنين، وهي المراحل نفسها التي ذكرها القرآن، كما أن الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث كانا على علم واسع بالطب وعلم الجنين، هذا بالإضافة إلى أن الكتاب المقدس قد ذكر مراحل تكوّن الجنين؛ فقد جاء في العهد القديم: “يداك كونتاني وصنعتاني كلي جميعًا. أفتبتلعني. اذكر أنك جبلتني كالطين. أفتعيدني إلى التراب، ألم تصبني كاللبن وخثّرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب…” (أيوب 10: 8 ـ 12).
ويتساءلون: أي إعجاز علمي عن الأجنة في القرآن والسنة يتحدث عنه المسلمون، وما هي إلا إشارات أخذها الإسلام عن الأمم السابقة عليه؟
وجوه إبطال الشبهة:
1)إن ما جاءت به الحضارات السابقة على الإسلام من تصورات تخص الجنين وتخلقه، هي في معظمها لا تعدو أن تكون خرافات وتخمينات لا تنبني على متابعة ودراسة لأطوار الجنين ومراحله؛ نظرًا لانعدام التقنيات العلمية الحديثة لديهم، ومن أوضح ما يدل على ذلك ما ذكره أبقراط وأرسطو وجالين من أخطاء، مثل إخبارهم بأن الجنين يتكون من دم الحيض ومنيّ الرجل، وأن اللحم يخلق قبل العظام، ثم جاء القرآن وقرر أن الجنين يتكون من النطفة الأمشاج التي تشمل نطفتي الرجل والمرأة، وأن العظام تخلق ثم تكسى باللحم، فلو كان القرآن قد استقى معلوماته من هذه الحضارات لما ساغ أن يأتي بخلافها.
2)لقد كان علم الطب في قوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته من أضعف العلوم عندهم، وإن اشتهر منهم الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث؛ إذ كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية؛ مثل الكي والبتر والفصد، أما علم الأرحام والأجنة فلم يعرف منه العرب إلا ما تعلموه من اليهود على ما به من اعتقادات خاطئة، فإذا كان هذا هو حال القوم الذين نشأ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يستقي منهم أدق تفاصيل الجنين التي لم يُتوصل إليها إلا بأحدث الأجهزة والتقنيات في القرن السابق؟!
3)لقد نص الكتاب المقدس على أن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المنيّ بعقده مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن، ونص أيضًا على أن الجنين يخلق جلده ولحمه ثم بعد ذلك تخلق العظام، وقد خالف القرآن ذلك في عدد من المواضع، بالإضافة إلى أنه قضى على خرافة اليهود في أن إتيان المرأة من ورائها يجعل الولد أحول؛ فقال عزوجل: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم((البقرة: ٢٢٣)، كذلك لم يشر الكتاب المقدس إلى تقديم السمع على البصر، وفضل رضاعة الطفل من أمه لمدة حولين، وقد أثبت العلم الحديث إعجازًا علميًّا في هذين الأمرين.
التفصيل:
أولا. مخالفة القرآن والسنة للحضارات السابقة في علم الأجنة:
إن الباحث في تاريخ العلوم يقابل كثيرًا من النظريات العلمية التي آمن العلماء بصحتها زمنًا طويلًا، وخالفت ما جاء في القرآن والسنة، وجاء بعد ذلك زمن اكتشف العلماء فيه أن تلك النظريات لم تكن صحيحة البتة، وأن ما جاء في القرآن والسنة هو الحق والصدق واليقين؛ ومن أوضح الأمثلة على ذلك حقائق علم الأجنة([1]).
وقد شغل الإنسان منذ أن وطأت قدماه الأرض بقضية التناسل، وحاول تفسيرها بتصورات متعددة وجدت إشارات إليها في معظم الحضارات القديمة، ومن خلال هذه الإشارات يمكن دراسة تاريخ علم الأجنة وتطوره، لنتبين الصواب فيه من الخطأ، ولنعلم الفرق بين هذه النظريات وبين ما أخبر به القرآن الكريم والسنة النبوية من حقائق؛ لنقرر ما إذا كان القرآن قد اقتبس ما ذكره عن علم الأجنة من الأمم التي سبقته أم لا.
تاريخ علم الأجنة:
تعود بداية علم الأجنة إلى أكثر من ستة قرون قبل الميلاد، وقسم علماء الأجنة هذا العلم إلى ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: المرحلة الوصفية، وتستمر منذ بدايته حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية: مرحلة علم الأجنة التجريبي، وتبدأ من نهاية القرن التاسع عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة، وهي التي نعيشها الآن.
والذي يعنينا من هذا التاريخ هو فترة ما قبل الإسلام، حتى تتبين لنا علاقة الإسلام بهذه الأمم السابقة عليه، ومدى اتفاقه أو اختلافه معهم فيما يخص علم الجنين.
علم الجنين عند المصريين القدماء:
من الثابت قطعًا أنه لم يكن هناك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قريبًا منه ما يمكن أن تستقى منه بالخبرة البشرية هذه المعلومات العلمية الخاصة بعلم الأجنة، والموجودة في القرآن والسنة، فلم يكن إلا بعض التخمينات والخرافات عن هذا العلم، والتي ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بأصوله، أو انتقال الصفات، أو حدوث التشوهات الجنينية.
وقد تكلم في ذلك الفلاسفة والأطباء والحكماء من الإغريق والمصريين القدماء وغيرهم، وكان كلامهم في ذلك ضربًا من التخمين والتخرُّ ص، انبنى على السحر والشعوذة أو قياس الجنين البشري على أجنة الحيوانات والطيور؛ فقد وجدت بعض السجلات المدونة من فترة السلالات الفرعونية الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة، وقد حمل ما لا يقل عن عشرة أشخاص متعاقبين اللقب الرسمي “فاتح مشيمة الملك”، واقتضت المراسيم فيما بعد أن تحمل راية تمثل “مشيمة الملك” أمام موكب الفراعنة.
راية تمثل “المشيمة الملكية” لفرعون (kleiss1964م)
وكانت تُعزى إلى خواص المشيمة قوى سحرية خفية في اختلاط ظاهر بين العلم والسحر، وكانت للنساء رقى وتمائم يتلونها عند الحمل والولادة، فلكي تضمن المرأة الحامل الحصول على ولادة سهلة وطبيعية كانت تستعين بتميمة تصور امرأة راقدة على سريرها في هدوء وراحة شديدتين، وإلى جوارها طفلها الذي وضعته في يسر وبلا معاناة، في تعلق واضح بالقوى السحرية والخفية، ودام ذلك الاعتقاد حتى عهد اليونانيين القدماء؛ حيث كان لعلم المنطق اليوناني أثره في فهم علم الأجنة.
وأقدم الوصفات المدونة للوقاية من الحمل، مدونة بالخط الهيري (لغة مصر القديمة قبل الهيروغليفية) على ورق البردي، ومن العناصر الأساسية المكونة للوصفة روث التماسيح إلى جانب عناصر أخرى([2]).
وكان المصريون القدماء يجهلون دور المنيّ في تخلق الجنين، وإن كانوا يعتقدون أن هناك علاقة ما بين العضو الذكري والمنيّ والحمل، وكان الرأى العلمي لديهم أن المنيّ ينبع من الحبل الشوكي، وربما يكون مرجع ذلك إلى الكهنة الذين كانوا يذبحون القرابين، وكانوا يعتقدون أن قضيب الثور امتداد لعموده الفقري؛ ومن هنا كان اهتمامهم بالعظمة الموجودة في آخر أربع أو خمس فقرات من العمود الفقري، عند العجز باعتبار أنها المسئولة عن الحفاظ على منيّ الرجل.
علم الأجنة عند الهنود:
وقد وجد ـ أيضًا ـ في مجال طب الأجنة الهندي رسالة سنسكريتية تعود إلى 1416 سنة قبل الميلاد، هذه الرسالة تسمى: غربها أوبانيشاد (Garbha Upanishad)، وتصف الأفكار القديمة المتعلقة بتطور الجنين.
وتشير هذه الرسالة إلى ما يأتي:
من اتحاد الدم والمنيّ يأتي الجنين إلى الوجود.
وبعد التزاوج الجنسي يصبح الجنين بما يسمى “كلادا” (Kalada)؛ أي جنين في اليوم الأول من عمره.
وبعد مرور سبع ليال يصبح الجنين بذرة.
وبعد مرور أسبوعين يصبح الجنين كتلة مستديرة.
وبعد مرور شهر يصبح كتلة متماسكة.
وبعد مرور شهرين يتخلق الرأس.
وبعد مرور ثلاثة أشهر تظهر منطقة الأوصال.
وظاهر أن هذا يتنافى تمامًا مع الحقيقة، ويدل على دور الخيال في فهم مراحل تطور الجنين، وأن ما ذكره القرآن لا يمت إلى ذلك بصلة.
علم الأجنة عند اليونانيين:
أما اليونانيون القدماء، فهم أول من ربط العلم بالمنطق بفضل تعليلهم لملحوظاتهم بالمنطق العقلي لا بالقوى السحرية الغامضة، ولكن مع هذا التقدم لم ينسجم منطقهم مع الحقائق الثابتة، وظلت التعليلات بعيدة عن الحقيقة؛ وذلك لأن العقل لا يستطيع وحده الوقوف على الحقائق، وإلا فإن الظنون تجتاحه ويتحول منطقه مملوءًا بالخرافات.
فكان أول من تكلم في هذا المجال أبقراط، ثم اشتهر أرسطو (384 – 322 ق. م) بأبحاثه عن علم الأجنة، ثم كان جالين في القرن الثاني بعد الميلاد.
وجاء بعض منكري الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية، وادّعوا أن كل ما جاء به القرآن والسنة من معلومات حول علم الأجنة ما هو إلا إشارات مأخوذة من هؤلاء العلماء الذين سبقوا الإسلام، واستدلوا على ذلك بأن هؤلاء العلماء الثلاثة (أبقراط، أرسطو، جالين) ذكروا مراحل نمو الجنين وتطوره كما ذكرها القرآن؛ لذلك نذكرها كما ذكروها هم؛ حتى يتبين لنا الفرق بين ما ذكروه وما جاء به القرآن.
أولا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند أبقراط:
نص كلامهم
ترجمته باللغة العربية
Stage 1: sperm
المرحلة الأولى: الحيوان المنوي.
Stage 2: mother´s blood desceds around the membrane
المرحلة الثانية: دم الأم ينحدر حول الغشاء.
Stage 3: flesh,fed through umbilicus
المرحلة الثالثة: اللحم، يتغذى عن طريق السرة.
Stage 4: bones
المرحلة الرابعة: العظام.
ثانيا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند أرسطو:
نص كلامهم
ترجمته باللغة العربية
Stage1: sperm
المرحلة الأولى: الحيوان المنوي.
Stage2: Catamenia menstrual blood
المرحلة الثانية: دم الحيض.
Stage3: flesh
المرحلة الثالثة: اللحم.
Stage4: bones
المرحلة الرابعة: العظام.
Stage5: around the bones grow the fleshy parts
المرحلة الخامسة: حول نمو العظام أجزاء سمين([3]).
ثالثا. مراحل نمو الجنين فيما قبل الولادة عند جالين:
نص كلامهم
ترجمته باللغة العربية
Stage1: the two semens
المرحلة الأولى: مني من الاثنين.
Stage1(B): plus menstrual blood
المرحلة الأولى (ب): بالإضافة إلى دم الحيض.
Stage2: unshaped flesh
المرحلة الثانية: لحم غير مميز الشكل.
Stage3: bones
المرحلة الثالثة: العظام.
Stage3(B): flesh grows on and around the bones
المرحلة الثالثة (ب): نمو اللحم على العظام وحولها.
رابعا. مرحلة نمو الجنين في القرآن الكريم كما ذكر المدعي:
نص كلامهم
ترجمته باللغة العربية
Stage1: nutfa sperm
المرحلة الأولى: المني.
Stage2: alaga clot
المرحلة الثانية: الجلطة.
Stage3: mudagha piece or lump of flesh
المرحلة الثالثة: قطعة من اللحم.
Stage4: adaam bones
المرحلة الرابعة: العظام.
Stage5: dressing the bones with muscles
المرحلة الخامسة: كساء العظام بالعضلات.
وقبل الخوض في بيان الفرق بين مراحل هؤلاء العلماء الثلاثة ومراحل القرآن نبين أن المدعين قد اخترعوا مراحل ما أنزل الله بها من سلطان وزعموا أن القرآن ذكرها، ولكن مراحل الجنين ذكرها القرآن صريحة في أكثر من موضع، قال سبحانه وتعالى: ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ( (المؤمنون).
فالمرحلة الأولى من مراحل تكون الجنين هي “النطفة”، وهذه النطفة وصفها ربنا عز وجلفي موضع آخر، فقال) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه( (الإنسان: ٢)، والنطفة الأمشاج هي اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، وهذا ما أثبته العلم الحديث؛ إذ صرح بأن الجنين يخلق من الحيوان المنوي للرجل عند تلقيحه بويضة المرأة، ثم تنغرس هذه النطفة الأمشاج في قرارها المكين في الرحم.
ثم تأتي المرحلة الثانية وهي “العلقة”، وتبدأ منذ تعلق النطفة الأمشاج بالرحم، وتنتهي عند ظهور الكتل البدنية التي تعتبر بداية المضغة، وسميت بذلك؛ لأنها تنشب وتعلق في جدار الرحم وتنغرز فيه، أو لأنها تشبه دودة العلق. ويكون بعد ذلك مرحلة “المضغة”، وسميت بذلك؛ لأن الجنين فيها يكون قطعة من اللحم كأنها ممضوغة، وكأن أسنانًا انغرزت في الجنين ولاكته ثم قذفته. ثم تخلق “عظام الجنين” بتحول هذه المضغة إلى عظام، وتظهر براعم الأطراف وعضلاتها ثم تكسى هذه العظام “لحمًا” بعد ذلك.
ودقة القرآن الكريم في وصف هذه المراحل جعلت علماء الأجنة في هذا العصر يعترفون بأن من يقول بهذا لا بد أن يكون نبيًّا يأتيه الوحي من السماء، وأشهرهم “كيث مور”([4]) أحد أكبر علماء الأجنة في العالم الذي يقول: “إن هذه المعلومات عن مراحل الجنين لم يعرفها العلماء إلا بعد أكثر من ألف عام بعد نزول القرآن”.
ويمكننا أن نوضح المراحل الصحيحة التي ذكرها القرآن بنصه مقارنة بما ادعاه هؤلاء على القرآن من اختلاق مراحل لم يأت بها القرآن، وذلك من خلال الجدول الآتي:
مراحل الجنين في القرآن كما ذكرها المدعي
مراحل الجنين في القرآن كما نص عليها القرآن
المرحلة الأولى: المني.
المرحلة الأولى: النطفة الأمشاج المكونة من مني الرجل وبويضة المرأة.
المرحلة الثانية: الجلطة.
المرحلة الثانية: العلقة.
المرحلة الثالثة: قطعة من اللحم.
المرحلة الثالثة: المضغة.
المرحلة الرابعة: العظام.
المرحلة الرابعة: العظام.
المرحلة الخامسة: كساء العظام بالعضلات.
المرحلة الخامسة: كساء العظام لحمًا.
ومن ثم يتبين لنا تسمية المدعي لمراحل نمو الجنين بأسماء من عنده لم يذكرها القرآن ولا تدل على الصفة الحقيقية لهذه المراحل؛ فالأولى ليست منيًّا للرجل فقط، وإنما هي اجتماع مني الرجل وبويضة المرأة، والثانية ليست جلطة، وإنما هي تجمع لعدد كبير من الخلايا نتيجة الانقسام المستمر للنطفة، وهي قطعة لحم معلقة بجدار الرحم، والثالثة ليست قطعة لحم فقط، وإنما هي قطعة من اللحم كأنها ممضوغة.
وبنظرة عجلى إلى المراحل التي وردت عند (أبقراط وأرسطو وجالين) نجدها تختلف تمامًا عن مراحل نمو الجنين التي جاء بها القرآن وطبقها العلم الحديث؛ فأبقراط جعل منشأ الجنين من دم الحيض وحده، وأرسطو خالفه وجعله من دم الحيض ومنيّ الرجل، وجالين خالفهما وجعله من دم الحيض ومنيّ الرجل ومنيّ المرأة، فأي شبه بين ذلك وبين ما جاء في القرآن الكريم من أن الجنين يخلق من كلا الطرفين؛ حيث النطفة الأمشاج المكونة من ماء الرجل وبويضة المرأة؟! ولا دخل لدم الحيض في تكون الجنين على الإطلاق([5]).
وبذلك يكون القرآن قد تخلى عن هذا الخطأ الفاحش الذي أجمع عليه هؤلاء الثلاثة، وكذلك الأحاديث النبوية جاءت تبطل ذلك، يقول ابن حجر: “وزعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلا في عَقْده، وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك”([6]).
ومن هذا المقولة يتبين لنا تصحيح القرآن الكريم والسنة النبوية لمفهومين غير صحيحين؛ أولهما: عدم مشاركة منيّ الرجل بذاته في تكوين الجنين، وثانيهما: تكون الجنين من دم الحيض.
وكذلك لم يذكر هؤلاء الثلاثة شيئًا عن المرحلتين اللتين تليان النطفة وتسبقان العظام، وهما (العلقة والمضغة)، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بهما إن لم يكن من عند الله تعالى، لا سيما وهما وصف دقيق لهاتين المرحلتين؟
ثم يأتي الخطأ الثالث وهو تقديم خلق اللحم على العظام، وقد قال به كل من أبقراط وأرسطو، وهذا خطأ فاحش، والصحيح ما جاء به القرآن الكريم من تقديم العظام على اللحم، يقول الدكتور “كيث مور”:
During the seventh week, the skeleton begins to spread throughout the body and the bones take their familiar shapes. At the end of the seventh week and during the eighth week the muscles take their positions around the bone forms.
وترجمة هذا: أثناء الأسبوع السابع، يبدأ الهيكل العظمي بالانتشار خلال الجسم، وتأخذ العظام أشكالها المألوفة، وفي نهاية الأسبوع السابع وأثناء الأسبوع الثامن، تأخذ العضلات (اللحم) موقعها حول تكوينات العظام([7]).
أليس في ترك محمد صلى الله عليه وسلم لما جاء به أبقراط وأرسطو وجالين، والإتيان بما أثبت العلم حديثًا صحته ـ دليل على صحة ما جاء في القرآن والسنة؟!
وقد لـخص أرسطو في بحثه عن الأجنة معتقدات أهل زمانه ورأيه فيها، واعتبرها تندرج تحت نظريتين:
الأولى: وهي أن الجنين يكون جاهزًا في ماء الرجل، فإذا دخل ماء الرجل الرحم انعقد، ثم نما كما تنمو البذرة في الأرض ثم استمد غذاءه من الرحم.
صورة للحيوان المنوي بداخله جنين كما كان متخيلًا في القرن السابع عشر
الثانية: أن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المني بعقده، مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتعقده وتحوله إلى جبن، وليس للمنيّ في إيجاد الولد دور قط، وإنما هو دور مساعد مثل دور الأنفحة في إيجاد الجنين.
وقد أيد أرسطو هذه النظرية الأخيرة ومال إليها، وقد كان أرسطو من المؤيدين لنظرية التخلق الذاتي التي تقول بتولد الدود والمخلوقات من العفونة والمواد المتحللة؛ ولذا تصور أن الجنين يتخلق من دم الحيض.
وقد ظلت هذه النظرية سائدة ردحا من الزمن حتى جاء لويس باستور([8]) وقضى عليها قضاء تامًا عام 1864م؛ حيث أثبت أن العفونات مصدرها مخلوقات دقيقة جدًّا (تدعى الميكروبات)، وقد أثبت غيره من قبله بسنوات أن المواد المتحللة والعفونات لا تولد الديدان ولا الحشرات، وإنما تتوالد هذه الحشرات نتيجة تجمع بيضها حيث ترميه الحشرات الطائرة أو الزاحفة، وتتولد اليرقات ثم تنمو اليرقات إلى حشرات.
ومنذ أن لـخص أرسطو النظريات السائدة في عصره بالنسبة لتخلق الجنين، استمر الجدل محتدمًا بين أنصار نظرية الجنين الكامل المصغر الموجود في ماء الرجل، وأنصار الجنين الكامل المصغر في بويضة المرأة، ولم يفطن أحد من هؤلاء الباحثين لمدة ألفي عام أن كلًّا من الذكر والأنثى يساهم بالتساوي في تكوين الجنين.
واستمرت هذه المعارك حتى عصر النهضة، بل إنها استمرت حتى بداية القرن العشرين، حيث شيّعت هاتان النظريتان إلى مثواهما الأخير، وذلك بعد أن تمكن “هيرتويج” (Hertwig)([9]) في عام 1875م من ملاحظة كيف يلقح الحيوان المنوي البويضة، وأثبت بذلك أن كلًّا من الحيوان المنوي والبويضة يساهم في تكوين البويضة الملقحة (الزيجوت)، وكان بذلك أول إنسان يشاهد عملية التلقيح هذه ويصفها.
وفي عام 1883م تمكن “فان بندن” (VanBeneden)([10]) من إثبات أن كلًّا من البويضة والحيوان المنوي يساهم بالتساوي في تكوين البويضة الملقحة.
وهكذا يبدو بوضوح أن الإنسانية لم تعرف بواسطة علومها التجريبية أن الجنين الإنساني (أو الحيواني) يتكون باختلاط نطفة الذكر ونطفة الأنثى إلا في أواخر القرن التاسع عشر، ولم يتأكد لها ذلك إلا في القرن العشرين([11])، بينما سبق القرآن الكريم إلى تقرير ذلك، بأن أكد أن الجنين يتكون بسبب النطفة الأمشاج (المختلطة) بين نطفة الرجل وبويضة المرأة، قال تعالى:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)((الإنسان).
وقد كانت هاتان النظريتان راسختين كأنهما حقيقتان ثابتتان لا جدال فيهما، لكن ذلك لم يمنع علماءنا الكرام من تقديم النص القرآني عليهما، ومنهم ابن حجر كما أشرنا منذ قليل، وابن القيم حينما قال: “الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، خلافًا لمن يزعم من الطبائعيين، أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده”([12]).
وكذلك قال القرطبي: “بيّن الله تعالى في هذه الآية ـ يقصد قوله تعالى في سورة الحجرات: ) إنا خلقناكم من ذكر وأنثى( (الحجرات: ١٣) ـ أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى”([13])، وردّ على من قال بأن الخلق يخلق من ماء واحد، فقال: “والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة؛ لهذه الآية، فإنها نص لا يحتمل التأويل”([14]).
ومن هنا نتساءل: إذا كان القرآن الكريم قد خالف الرأي السائد في عصره والعصر السابق عليه والتالي له أيضًا، في القول بأن الجنين يخلق من ماء الرجل والمرأة على السواء، فكيف يدّعي هؤلاء أن القرآن الكريم كان يقتبس معارفه عن علم الأجنة من الأمم السابقة عليه؟!
ثانيا. معارف قوم النبي صلى الله عليه وسلم عن علم الأجنة قبل الإسلام:
تفاوتت درجة العلوم التي انتشرت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي قومه قبل بعثته، فقويت العلوم التي كانت لها صلة ببيئتهم؛ مثل الشعر، وتحسس مخابئ الماء تحت طبقات الأرض وعلم الأنواء (تعرف أوقات نزول الغيث عن طريق حركة النجوم ومنازلها)، ومعرفة آثار الأقدام (القيافة) وعلم الأنساب، وضعفت العلوم الأخرى عندهم؛ مثل الطب ـ وإن كان فيهم أطباء معروفون؛ مثل الحارث بن كلدة ـ الذي كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية؛ مثل الكي والبتر والفصد (الشق) والتداوي بالأعشاب والحجامة، وانتشرت بعض العلوم التي ليس لها ركائز منطقية؛ مثل دراسة الأجرام السماوية (التنجيم والكهانة) لمعرفة الأمور الغيبية من حاضر ومستقبل.
أما علم الأرحام عند العرب ـ وهو الذي يعنينا ـ فلم يكن أحسن حالًا من سائر العلوم الأخرى، وكان قائمًا حينئذٍ على ما تعلمه العرب من اليهود، على ما به من اعتقادات غير صحيحة سوف نوضحها في الوجه القادم إن شاء الله تعالى([15]).
وإذا كان هذا هو حال قوم النبي صلى الله عليه وسلم الذين عاش بينهم وتعلم منهم، فأنّى له صلى الله عليه وسلم المقدرة على كشف حقائق علمية بلغت أقصى الدرجات من الدقة، وقد كان صلي الله عليه وسلم أميًّا لا يقرأ ولا يكتب؟!
وقد اقتصر علمه صلى الله عليه وسلم على المعرفة برعاية الغنم، وعلى بعض الأمور الحربية، وعلى بعض الأمور السياسية، وعلى بعض أمور التحكيم، وقد أتيح له السفر إلى اليمن أربع مرات في مهمات تجارية كان يقوم بها للاتجار بمال خديجة رضياللهعنها، ومرة واحدة إلى مدينة بصرى في بلاد الشام، وهي أبعد مكان رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ([16]).
وإذا كان صلى الله عليه وسلم معروفًا بين قومه بالصادق الأمين، فهل كان يترك الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل؟ بالطبع لا، لو كان هذا الكلام العلمي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم من الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث أو غيرهما كما ادعى هؤلاء لأخبر أنه أخذه منهم، وكيف يأخذه منهم وهم لا يعلمونه؛ ففاقد الشيء لا يعطيه.
فمن المعروف أن هؤلاء قد شاعت فيهم الأساطير والخرافات وكان كثير من معلوماتهم مشوبًا بالخطأ كما أثبت العلم الحديث، فإذا كان هؤلاء هم مصدر معلومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وحاشاه ـ فكيف ميز بين هذه الأفكار المتباينة، فأخذ الصحيح وهو النادر، وترك الباطل وهو الغالب؟!
إن القرآن الكريم ليس كتاب علم من العلوم، وإنما كتاب هداية وإرشاد، ولكن شاءت إرادة الله تعالى أن يتضمن إشارات من باب الإعجاز العلمي لم يكن لها في زمن تنزيل القرآن الكريم أي أثر في نشر الدعوة، ولم يكن لوجودها في ذلك الوقت أية مساهمة في نشر الإسلام، ولم ينقل إلينا أن أحدًا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسلم من أثر الآيات التي نسميها الآن بمواضع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إن كل من أسلم في زمن الرسالة كان بسبب ما جاء به الإسلام من عقيدة التوحيد الصافية النقية التي تخاطب الفطر السليمة، وبما دعا إليه من أخلاق وآداب فاضلة، قال تعالى:)واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا (36)( (النساء)
وإن كان لا أثر لهذه الإشارات العلمية في نشر الدعوة في زمنه صلى الله عليه وسلم ، فما الحاجة إلى أن يكذب ويأخذ هذه العلوم من غيره؟ إن العقل السليم يأبى ذلك.
ثالثا. علم الأجنة بين القرآن والكتاب المقدس:
إن نظرة عجلى إلى ما يوجد في التوراة والإنجيل من معلومات غير صحيحة مأخوذة من النظريات البشرية التي كانت منتشرة حين جمعت أسفار هذه الكتب ـ لتدل على أن الإسلام لم يأخذ منها شيئًا، وإنما جاء بعلم لا يمكن أن يأتي إلا من عند رب عليم خبير.
ولنضرب لذلك أمثلة عدة توضح مخالفة القرآن لـما ذكر في الكتاب المقدس من معلومات عن علم الأجنة، من ذلك ما يأتي:
مراحل خلق الجنين:
ماذا قال الكتاب المقدس عن مراحل خلق الجنين؟ قال العهد القديم: “يداك كونتاني وصنعتاني كلّي جميعًا. أفتبتلعني. اذكر أنك جبلتني كالطين. أفتعيدني إلى التراب، ألم تصبني كاللبن وخثّرتني كالجبن، كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب…” (أيوب 10: 8)، والمعنى: أنك صببتني كاللبن؛ أي: دم الحيض سائل، وحين يلتقي به الحيوان المنوي يخثره كما تخثر الأنفحة الحليب (اللبن) فتجعله جبنًا.
وكما أن المادة الرئيسة في تكوين الجبن هي الحليب (اللبن)، وما الأنفحة إلا عامل مساعد في التخثير، فإن الحيوان المنوي ـ بحسب تلك النظرية المغلوطة ـ ليس له إلا دور ثانوي في تكوين الجنين([17]).
وبالنظر إلى ما ذكره أرسطو من النظريات التي كانت سائدة في عصره عن مادة تكوين الجنين، نجده رجح النظرية القائلة بأن الجنين يتخلق من دم الحيض؛ حيث يقوم المنيّ بعقده مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن.
ومن هنا يتبين أن ما ذكر في الكتاب المقدس مأخوذ من هذه النظرية التي كانت منتشرة في عهد جمعه، وإذا أضفنا إلى ذلك الخطأ الثاني الوارد في هذا النص، وهو كسوة الجنين جلدًا ولحمًا، ثم بعد ذلك خلق العظام والعصب، وهذا خطأ فادح أثبته العلم الحديث ـ تبين أن هذا من وضع بشر وليس من كلام رب العالمين.
وأين التشابه بين ما ذكره الكتاب المقدس وما ذكره القرآن في أكثر من موضع، مثل قوله تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ((المؤمنون).
هذه هي مراحل تكوين الجنين في القرآن (النطفة ـ العلقة ـ المضغة ـ العظام ـ اللحم)، وهي حقائق علمية أكدها الطب الحديث كما أوضحنا آنفا.
1.تصحيح الإسلام لاعتقاد اليهود الغير صحيح في إتيان المرأة من ورائها:
ثم نأتي إلى قضية ثانية تثبت يقينًا أن الإسلام لم يستق معلوماته في علم الأجنة من الكتب السابقة، بل تثبت تصحيحه لأخطائها التي تمسكوا بها سنين عددًا، وهذه القضية هي اعتقاد اليهود أن الرجل إذا جامع امرأته من ورائها جاء الولد أحول، روى البخاري في صحيحه عن جابر رضى الله عنه قال: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت)نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( (البقرة: ٢٢٣)»([18]). فجاء القرآن مصححًا لهذه الخرافات المنتشرة بين اليهود، وليس حاكيًا لها.
2.تقديم السمع على البصر في القرآن:
لقد جاء ذكر السمع قبل البصر في القرآن الكريم، وذلك بإحكام شديد، فلم يذكر البصر قبل السمع إلا في آيات قلائل جاءت في معرض الحديث عن العذاب أو الإنذار به أو وصف00 الكفار والمشركين دون إشارة إلى خلق الحاستين، أما الآيات التي تحدثت عن خلق الحاستين، فقد قدمت السمع على البصر في جميعها؛ حيث ترافقت كلمتا السمع والبصر في 38 آية كريمة، كما في قوله تعالى) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ( (السجدة: ٩)، وقوله تعالى: )وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ( (المؤمنون: ٧٨)، وقوله تعالى:)وجعلنا لهم سمعًا وأبصارًا وأفئدة ( (الأحقاف: ٢٦)، وقوله تعالى:)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)( (الإنسان).
فلماذا تقدّم السمع على البصر في القرآن؟ هل في ذلك حكمة وإعجاز علمي؟
الإجابة: لا بد من سبب لذلك، وإلا لقدم البصر مرات وقدم السمع مرات، وقد أثبت عدد كبير من العلماء الإعجاز العلمي في تقديم السمع على البصر، ومنهم: الأستاذ الدكتور صادق الهلالي، والدكتور حسين اللبيدي، والدكتور عدنان الشريف، والدكتور محمد علي البار، والدكتور عبد السلام المحسيري، وجمع الدكتور زغلول النجار هذه الحقائق التي توصل إليها هؤلاء العلماء فيما يأتي:
أ- أن الأذن الداخلية للحميل تصبح قادرة على السمع في شهره الخامس تقريبًا، بينما العين لا تفتح ولا تتكون طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع من عمره، وحتى في هذا الوقت لا يستطيع الحميل أن يرى لعدم اكتمال تكون العصب البصري، ولكونه غارقًا في ظلمات ثلاث.
ب-يمكن للجنين أن يسمع الأصوات بعد بضعة أيام من ولادته، وذلك بعد امتصاص كل السوائل وفضلات الأنسجة المتبقية في أذنه الوسطى والمحيطة بعظيماتها، أما حاسة البصر فتكون ضعيفة جدًّا أو معدومة، وتتحسن هذه الحاسة بالتدريج في الشهرين الثالث والرابع بعد الولادة وحتى الشهر السادس، وتستمر حاسة البصر في النمو عند الوليد حتى سن العاشرة.
ج- إن المنطقة السمعية في المخ تتكامل عضويًّا قبل المنطقة البصرية في مراحل الحميل وحتى بعد الولادة([19]).
من هذا يتبين أن تقديم السمع على البصر في هذه المواضع العديدة يدل على أن هذا الكلام من عند علام الغيوب وليس من اختراع بشر.
ولكن هل أخذ القرآن الكريم هذا الإعجاز من الكتاب المقدس؟ لننظر ماذا قال الكتاب المقدس عن حاستي السمع والبصر، وهل قدم السمع على البصر على اعتبار خلقه أولا كما ذكر القرآن؟
يقول الأستاذ عبد الوهاب الراوي: “بمراجعتي كتب التوراة والإنجيل لم أجد إشارة إلى هذه الحقيقة العلمية ـ تقديم السمع على البصر ـ سوى إشارة واحدة في كتاب الأمثال: “الولد أيضا يعرف بأفعاله هل عمله نقي ومستقيم؟ الأذن السامعة والعين الباصرة الرب صنعهما كلتيهما… افتح عينيك تشبع خبزًا” (الأمثال 20: 11 ـ 13)، فتجد هنا السمع يسبق البصر الذي يذكر بالإفراد وليس بالجمع كما في القرآن؛ على حين لا ذكر للأفئدة، أضف إلى ذلك أن هذه الإشارة لا تتكرر في مواضع أخرى من الكتاب المقدس، وهذا يؤدي بنا إلى استنتاج أن هذه الإشارة أتت عابرة، القصد منها بيان أن الأذن تسمع والعين تبصر، هذا أمر بدهي… فأين إذًا المعجزة العلمية في هذا النص التوراتي، ثم اعلم بأن تتابع السمع والبصر في هذا النص ينعكس في نص آخر في كتاب إشعياء وإرمياء مثل: “ولا تحسر عيون الناظرين وآذان السامعين تصغى” (إشعياء 32: 3). “حتى متى أرى الراية وأسمع صوت البوق؟” (إرميا 4: 21)”([20]).
ومن هنا يتبين أن معجزة السمع والبصر في القرآن الكريم لا يمكن مقابلتها مع الذي ورد في كتب التوراة والإنجيل، وإذا كان ذكر السمع والبصر في التوراة والإنجيل لا يتطابق مع روح المعنى الذي أريد منه في القرآن الكريم لهذه النعم، إذن يمكن القول أن كتبة التوراة والإنجيل فاتتهم هذه الحقيقة العلمية المعجزة، والذي يهمنا في هذا الأمر أن القرآن جاء بأمور لم يأت بها الكتاب المقدس.
4.)والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين(:
ونأتي إلى قضية أخرى لها علاقة وثيقة بالجنين ألا وهي قضية الرضاعة؛ حيث إنها من الإعجاز العلمي البليغ في القرآن الكريم، ولا إشارة إليها في الكتاب المقدس، يقول تعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( (البقرة: ٢٣٣)؛ أي إن الإرضاع الأمثل يتحقق من لبن الوالدة الأم، وليس من لبن المرضعة أو من الإرضاع الاصطناعي، وذلك لمدة سنتين كاملتين.
وقد أوحيت هذه الآية الكريمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا قبل أن يثبت ويتأكد للطب الحديث أن إرضاع الطفل من ثدي والدته هو الطريق الأقوم لنمو الطفل سليمًا من ناحية الصحة الجسدية والنفسية، وارتباط الطفل وتعلقه بأمه، وبالتالي تثبيت أركان العائلة التي هي النواة الأساسية في الإسلام.
وجاء الطب الحديث ليبين أن هذه الآية معجزة طبية؛ فقال مجلس الصحة الدولي ـ عام 1992م ـ: “لن يلبي المتطلبات الغذائية للطفل الرضيع أي نوع من الطعام والشراب حتى الماء؛ سوى لبن الوالدة الأم”.
ونشرت المجلة البرازيلية سوبرنترسانت (Superinteressante) أن نصف الأمهات البرازيليات يتوقفن عن إرضاع أطفالهن بعد الشهر الثاني من الولادة؛ ولهذا يموت الأطفال من الإسهال الذي كان بالإمكان وقايتهم منه لو استمر الأطفال في الرضاعة.
وعرضت كل من قناتي التلفاز (بي ـ بي ـ سي) و (آي ـ تي ـ في) في 17 تموز 1999م هذا الخبر: “أظهرت دراسة علمية ألمانية أجريت على 9357 طفلًا بعمر 5 و 6 سنوات بأن نسبة عالية من مجموعة الأطفال الذين لم ترضعهم والداتهم أصيبوا بالبدانة؛ بينما مجموعة الأطفال الذين أرضعتهم والداتهم لفترة طويلة لم يصابوا بهذا الداء، وعليه أكدت الدراسة ضرورة إرضاع الطفل من ثدي والدته ولفترة طويلة نسبيًّا”.
وقام الدكتور “هيوغ جولي” (Hughjolly) بعمل مسح ميداني على عدة أمهات، تأكد له منه أن فترة الرضاعة المـثلى هي سنتان، يقول: “كنت أتصور في البدء أن السنة الأولى من عمر الطفل تعتبر حيوية لتغذيته من لبن أمه، على حين وجدت من المسح الميداني أن عدة أمهات استمررن على رضاعة أطفالهن حتى السنة الثانية، فكان الأمهات يرضعن أطفالهن في الصباح الباكر وقبل موعد النوم، إن عناصر التغذية في لبن الأم متوازنة وأقل سمنة من لبن البقر الذي يحدث أضرارًا في صحة الطفل”.
إذًا أثبتت هذه المكتشفات العلمية ـ التي ذكرنا بعضًا منها ـ أن إرضاع الأم لطفلها فترة طويلة ـ عامين كاملين حسب ذكر القرآن الكريم ـ من شأنه إنشاء طفل صحيح العقل والبدن، لا يعاني من كثرة الأمراض والأوبئة.
فهل أخذ القرآن هذه المعلومة الإعجازية من الكتاب المقدس؟ لننظر ماذا قالت التوراة والإنجيل في الرضاعة، يقول الأستاذ عبد الوهاب الراوي: جاء في التوراة ذكر الرضاعة والفطام بصيغ عابرة تخلوها الدقة وتخص مناسبات رضاعة لأشخاص معينين، في حين لم يأت في الإنجيل ذكرهما أبدًا، وهذه أمثلة عن الرضاعة والفطام من نصوص التوراة، منها: “ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك ـ المقصود يعقوب عليه السلام” (إشعياء 49: 23)، “فأخذت نعمى الولد (عبيد) ووضعته في حضنها وسارت له مربية” (راعوث 4: 16)، “ألِلْمفطومون عن اللبن، للمفصولين عن الثدي” (إشعياء 28: 9)، “فكبر الولد وفطم وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق” (تكوين 21: 8)، “وماتت ديورة مرضعة رفقة” (تكوين 35: 8).
5.من خلال هذه النصوص لا نجد في التوراة والإنجيل ذكرًا للتأكيد على أهمية الرضاع من الأم وليس من غيرها، وأن يستمر الرضاع مدة عامين كاملين، كما أكد القرآن على ذلك في قوله تعالى:(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( (البقرة: ٢٣٣)، وقوله تعالى: )وفصاله في عامين( (لقمان: ١٤)، وقوله تعالى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا( (الأحقاف: ١٥) ـ وإنما نجد ذكرًا عابرًا للرضاعة والفطام في مواضع من حكايات التوراة، ونلاحظ أن المربيات هن اللائي يقمن بالرضاعة وليس الأمهات([21]).
وإذا كان قد اجتمع عندنا أمران مهمان؛ الأول منهما أن القرآن بيّن خطأ الكتاب المقدس في ذكره أن الجنين يتكون من دم الحيض مع منيّ الرجل، وهدم خرافات اليهود التي من أشهرها أن إتيان الرجل زوجته من ورائها يجعل الولد أحول، والثاني أنه أتى بأشياء كثيرة شهد العلم الحديث بصحتها فكانت إعجازًا علميًّا، وهذه الحقائق لا نجد لها إشارة في الكتب المقدسة السابقة، بل ذكرت ذكرًا عابرًا دون نص على الحقيقة ـ نقول: إذا كان الأمر كذلك فكيف يدعى أن الإسلام أخذ علم الأجنة ممن سبقه؟!
الخلاصة:
وبعد هذا العرض لتوضيح أن ما ذكره القرآن عن علم الجنين من عند الله تعالى، وليس مأخوذًا من كلام البشر ـ نرى أنه من المفيد أن نورد تلخيصًا سريعًا يجمل ما سبق:
قسم العلماء علم الأجنة إلى ثلاث مراحل أساسية؛ الأولى: المرحلة الوصفية، وتستمر منذ بدايته حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والثانية: مرحلة علم الأجنة التجريبي، وتبدأ من نهاية القرن التاسع عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين، والثالثة: هي مرحلة التقنية واستخدام الأجهزة وهي التي نعيشها الآن.
لم يكن هناك في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قريبًا منه ما يمكن أن تستقى منه بالخبرة البشرية هذه المعلومات العلمية الدقيقة والموجودة في القرآن والسنة.
فعند المصريين القدماء انتشرت الخرافات والتخمينات فيما يخص علم الجنين؛ فكانت خرافة مشيمة الملك، وتلاوة النساء رقى وتمائم عند الحمل والولادة لتسهيل عملية الولادة إلى غير ذلك من الخرافات التي لا تمت إلى العلم بصلة.
واعتقد الهنود قديمًا أن الجنين يتكون من اتحاد الدم والمنيّ، وذكروًا مراحل لنمو الجنين تتنافى تمامًا مع الحقيقة، وتدل على دور الخيال في فهم هذه المراحل لديهم.
أما اليونانيون فهم أول من ربط العلم بالمنطق، ورغم ذلك ظلت تعليلاتهم بعيدة عن الحقيقة؛ فقالوا بخلق الجنين من منيّ الرجل ودم الحيض، وقدموا خلق اللحم على العظام، وكلها أخطاء بين بطلانها القرآن، ثم جاء الطب الحديث فأكد بطلانها أيضًا.
أكد علماء الإسلام قديمًا أن القرآن خالف ما كان سائدًا في تلك العصور عن خلق الجنين، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن القيم والقرطبي.
كان علم الطب في قوم النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ضعيفًا جدًّا، وإن كان فيهم أطباء معروفون مثل الحارث بن كلدة؛ إذ كان مرتبطًا بالسحر، واقتصر على الوسائل البدائية، مثل الكي والفصد والبتر، وأما علم الأرحام والجنين فلم يعرف منه العرب إلا ما تعلموه من اليهود على ما به من اعتقادات غير صحيحة.
إذا كان هذا هو حال القوم الذين نشأ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن أين له هذه العلوم وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب؟ بالإضافة إلى أن الذي اشتهر بالصدق والأمانة ما كان له أن يترك الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل.
إن هذه الإشارات العلمية في القرآن الكريم لم يكن لها أي أثر في الدعوة إلى الإسلام في عهد نزوله، فما الحاجة إليها عند النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد حتى يقوم بتأليفها؟! وهذا دليل كافٍ على أنه من كلام الله رب العالمين.
إن نظرة عجلى إلى ما يوجد في الكتاب المقدس من معلومات غير صحيحة مأخوذة من النظريات البشرية التي كانت منتشرة حين جمعت أسفار هذا الكتاب ـ لتدل على أن الإسلام لم يأخذ منها شيئًا، وإنما جاء بعلم لم يكن ليأتي إلا من عند رب عليم خبير.
ذكر العهد القديم أن الجنين يتكون من دم الحيض السائل، وليس للسائل المنوي إلا دور ثانوي في تكوين الجنين، وذلك في قوله: “… ألم تصبني كاللبن، وخثرتني كالجبن…”، وهذه هي نظرية أرسطو التي كانت سائدة في عصره، والتي قالت بأن الجنين يتخلق من دم الحيض حين يقوم المنيّ بعقده، مثلما تفعل الأنفحة باللبن فتحوله إلى جبن.
جاء القرآن مخالفًا لكل هذا وأكد أن الجنين يتكون من النطفة الأمشاج التي تجمع بين نطفتي الرجل والمرأة، ولا علاقة لدم الحيض بالجنين، بالإضافة إلى أن القرآن ذكر بقية المراحل بدقة بالغة، وهي (النطفة ـ العلقة ـ المضغة ـ العظام ـ اللحم)، ولم ترد أية إشارة إليها في الكتاب المقدس، فأين التشابه إذًا بين الكتاب المقدس والقرآن؟!
ذكر العهد القديم أن خلق الجلد واللحم يكون قبل العظام والعصب؛ فقال: “كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني بعظام وعصب”، بينما قال القرآن (فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا((المؤمنون :14) ، وهذا ما أثبته العلم الحديث، فأين ما أخذه القرآن من الكتاب المقدس في هذا الأمر؟!
كانت اليهود تظن أن الرجل إذا جامع امرأته من ورائها ـ أي: في قبلها ـ جاء الولد أحول، فنزل قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم((البقرة: ٢٢٣)، فقطع بذلك دابر هذه الخرافة بعد بيان بطلانها.
إن في تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم إعجازًا علميًّا يتضح بعد أن أثبت العلم الحديث أسبقية خلق السمع على البصر، فهل أخذ القرآن الكريم هذا الإعجاز من الكتاب المقدس؟ بالطبع لا، فلم يرد تقديم السمع على البصر إلا في موضع واحد من الكتاب المقدس لا يثبت ترتيبًا، وإنما هو إشارة عابرة، القصد منها بيان أن الأذن تسمع والعين تبصر، أما الباقي فقدم البصر على السمع فيها.
لقد أثبت العلم الحديث أن إرضاع الطفل من أمه لمدة طويلة (عامين) تحمي الطفل من كثير من الأمراض التي قد تؤدي إلى وفاته، وأنه أفضل غذاء للطفل في هذه الفترة، وذلك تحقيقًا لقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( (البقرة: ٢٣٣)، ولم يرد في الكتاب المقدس إشارة إلى فائدة لبن الأم، وإنما هي إشارات عابرة تفتقد الدقة، تخص مناسبات رضاعة لأشخاص معينين، غالبهم من المربيات وليس الأمهات.
(*) رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ج2، ص87.
[2]. علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، عبد المجيد الزنداني وآخرون، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، باكستان، 25 ـ 28 صفر، 1408هـ/ 18 ـ 21 أكتوبر، 1987م، ص4، 5.
[3]. رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[4]. كيث مور: أستاذ علم التشريح والأجنة بجامعة تورنتو بكندا، وهو من أكبر علماء التشريح والأجنة في العالم، في عام 1984م، استلم الجائزة الأكثر بروزًا في حقل علم التشريح في كندا (جي ـ سي ـ بي) جائزة جرانت من الجمعية الكندية والأمريكية لاختصاصيِّ التشريح ومجلس اتحاد العلوم الحيوية، وكيث مور صاحب أشهر كتاب في علم الأجنة (The Developing human)، والذي تُرجم لأكثر من خمس وعشرين لغة من لغات العالم، ويُدرَّس في معظم كليات الطب في العالم.
[5]. رد الشبهات حول علم الأجنة في القرآن والسنة، د. مصطفى عبد المنعم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج11، ص489.
[7]. الرد على شبهات حول طور العظام، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.
[8]. لويس باستور (Louis Pasteur) (1822م ـ 1895م): كيميائي وبيولوجي فرنسي، عَقَّم اللبن تعقيمًا جزئيًّا بحرارة تقتل المعتضيات الضارة من غير أن تُحدث في المادة المعقمة تغييرًا كيميائيًّا جوهريًّا، وهو ما يُدعى اليوم بـ “البسترة”.
[9]. هيرتويج (1849م ـ1922م): عالم الأجنة والخلايا الألماني، كان أول من أدرك أن انصهار نواتي الحيوان المنوي والبويضة هو حدث مهم وضروري في عملية الإخصاب، ومن بين أبحاثه المهمة ـ دراساته في الناقلية النووية للصفات الوراثية، ونظرية الوراثية الحياتية، وأيضًا تأثير إشعاعات الراديوم على الخلايا الجسمية والتناسلية، كما قام هيرتويج مع أخيه ريتشارد بالتحقيق في تكوُّن فتحة الجسم وتشكلها، وكتب عدة أبحاث في نظرية الطبقة التناسلية، متسائلًا عما افترضته من أن كلًّا من الأعضاء والأنسجة مشتقة من تنوع في طبقات الأنسجة الثلاثة.
[10]. فان بندن (1846م ـ 1910م): عالم الأجنة والخلايا البلجيكي، المشهور باكتشافاته المركزة على الإخصاب وعدد الكروموسومات (الجسيمات الملونة) في الخلايا الجنسية والجسدية، وفي خلال سنواته الأولى عمل بندن مع والده البروفيسور في علم الحيوان في الجامعة الكاثوليكية في لوفاين، والذي قدَّم ملاحظاته لابنه في دراسته عن الحيوانات الأولية والديدان الخيطية ومجموعات متعددة من الحيوانات الأخرى، فقام فان بندن الأصغر بالتوسع في تلك الدراسات لتشمل مجموعة من الكائنات الشبيهة بالديدان والمتميزة بإنجابها نوعين من الأجنة.
ومنذ عام 1883م قام فان بندن بنشر سلسلة من المقالات والأبحاث العلمية حول بيضة الإسكارس (الدودة المعوية عند الخيول)، في هذه الدراسات أظهر فان بندن أن الإخصاب متضمن للالتحام الضروري بين نصفي نواتين ـ واحدة من الذكر (الحيوان المنوي) والأخرى من الأنثى (البُييضة) ـ وكل واحدة تتألف من نصف عدد الكروموسومات في خلايا الجسم، واكتشف أن لكل فصيلة ونوع من الكائنات الحية عددًا معيَّنًا من الكروموسومات يختلف عن غيره من الفصائل، وكذلك عمل على تطوير نظرية تكوُّن الجنين في الثدييات، والتي أصبحت ـ لاحقًا ـ قانونًا علميًّا مقياسيًّا.
[11]. خلق الإنسان بين الطب والقرآن، د. محمد علي البار، الدار السعودية، السعودية، ط3، 1402هـ/ 1981م، ص184: 188.
[12]. تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، ط1، 1391هـ/ 1971م، ص277.
[13]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج16، ص342.
[14]. المرجع السابق، ج16، ص343.
[15]. إعجاز القرآن في ما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص42، 43.
[16]. المرجع السابق، ص44.
[17]. تكوُّن الجنين: دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والعهد القديم، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: منتديات أتباع المسيح عليه السلام: www.atba-almaseeh.com.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ( (البقرة : 223 ) (8/ 37)، رقم (4528).
[19]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص541، 542.
[20]. معجزات القرآن العلمية في الإنسان مقابلة مع التوراة والإنجيل، عبد الوهاب الراوي، دار العلوم، عمان، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص149.
[21]. المرجع السابق، ص114: 130.
نفي إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن النجوم الخانسة الكانسة
مضمون الشبهة:
في محاولة جديدة للنيل من القرآن والطعن في إعجازه، نفى جمع من الطاعنين إعجاز القرآن العلمي في قوله عز وجل:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، قائلين: إن من شروط قبول التفسير العلمي ألا يلغي تفسير السلف ولا يخرج عن مدلول اللغة؛ وقد فسَّر جمهور المفسرين من الصحابة -ومن بعدهم- الآية بغير ما فسرها به دعاة الإعجاز العلمي، كما أن “الكُنَّس” عند أهل اللغة: هي التي تختبئ، وليست التي تكنس. وحتى إذا سلمنا بصحة التفسير العلمي من أن الآية تنطبق على مرحلة من مراحل النجوم، وهي ما يسميه العلماء باسم الثقوب السوداء (Black holes)، فإن الوصف القرآني لها بالخُنَّس يكون غير دقيق؛ لأنه جاء مخالفًا التسمية العلمية.
وجها إبطال الشبهة:
1)إن أهم صفات الثقب الأسود (Black hole)أنه: لا يُرى (خنَّس)، ويجري بسرعات كبيرة (جوار)، ويكنس ويجذب كل شيء يقترب منه (كُنَّس)، وهذه الصفات تتطابق تطابقًا كاملاً مع الوصف القرآني: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير). أما إذا نظرنا إلى التسمية العلمية بالثقب والوصف بالأسود وجدناها غير دقيقة؛ ذاك أن الثقب يعني الفراغ، وهذه الأجسام على العكس ليس فيها فراغ، كما أن الوصف بالأسود ليس صحيحًا؛ لأن هذا الثقب لا لون له، فهو غير مرئي. ومن ثم؛ فإن الوصف القرآني لهذه النجوم: )بالخنس الجوار الكنس (يفوق التسمية العلمية لها باسم “الثقوب السوداء” دقة وشمولاً وإحاطة.
2)إن أخذ اللفظتين -الخنس والكنس- بالمعنى نفسه -الاختفاء والتستر- دفع جمهور المفسرين إلى القول بأن من معاني الآية: النجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل، ولكن الذي يتأمَّل هذا التفسير يلاحظ أنه غير دقيق؛ ذاك أن الكنس: إماجمع”كانس” أي: قائم بعملية الكنس، أومختفٍ، والمعنى الأول هو المقصود هنا؛ إذ لا يعقل أن يكون المقصود هو الاختفاء، وقد استُوفي هذا المعنى بلفظ “الخنس”، كما أن الوصف القرآني “الخنس” يعني الاختفاء الكامل، وليس الظهور ثم الاختفاء.
التفصيل:
أولاً-الوصف القرآني المعجز “الخنس الجوار الكنس” يفوق التسمية العلمية “الثقوب السوداء”:
1) الحقائق العلمية:
من المعلوم جيدًا أنه لو تم قذف حجر إلى أعلى، فإنه بفعل الجاذبية سيعود مرة أخرى إلى الأرض، وكلما كانت شدة رمي الحجر أقوى، كلما كانت سرعة صعوده أقوى، كما أنه سيكون أكثر ارتفاعًا، ولكن إذا ما قُذف إلى أعلى وبقوة كافية فإنه لن يعود أبدًا؛ إذ إن شدة الجاذبية لن تتمكن من إرجاعه مرة أخرى، وهذه السرعة التي يجب أن يصل إليها الحجر ليهرب تسمَّى “سرعة الهروب”، ومقدارها 11كم/ ث، وذلك لأي مقذوف من على سطح الأرض([1]).
ولقد أصبح من المسلمات أيضًا أنه كلما تم ضغط جسم ما إلى حجم أصغر، فإن شدة جاذبيته ستزداد وبالتالي سنحتاج إلى سرعة هروب أكبر، وبالاستمرار طرديًّا في ذلك سنصل إلى مرحلة لن يتمكن حتى الضوء من الهروب، وهنا لن يتمكن أي شيء من الهروب لعدم معرفتنا بما هو أسرع من الضوء، وتلك هي براثن الثقب الأسود([2]).
المقصود بالثقب الأسود:
يعرف الثقب الأسود (Black Hole) بالمفردة (singularty)، وهي نقطة صغيرة جدًّا ذات أبعاد صفرية، توجد بها كل كتلة النجم وعندها يتوقف الزمن، وهو محاط بحاجز غير مرئي يسمى “أفق الأحداث” (Event Zone)([3])،داخله تكون سرعة الهروب أكبر من سرعة الضوء، والمسافة بين مركز الثقب وأفق الأحداث تسمى “نصف قطر شوارز شيلد” (Schwarzschild)([4]): بداخله توجد المفردة، وحولها فراغ تام؛ إذ إن أي شيء يدخل أفق الأحداث ينجذب إلى المفردة ويندمج بها([5]).
وقد أفادت الحسابات النظرية في الثلث الأول من القرن العشرين إمكانية وجود مثل هذه الأجرام السماوية ذات الكثافات الفائقة والجاذبية الشديدة، إلا أنها لم تكتشف إلا في سنة 1971م، بعد اكتشاف النجوم النيوترونية بأربع سنوات.
وفي خريف سنة 1967م أعلن الفلكيان البريطانيان “توني هيويش” (Tony Hewish) و”جوسلين بل” (Jocelyn Bell)عن اكتشافهما لأجرام سماوية صغيرة الحجم بأقطار في حدود 16 كم تدور حول محورها بسرعات مذهلة، بحيث تتم دورتها في فترة زمنية تتراوح بين عدد قليل من الثواني إلى أجزاء لا تكاد تدرك من الثانية الواحدة، مصدرة موجات راديوية منتظمة أكدت أن تلك الأجرام هي نجوم نيوترونية (NeutronStars)ذات كثافة فائقة تبلغ مليون طن للسنتيمتر المكعب.
صورة لنجم خانس كانس يدور حول محوره ويحاط بقرص رقيق من المواد المجتمعة حوله
وفي سنة 1971م اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلاً من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيرًا علميًّا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية مرئية ذات كثافات خارقة للعادة، ومجالات جاذبية عالية الشدة؛ وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها، وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم “الثقوب السوداء” (Black Holes)؛ لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة من مثل الغبار والغازات الكونيين، والأجرام السماوية المختلفة، ووصفت بالسواد؛ لأنها معتمة تمامًا لعدم قدرة الضوء على الإفلات من مجال جاذبيتها على الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بنحو ثلاث مئة ألف كيلو متر في الثانية.
إن جاذبية الثقب الأسود كبيرة جدًّا ولكنها تؤثر فقط على الأجسام القريبة منها، وهكذا تعمل هذه الثقوب مثل المكنسة؛ إذ تجذب وتبتلع كل ما يقترب منها
وقد اعتبرت الثقوب السوداء مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة، وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة مادتها إلى دخان السماء دون أن يستطيع العلماء حتى هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث ذلك.
إن النجم عندما يتهاوى على نفسه وينغلق وينضغط، يتشكل ما يسمى بـ “الثقب الأسود”، فالثقب الأسود في الأساس هو نجم، ولكن هذا النجم يبلغ أكثر من عشرين ضعف وزن الشمس؛ يعني شمسنا التي يبلغ وزنها 3000 مليون مليون مليون مليون طن، هذه الشمس الهائلة هنالك نجوم أكبر منها بعشرين ضعفًا، هذه النجوم عندما تنهار على نفسها تشكل الثقوب السوداء. كما أن هناك صفة مميزة لهذه المخلوقات وهي أنها تكنس الغبار الكوني والدخان وغير ذلك مما تصادفه في طريقها وتبتلعه كالمكنسة.
كيف تتكوَّن الثقوب السوداء:
تعتبر الثقوب السوداء -كما ذكرنا من قبل- مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة التي تبلغ كتلتها عدة مرات قدر كتلة الشمس([6])، ولكي نفهم كيفية تكوُّنها لا بد لنا من معرفة المراحل السابقة في حياة تلك النجوم. والنجوم هي أجرام سماوية غازية التركيب في غالبيتها، شديدة الحرارة، ملتهبة، مضيئة بذاتها، يغلب على تركيبها عنصر الإيدروجين الذي يكون أكثر من 74 % من مادة الكون المنظور، الذي تتحد نوى ذراته مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم “عملية الاندماج النووي”(Nuclear Fusion)مُطلِقة الطاقة الهائلة ومكوِّنة عناصر أعلى في وزنها الذرى من الإيدروجين([7]).
والنجوم تتخلَّق ابتداء من الدخان الكوني الذي يكون السُّدُم، وينتشر في فسحة السماء ليملأها، وتكوَّن النجوم في داخل السدم بفعل دوامات عاتية تؤدي إلى تجاذب المادة تثاقليًّا، وتكثفها على ذاتها حتى تتجمع الكتلة اللازمة ودرجات الحرارة المناسبة لتخليق النجم، فتبدأ عملية الاندماج النووي فيه، وتنطلق منه الطاقة وينبعث الضوء.
وبعد الميلاد تمر النجوم بمراحل متتابعة من الطفولة فالشباب فالشيخوخة فالهرم على هيئة ثقب أسود يعتقد أن مصيره النهائي هو الانفجار والتحوُّل إلى الدخان الكوني مرة أخرى، وإن كنا لا ندري -حتى الآن- كيفية حدوث ذلك.
ومن المراحل المعروفة للفلكيين في دورة حياة النجوم ما يعرف باسم “نجوم النسق العادي” (The mian sequence stars)،والعمالقة الحمر (The Red Giants)،والأقزام البيض (The White Dwarfs)،والأقزام السود (The Black Dwarfs)،والنجوم النيوترونية (The Neutron Stars)،والثقوب السوداء (The Black Holes)،فعندما تبدأ كمية الإيدروجين داخل النجم في التناقص نتيجة لعملية الاندماج النووي، وتبدأ كمية الهيليوم الناتجة عن تلك العملية في التزايد تبدأ طاقة النجم في الاضمحلال تدريجيًّا وترتفع درجة حرارة قلب النجم إلى عشرة ملايين درجة مطلقة([8])، مؤديًا بذلك إلى بدء دورة جديدة من عمل الاندماج النووي، وإلى انبعاث المزيد من الطاقة التي تؤدي إلى مضاعفة حجم النجم إلى مئات الأضعاف، وهذا ما يعرف باسم “العملاق الأحمر”(the red giant)،وبتوالي عملية الاندماج النووي يأخذ النجم في استهلاك طاقته دون إمكانية إنتاج المزيد منها؛ الأمر الذي يؤدي إلى تقلصه في الحجم وانهياره إما إلى قزم أبيض (White Dwarf)أو إلى نجم نيوتروني (Neutron Star)أو إلى ثقب أسود (Black Hole)حسب كتلته الأصلية التي بدأ وجوده بها.
فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أقل من كتلة الشمس، فإن الإلكترونات في مادة النجم تقاوم عملية تقلصه ابتداء، ثم تنهار هذه المقاومة ويبدأ النجم في التقلص حتى يصل إلى حجم أقل قليلاً من الأرض، متحولاً إلى قزم أبيض، وهذه المرحلة من مراحل حياة النجوم قد تتعرض لعدد من الانفجارات النووية الهائلة، التي تنتج عن تزايد الضغط في داخل النجم، وتسمَّى هذه المرحلة باسم “النجوم الجديدة أو المستجدة” (The Novae) وهي نجوم شديدة الحرارة؛ ولذا تعرف باسم “المستعرات”.
ولكن إذا زاد تراكم الضغط في داخل القزم الأبيض فإنه ينفجر انفجارًا كاملاً محدثًا نورًا في السماء يقارب نور بليون شمس كشمسنا، وتسمَّى هذه المرحلة باسم النجم المستعر الأعظم (The super nova)يفنى على أثرها القزم الأبيض، وتتحول مادته إلى دخان الكون، وتحدث هذه الظاهرة مرة واحدة في كل قرن من الزمان لكل مجرة تقريبًا، ولكن مع الأعداد الهائلة للمجرات في الجزء المدرك مرة كل ثانية تقريبًا.
أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم أكبر من كتلة الشمس، فإنه ينهار عند استهلاك طاقته متحولاً إلى نجم نيوتروني، وفيه تتحد البروتونات والإلكترونات منتجة النيوترونات، وهذا النجم النيوتروني ينبض في حدود ثلاثين نبضة في الثانية الواحدة، ومن هنا يعرف باسم “النجم النابض” (The Pulsating Star)،أو النابض (The Pulsar)،ولكن هناك من النجوم النيوترونية ما هو غير نابض (Non – Pulsating Neutron Star)؛ وقد يستمر النجم النيوتروني في الانهيار على ذاته حتى يصل إلى مرحلة الثقب الأسود، إذا كانت كتلته الابتدائية تسمح بذلك، فإذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم تزيد على كتلة الشمس بمرة ونصف المرة تقريبًا (4,1 قدر كتلة الشمس) ولكنها تقل عن خمسة أضعاف كتلة الشمس، إن عملية التقلُّص تنتهي به إلى نجم نيوتروني لا يزيد قطره على ثمانية عشر كيلو مترًا تقريبًا، ويسمَّى بهذا الاسم لأن الذي يقوم بعملية مقاومة التقلص التثاقلي (Gravitational Contraction)فيه هي النيوترونات؛ لأن الإلكترونات في داخل كتلة النجم تعجز عن ذلك.
شكل يوضح حركة نجم خانس كانس في مجرتنا
أما إذا زادت الكتلة الابتدائية للنجم على خمسة أضعاف كتلة الشمس فلا يتمكَّن أي من الإلكترونات أو النيوترونات من مقاومة عملية التقلص التثاقلي للنجم، التي تستمر حتى يصل النجم إلى مرحلة الثقب الأسود، وهذه المرحلة لا يمكن إدراكها بصورة مباشرة، ولكن يمكن تحديد مواقعها بعدد من الملاحظات غير المباشرة مثل صدور موجات شديدة من الأشعة السينية من الأجرام الواقعة تحت تأثيرها، واختفاء كل الأجرام السماوية بمجرد الدخول في مجال جاذبيتها.
ومع إدراكنا لانتهاء حياة النجوم بالانفجار على هيئة نجم مستعر أو نجم مستعر أعظم، أو بفقدانه للطبقات الخارجية منه، وتحوله إلى مادة عظيمة الكثافة شديدة الجاذبية مثل النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء، إلا أن طبيعة تلك الثقوب السوداء وطريقة فنائها تبقى معضلة كبرى أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية، فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل، ولكن حسب قوانين فيزياء الكم؛ فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة إلى الدخان الكوني، وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه، ولكن تبقى كيفية تبخر مادة الثقب الأسود بغير جواب، وتبقى كتلته، وحجمه، وكثافته، وطبيعة المادة والطاقة فيه، وشدة حركته الزاوية، وشحناته الكهربية والمغناطيسية([9]) -من الأسرار التي يكافح العلماء إلى يومنا هذا من أجل استجلائها([10]).
رسم يوضح مسار أحد الثقوب السوداء
2) التطابق بين الحقائق العلمية والآية الكريمة:
من الآيات العظيمة التي حدثنا الله عز وجل عنها وأقسم بها الخنس، يقول تعالى:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16) والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18) إنه لقول رسول كريم (19)((التكوير)، هذه الآيات تحدثنا عن مخلوقات كونية سماها القرآن “الخنس”، ولكن الطاعن يقول: إن هذه التسمية غير دقيقة؛ إذ إن العلماء يسمُّونها الثقوب السوداء، وسنرى فيما يأتي من خلال بيان المدلول اللغوي للآية الكريمة، ومن خلال ما ذكره العلماء أي التسميتين أدق.
المدلول اللغوي للآية الكريمة:
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس وفي غيره من معاجم اللغة تعريف لغوي للفظي “الخنس والكنس” يحسن الاستهداء به في فهم مدلولهما:
الخنس: خنس: الخاء والنون والسين أصل واحد يدل على استخفاء وتستر، قالوا: الخَنْس الذهاب في خفية؛ ولذلك يقال خنَست عنه، أي: تخفيت عنه، وأخنَست حقه، أي: غمطته إياه. والخُنَّس: النجوم تخنُس في المغيب، وقال قوم: سميت بذلك لأنها تختفي نهارًا وتطلع ليلاً، والخنَّاس في صفة الشيطان لأنه يخنس إذا ذُكر الله تعالى، ومن هذا الباب: الخنَّس جمع خانس؛ أي: مختفٍ عن البصر، والفعل خنس بمعنى: استخفى وتستر، يقال: خنس الظبي إذا اختفى وتستر عن أعين المراقبين.
والخنوس يأتي بمعنى التأخر، كما يأتي بمعنى الانقباض والاستخفاء. وخنس بفلان وتخنس به؛ أي: غاب به، وأخنسه؛ أي: خلفه ومضى عنه.
الجوار: الجارية في أفلاكها، جمع جارية، من الجري؛ أي: المر السريع.
الكنس: لهذه الكلمة أصلان صحيحان، يدل أحدهما على سفر شيء عن وجه شيء، وهو كشفه؛ والأصل الآخر يدل على استخفاء، فالأول: من مثل كنس البيت، وهو سفْر التراب عن وجه أرضه، والمكنسة: آلة الكنس، والكناسة ما يكنس. والأصل الآخر: الكناس: بيت الظبي، والكانس: الظبي يدخل كناسه([11]). وعلى ذلك قيل: بأن الكنس: هي الكواكب أو النجوم تكنس في بروجها كما تدخل الظباء كناسها، قال أبو عبيدة: تكنس في المغيب.
الوصف القرآني يفوق التسمية العلمية:
ينبغي أن نعلم أن الكلمات القرآنية أدق من الكلمات التي يستخدمها علماء الغرب، فهم يطلقون على مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم العملاقة اسم الثقوب السوداء، وهذه التسمية جاءت قبل سنوات على لسان أحد العلماء ظن أن هنالك فجوات في السماء -يعني أماكن فارغة- فأطلق هذا الاسم، ولكن تبين أن هذه الثقوب وزنها ثقيل جدًّا؛ إذ إنها تزن بلايين وبلايين وبلايين من الأطنان تتركز ضمن دائرة ضيقة هي الثقب الأسود؛ ولذلك فإن القرآن لم يسمِّها ثقبًا؛ لأن الثقب يعني: الفراغ، وهذه الأجسام على العكس ليس فيها فراغ أبدًا، بل قمة الوزن والكتلة والجاذبية موجودة فيها.
وهم يسمون هذا النجم “أسود”، مع العلم أن التسمية الصحيحة ينبغي أن تكون “لا يرى”، وهذا ما يصرح به كبار علماء الفلك في الغرب؛ إذ يتساءلون في مقالاتهم الصادرة حديثًا: هل الثقب الأسود أسود فعلاً؟ وتبين بنتيجة أبحاثهم أن هذا الثقب لا لون له؛ لأنه غير مرئي.
يقول العلماء: إن أهم صفة تميز هذه الثقوب السوداء أنها لا ترى، ولا يمكن رؤيتها مهما تطورت الأجهزة، وحتى لو خرجنا خارج الأرض إلى الفضاء الخارجي لن نستطيع رؤية هذه الأجسام. ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم عندما أطلق لفظ “الخنس” بالجمع؛ إنما كانت هذه الكلمة في منتهى الدقة، بينما العلماء يطلقون المصطلحات، وبعد مدة من الزمن يحاولون تغيير هذه المصطلحات فلا يستطيعون، ويبقى المصطلح العلمي مستخدمًا على الرغم من أنه مصطلح غير دقيق. أما القرآن الكريم؛ فإنه يعطينا المصطلح الدقيق مباشرة([12]).
ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السوداء تسمية مجازية عجيبة تنطبق انطباقًا دقيقًا على الوصف القرآني )بالخنس الجوار الكنس(، وذلك حين يسمونها بالمكانس الشافطة العملاقة التي تبتلع كل شيء يقترب منها إلى داخلها([13]).
(supergiant vacuum cleaners That suck in everyting insight).
فسبحان الذي خلق النجوم وقدر لها مراحل حياتها، وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة، وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة الحالكة السواد، الغارقة بالظلمة، وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها لنا من قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز فقال: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير). ولا نجد وصفًا لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السوداء أبلغ من وصف الخالق عز وجل لها بالخنس الكنس، فهي خانسة؛ أي: دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحددة لها، فهي خنس جوار كنس، وهوتعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السوداء الذي اشتهر وشاع بين المشتغلين بعلم الفلك.. )ومن أصدق من الله قيلا (122)((النساء)([14]).
ثانيًا -الوصف القرآني (الخنس) يعني الاختفاء الكامل، وليس الظهور ثم الاختفاء:
يقول المشككون: إن من شروط قبول التفسير العلمي ألا يلغي تفسير السلف ولا يخرج عن مدلول اللغة، وجمهور المفسرين من الصحابة، ومن بعدهم، فسروا لفظة “الكنس” بغير ما فسره به دعاة الإعجاز العلمي، و”الكنس” عند أهل اللغة: هي التي تختبئ، وليست التي تكنس، قال ابن منظور في لسان العرب: قال أكثر أهل التفسير في الخنس: إنها النجوم، وخنوسها أنها تغيب، وتكنس: تغيب أيضًا، كما يدخل الظبي في كناسه. وهذا القول مردود بما يأتي:
الكنس: إما جمع كانس؛ أي: قائم بالكنس([15])، أو مختفٍ من كنَس الظبي؛ أي: دخل كناسه، وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وسُمِّي كذلك لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه.
ونرى أن المعنى الأول هو المقصود هنا ـ فالكنس هي صيغة الجمع للفظة “كانس”، والكانس والكناس هو الذي يقوم بعملية الكنس؛ أي: سفْر شيء عن آخر وإزالته ـ إذ لا يعقل أن يكون المعنى المقصود في الآية الكريمة للفظة “الكنس” هي المنزوية المختفية، وقد استوفي هذا المعنى بلفظ “الخنس”.
إن لكل لغة من اللغات معاني مفردات؛ إذ إن كثيرًا من الكلمات تحمل معاني عدة؛ ففي اللغة الإنجليزية:
كوكب المريخ، أو إله الحرب
Mars
ملف أسطواني أو قائمة أو رغيف أو دحرجة
Roll
وفي اللغة الفرنسية:
مكان استخراج الأحجار، أو مهنة
Carriere
ومن ثم؛ فإن اللغة العربية ليست بدعًا من لغات العالم؛ فكلمتا “الخنس والكنس” لهما عدة معانٍ كما هو واقع في كلمات اللغات الأخرى؛ ولذا وجب أن ننظر إلى المعاني كلها، فليس صحيحًا أن نبرز جانبًا من المعنى ونخفي الآخر، وهذا ما فعله الطاعن؛ إذ جاء بمعنى واحد وأخفى المعاني الأخرى.
إن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها، ومن هنا كانت ضرورة التنبيه على عدم لزوم الربط بين القسم الأول:)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، والقسم الذي يليه في الآيتين الآتيتين مباشرة: )والليل إذا عسعس (17) والصبح إذا تنفس (18)((التكوير)، وهو ما فعله غالبية المفسرين، فانصرفوا عن الفهم الصحيح لمدلول هاتين الآيتين الكريمتين.
إن أخذ اللفظتين بالمعنى نفسه -الاختفاء والتستر- دفع بجمهور المفسرين إلى القول بأن من معاني )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير): أقسم قسمًا مؤكدًا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معنى الخنس، وهي التي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها؛ أي: مغاراتها وهو معنى الجوار الكنس.
قال القرطبي: “هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها؛ أي تستتر كما تكنس الظباء في المغار”([16]).
قال ابن كثير: “قال بعض الأئمة: إنما قيل للنجوم الخنس؛ أي في حال طلوعها، ثم هي جوار في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها كنس من قول العرب: أوى الظبي إلى كناسه إذا تغيب فيه”([17]).
وقال صاحب الظلال: “هي الكواكب التي تخنس؛ أي ترجع في دورتها الفلكية، وتجري في أفلاكها وتختفي”([18]).
ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أن الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين)فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير) يتطابق تطابقًا كاملاً مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم، يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السوداء (Black Holes). هذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من ألف وأربع مئة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة على نبينا الأمي صلى الله عليه وسلم، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين ـ هو شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته([19]).
إن الله تعالى عندما قال: )فلا أقسم بالخنس (15)((التكوير) إنما يحدثنا عن مخلوقات كونية لا ترى أبدًا؛ ولذلك سمَّى الله الشيطان بالخناس؛ أي: الذي لا يرى: )إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم((الأعراف: ٢٧)، ومن ثم فالوصف القرآني بالخنس يعني: الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء.
فكلمة “الخنس” إذًا لا تنطبق على النجوم التي نراها في صفحة السماء؛ لأن الله عز وجل يعطينا حقائق يقينية مطلقة لا تتعلق فقط بأهل الأرض، ولكن هذا القرآن يصلح للكون بأكمله، وهذا يعني أننا إذا خرجنا إلى أي مكان في الكون خارج الأرض، تبين لنا حقيقة ما أشار إليه القرآن، وبما أن الله عز وجل أقسم بهذه المخلوقات وقال )فلا أقسم بالخنس (15)(، فهذا يعني أن الله عز وجل يتحدث عن أجسام أو كائنات لا ترى أبدًا.
ونحن اليوم بعدما تطورت وسائل القياس، وتعرف العلماء على كثير من أسرار الكون تبين لنا أن هذه النجوم التي نراها في الليل لا تغيب، فهي تغيب بالنسبة لنا عندما يطلع علينا النهار، ولكنها تظهر بالنسبة لسكان الأرض في الجهة المقابلة، وإذا خرجنا خارج نطاق الجاذبية الأرضية رأينا ظلاما دامسا رأينا هذه النجوم لا تغيب فهي موجودة ليل نهار([20]).
ومن ثم؛ فإنه لا مشكلة إذا أخطأ مفسر في تفسير آية؛ لأن القرآن هو الحقيقة المطلقة التي لاتتغير، أما التفسير فإنه يمثل فهم البشر للآية، وبما أن الناس يختلفون في مستوى فهمهم، وأن العلم يتطور، فلا بد أن يكون هناك تجديد في التفسير، وهذا لا يسيء إلى القرآن، بل يؤكد على أن القرآن مناسب لكل عصر من العصور؛ لأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض يمكن تفسيره بشكل منطقي، وبما يتفق مع العلم مهما تطور إلا القرآن([21]).
إن الأمور الكونية المقسم بها في القرآن الكريم تشهد للخالق عز وجل بطلاقة القدرة، وكمال الصنعة، وتمام الحكمة، وشمول العلم. ومن هنا؛ فلا بد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية بالكون ومكوناته، وبالسنن الإلهية الحاكمة له، وحتى يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله هو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة، يرى فيها أهل كل عصر معنًى معينًا، وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وليس هذا لغير كتاب الله([22]).
فسبحان الذي وصف لنا الثقوب السوداء بوصفه الرباني: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)((التكوير)، وهو وصف يفوق التسمية العلمية لها باسم “الثقوب السوداء” دقة وشمولاً وإحاطة، ويشهد لمنزِّله في محكم كتابه بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة، كمايشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه((فصلت: ٤٢).
3) وجه الإعجاز:
اكتشف العلماء حديثًا وجود نجوم أسموها الثقوب السوداء كتلتها أكبر من كتلة الشمس بعشرين مرة، وتتميز بخصائص ثلاث:
لا ترى (invisible) “خنس”.
تجري وتتحرك بسرعات كبيرة (Moves) “جوار”.
جاذبيتها فائقة تعمل مثل المكنسة (Vacuum cleaner)”كنس”؛ حتى إن العلماء وجدوا أنها تعمل كمكنسة كونية عملاقة.
وهذه الصفات الثلاث هي التي حدثنا عنها القرآن بثلاث كلمات في قوله تعالى: )فلا أقسم بالخنس (15) الجوار الكنس (16)( (التكوير)، فهذه الآية تمثل سبْقًا للقرآن في الحديث عن الثقوب السوداء قبل أن يكتشفها علماء الغرب.
الخنس الجوار الكنس
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.net.
[1]. سرعة الهروب بالنسبة إلى الأرض هي 11كم/ ث، وبالنسبة إلى القمر هي 4,2 كم/ ث، أما سرعة الهروب على سطح الثقب الأسود فتزيد على سرعة الضوء؛ أي: 300 ألف كم/ ث، وبالتالي حتى الضوء لا يستطيع المغادرة؛ ولذلك فهو مظلم لا يُرى أبدًا.
[2]. نهاية الكون والثقوب السوداء، د. ياسين محمد المليكي، موقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.
[3]. أفق الأحداث (Event Zone): حدود منطقة من الزمان والمكان التي لا يستطيع الضوء الإفلات منها، ويعتبر جزءًا من الثقب الأسود. وإذا أُتيح لك أن تسقط في ثقب أسود، سيكون من المستحيل لك أن تعرف متى تمرُّ من أفق الأحداث، فهو ليس بالشيء الملموس، وكذلك قلب الثقب ليس بالشيء الملموس أيضًا. وطبقًا لنظرية النسبية؛ فإن مركز الثقب هو نقطة تقوس الزمن الفضائي اللانهائي؛ وهذا يعني أن قوة الجاذبية قد أصبحت قوية بشكل لا نهائي في مركز الثقب الأسود نفسه، وكل شيء سيكون مصيره السقوط في هذا الثقب إذا مر بأفق الأحداث بما في ذلك الضوء، وستصل في النهاية إلى مركز الثقب -حيث النقطة اللانهائية من الكثافة- وقبل أن تصله فإنه يكون قد مُزِّق بفعل قوة الجاذبية الحادة، حتى الذرات نفسها سوف تتمزق بفعل تلك الجاذبية.
[4]. شوارزشيلد (1873م- 1916م): عالم رياضيات ألماني استطاع القيام بحل معادلات “إينشتاين” للأجسام الكروية المضغوطة.
[5]. الكون ونجوم السماء، عبد السلام محمود، مرجع سابق، ص33، 34.
[6]. إذا فرض أن الشمس تحوَّلت إلى ثقب أسود لبقيت الكواكب كلها على حالها تدور حولها؛ إذ إن الكواكب موجودة خارج أفق الأحداث، ويُسمَّى نصف قطر أفق الأحداث بنصف قطر شوارزشيلد، لو تحولت الشمس إلى ثقب أسود، فإن نصف قطر أفق الأحداث لها يكون 3 كم فقط، ويكون نصف قطر أفق الأحداث بالنسبة للأرض لو تحوَّلت إلى ثقب أسود –فرضًا- هو سنتيمتر واحد. وإذا أخذنا نجمًا أكبر 10 مرات من كتلة الشمس؛ فإن نصف قطر شوارزشيلد له يساوي 30 كم، وعندما يذكر حجم الثقب الأسود؛ فإن ذلك يعني قطر أفق الأحداث، ويستدل على وجود الثقب الأسود بتأثيره على النجوم المجاورة له، أو بالإشعاع الذي ينشأ نتيجة لسحْبه الغبار الكوني المحيط به، وأقرب ثقب أسود للأرض يبعد عنها 5 آلاف سنة ضوئية.
[7]. الإيدروجين: أخف العناصر المعروفة لنا على الإطلاق وأبسطها من ناحية البناء الذري؛ ولذلك يوضع في الخانة رقم واحد في الجدول الدوري للعناصر التي يُعرف منها اليوم أكثر من 105 من العناصر.
[8]. الصفر المطلق يساوي 273 درجة تحت الصفر المئوي.
[9]. القوة الكهرومغناطيسية (Electromagenetic): هي القوة التي تحدِّد سلوك جسيم مشحون كهربائيًّا تجاه جسيم آخر مشحون، فالشحنات المتشابهة تتنافر والشحنات المختلفة تتجاذب، وهي التي تحافظ على الإلكترونات (سالب) مرتبطة بالنواة (موجب) داخل الذرة، وهي القوة التي تتحكم في التفاعلات الكيميائية؛ حيث يرتبط الأيون السالب بالأيون الموجب ويحملها الفوتون (photon).
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص217- 227.
[11]. مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة: خنس، ومادة: كنس.
[12]. )الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)) (التكوير): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل 7.comwww.kaheel.
[13]. من رحمة الله بنا أن هذه الثقوب لا تعمل على المسافات الطويلة، وإلا لكانت أرضنا قد اختفت منذ زمن بعيد؛ لأن مجرتنا تحوي ملايين الثقوب السوداء؛ ولذلك يقول العلماء إن هذه الثقوب تعمل عمل المقابر الكونية؛ لأنها تمثل المرحلة الأخيرة من موت النجوم.
[14]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص227- 228.
[15]. المعجم الوسيط، مادة: كنس.
[16]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص237.
[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص479.
[18]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3841.
[19]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص215.
[20]. )الْجَوَارِ الْكُنَّسِ((16) (التكوير): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل com.www.kaheel7.
[21]. الفتق الكوني، حقائق جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل 7.comwww.kaheel.
[22]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص211- 212.
شهادات المتخصصين حول الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
قال الله تعالى: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”. (فصلت 52-53)
عندما نقرأ هاتين الآيتين اللتين تتحدثان عن قدرة الله في إظهار أدلة صحة القرآن للذين كفروا، ثم نجد أنهم في هذا العصر يقرون بألسنتهم بتلك الأدلة العلمية، فإننا نلمس الإعجاز من جوانب كثيرة.. الأدلة نفسها، وتحقق رؤيتها، وظهورها للذين كفروا.. وهذا أيضا نلمسه في آية أخرى: “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ” (الأنبياء 30). فهذا الاكتشاف العلمي الدقيق لم يكتشفه مسلم!
وعندما يطرح المسلم على الملحد جوانب من الإعجاز العلمي في القرآن، كتطور الجنين مثلا، فيرد عليه الملحد بأنه ليس إعجازا، فإن هذا الرد لا يزيد المسلم إلا قناعة بغفلة هذا الملحد! ولا يلام المسلم على هذا الانطباع عندما يقارن بين وجهتي نظر من شخصين مختلفين: الأول مغرد ملحد غير معروف الهوية، والثاني شخصية عالمية معروفة مثل البروفيسور كيث مور Keith Moore على سبيل المثال، وهو الذي عمل عميدا لكلية الطب في جامعة تورنتو في كندا، وعمل بروفيسورا في علم الأجنة لمدة عشرين سنة في جامعة مينوتوبا، وعمل رئيسا لقسم الأجنة فيها لإحدى عشرة سنة، وألّف سبعة كتب جامعية، أربعة منها عن الأجنة. وهو عضو في الأكاديمية العالمية لعلم النفس، وعمل رئيسا للجمعية الأمريكية للجراحة الإكلينيكية.
هذا البروفيسور المتخصص في علم الأجنة ألف كتابا هو أشهر كتب الأجنة المقررة دراسيا في جامعات العالم، وأضاف إليه ملحقا عن أطوار الأجنة في القرآن والسنة، وهو يصرح أنه ليس مسلما وإنما يتحدث عن ذلك من أجل الحقيقة.
فعندما يقارن المسلم بين ادعاءات الملحد الذي لا يعرف عنه سوى حسابه على تويتر أو الفيسبوك وبين كلام هذا البروفيسور العالمي المتخصص، فإن لسان حال المسلم يقول: وهل يتوقع مني أن أصدقه وأكذب هذا البروفيسور؟
وتزيد قناعة المسلم بغفلة الملحد عندما يطلع على كلام علماء آخرين مثل البروفيسور Marshall Johnson والبروفيسور T. V. N. Persaud والبروفيسور Tejatat Tejasen الذين تحدثوا أيضا عن الإعجاز القرآني في الأجنة، بل إن الأخير أعلن إسلامه على الملأ عند اكتشافه لهذا الإعجاز.
والإعجاز العلمي في القرآن لا يقف عند علم الأجنة، بل هناك مجالات عديدة تحدث عنها علماء آخرون مثل Gerald G. Goeringer و Joe Simpson و Alfred Kroner.
لهذا فعندما يدعي الملحد الإنترنتي أن تفاصيل أطوار الجنين في القرآن غير معجزة، هنا تظهر عورته العقلية التي لا يسترها شيء، وهي أنه صاحب هوى.. أو أنه لديه خلل لا يمكنه من رؤية ما يراه هؤلاء العلماء واضحا جليا.
وسنورد هنا مقاطع لعلماء مشهورين يتحدثون عن تفاصيل علمية إعجازية وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم، وسنريكم في آخر الصفحة مثالا لأثر هذه المقاطع على الملاحدة.
كيث مور Keith Moore (يوجد تعريفه في الأعلى) يتحدث عن الإعجاز في وصف الجنين وأنه لم يكن أحد يعلم عن تلك التفاصيل قبل نزول القرآن.
مقطع آخر قصير لكيث مور يقول فيه إن هذه التفاصيل عن خلق الجنين لابد أنها قد وصلت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من الله الخالق لأن أسرارها لم تكتشف إلا بعد قرون عديدة من نزول القرآن، وأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) لابد أن يكون رسولا من عند الله.
البروفيسور مارشال جونسون Marshall Johnson، الذي عمل رئيسا لقسم التشريح والبيولوجيا بجامعة توماس جفرسون في ولاية فيلادلفيا يتحدث عن تفاصيل تكوّن الجنين في مراحله الأولى وخصوصا مرحلة الغيض في الأرحام، وهي وصف قرآني دقيق لانتقال البويضة بعد تلقيحها إلى الرحم لتتحول إلى مرحلة العلقة.
(المقطع محذوف من يوتيوب)
هذا المقطع ملخص لإحدى محاضرات البروفيسور مارشال جونسون يقول فيه:
“لا يكتفي القرآن بوصف النمو الخارجي للجنين فقط ولكنه يوضح أيضا الأطوار الداخلية لخلق ونمو الجنين مؤكدا مراحل النمو الأساسية التي عرفها العلم المعاصر.”
البروفيسور بيرسود T. V. N. Persaud، أستاذ الجراحة وطب وصحة الأطفال في جامعة مانيتوبا في كندا، يقول:
“كان محمد (صلى الله عليه وسلم) شخصا عاديا جدا، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ونحن نتحدث عن فترة ما قبل 1200 عام تقريبا [الصحيح 1400] وعن شخص أمي يأتي بعبارات دقيقة ومدهشة بالمقياس العلمي، وأنا شخصيا لا يمكنني الاقتناع بأن الأمر مجرد صدفة، لأن النصوص فيها تفاصيل دقيقة وكثيرة جدا. وأنا مثل الدكتور مور، لا أتردد في اعتبار ذلك وحيا إلهيا.”
البروفيسور Gerald G. Goeringer، أستاذ طب الأجنة في قسم بيولوجيا الخلية بكلية الطب جامعة جورجتاون في واشنطن يقول:
“هناك عدد من الآيات التي تحوي وصفا شاملا لنمو الإنسان منذ امتزاج الأمشاج إلى تخلق الأعضاء. ومثل هذا السجل الكامل والمتميز لنمو الإنسان بما فيه من تصنيف وتعبيرات وتوصيفات لم يكن موجودا فيما سبق. وفي أغلب الآيات إن لم يكن كلها، نجد أن هذه التفاصيل تسبق بقرون عديدة ما هو مدون في الطب التقليدي عن مراحل النمو الجنيني المعروفة.”
وله أيضا هذا المقطع الذي يتحدث فيه بالتفصيل عن مراحل وأطوار نمو الجنين مقارنة بالنص القرآني:
البروفيسور جو سمبسون Joe Leigh Simpson هو أستاذ ورئيس قسم الولادة وأمراض النساء، وأستاذ جامعي في علم الجينات الجزيئية بكلية بيلور الطبية في تكساس، يقول:
“…وعلى ذلك فإن القول بعدم وجود تعارض بين علم الجينات والدين لا يكفي، بل إن الدين في الحقيقة يرشد العلم عن طريق استصحاب الوحي مع بعض المفاهيم العلمية التقليدية. ويوجد في القرآن عبارات أثبت العلم أيضا صحتها بعد قرون من الزمن، وهذا يدعم المعرفة القائلة إن القرآن منزل من عند الله.”
البروفيسور تيجاتات تيجاسين Tejatat Tejasen عمل رئيسا لقسم الجراحة وعمل أيضا عميدا لكلية الطب في جامعة شيانغ ماي في تايلاند، ومختصر ما قاله:
“خلال السنوات الثلاث الماضية أصبحت مهتما بالقرآن… ومن دراساتي وما تعلمته خلال هذا المؤتمر أعتقد أن كل ما هو مدون في القرآن منذ أربعة عشر قرنا لابد أن يكون الحقيقة التي يمكن إثباتها بالوسائل العلمية. وبما أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يقرأ أو يكتب، فلا بد أنه رسول نقل لنا الحق الذي أوحاه إليه الخالق الحقيقي. فالخالق لابد أنه هو الله. وأعتقد أنه حان الوقت لأقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله… إن أغلى ما كسبته من حضوري في هذا المؤتمر هو لا إله إلا الله محمد رسول الله واعتناقي الإسلام.”
البروفيسور أليسون بالمر Alison Palmer حصل على الدكتوراه بالجيولوجيا من جامعة مينوسوتا، وعمل أستاذا في المتحجرات بجامعة نيويورك، ثم منسقا في البرنامج العلمي المئوي للجمعية الجيولوجية في أمريكا، وعمل رئيسا لجمعية الأحافير، وأخيرا صار أستاذا في جامعة كولورادو. يتحدث عن الإشارات الجيولوجية في القرآن، ويوضح أن علم الجيولوجيا لا يزيد عمره عن 200 عام. ويذكر أن ما ورد عن أرسطو من معلومات جيولوجية لا تتوافق نهائيا مع العلم. ثم يذكر نبذة عن الطبقات الجيولوجية والسجل الأحفوري.
بعد ذلك يتحدث عن قوله تعالى: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق… الآية”، ثم استعرض آيات وعلق عليها مثل: “أخرج منها ماءها ومرعاها”، “والجبال أرساها”، “والأرض ذات الصدع”، “أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور”، “والأرض بعد ذلك دحاها”، “أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها… الآية”، “وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي… الآية”.
ثم ذكر الحديث الذي ورد في صحيح مسلم “لن تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا”، وأوضح أن علم الأحافير وعلم الجيولوجيا أثبتا بالفعل أنها كانت خضراء في زمن قديم مضى وأنها ستعود كذلك. (لاحظ أن الحديث أعطى كلا المعلومتين)
البروفيسور ألفرد كرونر Alfred Kroner هو أستاذ الجيولوجيا في جامعة جوهانز جوتنبرغ بألمانيا، يقول:
“إن شخصا لم يعرف شيئا عن الفيزياء النووية قبل أربعة عشر قرنا لا يمكنه أن يكتشف من عقله هو على سبيل المثال أن الأرض والسماوات أتت من أصل واحد.. مع الأسئلة الأخرى التي ناقشناها هنا.”
البروفيسور وليام هَي William Hay هو أستاذ علوم البحار والجيولوجيا في جامعة كولورادو، يقول:
“أجد من المثير جدا للاهتمام أن مثل هذه المعلومات موجود في القرآن الكريم، وليس لدي أي علم من أين أتت، لكن من المهم للغاية أنها موجودة، وهذه المهمة [في المؤتمر] مستمرة لكي تكتشف معاني بعض العبارات، ولابد أنه [المصدر] الوجود الإلهي.”
البروفيسور جاري ميلر Gary Miller يحمل الدكتوراه في المنطق الرياضي، أسلم فيما بعد وسمى نفسه عبد الأحد عمر، وهو مبدع حقا في تلمس مظاهر الإعجاز المنطقية في القرآن. يتناول في هذه المحاضرة الصوتية بعض التأملات المبهرة عن إعجاز القرآن.
مثال للأثر الذي تتركه هذه المقاطع على الكفار والملاحدة
لا شك أن مثل هذه المقاطع لا يمكن ردها، فهي مسجلة وموثقة بالصوت والصورة، وهي تعمل عملها في الملحدين المنكرين للقرآن باعتباره وحيا من الخالق. فهو يحوي الكثير من أسرار الخلق التي لا يمكن أن يعلمها قبل تلك القرون إلا الخالق نفسه، ثم أن الله علمها للإنسان بهدايته إلى العلم والبحث، بالضبط كما قال تعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.. فالمسلم هنا متوافق تماما مع نفسه ومع الكون ومع القرآن، وعد الله الكفار بإظهار آياته في القرآن فأظهرها لهم..
فالمسلم ليس لديه إشكال في ظهور الآيات في أزمان متفرقة، وهذا رد على الكافر الذي يقول: لماذا لم يظهر الإعجاز العلمي عند نزول القرآن؟ فالجواب هو تلك الآية نفسها..
لكن ما الذي تفعله هذه الشهادات العلمية بالملاحدة؟
الملاحدة يدندنون كثيرا حول العلم وصراع العلم المزعوم مع الدين، ويتلبسون بلباس العلم، فإذا جاءت الشهادة من العلماء بأن القرآن ليس فقط يتوافق مع العلم وإنما أيضا العلم نفسه يثبت أن القرآن وحي من الخالق.. هذا هو الذي يصيب الملحد في مقتل ويفقده توازنه..
The Rationalizer
هذا الملحد يعيش في برمنجهام في بريطانيا، وهو لا يعلن اسمه الحقيقي وإنما يسمي نفسه The Rationalizer، ويعرّف بنفسه على أنه (ضد الإسلام)، وهو من أبوين أحدهما ملحد والآخر لا أدري.
سافر إلى ميونخ في ألمانيا ليقابل صاحب المقطع الأخير Hay الذي كان موجودا حينها في ميونخ، وكذلك اتصل بصاحب المقطع الذي قبله Kroner عبر الاتصال المرئي، ورغم أن مقاطع شهاداتهما للقرآن صريحة وواضحة اللغة، ولكنه كان يتوق إلى الحصول على نفي منهما.. وأعتقد أنهما حاولا أن يجاملاه قدر الإمكان!
لنرى ما دار بينهم وكيف أنهما لم يستطيعا إنكار ما قالاه..
اتصاله مع كرونر
هذا اتصاله مع Kroner، سأله إن كان هو نفسه الموجود في المقطع، ثم سأله عن ظروف المقطع، فأجاب بأنه من المؤتمر الذي عقد في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، ثم سأله إن كان المؤتمر عن القرآن أم عن الجيولوجيا، فأنكر البروفيسور أن يكون هناك أي ذكر للقرآن أو الدين في المؤتمر، ثم استدرك قائلا إنه دعي مع عدد من العلماء إلى ندوة في جدة وتم طرح موضوع التوافق بين آيات القرآن وعلوم الأرض. ثم سأله إن كان قوله بوجود تفاصيل علمية في القرآن يعكس اعتقاده حينذاك فأجاب بأن الهدف لم يكن هو إظهار الإعجاز القرآني ولكن كانت تعرض عليهم آيات فيقولون أنها موافقة للعلم أم لا، ثم يقول إن بعضها كان موافقا وبعضها غير موافق.. (لم يذكر ما هي الآيات التي لا توافق العلم، ولو كانت هناك آيات مخالفة للعلم لأثبتها هنا لأنها ستدعم موقفه). ثم سأله إن كان قد أسلم فنفى. هذا أهم ما في المقطع..
الملفت للانتباه أن هذا الملحد يظن أنه حقق شيئا ينفي المقطع الذي يحوي شهادة هذا البروفيسور، كل ما استفدناه من الفيديو هو أن البروفيسور نفى أن يكون هدفه من حضور المؤتمر هو إثبات صحة القرآن ونفى أن يكون قد أسلم.. وهذان الأمران لم يقل بهما أحد ولم يردا أصلا في مقطع شهادة كرونر..
ما يهمنا بالضبط هو نص شهادته: “إن شخصا لم يعرف شيئا عن الفيزياء النووية قبل أربعة عشر قرنا لا يمكنه أن يكتشف من عقله هو على سبيل المثال أن الأرض والسماوات أتت من أصل واحد.. مع الأسئلة الأخرى التي ناقشناها هنا”.
زيارة الملحد إلى وليم هَي في ميونخ
ذهب الملحد إلى ميونخ ليقابل وليم هَي Hay صاحب المقطع الأخير في هذه الصفحة.
خلاصة الكلام في هذا اللقاء هو أن البروفيسور وليام لم ينف ما قاله في شهادته، وإنما حاول الخروج من الحرج بتفاصيل بعيدة عن الموضوع. فحاول الادعاء أن اللغة العربية الحالية قد تكون تغيرت ألفاظها عن لغة القرآن فيجب أن لا يعول على مدلولاتها، وهو ربما يقيس على لغته الانجليزية، فلغة تشوسر مثلا قبل ستة قرون قد لا يفهمها المعاصرون. وهذا جهل منه، إذ أن لغة القرآن معروفة ومفهومة والمسلمون يحفظون الكثير من نصوص القرآن، والحفاظ منهم يحفظونه كاملا. فكلامه هنا يسقط بسبب جهله باللغة العربية، رغم أنها نقطة أصلا بعيدة عن الموضوع.
أيضا قال إن العرب والمسلمين لهم علم بالبحار وربما تسربت علومهم إلى القرآن، وهو ربما يقصد ابن ماجد وبربروس وغيرهما الذين عاشا في القرن التاسع الهجري، وهنا أخطأ للمرة الثانية، فإن المسلمين لم يعرفوا البحار والملاحة إلا في عصور الفتوحات واتساع دولة الإسلام، أما قريشا فكانت أبعد ما تكون عن ركوب البحار. فيسقط كلامه هنا أيضا لجهله بالتاريخ.
ولكي تعرف مستوى الترقيع الذي يحاول به التراجع عن كلامه الصريح بتوافق نص القرآن مع العلم، لاحظ أن الآية تتحدث عن الأمواج الداخلية في البحر، وهذه لا علاقة لها أصلا بالبحارة وأهل الملاحة الذين يجوبون البحار، حتى لو قلنا إن قريشا منهم، فهل يغوص البحارة في أعماق البحر ليكتشفوا الأمواج السفلى التي تحدث عنها القرآن ولم يكتشفها العلم إلا حديثا؟ لو فعلوا ذلك لغرقوا! هذه الحقيقة لم يتم اكتشافها إلا بالبحث العلمي المتخصص.
عموما الملحد The Rationaliser يحلم بالحصول على تراجعات من أصحاب تلك المقاطع، وهو يصف نفسه في تويتر بأنه Counter Islamic، أي معارض للإسلام، ولذلك دلالة قوية على أن منطلقاته هي الحقد على الإسلام، وهذا يطعن في موضوعيته.
وهذان المقطعان وأمثالهما للملحد The Rationaliser لهما فائدة واحدة فقط للملحد.. وهي تمكينه من استخدام مغالطة تسمى (الرنجة الحمراء)، وهي أن ترد بشيء يلهي عن الموضوع الأصلي وإن لم ينقضه، وثقافة (الرد من أجل الرد فقط) منتشرة عند الملحدين في ردودهم، وخصوصا الملحدون العرب. سأعيد كلام وليام حتى نعرف هل أفلح الملحد بعد رحلته الجوية أم لا:
“أجد من المثير جدا للاهتمام أن مثل هذه المعلومات موجود في القرآن الكريم، وليس لدي أي علم من أين أتت، لكن من المهم للغاية أنها موجودة، وهذه المهمة [في المؤتمر] مستمرة لكي تكتشف معاني بعض العبارات، ولابد أنه [المصدر] الوجود الإلهي.”
ملاحظة مهمة
بعض الملحدين يستميتون لإثبات أن الإعجاز في إحدى الآيات أو الأحاديث غير صحيح. وقد يقوم بتزوير بعض الشواهد من الكتابات اليونانية والإغريقية أو يؤولها بطريقته ليقول إن المعلومة الفلانية ليست معجزة بل هي موجودة منذ ذلك الوقت.
الملاحظة المهمة المقصودة هنا هي أن قصارى ما سوف يصل إليه ذلك الملحد هو نفي اعتقاد المسلم بأن هذا النص فيه إعجاز علمي.. وعلى افتراض أنه أثبت ذلك فما هي النتيجة؟ لا شيء! هل خلو هذه الآية من الإعجاز العلمي يطعن في صحة القرآن؟ بالطبع لا.
وهذا بالضبط مثل الجهد الضائع لهذا الملحد The Rationaliser، فلنقل فرضا أنه استطاع أن ينفي صحة المقطع بصورة أو بأخرى.. فما هو الإنجاز الذي حققه؟ مجرد شهادة من شخص حول إعجاز آية وتم إبطالها، وهذا بالتأكيد لا يعني أن الآية غير معجزة، فمعلوم أن تراجع شخص عن شهادته لا يعتبر إثباتا لنقيض الشهادة. وفي نفس الوقت لا يعني ذلك أن الآية فيها خطأ.. كل ما في الأمر هو أن شهادة تم إبطالها. فالحمد لله الذي رد كيد الملحدين وأشغلهم بهذه “الإنجازات العظيمة”. 🙂
معجزة: القرآن يتوعد أبا لهب
تعجبت من أحد المتابعين الملحدين لما راسلني يقول: كيف لهذا الخالق العظيم أن يهدد ويتوعد رجلا و”حرمته”؟
إنه يعترض على صحة القرآن ويستدل على عدم صحته بأن الخالق سبحانه يتوعد أبا لهب وامرأته بجهنم! ولا أدري كيف وجد عقله تعارضا في أن الخالق يتوعد رجلا يؤذي رسوله ويسخر منه وهو بكامل قواه وحريته واختياره!
لكني ألاحظ أن الكثير من الملحدين يستخدم خياله وهواه أكثر من استخدامه عقله، ولو كان هذا المعترض يستخدم عقله ولديه معرفة بسيطة بالإسلام لاكتشف المعجزة الحقيقية في هذه السورة.. فما هي هذه المعجزة؟
من المعروف أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، والكافر إذا دخل الإسلام فلا يحاسب على كفره، وتجري عليه الأحكام التي تجري على المسلمين. ومن المعلوم أيضا أن المسلم المُعيّن لا يمكن الحكم عليه بالنار (المعيّن هو الذي حددت هويته واسمه شخصيا). وكان هذا كله معروفا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم نزلت سورة المسد، وفيها أن أبا لهب من أهل النار:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ(5).
هذا ليس مجرد خبر، وإنما هو قرآن يتلوه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم.. ومقتضى الآيات أن أبا لهب سيموت كافرا، إذ أن دخوله الإسلام حتى لو كان نفاقا وكذبا فإنه سينقض هذه الآيات تماما!
ليس على أبي لهب سوى أن ينطق بالشهادة فيوجه ضربة على هذا الدين الوليد قد تقضي عليه..
لم تكن فرصة خاطفة لأبي لهب.. وإنما كان العرض قائما عشر سنوات كاملة لكي يهدم الدين الجديد ويقضي على الإسلام بكلمة، ولكنه لم يستطع!
كيف سيكون موقف المسلمين لو نطق أبو لهب بالشهادتين وأعلن إسلامه ثم وقف بينهم في الصلاة والإمام يتلو هذه السورة؟ أي تناقض سيجده المسلمون في أنفسهم حينئذ؟
لكن ما الذي منع أبا لهب لعشر سنين من فعل ذلك، مع أن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء؟ والسورة تطرق سمعه وسمع امرأته كل يوم؟
هذا النوع من التحدي لا تجده إلا في القرآن الكريم.. وهو موجود في آيات عديدة، لا يجدها إلا المتأمل المتدبر.
التحدي الأعظم
جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي، وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل، سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته.. إلخ. وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر، بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)”، ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار، والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غالبا على اكتشافات علماء غير مسلمين!
لكننا لن نتطرق الآن لهذا النوع من المظاهر الإعجازية، فقد تحدثنا عنها في موضوع آخر في هذا الموقع، وإنما سنتناول تحديا إعجازيا عظيما آخر، وهو الوارد في هاتين الآيتين من سورة البقرة:
وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
بين افتراضين
يدور المنكرون للوحي والنبوة بشكل عام بين افتراضين لا ثالث لهما: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم كذاب يدعي النبوة، فهو يعلم أنه ليس بنبي ولكنه يخادع الناس، وإما أنه يعتقد في قرارة نفسه بأنه نبي، فهو يدعو الناس بصدق لكنه يتوهم النبوة.
ورغم وجود دعاوى واتهامات متعددة يلقيها الكفار قديما وحديثا لنفي صحة الرسالة كاتهامه بالسحر والجنون وتأليف الشعر.. الخ، لكنها كلها تصب في هذين الافتراضين. فإذا انتفى هذان الافتراضان فإن التهمة تسقط بطبيعة الحال.
ومن الطريف أن المتأمل في السيرة سيجد أحداثا تنفي كلا الافتراضين معا. وعلى سبيل المثال لا الحصر موقفه صلى الله عليه وسلم من حادثة الكسوف وكذلك نزول سورة المسد.
ومهما بلغت ثقة المخادع في نفسه وفي ذكائه فإنه لن يثق في أن تخلو الأجيال البشرية في المستقبل من أشخاص قد يفوقونه في الذكاء والقدرة. فكيف ضمن النبي صلى الله عليه وسلم- لو كان مخادعا- أنه لن يأتي من يفوقه في القدرة على الإتيان بسورة مثل سور القرآن؟ خصوصا أن هذا التحدي مفتوح لا يقيده زمان ولا مكان! بل إن المخادع كلما ازداد ذكاءً ازداد حيطة وحرصا على أن لا يضع مصيره رهن المستقبل المجهول.
أما الملحد الذي يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واهما بالنبوة فصدر عنه هذا التحدي، فالزمن يرد عليه! لماذا ظل هذا التحدي من شخص واهم قائما كل هذه القرون، مع كثرة الأعداء الذين يسعون لإسقاطه؟
صراحة التحدي
ما معنى أن ينكر الملحد الإعجاز القرآني؟ المعنى بكل بساطة هو أن القرآن نص بشري يمكن لأي شخص أن يأتي بمثله. هذا هو مقتضى الإنكار. لأنه إذا كان معجزا فلن يستطيع أحد الإتيان بمثله، وبالتالي لو أتى أحد بمثله لم يكن معجزا.. البناء المنطقي لهذا التحدي بسيط للغاية ولا يحتاج إلى عبقرية أو مستوى عال على مقياس الذكاء!
القرآن بات متواترا
قد يحتج الملحد بأن عدم الإتيان بسورة من مثله ليس مبنيا على استحالة ذلك وإنما هو مبني على أن القرآن بات معروفا ومتواترا، ولهذا يصعب الإتيان بنص متواتر بين المسلمين مثله! لكنه ينسى أن سورة البقرة التي حوت هذه الآية نزلت أصلا في بداية العهد المدني، وقبل انتشار الإسلام، أي أن الكثير من العرب الأقحاح كانوا حينها كفارا لا يؤمنون به، ومثلهم يهود المدينة. بل إن الكفار من أعداء الإسلام كانوا أضعاف عدد المسلمين، وكان المسلمون أقلية، فلماذا لم يستجب الكفار الذين لم تكن تنقصهم البلاغة والبيان لهذا التحدي ليأتوا بسورة واحدة فقط في مجتمعهم يتداولونها ويتواترونها؟ نفس المجتمع ونفس الجنس ونفس اللغة.. فالشروط التي كانت متحققة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أيضا متحققة لهم..
التحدي وجودي
هذا التحدي ليس مجرد تحد عابر.. بل إنه تحد وجودي، أي أن صحة النبوة والدين كلها قائمة على الإتيان بسورة من مثله! فلو أتى أي مخلوق بسورة واحدة، كسورة الكوثر مثلا، تتكون من ثلاث آيات لا يزيد مجموع حروفها عن 42 حرفا، فإن الإسلام سينهار تماما.. وهنا تتجلى عظمة هذا التحدي، فلا شك أنه كلما كان شرط التحدي سهلا وكانت نتيجته في الوقت نفسه مصيرية فإن قوة التحدي وعظمته تكون أبلغ. ليس هذا فقط، وإنما هو تحد مفتوح لكل مخلوق على وجه الأرض وقائم إلى الأبد.
الجزء وليس الكل
عندما كان المشركون واليهود في المدينة يهزؤون بالنبوة وينكرون أن القرآن وحي من الله تعالى، جاءهم هذا التحدي ليس للمطالبة بقرآن مثله، وإنما للإتيان بسورة واحدة، إمعانا في الإعجاز والتحدي، وكما ذكرنا فإن سورة الكوثر تتكون من 42 حرفا، بينما عدد أحرف القرآن هو 323671، أي أن القرآن أكثر من سبعة آلاف ضعف مما عجزوا عن الإتيان به. ولا شك أن هذه مبالغة في التحدي.
اطلبوا العون
لم يكتف الله تعالى بتحدي الكفار واليهود أن يأتوا بسورة من مثله، فقد يعجزون هم ثم يدّعون بأن هناك من يستطيع ذلك غيرهم.. ولهذا طلب منهم القرآن أن يدعوا شركاؤهم ليعينوهم، بل أمعن بالتحدي في آية أخرى قائلا “قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا” [الإسراء: 88]. ولا شك أنك عندما تتحدى شخصا للقيام بعمل ما، ثم تدعوه للاستعانة بكل أحد، فإن هذا التحدي يكون مضاعفا، والاستعانة بحد ذاتها هي تحد آخر.
إنهم بسطاء
عندما يقول الملحد إن القرآن ليس فيه ما يستحق التحدي، ولكن الناس بسطاء فصدقوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبأن القرآن وحي من الله، فإننا نجيبه بأن أمثال هؤلاء “الناس البسطاء” موجودون في كل زمان ومكان، أي أن الظروف التي يقوم عليها التحدي هي ظروف واحدة، والتحدي لازال قائما، فشمّر عن ساعديك واستفد من نسبة الذكاء (IQ) لديك، وقم بدورك في إقناع “الناس البسطاء” بسورة من مثله حتى تتمكن من القضاء على الإسلام.. لا تكن منافقا يدعي أن القرآن ليس معجزا وهو يعيش هذا الإعجاز ليلا ونهارا!
التحدي مشهور
إن هذا التحدي ليس تحديا طبيعيا! هذا التحدي مشهور جدا، يشهده المليارات من البشر.. ولك أن تتخيل هذه المليارات وهم ينتظرون من يخرج لهم ويدق على صدره ويأتي بسورة من مثله! أليس في هذا العرض غاية الإغراء؟ ألا يستحق المحاولة أمام هذه المليارات من البشر؟
حركة مكشوفة
لا شك أن هناك محاولات قليلة جدا وقعت عبر التاريخ، وهي محاولات مضحكة يتندر بها الناس، بل إنها أصبحت من دلائل الكذب كما في قرآن مسيلمة “يَا ضِفْدَعُ بِنْتُ ضِفْدَعِينَ، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، نِصْفُكِ فِي المَاءِ وَنِصْفُكِ فِي الطين”، حتى صار يعرف باسم “مسيلمة الكذاب”، فتأمل الفرق بين القرآن الذي هو من دلائل النبوة وبين كلام مسيلمة الذي بات من علامات الكذب.
لقد كان مسيلمة الكذاب يحاول، لكنه على كذبه أكثر صدقا من بعض المحاولات التي تقوم على النصب والتدليس، حيث قام بعض المنصرين بما يسمى “التّناصّ” (Intertextuality)، وذلك باستخدام الألفاظ القرآنية نفسها ليركب منها جملا جديدة، فتبدو وكأنها آيات، لكن التلاعب واضح فيها، ويمكن لأي مسلم أن يكشفها. وهذا بالطبع تحريف للآيات وسرقة لألفاظها وليس إتيانا بمثلها، بل يدل هذا السلوك على العجز عن مقابلة التحدي بشرف، فعندما تنص الآية على “سورة من مثله” فإن المثلية هنا تقتضي الإتيان بشيء جديد، فسبحان الله الذي جعل مجرد المحاولة دليلا على العجز!
الشعور بالعجز
مهما حاول الملحد تبرير عدم قدرته على الاستجابة لهذا التحدي، واختلاق الأعذار، فهو يظل واهنا يغمره الشعور بالعجز، وتظل هذه الآية قائمة شامخة وباقية إلى الأبد، والتحدي قائم لا يخفى على أحد.
التحدي لا يكفي!
هاتان الآيتان لا تكتفيان بالتحدي، وإنما تختمان التحدي بالتهديد.. أي قوة كاسحة! أنت لست فقط عاجز عن مقابلة هذا التحدي، بل إنك ستواجه العقاب الشديد على كذبك وتدليسك. أنت تدعي أن القرآن بشري، ثم تعجز بقدراتك البشرية عن الإتيان بمثله، ثم تستعين بمن شئت وتعجز أيضا، ومع ذلك تظل مكابرا كاذبا على دعواك بعد أن انكشفت أمام نفسك؟ ألا تستحق العقاب على كذبك ومكابرتك؟ بلى، ولكنه عقاب شديد، وهو أن تكون وقودا لنار جهنم! أليس هذا العقاب دافع مضاعف لكي تستجيب للتحدي؟
الإخبار بالنتيجة
من النادر أن يأتي التحدي مقرونا مع نتيجته، لكن هذا التحدي القرآني يخبرك بالنتيجة مقدما! الإعجاز في العادة هو أن تتحدى القيام بعمل ما، ثم تنتظر النتيجة لتثبت عجز خصومك، لكن القرآن لا يكتفي بذلك، وإنما يخبرك أيضا أنك ستعجز: “فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا”، فيكشف كبرك وغطرستك أمام نفسك لتدرك عجزك.
أهل العربية
هذا التحدي لم يوجه إلى العرب خاصة، لكنه بالتأكيد معروض عليهم قبل غيرهم، لأنه بلغتهم.
لكن هل العرب فقط هم أهل البلاغة والبيان؟
لقد كانت مجالات المفاخرة عند الأقوام الأخرى كالإغريق والرومان والفرس تتمثل في جوانب قد تكون اللغة مجرد أداة فيها كالفلسفة والميثولوجيا كما عند الإغريق، أو إبداعات لا تعتبر اللغة عنصرا أساسيا فيها كالبناء والتشييد كما عند الفراعنة والرومان والنحت والرسم كما عند الرومان أيضا والعصور الأوروبية الوسطى.
بينما كان العرب هم أهل البلاغة والبيان، اللغة هي صنعتهم الأولى، وإن كان ضعف الانتماء والهزيمة النفسية تزهد بعض المعاصرين بلغتهم وهويتهم، ولكن عند التجرد نجد أن اللغة العربية تفوق اللغات الأخرى، فعدد مفردات اللغة العربية يصل إلى 12 مليون مفردة، أي ما يعادل 25 ضعفا من عدد مفردات اللغة الإنجليزية مثلا. فعلى أي شيء يدل ذلك؟ الجواب ببساطة هو أن ثراء اللغة بالمفردات يدل على قوتها التعبيرية وقوة تأثيرها على المتحدثين بها. بل إن العرب يتفاخرون ببلاغتهم وبيانهم. والجذر اللغوي “عرب” الذي اشتق منه اسم اللغة يدل على الإفصاح والتعبير. وكان يمكن لبيت من الشعر أن يرفع القوم عاليا ويمكن لبيت آخر يخر بهم، ومن أبرز القصص المعروفة قصة بني أنف الناقة الذين علت مكانتهم بين القبائل بعد أن قال بهم الحطيئة قصيدة من أبياتها “قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم :: ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا”، والأمثلة كثيرة ومتعددة في أغراض الشعر وخصوصا الهجاء والمديح والرثاء.
كما أن المعلقات العشر وتعلق الناس بها في عصر ظهور الإسلام من أكبر الدلائل على جودة اللغة ومهارة العرب في التعبير والبيان والفصاحة.
فعندما يكون القرآن باللغة العربية، وينزل في العصر الذي بلغت فيه اللغة أوج قوتها، ثم يأتي هذا التحدي صريحا قويا مدويا لا مجال فيه للمراوغة، فإنه لا يكون أمام أعداءه إلا الاستسلام أو المكابرة المكشوفة.
الموناليزا؟
الموناليزا لم يستطع أحد أن يقلدها، فهل هي وحي؟ ومع التحفظ على أن أحدا لم يقلدها، أو يأت بمثلها، لكن هذه العبارة فيها تدليس على البسطاء. ومع الفارق لكن لا بأس من التبسط لكشف هذا التدليس.
دافنشي لم يتحدّ أحدا أن يرسم مثل لوحته، والآية تتحدى. بل إنه لم يكن ليجرؤ على التحدي، فاللوحة لم تكتسب قيمتها الحالية في حينها، وإنما اكتسبتها مع مرور الزمن وتداول الحديث عنها.
اكتسبت الموناليزا تفردها عبر خمسة قرون، وصارت تحمل قيمة تاريخية، فقيمتها بعد رسمها مباشرة كانت ضئيلة جدا بالمقارنة مع قيمتها الحالية، بينما التحدي القرآني يحمل صفة ذاتية فيه، وجدت أثناء نزوله واستمرت 15 قرنا، والتحدي مفتوح إلى آخر الزمان.
مع أن هناك من قلّد الموناليزا تقليدا دقيقا للغاية، ولكن تقليدها لا يعني إسقاطها، بينما التحدي القرآني واضح جدا، وهو أن الإتيان بسورة من مثله يعني إسقاطه وانتهاء الدين.
الموناليزا لم يتهمها أحد من معاصري دافنشي بأنها مزورة أو ليست من عمله، بينما تكررت الدعاوى من الكفار بأن القرآن شعر أو سحر أو من أساطير الأولين..
فالخلاصة هي أن المقارنة بين الأعمال البشرية وبين التحدي القرآني ليست صحيحة. لا يوجد أحد من البشر يتحدى الآخرين بالإتيان بجزء من عمله على أن تكون النتيجة هي إسقاط قيمة عمله!
فكسونا العظام لحما
عمل البروفيسور كيث مور Keith Moore عميدا لكلية الطب في جامعة تورنتو في كندا، وعمل بروفيسورا في علم الأجنة لعشرين سنة في جامعة مينوتوبا، وعمل رئيسا لقسم الأجنة فيها لإحدى عشرة سنة، وألّف سبعة كتب جامعية، أربعة منها عن الأجنة. وهو عضو في الأكاديمية العالمية لعلم النفس، وكان رئيسا للجمعية الأمريكية للجراحة الإكلينيكية.
وقد ألف كتابا هو أشهر كتب الأجنة المقررة دراسيا في جامعات العالم، وأضاف إليه ملحقا عن أطوار الأجنة في القرآن والسنة، وهو يصرح أنه ليس مسلما وإنما يتطرق لذلك من أجل الحقيقة.
والمقطع التالي للبروفيسور مور وهو يتحدث عن الإعجاز القرآني في ذكر مراحل الجنين في الرحم:
إشكالية العظم واللحم
لما انتشر كتاب البروفيسور مور وانتشرت محاضراته حول هذا الإعجاز، ثار الملاحدة والنصارى ضده، وبحثوا وكتبوا وهاجموا ولكنهم لا يستطيعون تغيير الحقائق، فهم في مجال علوم الأجنة أقزام أمام هذا المتخصص الذي أفنى عمره فيها، ووجدوا ما ظنوه ثغرة في هذا الإعجاز القرآني حول وصف أطوار الجنين، وهي مرحلة تكون العظام واللحم، وهذا نص الآية 14 من سورة المؤمنون:
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون- 14.
فهم يقولون إن اللحم لم يبدأ بعد أن تكونت العظام! لكنهم لم يدققوا بنص الآية.. وهو ما سنتناوله بعد أن نحدد بعض المفاهيم.
تعريفات مهمة
دعونا أولا نتعرف على الألفاظ التي تهمنا هنا:
العظام bones: هي أنسجة يبدأ تكونها من الغضاريف حيث تقسو وتتصلب تدريجيا وتتحول إلى عظام، ويستمر نمو العظام حتى يبلغ الإنسان 20 عاما. وهي التي تشكل الهيكل العظمي.
اللّحم flesh: هو الجزء العضلي الرَّخو بين الجلد والعظم. وهناك من يعتبر الجلد أيضا من أنواع اللحم كما في قاموس وبستر. وقد يذهب البعض على اعتبار اللحم الوارد في الآية هو الجلد، لكن سواء اعتبرناه العضلات أو العضلات مع الجلد فلا بأس.
العَضَلات muscles: هي أنسجة ليفية قابلة للانقباض والانبساط وظيفتها تأمين حركة الكائن الحي، ويهمنا هنا نوع واحد من العضلات هو “العضلات الهيكلية” skeletal muscles، وهي عضلات مركبة من ألياف طويلة تتصل بشكل مباشر مع الهيكل العظمي بواسطة الأوتار. وهي التي تغلف الكثير من العظام وخصوصا العظام الهيكلية، فالوصف الوارد في الآية ينطبق عليها.
الأَوتَارtendons : شريط متين من الأنسجة الليفية يربط عضلة معينة إلى عظم معين ويمتاز بقدرته على تحمل الضغط. الجلد: هو الغلاف الخارجي للجسم ويتكوّن من طبقتين: البشرة والأَدَمة.
كَسَى: مصدر اللفظة القرآنية “فكسونا”، وهي تعني ألبس وستر وغطى. (لاحظ أنها لا تعني “خَلَقَ” أو “أوجد”).
أيهما أولا، العظام أم اللحم؟
لو دققنا في الآية جيدا سنرى أن المراحل الأولى هي مراحل تحول وخلق من خلق؛ فالنطفة خُلقت منها علقة، والعلقة خُلقت منها مضغة، والمضغة خُلقت منها عظاما.. ولكن الله سبحانه لم يقل “وخلقنا العظام لحما” أو “وخلقنا من العظام لحما”، وإنما قال: “فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا”. أي أنه ذكر كسوة العظام باللحم ولم يحدد متى خُلق اللحم!
ومعلوم بالضرورة أنك عندما تكسو شيئا فإن مادة الكساء يجب أن تكون موجودة، وعندما تكسو غلاما ثوبا فأنت بالتأكيد لا تقوم بصناعة الثوب أثناء كسوته، وإنما يكون الثوب موجودا من قبل.
وعلى ذلك فإن مقتضى لفظة “فكسونا” هو أن اللحم موجود قبل أن يكسو الله العظام به، وإنما الحاصل هو تغطية العظام باللحم. وهذه العملية موجودة في إحدى مراحل تكون الجنين، حيث يجري تثبيت العضلات على العظام بواسطة الأوتار tendons. ومن العجيب أن معنى الستر يتحقق في نفس الوقت، فيغلظ الجلد ويعتم بعد أن كان شفافا يكشف ما وراءه، وبذلك تحصل عمليتا تغطية العظام باللحم وسترها بإعتام الجلد متزامنتان في وقت واحد، عبر عنهما القرآن بتعبير واحد يدل عليهما هي “فكسونا العظام”. فتختفي العظام خلف العضلات وخلف الجلد المعتم ويتحقق المعنى المقصود بالكسوة.
إنما المهم هنا هو أن القرآن لم يتحدث نهائيا عن وقت خلق اللحم، سواء كان المقصود به العضلات الهيكلية أو الجلد.
المراحل حسب علم الأجنة
سأعتمد هنا على موقع “الوقف من أجل التنمية البشرية” وهو موقع غير ربحي، وموثوق، فهو يذكر المرجع لكل معلومة يوردها بحيث يمكنك التحقق من صحتها. وهو من أفضل المواقع التي تناولت مراحل تكون الجنين بتفصيل وإيضاحات وصور وفيديوهات.
وسوف نتعرض فقط للمراحل التي تهمنا من عمر الجنين في هذا الموضوع، وسأنقل الترجمة الحرفية للنصوص التي تهمنا دون أن أضيف شيئا من عندي. ويمكن فتح الرابط والاطلاع على التفاصيل.
مرحلة 3-4 أسابيع
تبدأ الخلايا المتخصصة في ظهر الجنين بتكوين أدمة الجلد والعضلات الهيكلية المستخدمة في الحركات الإرادية.
مرحلة 4-5 أسابيع
في هذه المرحلة يكون سمك جلد الجنين خلية واحدة فقط، فيكون شفافا يسمح برؤية الأعضاء الداخلية أثناء مراحل نموها المبكرة.
مرحلة 6-7 أسابيع
يبدأ تكون العظام بين الأسبوعين السادس والسابع، وأول ما ينشأ من العظام عظم الترقوة والفكين، وتسمى هذه العملية “التعظّم”.
وعند ستة أسابيع ونصف يتضح المرفقان ويبدأ الجنين بتحريك يديه. وكذلك تنمو المفاصل، وتظهر بداية تكون الألياف العضلية الأولية مؤكدة نمو العضلات.
مرحلة 7-8 أسابيع
يوما بعد يوم تنمو عظام الجنين. والأضلاع الآن على هيئة غضاريف، بينما العظام الطويلة للأطراف (الذراعين والساقين) تتصلبان.
ومن الأسبوع السابع إلى السابع والنصف تربط الأوتار عضلات القدمين بالعظام، ويظهر مفصل الركبة واضحا، وفي الأسبوع السابع والنصف يمكن للجنين تقريب اليدين لبعضهما وكذلك القدمين.
وعند الأسبوع الثامن فإن أعضاء الجنين الداخلية التي كان يمكن رؤيتها بسهولة تصبح نسبيا مختفية حيث تصبح البشرة مكونة من غشاء ذي طبقتين.
الخلاصة
نخلص من ذلك إلى أن الآية لم تتحدث عن وقت تكون اللحم، سواء العضلات الهيكلية أو الجلد، وإنما تحدثت عن كسوة العظام باللحم، واتضح لنا علميا من مراحل تكون الجنين أن كساء العظام باللحم يتم بعد خلق العظام، حيث يجري خلال الأسبوعين السابع والثامن من الحمل تثبيت العضلات الهيكلية على العظام وفي نفس الوقت بناء البشرة وتعتيمها بعد أن كانت شفافة لتخفي ما خلفها من أعضاء وعظام، فيتحقق معنى الكسوة الوارد في الآية (التغطية والستر) بعد تكون العظام.
من بين الصلب والترائب
ما هو “الصُّلْبِ” وما هي “التَّرَائِبِ” الواردة في سورة الطارق؟
قال الله تعالى: “فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ” (سورة الطارق 5-7).
تعريف الصلب هو كما جاء في “تاج العروس” أن “كُلّ شَيءٍ من الظَّهْرِ فِيه فَقَارٌ فَذَلِك الصُّلْبُ”. وأما الترائب فقد عرفها ابن منظور في “لسان العرب” بقوله: “التَّرائبُ مَوْضِعُ القِلادةِ من الصَّدْر.. وقيل: التَّرائبُ عِظامُ الصدر”.
وإن كان هناك من يتوسع في المدلولات ولا يقف عند المعنى اللغوي المباشر، كما ورد عن ابن عباس والضحاك وسفيان بأن الترائب هي اليدان والرجلان والعينان.
أكثر من تفسير
هناك من يفسر هذه الآية بأن المقصود هو منشأ الخصيتين والمبيضين لدى الجنين، فهما ينشآن في الحدبة التناسلية قبل أن يتحدد جنس الجنين، وهذه الحدبة التناسلية تقع بين العمود الفقري (الصلب) والأضلاع الأمامية (الترائب)، وبعد ذلك تنزل الخصيتان مع نمو الجنين وفي الشهر السابع تستقران في كيس الصفن، بينما ينزل المبيضان إلى حوض الأنثى. ثم بعد ذلك تبقى علاقة الخصيتين والمبيضين بذلك الموضع مستمرة طيلة حياة الإنسان عبر تغذيتهما بالدم والأعصاب من ذلك الموضع تحديدا، وعلى هذا فإن منشأ مصادر الماء الدافق عند الرجال (الخصيتين) وعند النساء (المبيضين) هو ذلك الموضع الواقع بين الصلب والترائب، وكذلك التغذية بالدم وارتباطها العصبي، فالعصب لا يأتي من أسفل العمود الفقري كما هو متوقع، وإنما من ذلك الموضع.
وهذا تفسير واضح ومقبول، لكني أميل إلى أن الآية القرآنية فيها كناية عن الرجل بالصلب والمرأة بالترائب، وأن الماء الدافق الذي ينتج الذرية يقع بينهما، من الرجل عبر الجهاز التناسلي، ومن المرأة بالسائل المتدفق من حويصلة “غراف” حيث يحمل البويضة إلى مكان تلقيحها كل شهر.
الصلب كناية عن الرجل
لقد اعتادت العرب أن تنسب الذرية إلى الصلب كناية ومجازا، فهو كناية عن ارتباط القوة بالذرية، وهو مجاز لأن العرب يعرفون جيدا أن النطفة لا تأتي من الظهر وإنما مصدرها هو الخصيتان، وليس هناك من يجهل هذا الأمر سواء عند العرب أو عند غيرهم من الأمم؛ فقد كان بعض الرقيق قديما يتم إخصاؤهم حتى تنقطع ذريتهم وشهوتهم، وهذه من الأمور المعروفة حتى عند البادية قديما وحديثا في إخصاء الماشية، وجرت عادتهم على ذلك.
وعليه فإن عزو العرب الذرية إلى الصلب هو من باب المجاز والكناية، وقد وردت في القرآن على هذا المنوال المجازي، وهي مثل استخدام القرآن للفظة “جناح” في قوله تعالى: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ… الآية” (الإسراء 24)، فليس للإنسان جناح حقيقي يخفضه لوالديه، كما أنه ليس للرسول صلى الله عليه وسلم جناح حقيقي يخفضه للمؤمنين في قوله تعالى: “لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر 88). والأمثلة كثيرة في ذلك.
فالعرب يعلمون جيدا- كسائر الأقوام- مصدر الماء الذي تنتج منه الذرية عند الرجال (والذكور عامة) كما أوضحنا، لكنهم يكنون عن ذلك بالصلب (الظهر) ترفعا واحتشاما عن ذكر الأعضاء التناسلية، وعلى هذا جرت عادتهم كما هي في تعبيراتهم الأخرى التي تستدعي الترفع والاحتشام مثل تعبير “الذهاب إلى الخلاء” و”قضاء الحاجة”، ومثل هذا نجده أيضا عند العامة الذين لم تفسد فطرتهم في هذا العصر.
وعلى ذلك جاءت لغة القرآن موافقة للغة العرب فزادتها سموا، بل إن القرآن يستخدم دائما الرمزية والمجاز إذا تحدث عن الأحكام التي تتعلق بالمعاشرة الزوجية. ومن التعبيرات القرآنية الشهيرة قوله تعالى: “وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ… الآية” (المائدة 6)، فالغائط هو المنخفض من الأرض، للدلالة على قضاء الحاجة. وهذا الأسلوب لا يدركه الغالبية من الملحدين الذين اعتادوا على الإسفاف في ألفاظهم حتى صار ذلك طبعا لهم كما نرى في أكثر حساباتهم.
الترائب كناية عن المرأة
وهذه اللفظة يغلب ارتباطها عند العرب بالنساء، فيندر أن تجد من يتحدث منهم عن ترائب الرجال. قال امرؤ القيس:
مُهَفْهَفَة ٌ بَيْضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ :: ترائبها مصقولة ٌ كالسجنجل
والترائب عند المرأة هي أيضا موضع الثديين الذين يتغذى منهما الرضيع. فإذا كان موضوع الكلام هو الحديث عن الذرية فإن نسبة الترائب إلى المرأة أدعى، وكنايتها عن المرأة أقرب للفهم.
والعرب الذين خاطبهم القرآن بلغتهم يعلمون أن ماء المرأة لا علاقة له بترائبها.
تهافت الشبهة
الشبهة التي تتردد أحيانا حول هذه الآية لدى الملاحدة والنصارى هي أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يظن أن المني يأتي من مكان في الصدر يقع بين الصلب والترائب، وبناء على هذا الاعتقاد كتب هذه الآية في القرآن.
وهذه التهمة ساقطة وغبية، وقد أشرنا إلى وجه الغباء، وهو أن الناس منذ بداية التاريخ المعروف حتى هذا العصر يدركون أن المني يتكون عند البالغين في الخصيتين، فالبناء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتقد كذا وكذا هو بناء على أساس غير صحيح.
الخلاصة
لقد الآية رمزت للرجل بدلالة ذلك الجزء من جسده (الصلب)، وهو الذي يرتبط عند العرب بالذرية، ورمزت للأنثى بالمكان الذي تتغذى منه تلك الذرية.
فالصلب يرمز للرجل ويرمز للذرية، والترائب ترمز للأنثى وترمز للذرية، فكان الجامع بين الصلب والترائب هو الذرية التي تتحدث الآية عن خلقها من ماء دافق.
هل هناك إشكال في تعدد التفسيرات؟
لا يقع الإشكال إلا عندما تكون للنص دلالة حرفية وصريحة واحدة فقط ينتج عنها تعارض أو تناقض أو تضارب، وهو ما يسميه القرآن “اختلافا” كما في قوله تعالى: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا” (النساء 82).
أما إذا تعددت الدلالات والمعاني والتفسيرات، وكانت كلها مبنية على أسس سليمة بلا تعسف أو لوي لأعناق النصوص، فإن الإشكال يرتفع وينتهي.
وعلى كل حال، فإن موضوع الآية يدور حول قدرة الله عز وجل على خلق الإنسان من ماء دافق، وقياسا على ذلك قدرته على بعثه من جديد “إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ”..
وهذه الرسالة الأساسية واضحة ومفهومة تماما حتى لدى عامة الناس والأميين منهم، بغض النظر عن تفسير الصلب والترائب تفسيرا محددا، فالإعجاز في خلق الإنسان من ماء قائم مهما كان تفسيرنا لمدلول الصلب ومدلول الترائب، ولهذا فلا إشكال في تعدد التفسيرات لهاتين المفردتين، بل إن من عجائب القرآن تعدد وجوه التفسير بلا تعارض أو تناقض.
هل ذكر أرسطو أطوار الجنين؟
يشير البعض إلى أن أرسطو ذكر مراحل الجنين الواردة في القرآن، وأن القرآن إن لم يكن قد نسخها منه (لعدم القدرة على إثبات النسخ) فإنه مسبوق بذكرها على الأقل.
والنصوص المقصودة هي ما ورد في كتاب أرسطو “عن أجزاء الحيوان” وعنوانه بالإنجليزية “On The Parts Of Animals”، وهو سفر مكون من أربعة كتب، وكل كتاب مقسم إلى أجزاء، ويمكن الاطلاع على ترجمته الإنجليزية كاملة بصيغة pdf على هذا الرابط، أو نصيا على هذا الرابط.
وقد قمت بترجمة الجزء التاسع كاملا، ووضعته في الأسفل مع النص الأصلي للاطلاع.
استغلال الجهل اللغوي
عندما راجعت كتاب أرسطو المقصود وجدت أن الدعوى ساقطة للأسباب التي سأذكرها، ولكن ما صدمني هو أن الملحد لم يستشهد بمثل هذا النص إلا وهو على إحدى حالتين: إما أنه لا يفهم ما يقرؤه، أو أنه يفهم ولكنه يحاول استغلال من لا يجيد اللغات الأجنبية من المسلمين ليخدعه.
وبالفعل قمت بالبحث عن ترجمة عربية لذلك النص في الإنترنت ولم أجد.. فكيف للمسلم الذي لا يجيد اللغات الأجنبية أن يتحقق من صحة هذه الدعوى الكاذبة؟
الكتاب كله عن الحيوان
لأرسطو كتابان عن الحيوان، هما كتاب “On the Parts of Animals” وكتاب “On the Generation of Animals”، وكلاهما يتحدثان عن الحيوانات وأنواعها والتشابهات والفروق بينها، وبعض التصنيفات لأنواعها، وهل هي موجودة بالتصميم أم بالصدفة.. الخ.
وهذا الكتاب الذي نتحدث عنه هنا ليس مخصصا للحديث عن الإنسان، وإنما مجاله هو الحيوان سواء كان من الزواحف أو الطيور أو الأسماك أو الحيوانات الكبيرة، ويتحدث عن تركيبها كما اشتهر قديما من العناصر الأربع: التراب والهواء والماء والنار، وهي فكرة محورية تتكرر كثيرا في كتبه البيولوجية، حيث كان الاعتقاد سائدا بأن اختلاف الكائنات الحية عن بعضها يعود إلى اختلاف نسب هذه العناصر في تكوينها.
الفرق بين الإنسان والحيوان
يرى أرسطو أن هناك فرقا كبيرا بين الحيوان والإنسان، ويعتقد أن الإنسان يشبه الإله، فيقول في الجزء العاشر من الكتاب الرابع إنه “بخلاف كافة الحيوانات فالإنسان يقف منتصبا، متوافقا مع الشبه الإلهي في طبيعته وجوهره، حيث وظيفة من يشبه الإله هي الفكر والحكمة”
ويقول في الجزء التاسع من الكتاب الثاني إن “تكوين الحيوانات تغلب فيه المادة الترابية أكثر من تكوين الإنسان”.
هل تحدث عن الجنين؟
لم يكن حديث أرسطو أصلا عن مراحل تكون الجنين، وإنما كان عن مكونات أجسام الحيوانات، وحين تحدث عن العظام واللحم لم يذكر على الإطلاق أن الوصف هو للأجنة، بل إنه يذكر مرارا أن الكلام عن الحيوانات المكتملة ومنها الحيوانات المفترسة وآكلة العشب، وتحدث عن قوة عظامها، ولكنه يصف تكوينها التشريحي، وأهم العناصر في التكوين التشريحي هو العظام واللحم، فلا بد أن يتحدث عنهما، ومن هنا التقط الملحد هاتين اللفظتين ليوهم الناس أن أرسطو تحدث عن طور من أطوار الجنين ورد ذكره في القرآن!
يصف أرسطو وظيفة اللحم (العضلات) عند الحيوان وكيف تتماسك مع العظام، وكيف أن وظيفة العظام هي مساعدة لوظيفة العضلات.
لا أطوار خلق ولا خلق جنين ولا علاقة للموضوع بخلق اللحم أو العظم عند الأجنة..
وكلام أرسطو عفوي في سياقه، ولكن يتم إخراجه من سياقه وطرحه في سياق المقارنة مع الآية لعل الأمر يلتبس على البسطاء.
أين الأطوار؟
عندما يتحدث القرآن عن أطوار الجنين فهو يستعرض خلق الجنين منذ البداية، حيث يذكر مرحلة النطفة ثم مرحلة العلقة ثم مرحلة المضغة ثم مرحلة العظام واللحم. هذه هي أطوار خلق الجنين التي جاء علم الأجنة موافقا لها.
أيهما أولا: العظم أم اللحم؟
على افتراض قبول كذبة الملحد بأن أرسطو يتحدث عن الجنين، وأنه يقول بخلق العظام قبل اللحم.. فالملحد يظن أن القرآن أيضا يقول بخلق العظام قبل اللحم.. مع أن الآية واضحة تمام الوضوح:
“ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا…” (المؤمنون 14)
فالله سبحانه يكرر لفظة “خلقنا” مقرونة بالفاء في الآية لتدل على الفصل بين مراحل الخلق المختلفة، ثم عند اللحم والعظم يقول “فكسونا”، وهناك فرق شاسع بين الخلق والكساء، فالكساء باللحم لا يأتي إلا بعد خلق اللحم. ألا تتعجب من تكرار كلمة “خلقنا” ثم توقفها عند الحديث عن اللحم؟ ألا يدل ذلك على اختلاف في ترتيب الخلق؟
فإذا قبلنا كذبة الملحد بأن كلام أرسطو عن اللحم والعظم كان حول الأجنة، وأنه قال بخلق العظام قبل اللحم، فإن هذا يخالف القرآن أصلا.. فكيف تقوم الدعوى على أن مصدر القرآن في ذلك هو كلام أرسطو؟ بل تكون النتيجة هي أن وصف القرآن مع علم الأجنة في جانب الصحة ووصف أرسطو خاطئ..
وحتى لو افترضنا أن لأرسطو أو لغيره من القدماء كلاما مطابقا لما ورد في القرآن، فهذا لا يعني بالضرورة أن القرآن أخذ منه، قد تكون الحقيقة صادرة من أكثر من مصدر لا التقاء بينهما.. فالدعوى من أصلها متهالكة.
وعلى أية حال هي عادة اعتدناها من الملاحدة: الكذب والفجور.
ملاحظة: هذا موضوع آخر حول توافق النص القرآن عن خلق الجنين مع المكتشفات الطبية.
ترجمة نص أرسطو من الإنجليزية مع الأصل: الجزء 9 من الكتاب الثاني من “أجزاء الحيوان” لأرسطو
هناك تشابه بين نظام العظام ونظام الأوعية الدموية، فلكل منهما جزء مركزي يبدأ منه، وكل منهما يمثل كلا كاملا متصلا. فلا يوجد عظم في الجسم منفصلا لوحده، وإنما كل واحد منها إما أنه جزء مما يمكن اعتباره كلا متصلا، وإما أنه مرتبط بشكل أو بآخر مع البقية. وتستخدم الطبيعة تلك العظام المتجاورة بكونها متصلة كعظم واحد أو لهدف الانثناء وكأنهما عظمان مستقلان. وبالمثل، لا يوجد وعاء دموي وحيد منفصل، بل الأوعية الدموية تمثل كلا واحدا. ولذلك فإن أي عظم معزول- على افتراض وجوده- سيكون بالتأكيد غير قادر على أداء الوظيفة التي وجدت العظام لأجلها، ولو أنه كان منفصلا عن البقية بفجوة فلن يكون قادرا على الانثناء ولا الامتداد، وليس هذا فقط، بل إنه سيكون مؤذيا وكأنه شوكة أو سهم مغروس في اللحم. وبالمثل فإن الوعاء الدموي لو كان معزولا وليس متصلا مع مركز الأوعية الدموية فإنه لن يكون قادرا على الاحتفاظ بالدم داخله في حالة مناسبة، حيث أن الدفء المستمد من ذلك المركز هو الذي يمنع تخثر الدم. وعندما ينقطع تأثير المركز عن الدم فإن الدم سيفسد بالتأكيد.
إن مركز أو أصل الأوعية الدموية هو القلب، ومركز أو أصل العظام في كل الحيوانات التي لديها عظام هو العمود الفقري، وترتبط معه كل عظام الجسم، فهو الطرف الذي يثبّت الطول كاملا ويحفظ استقامة الحيوان. ولكن بما أن من الضروري أن يكون جسم الحيوان قابلا للانثناء أثناء التنقل، فإن تقسيم العمود الفقري إلى فقرات- مع كونه واحدا باعتباره امتدادا لأجزائه- يجعله ذا أجزاء متعددة. وفي تلك الحيوانات التي لديها أطراف فإن عظام تلك الأطراف متواصلة ومرتبطة بعضها ببعض عن طريق الأوتار بحيث يمكن للأطراف أن تنثني، وتكون أطراف تلك العظام المتصلة متلائمة إما بكون الطرف مجوف والآخر مكور أو بكونهما مجوفين وبينهما كرة عظمية تربط بينهما لتسمح بالانثناء والامتداد. وبغير هذا التنظيم والترتيب يستحيل القيام بمثل هذه الحركات، أو على الأقل ستكون صعبة جدا. وهناك بعض المفاصل تكون فيها النهاية السفلى للعظم والنهاية العليا للعظم الآخر متشابهتان في الشكل، وفي تلك الحالات يكون العظمان مربوطان ببعضها بواسطة الأوتار وتتوسطهما قطع غضروفية في المفصل تعمل كبطانة تمنع نهايتي العظمين من الاحتكاك.
وتنمو الأجزاء اللحمية حول العظام وتكون مثبتة بتلك العظام عن طريق أربطة ليفية رفيعة، فإنما وجدت العظام من أجل تلك الأجزاء اللحمية، بالضبط كما أن النحات حين يقوم بتصميم حيوان من الصلصال أو أية مادة لينة فإنه يجعل الأساس للتصميم جسما صلبا ثم يضع الصلصال حوله، فبالمثل فعلت الطبيعة في تصميم جسم الحيوان من اللحم. وهكذا نجد جميع الأجزاء اللحمية- باستثناء وحيد- مدعومة بواسطة العظام التي تساعد تلك الأعضاء الخاصة بالحركة على الانثناء، وعندما تكون الأعضاء غير حركية فإنها تساعد على حمايتها كما هي الحال في الأضلاع على سبيل المثال، حيث تضمن سلامة القلب والأحشاء المجاورة. والاستثناء المذكور هو البطن، فجدرانه تخلو من العظام، وذلك للسماح له بالتمدد بعد تناول الوجبات، أو بالتمدد في حالة الحمل عند النساء.
وتتفاوت عظام الحيوانات الولودة بعضها عن بعض قليلا من حيث القوة، حيث أن التناسب الجسمي لتلك الحيوانات يفوق كثيرا الحيوانات الأخرى، وكثير منها ينمو لأحجام كبيرة كما هو الحال في ليبيا والبلدان الحارة عموما. ولكن كلما ازداد حجم الحيوان ازدادت حاجته للدعم من حيث القوة والحجم والصلابة، وبمقارنة الحيوانات الكبيرة بعضها مع البعض الآخر يمكن ملاحظة هذه الحاجة للصلابة بصورة أوضح لدى الحيوانات التي تقوم حياتها على النهب والافتراس. ولهذا نجد أن عظام الذكور منها تكون أصلب وأقوى من عظام الإناث، وعظام آكلات اللحوم التي تحصل على طعامها بالافتراس تكون أقوى من عظام آكلات الأعشاب، ومثال ذلك الأسد، فعظامه قوية جدا لدرجة أنها إذا ضربت تطلق شررا وكأنها من الحجارة. ويمكن الإشارة أيضا إلى أن الدلفين، نظرا لكونه ولودا، فلديه عظام وليس أشواكا كبقية الأسماك.
ومن جانب آخر فإن العظام في الحيوانات البياضة من ذوات الدم تتصف بصفات متفاوتة إلى حد ما. ففي الطيور توجد عظام ولكنها ليست قوية كعظام الحيوانات الولودة. وبعد ذلك تأتي الأسماك البياضة حيث لا توجد عظام وإنما فقط أشواك سمكية. وفي الثعابين أيضا تأخذ العظام شكل الأشواك السمكية، باستثناء الأنواع الكبيرة جدا حيث يحتاج تكوينها الجسمي إلى القوة لتكون هي أيضا قوية، وهو نفس السبب الموجود في حالة الحيوانات الولودة. وأخيرا، في الشلاقيات (نوع من الحيوانات البحرية الفقارية) فإن الأشواك السمكية استبدلت بالغضاريف، حيث من المهم لهذه الكائنات أن تكون حركتها تموجية، وهذا يتطلب أن يكون الهيكل الذي يدعم الجسم مكونا من مادة مرنة لا صلبة فتنكسر. بالإضافة إلى ذلك ففي هذه الشلاقيات وضعت الطبيعة كل المادة الترابية في الجلد ولم تختص الأجزاء المختلفة الأخرى بنفس الفيض من هذه المادة. وحتى في الحيوانات الولودة فإن الكثير من العظام غضروفي، وهذا يقع في تلك الأجزاء التي يكون من المناسب للحم المحيط بها أن تكون قاعدتها لينة وصمغية، ومثال ذلك الأذنان والأنف؛ فلو كانت مادتها صلبة فإنها ستكون عرضة للكسر. على أن العظام والغضاريف هي في الأصل شيء واحد، والفرق بينها هو فقط في الدرجة، ولهذا فإن العظام والغضاريف لا تنمو مجددا لو تم قطعها.
وغضاريف تلك الحيوانات البرية لا تحوي نخاعا، والمقصود هو النخاع الذي يمكن تمييزه، فالنخاع الذي يمكن تمييزه وفصله في العظام سيكون في الغضاريف مخلوطا بكل الكتلة النخاعية ليعطي محتوى لينا صمغيا للغضروف. ولكن في العمود الفقري للشلاقيات، رغم أنه غضروفي، إلا أنه يحوي نخاعا، لأنه يقوم مقام العظم.
وهناك أجزاء كالمخالب والحوافر تشبه العظام إلى حد كبير من حيث الملمس، سواء كانت صلبة أو متآكلة، وكذلك القرون ومناقير الطيور، وكلها وجدت كوسائل دفاعية. فالأعضاء المتكونة من هذه المواد والتي تسمى بها، الحافر على سبيل المثال، والقرن، إنما هي أدوات لضمان الحفاظ على تلك الحيوانات. ومثل هذه الأعضاء، يجب أن نذكر الأسنان التي لا تؤدي في بعض الحيوانات إلا وظيفة واحدة هي عجن الطعام، بينما في حيوانات أخرى تؤدي وظيفة إضافية باعتبارها سلاحا، كما في الحيوانات ذات الأسنان الحادة أو الأنياب. وكل هذه الأجزاء هي بالضرورة صلبة ومكونة من التراب، حيث أن قيمة هذا السلاح تعتمد على مثل تلك الصفات. وهذه الصفة الترابية توضح كيف أن هذه الأجزاء تكون أكثر نموا عند الحيوانات الولودة من ذوات الأربع منها عند الإنسان. فتكوين الحيوانات تغلب فيه المادة الترابية أكثر منها في تكوين جسم الإنسان. وعموما فليست هذه هي كل الأجزاء ولكن أيضا هناك أجزاء أخرى مرتبطة بها مثل الجلد والمثانة والأغشية والشعر والريش وما شابهها ستتم مناقشتها في موضوع الأجزاء غير المتجانسة، حيث سنبحث في الأسباب المنتجة لها وفي غاية وجودها في أجسام الحيوانات. ففي الأعضاء غير المتجانسة، كما في تلك التي ذكرناها، لا يمكننا التعرف عليها إلا بالتأمل في وظائفها فقط. والهدف من بحثها في هذا الجزء من الكتاب وتصنيفها مع الأجزاء المتجانسة هو أن وضعها تحت مسمى واحد يسبب خلطا بين كل الأعضاء والمواد التي خلقت منها. ولكن بين كل تلك المواد فإن اللحم والعظم هو الأساس. وقد ناقشنا المني والحليب سابقا عند الحديث عن السوائل المتجانسة. وسوف نتحدث في كتابنا عن التوالد “Generation of Animals” بتوسع أكثر عنها، مدركين أن الأساس في الأول منها هو توالد الكائنات، وفي الأخير تغذيته.
### On the Parts of Animals/Book II Part 9 There is a resemblance between the osseous and the vascular systems; for each has a central part in which it begins, and each forms a continuous whole. For no bone in the body exists as a separate thing in itself, but each is either a portion of what may be considered a continuous whole, or at any rate is linked with the rest by contact and by attachments; so that nature may use adjoining bones either as though they were actually continuous and formed a single bone, or, for purposes of flexure, as though they were two and distinct. And similarly no blood-vessel has in itself a separate individuality; but they all form parts of one whole. For an isolated bone, if such there were, would in the first place be unable to perform the office for the sake of which bones exist; for, were it discontinuous and separated from the rest by a gap, it would be perfectly unable to produce either flexure or extension; nor only so, but it would actually be injurious, acting like a thorn or an arrow lodged in the flesh. Similarly if a vessel were isolated, and not continuous with the vascular centre, it would be unable to retain the blood within it in a proper state. For it is the warmth derived from this centre that hinders the blood from coagulating; indeed the blood, when withdrawn from its influence, becomes manifestly putrid. Now the centre or origin of the blood-vessels is the heart, and the centre or origin of the bones, in all animals that have bones, is what is called the chine. With this all the other bones of the body are in continuity; for it is the chine that holds together the whole length of an animal and preserves its straightness. But since it is necessary that the body of an animal shall bend during locomotion, this chine, while it is one in virtue of the continuity of its parts, yet its division into vertebrae is made to consist of many segments. It is from this chine that the bones of the limbs, in such animals as have these parts, proceed, and with it they are continuous, being fastened together by the sinews where the limbs admit of flexure, and having their extremities adapted to each other, either by the one being hollowed and the other rounded, or by both being hollowed and including between them a hucklebone, as a connecting bolt, so as to allow of flexure and extension. For without some such arrangement these movements would be utterly impossible, or at any rate would be performed with great difficulty. There are some joints, again, in which the lower end of the one bone and the upper end of the other are alike in shape. In these cases the bones are bound together by sinews, and cartilaginous pieces are interposed in the joint, to serve as a kind of padding, and prevent the two extremities from grating against each other.
Round about the bones, and attached to them by thin fibrous bands, grow the fleshy parts, for the sake of which the bones themselves exist. For just as an artist, when he is moulding an animal out of clay or other soft substance, takes first some solid body as a basis, and round this moulds the clay, so also has nature acted in fashioning the animal body out of flesh. Thus we find all the fleshy parts, with one exception, supported by bones, which serve, when the parts are organs of motion, to facilitate flexure, and, when the parts are motionless, act as a protection. The ribs, for example, which enclose the chest are intended to ensure the safety of the heart and neighbouring viscera. The exception of which mention was made is the belly. The walls of this are in all animals devoid of bones; in order that there may be no hindrance to the expansion which necessarily occurs in this part after a meal, nor, in females, any interference with the growth of the foetus, which is lodged here.
Now the bones of viviparous animals, of such, that is, as are not merely externally but also internally viviparous, vary but very little from each other in point of strength, which in all of them is considerable. For the Vivipara in their bodily proportions are far above other animals, and many of them occasionally grow to an enormous size, as is the case in Libya and in hot and dry countries generally. But the greater the bulk of an animal, the stronger, the bigger, and the harder, are the supports which it requires; and comparing the big animals with each other, this requirement will be most marked in those that live a life of rapine. Thus it is that the bones of males are harder than those of females; and the bones of flesh-eaters, that get their food by fighting, are harder than those of Herbivora. Of this the Lion is an example; for so hard are its bones, that, when struck, they give off sparks, as though they were stones. It may be mentioned also that the Dolphin, in as much as it is viviparous, is provided with bones and not with fish-spines.
In those sanguineous animals, on the other hand, that are oviparous, the bones present successive slight variations of character. Thus in Birds there are bones, but these are not so strong as the bones of the Vivipara. Then come the Oviparous fishes, where there is no bone, but merely fish-spine. In the Serpents too the bones have the character of fish-spine, excepting in the very large species, where the solid foundation of the body requires to be stronger, in order that the animal itself may be strong, the same reason prevailing as in the case of the Vivipara. Lastly, in the Selachia, as they are called, the fish-spines are replaced by cartilage. For it is necessary that the movements of these animals shall be of an undulating character; and this again requires the framework that supports the body to be made of a pliable and not of a brittle substance. Moreover, in these Selachia nature has used all the earthy matter on the skin; and she is unable to allot to many different parts one and the same superfluity of material. Even in viviparous animals many of the bones are cartilaginous. This happens in those parts where it is to the advantage of the surrounding flesh that its solid base shall be soft and mucilaginous. Such, for instance, is the case with the ears and nostrils; for in projecting parts, such as these, brittle substances would soon get broken. Cartilage and bone are indeed fundamentally the same thing, the differences between them being merely matters of degree. Thus neither cartilage nor bone, when once cut off, grows again. Now the cartilages of these land animals are without marrow, that is without any distinctly separate marrow. For the marrow, which in bones is distinctly separate, is here mixed up with the whole mass, and gives a soft and mucilaginous consistence to the cartilage. But in the Selachia the chine, though it is cartilaginous, yet contains marrow; for here it stands in the stead of a bone.
Very nearly resembling the bones to the touch are such parts as nails, hoofs, whether solid or cloven, horns, and the beaks of birds, all of which are intended to serve as means of defence. For the organs which are made out of these substances, and which are called by the same names as the substances themselves, the organ hoof, for instance, and the organ horn, are contrivances to ensure the preservation of the animals to which they severally belong. In this class too must be reckoned the teeth, which in some animals have but a single function, namely the mastication of the food, while in others they have an additional office, namely to serve as weapons; as is the case with all animals that have sharp interfitting teeth or that have tusks. All these parts are necessarily of solid and earthy character; for the value of a weapon depends on such properties. Their earthy character explains how it is that all such parts are more developed in four-footed vivipara than in man. For there is always more earth in the composition of these animals than in that of the human body. However, not only all these parts but such others as are nearly connected with them, skin for instance, bladder, membrane, hairs, feathers, and their analogues, and any other similar parts that there may be, will be considered farther on with the heterogeneous parts. There we shall inquire into the causes which produce them, and into the objects of their presence severally in the bodies of animals. For, as with the heterogeneous parts, so with these, it is from a consideration of their functions that alone we can derive any knowledge of them. The reason for dealing with them at all in this part of the treatise, and classifying them with the homogeneous parts, is that under one and the same name are confounded the entire organs and the substances of which they are composed. But of all these substances flesh and bone form the basis. Semen and milk were also passed over when we were considering the homogeneous fluids. For the treatise on Generation will afford a more suitable place for their examination, seeing that the former of the two is the very foundation of the thing generated, while the latter is its nourishment.
كم عدد المفاصل في الإنسان؟
للملاحدة طريقة عجيبة في التلبيس على المسلمين، وخلاصتها أن الملحد يبحث عن معلومة في القرآن أو السنة، فإذا وجدها راح يبحث عن صفحة في الإنترنت أو مقطع فيديو يناقضها، فيرسل هذه المادة للمسلم ويقول له إن العلم نصوص القرآن أو السنة تتناقض مع العلم!
وبالطبع فإن بعض المسلمين للأسف لديهم القابلية لابتلاع مثل هذا الطعم، خصوصا عندما طرحه بأسلوب فيه تحد وغطرسة.. ولو أن المسلم كلما أتاه الملحد بمثل هذا الادعاء كلف على نفسه قليلا وبحث الأمر جيدا لوجد أن التدليس صفة لا تنفك عن الملاحدة.
طرح علي أحد الإخوة سؤالا حول تناقض العلم مع ما ورد في السنة النبوية بأن الإنسان لديه 360 مفصلا.. وأتى بمقطع فيديو من أحد الملاحدة يدعي أن العدد غير صحيح! فقمت بالبحث قليلا في النت ووجدت شيئا من الشواهد من مواقع علمية ومتخصصة تثبت أن عدد المفاصل عند الإنسان هو 360 مفصلا، كما ورد في الحديث.
الإعجاز هو سبب الاعتراض
يعترض الملحد على هذا الحديث ويحاول إثبات خطئه لأن الحديث معجز.. لم يكن ممكنا في العصور السابقة التحقق من عدد المفاصل عند الإنسان، لأن هناك عدد من المفاصل مخفية لا تظهر إلا بالتشريح. فالعدد 360 لم يكن معروفا قبل التمكن من تشريح الإنسان في العصور القريبة، ولم يكن هذا العدد معروفا في عصر النبوة أو قبله، ومن يدعي وجوده عليه أن يأتي بالمصدر الأصلي وليس نقلا منقطعا.
نص الحديث
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ وَحَمِدَ اللهَ وَهَلَّلَ اللهَ وَسَبَّحَ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى، فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ). رواه مسلم
جهات متخصصة تتوافق مع الحديث
لكي تطلع على النص الذي يحدد عدد المفاصل في الإنسان بـ 360 مفصلا، افتح الرابط وابحث في الصفحة.
مركز للتجهيزات الطبية في نيويورك
موقع أطباء هدسون في الولايات المتحدة
موقع شركة حاسوبية متخصصة بالتطبيقات الطبية وخصوصا التشريحية
موقع جمعية ستاندالون للرعاية الطبية
جمعية بيوجت ساوند لجراحة العظام (16 جراحا متخصصا في العظام)
موقع جوينت تشيروبراكتيك، متخصص في تقويم العمود الفقري وله أكثر من 425 مكتبا حول العالم
جمعية العظام والعمود الفقري الأمريكية
موقع الجراح الهندي مادو ثيمو المتخصص بجراحة استبدال المفاصل
موقع طبي أسترالي متخصص في علاج أعراض سن اليأس
مركز تشخيص وعلاج الآلام والإصابات في سان انطونيو
موقع الطبيب الهندي شيراق باتل المتخصص بعلاج المفاصل والطب الرياضي
مركز أمريكي متخصص في الميكانيكا البيولوجية لعلاج المفاصل والعظام
نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (والأرض ذات الصدع)
مضمون الشبهة:
في غمار حملة التشكيك الموجهة إلى إعجاز القرآن الكريم، نفى الطاعنون الإعجاز العلمي في قوله تعالى: ) والأرض ذات الصدع(12)((الطارق)، ذاهبين إلى أن المعنى لا يتجاوز ما عرفه القدماء من أن الصدع هو النبات الذي يشق الأرض وتنصدع به، وعلى هذا إجماع المفسرين قدامى ومعاصرين.
ويتساءلون: إذا كان المقصود من الآية هذه الصدوع العملاقة المتعددة التي تحيط بالكرة الأرضية ـ كما يزعم دعاة الإعجاز العلمي ـ فلماذا جاءت الآية بصيغة المفرد (صدع)، ولم تأت بصيغة الجمع (صدوع)؛ فهي صدوع عدَّة وليست صدعًا واحدًا؟
وجها إبطال الشبهة:
1) من المعاني الصحيحة التي فهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معنى انشقاقها عن النبات، وهو صحيح، وقد أخطأ الطاعن حينما أراد قَصْر مقصود الآية على هذا المعنى فقط؛ لأنه لما كانت لفظة الأرض قد جاءت في القرآن الكريم بمعنى: التربة التي تغطي صخور اليابسة، وكتل اليابسة التي نحيا عليها، وكوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لا بُدَّ وأن يكون له دلاله في كل معنى من معاني كلمة الأرض؛ ومن ثم فإن كلمة الصدع في الآية تعني: انصداع التربة عن النبات، وتصدع صخور اليابسة، وتصدع الغلاف الصخري للأرض.
2) ليس صحيحًا ما ادَّعاه الطاعن من أن الآية لو كانت تنطبق على ما اكتشفه العلماء حديثًا من وجود صدوع متعددة بالكرة الأرضية لجاءت بصيغة الجمع (صدوع)؛ ذاك أن العلماء اكتشفوا صدعًا ضخمًا يمتد إلى أكثر من 40 ألف كيلو متر، وأسموه حلقة النار(pacific Ring of fire)، هذا فضلًا عن أن الصدوع التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة تتصل ببعضها وكأنها صدع واحد؛ ومن ثم فإن المفرد (صدع) في الآية الكريمة قد يكون مقصودًا على حقيقته.
التفصيل:
أولا. الصدع في الآية لا يقتصر على انصداع التربة عن النبات:
1) الحقائق العلمية:
انصداع التربة عن النبات:
تربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل، وهي معادن دقيقة الحبيبات([1])، وتتركب أساسًا من سيليكات الألومنيوم على هيئة راقات متبادلة من كل من ثاني أكسيد السيليكون وثالث أكسيد الألومنيوم مع عناصر أخرى كثيرة، ويحمل كل راق على سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة على حسب نوع الصلصال المركب منه.
والصلصال من المعادن الغروية التي لها قدرة على الانتشار في غيرها من المواد نظرًا لدقة حبيباتها، كما أن لها القدرة على تشرُّب الماء والالتصاق بأيونات العناصر؛ ولذلك فإنه عند نزول الماء على التربة أو عند ريِّها بكميات مناسبة من الماء، فإن ذلك يؤدي إلى انتفاشها وزيادة حجمها، فتهتز حبيباتها وتربو إلى أعلى حتى ترق رقة شديدة فتنشق لتفسح طريقًا سهلًا لكل من الجذير المندفع إلى أسفل، والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة إلى أعلى حتى تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر على سطح الأرض مستمرة في النمو لتغطي باقي أجزاء النبات.
واهتزازية التربة بنزول الماء عليها له أسباب أخرى غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ، ومن ذلك القطبية المزدوجة لجزيء الماء، ووجود الشحنات الكهربائية المتشابهة على أسطح الحبيبات، مما يؤدي إلى تنافرها، وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض وعن جزيئات الماء المتسربة بينها، في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها إلا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأيُّن أملاح التربة في ماء الري، ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانًا لخزن المياه بين تلك الحبيبات، ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن بين حبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتى يُطرد بالكامل.
وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجمًا زاد انتفاشها، وأدَّى ذلك إلى زيادة حجمها، فكل حبة من حبات التربة لها القدرة على التشرب بالماء، وحمله على سطحها، واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات، وبذلك يتم التبادل بين الأيونات المختلفة على أسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماء المحفوظ بينها، ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة إلى أسفل من البذرة النابتة، ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريِّها ما أنبتت الأرض على الإطلاق.
انصداع التربة بإنزال الماء عليها يفسح طريقًا سهلًا للنبتة المنبثقة من داخل البذرة النابتة كي تظهر سويقتها إلى ما فوق الأرض، ويندفع مجموعها الجذري إلى أعماق التربة.
تصدُّع صخور اليابسة:
نتيجة لتعرض صخور القشرة الأرضية للإجهاد بالشدِّ أو بالتضاغط، فإنها تتكسر بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة على هيئة شقوق في قشرة الأرض، تمزق صخورها إلى كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة على جوانب مستويات تلك الشقوق، كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بإزاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة على سطح الأرض، بما يعين على تخفيف الضغط عن الصخور الموجودة أسفل منها، وبالتالي تخفيف شدة الإجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدُّد وتتشقق على هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور إلى كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل.
وغالبية فواصل الأرض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين أو أكثر وإن كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد، وأغلبها قليل العمق.
وتحدث فواصل قشرة الأرض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض قريبًا من سطحها أو إلى سطحها على هيئة متداخلات نارية أو طفوح بركانية…
وصدوع الأرض هي كسور في قشرتها([2])، يتم عبرها تحرك صخورها على جانبي مستوى الصدع حركة أفقية أو رأسية ، أو مائلة بدرجة ملحوظة، وتتباين أبعاد تلك الصدوع تباينًا كبيرًا، فمنها ما لا يرى بالعين المجردة، ولا تكاد الحركة عبر مستواه أن تدرك، ومنها ما يمتد لعشرات الكيلو مترات، وتبلغ الحركة عبر مستواه إلى آلاف الأمتار…
بعض نماذج صدوع الأرض التي تقسم غلافها الصخري إلى عدد من الألواح أو الصفائح المتباعدة عن بعضها البعض أو المصطدمة مع بعضها البعض
ولصدوع الأرض أهمية بالغة لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الأرض وسطحها، تتحرك عبرها الأبخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية، كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصر اللازمة لتجديد ثراء صخور الأرض وتربة سطحها.
تصدع الغلاف الصخري للأرض:
على الرغم من التعرف على عدد من أودية الخسف والصدوع العملاقة على سطح الأرض منذ زمن بعيد، إلا أن العلماء قد اكتشفوا في العقود الثلاثة الماضية أن أرضنا محاطة بشبكة هائلة من تلك الأودية الخسيفة والصدوع العملاقة التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة، ويشبهها العلماء باللحام على كرة التنس، وتمتد هذه الصدوع العملاقة لآلاف الكيلو مترات في جميع الاتجاهات بأعماق تتراوح بين 65 و70 كم تحت قيعان كل محيطات الأرض وقيعان عدد من بحارها، وبين 100و 150 كم تحت القارات، مُمزقة الغلاف الصخري للأرض بالكامل إلى عدد من الألواح التي تعرف باسم (ألواح الغلاف الصخري للأرض).
وتطفو هذه الألواح الصخرية فوق نطاق الضعف للأرض، وهو نطاق لَدِِِن، شبه منصهر، عالي الكثافة واللزوجة وتنطلق فيه تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، فتدفع معها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة عن بعضها البعض في إحدى حوافها، ومصطدمة مع بعضها البعض عند الحواف المقابلة ومنزلقة عبر بعضها البعض عند بقية الحواف .
خريطة للعالم توضح صدوع الأرض
وينتج عن هذه الحركات لألواح الغلاف الصخري للأرض عدد من الظواهر الأرضية المهمة التي منها: اتساع قيعان البحار والمحيطات، وتجدد صخورها باستمرار عند حواف التباعد، وتكوُّن سلاسل من جبال أواسط المحيطات، ومنها تتكون السلاسل الجبلية عند حواف التصادم حيث يستهلك قاع المحيط تحت كتلتي القارتين المتصادمتين واللتين كانتا على حدود المحيط الذي كان يفصلها.
وتُصاحب العمليتان بالهزات الأرضية وبكم هائل من الطفوح البركانية، وبتكون أعلى السلاسل الجبلية مثل جبال الهيمالايا، وبها قمة إفرست أعلى قمم الأرض، ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من 64000كم، وهي تتكون أساسًا من الصخور البركانية المختلطة بقليل من الرواسب البحرية، وتحيط بالصدوع العملاقة.
ومع تجدد صعود الطفوح البركانية عبر هذه الصدوع العملاقة المكونة للوادي الخسيف في وسط سلسلة الجبال البحرية، يتجدد قاع المحيط بأحزمة حديثة من الصخور البازلتية المتوازية على جانبي الوادي الخسيف، ويهبط كل نصف من نصفي قاع المحيط تحت القارة المقابلة له بنصف معدل اتساع قاعه عند وسطه، وبذلك تكون أحدث صخور قاع المحيط حول محوره الوسطي، وأقدمها عند هبوط قاع المحيط تحت كتل القارتين المحيطتين به.
رسم يوضح تصدُّع قيعان المحيطات بشبكة متصلة من الصدوع وتكوُّن سلاسل جبال أواسط تلك المحيطات
وهذه الحركة لألواح الغلاف الصخري للأرض كانت سببًا في زحف القارات، وتجمعها، وتفتتها بصورة دورية، فيما يعرف باسم “دورة القارات والمحيطات”، وفيها قد تنقسم قارة ببحر طولي ـ مثل البحر الأحمر ـ إلى كتلتين أرضيتين تتباعدان عن بعضهما البعض باتساع قاع البحر الفاصل بينهما حتى يتحول إلى محيط، كما قد يستهلك قاع محيط بالكامل تحت إحدى القارات بدفع كتلة أرضية له تحت تلك القارة حتى يصطدما مكونين أعلى سلاسل جبلية على سطح الأرض، كما حدث في اصطدام الهند بالقارة الآسيوية، وتكون سلسلة جبال الهيمالايا.
صورة للبحر الأحمر الذي يقسم القارة إلى كتلتين أرضيتين تتباعدان بفعل اتساعه
وهذه الصدوع العملاقة ـ المكونة للأودية الخسيفة ـ التي تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 و 150كم، وبطول يُقدَّر بعشرات الآلاف من الكيلو مترات في كل الاتجاهات، هي مراكز تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة أو مصطدمة أو منزلقة عبر بعضها البعض، وهذه الصدوع تعمل كممرات طبيعية للحرارة المختزنة في داخل الأرض، والناتجة عن تحلل العناصر المشعة فيها، ولولا هذه الشبكة من الصدوع لانفجرت الأرض.
وعبر هذه الشبكة المتصلة من الصدوع العملاقة تندفع ملايين الأطنان من الصهارة الصخرية على هيئة طفوح بركانية تثري سطح الأرض بالعديد من الصخور والمعادن النافعة، وتجدد شباب التربة الزراعية، وتكون مراكز مهمة لاستغلال الحرارة الأرضية([3]).
رسم تخطيطي يوضح تكوُّن جبال الهيمالايا بتصادم الهند بالقارة الآسيوية عبر ملايين السنين
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما جاءت به الآية الكريمة:
لم يجد المفسرون قديمًا تفسيرًا لقوله تعالى: ) والأرض ذات الصدع (12) ((الطارق) إلا النبات يشق الأرض ويخرج من باطنها؛ ومن هنا يلتقط المشككون طرف الخيط، قائلين: إن معنى: الأرض ذات الصدع لا يتجاوز انشقاق الأرض عن النبات، وليس ثمة علاقة بينه وبين الصدوع العميقة التي اكتشفت في الأرض.
وقبل أن نشرع في تفنيد هذا الزعم ـ وإن كنا قد آتينا على قواعده آنفًا عندما مهدنا لذلك بما أثبته العلم من حقائق في هذا الصدد ـ يجدر بنا أن نمر ولو سريعًا على ما قاله اللغويون والمفسرون بشأن هذه الآية.
المعنى اللغوي للانصداع:
صدع النبات الأرض صدعًا: شقَّها وظهر منها، وتصدَّع: تشقق، ويقال: تصدعت الأرض بالنبات: تشققت. وانصدَع: انشق. والتَّصَدُّع في الجيولوجيا: تكسر الصخور بقوة. والصَّدْع: الشق في الشيء الصُّلب، وفي التنزيل)والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ([4]).
أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) أشار ابن كثير إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما بأنه: هو انصداعها عن النبات، وذكر أن كلًّا من ابن جرير وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والسدي ـ قالوا به، كما قال به غيرهم([5]).
وقال صاحب الظلال: “الصدع: النَّبت يشقُّ الأرض وينبثق”([6]).
الدلالة الواسعة لمعنى الصدع في الآية:
ذكرنا سلفًا أن الطاعن يُقْصر معنى الصدع الوارد في الآية على انصداع التربة عن النبات، وهو يستند في ذلك إلى ما فهمه الأولون منها، والإشكالية التي يطرحها هي أنه إما أن يكون المعنى يقتصر على انصداع التربة عن النبات؛ ومن ثم ينتفي ما في الآية من إعجاز، وإما أن يكون المقصود بالصدع هو ما اكتشفه العلماء حديثًا من وجود صدوع في الأرض معظمها في قيعان البحار والمحيطات؛ وعليه يكون المفسرون قد أخطئوا في تفسير الآية.
وفي الواقع إن هذا الإشكال الذي يضعه الطاعن أمامنا، والذي يبدو ـ للوهلة الأولى ـ وكأنه معضلة ـ لا يثبت أمام التمحيص والنقد الدقيقين؛ فلا المفسرون أخطئوا ولا المعنى يقتصر على مجرد انصداع الأرض عن النبات.
فمن ناحية أولى: ـ وإن كُنَّا قد ذكرنا هذا الكلام مرارًا ونحن بصدد الرد على شبهات سابقة ـ إن المفسرين فسَّروا الآية على حسب معارف عصرهم وعلومه، ولو كانوا على علم بما اكتشفه العلماء حديثًا لما ترددوا لحظة في تفسير الآية به، وحتى على فرض خطئهم، فإنه لا مشكلة إذا أخطأ مفسرٌ في تفسير آية؛ لأنه بشر يخطئ ويصيب، والكل يؤخذ من كلامه ويرد، فلا قداسة لمفسر ولا عصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم .
ومن ناحية أخرى: فإن معنى الصدع في الآية لا يقتصر على مجرد انصداع الأرض عن النبات؛ بل يشمل كذلك ما اكتشفه العلماء حديثًا من أن بالقشرة الأرضية صدوعًا طولية وأخرى عرضية، ومعظمها في قيعان البحار والمحيطات، ويصل بعضها إلى وشاح الأرض بعمق 100كم، وهذا لا يعني خطأ ما فهمه المفسرون قديمًا من انشقاق الأرض عن النبات، فهذا تفسير علمي صحيح؛ “لأنك حين تزرع بذرة في الأرض وترويها جيدًا تبدأ البذرة في الإنبات، ويبدأ البرعم في اختراق التربة لينمو ويترعرع كي يصبح نباتًا كامل النضج، به أزهار جميلة، أو فاكهة لذيذة، أو خشب فاخر، ويحدث هذا الاختراق من خلال شقوق صغيرة تنشأ في التربة بسبب الانتفاخ الناتج عن تحللها بالماء واعوجاجها صعودًا حتى تصبح التربة رقيقة وتنشق”([7]).
ولكن لما كانت لفظة الأرض قد جاءت في القرآن بمعنى التربة التي تغطِّي صخور اليابسة، وبمعنى كتل اليابسة التي نحيا عليها، وبمعنى كوكب الأرض كوحدة فلكية محددة، فإن القسم القرآني بالأرض ذات الصدع لا بُدَّ وأن يكون له دلالة في كل معنى من معاني كلمة الأرض… ومن ثم فإننا نرى في صدوع الأرض أبعادًا ثلاثة: بعدًا لا يتعدَّى بضعة ملِّيمترات أو بضعة سنتيمترات في انصداع التربة عن النبات، وبعدًا آخر في صدوع اليابسة التي تمتد الحركات الأرضية عبر مستوياتها في عشرات السنتيمترات إلى مئات الأمتار، وبعدًا ثالثًا في الصدوع العملاقة التي تنتشر أساسًا في قيعان المحيطات، كما توجد في بعض أجزاء اليابسة على هيئة أغوار سحيقة تترواح أعماقها بين 100كم و150كم، وتقل هذه الأعماق تحت قيعان البحار والمحيطات إلى ما يتراوح بين 65كم و70 كم، ومن هنا كانت روعة الإشارة القرآنية إلى حقيقة: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ([8]).
لولا الصدوع لاستحالت الحياة:
سبحان الذي أقسم بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربع مئة سنة تفخيمًا لظاهرة من أروع ظواهر الأرض وأكثرها إبهارًا للعلماء، وأشدها لزومًا، وجعل الأرض كوكبًا صالحًا للعمران بالحياة، فعبر هذه الصدوع العملاقة خرج كل من الغلافين المائي والغازي للأرض، ولا يزالان يتجددان، وعبر النشاط الملازم لها تحركت ألواح الغلاف الصخري الأوَّلي للأرض فتكونت الجزر البركانية والقارات والسلاسل الجبلية، وتجددت قيعان المحيطات ولا تزال تتجدَّد، وتزحزحت القارات ولا تزال تتحرك، وتبادلت اليابسة والمحيطات، وثارت البراكين لتخرج قدرًا من الحرارة الأرضية الحبيسة في داخل الأرض، والتي كان من الممكن أن تفجرها لو لم تتواجد تلك الصدوع العملاقة، وخرجت كميات هائلة من المعادن والصخور ذات القيمة الاقتصادية مع هذه الثورات البركانية، ونشطت ديناميكية الأرض، وثبتت ألواح غلافها الصخري بالجبال، ولا تزال ديناميكية الأرض تحرك ذلك بأمر الله الخالق عز وجل([9]).
3) وجه الإعجاز:
يتبين من خلال ما سبق ذكره ومضة الإعجاز العلمي في القسم القرآني بالأرض ذات الصدع من قبل ألف وأربع مئة سنة، والعلم الكوني لم يصل إلى كشف تلك الحقيقة إلا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، ولم يكن لأحد في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعده إلمام بتلك الحقيقة الأرضية، أو إدراك لشيء من جوانبها، ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرًا لها قبل ألف وأربع مئة من السنين غير الله الخالق عز وجل.
ثانيًا. المفرد في الآية (صدع) مقصود على حقيقته:
1) الحقائق العلمية:
منذ بداية القرن العشرين بدأ العلماء يلاحظون أن القشرة الأرضية مع الطبقة التي تليها، ليست قطعة واحدة، بل مقسَّمة إلى ألواح، وتفصل بين هذه الألواح شقوق تمتد لآلاف الكيلو مترات، وبدأوا يرسمون الخرائط الخاصة بشبكة الشقوق أو الصدوع التي توضح هذه الألواح، وهذا ما أوضحناه في الوجه الأول مجملًا.
ولكن الشيء المثير للعجب أن العلماء اكتشفوا صدعًا ضخمًا يمتد إلى أكثر من 40 ألف كيلو متر، وأسموه حلقة النار (pacific Ring of fire)،هذه الحلقة موجودة في قاع المحيط الهادي، وتمتد على طول الساحل الغربي لأمريكا مرورًا بألاسكا ثم اليابان والفلبين وأندونيسيا ثم جرز المحيط الهادي الجنوبية الغربية ثم نيوزيلندا([10]).
وهناك فرع من هذا الصدع العظيم يمر بطول البحر الأحمر ليشق خليج العقبة ثم وادي الأردن وحتى شمال سوريا لينتهي في جبال زاجروس.
وهذا الصدع وما يحدث عليه من نشاط هو السبب في العمليات الجيولوجية الداخلية التي تظهر لنا في صورة الزلازل والبراكين والصدوع وتزحزح القارات وبناء المحيطات([11])، ويؤكد العلماء أن 90% من زلازل وبراكين العالم تتركز في هذه الحلقة، وينتج النشاط الزلزالي في هذه الحلقة عن اصطدام الألواح الأرضية بعضها ببعض([12]).
هذه الحلقة تمثل أطول صدع في العالم، وهي من أكثر المناطق خطورة، ويعتبرها العلماء ظاهرة جيولوجية غريبة وفريدة من نوعها على سطح الأرض
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد استعار الجيولوجيون كلمة صدع ليطلقونه على أحد التراكيب الجيولوجية الشائعة التي تشاهد في الصخور، وذلك بمفهوم أن الصدع هو شق يحدث للشيء فيشقه إلى جزأين يتحركان بالنسبة لبعضهما، وقد فُسر قوله تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) بهذا المعنى، وارتاح الجيولوجيون لهذا التفسير، وظنوا أن المفرد في الآية الكريمة يشمل المفرد والجمع معًا، وهذا صحيح.
ولكن التقدم العلمي أظهر حقيقة مذهلة، وهي أن المفرد في الآية قد يكون المقصود به المفرد فعلًا؛ فهناك صدع واحد بالمفهوم الجيولوجي يَلُّف الأرض كلها ولكنه مغمور في وسط المحيط، وهذا يرد على ما زعمه الطاعن من أن القرآن أخطأ حينما استعمل المفرد “صدع” بدلًا من الجمع “صدوع”؛ بحجة أنها صدوع متعددة وليست صدعًا واحدًا.
وكلام الطاعن صحيح من ناحية، خطأ من أخرى؛ فهو صحيح من ناحية أن الصدوع في الكرة الأرضية متعددة، ولكنه أخطأ حينما خطَّأ القرآن في استعماله لفظة “الصدع” بالمفرد؛ ذاك أن هذه الصدوع مرتبطة ببعضها بعضًا ارتباطًا يجعلها وكأنها صدعٌ واحدٌ، يشبهه العلماء باللحام على كرة التنس؛ ومن ثم فإن الآية فيها إعجاز واضح، فالله يقسم بصدع واحد الذي هو عبارة عن اتصال مجموع الصدوع.
هذه صورة بيانية لامتداد الصدوع على سطح الأرض والتي تشكِّل باتصالها صدعًا واحدًا
إننا إذا تأملنا الصور الواردة من الأقمار الصناعية، وكذلك الصور التي رسمها العلماء نلاحظ أن هذه الأرض ليست كتلة واحدة، إنما مقسمة إلى مجموعة من الألواح وفيها صدع مشترك ومتعرج، يقسم القشرة الأرضية إلى مجموعة من الألواح؛ ولذلك قال تعالى: )والأرض ذات الصدع (12)((الطارق).
صورة للكرة الأرضية ويمثل الخط الأحمر جزءًا من شبكة الصدوع الأرضية، وهذا الأمر لم يُكتشف إلا حديثًا، ولكن القرآن قد تحدث عنه قبل أربعة عشر قرنًا
لقد رأى الإنسان أخيرًا هذا الصدع وصوَّر حركته وحركة هذه الألواح وهي تتحرك متباعدة عن بعضها؛ ففي عام 2005م قام بعض العلماء بمراقبة الصدع الذي يفصل اللوح العربي الذي يضم الجزيرة العربية والبحر الأحمر عن اللوح الأفريقي الذي يضم قارة أفريقيا، ووجدوا أن اللوح الأفريقي يبتعد عن اللوح العربي، وأن هنالك مجموعة من الحمم البركانية تتدفق أثناء تباعد هذين اللوحين، وهذه الحمم البركانية تتجمَّد وتشكِّل بعض أنواع الصخور([13]).
والسؤال الآن، ما الهدف من ذكر هذه الحقيقة الجيولوجية في القرآن؟ والجواب نجده في الآية الكريمة:)إنه لقول فصل (13)((الطارق)؛ أي: إنكم أيها الطاعنون المشككون في صدق هذا القرآن، عندما تكتشفون هذا الصدع وتعتبرونه من أهم الظواهر الجيولوجية على سطح الأرض، وتعترفون بأنه لم يكن لأحد علم بهذا الصدع من قبل، وأنه من أسرار الكون الخفية، ثم يأتي كتاب الحقائق ليذكر لكم هذا الصدع في آية عظيمة:) والأرض ذات الصدع (12)((الطارق) ـ عندما تدركون ذلك فلا بُدَّ أن تدركوا أن الكتاب الذي يذكر هذه الحقائق ليس كلامًا بشريًّا، بل هو قول فصل أنزله الذي يعلم أسرار السماوات والأرض([14]).
3) وجه الإعجاز:
لقد وصف القرآن الكريم الأرض من قبل ألف وأربع مئة سنة بأنها ذات صدع، وهذه حقيقة؛ لأن هذه الشبكة الهائلة من الصدوع العملاقة أو الأودية الخسيفة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض والتي تمتد لعشرات الآلاف من الكيلو مترات لتحيط بالأرض إحاطة كاملة في كل الاتجاهات تتصل ببعضها بعضًا وكأنها صدع واحد.
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. أقطارها أقل من 0.004 من الملِّيمتر.
[2]. من هذه الصدوع ما يتكون نتيجة الشد الصخري للأرض في اتجاهين متعاكسين، ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط فى اتجاهين متقابلين، كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض، وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عددًا من الهزات الأرضية، أما الصدوع القديمة فقد أصبح أغلبها خاملًا بلا حراك.
[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق.
[4]. المعجم الوسيط، مادة: صدع.
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م، ج4، ص498.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3880.
[7].) والأرض ذات الصدع (12) ((الطارق)، د. زغلول النجار، مقال منشور بموقع: www.islamonline.net.
[8]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص170: 181.
[9]. المرجع سابق، ص180، 181.
[10]. ) والأرض ذات الصدع ((الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[11]. صدع الأرض بين الإيجاز والإعجاز، د. ممدوح عبد الغفور حسن، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمى في القرآن والسنة www.55a.net.
[12]. )والأرض ذات الصدع( (الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[13].)وفي الأرض آيات للموقنين(20)((الذ اريات): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[14]. )والأرض ذات الصدع( (الطارق): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
إنكار الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (ولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين ما في قوله تعالى: ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: ٤١) من إعجاز علمي، ذاهبين إلى أن إنقاص الأرض الوارد في الآية لا علاقة له بما اكتشفه علماء الجيولوجيا من تناقص طول القطر القطبي عن طول القطر الاستوائي نتيجة لعوامل مختلفة، كالتجوية والتعرية.قائلين: إن تفسير إنقاص الأرض ـ في الآية ـ هو: موت العلماء، أو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها، أو هو فتح بلاد المشركين وتصييرها ديار إسلام، وهذا ما قاله المفسرون، أما التفسير الجيولوجي فلا يصلح أن تُفسَّر به الآية، وإلا لكانت خطابًا للكفار بما لا يعرفون.
وجه إبطال الشبهة:
ثمة معنيان لإنقاص الأرض من أطرافها، الأول: معنوي، وهو ما قال به المفسرون من خراب الأرض وموت علمائها، والثانى: جيولوجي؛ فقد ثبت علميًّا أن هناك نقصًا مستمرًّا في الأرض من حيث هي تعني: كوكب الأرض، أو اليابسة التي نحيا عليها، أو التربة التي تغطي اليابسة، ولا يجوز أن نقصر تفسير الآية على المعنى الأول دون الثاني كما يريد بعض المغالطين؛ لأنه لا يوجد في الإشارة القرآنية إلى إنقاص الأرض بالمعنى الجيولوجي ما يتعارض مع ما قد ثبت من حقائق العلوم، كما أن إثبات صحة المعنى الثاني ـ الجيولوجي ـ لا يقتضي بالضرورة بطلان الأول ـ المعنوي ـ بل إنهما في الآية يتكاملان من غير تضاد.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
ترد لفظة “الأرض” في القرآن الكريم بمعنى الكوكب ككل ، كما ترد بمعنى اليابسة التي نحيا عليها من كتل القارات والجزر البحرية والمحيطية، وإن كانت ترد أيضًا بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة، ولإنقاص الأرض من أطرافها في إطار كل معنى من تلك المعاني عددٌ من الدلالات العلمية التي منها ما يأتي:
أولا. في إطار دلالة لفظ “الأرض” على الكوكب ككل:
إنقاص الأرض من أطرافها، بمعنى انكماشها على ذاتها وتناقص حجمها باستمرار:
يُقدَّر متوسط قُطر الأرض الحالية بحوالي 12742 كم، ونصف ذلك؛ أي نصف قطر الأرض يساوي 6371 كم، ويقدر متوسط محيطها بنحو 40.042 كم، ويقدر حجمها بأكثر من مليون مليون كم3، وتفيد الدراسات أن أرضنا مرت بمراحل متعددة من التشكيل منذ انفصال مادتها عن سحابة الدخان الكوني التي نتجت عن عملية الانفجار العظيم، إما مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عبر سديم الدخان الذي تولدت عنه مجموعتنا الشمسية، وبذلك خلقت الأرض الأولية التي لم تكن سوى كومة ضخمة من الرماد ذات حجم هائل.
ثمما لبثت تلك الكومة أن رجمت بوابل من النيازك الحديدية، وبحكم كثافتها العالية نسبيًّا اندفعت النيازك الحديدية إلى مركز تلك الكومة من الرماد حيث استقرت، مولدة حرارة عالية تعرف باسم حرارة الاستقرار، أدَّت إلى صهر كومة الرماد وإلى تمايزها إلى سبع أرضين على النحو الآتي:
لبُّ صلب داخلي.
نطاق لب الأرض السائل (الخارجي).
النطاق الأسفل من وشاح الأرض (الوشاح السفلي).
النطاق الأوسط من وشاح الأرض (الوشاح الأوسط).
النطاق الأعلى من وشاح الأرض (الوشاح العلوي).
النطاق السفلي منالغلاف الصخري للأرض (ما دون قشرة الأرض).
النطاق العلوي من الغلاف الصخري للأرض (قشرة الأرض).
صورة قطاع في الأرض يوضح بنيتها الداخلية
وأدَّى هذا التمايز في التركيب الداخلي للأرض إلى نشوء دورات من تيارات الحمل، تندفعمن نطاق الضعف الأرضي (الوشاح الأعلى) غالبًا، ومن وشاح الأرض الأوسط أحيانًا، لتمزق الغلاف الصخري للأرض إلى عدد من الألواح التي شرعت في التحرك حركة دائبة حول نطاق الضعف الأرضي، وتنشأ عن حركة ألواح الغلاف الصخرى للأرض دورات من الثورات البركانية، والهزات الأرضية، والحركات البانية للجبال، كما نشأ عنها دحو الأرض؛ بمعنى: إخراج كل من غلافيها المائي والغازي من جوفها، وإخراج الصهارة الصخرية التي تكوِّن كتل القارات.
وتُشير حسابات ذلك الدحو إلى أن حجم الأرض البدائية كان على الأقل يصل إلى مائة ضعف حجم الأرض الحالية، وأن هذا الكوكب قد أخذ منذ اللحظة الأولى لخلقه في الانكماش علىذاته من كافة أطرافه.
وانكماش الأرض على ذاتها سنة كونية لازمة للمحافظة على العلاقة النسبية بين كتلتي الأرض والشمس، هذه العلاقة التي تضبط بُعد الأرض عن الشمس، ذلك البعد الذي يحكم كمية الطاقة الواصلة إلينا.
ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بنحو مئة وخمسين مليونًا من الكيلو مترات، وإذا علمنا أن كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلى كل كوكب من كواكب مجموعتها تتناسب تناسبًا عكسيًّا مع بُعد الكوكب عن الشمس، وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها، بينما يتناسب طول سنة الكوكب([1]) تناسبًا طرديًّا مع بعده عن الشمس ـ اتَّضحت لنا الحكمة من استمرارية تناقص الأرض وانكماشها على ذاتها؛ أي: تناقصهامن أطرافها.
ولو زادت الطاقة التي تصلنا من الشمس عن القدر الذي يصلنا اليوم قليلًا لأحرقتنا، وأحرقت كل حي على الأرض، ولبخرت الماء، وخلخلت الهواء، ولو قلت قليلًا لتجمدنا وتجمد كل حي غيرنا على الأرض، ولقضي على الحياة الأرضية بالكامل.
ومن الثابت علميًّا أنالشمس تفقد من كتلتها في كل ثانية نحو خمسة ملايين من الأطنان على هيئة طاقة ناتجة من تحول غاز الإيدروجين بالاندماج النووي إلى غاز الهيليوم.
وللمحافظة علىالمسافة الفاصلة بين الأرض والشمس، لا بُدَّ وأن تفقد الأرض من كتلتها قدرًا متناسبًا تمامًا مع ما تفقده الشمس من كتلتها، ويخرج ذلك عن طريق كل من فوهات البراكين وصدوع الأرض على هيئة الغازات والأبخرة وهباءات متناهية الضآلة من المواد الصلبة التي يعود بعضها إلى الأرض، ويتمكن بعضها الآخر من الإفلات من جاذبية الأرض والانطلاق إلى صفحة السماء الدنيا، وبذلك الفقدان المستمر من كتلة الأرض فإنها تنكمش على ذاتها، وتنقص من كافة أطرافها، وتحتفظ بالمسافة الفاصلة بينها وبين الشمس.
ولولا ذلك الانتقاص من أطراف الأرض لانطلقت من عقال جاذبية الشمس لتضيع في صفحة الكون وتهلكويهلك كل من عليها، أو انجذبت إلى قلب الشمس حيث الحرارة في حدود 15 مليون درجة مئوية؛ فتنصهر وينصهر كل ما بها ومن عليها.
ومن حكمة الله البالغة أن كمية الشهب والنيازك التي تصل الأرض يوميًّا تلعب دورًا مهمًّا في ضبط العلاقة بين كتلتي الأرض والشمس، إذا زادت كمية المادة المنفلتة من عقال جاذبية الأرض عن القدر المقنن لها([2]).
فكوكب الأرض في عملية انكماش مستمرة لأقطاره بسبب التبريد التدريجي بعد أن كان جمرة من نار… وباستمرار التبريد تقلص باطن الأرض فنقص حجمه، وصارت القشرة الجامدة تغطي سطحًا أقل في المساحة من ذي قبل، فتجعدت بارتفاع هنا وانخفاض هناك، تمامًا كما تتجعد قشرة البرتقالة عندما تجف وتنكمش([3]).
إنقاص الأرض من أطرافها بمعنى: تفلطحها قليلًا عند خط الاستواء:
في القرن السابع عشر الميلادي أثبت نيوتن نقص تكوُّر الأرض، وعلله بأن مادة الأرض لا تتأثر بالجاذبية نحو مركزها فحسب, ولكنها تتأثر كذلك بالقوة الطاردة (النابذة) الناشئة عن دوران الأرض حول محورها.
وقد نتج عن ذلك انبعاج بطيء في الأرض ولكنه مستمر عند خط الاستواء؛ حيث تزداد القوة الطاردة المركزية حتى تصل إلى ذروتها, وتقل قوة الجاذبية إلى المركز إلى أدني قدر لها.
ويقابل ذلك الانبعاج الاستوائي تفلطح ـ انبساط ـ غير متكافئ عند قطبي الأرض حيث تزداد قوتها الجاذبة, وتتناقص قيمة القوة الطاردة المركزية، والمنطقة القطبية الشمالية أكثر تفلطحًا من المنطقة القطبية الجنوبية، ويقدر متوسط قطر الأرض الاستوائي بنحو 12756.3 كم, ونصف قطرها القطبي بنحو 12713.6 كم، وبذلك يصبح الفارق بين القطرين نحو 42.7 كم, ويمثل هذا التفلطح نحو 0.33% من نصف قطر الأرض, مما يدل علي أنها عملية بطيئة جدًّا تقدر بنحو 1سم تقريبًا كل ألف سنة, ولكنها عملية مستمرة منذ بدء خلق الأرض, وهي إحدي عمليات إنقاص الأرض من أطرافها([4]).
وهذه حقيقة عليمة مدهشة توصلت إليها البحوث العلمية الأخيرة؛ إذ ثبت أن سرعة دوران الأرض حول محورها وقوة طردها المركزي، يؤديان إلى تفلطح في القطبين وهو نقص في طرفي الأرض.
وكذلك فإن سرعة انطلاق جزيئات الغازات المغلفة للكرة الأرضية، إذا ما جاوزت قوة الجاذبية الأرضية، فإنها تنطلق إلى خارج الكرة الأرضية، وهذا يحدث بصفة مستمرة، فتكون الأرض في نقص مستمر لأطرافها([5]).
إنقاص الأرض من أطرافها، بمعنى اندفاع قيعان المحيطات تحت القارات وانصهارها، وذلك بفعل تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض:
يمزق الغلاف الصخري للأرض بواسطة شبكة هائلة من الصدوع العميقة التي تحيط بالأرض إحاطة كاملة, وتمتد لعشرات الآلاف من الكيلو مترات في الطول, وتتراوح أعماقها بين65 كم تحت قيعان البحار والمحيطات و120كم على اليابسة.
وتقسم هذه الشبكة من الصدوع الغلاف الصخري للأرض إلي 12 لوحًا رئيسيًّا، وإلى عدد من الألواح الصغيرة نسبيًّا, ومع دوران الأرض حول محورها تنزلق ألواح الغلاف الصخري للأرض فوق نطاق الضعف الأرضي متباعدة عن بعضها البعض, أو مصطدمة مع بعضها البعض, ويعين على هذه الحركة اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات الصدوع، خاصة عبر تلك المستويات التصدعية التي تمزق قيعان البحار والمحيطات والتي تشكل محاور حواف أواسط المحيطات، فتؤدي إلى اتساع قيعان البحار والمحيطات وتجدد صخورها باستمرار, وذلك لأن الصهارة الصخرية المتدفقة بملايين الأطنان عبر مستويات صدوع أواسط المحيطات، تؤدي إلى دفع جانبي قاع المحيط يمنة ويسرة لعدة سنتيمترات في السنة الواحدة, وينتج عن ذلك ملء المسافات الناتجة عن هذا التوسع بالطفوحات البركانية المتدفقة، والتي تبرد وتتصلب علي هيئة أشرطة متوازية تتقادم في العمر، في اتجاه حركة التوسع, وينتج عن هذا التوسع اندفاع صخور قاع المحيط يمنة ويسرة, في اتجاهي التوسع ليهبط تحت كتل القارات المحيطة في الجانبين بنفس معدل التوسع (أي: بنصفه في كل اتجاه), وتستهلك صخور قاع المحيط الهابطة تحت القارتين المحيطتين، وذلك بالانصهار في نطاق الضعف الأرضي.
وكما يصطدم قاع المحيط بكتل القارتين أو القارات المحيطة بحوض المحيط أو البحر, فإن العملية التصادمية قد تتكرر بين كتل قاع المحيط الواحد، فتتكون الجزر البركانية وينقص قاع المحيط.
كذلك يمكن أن تحدث عملية التصدع والتباعد في أواسط القارة، فتؤدي إلى فصلها إلى كتلتين قاريتين ببحر طولي، مثل: البحر الأحمر، ويظل هذا البحر الطولي في الاتساع حتى يتحول إلى محيط في المستقبل البعيد، وفي كل الحالات تستهلك صخور الغلاف الصخري للأرض عند خطوط التصادم, وتتجدد عند خطوط التباعد, وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها.
وتتخذ ألواح الغلاف الصخري للأرض في العادة أشكالًا رباعية يحدُّها من جهة خطوط انفصام وتباعد, يقابلها في الجهة الأخرى خطوط التحام وتصادم, وفي الجانبين الآخرين حدود انزلاق, تتحرك عبرها ألواح الغلاف الصخري منزلقة بحرية عن بعضها البعض، وتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض يؤدي باستمرار إلى استهلاك صخور قيعان كل محيطات الأرض, وإحلالها بصخور جديدة, وعلى ذلك فإن محاور المحيطات تشغلها صخور بركانية ورسوبية جديدة قد لا يتجاوز عمرها اللحظة الواحدة, بينما تندفع الصخور القديمة ـ التي قد يتجاوز عمرها المئتي مليون سنة ـ عند حدوث تصادم قاع المحيط مع القارات المحيطة به, والصخور الأقدم عمرًا من ذلك تكون قد هبطت تحت كتل القارات وهضمت في نطاق الضعف الأرضي وتحولت إلى صهارة, وهي صورة رائعة من صور إنقاص الأرض من أطرافها.
خريطة للعالم توضح الصدوع في قيعان المحيطات
ويبدو أن هذه العمليات الأرضية المتعددة كانت في بدء خلق الأرض تتم بمعدلات أشد عنفًا من معدلاتها الحالية؛ وذلك لتمتُّع جوف الأرض عند بدء الخلق بدرجات حرارة تفوق درجاتها الحالية، وذلك بسبب الكم الهائل من الحرارة المتبقية عن الأصل الذي انفصلت منه الأرض, والكم الهائل من العناصر المشعة الآخذة في التناقص باستمرار، بتحللها الذاتي منذ بدء تجمد مادة الأرض([6]).
ثانيًا. في إطار دلالة لفظ “الأرض” على اليابسة التي نحيا عليها:
في هذا الإطار نجد معنيين علميين واضحين نوجزهما فيما يأتي:
إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني أخذ عوامل التعرية المختلفة من المرتفعات السامقة، وإلقاء نواتج التعرية في المنخفضات من سطح الأرض حتى تتم تسوية سطحها:
فسطح الأرض ليس تام الاستواء، وذلك بسبب اختلاف كثافة الصخور المكونة للغلاف الصخري للأرض, وكما حدث انبعاج في سطح الأرض عند خط الاستواء, فإن هناك نتوءات عديدة في سطحها حيث تتكون قشرتها من صخور خفيفة, وذلك من مثل: كتل القارات والمرتفعات البارزة على سطحها, وهناك أيضًا انخفاضات مقابلة لتلك النتوءات؛ حيث تتكون قشرة الأرض من صخور عالية الكثافة نسبيًّا، وذلك من مثل: قيعان المحيطات والأحواض المنخفضة على سطح الأرض.
ويبلغ ارتفاع أعلى قمة على سطح الأرض، وهي قمة جبل إفرست في سلسلة جبال الهيمالايا 8840م فوق مستوى سطح البحر, ويقدر منسوب أخفض نقطة على اليابسة وهي حوض البحر الميت بحوالي 395م تحت مستوى سطح البحر, ويبلغ منسوب أكثر أغوار الأرض عمقًا حوالي 11020م وهو غور ماريانا في قاع المحيط الهادي بالقرب من جزر الفلبين, والمسافة بين أعلى نقطة على سطح الأرض وأخفض نقطة عليها، هو أقل من عشرين كيلو مترًا (19860م), وهو فارق ضئيل إذا قورن بنصف قطر الأرض المقدر بحوالي 12742 كم في المتوسط.
ويبلغ متوسط ارتفاع سطح الأرض حوالي 840م فوق مستوى سطح البحر، بينما يبلغ متوسط أعماق المحيطات حوالي أربعة كيلو مترات تحت مستوى سطح البحر (3729 م إلى 4500 م تحت مستوى سطح البحر).
وهذا الفارق البسيط هو الذي أعان عوامل التعرية المختلفة على بري صخور المرتفعات وإلقائها في منخفضات الأرض في محاولة متكررة لتسوية سطحها… فإذا بدأنا بمنطقة مرتفعة ولكنها مستوية يغشاها مناخ رطب, فإن مياه الأمطار سوف تتجمع في منخفضات المنطقة على هيئة عدد من البحيرات والبرك، حتى يتكون للمنطقة نظام صرف مائي جيد.
وعندما تجري الأنهار فإنها تنحر مجاريها في صخور المنطقة حتى تقترب من المستوى الأدنى للتحات فتسحب كل مياه البحيرات والبرك التي تمر بها, وكلما زاد النحر إلى أسفل تزايدت التضاريس تشكلًا وبروزًا, وعندما تصل بعض المجاري المائية إلى المستوى الأدنى للتحات، فإنها تبدأ في النحر الجانبي لمجاريها بدلًا من النحر الرأسي، فيتم بذلك التسوية الكاملة لتضاريس المنطقة على هيئة سهول مستوية (أو سهوب) تتعرج فيها الأنهار, وتتسع مجاريها, وتضعف سرعات جريها وقدراتها على النحر, وبعد الوصول إلى هذا المستوى أو الاقتراب منه يتكرر رفع المنطقة وتعود الدورة إلى صورتها الأولى.
وتعتبر هذه الدورة ـ التي تعرف باسم “دورة التـسهب” (Pene PlanationCycle) صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها، وينخفض منسوب قارة أمريكا الشمالية بهذه العملية بمعدل يصل إلى 0.03 من المليمتر في السنة.
إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني: طغيان مياه البحار والمحيطات على اليابسة:
من الثابت علميًّا أن الأرض قد بدأت منذ القدم بمحيط غامر, ثم بتحرك ألواح الغلاف الصخري الابتدائي للأرض، والثورات البركانية المصاحبة له بدأت جزر بركانية عديدة في التكوُّن في قلب هذا المحيط الغامر, وبتكرار تصادم تلك الجزر تكوَّنت القارة الأم، التي تفتَّتت بعد ذلك إلى القارات السبع الحالية.
وتبادل الأدوار بين اليابسة والماء سنة أرضية، تُعرف باسم “دورة التبادل بين المحيطات والقارات”، وبواسطتها تحوَّلت أجزاء من اليابسة إلى بحار أو العكس، ومن نماذجها المعاصرة كل من البحر الأحمر, وخليج كاليفورنيا, وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها.
ليس هذا فقط، بل إن من الثابت علميًّا أن غالبية الماء العذب على اليابسة محجوز على هيئة تتابعات هائلة من الجليد فوق قطبي الأرض وقمم الجبال, يصل سمكها في القطب الجنوبي إلى أربعة كيلو مترات, ويقترب من هذا السمك قليلًا في القطب الشمالي (3800 م), وانصهار هذا السمك الهائل من الجليد سيؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات لأكثر من مئة متر, وقد بدأت بوادر هذا الانصهار, وإذا تم ذلك فإنه سوف يُغرق أغلب مساحات اليابسة ذات التضاريس المنبسطة حول البحار والمحيطات، وهي صورة من صور إنقاص الأرض من أطرافها, وفي ظل التلوث البيئي الذي يعمُّ الأرض اليوم, والذي يؤدي إلى رفع درجة حرارة نطاق المناخ المحيط بالأرض مباشرة ـ بات انصهار هذا السمك الهائل من الجليد أمرًا محتملًا([7]).
لقد اكتشف العلماء حديثًا ظاهرة تآكل الأرض من أطرافها، وهذه الصورة التي التقطتها وكالة ناسا يقول العلماء عنها: إنها تمثل دليلًا على نقصان الأرض من أطرافها، فأطراف القارة المتجمدة تذوب وتنحسر ويتناقص حجمها، وعلماء الجيولوجيا يقولون: إن القشرة الأرضية عند نهاياتها أو أطرافها تتآكل أيضًا وتترسب هذه المواد في قاع المحيطات([8])
وقد حدث ذلك مرات عديدة في تاريخ الأرض الطويل الذي تردد بين دورات يزحف فيها الجليد من أحد قطبي الأرض أو منهما معًا في اتجاه خط الاستواء, وفترات ينصهر فيها الجليد فيؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات، وفي كلتا الحالتين تتعرض حواف القارات للغمر وللتعرية بواسطة مياه البحار والمحيطات فتؤدي إلى إنقاص الأرض (اليابسة) من أطرافها.
وذلك لأن مياه كل من البحار والمحيطات دائمة الحركة بفعل دوران الأرض حول محورها, وباختلاف كل من درجات الحرارة والضغط الجوي, وتباين نسب الملوحة من منطقة إلى أخرى، وتؤدي حركة المياه في البحار والمحيطات من مثل: التيارات المائية, وعمليات المد والجزر, والأمواج السطحية والعميقة إلى ظاهرة التآكل (التحات) البحري وهو الفعل الهدمي لصخور الشواطئ، وهو من عوامل إنقاص الأرض (اليابسة) من أطرافها([9]).
صورة لتآكل شواطئ البحار بفعل الأمواج
ثالثًا. في إطار دلالة لفظ الأرض على التربة التي تغطي صخور اليابسة:
إنقاص الأرض من أطرافها، بمعني التصحر:
أي: زحف الصحراء على المناطق الخضراء، وانحسار التربة الصالحة للزراعة في ظل إفساد الإنسان لبيئة الأرض، وقد بدأ زحف الصحاري على مساحات كبيرة من الأرض الخضراء بسبب ندرة المياه, ونتيجة لموجات الجفاف وللجور على مخزون المياه تحت سطح الأرض, وبسبب الرعي الجائر، واقتلاع الأشجار، وتحويل الأرض الزراعية إلى أرض للبناء، الأمر الذي أدَّى إلى تملح التربة, وتعريتها بمعدلات سريعة تفوق بكثير محاولات استصلاح بعض الأراضي الصحراوية.
أضف إلى ذلك التلوث البيئي, والخلل الاقتصادي في الأسواق المحلية والعالمية, وتذبذب أسعار كل من الطاقة والآلات والمحاصيل الزراعية، الأمر الذي يجعل العالم يواجه أزمة حقيقية تتمثل في انكماش المساحات المزروعة سنويًّا بمعدلات كبيرة، خاصة في المناطق القارية وشبه القارية نتيجة لزحف الصحاري عليها, ويمثل ذلك صورة من صور خراب الأرض بإنقاصها من أطرافها([10]).
رسم يوضح حزام التصحر في قارة أقريقيا
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
في قوله تعالى: ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: 41) أشار المولى عز وجل إلى إنقاص الأرض من أطرافها، وهي حقيقة جامعة لم يدركها الإنسان إلا مؤخرًا.
وقد وردت لفظة الأرض في القرآن الكريم بمعنى الكوكب ككل، كما وردت بمعنى اليابسة التي نحيا عليها من كتل القارات والجزر البحرية والمحيطة، وإن كانت ترد أيضًا بمعنى التربة التي تغطي صخور اليابسة.
فهل يقتصر معنى إنقاص الأرض من أطرافها على الدلالة المعنوية فقط، أم أنه يشتمل على الحقائق العلمية الحديثة؟ وهل تتطابق هذه الحقائق مع ما أشار إليه القرآن الكريم؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بُدَّ من التعرف على بعض أقوال المفسرين في الآية، وذكر بعض الدلالات اللغوية للألفاظ الواردة بها:
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى: )أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها( (الرعد: 41)، ذكر ابن كثير : قول ابن عباس رضي الله عنهما : أو لم يروْا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وفي رواية أخرى قال ابن عباس: إنقاصها من أطرافها هو خرابها بموت علمائها، وفقهائها، وأهل الخير منها. كذلك ذكر ابن كثير قول كل من مجاهد وعكرمة: إنقاص الأرض من أطرافها معناه: خرابها، أو هو موت علمائها([11]).
وذكرصاحبا تفسير الجلالين أن قوله تعالى: )أولم يروا ((الرعد:41)؛ أي: أهل مكة، )أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد:41)نقصد أرضهم، )ننقصها من أطرافها((الرعد:41) بالفتح على النبي صلى الله عليه وسلم ([12]).
وقال صاحب الظلال رحمه الله “وإن يد الله القوية لبادية الآثار فيما حولهم، فهي تأتي الأمم القوية الغنية ـ حين تبطر وتكفر وتفسد، فتنقص من قوتها وتنقص من ثرائها وتنقص من قدرها، وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وذات امتداد ، وإذا حكم الله عليها بالانحسار فلا معقب لحكمه ، ولا بُدَّ له من النفاذ”([13]).
ويوضِّح الشيخ الشعراوي أن تعريف الأرض في الآية: يجعلها مجهولة؛ لأننا حين نرغب في أن نعرف الأرض قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها، وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر([14]).
فالآية لم تحدِّد معنى خاصًّا للإنقاص من أطراف الأرض، كما لم تنف إمكان وقوعه متنوعًا ماديًّا ومعنويًّا، ولكل مفسر للقرآن الكريم أن يجتهد في حدود العلوم والمعارف المتاحة في عصره.
من الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
o يَرَوْا: الرؤية بالعين تتعدَّى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين… وقال ابن سيده: الرؤية: النظر بالعين والقلب([15]).
o نأتي: الإتيان: المجيء([16]).
o ننقصها: نقص الشيء نقصًا ونقصانًا: خس وقل، ويقال: نقص عقله أو دينه: ضعف، والشيء: صيَّره ناقصًا([17]). والنقص: الخسران في الحظ، والنقصان يكون مصدرًا ويكون قدر الشيء الذاهب من المنقوص. نقص الشيء ينقص نقصًا ونقصانًا… وأنقصه وانتقصه وتنقصه: أخذ منه قليلًا قليلًا([18]).
o أطرافها: الأطراف من البدن: اليدان والرجلان والرأس… ومن المجاز: أطراف الأرض: أشرافها وعلماؤها… وقال الأزهري: أطراف الأرض: نواحيها، ونقصها من أطرافها: موت علمائها([19]). وطرف الشيء: جانبه، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرهما([20]).
ومن ثم فإن المعاني العلمية التي ذكرناها آنفًا تعطي بُعدًا علميًّا رائعًا لمعنى إنقاص الأرض من أطرافها، ولا يتعارض ذلك أبدًا مع الدلالة المعنوية للتعبير القرآني عن خراب الأرض الذي استنتجه المفسرون بل يُكمله ويُجليه.
وعلى عادة القرآن الكريم تأتي الإشارة الكونية بمضمون معنوي محدد، ولكن بصياغة علمية معجزة، تبلغ من الشمول والكمال والدقة ما لم يبلغه علم الإنسان.
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها، وناسب التعبير بصيغة المضارع “ننقصها” التجدد والاستمرار في الفعل نفسه كما أثبت ذلك العلم الحديث، وقد يرى القادمون في قوله تعالى:)أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها((الرعد: ٤١) فوق ما نراه نحن اليوم؛ ليظل القرآن الكريم مهيمنًا على المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها، فالقرآن الكريم يخاطب الإنسان في كل زمان ومكان.
3) وجه الإعجاز:
أشارت الآية القرآنية إلى بعض الحقائق التي لا تتعارض مع الدلالة المعنوية للتعبير؛ إذ ثبت أن سرعة دوارن الأرض حول محورها، وقوة طردها المركزي يؤديان إلى تفلطح في القطبين، وهو نقص في طرفي الأرض، وكذلك ثبت أن سرعة انطلاق جزيئات الغازات المغلفة للكرة الأرضية، إذا ما جاوزت قوة جاذبية الأرض لها، فإنها تنطلق إلى خارج الكرة الأرضية، وهذا يحدث بصفة مستمرة فتكون الأرض في نقص مستمر لأطرافها.
وأيضًا فإن زحف التصحُّر على المناطق الخضراء يُعدُّ إنقاصًا للأرض من أطرافها. ومن الإعجاز العلمي في الآية أن الإشارة العلمية الدقيقة إلى حقيقة إنقاص الأرض تشمل كل هذه الأنواع من الإنقاص، كما تدل على استمرارية هذه العملية من خلال التعبير بالفعل المضارع “ننقصها” الدال على التجدد والاستمرار.
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. سنة الكوكب: هي المدة التي يستغرقها في إتمام دورة كاملة حول الشمس.
[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص153: 158.
[3]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص452، 453 بتصرف.
[4]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص158، 159.
[5]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص236.
[6]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم،
د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص159: 161 بتصرف.
[7]. المرجع السابق، ص161، 162 بتصرف.
[8]. أطراف الأرض تتآكل، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com. منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[9]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص162، 163.
[10]. المرجع السابق، ص164.
[11]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص520 بتصرف.
[12]. تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، مكتبة الصفا، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص254 بتصرف.
[13]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، ص2065.
[14]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج12، ص7403 بتصرف.
[15]. لسان العرب، مادة: رأى.
[16]. لسان العرب، مادة: أتى.
[17]. المعجم الوسيط، مادة: نقص.
[18]. لسان العرب، مادة: تقص.
[19]. تاج العروس، مادة: طرف.
[20]. المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص302.
نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر)
مضمون الشبهة:
ينفي بعض المتوهمين الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم)، ذاهبين إلى أن تفسير الفساد في الآية بالتلوث البيئي والقضاء على كثير من مظاهر الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية بسبب الحضارة الصناعية لم يقل به أحد من المفسرين القدامى، وأن جُلَّ ما قالوه في الفساد لا يعدو: القحط، وقلة المطر، وكثرة الحرق والغرق، ومحق البركات من كل شيء… إلخ. ويتساءلون: كيف يكون تلوث البيئة اكتشافًا علميًّا وإعجازًا قرآنيًّا؟!
وجه إبطال الشبهة:
في قوله تعالى:)ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١) إشارة إلى الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، والذي تعاني منه الأرض وأحياؤها اليوم أشد المعاناة؛ ومن ثم فإن هذه الآية الكريمة من آيات الإعجاز العلمي والغيبي؛ لأنه لم يكن لأحد من الخلق إمكانية تصور الواقع الحالي البئيس للأرض من قبل ألف وأربع مئة من السنين، وهذا لا يتعارض مع التفسير القديم للآية كما توهم الطاعن؛ فكلٌّ ـ سواء المفسرون القدامى أم نحن في عصرنا ـ قد فسَّر الآية بمعطيات عصره.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
خلق الله تعالى كوكب الأرض، ووفَّر فيه كل أسباب الأرزاق وأسباب استمرار الحياة لكل الأحياء، وجعل له غلافًا جَوِّيًّا ضروريًّا، ووفْرة في الماء، وخصوبة في التربة، وظلت البيئة بدون تلوث حتى قامت النهضة الصناعية منذ القرن الماضي، وبدأت مشكلة تلوث البيئة معها.
إن للمدنيَّة الحديثة وجهين؛ وجه الرفاهية والتطور إلى الأفضل، ووجه تلوث البيئة والتغيير إلى الأسوأ، وقد كان الظن أن المدنيَّة الحديثة والتقدم التكنولوجي والصناعي سيحلُّ مشكلات الإنسان ويجلب الرفاهية والسعادة والحياة الأفضل، إلا أن الذي حدث كان عكس ما كان مرجوًّا ومأمولًا؛ فقد تلوَّث الجو وتلوثت البحار والأنهار، الأمر الذي يحمل أخطارًا كبيرة للأحياء على هذه الأرض([1]).
وفى عام 2007م عقد علماء البيئة اجتماعًا في فرنسا (مؤتمر باريس 2 فبراير 2007م)، وخرجوا بثلاث نتائج اتفق عليها أكثر من 500 عالم من مختلف دول العالم:
o لقد بدأت نسب التلوث تتجاوز حدودًا لم يسبق لها مثيل من قبل في تاريخ البشرية، وهذا يؤدي إلى إفساد البيئة برًّا وبحرًا ؛ ففي البر هنالك فساد في التربة، وفساد في المياه الجوفية وتلوثها، وفساد في النباتات؛ حيث اختلَّ التوازن في حرارة الجو، وفي البحر بدأت الكتل الجليدية بالذوبان بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وبدأت الكائنات البحرية بالتضرر نتيجة ذلك.
إذًا هنالك فساد في البيئة، وهذا ما عبَّر عنه أحد العلماء، وهو الدكتور جفري شانتون ـ أحد علماء البيئة في جامعة فلوريدا ـ بقوله:
Carbon dioxide (co2), has increased in the atmosphere and now threatens to spoil our nest.
زترجمة هذا : “إن غاز الكربون ازداد في الغلاف الجوي بشكل أصبح ينذر بفساد أرضنا”، وانظر كيف يستخدم هذا العالم فعل الإفساد للبيئة!
ويقول العلماء: إن درجة حرارة الأرض سترتفع ثلاث درجات خلال هذا القرن إن لم تُتخذ الإجراءات المناسبة، يتضح هذا من خلال المخطط الآتي:
والمخطَّط السابق يبيِّن أن معدل درجة الحرارة ارتفع درجة خلال المائة سنة الماضية، وهذا الارتفاع سوف يؤدي إلى كثير من الكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير وازدياد التصحُّر والأمطار الحامضية وغير ذلك.
o اتفق هؤلاء العلماء على أن الإنسان هو المسئول عن هذا الإفساد البيئي، وذلك بسبب إفراطه وعدم مراعاته للتوازن البيئي الطبيعي؛ فالحروب والتلوث والإفراط في استخدام التكنولوجيا، دون مراعاة البيئة وقوانينها، كلُّ ذلك أدَّى إلى تسارع في زيادة نسبة الكربون في الجو؛ حيث تضاعفت نسبته أكثر من عشرة أضعاف منذ بداية الثورة الصناعية (أي منذ 300 سنة).
توجد ظاهرة تُسمَّى “الاحتباس الحراري”، فالغازات الناتجة عن المصانع والسيارات تُحبس داخل الغلاف الجوي فترفع درجة حرارته وتلوث الجو والبر والبحر، وتؤدي إلى ازدياد نسبة الكربون، وقد أكَّد العلماء أن الناس هم الذين سببوا هذا الإفساد في البيئة وأخلُّوا بالتوازن الطبيعي لها
o وجَّه العلماء في نهاية اجتماعهم نداءً عاجلًا وإنذارًا لجميع دول العالم أن يتخذوا الإجراءات السريعة والمناسبة للحدِّ من التلوث لتلافي الأخطار الناتجة عن التلوث الكبير في الجو والبحر واليابسة([2]).
ظهور الفساد في البر:
أفادت دراسة علمية بأن التغيرات المناخية قد تؤدي إلى انقراض ملايين الكائنات الحية بحلول عام 2050م، وأوضح معدُّو الدارسة ـ التي نشرت في دورية نيتشر([3])ـ أنه بعد دراسة مطولة لست مناطق في العالم، اتضح أن ربع الكائنات الحية التي تعيش في البر قد تنقرض، وأضافوا أن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليل نسبة الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، قد ينقذ العديد من أنواع الكائنات الحية من الاندثار، وها هي الأمم المتحدة تؤكد أن هذه الظاهرة الخطيرة تهدد ملايين البشر الذين يعتمدون على الطبيعة للبقاء على قيد الحياة.
وفي تقرير يحمل اسم “خطر الانقراض الناجم عن التغيرات المناخية”، نشر العلماء نتائج دراستهم لست مناطق تتميز بالتنوع الأحيائي، وتمثل 20 بالمئة من مساحة اليابسة على كوكب الأرض، واستخدمت الدراسة نماذج إلكترونية لمحاكاة رد فعل 1103 أنواع من الكائنات الحية بما فيها الثدييات والنباتات والطيور والزواحف والضفادع والفراشات، إزاء أي تغير في درجات الحرارة ومناخ الأراضي التي تعيش بها، ووضع العلماء ثلاثة احتمالات لتغير مناخ الأرض، وهي أقل تغير ممكن.
وتم إعداد هذه الاحتمالات على أساس بيانات مستقاة من اللجنة الحكومية البريطانية للتغيرات المناخية، كما اشتملت الدراسة على تقييم ما إذا كانت تلك الحيوانات والنباتات ستكون قادرة على الانتقال إلى مناطق جديدة أم لا.
ويؤكد فريق العمل الذي شارك في الدراسة أن ما بين 15و 37 من كافة الكائنات الحية التي تعيش في المناطق التي شملتها الدراسة قد تتعرض للانقراض بسبب التغيرات المناخية على مدار الأعوام القادمة وحتى سنة 2050م.
ويقول الأستاذ “كريس توماس” (ا) ـ من جامعة ليدز الإنجليزية والذي يترأَّس فريق البحث ـ: “إذا تم تعميم هذه الاستنتاجات في جميع أنحاء العالم وعلى أنواع أخرى من الحيوانات والنباتات البرية، فإننا نُرجِّح أن ملايين أنواع الكائنات الحية قد تتعرض لخطر الانقراض، فبعض الأنواع ستحرم من البيئة المناخية المواتية لمعيشتها، كما لن تتمكن بعض الأنواع الأخرى من الهجرة إلى مواقع ذات بيئة ملائمة”.
إن كثيرًا من الآثار الخطيرة للتغيرات المناخية سوف تؤدي إلى التفاعل بين التهديدات المختلفة وليس تغير المناخ نفسه، وهذا الأمر لم يتوقعه العلماء، لكنهم أوضحوا أن هناك بعض المؤشرات على أن الأمور لن تتدهور بدرجة كبيرة؛ حيث أكدوا أنه في حالة حدوث أقل تغير مناخي حتى عام 2050م، وهو ما اعتبروه أمرًا حتميًّا، فإن ذلك يعني أن 18 بالمئة من أنواع الكائنات الحية المتضررة ستندثر، أما في حالة حدوث تغير مناخي متوسط المستوى فإن معدل الانقراض سيصل إلى 24 بالمئة، بينما سيبلغ معدل الانقراض 35 بالمئة إذا وقع أقصى تغير مناخي يمكن أن تتعرض له الأرض خلال الأعوام القادمة.
وقال “جون لانشبيري”(2) ـ من الجمعية البريطانية الملكية لحماية الطيور، الذي درس علوم التغير المناخي وأنماطه لسنوات ـ : “يبدو الأمر كما لو أننا ليس بوسعنا اتخاذ أي إجراء لتفادي انقراض بعض الأنواع، يجب علينا دائمًا محاولة الالتزام بأقل سيناريوهات الدراسة ضررًا”.
ويقول الدكتور “كلاوس توبفير”(3) ـ رئيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة ـ : “إذا انقرض مليون نوع من الكائنات، فإن الضرر لن يقع فقط على مملكة النبات أو الحيوان أو الشكل الجميل للأرض، بل المليارات من البشر، وخاصة سكان الدول النامية؛ لأنهم يعتمدون على الطبيعة التي توفر لهم حاجاتهم الأساسية من غذاء وأدوية ومأوى”.
ظهور الفساد في البحر:
يؤكد العلماء أن كمية غاز ثاني أكسيد الكربون التي تمتصها المحيطات في العالم قد قلَّت، وأخذ باحثون من جامعة إيست أنجليا أكثر من 90 ألف قياس، بفضل سفن تجارية مزودة بأجهزة إلكترونية لتحديد كمية ثاني أكسيد الكربون التي امتصتها المحيطات، وأظهرت نتائج الدراسة التي أنجزها فريق البحث على مدى عشر سنوات في شمال المحيط الأطلسي أن كمية ثاني أكسيد الكربون التي امتصها المحيط قلت بنسبة النصف ما بين أواسط التسعينيات من القرن الماضي وحتى عام 2005م، ويعتقد العلماء أن ارتفاع درجة حرارة الأرض يزداد سوءًا في حال امتصاص المحيطات كميات أقل من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
وقال الباحثون: إن نتائج أبحاثهم التي نُشرت في مجلة جيوفيزكال ريسرتش العلمية كانت مفاجئة ومقلقة في الوقت ذاته؛ فقد كانت هناك أسباب تدعو للاعتقاد أن عامل الزمن من شأنه جعل المحيطات مُشبعة بالانبعاثات الغازية، ويعتقد العلماء أن الاحتباس الحراري يزداد سوءًا في حال امتصاص المحيطات كميات أقل من الغازات.
ويقول “روجر هاربين” ـ محلِّل بي بي سي لشئون البيئة ـ : “الباحثون لا يعرفون ما إن كان التغيُّر الحاصل ناتج عن التغير المناخي أو يُعزى إلى تغيرات أخرى تحدث في الطبيعة، غير أن الباحثين يقولون: إن نتائج أبحاثهم تمثل مفاجأة كبرى ومصدر قلق لهم بسبب وجود ما يدعو إلى الاعتقاد أنه مع مرور الوقت، فإن المحيط قد يصبح مشبعًا بانبعاثاتنا؛ أي إنه غير قادر على امتصاص كميات إضافية، وأن هذا الوضع سيجعل الانبعاثات التي نتسبب فيها ترفع درجة حرارة الجو، ولا يبقى من غازات ثاني أكسيد الكربون المنبعثة إلى الجو سوى نصف الكمية، بينما يتحول النصف الآخر إلى ترسبات فحمية”.
وتنبأ فريق من الباحثين البريطانيين والفنلنديين بأن منسوب مياه البحر قد يرتفع مع نهاية القرن الحالي بمعدل يصل إلى متر ونصف المتر مقارنة بالوضع الراهن، ويتجاوز الرقم الجديد بشكل كبير المستوى الذي كانت اللجنة الدولية لتغير المناخ (بي بي سي) قد تنبأت بالوصول إليه في إطار التقييم الذي كانت قد أجرته العام الماضي وشكَّل علامة فارقة في مجال دراسة علم المناخ؛ حيث رأت أن الارتفاع سيكون عام 2100م بين 28 و 43 سم فقط.
وتقول الدكتورة “سفيتلانا جيفريجيفا” ـ من مختبر براودمان لعلوم المحيطات ببريطانيا، وهي أحد أعضاء فريق البحث ـ : “إن المعدل العالمي لمستوى مياه البحر العالمي كان مستقرًّا للغاية على مر ألفي سنة مضت؛ إذ إنه تغيَّر بحدود 20 سم فقط خلال تلك الفترة، إلا أنه مع نهاية القرن الحالي، فإننا نتوقع أن يرتفع منسوب مياه البحر بمعدل يتراوح بين 0.8 و 1.5م؛ فإن الزيادة السريعة في ارتفاع منسوب مياه البحر خلال السنوات المقبلة مرتبطة بسرعة ذوبان الطبقات الجليدية”.
فوفقًا للدراسة الجديدة التي أعدَّها فريق الباحثين المشترك، سيكون لمثل هذا الارتفاع إلى هذا الحد في مستوى مياه البحر آثار جوهرية على البلدان التي تضم أراضٍ منخفضة مثل بنجلاديش.
ويقول الخبير “سايمون هولجيت” ـ خبير من مختبر براودمان لعلوم المحيطات، الواقع قرب مدينة ليفربول البريطانية: إن هنالك القليل من الأدلة الملموسة التي تشير إلى تغير في مستويات مياه البحر على مدى آلاف السنين قبل فترة الثلاث مئة سنة الماضية، هنالك بعض الأدلة الأثرية المحدودة التي تعتمد على ارتفاع أحواض الأسماك التي كان يستخدمها الرومان، وربما شكَّلت الدليل الأقوى على أنه لم يكن هنالك تغير كبير في منسوب مياه البحر على مر السنوات الـ 2000 الماضية.
إن الارتفاع المسجل حاليًّا في منسوب مياه البحر، والذي يصل إلى حوالي ثلاثة سنتمترات في العام الواحد، يُعتبر كبيرًا جدًّا، وإن العديد من العلماء العاملين في هذا الميدان يتوقعون أن يشهدوا تسارعًا أكبر في ارتفاع مستوى مياه البحر في المستقبل.
ولقد استخدم الباحث الألماني “ستيفان راهمستورف” (عام 2007م) طريقة مختلفة لقياس ارتفاع مستوى مياه البحر، لكنه توصَّل إلى نتيجة مشابهة لتلك التي توصل إليها فريق الدكتورة “جيفريجيفا”؛ إذ توقع ارتفاعًا في منسوب مياه البحر يتراوح ما بين 0.5 و 1.4 م في عام 2100.
وتشير آخر المعلومات التي تم الحصول عليها عن طريق القمر الصناعي إلى أن طبقات الجليد في جرينلاند ومناطق غربي القطب الجنوبي بدأت بالفعل تفقد جزءًا من كتلتها بفعل ذوبان الجليد، على الرغم من أن الطبقات الجليدية في شرقي القارة القطبية الجنوبية قد تكون آخذة بدورها في الازدياد.
ظهور الفساد في عالم النبات والحيوان والطيور:
جاء في دراسة علمية جديدة أن ظاهرة التغير المناخي تسببت في تغييرات بارزة في النبات والحيوان، وجاء في دراسات أخرى أن ارتفاع الحرارة بمعدل ستة بالعشرة من الدرجة المئوية في القرن العشرين أدَّى إلى بدء موسم النمو في أوربا وأمريكا الشمالية أبكر من موعده السابق.
وتقول الدكتورة “نكي نيلسون”: “إن ارتفاع درجة الحرارة بدرجة مئوية واحدة قد يؤدي إلى انقراض الحيوانات التي تعرف بالتوتورا، وهي خليفة الديناصور المنقرض، فدرجة مئوية واحدة تحدث تغييرًا في الأجواء التي تنمو فيها أجنة الذكور أو الإناث”.
كما تبين أن البعوض الذي يحمل الأمراض في الأراضي المرتفعة في آسيا وشرق أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية ـ أصبح بإمكانه العيش على ارتفاعات أكثر من ذي قبل، ويقول العلماء الذين قاموا بتلك الدراسة: إن ارتفاع درجات الحرارة يعني أيضًا أن هناك بعض العيِّنات من النبات والحيوان سيكون مصيرها الفناء، وقد توقع بعض الخبراء أن ترتفع درجة الحرارة بشكل كبير خلال السنوات الخمس المقبلة.
وتأكيدًا لذلك توصلت دراسة عالمية أُجريت مؤخرًا إلى نتيجة مفادها أن تغيُّرات المناخ تزيد إلى حد كبير حجمَ المخاطر التي تواجهها الطيور في أرجاء العالم المختلفة الأمر الذي يهدد بانقراضها؛ فقد حذرت مؤسسة القائمة الحمراء للطيور لعام 2008م من أن حالات الجفاف التي تتعرض لها بعض المناطق على المدى البعيد وظروف الطقس القاسية جدًّا تفرض المزيد من الضغط على المواطن الرئيسية للطيور في العالم، وشملت القائمة التي أوردتها الدراسة التخمينية 1226 نوع من الطيور المهددة بالانقراض.
يقول الدكتور “ستيوارت بوتشارت” ـ منسِّق قسم المؤشرات والبحوث في مؤسسة “بيردلايف إنترناشيونال” ـ تعليقًا على نتائج الدراسة: “من العسير جدًّا أن نعزو بدقة بعض التبدلات الخاصة لدى طيور بعينها إلى تبدل المناخ، إلا أن هنالك مجموعة كاملة من أنواع الطيور أصبحت مهددة بالانقراض؛ نتيجة ظروف الطقس القاسية جدًّا والجفاف”.
كما يرى الدكتور “بوتشارت” أن القضاء على الكائنات التي تغزو مناطق الطيور تلك أو ضبطها هو إجراء فعال جدًّا للحفاظ عليها وهو قابل للتطبيق؛ إذ إنه يساعد الطيور على الصمود في وجه الضغوط الإضافية المترتبة على تغير المناخ.
ويؤكد الدكتور “بوتشارت” أن المناطق الحرارية تتغير وتتحول بسبب تغير المناخ، فقد بدأت المناطق المرتفعة تشهد درجات حرارة مرتفعة أيضًا، وبالتالي أصبح بإمكان البعوض الانتقال إلى تلك المناطق المرتفعة، إن مثل هذا الأمر يلتهم المناطق الخالية من البعوض التي اعتادت الطيور أن تشغلها، ورغم ما أظهرته الدراسة الأخيرة من تواصل في انخفاض أعداد الطيور في العالم، إلا أن المعنيين بالحفاظ عليها لايزالون متفائلين بإمكانية إنقاذ العديد من أنواع الطيور المهددة بالانقراض.
العلماء يطلقون صيحات الاستغاثة:
وفي آخر تحذير أطلقه العلماء لعلاج هذه الظاهرة أكدوا من خلال الدراسات أن العالم بحاجة لاستثمار 45 تريليون دولار في مصادر الطاقة خلال العقود المقبلة، بالإضافة إلى بناء 1400 مفاعل نووي، وتوسيع العمل بالطواحين الهوائية من أجل تقليص انبعاث الغازات الدفيئة إلى النصف بحلول العام 2050م، والتقرير الذي صدر عن وكالة الطاقة الدولية ـ التي تتخذ من باريس مقرًّا لها ـ يتصوَّر ثورةً للطاقة من شأنها أن تخفض وبشكل كبير اعتماد العالم على الوقود المستخرج من الأرض، وفي الوقت نفسه الحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي بثبات([4]).
ويمكن إجمال الإفساد المادي في الأرض في ثلاثة أنواع:
التلوث الكيميائي للبيئة.
الإفساد في الأرض بالتلوث الحراري.
الإفساد في الأرض بالتلوث الإشعاعي([5]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
فيقوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١)أشار الله تعالى إلى الإفساد المادي في بيئات الأرض الثلاث: التربة والماء والهواء، وذلك لأن لفظة (البر) تشمل كلًّا من اليابسة وما يحيط بها من غلاف غازي، وكذلك لفظة (البحر) تشمل كلًّا من القاع المنخفض والماء الذي يمتلئ به وما يحيط بهما من غلاف غازي، وهذه البيئات الثلاث وما بكلٍّ منها من مختلف صور الأحياء والجمادات تشكِّل حلقات مترابطة يتأثر بعضها ببعض، وأي إخلال بنظام إحداها يؤثر سلبًا على النظم الأخرى.
وقد بدأت مشكلة تلوث البيئة في التفاقم مع بداية الثورة الصناعية في أوربا الغربية، والتي كانت أولى خطواتها مع اختراع الآلة البخارية؛ فقد أدَّى سوء استخدام الوقود الأحفوري (من أمثال الفحم الحجري والنفط والغازات الطبيعية) في آلات الاحتراق الداخلي ومحركات الدفع والمصانع المختلفة إلى زيادة نسبة عدد من الغازات السامة التي من أخطرها أكاسيد كل من الكربون والكبريت والنيتروجين والرصاص والهيدروكربونات غير كاملة الاحتراق التي تطلق كلها في الغلاف الغازي للأرض.
وهذا الاعتداء على البيئة وما فيها من أحياء هو من معاني الإفساد في الأرض؛ لأنه إفساد مادي ملموس يحدثه الإنسان بسوء سلوكياته وتصرفاته في مختلف بيئات الأرض، وقد أحكم الله خلقها، وضبط علاقاتها ببعضها كمًّا وكيفًا بإحكام واتزان بالغين لا يُخلُّه إلا إفساد الإنسان، وذلك لأن الله تعالى خلق كل شيء بقدر؛ أي بمكونات ومقادير محددة ومتوازنة وبصفات وخصائص معينة تكفل لكل بيئة الملاءمة الكاملة لأنواع الحياة التي خلقت لها في توافق واعتدال لا يفسده إلا تدخل الإنسان بطمعه وجشعه وإسرافه، أو بجهله وتخلفه وتسيبه، أو بسوء نواياه وخبث مقاصده؛ وهو ما يفسد مكونات النظم البيئية الدقيقة كمًّا وكيفًا ويخرجها عن سويتها التي خلقها الله تعالى بها، ويجعلها غير موائمة للأحياء التي تعيش فيها ويصيبها بشيء من الخلل أو الشلل الذي يعطلها عن أداء وظيفتها ويفقدها صلاحيتها ونفعها([6]).
ومن ثم فالآية لا تقتصر على ما ذكره المفسرون من أن الفساد في الآية يعني القحط وقلة المطر وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء ـ كما ذهب الطاعنون ـ ولكنها تنطبق أيضًا على أنواع الفساد الأخرى التي ظهرت في عصرنا؛ وعليه فالآية الكريمة من آيات الإعجاز العلمي والغيبي في كتاب الله؛ لأنه لم يكن لأحد من الخلق إمكانية تصور الواقع الحالي البيئي للأرض من قبل ألف وأربع مئة من السنين.
الدلالات اللغوية للآية:
o ظهر: ظهر الشيء ظهورًا: تبيَّن وبرز بعد الخفاء([7]).
o الفساد: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، قليلًا كان الخروج عنه أو كثيرًا، ويضادُّه الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة([8])، والفساد: التلف والعطب، والاضطراب والخلل، والجدب والقحط([9]).
o البر:ما انبسط من سطح الأرض ولم يغطِّه الماءُ([10]).
o البحر:الماء الواسع الكثير، ويغلب في الملح([11]).
من أقوال المفسرين في الآية:
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١): إن الفساد المقصود هو سوء الحال، وهو ضد الصلاح، ودلَّ قوله )في البر والبحر((الروم: ٤١) على أنه سوء الأحوال فيما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها.
ثم إن التعريف في كلمة “الفساد”: إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برها وبحرها، وأنه فساد في أحوال البر والبحر لا في أعمال الناس بدليل قوله: )ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم)، وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضاره، مثل حبس الأقوات من الزروع والثمار والكلأ، وفي موتان الحيوان المنتفع به، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان (فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب)، وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس…
ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالًا سيئة مفسدة… فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم، وأطلق الظهور على حدوث حادث لم يكن، فشبه ذلك الحدوث بعد العدم بظهور الشيء الذي كان مختفيًا.
ومحمل صيغة فعل “ظهر” على حقيقتها من المضي، يقتضي أن الفساد حصل وأنه ليس بمستقبل، فيكون إشارة إلى فساد مُشاهَد أو محقق الوقوع بالأخبار المتواترة، وقد تحمل صيغة الماضي على معنى توقع حصول الفساد والإنذار به، فكأنه قد وقع على طريقة: )أتى أمر الله((النحل: ١).
وأيًّا ما كان الفساد من معهود أو شامل، فالمقصود أن حلوله بالناس بقدرة الله، كما دلَّ عليه قوله: )ليذيقهم بعض الذي عملوا((الروم: ٤١)، وأن الله يقدر أسبابه تقديرًا خاصًّا ليجازي من يغضب عليهم على سوء أفعالهم.
وهذا هو المراد بما كسبت أيديهم؛ لأن إسناد الكسب إلى الأيدي جرى مجرى المثل في فعل الشر والسوء من الأعمال كلها، دون خصوص ما يعمل منها بالأيدي لأن ما يكسبه الناس يكون بالجوارح الظاهرة كلها، وبالحواس الباطنة من العقائد الضالة والأدواء النفسية([12]).
ويقول الشيخ الشعراوي في تفسير قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١): ظهر: بان ووضح، والظهور: أن يبين شيءٌ موجود بالفعل لكنا لا نراه، وما دام الحق عز وجل قال: ) ظهر الفساد ((الروم: ٤١)، فلا بُدَّ أن الفساد كان موجودًا، لكن أصحاب الفساد عمُّوه وجنُّوه إلى أن فقس وفرَّخ في المجتمع.
والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره، أتذكرون الزلزال الذي حدث وكشف الفساد والغش والتدليس بين المقاول والمهندس، وكانت المباني قائمة والفساد مستترًا، إما لغفلتنا عنه، أو لتواطئنا معه، أو لعدم اهتمامنا بالأشياء، إلى أن طمَّت المسائل، ففضح الله الأرض بالزلزال، ليكشف ما عندنا من فساد.
فإذا ازداد الغش وانتشر، وفاق الاحتمال لا بُدَّ أن يظهره الله للناس، فلم يَعُد أحد قادر ًا على أن يقف في وجه الفساد أو يمنعه؛ لذلك يتدخل الحق عز وجل، ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم.
وتأتي ظهر بمعنى الغلبة كما في قول الله تعالى: )فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (14)((الصف)، أي غالبين… وبمعنى العلو في قوله تعالى: )فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)( (الكهف).
فالمعنى: )ظهر الفساد((الروم: ٤١)؛ أي: غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعدَّه لاستقبال الإنسان إعدادًا رائعًا، وللتأكد من صدق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فسادًا إلا فيما تتناوله يد الإنسان، أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللًا؛ لأن الله خلقه منسجم التكوين: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس).
فهل خلقنا الحق عز وجل وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟ لا، إنما هو ابتلاء الاختيار، حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانونًا لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقل فيه (افعل) أو (لا تفعل) فأنت حرٌّ فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أما أنا فقد قلت: افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت: لا تفعل في الذي يحصل ضرر من فعله.
فالفساد يأتي حين تُدخل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإن علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس…
فالحق يقول: )ظهر الفساد((الروم: ٤١)؛ أي: غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالته يد الإنسان لفسد هو الآخر، كما قال عز وجل: )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ((المؤمنون: ٧١).
فظواهر الكون ـ أشياء وقضايا ـ لكل العامة، ومن الحكمة ألا تنالها يد الإنسان؛ لأن الله تعالى يريد للكون البقاء، ولم يأت أوان انتهائه، لذلك يجعل الحق عز وجل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين، إلى أن يصل إلى درجة التشبُّع، فتتفجر الأوضاع…
وما دام الحق عز وجل قال:)بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١)، فلا بُدَّ أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلًا؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبت أيدي الناس، أما حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان نجد الهواء نقيًّا كما خلقه الله.
وقوله تعالى: ) ليذيقهم بعض الذي عملوا((الروم: ٤١)، الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب ولدك وتضربه حرصًا عليه… وحين يذيق الله الإنسان بعض ما قدَّمت يداه يوقظه من غفلته، وينبِّه فيه الفطرة الإيمانية، فيحتاط للأمر ولا يهمل ولا يقصر، وتظل عنده هذه اليقظة الإيمانية بمقدار وعْيه الإيماني…
وقوله: ) لعلهم يرجعون (41)( (الروم)؛ لأن الكلام هنا في الدنيا، وهي ليست دار جزاء؛ فالحق يذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه عز وجل، ويعودوا إلى حظيرة الإيمان تائبين؛ لأنهم عبيده، وهو سبحانه وتعالى أرحم بهم من الوالدة بولدها([13]).
وبهذا يتضح أن القرآن الكريم قد تحدث عن النتائج الثلاث التي توصل إليها العلماء ونادوا بها في العصر الحديث بدقة مذهلة، وذلك في قوله تعالى: )ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)( (الروم)؛ فقد تضمَّنت هذه الآية الكريمة إشارة إلى النتائج الثلاث التي اتفق عليها العلماء اليوم، وهي:
)ظهر الفساد في البر والبحر((الروم: ٤١):اتفق العلماء على أن الفساد في البيئة، وكلمة الفساد تشمل التلوث والتغيرات المناخية وكل شيء جاوز الحدَّ، ومن معاني الفساد (الجدْب)؛ أي: التصحُّر، وهو ما يحدث اليوم على الأرض حيث يؤكد العلماء أن المساحة الخضراء تتقلص بفعل البشر وسوف تزداد الأراضي الجافة والمتصحرة في الأعوام القادمة بسبب زيادة التلوث، ويؤكدون أيضًا أن الفساد البيئي يشمل البرَّ والبحر، تمامًا كما جاء في الآية الكريمة.
)بما كسبت أيدي الناس((الروم: ٤١): يؤكد العلماء أن التلوث والفساد البيئي في البر والبحر إنما نتج عن الإنسان؛ فالناس هم المسئولون عن هذا التغير البيئي الخطير، تمامًا كما حدثنا القرآن قبل ألف وأربع مئة سنة.
)ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)((الروم): تتضمن هذه الآية تحذيرًا للناس كي يرجعوا إلى الإصلاح في الأرض وتدارك هذا الفساد البيئي الذي نتج عن تجاوزهم الحدود التي خلق الله الأرض عليها، وأن يعيدوا للغلاف الجوي توازنه ويقللوا من كمية الملوثات التي يطلقونها كل يوم والتي تقدر بملايين الأطنان! هذا التحذير هو نفسه الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة منذ مدة!
إذًا الآية الكريمة تحدثت عن ظهور الفساد الذي يشمل البر والبحر، وقد عبَّر القرآن عن ذلك بكلمة (ظَهَرَ) بالماضي؛ لأن القرآن لا ينطق إلا بالحق، فالمستقبل بالنسبة لله تعالى هو حقيقة واقعة لا مفر منها، وكأنها وقعت في الماضي وانتهى الأمر؛ ولذلك جاء التعبير عن هذه الحقيقة العلمية بالفعل الماضي، كذلك تحدثت الآية الكريمة عن المسئول عن هذا الفساد البيئي وحدَّدت الفاعل وهو الإنسان، وتحدثت عن إمكانية الرجوع إلى العقل والمنطق وإلى العمل على إعادة التوازن للأرض([14]).
3) وجه الإعجاز:
تنبَّأ القرآن الكريم بظهور الفساد الذي يُصيب البر والبحر، كما حدد المسئول عن هذا الفساد، وهو الإنسان، فتغيُّر المناخ ناتج عن تلوث البيئة بتدخل الإنسان واعتدائه الدائم عليها ماديًّا ومعنويًّا؛ مما يؤدي إلى ظهور الفساد في تلك البيئة برًّا وبحرًا، وإلى هذا أشار قوله تعالى:)ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)( (الروم).
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص93.
[2]. الفساد البيئي، معجزة قرآنية، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[3]. نيتشر: هي دورية علمية أسبوعية بريطانية تصدر بالإنجليزية وتعتبر من أبرز الدوريات العلمية في العالم، والتي نشرت لأول مرة في 4 نوفمبر 1869م، من أهم اختصاصات هذه المجلة مجالي الفيزياء والأحياء.
[4]. التغير المناخي إنذار من الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[5]. للمزيد انظر: من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429هـ/ 2008م، ص432: 439.
[6]. المرجع السابق، ص432، 433.
[7]. المعجم الوسيط، مادة: ظهر.
[8]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص379.
[9]. المعجم الوسيط، مادة: فسد.
[10]. المعجم الوسيط، مادة: برر.
[11]. المعجم الوسيط، مادة: بحر.
[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج21، ص110: 113 بتصرف.
[13]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج18، ص11471: 11478 بتصرف.
[14]. الفساد البيئي: معجزة قرآنية، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
نفي الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد)
مضمون الشبهة:
في قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس( (الحديد: ٢٥) يؤكد القرآن أن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض، وعلى غرار ما سبق من مطاعن ينفي المشككون إعجاز القرآن العلمي في هذه الآية، وفي سبيل تعضيد موقفهم نجدهم يطرحون ـ من ناحية أولى ـ التساؤل الآتي: كيف يمكن أن يكون الحديد الذي يكون اللب الداخلي للأرض ويشكل 35% من كتلتها عنصرا وافدا إليها عن طريق النيازك؟
ومن ناحية ثانية يقولون: إن معنى (الإنزال) في الآية هو: الخلق والإيجاد، يؤيد هذا ما قاله المفسرون، كما يؤيده القرآن في قوله: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: ٦)، وقوله: )يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا( (الأعراف: ٢٦)، فكلمة (أنزلنا) هنا ـ مثلها كمثل آية الحديد ـ تعني: خلقنا أو جعلنا، ولا يمكن أن يكون المقصود هو هبوط الأنعام واللباس علينا من السماء، مثلما هبط الحديد كما يدعي الإعجازيون.
وجها إبطال الشبهة:
1) يقدر القرآن في قوله تعالى:وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد((الحديد: ٢٥)أن معدن الحديد تم إنزاله من السماء ولم يكن موجودا في الأرض، وهذا يتطابق مع ما توصل إليه العلماء حديثا، فهم يقولون: إن انفجارات النجوم العملاقة ساعدت على تشكل الحديد الذي تم قذفه على شكل نيازك اصطدمت بالأرض واستقرت في باطنها، ولا حجة لمن يقول: إنه من غير المعقول أن يكون الحديد الذي يكون باطن الأرض ويشكل 35% من كتلتها عنصرا وافدا، ذاك أن الأرض عند انفصالها عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد، ثم رجمت بوابل من النيازك الحديدية التي تحركت بحكم كثافتها الأعلى من كثافة الأرض الابتدائية إلى مركزها.
2) إن سياق آية الحديد يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء ـ إنزال الكتاب والميزان ـ وجاءت (وأنزلنا الحديد) معطوفة على ما قبلها لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال. أما آية الزمر التي يحتج بها الطاعن ـ ومثلها في ذلك آية الأعراف ـ فإن سياقها يتحدث عن الخلق؛ إذ جاء الحديث عن خلق الإنسان ثم جاء ذكر الأنعام، ومن ثم فإن الإنزال هنا بمعنى الخلق، فالأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره ما لم توجد قرينة صارفة، وعليه فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق كما يدعي الطاعن، فكان حريا به أن يحكم على الآيات من خلال سياقها.
التفصيل:
أولا. يؤكد العلماء أن الحديد تم إنزاله من السماء:
1) الحقائق العلمية:
في دراسة لتوزيع العناصر المختلفة في الجزء المدرك من الكون، لوحظ أن غاز الإيدروجين هو أكثر العناصر شيوعا؛ إذ يكون أكثر من 74% من مادة الكون المنظور، ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي 24% من مادة الكون المنظور، وأن هذين الغازين ـ وهما يمثلان أخف العناصر وأبسطها بناء ـ يكونان معا أكثر من 98% من مادة الجزء المدرك من الكون، بينما باقي العناصر المعروفة لنا وهي أكثر من مائة عنصر مجتمعة تكون أقل من 2% من مادة الكون المنظور.
وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج المنطقي أن أنوية غاز الإيدروجين هي لبنات بناء جميع العناصر المعروفة لنا، والتي تخلقت باندماج أنوية هذا الغاز البسيط مع بعضها البعض في داخل النجوم بعملية تعرف باسم: عملية الاندماج النووي، تنطلق منها كميات هائلة من الطاقة التي تعرف باسم: طاقة النجوم، وتتم عملية الاندماج النووي في داخل نجوم السماء الدنيا بتسلسل من أخف العناصر إلى أعلاها وزنا ذريا وتعقيدا في البناء حتى يتحول قلب النجم إلى الحديد، فينفجر النجم وتتناثر أشلاؤه في صفحة السماء لتصطاد عددا من اللبنات الأولية للمادة مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري، أو تهبط إلى أحد الكواكب أو النجوم التي تحتاج في تواجدها إلى الحديد.
فشمسنا تتكون أساسا من غاز الإيدروجين الذي تندمج أنويته مع بعضها البعض لتكون غاز الهيليوم، وتنطلق طاقة هائلة تبلغ عشرة ملايين درجة مئوية، ويتحكم في هذا التفاعل عاملان، هما زيادة نسبة غاز الهيليوم المتخلق بالتدريج، وتمدد الشمس بالارتفاع المطرد في درجة حرارة لبها، وباستمرار هذه العملية تزداد درجة الحرارة في داخل الشمس تدريجيا، وبازديادها ينتقل التفاعل إلى المرحلة التالية التي تندمج فيها نوى ذرات الهيليوم مع بعضها البعض في سلسلة من الاندماجات المتسلسلة حتى تصل إلى إنتاج نوى ذرات الكربون (12)، ثم الأكسجين (16) ثم النيون (20)، وهكذا.
وفي نجم عادي مثل شمسنا التي تقدر درجة حرارة سطحها بحوالي ستة آلاف درجة مئوية، وتزداد درجة الحرارة تدريجيا في اتجاه مركز الشمس حتى تصل إلى حوالي 15 مليون درجة مئوية، ويقدر علماء الفيزياء الفلكية أنه بتحول نصف كمية الإيدروجين الشمسي تقريبا إلى الهيليوم، فإن درجة الحرارة في لب الشمس ستصل إلى مئة مليون درجة مئوية، مما يدفع بنوى ذرات الهيليوم المختلقة إلى الاندماج في المراحل التالية من عملية الاندماج النووي، مكونة عناصر أعلى في وزنها الذري مثل الكربون ومطلقة كما أعلى من الطاقة.
ويقدر العلماء أنه عندما تصل درجة حرارة لب الشمس إلى ست مئة مليون درجة مئوية يتحول الكربون إلى صوديوم ثم إلى ماغنسيوم ثم إلى نيون، ثم تنتج عمليات الاندماج النووي الآتية، عناصر الألومنيوم، والسيليكون، والكبريت، والفسفور، والكلور، والأرجون، والبوتاسيوم، والكالسيوم، على التوالي، مع ارتفاع مطرد في درجة الحرارة، حتى تصل إلى ألفي مليون درجة مئوية حين يتحول لب النجم إلى مجموعات التيتانيوم، والفاناديوم، والكروم، والمنجنيز، ومجموعة عناصر الحديد (الحديد والكوبالت والنيكل).
ولما كان تخليق هذه العناصر يحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة جدا لا تتوافر إلا في مراحل خاصة في حياة النجوم العملاقة تعرف باسم: العماليق العظام، وهي مراحل توهج شديد جدا، فإنها لا تتم في كل نجم من نجوم السماء، ولكن في مراحل خاصة من مراحل حياة النجوم العملاقة عند انفجارها تعرف باسم مرحلة المستعرات العظمى، وحين يتحول لب النجم إلى حديد، فإنه يستهلك طاقة النجم بدلا من إضافة مزيد من الطاقة إليه؛ وذلك لأن نواة ذرة الحديد هي أشد نوى العناصر تماسكا، وهنا ينفجر النجم على هيئة ما يسمى باسم: المستعر الأعظم من النمط الأول أو الثاني حسب الكتلة الابتدائية للنجم، وتتناثر أشلاء النجم المنفجر في صفحة السماء لتدخل في نطاق جاذبية أجرام سماوية تحتاج إلى هذا الحديد ،تماما كما تصل النيازك الحديدية إلى أرضنا بملايين الأطنان في كل عام.
فجوة ضخمة (يبلغ قطرها 32 كم تقريبا) تكونت من جراء ارتطام نيزك بأرض ولاية أريزونا
ولما كانت نسبة الحديد في شمسنا لا تتعدى 0٫0037%، وهي أقل بكثير من نسبة الحديد في كل من الأرض وعطارد والزهرة والمريخ، وفي النيازك الحديدية التي تصل إلينا من فسحة الكون، ولما كانت درجة حرارة لب الشمس لم تصل بعد إلى الحد الذي يمكنها من إنتاج السيليكون أو الماغنسيوم، فضلا عن الحديد ـ كان من البديهي استنتاج أن كلا من الشمس والأرض وكواكب المجموعة الشمسية المشتملة على نسب مختلفة من الحديد، قد استمدوا ما بهم من حديد من مصدر خارجي عن مجموعتنا الشمسية في فسحة الكون.
وعلى ذلك فإن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد المكون من العناصر الخفيفة، ثم رجمت هذه الكومة بوابل من النيازك الحديدية التي انطلقت إليها من خارج المجموعة الشمسية، فاستقرت في لبها بفضل كثافتها العالية وسرعتها الكونية الفائقة، فانصهرت بحرارة الاستقرار، وصهرت كومة الرماد ومايزتها إلى سبع أرضين: لب صلب على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل تصل فيها نسبة الحديد إلى 90% والنيكل إلى 9% وبعض العناصر الخفيفة من مثل: الكبريت، والفسفور، والكربون إلى 1%، يليه إلى الخارج لب سائل له نفس التركيب الكيميائي تقريبا، ويكون لبا الأرض: الصلب والسائل معا حوالي 31% من مجموع كتلة الأرض.
ويلي لب الأرض إلى الخارج وشاح الأرض(mante)، المكون من ثلاثة نطق: (أسفل، أوسط، أعلى)، ثم الغلاف الصخري للأرض (lithosphere)، وهو مكون من نطاقين، قشرة الأرض(crust) وما دون القشرة (subcrust)، وتتناقص نسبة الحديد من لب الأرض إلى الخارج باستمرار حتى تصل إلى 5٫6 % في قشرة الأرض .
صورة حقيقية لأحد النيازك التي تصل إلى الأرض سنويا بمعدل مليون إلى 20 مليون طن، ومنها النيازك الحديدية، والحديدية الصخرية، والصخرية
من هنا ساد الاعتقاد بأن الحديد الموجود في الأرض والذي يشكل 35٫9% من كتلتها، لا بد وأنه قد تكون في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل العماليق العظام، والتي انفجرت على هيئة المستعرات العظام فتناثرت أشلاؤها في صفحة الكون، ونزلت إلى الأرض على هيئة وابل من النيازك الحديدية، وبذلك أصبح من الثابت علميا أن كل حديد الأرض قد أنزل إليها إنزالا من السماء، ليس هذا فقط، بل إن الحديد في مجموعتنا الشمسية كلها قد أنزل كذلك إليها من السماء، وهي حقيقة لم يتوصل العلماء إلى فهمها إلا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين([1]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
ينكر الطاعن الإعجاز العلمي في قوله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)( (الحديد) قائلا: يدعي الإعجازيون أن القرآن يقول: إن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض، ويقولون: إن الحديد لم يتكون في المجموعة الشمسية بل جاء إليها من الخارج؛ لأنه لم يكن بها ما يكفي من طاقة لظهور عنصر الحديد.
ويتساءل الطاعن: كيف لا يكون الحديد من العناصر المكونة لكوكب الأرض وهو من أكثر العناصر انتشارا بها، ويشكل حوالي 35% من مجموع كتلتها؟ كما أن اللب الداخلي للأرض يحتوي على الحديد، فكيف يستوي هذا مع عدم ظهوره فيها إلا عن طريق هبوطه بالنيازك؟
وردا على ذلك نقول: ليس بغريب أن يذكر الطاعن كلاما كهذا؛ فمن الواضح أنه لم يطلع على كثير من الحقائق العلمية التي أثبتها العلماء حديثا بشأن تكون عنصر الحديد، فإلى أواخر الستينيات من القرن العشرين لم يكن أحد من العلماء يتصور ـ ولو من قبيل التخيل ـ أن هذا القدر الهائل من الحديد قد أنزل إلى الأرض من السماء إنزالا حقيقيا، كيف أنزل؟ وكيف تسنى له اختراق الغلاف الصخري للأرض بهذه الكميات المذهلة؟ وكيف أمكنه الاستمرار في التحرك بداخل الأرض حتى وصل إلى لبها؟ وكيف شكل كلا من لب الأرض الصلب ولبها السائل على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل، يحيط بها نطاق منصهر من التركيب نفسه؟ ثم كيف أخذت نسبته في التناقص باستمرار في اتجاه قشرة الأرض الصلبة؟
ولكن في أواخر القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك والفيزياء الفلكية أن الحديد لا يتكون في الجزء المدرك من الكون إلا في مراحل محددة من حياة النجوم العملاقة ـ كما ذكرنا آنفا ـ التي تسمى بالعماليق العظام، والتي بعد أن يتحول لبها بالكامل إلى حديد تنفجر على هيئة المستعرات العظام، وبانفجارها تتناثر مكوناتها بما فيها الحديد من صفحة السماء، فيدخل هذا الحديد ـ بتقدير من الله تعالى ـ في مجال جاذبية أجرام سماوية تحتاج إليه، مثل أرضنا البدائية التي وصلها الحديد الكوني وهي كومة من الرماد، فاندفع إلى قلب تلك الكومة بحكم كثافته العالية وسرعته الكونية المندفع بها، فانصهر بحرارة الاستقرار في قلب الأرض البدائية وصهرها، ومايزها إلى سبع أرضين([2]).
مراحل تحول قلب النجم إلى حديد
ويقول العلماء: إن الأرض تشكلت قبل أربعة بلايين ونصف بليون عام، وكانت النيازك والمذنبات تقصفها بشدة وعنف بحيث كانت الحرارة المنبعثة من هذا القصف ـ فائق السرعة ـ عظيمة لدرجة كافية لإذابة الكوكب بأكمله، ثم بدأت الأرض تبرد بعد ذلك واستمرت تبرد إلى اليوم، وأخذت المواد الأكثر كثافة ـ مثل الحديد ـ والقادمة من تلك النيازك طريقها إلى قلب الأرض ومركزها، بينما صعدت السيليكات الأخف وزنا، وكذلك مركبات الأكسجين الأخرى والماء القادم من المذنبات إلى قرب السطح([3]).
وقد أكد البروفيسور “إرمسترونج” ـ وهو من أكبر علماء وكالة ناسا الفضائية الأمريكية ـ حينما سئل عن كيفية تكون الحديد: “لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، فذرات الحديد ذات صفات مميزة، ولكي تتحد الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد، فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربعة أضعاف الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية! ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون بها”([4]).
وتذكر الموسوعة البريطانية: “إن أصل تكون الأرض عن طريق النمو التراكمي للكويكبات هي فرضية موثقة، والنيازك هي الأمثلة المحتملة للكويكبات التي عاشت في مرحلة ما قبل التكوكب من النظام الشمسي، وهكذا يظهر أن الأرض قد تشكلت بتراكم الأجسام الصلبة مع التركيب المتوسط للنيازك الحجرية”.
صورة تثبت أن الحديد نزل من السماء
والصورة السابقة صورة عرضها موقع ناسا للفضاء، وقال العلماء: إنها صورة لمذنب يسبح في الكون، ويبلغ طوله أكثر من 30 مليون كيلو متر، ومن المحتمل أن يصطدم بأي كوكب يصادفه، ولدى تحليل هذا المذنب تبين أن ذيله عبارة عن مركبات حديد، أما النيازك التي سقطت على الأرض منذ بلايين السنين والمحملة بالحديد، فقد أغنت الأرض بهذا العنصر؛ ولذلك عندما تحدث القرآن عن الحديد أكد أنه نزل من السماء:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، وهذا يتطابق مع العديد من الدراسات التي تؤكد نزول الحديد واستقراره في باطن الأرض([5]).
وعلى الرغم من انتقادات الطاعنين ستبقى هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي الشاهدة على صدق النبوة المحمدية، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من ألف القرآن، فمن أين جاء بهذا العلم؟ ومن الذي علمه هذه الحقائق قبل أن يكتشفها العلماء بأربعة عشر قرنا؟ إنه الله تعالى الذي وصف نبيه بقوله: ) وما ينطق عن الهوى (3)((النجم).
ثانيا. الإنزال في آية الحديد إنزال حقيقي ولا يعني الخلق فقط:
لجأ المفسرون عند تفسير قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد( (الحديد: 25) إلى أن الإنزال هنا بمعنى: الخلق والإيجاد والتقدير والتسخير، ومن هنا يلتقط المشككون طرف الخيط مستندين إلى أقوال المفسرين من ناحية، وإلى قوله تعالى:)وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج( (الزمر: ٦) من ناحية أخرى، قائلين: إن “أنزل” هنا تعني خلق، قال ابن كثير: قوله تعالى: )وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج((الزمر: ٦)؛ أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج، وهي المذكورة في سورة الأنعام ثمانية أزواج؛ من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وهنا يسأل الطاعن سؤالا مؤداه: هل هبطت الأنعام أيضا من السماء مثلما هبط الحديد كما يزعم الإعجازيون؟!
وهم لا يكتفون بذلك، بل يستندون إلى آيات أخرى لتعضيد موقفهم، منها قوله تعالى:) يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا((الأعراف: ٢٦)، ويتبادر إلى ذهن الطاعن هنا السؤال نفسه الذي سبق وأن طرحه: هل هبط اللباس علينا من السماء أيضا؟
وللرد على هذه الشبهة يجب ـ أولا ـ أن نسرد بعض من الآيات مقتطعة من سياقها؛ جريا على طريقة أولئك الذين يلقون بشبههم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، أو أنهم جاءوا بأمور لم يسبقهم إليها أحد، فعلى طريقتهم في فهم كتاب الله، فالويل كل الويل لمن صلى، فالله تعالى يقول: )فويل للمصلين (4)((الماعون)، وكذلك على الدعاة أن يبلغوا أقوامهم بترك الصلاة؛ لأن الله تعالى يقول:) يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة((النساء: 43)، وهكذا… فالأصل أن يؤخذ الكلام في سياقه ليتضح معناه، أما اقتطاع الكلام من سياقه فإنه يخل بمعناه غالبا.
وترتيبا على ما سبق نقول:
إن ما استشهد به من أقوال أئمة المفسرين من قولهم: إن معنى الإنزال في آية الحديد الخلق، فهو اجتهاد من علماء مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، فهم مأجورون على كل حال، ولكن هذا لا يعني أنهم معصومون، ولا أن ما يقولونه حجة على كتاب الله أو على خلقه، إنما يتضح الإعجاز العلمي في القرآن الكريم عن طريق موافقة الحقائق العلمية الثابتة حديثا ـ سواء من المسلمين أو غيرهم ـ لما جاء في كتاب الله أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الموافقة حجة دامغة على أن القرآن من عند عليم خبير، خالق لهذا الكون، لا من عند بشر يخطئ ويصيب.
ومن هنا يتضح معنى قوله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)((فصلت)، فهذه الآية تنص على أن الله سيجعل في هذا القرآن من الآيات والأدلة ما بها تقوم الحجة على الخلق، إلى قيام الساعة وليس لزمن محدود أو عصر من العصور، فمن أين تريد أن يعلم المفسر الذي عاش قبل ثمان مئة سنة بهذه الدقائق الكونية، التي ما عرفها أحد قبله ولا بعده إلا بعد أن تراكمت الجهود واخترعت وسائل الكشف والمراقبة!([6]).
وليس معنى هذا أن المفسرين كلهم فسروا الإنزال بالخلق، ولكن منهم من فسر اللفظ على ظاهره، فنحن إذا بحثنا أقوال المفسرين في هذه المسألة، نجدهم منقسمين إلى فريقين؛ الأول: فسر اللفظ على ظاهره، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، بمعنى: أن الله أنزل الحديد من السماء كما أنزل آدم من السماء، وهو قول ابن عباس وعكرمة، وإليه ذهب الطبري والقرطبي والواحدي. والثاني: اضطر إلى تأويل اللفظ عن ظاهره؛ لاستبعاد إمكانية تصور نزول الحديد إلى الأرض من السماء، وكما يشاهدون في أزمنتهم وبيئاتهم من استخراج الحديد من باطن الأرض، فقال: )وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)، بمعنى: أنشأناه وجعلناه، وهو قول الحسن، وإليه ذهب ابن كثير والثعالبي والشوكاني وكثير من المفسرين([7]).
إذا أخذنا كلمة (أنزلنا) يجب أن نحكم على معناها من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها، فسياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فتختلف معه كلمة (أنزلنا)، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أصحاب الشبهة، قال الله تعالى:)لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد((الحديد: ٢٥)،فمن أين جاءت الكتب السماوية؟ ألم تنزل من السماء على أنبياء الله إلى الأرض؟ ألم ينزل الزبور وألواح التوراة على داود وموسى إلى الأرض؟، إذًا كلمة (وأنزلنا معهم) تعني أنها نزلت من السماء إلى الأرض؛ ومن ثم فإن سياق الآية يتجه إلى بيان بعض ما أنزله الله على عباده من السماء، وجاءت (وأنزلنا معهم) معطوفة على ما قبلها؛ لتبين استمرارية الآية في عرض صورة أخرى من صور الإنزال من السماء على الأرض بعد إنزال الكتاب والميزان، إذًا “وأنزلنا الحديد” معناه هبوطه من السماء.
أما سورة الزمر فالآية الكريمة تتحدث عن خلق الإنسان، ثم جاء ذكر الأنعام:)خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون (6)( (الزمر)، إذا سياق الآية يتحدث عن الخلق، لذلك فإن (أنزلنا) هنا تعني الخلق؛ لأننا ـ كما قلنا ـ لا نأخذ معنى كلمة لها عدة دلالات من آيات مختلفة، ولكن نأخذ معناها من سياق الآية التي ذكرت فيها، فمعنى كلمة (أنزلنا) في سورة الحديد هو الهبوط من السماء، مهما كان معنى كلمة (أنزلنا) في سورة الزمر، سواء كانت الخلق أو الهبوط([8]).
إن ظاهرة تباين اللفظ تبعا للسياق من الخصائص الأساسية في لغات التخاطب، وهي أجلى ما تكون في لغة القرآن الكريم، وسماها اللغويون (الوجوه)، والدلالات المعجمية للفظ نفسه لا يتحدد إحداهما إلا من خلال السياق، والدلالة الحسية في (أنزلنا) لا تستبعد إلا بقرائن صارفة ولا تنفي الدلالة المعنوية، أما في قوله تعالى:)وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس((الحديد: ٢٥)، فيستقيم حمل لفظ (الإنزال) على الأصل، وهو الدلالة الحسية، باعتبار تعلق المقام هنا بخلق الأرض، لمجيء بيان إنزال الحديد، وهو من أثقل مكونات الأرض، في مقابل بيان إخراج المواد الأخف من الأرض نحو السطح في قوله تعالى:)والأرض بعد ذلك دحاها (30) أخرج منها ماءها ومرعاها (31) والجبال أرساها (32)((النازعات)، وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة من خروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان، المعبر عنها باللفظ الجامع (مرعاها)، بعد التهيئة بتكثف بخار الماء وانقشاع دخان البراكين، في مقابل هبوط أثقل المواد من مثل الحديد نحو لب الأرض، الذي يتكون معظمه بالفعل من حديد([9]).
· ومن ثم فإن الأصل هو حمل التعبير في القرآن على ظاهره، حتى تأتي قرينة صارفة تبيح حمله على ضرب المثل، والتمثيل في القرآن كثير، وهو أبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)( (النور)، وقوله تعالى:)وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21)((الحشر)، وقوله تعالى: )ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25)((إبراهيم).
وفي قوله تعالى:)يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء) ظاهر التعبير: )وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)((النساء)انتقال ضوء الشمس نحو الأرض، ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ((النساء:174)، ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور) وصرفه عن ظاهر دلالته، وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم، وهكذا نرى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
فقد ورد فعل (الإنزال) هنا؛ ليفيد الانتقال من الأعلى إلى الأسفل، كما في قوله تعالى: )وأنزل من السماء ماء((البقرة:22)، وأما قوله تعالى: )وأنزلنا الحديد ((الحديد:25)؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتقاء ما يصرف اللفظ عن ظاهره، ولا حجة لمن يقول: إن معظم لب الأرض حديد؛ حيث طابقت شهادة الواقع صريح الآية.
وقد تمنع القرائن الصارفة من حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: )هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين((الفتح: ٤)، والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكوينا ماديا، ولذا جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه صرف النزول إلى (الجعل)، فقوله: )أنزل السكينة((الفتح: ٤)؛ أي: جعل الطمأنينة.
وفي وصف بعثة النبيين ـ عليهم السلام أجمعين ـ في قوله تعالى:)كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق((البقرة: ٢١٣) لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفا لهم وبيانا لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب، ومثله قوله تعالى: )فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)((الأعراف).
أما قول الله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير((الأعراف: ٢٦)، فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض، ولذا اجتهد المفسرون في صرف “أنزلنا” عن معنى الهبوط، قال الشوكاني: عبر عز وجل بالإنزال عن الخلق؛ أي: خلقنا لكم لباسا. وقال الجصاص: وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوانات وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء.
وأخيرا ليس هناك ما يمنع أن يكون الإنزال في قوله تعالى:(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا((الأعراف: 26) إنزالا حقيقيا وليس بمعنى الخلق، فحرف الجر الملصق بالضمير (عليكم) يدل على أن الإنزال في هذه الآية حقيقي، فالله خلق ثم أنزل، وكذلك ليس هناك ما يمنع أن تكون الأنعام أنزلت مع كونها مخلوقة في الأصل، فهي خلقت ثم أنزلت، مثلما خلق آدم وحواء وإبليس ثم أنزلوا.
وانظر إلى قوله تعالى:)وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)((الأنعام)، فهل يزعم معترض أن التنزيل هنا بمعنى الخلق؟ كلا لأن هذا مخالف لسياق الآية، فالملائكة تنزل من السماء وهي مخلوقة، كما أن نزول الخبر على بني إسرائيل لا ينفي صنع الإنسان له، فقد جاء في التوراة، قال الرب لموسى: “أنا أمطر لكم خبزا من السماء، فيخرج الشعب، ويلتقطون حاجة اليوم بيومها” (سفر الخروج 16: 4)([10]).
ومن ثم فالنزول في آية الحديد نزول حقيقي ولا يعني الخلق فقط، ويجب علينا أن نحكم على معنى كلمة أنزلنا من سياق الآية التي وردت فيها ولا نقارنها بآية أخرى وردت فيها الكلمة نفسها؛ لأن سياق الآية الأخرى قد يكون مختلفا فيختلف معه معنى الكلمة، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الطاعن.
3) وجه الإعجاز:
لم يتمكن الإنسان من معرفة حقيقة أن الحديد أنزل من السماء إلى الأرض إلا بعد أن امتلك من الوسائل العلمية ما تمكن به من معرفة ما جرى وما يجري في أعماق النجوم البعيدة لتكوين عنصر الحديد، وبعد أن تمكن من تحويل بعض العناصر الخفيفة إلى عناصر ثقيلة وحساب ما يحتاج إليه ذلك من طاقة عالية، وعجزه عن تكوين مادة الحديد من مواد أخف منه؛ إذ يتطلب ذلك طاقة تساوي أربعة أضعاف طاقة المجموعة الشمسية، كما أن استخراج البشر للحديد من مناجمه في باطن الأرض جعلهم لا يتوقعون أن يكون الحديد قد أنزل من السماء إلى الأرض، وحملهم على الاعتقاد بأنه خلق مع سائر العناصر الأرضية؛ لذلك خلت العلوم التجريبية من أية إشارة إلى هذه الحقيقة قبل الربع الأخير من القرن العشرين، وكذلك اضطر كثير من المفسرين إلى تأويل اللفظ القرآني )وأنزلنا الحديد((الحديد:25)إلى معنى لا يحتمله اللفظ، بما فيهم مفسرون معاصرون عاشوا في القرن العشرين، فمن أخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة التي لم تعرفها البشرية إلا في الربع الأخير من القرن العشرين؟!
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص123: 127.
[2]. المرجع السابق، ص121، 122.
[3]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[4]. من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. عاطف المليجي، القاهرة، ط4، 2004م، ص94، 95.
[5]. هذا خلق الله: انفجار رائع للنجوم، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[6]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.
[7]. )وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ((الحديد:25) ، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.com.
[8]. الإعجاز في سورة الحديد، قسطاس إبراهيم النعيمي، مقال منشور بموقع: www.laghouat.net.
[9]. شبهة حول قوله تعالى: )وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ((الزمر:6)، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[10]. شبهة إنكار نزول الحديد من السماء في القرآن، وليد المسلم، مقال منشور بموقع: www.almeshkat.net.
نفي الإعجاز العلمي عن القرآن في إخباره عن إمكانية جعل الليل أو النهار سرمدًا
مضمون الشبهة:
ينفي بعض المغالطين الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في إخباره عن إمكانية جعل الليل أو النهار سرمدا، وذلك في قوله تعالى: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)((القصص)، زاعمين أن الآيات تدل على رحمة الله بأهل الأرض، وليس فيها أي إخبار عن حقيقة علمية كما يظن علماء المسلمين.
وجه إبطال الشبهة:
إن تعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض ضرورة لاستمرار الحياة عليها، وقد أكد العلم الحديث إمكان حدوث ما افترضه القرآن الكريم من إمكان جعل الليل أو النهار سرمدًا، وذلك عن طريق توقف الأرض عن الدوران، خاصة وأنه قد ثبت أنها تبطئ بالفعل من سرعة دورانها ثانية واحدة في كل مئة وعشرين ألف سنة، وفي هذا دليل على أنها لا بد أن تتوقف يومًا ما.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
الليل والنهار آيتان كونيتان عظيمتان تشهدان بدقة بناء الكون، وانتظام حركة كل جرم فيه، وإحكام السنن الضابطة له، ومنها تلك السنن الحاكمة لحركات كل من الأرض والشمس، والتي تتضح بجلاء في التبادل المنتظم للفصول المناخية، ولكل من الشهور والسنين، وتعاقب الليل والنهار، والتبادل الرتيب بين الليل المظلم والنهار المنير هو من الضرورات اللازمة للحياة على الأرض، ولاستمرارية وجود تلك الحياة بصورها المختلفة.
فبهذا التبادل بين الظلام والنور يتم التحكم في درجات الحرارة والرطوبة على سطح الأرض وفي غلافها الغازي القريب من ذلك السطح، ويتم التحكم كذلك في كميات الضوء اللازمة للحياة في مختلف البيئات الأرضية، كما يتم التحكم في العديد من الأنشطة والعمليات الحياتية من مثل التنفس، والنتح، والتمثيل الضوئي، والأيض وغيرها، ويتم ضبط التركيب الكيميائي للغلاف الغازي المحيط بالأرض، وضبط صفاته الطبيعية، وتتم دورة الماء بين الأرض والسماء والتي لولاها لفسد كل ماء الأرض، وغير ذلك الكثير من الظواهر والعمليات التي بدونها لا يمكن للأرض أن تكون صالحة للعمران.
وتعاقب الليل والنهار على نصفي الأرض هو كذلك ضروري للحياة؛ لأن جميع صور الحياة الأرضية لا تتحمل مواصلة العمل دون راحة وإلا هلكت، فالإنسان والحيوان والنبات، وغير ذلك من أنماط الحياة البسيطة تحتاج إلى الراحة بالليل لاستعادة النشاط بالنهار، أو عكس ذلك بالنسبة لأنماط الحياة الليلية.
إن هذا التبادل في اليوم الواحد بين ليل مظلم ونهار منير يعين الإنسان على إدراك حركة الزمن، وتأريخ الأحداث، وتحديد الأوقات بدقة وانضباط ضروريين للقيام بمختلف الأعمال، فلو كان الزمن كله على نسق واحد من ليل أو نهار ما استقامت الحياة وما استطاع الإنسان أن يميز ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا؛ ومن ثم توقفت حركة الحياة([1]).
وعن إمكانية سرمدية الليل والنهار فقد قرر التاريخ الجيولوجي الفلكي أن الأرض بعد انفصالها عن الشمس كانت تدور حول نفسها بسرعة أكبر مما هي عليها الآن؛ إذ كانت تتم دورتها حول نفسها مرة كل أربع ساعات، فالليل والنهار كانا في مجموعهما أربع ساعات فقط.
وبتوالي النقص في سرعة دورانها حول نفسها، زادت المدة التي تتم فيها دورتها هذه، فزادت مدة الليل والنهار إلى خمس ساعات ثم ست حتى وصلت إلى أربع وعشرين ساعة التي هي عليها الآن.
وقد تمكن العلماء من احتساب النقص في سرعة دوران الأرض فوجدوا أن هذا النقص يبلغ حوالي ثانية واحدة كل مئة وعشرين ألف سنة، وعليه فبعد 432 مليون سنة ينقص دوران الأرض بمقدار ساعة، وعندئذ يصبح مجموع ساعات الليل والنهار25 ساعة، وهكذا يتوالى النقص ويطرد طول النهار والليل، وعلى هذا الأساس لا بد أن تقف الأرض يومًا ما، وعندما تقف يصبح الوجه المقابل للشمس نهارا دائمًا والوجه البعيد عنها ليلًا دائمًا([2]).
وأيضا يكشف لنا القرآن عن ظاهرة كونية لم يتم اكتشافها إلا بالساعات الذرية وهي ظاهرة تباطؤ سرعة دوران الأرض حول نفسها، كما يؤكد علماء الفلك أن ظاهرة التباطؤ التدريجي في سرعة هذا الدوران اليومي بتأثير جذب القمر لمياه البحر ستؤدي حتما إلى انشقاق القمر في المستقبل.
وقد يؤدي هذا التباطؤ أيضًا إلى توقف الدوران المغزلي للأرض كمقدمة لبداية انعكاس اتجاهه في المستقبل، لتبدأ الأرض في الدوران حول نفسها في اتجاه مضاد للاتجاه الحالي، فتبدو لنا الشمس وهي تطلع من مغربها الحالي، ويصبح المغرب مشرقًا والمشرق مغربًا([3]).
ومن ثم فتعاقب الليل والنهار ضرورة أساسية لنمو الحياة على الأرض، وبدهي أنه من المحال أن تستمر الحياة إذا كان النهار سرمدًا أو كان الليل سرمدًا.
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآيات الكريمة:
لقد نبه القرآن الكريم إلى إمكان جعل الليل سرمدا أو النهار سرمدا ـ وهذه فرضية علمية ممكنة الوقوع ـ في سورة القصص: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)( (القصص).
ففي هذه الآيات الكريمات يلفت المولى عز وجل نظر البشر إلى هذه الحقيقة العلمية الضرورية للحياة فيقول: انظروا واسمعوا إذا وقفت الأرض عن دورانها، فأصبح نصفها المواجه للشمس نهارًا دائمًا، والبعيد عنها ليلًا دائمًا، من غير الله يهبكم تعاقب الليل والنهار مرة أخرى؛ ومن هنا فإن الآيات بها إعجاز علمي واضح، وإن حاول الطاعنون إنكاره، وقولهم بأن الآيات لا تعدو أن تكون دليلًا على رحمة الله عز وجل بأهل الأرض، إنما هو كلمة حق أريد بها باطل؛ ذاك أن كونها كذلك لا ينفي إشارتها إلى حقيقة علمية كونية، خاصة وأنها تطابقت مع ما توصل إليه العلم، وهذا هو القرآن من أي وجه نظرت إليه وجدت إعجازًا مبهرًا.
من أقوال المفسرين:
قال ابن كثير: يقول الله تعالى ممتنًا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما، وبيَّن أنه لو جعل الليل دائمًا عليهم سرمدًا إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولسئمته النفوس؛ ولهذا قال تعالى: )من إله غير الله يأتيكم بضياء((القصص: ٧١)؛ أي: تبصرون به وتستأنسون بسببه “أفلا تسمعون”، ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمدًا؛ أي: دائمًا مستمرًّا إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولتعبت الأبدان وكلّت من كثرة الحركات والأشغال؛ ولهذا قال تعالى:)من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه( (القصص: ٧٢)؛ أي: تستريحون من حركاتكم وأشغالكم “أفلا تبصرون”([4]).
وعند تفسيره لهذه الآيات يقول الطاهر ابن عاشور: “ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميَّز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم، فهو دليل الحدوث، وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام، فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائمًا؛ لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبهما دومًا أشد من الإنعام بأفضلهما وأنفعهما؛ لأنه لو كان دائمًا لكان مسئومًا ولحصلت منه طائفة المنافع، وفقدت منافع ضده، فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلًا إلى ما هو دون.
وجيء في الشرطين بحرف “إن”؛ لأن الشرط مفروض فرضًا مخالفًا للواقع… وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل؛ لأن الليل لو كان دائمًا لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات؛ ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم”([5]).
3) وجه الإعجاز:
نبه الله عز وجل عباده في الآيات إلى نعمة من نعمه عليهم ألا وهي نعمة تعاقب الليل والنهار، والتي هي ضرورية للحياة، وبدونها لا تستمر الحياة على وجه الأرض، وذلك عن طريق افتراضه زوال تلك النعمة بجعل الليل أو النهار سرمدًا، وقد أكدت الحقائق العلمية إمكان حدوث هذا عن طريق توقف الأرض عن الدوران، خاصة وأنه ثبت علميًّا أن الأرض تبطئ في سرعة دورانها حوالي ثانية واحدة كل مئة وعشرين ألف سنة، وأنها لا بد أن تقف يومًا ما.
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص422، 423 بتصرف.
[2]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص91.
[3]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص274 بتصرف.
[4]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص24 بتصرف.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج20، ص168: 171 بتصرف.
نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)
مضمون الشبهة:
ينفي بعض المتوهمين ما ذهب إليه علماء الإعجاز العلمي من أن قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت: ٢٠)يحدد لنا منهجًا علميًّا لمعرفة كيفية بدء الخلق؛ لأن الآية من وجهة نظرهم لا تعدو الأمر بالسير في الأرض للاعتبار والاتعاظ.
وجها إبطال الشبهة:
1) هناك دلائل وإشارات على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض، والبحث والتنقيب فيها، باستخدام الإنسان ما يتيسر له من وسائل وأدوات؛ ليعرف كيف بدء الله الخلق على الأرض، عن طريق الشواهد المحفوظة في الأرض، من صخور وحفريات، والتي تؤكد كلها على أن من خلق، قادر على الإعادة؛ فالذي أبدع في النشأة الأولى ووفر هذه الظروف وهيأها لحياة الإنسان قادر على إعادة تلك النشأة.
2) يقول العلماء: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح القابل للحياة، ولولا ذلك لما ظهرت الحياة على سطحها، وإلى هذا أشار القرآن الكريم بقوله:)وفي الأرض آيات للموقنين(20)((الذاريات)، وهذا من قبيل السير في الأرض والنظر فيها، والذي أمر به الله تعالى في قوله:)قل سيروا في الأرض( (النمل: ٦٩)، وليس صحيحًا ما توهمه بعض المشككين من أن أمثال هذه الآيات لا تعدو الأمر بالسير في الأرض للاتعاظ؛ فالقرآن الكريم يحدد لنا من خلال هذه الآيات منهجًا علميًّا لمعرفة كيفية بدأ الخلق، فإن حدث ذلك جاء الاعتبار والاتعاظ مبنيًّا على منهج علمي سليم.
التفصيل:
أولا. هناك دلائل على بدء الخلق لا تتأتى المعرفة بها إلا بالسير في الأرض:
1) الحقائق العلمية:
في بداية الألفية الثالثة كثر حديث العلماء عن الكتب أو السجلات المحفوظة في الأرض، ولكن ما هذه الكتب؟ وما شكل صفحاتها؟ وما شكل كلماتها؟
منذ 24 ألف سنة مرت الأرض بالعصر الجليدي؛ حيث غطى الجليد مساحات شاسعة من الكرة الأرضية وبارتفاع يبلغ آلاف الأمتار، وأصبح علماء المناخ اليوم يخبروننا بدقة مذهلة عن ذلك العصر: حالة الطقس، درجات الحرارة، تركيب الغلاف الجوي، وغير ذلك من المعلومات التفصيلية، فكيف استطاعوا معرفة ذلك؟
عندما قام أحد الباحثين باقتطاع قطعة جليد من الثلوج المتراكمة على جبال الألب، تبين أنها تعود إلى 24 ألف سنة مضت، وعندما قام بتحليلها واختبارها ظهرت فيها خطوط دقيقة، كل خط يصف حالة الطقس خلال سنة، ولا يزال الهواء المحفوظ بين ذراتها كما هو منذ تلك الفترة، حتى إنهم أطلقوا على هذه العينة اسم “السجل المحفوظ”!
يبحث العلماء في طبقات الجليد التي مضى عليها آلاف السنين عن أسرار بداية الخلق، وقد وجدوا أشياء عجيبة، وهي أن تاريخ العصر الجليدي مكتوب في طبقات الجليد
مقطع من لوح جليد اقتطع من عمق أكثر من 1800 م، ونرى فيه خطوطا يعبر كل خط عن مرحلة زمنية مر بها هذا الجليد، فانظروا كيف كتب الله لنا تاريخ الأرض وأمرنا أن نسير فيها لنبحث عن بداية الخلق، عسى أن ندرك قدرة الله على إحياء الموتى يوم القيامة
وتتكرر هذه العملية مع علماء طبقات الأرض، فقد عرفوا من خلال الصخور عمر الأرض، بل عرفوا أكثر من ذلك، فقد نزل أحد الباحثين إلى أعمق منجم للفحم فوجد ماء متدفقًا بشكل دائم، وعندما أُخذ عينة من هذا الماء وُجد أنها تعود إلى ملايين السنوات! وفيها كائنات حية لا تزال كما هي منذ ذلك الزمن تتكاثر وتعيش في ظروف قاسية بانعدام الضوء والهواء، وتعرف من خلال تحليل هذا الماء على شكل الحياة في ذلك الزمن.
يبحث العلماء اليوم في طبقات التراب عن أسرار الخلق، وقد لاحظوا أن كل طبقة تسجل تاريخًا محدّدًا من عمر الأرض، وهنا نتذكر قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق((العنكبوت:٢٠)، ففي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن أسرار بدء الخلق مكتوبة في الأرض.
صورة لمقطع في جذع شجرة، يبين عليه وجود حلقات متعددة، كل حلقة لدى دراستها تبين أنها تختزن تاريخ فترة محددة من الزمن، وسبحان الله الذي أودع هذه الأسرار في مخلوقاته
إن هذا الأمر يتكرر مع الباحثين في تاريخ الإنسان، فقد وجدوا سجلات محفوظة داخل كل خلية من خلايا الإنسان، وعندما وجدوا جمجمة بشرية تعود إلى أكثر من مئة ألف سنة، تبين لهم بنتيجة تحليل ذراتها، أن كل شيء موجود ومحفوظ في ثنايا هذه العظام: تركيب ذلك الإنسان الذي عاش قبل مئة ألف سنة، ومواصفاته ومتوسط عمره، وحتى نوعية غذائه وشرابه!
إذًا القاعدة التي نستنتجها من هذه المعطيات أن كل شيء محفوظ بكتاب، ولكن حروف هذا الكتاب هي الذرات، وهذه الكشوف حدثت كلها في القرن العشرين، وهنا نتساءل: هل يوجد في كتاب الله عز وجل حديث عن هذه الكتب المحفوظة؟ إنها الآية التي رد الله بها دعوى المنكرين للبعث بعد الموت، عندما استغربوا بعد تحولهم إلى تراب كيف يعودون للحياة، فماذا أجابهم الله عز وجل؟ يقول تعالى: )قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)( (ق)، وإذا كنا نحن البشر نستطيع معرفة الكثير من الأشياء عن الماضي من خلال هذه المعلومات المدونة على الذرات، فكيف يكون علم الله عز وجل([1])؟
وقد توصل العلماء باستخدام الانحلال الإشعاعي لليورانيوم وتحوله إلى رصاص ـ في قياس عمر الصخور الأرضية والنيزكية ـ إلى أن تكوين القشرة الأرضية (تصلب القشرة) بدأ منذ 4.5 مليار سنة، وأن هذا الرقم هو أيضا عمر صخور القمر.
وقد استخدم العلماء حديثًا الكربون المشع لتحديد عمر الحفريات النباتية والحيوانية وتاريخ الحياة على الأرض، وبهذا فإن كوكب الأرض بدأ تشكيله وتصلب قشرته منذ 4500 مليون سنة، وأن الإنسان زائر متأخر جدًّا لكوكب الأرض، بعد أن سخر له الله ما في الأرض جميعًا: )هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا (1)((الإنسان).
ويؤكد العلم أن الإنسان ظهر منذ بضع عشرات الألوف من السنين دون تحديد نهائي، ويمكن أن نعتبر أن التشكيل الجيولوجي للأرض بدأ من إرساء الجبال النيزكية على قشرتها الصلبة، وانبعاث الماء والهواء من باطن الأرض، وتتابع أفراد المملكة النباتية والحيوانية حتى ظهور الإنسان([2]).
ولقد حث القرآن الكريم على دراسة الأرض ومكوناتها لنتعرف من خلال ذلك على بداية الخلق وعلى النشأة الأولى للكون، كما حث الإنسان على أن يفتش عن المفردات العلمية والكونية ليعلم ماهية بداية الخلق والتكوين.
ولقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التي مر بها عرضًا بيانيًّا دقيقًا، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض.
وثمة توافق دقيق بين ما توصل إليه العلماء في عصرنا الحاضر وبين ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بدء الخلق، التي تتضح للإنسان من خلال سيره في الأرض.
2) التطابق بين الحقيقة العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
جاء ذكر الأرض في عدد من الآيات القرآنية التي لا تخلو من إشارات إلى العديد من الحقائق العلمية عن الأرض، ومن ذلك آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.
ففي قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق( (العنكبوت: ٢٠)، توجيه من الله عز وجل بأساسيات المنهج العلمي في البحث والدراسة لا يختلف إطلاقًا عن المناهج المعاصرة في دراسة علوم التاريخ الطبيعي وعلوم الكونيات، بل ومعظم العلوم التجريبية، وبهذا المنهج ينصرف الإنسان عن الاستغراقفي التأمل والجدل النظري، إلى علم ينفع قائم على الحركة والتجربة والأخذ بالأسباب.
هذا المنهج الذي يدعو إلى السيرفي الأرض والنظر فيها، حتى تتفتح العيون والعقول والمدارك على تنوع مخلوقات الله، فلا يوجد مكان أو منطقة على سطح الأرض تتجمع أو تعيشفيها كل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات والنباتات، وكيف يمكن لإنسان أن يدرك هذا التنوع دون أن يسيرفي الأرض، ويخرج من نطاق ما ألفته عينه وفطرت عليه مداركه!
كذلكلا يوجد مكان على سطح الأرض تجمعتفيه كل أنواع الصخور، سواء من ناحية التنوعفي التركيب المعدني والكيميائي، أو من ناحية العمر، أو الزمن الذي مر عليها منذ نشأتها، أوفي تنوع ما تحويه من معادن وخامات، أو ما تسجله من تحركات القشرة الأرضية… فالمشيفي الأرض والتدقيقفيما نراه ونلمسه قد يقودنا إلى العثور على النيازك، وهي صخور ومعادن سقطت على الأرض من خارجها، وقادت إلى معارف هائلة عن تركيب الكون الخارجي ونشأة الأرض.
والمنهجلا يدعو إلى مجرد النظر إلى هذه المخلوقات والانبهار بعظمة الخالق وقدرته، وإن كان مطلوبًا من عامة الناس، ولكن يدعو إلى ما هو أبعد وأعمق وأكثر نفعًا؛ إنه يدعو إلى التدبرفي كيفية بدء الخلق لكل ما تراه أعيننا أو تلمسه جوارحنا، وهذا يذكر الإنسان بإحدى تبعات الأمانة التي حملها، وبإحدى صور التكريم الذي كرمه به ربه على سائر المخلوقات، ألا وهو العقل والعلم والتمييز([3]).
الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
o سيروا: امشوا([4]).
o انظروا: نظر إلى الشيء أبصره وتأمله بعينه، وفيه: تدبر وفكر([5]). و”النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص”([6]).
o الخلق: “الخلق أصله التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال: )خلق السماوات والأرض( ؛ أي: أبدعهما بدلالة قوله:)بديع السماوات والأرض(، ويستعمل في إيجاد الشيء من الشيء نحو:)خلقكم من نفس واحدة(“([7]).
أقوال المفسرين:
ذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن الله عز وجل بعد أن أنكر على الكافرين ترك الاستدلال بما هو بمرأي منهم، وذلك في قوله تعالى:)أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)((العنكبوت)، انتقل إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعوُّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم، فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.
وإنما أمر بالسير في الأرض؛ لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوياتها، ويمر به على منازل الأمم، حاضرها وبائدها، فيرى كثيرًا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها.
فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل؛ فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة، وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي؛ لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل، فيظن أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه قادر على إيجاد أمثالها، فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن؛ لأن للشيء المتقرر تحققًا محسوسًا، وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر؛ لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر، وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشىء النشأة الآخرة([8]).
وفي هذا الصدد يقول الشيخ الشعراوي: السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟
الحقيقة أننا كما قال عز وجل: )قل سيروا في الأرض((العنكبوت: ٢٠)؛ أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذًا حين تسير في الأرض، فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها… والسير هنا مترتب عليه الاعتبار: )كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ( (العنكبوت: ٢٠) وما دمنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخلق أهون، كما قال عز وجل: )أفعيينا بالخلق الأول((ق: ١٥) لذلك يؤكد الخالق سبحانه وتعالى هذه القدرة بقوله تعالى:) إن الله على كل شيء قدير(20)((العنكبوت) ([9]).
ويقول الدكتور محمد السيد طنطاوي: أمر سبحانه وتعالى رسوله أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر في أحوال هذا الكون، لعل هذا التأمل يهديهم إلى الحق فقال: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة( (العنكبوت: ٢٠).
أي: قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين للبعث: سيحوا في الأرض، وتتبعوا أحوال الخلق، وتأملوا كيف خلقهم الله عز وجل ابتداء على أطوار مختلفة، وطبائع متمايزة، وأحوال شتى.
والمقصود بالأمر بالسير: التدبر والتأمل والاعتبار؛ لأن من شأن التنقل في جنبات الأرض أنه يوقظ الحس، ويبعث على التفكر، ويفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين، ولم يتأملها القلب قبل ذلك([10]).
وبهذا يتضح مدى التوافق بين الآية القرآنية وبين الحقائق العلمية، فكل منهما حق ومصدره واحد، وهو الحق سبحانه وتعالى، وصدق المولى عز وجل إذ يقول:) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
3) وجه الإعجاز:
على الرغم من أن عملية بدء الخلق قد تـمت في غيبة الإنسان إلا أن الله تعالى قد ترك لنا في أنفسنا، وفي صخور الأرض من حولنا، وفي صفحة السماء من الشواهد الحسية ما يمكن أن يعين الإنسان ـ بإمكاناته المحدودة ـ على الوصول إلى تصور ما عن كيفية الخلق، وذلك عن طريق السير في الأرض، وإلى هذا أشار الله عز وجل في قوله تعالى: )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ( (العنكبوت: ٢٠).
ثانيا. من آيات الله في خلق الأرض وجعلها صالحة للعمران:
1) الحقائق العلمية:
بعد الأرض من الشمس:
يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مئة وخمسين مليونًا من الكيلو مترات، وقد استخدمت هذه المسافة كوحدة فلكية للقياس في فسحة الكون… وقد قدرت الطاقة التي تشغلها الشمس من كل سنتيمتر مربع على سطحها بحوالي عشرة أحصنة ميكانيكية، ولا يصل الأرض سوى جزء واحد من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة، وهو القدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية.
ولو كانت الأرض أقرب قليلًا إلى الشمس، لكانت كمية الطاقة التي تصلها كافية لإحراق جميع صور الحياة على سطحها، ولتبخير مياهها، ولخلخلة غلافها الغازي.
وباختلاف بعد الأرض عن الشمس قربًا أو بعدًا يختلف طول السنة، وطول كل فصل من الفصول نقصًا أو زيادة، مما يؤدي إلى اختلال ميزان الحياة على سطحها([11]).
كما أن الله تبارك وتعالى جعل هذه الأرض في مدارها الصحيح والمناسب للحياة، فالعلماء اليوم يقولون: إن الأرض وضعت في المدار الصحيح، والقابل للحياة، ولولا ذلك لم تظهر الحياة على ظهرها أبدًا.
إن وضع الأرض في هذا المدار يرد على من قالوا بأن الكون نشأ بالمصادفة، فلا يمكن للمصادفة أن تضع الكرة الأرضية بالذات على هذه المسافة الدقيقة من الشمس وتجعلها تدور بالحركة المناسبة؛ لأن الأرض لو كانت أسرع مما هي عليه الآن لقذفت بالمخلوقات إلى الفضاء الخارجي، ولم تستطع جاذبيتها الحفاظ على الاستقرار للناس([12]).
وبالإضافة إلى ذلك فإن تحديد مدار الأرض حول الشمس بشكله البيضاني (الإهليجي)، وتحديد وضع الأرض فيه قربًا وبعدًا على مسافات منضبطة من الشمس، يلعب دورًا مهمًّا في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلى كل جزء من أجزاء الأرض، وهو من أهم العوامل لجعلها صالحة لنمط الحياة المزدهرة على سطحها، وهذا كله ناتج عن الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة (النابذة) المركزية التي دفعت بالأرض إلى خارج نطاق الشمس، وشدة جاذبية الشمس لها([13]).
بنية الأرض:
أثبتت دراسات الأرض أنها تنبني من عدة نطق محددة حول كرة مصمتة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب (الداخلي)، ولهذا اللب الصلب ـ كما لكل نطاق من نطق الأرض ـ دوره في جعل هذا الكوكب صالحًا للعمران بالحياة الأرضية في جميع صورها.
رسم توضيحي لبنية الأرض الداخلية
كذلك فإن لها مجال جاذبية، لولاه لهرب منها كل من غلافيها الغازي والمائي، ولو فقدتهما ـ ولو جزئيا ـ لاستحالت الحياة على الأرض.
كما أن للأرض مجالًا مغناطيسيًّا ثنائي القطبية يحمي الأرض من وابل الأشعة الكونية المتساقط باتجاهها في كل لحظة.
المجال المغناطيسي المحيط بالأرض يحميها
من الأشعة الكونية المتساقطة باتجاهها وبدونها
تتعرض صور الحياة على الأرض للهلاك
وقد لعبت الجبال ـ ولا تزال تلعب ـ دورًا مهمًّا في تثبيت الأرض ككوكب يدور حول محوره، وتقلل من درجة ترنحه… ولولا نطاق الضعف الأرضي ما أمكن لهذه العمليات الداخلية للأرض أن تتم، وهي من ضرورات جعلها صالحة للعمران([14]).
3) التطابق بين ما أثبته العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد حث المولى عز وجل على تنمية الملكة العقلية على التفكر في الأنفس والآفاق، كما طالب ببناء القناعة به على نتائج التبصر والتفكير المعمق في الكون والنفس والحياة والتاريخ، لاكتشاف دقة التدبير وبديع الصنع، وما يلزم من ذلك من إفراد الله عز وجل بالألوهية، فتؤسس قناعة الإيمان به على هذه النتائج مما يعطي إيمانًا قائمًا على البرهان لا على التقليد، وعلى الحجة لا على الظنون.
والأرض كوكب فريد في كل صفة من صفاته، مما أهله بجدارة أن يكون مهدًا للحياة الأرضية بكل مواصفاتها، ولعل هذا التأهيل هو أحد مقاصد قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ( (الذاريات)، وقد بينا في الحقائق العلمية بعضًا من هذا التأهيل الذي أشارت إليه الآية.
من الدلالات اللغوية في قوله تعالى: )وفي الأرض آيات للموقنين (20) ((الذاريات):
o آيات: هي من الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم([15]).
o الموقنين: اليقين من صفة العلم، فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علم يقين ولا يقال: معرفة يقين، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم([16]).
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى:)وفي الأرض آيات للموقنين (20) ((الذاريات) يقول ابن كثير رحمه الله : “أي: فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال، والقفار والأنهار والبحار”([17]).
ويذكر القرطبي رحمه الله : أنه تعالى يبين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور؛ فمنها عود النبات بعد أن صار هشيمًا، ومنها أنه قدر الأقوات فيها قوامًا للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة.
وأنه تعالى قد خص الموقنين؛ لأنهم العارفون المحققون وحدانية ربهم، كما أنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها([18]).
بينما يوضح سيد قطب رحمه الله : أن هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه ، على نحو يكاد يكون فريدًا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل.
هذا الكون الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة، التي يبلغ عدد المعروف منها فقط ـ والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون ـ مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم .
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته، ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدًّا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغرًا أو كبرًا، لو تغير وضعها من الشمس قربًا أو بعدًا.
لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا، لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ… وغير ذلك الكثير مما لو مضى الإنسان ـ بل لو مضى الأناسي جميعا ـ يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات ـ ما انتهى لهم قول ولا إشارة، والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب، والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة([19]).
ففي الآية إشارة إلى عدد من الآيات التي تفردت وتميزت بها الأرض عن سائر الكواكب، وهذا ما أثبتته حقائق العلم الحديث.
3) وجه الإعجاز:
آيات الله في الأرض أكثر من أن تحصى، وقد أشارت إليها هذه الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا عز وجل:)وفي الأرض آيات للموقنين (20)((الذاريات)، فسبحان من خلق الأرض بهذا القدر من إحكام الصنعة، وشمول العلم، وجلال الربوبية وعظمة الألوهية، والتفرد بالوحدانية المطلقة، والقدرة على إفناء هذا الخلق، ثم إعادة بعثه، وفي هذه الآيات الحجة على منكري البعث والجزاء.
(*) نقض النظريات الكونية، أبو نصر عبد الله الإمام، مرجع سابق.
[1]. )وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)((ق) ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[2]. موسوعة البحوث والمقالات العلمية، علي بن نايف الشحوذ، مجلة الإصلاح، العدد (325)، بتاريخ 15/7/1995م، ص5.
[3]. )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ((العنكبوت:20) ، د. أحمد حسنين حشاد، مقال منشور بموقع: مدونات مكتوب www.maktoob.com.
[4]. المعجم الوسيط، مادة: سار.
[5]. المعجم الوسيط، مادة: نظر.
[6]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص497.
[7]. المرجع السابق، ص157.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج10، ج20، ص230 بتصرف.
[9]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج18، ص11118: 11120 بتصرف.
[10]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص26، 27 بتصرف.
[11]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص84: 88 بتصرف.
[12]. )وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)((الذاريات): رؤية جديدة، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[13] . من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص89، 90 بتصرف.
[14]. المرجع السابق، ص90: 96 بتصرف.
[15]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص33.
[16]. المرجع السابق، ص252.
[17]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص235.
[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص39 بتصرف.
[19]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3378، 3379 بتصرف.
نفي إعجاز القرآن العلمي في إخباره عن الأمواج الداخلية للبحر اللجي وظلماته
مضمون الشبهة:
دعوى خطأ القرآن في وصفه منطقة المصب والحواجز بين البحار
مضمون الشبهة:
أثار الطاعنون حول قوله تعالى:)وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان)، وقوله تعالى:)مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) شبهات عدة، وقد جاءت طعونهم مرتكزة إلى المحاور الآتية:
لقد أخطأ القرآن حينما استعمل لفظة [البحرين] للدلالة على المياه العذبة والمالحة؛ إذ لا يوجد بحر عذب فرات.
ماذا تقصد الآيات بالماء العذب والماء المالح؟ هل مياه الأمطار أو الآبار أو الأنهار أو البحار؟
ألفاظ [برزخًا، حجرًا محجورًا، لا يبغيان] تعني عدم الامتزاج بأية حال من الأحوال، وهذا مخالف لما يحدث.
عرف محمد ظاهرة مصبات الأنهار في البحار من البحارة أو الصيادين أو الحجاج.
ذكرت الآيات أن اللؤلؤ والمرجان يستخرجان من المياه العذبة، وهذا غير صحيح.
ما الذي جعل المفسرين يتخبطون عشوائيًّا عند تفسيرهم هذه الآيات؟
ومن ثم فليس في الآيات إلا تدليسات وأقوال كاذبة.
وجها إبطال الشبهة:
1) لا مسوغ للطاعن فى تخطئة القرآن في استعماله لفظة [البحرين] للدلالة على الماء العذب والماء المالح بحجة أنه لا يوجد بحر عذب؛ ذاك أن لفظة [البحر] في لغة العرب تطلق على كل من البحر المالح والبحر العذب [النهر]، دلت على ذلك الشواهد من القرآن والشعر ومعاجم اللغة؛ قال ابن منظور: “البحر: الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا وهو خلاف البر”، وقال الراغب في المفردات: “أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير”.
2) إذا علمنا أن قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) يصف اللقاء بين البحار المالحة وليس بين البحر والنهر ـ بطل ما آثاره الطاعن من شبهات؛ فإذا كان العلماء يقولون إن اللؤلؤ والمرجان يستخرجان من المياه المالحة، فإن هذا ما قالت به الآية. كما أن الحاجز بين البحرين ـ سواء المالحين أو المالح والعذب ـ لايمكن رؤيته بالعين المجردة حتى يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه من البحارة، فلم يتمكن العلماء من رؤيته إلا باستخدام آلات التصوير الحراري منذ عقود قليلة. أما بخصوص المفسرين فلم يتح لهم في العصور القديمة الإحاطة بالتفاصيل العلمية التي ألمحت إليها الآيات، ومع ذلك فقد ذهب أكثرهم إلى أن الحاجز بين البحرين غير مرئي.
التفصيل:
أولا. لفظة “البحرين” دقيقة جدًّا في موضعها:
1) الحقائق العلمية:
مع تقدم العلم وانطلاقه لاكتشاف أسرار الكون أخذ الإنسان يبحث عن كيفية اللقاء بين البحر والنهر، ودرس عينات من الماء حيث يلتقي النهر بالبحر، ودرس درجات الملوحة والعذوبة بأجهزة دقيقة، وقاس درجات الحرارة، وحدد مقادير الكثافة، وجمع عينات من الكائنات الحية وقام بتصنيفها، وحدد أماكن وجودها، ودرس قابليتها للعيش في البيئات النهرية والبحرية. وبعد مسح لعدد كبير من مناطق اللقاء بين الأنهار والبحار اتضح للعلماء بعض الأسرار التي كانت محجوبة عن الأنظار، واكتشف الباحثون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
مياه الأنهار، وهي شديدة العذوبة.
مياه البحار، وهي شديدة الملوحة.
مياه في منطقة المصب مزيج من الملوحة والعذوبة، وهي منطقة فاصلة بين النهر والبحر متحركة بينهما بحسب مد البحر وجذره، وفيضان النهر وجفافه، وتزداد الملوحة فيها كلما قربت من البحر، وتزداد درجة العذوبة كلما قربت من النهر.
كما اتضح للعلماء ما يأتي:
يوجد برزخ مائي يحيط بمنطقة المصب ويحافظ على هذه المنطقة بخصائصها المميزة لها، حتى ولو كان النهر يصب إلى البحر من مكان مرتفع في صورة شلال.
عدم اللقاء المباشر بين ماء النهر وماء البحر في منطقة المصب على الرغم من حركة المد والجزر وحالات الفيضان والانحسار التي تعتبر من أقوى عوامل المزج؛ لأن البرزخ المحيط بمنطقة المصب يفصل بينهما على الدوام.
يمتزج ماء النهر بماء البحر بصورة بطيئة مع وجود المنطقة الفاصلة من مياه المصب والبرزخ المائي الذي يحيط بها ويحافظ على وجودها.
تختلف الكتل المائية الثلاث [ماء النهر ـ ماء البحر ـ ماء المصب] في الملوحة والعذوبة، وقد شاهد الباحثون الذين قاموا بتصنيف الكائنات الحية الموجودة فيها ما يأتي:
o معظم الكائنات التي في البحر والنهر والمصب لا تستطيع أن تعيش في غير بيئتها.
o وبتصنيف البيئات الثلاث باعتبار الكائنات التي تعيش فيها تعتبر منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيها؛ لأن هذه الكائنات لا تستطيع أن تعيش إلا في الوسط المائي نفسه المتناسب في ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط الأسموزي([1]) في تلك الكائنات، وتموت إذا خرجت من المنطقة المناسبة لها، وهي منطقة المصب، وهي في الوقت نفسه منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية التي تعيش في البحر والنهر؛ لأن هذه الكائنات تموت إذا دخلتها([2]).
ويمكن أن يمتد تأثير المياه العذبة على المياه المالحة لمئات الكيلو مترات في البحر. وعلى الرغم من وجود كثير من مصبات الأنهار في العالم، إلا أنه لا يوجد برزخ يشبه الآخر! فكل برزخ يتميز بخصائص محددة عن غيره تتبع الاختلاف في درجة الملوحة، والاختلاف في درجة الحرارة، وهذا يتبع درجة ملوحة ماء البحر وطول النهر، وغير ذلك من العوامل مثل: درجة الحموضة (PH)، وكمية العوالق في ماء النهر، وسرعة تدفقه([3]).
صورة بالأقمار الاصطناعية لمصب نهر في الأرجنتين، وتظهر منطقة الحجر المحجور بشكل واضح والتي تفصل بين النهر العذب والبحر المالح
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
قال تعالى: )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان)، وفي هذا توضيح لامتزاج الماء العذب بماء البحر المالح مع وجود حاجز بينهما، وأن منطقة امتزاجهما محمية ببعض القيود على ما يدخل إليها أو يخرج منها، وهذا يتطابق مع ما أثبته العلم الحديث؛ حيث وصف القرآن البحرين (العذب والمالح) بأوصاف لم يكتشفها العلماء إلا في القرون الأخيرة.
يقول العلماء: إن هنالك خلطًا ومزجًا مستمرًّا للماء المالح بالماء العذب، وهذا الخلط لا يتوقف أبدًا؛ إذ إن سطح الماء يرتفع وينخفض باستمرار وبنظام محكم، ويبقى كل ماء منفصل عن الآخر بمنطقة محددة بينهما سماها القرآن بالبرزخ.
شكل يوضح البرزخ المائي في مصب نهر فرايزر في مقاطعة كولومبيا البريطانية
نرى في الشكل السابق كيف تتشكل الجبهة المالحة، والتي تعتبر بمثابة حاجز محكم تمر من خلاله المياه العذبة إلى المياه المالحة، ونرى أيضًا كيف يطفو الماء العذب على سطح الماء المالح، وعندما درس العلماء جريان الماء في هذه المنطقة وجدوه جريانًا مضطربًا، مع العلم أن الذي ينظر إلى الماء يظنه ساكنًا، وهذا يتوافق تمامًا مع قوله تعالى: )مرج البحرين( (الرحمن: ١٩)، ولكلمة مرج في اللغة معنيان: الخلط والاضطراب([4]).
وقبل أن نشرع في الرد على ما أثاره الطاعنون حول هذه الآية، لا بد أن نعرض للمعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية؛ لأننا سنعتمد عليها كثيرًا في ردنا.
المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية:
o اللفظ “مرج” يأتي بمعنيين بارزين: الأول: الخلط؛ قال تعالى: )بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)( (ق)، وجاء في لسان العرب: “أمر مريج؛ أي: مختلط”([5]). وقال الأصفهاني في المفردات: “أصل المرج: الخلط”([6])، وقال الزبيدي: “ومرج الله البحرين العذب والمالح: خلطهما حتى التقيا”([7]).
وقال ابن جرير الطبري: “والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه. وأصل المرج: الخلط، ومنه قول الله: )في أمر مريج (5)((ق)؛ أي: مختلط. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: )مرج البحرين((الرحمن: ١٩) يعني: خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر. وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس”([8]).
الثاني: مجيء وذهاب واضطراب: قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: “الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب. وقال: مرج الخاتم في الأصبع: قلق. ومنه الحديث «ومرجت أمانات القوم وعهودهم»: اضطربت واختلطت”([9]).
o والبحر العذب: هو النهر، ووصفه القرآن الكريم بوصفين: عذب، وفرات، ومعناهما: أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف [فرات]، وبهذا الوصف خرج ماء المصب الذي يمكن أن يقال: إن فيه عذوبة، ولكن لا يمكن أن يوصف بأنه فرات.
وما كان من الماء ملحًا أجاجًا فهو ماء البحار، ووصفه القرآن بوصفين: ملح، وأجاج (شديد الملوحة)، وبهذا خرج ماء المصب لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة فلا ينطبق عليه وصف ملح أجاج.
وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث:
هذا عذب فرات: ماء النهر.
وهذا ملح أجاج: ماء البحر.
وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا، والبرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب، فما هو الحجر المحجور؟
o الحِجْر والحَجْر: المنع والتضييق([10]). ويسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي([11]). قال تعالى:(هل في ذلك قسم لذي حجر (5)((الفجر)، والسفيه يحجر عليه القاضي من التصرف في ماله فهو في حجر أو حجر([12])، وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي:”لقد تحجرت واسعًا”؛ أي: ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك([13]).
ونستطيع أن نفهم الحجر هنا: بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر.
ووصفت هذه المنطقة أيضا بأنها محجورة؛ أي: ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلًا عن الأول؛ أي: إنها أيضًا ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها، فهي: حجر على الكائنات التي فيها، محجورة على الكائنات الحية بخارجها. ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين النهر والبحر برزخًا مائيًّا هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبسًا على كائناته الحية ممنوعًا على الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.
ونعود الآن إلى الطعون المثارة حول الآية، وأول ما يقابلنا قول الطاعن: لقد أخطأ القرآن الكريم حينما استعمل لفظة “البحرين” للدلالة على المياه العذبة والمالحة، وكان من الأولى أن يقول: “مرج النهر والبحر”؛ فالأنهار هي التي تحوي المياه العذبة فلا يوجد بحر عذب فرات.
وردا على ذلك نقول: البحر يطلق في لغة العرب على الماء الكثير الواسع الممتد ملحًا كان أو عذبًا، وقد استخدمه القرآن بالمعنيين، ووردت الكلمة مفردة 33 مرة، ومثناة 5مرات، وجمعًا على بحار مرتين، وعلى أبحر مرة واحدة، فيكون مجموع ورودها في القرآن الكريم 41 مرة، وسمي “البحر” كذلك لعمقه واتساعه وانبساطه، ومنه قيل للعالم الواسع العلم: بحر([14]).
وقد ورد إطلاق البحر على الماء العذب في أشعار العرب، ثم غلب على الماء المالح وقل إطلاقه على الماء العذب، كما ورد في لسان العرب وتاج العروس وغيرهما من المعاجم، ولا يزال يطلق على بعض روافد النيل اسم البحر، مثل: بحر الجبل، وبحر الزراف، وبحر الغزال، كما سمي أحد فروع النيل المتجه إلى منخفض الفيوم باسم “بحر يوسف”.
أما حين وردت كلمة “البحر” مثناة في القرآن فقد أريد بها البحر والنهر أو الماء المالح والعذب على سبيل التغليب، كما في قوله تعالى: )وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج((فاطر: ١٢)، وقوله تعالى:)وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان).
وهناك آيتان تشيران إلى امتزاج الماء المالح من بحر بالماء المالح من بحر آخر ـ كما رجح العلماء ـ وذلك في قوله تعالى: )مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن).
وهناك آية رابعة تشير إلى الحالتين معا، وهي التقاء الماء العذب بالمالح “نهر مع بحر”، والمالح بالمالح “بحر مع بحر”، وهي قوله تعالى:)أمن جعل الأرض قرارً وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزًا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61)( (النمل).
ومن ثم فقد استخدم القرآن كلمة “البحرين” للدلالة على ما نعرفه بالنهر والبحر؛ إذ البحر في اللغة هو الماء الكثير ملحًا كان أو عذبًا.
وكلمة “البحرين” في الآية للتغليب، وهي من قبيل قولنا: “الأولاد” للأبناء من الأولاد والبنات، و “الأبوان” للأب والأم، و “الأسودان” للتمر والماء، قال الراغب في المفردات: أصل البحر كل مكان واسع جامع للماء الكثير… وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء المالح دون العذب، وقوله تعالى عن البحرين: )هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج( (فاطر:12) إنما سمي العذب بحرًا لكونه مع الملح كما يقال للشمس والقمر: قمران، وقيل للسحاب الذي كثر ماؤه: نبات بحر([15]).
ومن الشواهد في هذا السياق قوله عز وجل: )أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا واتقوا الله الذي إليه تحشرون (96)( (المائدة)، ومعروف أن السمك يخرج من البحر والنهر كليهما لا من البحر فقط. وقوله تعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)((الأنعام)؛ فقد وضع الله تعالى البحر مقابل البر مما يدل على أن المقصود به البحر والنهر معًا.
وفي كتاب “الحيوان” للجاحظ نجد هذه العبارة: “ومررت به وهو جالس في يوم غمق حار ومد، على باب داره في شروع نهر الجوبار بأرديه، وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه”، فالمتأمل في العبارة يجد أنه قد ذكر أولا النهر، ثم أطلق عليه بعد ذلك بحرًا.
ويقول القاضي التنوخي في كتابه “الفرج بعد الشدة”: “فلا شدة أعظم من أن يبتلى الناس بملك يذبح أبناءهم، حتى ألقت أم موسى ابنها في البحر مع طفوليته، ولا شدة أعظم من حصول طفل في البحر”.
ويقول الشابشتي في كتابه “الديارات” واصفًا “دير طمويه”: “وطمويه في الغرب بإزاء حلوان، والدير راكب البحر، وحوله الكروم والبساتين والنخل والشجر، فهو نَزِهٌ عامر آهل، وله في النيل منظر حسن، وحين تخضر الأرض فإنه يكون بين بساطين من البحر والزرع”، والمقصود بالبحر في قولي القاضي التنوخي والشباشتي هو نهر النيل كما هو واضح.
وفي الشعر أيضًا كثيرًا ما استُخدم البحر للدلالة على الماء العذب، وثمة أمثلة كثيرة جدًّا، نذكر منها قول الشاعر المصري ظافر الحداد:
تأملت بحر النيل طولا وخلفه *** من البرك الغناء شكل مدورُ
وقول الشاعر ابن الرومي:
هو بحر من البحور فرات **** ليس ملحًا وليس حاشاه ضحْلا
وقول البحتري:
بحر متى تقف الظماء بموردٍ **** منه بطِيب لهم جداه ويعذبُ([16])
وكان حريًّا بالطاعن أن يتعلم أولا قواعد اللغة العربية وأحكامها، ومدلولات ألفاظها قبل أن ينزلق إلى وصف القرآن الكريم ـ وهو كلام الله المنزه عن كل خطأ ـ بأن به أخطاء وهفوات عظيمة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن العلماء عندما درسوا البحار وجدوا أن الأنهار ليست هي المصدر الوحيد للمياه العذبة؛ حيث توجد في قاع المحيطات خزانات ضخمة للمياه العذبة تتدفق باستمرار من هذا القاع، وهذه الخزانات يبلغ حجمها أضعاف ما يضخه النهر في البحر.
ومن هنا ندرك لماذا قال الله تعالى: )مرج البحرين((الرحمن: ١٩) ولم يقل: “النهر والبحر”؛ فثمة بحر عذب وخفي لا نراه بأعيننا ولكنه موجود، فالأقمار الاصطناعية التي قامت بتصوير هذه المحيطات والخلجان بالأشعة تحت الحمراء، تظهر وجود هذه الينابيع التي تمتزج بشكل دائم مع المياه المالحة.
إذا دققنا في الصورة السابقة لاحظنا أن ماء النبع العذب يتلون بلون آخر يدل على أن هذه المنطقة تحوي مياه عذبة باردة في الغالب([17]).
ومن ثم فإن كلمة “البحرين” دقيقة جدًّا في موضعها على عكس ما ادعاه الطاعن.
ويضيف الطاعن إلى الاعتراض السابق اعتراضًا آخر قائلا: الآيات واضحة في ذكر نوعين من المياه أحدهما مالح والآخر عذب، لكن الشيء الغامض هو أية مياه؟ أمياه الأمطار أو الآبار أو الأنهار أو البحار؟
ويمكن القول ـ ردا على ذلك ـ : إن عملية امتزاج الماء المالح بالماء العذب لا تقتصر على الأنهار؛ فهنالك مياه مختزنة تحت الأرض أيضًا تتدفق وتمتزج بمياه البحر، وتبلغ كمية الماء العذب المختزن تحت الأرض كمياه جوفية 23.4 مليون كيلو متر مكعب، بينما تبلغ كمية الماء الموجودة في جميع أنهار العالم 2.12 ألف كيلو متر مكعب، ويبلغ حجم الماء في البحيرات العذبة 91 ألف كيلو متر مكعب، ويمكن القول بأن حجم الماء المختزن تحت سطح الأرض أكبر من حجم الماء في الأنهار 250 ضعفًا.
رسم يوضح دورة امتزاج الماء العذب بالماء المالح
فالأنهار والينابيع والمياه الجوفية تشارك في هذه العملية مع ماء البحر([18])؛ ومن ثم فإن البيان الإلهي قد جاء معبرًّا تعبيرًا دقيقًا عن المعنى المراد: )مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج( (الفرقان: ٥٣)، قال ابن كثير: “فالحلو كالأنهار والعيون والآبار”([19]).
ثانيا. آية الرحمن تصف اللقاء بين البحار المالحة:
1) الحقائق العلمية:
لقد توصل علماء البحار ـ بعد تقدم في هذا العصر ـ إلى اكتشاف الحاجز بين البحرين المالحين كما يأتي:
هناك بين البحرين برزخ يتحرك بينهما، يسميه علماء البحار (الجبهة)، وبهذا يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسبًا لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة.
وهناك اختلاط بين البحرين رغم وجود هذا البرزخ لكنه اختلاط بطيء يجعل القدر الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يتحول إلى خصائص البحر الذي ينتقل إليه، دون أن يؤثر على تلك الخصائص.
اكتشف علماء البحار سر اختلاف تركيب البحار المالحة في عام (1284هـ/ 1873م) على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة (تشالنجر)، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كانت هذه الأسرار ثمرة رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام وهي تجوب في جميع بحار العالم.
وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يفصل مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، لكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم، وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، إلى جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام؟
ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام (1361هـ/ 1942م)، فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن وجود خواص مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة، والأحياء المائية، والحرارة، وقابلية ذوبان الأكسجين في الماء، ويكون الاختلاط بين ماء البحار عبر هذه الحواجز بطريقة بطيئة، يتحول معها الماء الذي يعبر الحاجز إلى خصائص البحر الذي دخل فيه، وهكذا يحدث الاختلاط بين البحار المالحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحددة بوجود تلك الحواجز المائية بين البحار، وأخيرًا تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المالحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الاصطناعية.
وقد جاء في بحث الظواهر البحرية ما يأتي([20]):
إن مياه البحار على الرغم من أنها تبدو متجانسة إلا أن هناك فروقًا كبيرة بين بعض الكتل المائية في بعض مناطق البحار العالمية، وتتحرك هذه الكتل على شكل وحدات متفرقة تفصلها عن بعضها البعض حدود واضحة وتحتفظ بخواصها رغم تحركها إلى مسافات بعيدة دون أن تمتزج مع بعضها.
وهناك نقطة مهمة أخرى، وهي الفرق الدقيق بين نوعي الحاجز كما ظهر بالدراسات العلمية الحديثة ووصف وصفا دقيقا؛ إذ لا توجد بين الكتل المائية في البحار منطقة محدودة كتلك التي توجد في منطقة المصب، ومن المهم جدا أن نجد ذكرًا للؤلؤ والمرجان في هذه المنطقة من البحار، وأن لا نجد مثل ذلك عند بحث (التقاء المياه العذبة مع المياه المالحة)، ويدل ذلك على أن اللؤلؤ والمرجان يتكونان في المناطق البحرية النقية ولا يتكونان في مناطق امتزاج المياه العذبة مع مياه البحر، وتؤكد الدراسة البحرية الحديثة أن المرجان يوجد فقط في المناطق المدارية ـ دون الاستوائية ـ غير الممطرة أو قليلة المطر، ولا ينمو في مناطق المياه العذبة.
وللباحث محمد إبراهيم السمرة ـ الأستاذ بكلية العلوم، قسم علوم البحار، جامعة قطر ـ دراسة ميدانية في خليج عمان (الخليج العربي) ذكر فيها نتائج دراسات كيميائية قامت بها سفينة البحوث (مختبر البحار) التابعة لجامعة قطر، في الخليج العربي وخليج عمان في الفترة (1984/ 1986م)، وتضمن البحث مقارنة واقعية بين الخليجين بالأرقام والحسابات والرسومات والتحليل الكيميائي، وبين اختلاف خواص كل منهما عن الآخر من الناحية الكيميائية، والنباتات السائدة في كل منهما، ووضح البحث وجود منطقة بين الخليجين تسمى في علوم البحار: “منطقة المياه المختلطة” (MixedـWater Area ) (منطقة البرزخ).
وبينت النتائج أن عمود الماء في هذه المنطقة يتكون من طبقتين من المياه، إحداهما سطحية أصلها من خليج عمان، والأخرى سفلية أصلها من الخليج العربي، أما في المناطق البعيدة والتي لا يصل إليها تأثير عملية الاختلاط (Mixing) بين الخليجين، فإن عمود الماء يتكون من طبقة واحدة متجانسة وليس من طبقتين، وأكدت النتائج أنه على الرغم من هذا الاختلاط (في المناطق التي بها مياه مختلطة)، وتواجد نوعين من المياه فوق بعضهما البعض، فإن حاجزًا ثابتًا له استقرار الجاذبية وقوتها(Gravitational Stability) يقع بين طبقتي المياه، ويمنع مزجهما أو تجانسهما؛ حيث يتكون بذلك مخلوط غير متجانس (Heterogeneous Mixture)، وأوضحت النتائج أن هذا الحاجز إما أن يكون في الأعماق (من 10 إلى 50 مترًا) إذا كان اختلاط مياه الخليجين رأسيًّا؛ أي أحدهما فوق الآخر، وإما أن يكون هذا الحاجز على السطح إذا تجاوزت المياه السطحية لكل من الخليجين([21]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:
لقد أشار القرآن الكريم إلى الحقيقة العلمية التي ذكرناها آنفا والتي لم يتوصل إليها العلم إلا في العقود الأخيرة ـ في قوله تعالى: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان(20)((الرحمن)؛ فقد ذكر القرآن أن ثمة حواجز في البحار المالحة نفسها، وهي تشبه الحواجز التي توجد بين البحار ومصبات الأنهار.
المعاني اللغوية وأقوالالمفسرين في الآية:
o البحرين: قال ابن فارس: “قال الخليل: سمي البحر بحرًا لاستبحاره وهو انبساطه وسعته.. ويقال للماء إذا غلظ بعد عذوبة استبحر، وماء بحري؛ أي: ملح”([22]). وقال الراغب الأصفهاني: “وقال بعضهم: البحر يقال في الأصل للماء الملح دون العذب”([23]). وقال ابن منظور: “وقد غلب على الملح حتى قل في العذب”([24]).
فإذا أطلق البحر دل على البحر الملح، وإذا قيد دل على ما قيد به، والقرآن يستعمل لفظ الأنهار للدلالة على المياه العذبة، ويطلق البحر ليدل على البحر الملح، قال تعالى: )وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار(32)( (إبراهيم).
o البرزخ: هو الحاجز: وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه لا يرى.
o البغي: قال ابن منظور: “وأصل البغي مجاوزة الحد”([25]).
ولقد آثار الطاعنون عدة شبهات حول قوله تعالى: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)( (الرحمن)، وقوله تعالى: )وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53)((الفرقان).
فمن ناحية أولى: يقول الطاعن: لو كان المقصود هو مياه الأنهار التي تصب في البحار وتبقى محافظة على عذوبتها لمسافة معينة وسط مياه البحار المالحة، فلماذا استعمل القرآن الكلمات: “لا يبغيان”، و”برزخًا وحجرًا محجورًا”؟ ألا تعني أن المياه لا يمكن أن تلتقي أو تمتزج البتة؟ فالمفهوم من هذه الآيات هو أن هذه المياه لن تمتزج بأية حال من الأحوال؛ فالبرزخ معناه الفاصل والحاجز، والحجر هو المانع والفاصل أيضًا.
لكن من المعلوم أن مياه الأنهار عندما تصب في البحار لا تمتزج بها لأول وهلة، ولكن بعد مدة جد قصيرة تختلط هذه المياه بمياه البحر وتصير ماء واحدًا، فالحاجز الوحيد إذا حاجز زمني، وهذا مخالف للحاجز المادي الذي يذكره القرآن.
وما قاله الطاعن غير صحيح؛ ذاك أن المولى عز وجل قد ابتدأ الآيات بكلمة “مرج”، ولكن هذا المرج أو الخلط دون امتزاج كامل، ولم يقل القرآن إنه لا يحدث بينهما امتزاج البتة كما بالغ الطاعن.
ومن ناحية ثانية: يقول الطاعن: أليست هذه الحقيقة ظاهرة طبيعية معروفة لدى كل صياد بسيط يصيد في نهر عذب يصب ماؤه في بحر مالح؟ لقد قام محمد برحلات تجارية في خدمة خديجة، وسافر حتى حلب، ولعله في رحلة من هذه ذهب إلى ساحل سوريا أو لبنان، وسمع من بحار عن عدم امتزاج الماءين المالح والعذب.
وإذا صدق الإعجاز في النصف الأول من الآية ـ: ) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20)((الرحمن) ـ فهل يصدق أيضًا في النصف الثاني منها، والذي يقول: إن اللؤلؤ والمرجان يخرجان منهما (أي العذب والمالح) وهو يخالف الحقائق العلمية؟
وهذا القول مردود مثل سابقه؛ ذاك أنه يستحيل رؤية البرزخ بالعين المجردة؛ فالبعثات البحرية العلمية لم تستطع أن ترى منطقة المصب، ولا الاختلاف في تركيب منطقة البرزخ بين البحرين المالحين إلا بالأقمار الاصطناعية في القرن العشرين، وبعد رحلات وأبحاث ودراسات مضنية استعانوا فيها بألات التصوير الحراري التي لم يكن لها أي وجود قبل العقود الأخيرة في القرن العشرين.
ولقد دل الوصف التاريخي ـ في أول البحث عن تطور علوم البحار ـ على عدم وجود أية معلومات علمية في هذا الموضوع قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وقبل ذلك كان البحر مجهولًا مخيفًا تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم.
وما عرف الإنسان البرزخ إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية، وما عرف أن ماء البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي ومختلطان في الوقت نفسه إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء، وقام بتحليل الكتل المائية.
وكان العلماء يسألون بعض البحارة عند منطقة جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي، وعند منطقة باب المندب بين البحر الأحمر والمحيط الهندي: هل رأيتم حاجزا بين البحر والمحيط فيقولون: لا! بينما يقول الطاعن: نعم، ذلك سهل بمجرد الملاحظة!
وبدأت الكتب العلمية تكتب عن احتمال وجود هذا الحاجز ابتداء من 1942م، وفي عام 1962م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر؛ لمنع طغيان أحد البحرين على الآخر، فيحدث الاختلاط بين البحرين مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده، ومثال ذلك حدود مياه البحر المتوسط الساخنة والملحة عند دخولها في المحيط الأطلنطي ذي المياه الباردة الأقل ملوحة منها([26]).
صورة مأخوذة بالأقمار الاصطناعية لمضيق جبل طارق، حيث تبين حدود مياه البحر الأبيض المتوسط الساخنة والمالحة عند دخولها في المحيط الأطلسي ذي المياه الباردة الأقل ملوحة
وبعد فترة صورت سفينة فضاء أمريكية نقطة التقاء البحرين عند جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي (وأيضًا عند عدن نقطة التقاء البحر الأحمر بالمحيط الهندي)، وعندما عادوا بالصور فوجئوا بأن الصورة لا تحمل فقط لوني البحرين، بل هناك لون ثالث بينهما، فأرسلوا هذه الصور إلى الأكاديمية البحرية التي شكلت بعثة يرأسها عالم البحار الأمريكي “كوفو” إلى نقطة الالتقاء عند جبل طارق؛ لإجراء أبحاثها عند تلك النقطة وذلك فيما أسموه مجازًا “البحر الثالث”، ووجدوا الاختلاف واضحًا في كثافة المياه ونسب المعادن ونوعية الحيوانات التي تحيا فيه، وأن هذه الكتل البحرية الثلاث لا تختلط مياهها أو يبغي أحدها على الآخرين، وأمام هذا الإعجاز الإلهي أعلن”كوفو” إسلامه لما علم بآيات التقاء البحرين في القرآن([27]).
وقد أكد ذلك الصور التي تمكن الإنسان من تصويرها لهذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار المالحة، عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الاصطناعية في القرن العشرين. ولا نفهم كيف بعد ذلك كله يظن الطاعن أنها مما تراه العين العادية للصيادين أو الغواصين أو البحّارة!
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش في أرض صحراوية ليس فيها نهر ولا مصب لم يتيسر له في زمنه ما تيسر لعلماء عصرنا من آلات وأقمار اصطناعية وتصوير حراري، فقد تيسر له ما هو أكبر من ذلك؛ حيث جاءه النبأ من العليم الخبير.
أما قول الطاعن: إن القرآن قد أخطأ عندما ذكر أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من المياه العذبة، فمردود كذلك؛ فقوله تعالى: )مرج البحرين يلتقيان (19)( (الرحمن) يصف اللقاء بين البحار الملحة وليس بين النهر والبحر، ودليل ذلك:
نحن نعلم أن لفظة “البحر” في اللغة العربية يمكن أن تطلق على كل من البحر الملح والبحر العذب، ولكنها إذا أطلقت بغير تقييد فإنها تدل على البحر الملح فقط، وإذا قيدت دلت على ما قيدت به، وإطلاق لفظة “البحرين” هنا دون تقييد يدل على أنهما البحران المالحان، وليس النهر والبحر.
بينت الآية أن البحرين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، وقد تبين أن المرجان لا يكون إلا في البحار الملحة، فدل ذلك على أن الآية تتحدث عن بحرين مالحين.
عندما ذكرت منطقة اللقاء بين البحر والنهر في سورة الفرقان بينت الآية أن بينهما شيئين: البرزخ، الحجر المحجور، قال تعالى:(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا (53)((الفرقان). أما آية الرحمن فقد بينت أن الفاصل هو البرزخ، فدل ذلك على أن اللقاء بين بحرين لا بين عذب وملح، فلا توجد منطقة “حجرًا محجورًا” على الكائنات الحية؛ لأن الاختلاف في درجة الملوحة ليس شديدًا ليكون مانعًا من انتقال الأحياء البحرية من بيئة إلى أخرى([28]).
ومن ناحية ثالثة: يذكر الطاعن أن المفسرين قد أشكل عليهم التوفيق بين وجود برزخ حاجز من طغيان بحر على الآخر وبين وجود حالة اختلاط بين البحرين، وهو ما يدل عليه لفظ “مرج”؛ لأن من قرر أن البحرين مختلطان، فقد أهمل دور البرزخ ووظيفته في منع البغي بين البحرين، ومن قرر وجود الحاجز المانع اضطر إلى تأويل لفظ “مرج” إلى معنى غير معناه الأصلي الدال على الاختلاط، وهذا ما جعل المفسرين يتخبطون عشوائيًّا في تفسير الآيات.
نقول: إن المفسرين في كل عصر يختلفون في تفسير الآيات الكونية على حسب المعارف والاكتشافات التي ييسرها الله للبشر من أبناء هذا العصر، وربما يختلف المفسرون ويكون كلا الرأيين ـ أو الآراء ـ على قدر من الصحة؛ لأن الآيات تحمل أكثر من وجه للتفسير. يقول ابن عباس رضي الله عنه: “التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله”.
ولم يتيسر للمفسرين في العصور القديمة الإحاطة بتفاصيل الأسرار العلمية التي ألمحت إليها الآيات ـ والتي شاء الله عز وجل أن يتيسر لنا منها الكثير في عصرنا ـ وهذه الأسرار كانت غائبة عن مشاهداتهم؛ ولذلك تعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية، فرجح بعضهم معنى الخلط، ورجح البعض الآخر معنى المنع، وكذلك الحال في تفسير “البرزخ”.
فتأمل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم، وهذا يبين أن العلم الذي أوتيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيه ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصره وبعد عصره بقرون؛ ومن ثم فإن اختلاف المفسرين دليل على إعجاز الآيات، وليس دليلًا على نفيه.
3) وجه الإعجاز:
وجه الإعجاز في الآيات القرآنية الكريمة هو دلالتها على وجود حواجز بين البحار المالحة يسمح باختلاط بطيء، بحيث تفقد كمية المياه المنطلقة من بحر إلى آخر خصائصها وتكتسب خصائص البحر الذي دخلت فيه. كما دلت على أن البحار والأنهار تلتقي وتتمازج، مع وجود حاجز يمنع الاختلاط الكامل بينهما، وهذا ما كشف عنه علماء البحار في القرن العشرين عن منطقة المصب بين النهر والبحر، والحواجز البحرية بين بحرين مختلفين.
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
[1]. هي ظاهرة تتعلق بمقدار نفاذ الأملاح في الأغشية.
[2]. منطقة المصب والحواجز بين البحار، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنةwww.nooran.org. وانظر: المروج والبرزخ والحاجز المائي، د. مصطفى محمد الجمال، مقال منشور بموقع: نوافذنا www.nawafithna.net.
[3]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[4]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kahel7.com.
[5]. لسان العرب، مادة: مرج.
[6]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص465.
.[7] تاج العروس، مادة: مرج.
[8]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج19، ص281.
[9]. مقاييس اللغة، مادة: مرج.
[10]. لسان العرب، مادة: حجر.
[11]. مقاييس اللغة، مادة: حجر.
[12]. لسان العرب، مادة: حجر.
[13]. لسان العرب، مادة: حجر.
[14]. انظر: قراءة إيمانية في كتاب الكون والحياة، د. أحمد فؤاد باشا، بحث منشور بمجلة الأزهر، عدد شوال 1426هـ، ص1798: 1803.
[15]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص37، 38.
[16]. شبهة وجود الأحجار الكريمة في المياه العذبة، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[17]. عندما يلتقي النهر العذب بالبحر المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[18]. أسرار البرزخ المائي بين الماء العذب والماء المالح، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[19]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص321.
[20]. بحث مقدم إلى المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، من الشيخ عبد المجيد الزنداني، د. دركا برسادا راو.
[21]. من أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في عالم البحار، عبد المجيد الزنداني و د. محمد إبراهيم السمرة و د. دركا برسادا راو، الإصدار رقم (15) من كتب هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة. وانظر)مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَان(19)ِ((الرحمن)، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.nooran.org.
[22]. مقاييس اللغة، مادة: بحر.
[23]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص38.
[24]. لسان العرب، مادة: بحر.
[25]. لسان العرب، مادة: بغي.
[26]. شبهة وجود الأحجار الكريمة في المياه العذبة، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[27]. البحر الثالث، سنية عباس، مقال منشور بجريدة: الأخبار، عمود: )وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)((طه)، العدد (16926)، تاريخ 24/ 7/ 2006م.
[28]. منطقة المصب والحواجز بين البحار، عبد المجيد الزنداني، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنةwww.noraan.org.
نفي الإعجاز العلمي عن قوله تعالى: (والبحر المسجور)
مضمون الشبهة:
في الشبهة التي بين أيدينا لا يزيد الطاعن على قوله: إن لفظة “المسجور” في قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)كانت من الألفاظ الشائعة لدى العرب، والتي وردت في شعر زهير بن أبي سلمى:
لقد عرفت ربيعة في جذام **** وكعب خالها وابنا ضرار
لقد نازعتمُ حسبا قديما **** وقد سجرت بحارهمُ بحاري
ومن ثم فإن الآية لا علاقة لها بما اكتشفه العلماء حديثًا من أن قيعان المحيطات والبحار تتقد بالنيران.
وجها إبطال الشبهة:
1) اكتشف علماء الجيولوجيا أن قيعان المحيطات جميعها متوقدة نارًا في مناطق الوديان العميقة في منتصف المحيطات، وتبين أنها مناطق اللقاء بين الألواح القارية، وتفوق درجة الحرارة في تلك المناطق البركانية النشطة الألف درجة مئوية، وهذا يتطابق مع قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)؛ لأن وصف البحر بلفظ “المسجور” يعني أن قاعه ملتهب يتقد بالنيران؛ فالسجر في اللغة: الإيقاد في التنور. وهذه الحقيقة لم تكن معروفة لدى العرب كما يدعي الطاعن؛ لأن المتأمل لسطح البحر لا يمكن أن يتصور أن قاعه متأجج بالنيران.
2) من المعاني اللغوية للبحر المسجور: المملوء بالماء، والمكفوف عن اليابسة، وهو معنى صحيح ـ كذلك ـ من الناحية العلمية، ويعني أن الله تعالى ملأ منخفضات الأرض بماء البحار والمحيطات، وحجز هذا الماء عن مزيد من الطغيان على اليابسة كي تبقى صالحة للعمران.
التفصيل:
أولا. البحر المسجور بمعنى: القائم على قاع أحمته الصهارة الصخرية المندفعة من داخل باطن الأرض فجعلته شديد الحرارة:
1) الحقائق العلمية:
في العقود المتأخرة من القرن العشرين تم اكتشاف حقيقة تمزق الغلاف الصخري للأرض بشبكة هائلة من الصدوع العملاقة المزدوجة، والتي تكون فيما بينها ما يعرف باسم: أودية الخسف أو الأغوار، وأن هذه الأغوار العميقة تحيط بالكرة الأرضية إحاطة كاملة، وتمتد هذه الأغوار في كافة الاتجاهات لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، ولكنها تنتشر أكثر ما تنتشر في قيعان محيطات الأرض، وفي قيعان عدد من بحارها([1]).
وتعمل هذه الصدوع على تمزيق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، وتقطيعه إلى عدد من الألواح الصخرية التي تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة، يسميه العلماء باسم: نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق لَدِن عالي الكثافة واللزوجة، تتحرك بداخله تيارات الحمل من أسفل إلى أعلى؛ حيث تتبرد وتعاود النزول إلى أسفل، وهي بتلك الحركة الدائبة تدفع بكل لوح من ألواح الغلاف الصخري للأرض إلى التباعد عن اللوح المجاور في أحد جوانبه في ظاهرة تسمى “ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات”، ومصطدمًا في الجانب المقابل باللوح الصخري المجاور ليكون سلسلة من السلاسل الجبلية، ومنزلقًا عن الألواح المجاورة في الجانبين الآخرين.
رسم تخطيطي لحركة الألواح الصخرية في قيعان المحيطات
وباستمرار تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض تتسع قيعان البحار والمحيطات باستمرار عند خطوط التباعد بينها، وتندفع الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية لتساعد على دفع جانبي المحيط يمنة ويسرة، وتملأ المسافات الناتجة بالصهارة الصخرية المندفعة من باطن الأرض على هيئة ثورات بركانية عارمة تحت الماء، تسجر قيعان جميع محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها، وتجدد مادتها الصخرية باستمرار.
وقد أدى هذا النشاط البركاني فوق قيعان كل المحيطات، وفوق قيعان عدد من البحار النشطة إلى تكوُّن سلاسل من الجبال في أواسط المحيطات تتكون في غالبيتها من الصخور البركانية، وقد ترتفع قممها في بعض الأماكن على هيئة أعداد من الجزر البركانية من مثل جزر كل من إندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، واليابان، وهاواي، وغيرها، وفي المقابل تصطدم ألواح الغلاف الصخري عند حدودها المقابلة لمناطق اتساع قيعان البحار والمحيطات، ويؤدي هذا التصادم إلى اندفاع قيعان المحيطات تحت كتل القارات وانصهارها بالتدريج؛ مما يؤدي إلى تكون جيوب عميقة عند التقاء قاع المحيط بالكتلة القارية، تتجمع فيها كميات هائلة من الصخور الرسوبية والنارية والمتحولة، والتي تطوى وتتكسر لترتفع على هيئة السلاسل الجبلية على حواف القارات، من مثل سلسلة جبال الإنديز في غربي أمريكا الجنوبية، وهنا يستهلك قاع المحيط بالتدريج تحت الكتلة القارية، وإذا توقفت عملية توسع قاع المحيط فإن هذا القاع قد يستهلك بأكمله تحت القارة؛ مما يؤدي إلى تصادم قارتين ببعضهما، وينشأ عن هذا التصادم أعلى السلاسل الجبلية([2]).
ويصاحب كلا من عمليتي توسع قاع المحيط في محوره الوسطي، واصطدامه عند أطرافه عدد من الهزات الأرضية، والثورات والطفوح البركانية. ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من أربعة وستين ألفًا من الكيلو مترات في الطول، بينما يبلغ طول الصدوع العميقة التي اندفعت منها الطفوح البركانية لتكون تلك السلاسل الجبلية في أواسط المحيطات أضعاف هذا الرقم، وتتكون هذه السلاسل أساسًا من الصخور البركانية المختلطة بالقليل من الرسوبيات البحرية، وتحيط كل سلسلة من هذه السلاسل المندفعة من قاع المحيط بواد خسيف (غور)، مكون بفعل الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين خمسة وستين كيلو مترًا وسبعين كيلو مترًا؛ ليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل ويصل إلى نطاق الضعف الأرضي الذي تندفع منه الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجة حرارة تزيد على الألف درجة مئوية لتسجر قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها النشطة باستمرار.
ومع تجدد اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات هذه الصدوع العملاقة يتسع قاع المحيط باستمرار، وتتجدد مادته بدفع الصخور القديمة في اتجاه الشاطئ المحيط يمنة ويسرة؛ ليحل محلها أحزمة أحدث عمرًا تتكون من تجمد تلك الصهارة الجديدة، وتترتب بصورة متوازية على جانبي أغوار المحيطات والبحار، ويهبط كل جانب من جانبي قاع المحيط المتسع بنصف معدل اتساعه الكلي تحت كل قارة من القارتين أو القارات المحيطة بشاطئيه، وبذلك يمتلئ محور المحيط بالصهارة الصخرية الحديثة المندفعة عبر مستويات الصدوع الممزقة لقاعه فتسجره، بينما تندفع الصخور الأقدم بالتدريج في اتجاه الشاطئين؛ حيث توجد أقدم صخور ذلك القاع، والتي تستهلك باستمرار تحت القارات المحيطة.
رسم تخطيطي لتكون الجزر البركانية ـ مثل جزر هاواي ـ من جراء اندفاع الصهارة من نطاق الضعف الأرضي عبر صدوع قيعان المحيطات
وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها (مثل البحر الأحمر) توجد أيضًا على اليابسة، ولكن بنسب أقل منها فوق قيعان البحار والمحيطات. وتعمل على تكوين عدد من الأغوار (الأودية الخسيفة) والبحار الطولية (مثل أغوار شرقي أفريقيا والبحر الأحمر) التي تعمل على تفتيت الكتل القارية باتساعها التدريجي؛ لتتحول تلك البحار الطولية مثل البحر الأحمر إلى بحار أكبر، ثم إلى محيطات تفصل بين الكتلة القارية التي كانت متصلة على هيئة قارة واحدة، وتحاط تلك الخسوف القارية العملاقة بعدد من القمم البركانية السامقة([3]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد ثبت لكل من علماء الأرض والبحار ـ بالأدلة المادية الملموسة ـ أن محيطات الأرض ـ بما في ذلك المحيطان المتجمدان الشمالي والجنوبي ـ وأعدادًا من بحارها ـ مثل البحر الأحمر ـ قيعانها مسجرة بالصهارة الصخرية المندفعة بملايين الأطنان من داخل النطاق الضعيف في الأرض عبر شبكة الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بالكامل وتصل إلى نطاق الضعف الأرضي.
وتتركز هذه الشبكة من الصدوع العملاقة أساسًا في قيعان البحار والمحيطات، وأن كم المياه في تلك الأحواض العملاقة ـ على ضخامته ـ لا يستطيع أن يطفئ جذوة تلك الطفوح من الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض إطفاء كاملًا، وأن هذه الجذوة على شدة حرارتها ـ أكثر من ألف درجة مئوية ـ لا تستطيع أن تبخر هذا الماء بالكامل؛ وذلك لأنه عندما يتبخر الماء باندفاع الصهارة فيه فإنه يرتفع إلى أعلى ليلامس ماء أبرد فيتكثف ويعود إلى قاع البحر مرة أخرى ليعاود الكرة من جديد، وهكذا ليبقى هذا الاتزان الدقيق بين الأضداد من الماء والحرارة العالية من أكثر ظواهر الأرض إبهارًا للعلماء في زماننا، وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من اكتشافها إلا في أواخر الستينيات من القرن العشرين، ولكن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الحقيقة منذ أكثر من ألف وأربع مئة سنة في قوله تعالى:)والبحر المسجور (6)((الطور).
المدلول اللغوي للآية:
o البحر في اللغة ضد البر، وسمي بهذا الاسم لعمقه واتساعه، وجمعه: أبحر وبحور وبحار([4]). وكل نهر عظيم يسمى بحرًا؛ لأن أصل البحر هو كل مكان واسع جامع للماء الكثير([5]).
o المسجور: السجر تهييج النار، يقال: سجرت التنور، ومنه: )والبحر المسجور(6)((الطور)، قال الشاعر:
إذا ساء طالع مسجورة *** ترى حولها النبع والسمسما
وقوله:)والبحر المسجور(6)((الطور)؛ أي: أضرمت نارًا، وقيل: غيضت مياهها؛ وإنما يكون كذلك لتسجير النار فيه )ثم في النار يسجرون (72)( (غافر). وسجرت الناقة استعارة لالتهابها في العدو، نحو اشتعلت الناقة. والسجير: الخليل الذي يسجر في مودة خليله، كقولهم: فلان محرق في مودة فلان، قال الشاعر:
سجراء نفسي غير جمع إشابة([6])
من أقوال المفسرين:
جاء في تفسير الطبري: “وقوله: )والبحر المسجور (6)((الطور)،اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور، فقال بعضهم: الموقد. وتأويل ذلك: والبحر الموقد المحمي”([7]).
وقال القرطبي: “)والبحر المسجور (6)((الطور)، قال مجاهد: الموقد، وقد جاء في الخبر: «إن البحر يسجر يوم القيامة فيكون نارًا». وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنمر بن تولب:
إذا ساء طالع مسجورة *** ترى حولها النبع والسمسما
يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة، فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: )وإذا البحار سجرت (6)((التكوير)؛ أي: أوقدت، سجرت التنور أسجره سجرًا؛ أي أحميته”([8]).
ومن ثم فإن الآية بها إعجاز علمي واضح وإن حاول إخفاءه الطاعنون؛ فحقيقة البحر المشتعل ـ المسجور ـ أصبحت يقينًا ثابتًا، فنحن نستطيع اليوم مشاهدة الحمم المنصهرة في قاع المحيطات وهي تتدفق وتلهب مياه المحيط ثم تتجمد وتشكل سلاسل من الجبال قد يبرز بعضها إلى سطح البحر مشكلًا جزرًا بركانية. هذه الحقيقة العلمية لم يكن لأحد علم بها أثناء نزول القرآن ولا بعده بقرون طويلة، فكيف جاء العلم إلى القرآن؟ ومن الذي أتى به في ذلك الزمان؟
إنه الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى والذي حدثنا عن اشتعال البحار، ويحدثنا عن مستقبل هذه البحار عندما يزداد اشتعالها: )وإذا البحار سجرت (6)( (التكوير)، ثم يأتي يوم لتنفجر هذه البحار، يقول تعالى: )وإذا البحار فجرت (3)( (الانفطار).
وهنا نكتشف شيئًا جديدًا في أسلوب القرآن؛فهو يستعين بالحقائق العلمية لإثبات الحقائق المستقبلية، فكما أن البحار نراها اليوم تشتعل بنسبة قليلة، سوف يأتي ذلك اليوم عندما تشتعل جميعها ثم تنفجر، وهذا دليل علمي على يوم القيامة([9]).
صورة حقيقية للبحر المسجور الذي أقسم الله به، وهذا المشهد يؤكد صحة ما جاء في القرآن بعكس ما يدعيه المشككون من أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم
3) وجه الإعجاز:
لقد قرر كتاب الله تعالى أن قاع البحر مسجرة بالنيران، ولم يكن أحد يعلم قبل ومع نزول القرآن هذه الحقيقة العظمى؛ لأن العقل العربي في ذلك الوقت لم يكن ليستوعب هذه الحقيقة، كيف يكون البحر مسجورًا والماء والحرارة من الأضداد، حتى جاء القرن العشرون وتبين للعلماء تلك الحقيقة.
ثانيا. البحر المسجور بمعنى: المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة:
1) الحقائق العلمية:
الأرض هي أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته بحوالي 1360 إلى 1385 مليون متر مكعب، وهذا الماء قد أخرجه ربنا عز وجل كله من داخل الأرض على هيئة بخار ماء اندفع من فوهات البراكين، وعبر صدوع الأرض العميقة؛ ليصادف الطبقات العليا الباردة من نطاق التغيرات الجوية، والذي يمتد من سطح البحر إلى ارتفاع حوالي ستة عشر كيلو مترًا فوق خط الاستواء، وحوالي العشرة كيلو مترات فوق قطبي الأرض، وتنخفض درجة الحرارة في هذا النطاق باستمرار مع الارتفاع حتى تصل إلى ستين درجة مئوية تحت الصفر في قمته فوق خط الاستواء.
وهذا النطاق يحوي حوالي ثلثي كتلة الغلاف الغازي للأرض (66%) والمقدرة بأكثر من خمسة آلاف مليون مليون طن، وهو النطاق الذي يتكثف فيه بخار الماء الصاعد من الأرض، والذي تتكون فيه السحب، وينزل منه كل من: المطر، والبرد، والثلج، وتتم فيه ظواهر الرعد والبرق، وتتكون العواصف والدوامات الهوائية وغير ذلك من الظواهر الجوية، ولولا تبرد هذا النطاق مع الارتفاع ما عاد إلينا بخار الماء الصاعد من الأرض أبدًا، وحينما عاد إلينا بخار الماء مطرًا وثلجًا وبردًا، انحدر على سطح الأرض ليشق له عددًا من المجاري المائية، ثم فاض إلى منخفضات الأرض الواسعة ليكون البحار والمحيطات، وبتكرار عملية التبخر من أسطح تلك البحار والمحيطات، ومن أسطح اليابسة بما عليها من مختلف صور التجمعات المائية والكائنات الحية بدأت دورة المياه حول الأرض، من أجل التنقية المستمرة لهذا الماء وتلطيف الجو، وتفتيت الصخور، وتسوية سطح الأرض، وتكوين التربة، وتركيز عدد من الثروات المعدنية، وغير ذلك من المهام التي أوكلها الخالق لتلك الدورة المعجزة التي تحمل 380,000كم3 من ماء الأرض إلى غلافها الجوي سنويًّا، لتردها إلى الأرض ماء طهورًا؛ منها 320,000 كم3 تتبخر من أسطح البحار والمحيطات و 60,000 كم3 من أسطح اليابسة، يعود منها 284,000 كم3 إلى البحار والمحيطات، 96,000 كم3 إلى اليابسة التي يفيض منها 36,000 كم3 من الماء إلى البحار والمحيطات،وهو مقدار الفارق نفسه بين البخر والمطر من البحار والمحيطات وإليها.
رسم بياني يوضح دورة الماء حول الأرض لحالتي التبخر والأمطار
هذه الدورة المحكمة للماء حول الأرض أدت إلى خزن أغلب ماء الأرض في بحارها ومحيطاتها (حوالي 97,2%)، وإبقاء أقله على اليابسة (حوالي 2,8%)، وبهذه الدورة للماء حول الأرض تملح ماء البحار والمحيطات، وبقيت نسبة ضئيلة من مجموع ماء الأرض على هيئة ماء عذب على اليابسة، وحتى هذه النسبة الضئيلة من ماء الأرض العذب قد حبس أغلبها على هيئة سمك هائل من الجليد فوق قطبي الأرض، وفي قمم الجبال، والباقي مختزن في الطبقات المسامية والمنفذة من صخور القشرة الأرضية على هيئة ماء تحت سطحي (حوالي 0,61%)، وفي بحيرات الماء العذب والأنهار (حوالي 0,01%)، وعلى هيئة رطوبة في تربة الأرض (حوالي 0,005%)، والباقي يتوزع بين بحيرات الماء العذب ورطوبة الغلاف الغازي للأرض (حوالي 0,0349%).
الثلوج على قمم الجبال صورة من صور تخزين الماء على سطح الأرض
وتوزيع ماء الأرض بهذه النسب التي اقتضتها حكمة الله الخالق قد تم بدقة بالغة بين البيئات المختلفة بالقدر الكافي لمتطلبات الحياة في كل بيئة من تلك البيئات، وبالأقدار الموزونة التي لو اختلت قليلا بزيادة أو نقص لغمرت الأرض وغطت سطحها بالكامل، أو انحسرت تاركة مساحات هائلة من اليابسة، ولقصرت دون متطلبات الحياة عليها.
ومن هذا القبيل يحسب العلماء أن الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض وفي قمم الجبال المرتفعة فوق سطحها إذا انصهر (وهذا لا يحتاج إلا إلى مجرد الارتفاع في درجة حرارة صيف تلك المناطق بحوالي خمس درجات مئوية) فإن كم الماء الناتج سوف يؤدي إلى رفع منسوب المياه في البحار والمحيطات إلى أكثر من مئة متر فيغرق أغلب المناطق الآهلة بالسكان والممتدة حول شواطئ تلك البحار والمحيطات.
وليس هذا من قبيل الخيال العلمي، فقد مرت بالأرض فترات كانت مياه البحار فيها أكثر غمرا لليابسة من حدود شواطئها الحالية، كما مرت فترات أخرى كان منسوب الماء في البحار والمحيطات أكثر انخفاضا من منسوبها الحالي مما أدى إلى انحسار مساحة البحار والمحيطات وزيادة مساحة اليابسة، والضابط في الحالين كم الجليد المتجمع فوق اليابسة؛ فكلما زاد كم الجليد انخفض منسوب الماء في البحار والمحيطات، فانحسرت عن اليابسة التي تزيد مساحتها زيادة ملحوظة، وكلما قل كم الجليد ارتفع منسوب المياه في البحار والمحيطات وطغت على اليابسة التي تتضاءل مساحتها تضاؤلًا ملحوظًا([10]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:
من خلال ما سبق كان تفسير القسم القرآني )والبحر المسجور(6)((الطور) بأن الله تعالى يمن علينا بأنه ملأ منخفضات الأرض بماء البحار والمحيطات، وحجز هذا الماء عن مزيد من الطغيان على اليابسة، وذلك بحبس كميات من هذا الماء في هيئات متعددة، أهمها ذلك السمك الهائل من الجليد المتجمع فوق قطبي الأرض وعلى قمم الجبال، والذي يصل إلى أربعة كيلو مترات في قطب الأرض الجنوبي وإلى ثلاثة آلاف وثمان مئة من الأمتار في القطب الشمالي، ولولا ذلك لغطى ماء الأرض أغلب سطحها ولما بقيت مساحة كافية من اليابسة للحياة بمختلف أشكالها الإنسانية، والحيوانية، والنباتية، وهي إحدى آيات الله البالغة في الأرض، من أجل إعدادها لكي تكون صالحة للعمران.
المدلول اللغوي وأقوال المفسرين حول الآية:
إذا كانت لفظة “المسجور” تعني: الموقد المشتعل، فإن من معانيها كذلك: المملوء؛ قال ابن منظور: “والمسجور في كلام العرب المملوء، وقد سكرت الإناء وسجرته: إذا ملأته”([11]). وكذلك قال كثير من المفسرين بأن البحر المسجور هو المملوء بالماء.
ومن هنا كان تفسير القسم بـ “والبحر المسجور” بمعنى: المملوء بالماء المكفوف عن اليابسة ينطبق مع عدد من الحقائق العلمية الثابتة التي تشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، وتشهد لسيدنا محمد بن عبد الله بالنبوة والرسالة.
أما الأبيات التي أوردها الطاعن لزهير بن أبي سلمى والتي يقول فيها:
لقد عرفت ربيعة في جذام *** وكعب خالها وابنا ضرار
لقد نازعتمُ حسبا قديما *** وقد سجرت بحارهمُ بحاري
وإذا كان الطاعن يستدل بهذه الأبيات على عدم وجود إعجاز علمي في قوله تعالى: )والبحر المسجور (6)((الطور)؛ بحجة أن لفظة “المسجور” كانت من الألفاظ الشائعة لدى العرب، فإنه بذلك يكون قد أثبت الإعجاز للآية من حيث أراد أن ينفيه، فكلمة “سجرت” في الأبيات تعني: ملئت، وهذا يوافق مراد الطاعن؛ لأنه يريد أن ينفي عن السجر معنى الإيقاد مثبتًا له معنى الامتلاء، ونسي أن المعنيين كليهما به إعجاز علمي، فمن المعاني اللغوية للبحر المسجور هو المملوء بالماء، والمكفوف عن اليابسة، وهو معنى صحيح من الناحية العلمية صحة كاملة كما أثبتته الدراسات العلمية في القرن العشرين، ومن المعاني اللغوية لهذا القسم القرآني المبهر أيضًا أن البحر قد أوقد عليه حتى حمي قاعه فأصبح مسجورًا، وهو كذلك من الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
وليس معنى هذا أن القدماء كانوا على علم بما أخبرت به الآية؛ فقد كان مفسرو القرآن إذا مروا على مثل هذه الآيات حاولوا تفسيرها قدر استطاعتهم، وعلى حسب ما توفر لديهم من علوم ومعارف، وليس هذا عجز منهم، وإنما هو عجز المعرفة في أزمانهم، كما شاءت الإرادة الإلهية أن يتأخر الكشف عن مخبوءات هذه الآيات إلى حين ينضج الفكر البشري ويرتقي علم الإنسان.
وكان المفسرون السابقون يعتمدون في تفسيرهم لهذه الآيات على المعاني اللغوية؛ فقال بعضهم: البحر المسجور: البحر الذي يشتعل نارًا، وقال بعضهم: هو البحر الممتلئ بالماء، وقال آخرون: بل هو بحر في السماء! والبحر المسجور الذي أقسم الله به لأهميته موجود فعلا؛ لأن الله لا يقسم بشيء غير موجود، ولا يقسم إلا بعظيم، والأخاديد وفتحات النار وتسجير البحر رأيناه رأي العين وعرض على أجهزة التلفزيون في كثير من دول العالم([12]).
(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
[1]. يتراوح عمق الصدوع المشكِّلة لتلك الأغوار بين 65: 70 كم تحت قيعان البحار والمحيطات، وبين 100: 150 كم على اليابسة (أي في صخور القارات).
[2]. من مثل جبال الهيمالايا التي نتجَتْ عن اصطدام الهند بالقارة الأسيوية بعد استهلاك قاع المحيط الذي كان يفصل بينهما بالكامل في أزمنة أرضية سحيقة.
[3]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص192: 196.
[4]. لسان العرب، مادة: بحر.
[5]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص37.
[6]. المرجع السابق، ص224.
[7]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج22، ص458.
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ص91.
[9]. البحر المسجور، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص187: 191.
[11]. لسان العرب، مادة: سجر.
[12]. إشارات قرآنية لظواهر بحرية، ماهر أحمد صوفي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
نفي الإعجاز العلمي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم بشأن مرور البرق ورجوعه
مضمون الشبهة:
زعم المشككون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بجديد حينما قال: “ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟” قائلين: إن أي بدوي يعيش في الصحراء ويراقب ظواهر الطبيعة يمكن أن يرى مرور البرق ورجوعه.
وجه إبطال الشبهة:
ينطوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفةعين» على معجزة علمية بكل المقاييس؛ فمن خلال البحث في المعنى اللغوي الذي يحمله الحديث الشريف، ومقارنة ذلك بآخر ما وصل إليه العلم في مجال “هندسة البرق” ـ يتبين لنا التطابق الكامل بين الكلام النبوي الشريف، وبين ما اكتشفه العلماء مؤخرًا من عمليات معقدة تحدث في ومضة البرق، وهذه العمليات لايمكن لأي إنسان أن يلاحظها بالعين المجردة؛ لأن الزمن اللازم لكل طور من هذه الأطوار التي تحدث في ومضة البرق يقاس بأجزاء من الألف من الثانية، ولا تستطيع العين المجردة أن تحلل المعلومات القادمة إليها خلال زمن كهذا؛ ومن ثم فإن ما ادعاه المشككون غير صحيح.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
ظلت ظاهرة البرق حدثًا مخيفًا ومحيرًا للعلماء على مدى قرون طويلة، ونسجت الأساطير الكثيرة حول منشأ البرق وتأثيراته، فكل حضارة كانت تنظر إلى هذه الظاهرة على أنها حدث مقدس يرتبط بالآلهة، وكل حضارة كانت تحاول إعطاء تفسير لهذا الحدث المرعب؛ ففي الميثولوجيا الإغريقية مثلا كان البرق هو سلاح الإله زيوس، الذي استخدمه لقتل أعدائه.
صورة تمثل المعتقدات القديمة السائدة قبل آلاف السنين، فقد كانوا ينسبون البرق للآلهة وليس كناموس كوني إلهي، ففي أساطير الإغريق كان البرق هو سلاح للإله زيوس
ثم جاء العصر الحديث عندما قام العلماء بتجارب متعددة منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا؛ أي على مدى أكثر من قرنين ونصف، قام خلالها العلماء بآلاف التجارب في سبيل فهم هذه الظاهرة المحيرة، والتي لا تزال تفاصيلها الدقيقة مجهولة تماما بالنسبة لنا حتى الآن.
ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر قام “بنيامينفرانكلين”(BenjaminFranklin)([1]) بأول تجربة علمية منظمة أثبت من خلالها الطبيعة الكهربية للبرق، وأن البرق ما هو إلا شرارة كهربية ناتجة عن التقاء شحنتين كهربيتين متعاكستين؛ فقد قام هذا العالم بربط سلك من الحرير إلى طائرة ورقية وأرسله عاليًا أثناء وجود غيوم كثيفة وممطرة؛ أي أثناء وجود عاصفة رعدية، وربط نهاية السلك بقضيب معدني وغلفه بعازل من الشمع لكي لا تتسبب الشرارة القوية بقتله.
وقد نجحت التجربة، وعندما قرب القضيب من الأرض انطلقت شرارة قوية تشبه شرارة البرق، فأثبت بذلك هوية البرق الكهربية وآلية حدوثه، ولكن النتائج التي حصل عليها كانت متواضعة جدًّا، ولم يستطع إدراك العمليات الدقيقة التي تسبب هذه الشرارة القوية.
أما الفيزيائي السويدي “ريتشمان” G. W. Richmann)([2])) فقد قام بتجربة أثبت فيها أن الغيوم الرعدية تحوي شحنات كهربية. واستمرت التجارب، ولكن المعرفة بالبرق بقيت متواضعة حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما أصبح التصوير الفوتوغرافي ممكنًا، وصار بإمكان العلماء التقاط صور لومضات البرق، ومن ثم تحليلها ومعرفة بعض تفاصيلها التي لا تدركها عين الإنسان. ولكن أجهزة التصوير كانت بطيئة، وبقيت العمليات الدقيقة التي ترافق ظاهرة البرق مجهولة حتى الستينيات من القرن العشرين؛ حيث تطورت التجارب وازداد الاهتمام بها لتجنب صدمات البرق التي تتعرض لها المراكب الفضائية والطائرات والمنشآت الصناعية، وقد أمكن استخدام التصوير السريع والمراكب الفضائية والرادارات والحاسوب؛ لمعالجة البيانات التي قدمتها مختبرات مراقبة البرق ودراستها.
ظاهرة البرق ظلت لغزًا محيرًا للعلماء حتى النصف الأخير من القرن العشرين، عندما تطورت أجهزة التصوير والمراقبة والقياس، وقد أنتج العلماء آلاف الأبحاث العلمية حول كهرباء البرق والعمليات الفيزيائية فيه
وقد استطاع العلماء أخيرًا بفضل التصوير فائق السرعة والمعالجة الرقمية للبيانات أن يثبتوا أن ومضة البرق الواحدة قد تتألف من عدة ضربات، وكل ضربة تتألف من عدة مراحل أو أطوار، وقد تم قياس الأزمنة لكل مرحلة بدقة كبيرة، ورؤية هذه المراحل، ولم يتحقق هذا إلا في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين.
أنواع البرق:
يحدث البرق على عدة أنواع حسب مكان وجود الشحنتين الموجبة والسالبة، وقد دلت الإحصائيات الحديثة أنه في كل ثانية هنالك مئة ضربة برق على سطح الكرة الأرضية، وجميع هذه الضربات متشابهة من حيث آلية الحدوث وزمنه.
صورة لومضات البرق ملتقطة بواسطة قمر صناعي، ونلاحظ ضربات البرق المتعددة بشكل دائم وعلى مدار الساعة، والومضات المتدرجة على يسار الصورة هي ضربات برق تحدث في اللحظة نفسها
وأكثر أنواع البرق شيوعًا وأهمية هو البرق الناتج من التقاء شحنتين متعاكستين بين الغيمة والأرض، فغالبًا ما تكون الغيمة ذات شحنة سالبة عند الجهة القريبة من الأرض، أما سطح الأرض فيكون ذا شحنة موجبة، ويسمي العلماء هذا النوع “غيمة ـ أرض” (Cloud ـ Ground)، واختصارًا يرمز لهذا النوع بالحرفين (CG).
ومضة برق بين الغيمة والأرض (CG)، وهذا النوع يحدث نتيجة تلامس الشحنة الموجودة في الغيمة مع الشحنة الموجودة على سطح الأرض، ويتولد شعاع البرق
أما النوع الثاني فهو ما يحدث بين الغيمة وغيمة أخرى، وبما أن الوسط الذي تتجمع فيه الغيوم يمتلئ بالحقول الكهربية فإن احتمال تلامس الشحنات المتعاكسة والتقائها كبير جدًّا، ولذلك فإن هذا النوع يمثل ثلاثة أرباع ضربات البرق، والتي تقدر كما قلنا بمئة ضربة في كل ثانية، وذلك في مختلف أنحاء العالم، ويعرف هذا النوع ببرق “غيمة ـ غيمة” (Cloud ـCloud )، ويرمز له بالحرفين (CC).
نرى فيه ومضات برق بين غيمة وأخرى (CC)؛ حيث تكون إحدى الغيمتين محملة بشحنات موجبة والأخرى محملة بشحنات سالبة، وعند اقتراب إحدى الغيمتين من الأخرى تصطدم هذه الشحنات المتعاكسة مولدة ومضات هائلة نراها على شكل برق
أما النوع الثالث فهو ما يحدث بين الغيمة والهواء؛ حيث تكون الغيمة محملة بشحنة كهربية، والهواء المحيط بها من أحد جوانبها يحمل شحنة معاكسة، ويعرف هذا النوع بـ “غيمة ـ هواء”(Cloud ـAir)، ويرمز له بالرمز (CA).
البرق الناتج بين غيمة وبين الهواء المحيط بها (CA)، تكون الغيمة عادة مشحونة في أعلاها بشحنات موجبة، ويكون الهواء المحيط بها مشحونًا بشكل سلبي، وبالعملية نفسها يحدث التلامس وينطلق شعاع البرق ليكمل الدائرة الكهربية بين الغيمة والهواء
وهنالك أنواع أخرى كثيرة نذكر منها ما يحدث داخل الغيمة ذاتها، ويجب أن نعلم أن أية غيمة تحمل شحنة موجبة في أحد طرفيها، فلا بد أن تحمل شحنة سالبة في طرفها المقابل، وهكذا وفي ظروف العواصف الرعدية يحدث التلامس ويتحقق البرق الذي يضيء الأرض ولكنه لا يصل إليها.
الغيوم الرعدية:
إن البرق لا يحدث في أية غيوم، بل هنالك غيوم محددة يسميها العلماء بالغيوم الرعدية، وهي البيئة المناسبة لحدوث البرق، وقد تكون هنالك غيمة واحدة أو عدة غيوم وهو الأغلب. وهذه الغيوم تكون عادة ممتلئة بالحقول الكهربية؛ بسبب الرياح التي تسوق جزيئات بخار الماء وتدفعه إلى أعلى وتسبب احتكاك هذه الجزيئات بعضها ببعض مما يولد هذه الحقول الكهربية، فنجد أن الغيمة تتجمع فيها في الوقت نفسه شحنات سالبة وأخرى موجبة، وغالبًا ما ترتفع الشحنات الموجبة إلى أعلى وتبقى السالبة في أسفل الغيمة من الجهة القريبة من الأرض.
غيمة رعدية مفردة، هذه الغيمة النموذجية ترتفع عن سطح الأرض 3 كم، ويبلغ طولها عدة كيلو مترات، وسمكها عدة كيلو مترات أيضًا، ونلاحظ الشحنة السالبة في قاعدة الغيمة والشحنة الموجبة في أعلاها، والقياسات التي تعتمدها مخابر الأرصاد هي من أجل غيمة كهذه؛ لأنها تمثل الحالة المتوسطة والغالبة التي يتم فيها البرق .
العمليات الدقيقة داخل البرق:
نعلم من قوانين الكهرباء أنه عندما تلتقي الشحنات المتعاكسة ينتج عنها ومضة أو شرارة كهربية، وهذا ما يحدث في البرق؛ فالغيوم تتكون نتيجة تجمع جزيئات البخار المرتفع من الأرض، هذه الجزيئات تكون محملة بشحنات كهربية موجبة وسالبة نتيجة تفاعلها واحتكاكها واصطدامها، وكما قلنا غالبًا ما تكون الشحنات السالبة في أسفل الغيمة من الجهة القريبة من الأرض، وذلك بسبب تأثير الجاذبية التي تقوم بدورها في توزيع الشحنات، وتكون الشحنة الموجبة في أعلى الغيمة، وهذا يحدث في ما يسمى بالغيوم الرعدية التي تسبب البرق دائمًا.
إن الشحنة الكهربية أو ما يسمى بالكهرباء الساكنة هي تمامًا ما نحس به عندما نلمس قبضة الباب بعد احتكاك أقدامنا بالسجادة، أو عندما نلمس شاشة الكمبيوتر أحيانا فنحس بلدغة كهرباء خفيفة، وما هي إلا عبارة عن شرارة برق مصغرة! وعندما نجري تلامسًا بين سلكين كهربيين أحدهما موجب والآخر سالب فإننا نرى شرارة تتولد بينهما.
عندما يكون هنالك زيادة في عدد الإلكترونات ذات الشحنة السالبة، فهذا يعني وجود حقل كهربي سالب، أما عند زيادة عدد البروتونات الموجبة، فهذا يعني وجود شحنة أو حقل كهربي موجب.
وعندما تتجمع كميات مناسبة من الإلكترونات في أسفل الغيمة تنتقل هذه الشحنات السالبة بواسطة الهواء الرطب الموجود بين الغيمة وسطح الأرض، وتقترب من سطح الأرض ذي الشحنة الموجبة، ينطلق شعاع البرق القادم من الغيمة وتتشكل قناة دقيقة جدًّا في قاعدة الغيمة، وبسبب وجود حقل كهربي بين الغيمة والأرض ينطلق ما يسميه العلماء “الشعاع القائد” (Leader) باتجاه الأرض، وهذا الشعاع الذي يمر ويخطو بخطوات متتالية هو أول مرحلة من مراحل البرق، وعندما يصل هذا القائد إلى الأرض وبفعل الحقل السالب الذي يحيط به فإنه يجذب إليه الشحنات الموجبة الموجودة بالقرب من سطح الأرض، وتتحرك هذه الشحنات الموجبة باتجاه الشعاع القائد وتصطدم به على ارتفاع عشرات الأمتار عن سطح الأرض، وتتشكل قناة اتصال بين الغيمة والأرض.
يتم التقاء الشحنة السالبة القادمة من الغيمة مع الشحنة الأرضية الموجبة فوق سطح الأرض بعشرات الأمتار، وينشأ شعاع البرق الذي نراه وهو يرجع باتجاه الغيمة وعندها تنهار عازلية الهواء ويصبح ناقلًا للكهرباء ويتولد تيار كهربي قوي ينير على شكل ومضة باتجاه الأعلى، ويدعى طور الرجوعReturn Stroke ، وهذه الضربة الراجعة هي ما نراه فعلا؛ لأن معظم الضوء يتولد عنها، و تستغرق هذه الضربة أقل من 100 مايكرو ثانية، وتنتج التيار الراجع والذي يقدر بـ 30 ألف أمبير.
وبعد ذلك تمر فترة توقف مدتها من 20: 50 ملي ثانية، ثم تتكرر العملية من جديد باستخدام القناة نفسها التي تم تأسيسها من قبل، وهكذا عدة ضربات. وقد تكون ومضة البرق مفردة أو متعددة حسب كمية الشحنات المتوفرة بين الغيمة والأرض، وحسب الظروف الجوية السائدة، وقد يصل عددها إلى عشر ضربات متتالية وسريعة، ولكننا نراها ومضة برق واحدة ولا ندرك مرور البرق ورجوعه بأعيننا.
وقد يحدث العكس أحيانًا، فتأتي الشحنة الموجبة من الغيمة باتجاه الشحنة السالبة للأرض، وتتولد الومضة الموجبة، وهذه تكون وحيدة وعنيفة ولا يتبعها ضربات أخرى.
في أقل من نصف ثانية تحدث 3: 4 ضربات برق كلها نراها في ومضة برق واحدة، ويمكن أن يصل التيار الناتج من الضربة الراجعة إلى 200 ألف أمبير، وتسير الضربة الراجعة بسرعة تصل إلى نصف سرعة الضوء.
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه الحديث النبوي الشريف:
والآن وبعدما رأينا نتائج وأبحاث وتجارب استمرت قرنين ونصف من الزمن، وبعدما رأينا علماء أفنوا حياتهم، ومنهم من مات في سبيل معرفة هوية البرق وأطواره ومراحله، وكم من الأموال قد صرفت في سبيل التعرف على ضربة برق لا يتجاوز زمنها طرفة العين! نأتي بعد هذه الحقائق العلمية لنرى الحقائق النبوية، ونعيش رحلة ممتعة مع كلام النبي الأمي الذي علم العلماء، ونقارن ونتدبر، ونتساءل: أليس هذا الحديث الشريف يطابق ويوافق مئة بالمئة ما توصل إليه العلماء اليوم؟!
لقد تحدث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة ومرور الناس على الصراط، وعن سرعة مرور كل منهم حسب عمله في الدنيا، فأحسنهم عملًا هو أسرعهم مرورًا على الصراط، وهذا هو سيدنا أبو هريرة رضى الله عنه عنه يقول على لسان سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم: «فيمر أولكم كالبرق! فيقول أبو هريرة: بأبي أنت وأمي أي شيء كمر البرق؟ قال صلى الله عليه وسلم: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»([3])؟
وهذا الحديث يحوي إشارات عديدة، وهي:
الإشارة الأولى: الواضح من خلال هذا الحديث أن الصحابي راوي الحديث رضى الله عنه استغرب من تعبير الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حول مرور البرق وحركته وسرعته؛ فقد كانوا يظنون أن البرق لا يحتاج إلى زمن ليمر! بل لم يكن أحد يتخيل أن للضوء سرعة! فقد كانوا يعتقدون أن الضوء يسير بلمح البصر، ولذلك قال هذا الصحابي الجليل: «بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق»؟! فقد تعجب من قوله صلى الله عليه وسلم: «كمر البرق»؛ إذ لم يكن يتصور أن البرق يمر ويتحرك ويسير.
وهذه هي أول إشارة نلمسها في الحديث الشريف، فالبرق يسير بسرعة محددة؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم : «فيمر أولكم كالبرق»، إشارة واضحة إلى وجود زمن لمرور وتحرك البرق. وكما قلنا كان الاعتقاد السائد وحتى زمن قريب هو أن البرق والضوء لا يحتاجان لزمن ليمرا، ولكن الحقائق العلمية التي رأيناها آنفا تثبت أن البرق يمر ويخطو ويتحرك، وكما رأينا تسير الضربة الراجعة بسرعة أكثر من مئة ألف كيلو متر في الثانية، ومع أننا لا ندرك هذه السرعة بأبصارنا، إلا أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حدثنا عنها وأشار إليها في قوله: « فيمر أولكم كالبرق ».
الإشارة الثانية: وتتضمن آلية مرور البرق ورجوعه في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين»؟ وهذا ما كشفه العلم مؤخرًا؛ فقد انتهى العلماء كما شاهدنا من خلال الحقائق الواردة إلى أن البرق ما هو إلا شرارة كهربية ضخمة، هذه الشرارة تحدث نتيجة تلامس الشحنة الكهربية السالبة الموجودة في الغيمة مع الشحنة الكهربية الموجبة الموجودة في الأرض، وأن هنالك طورين رئيسيين لا يمكن لومضة البرق أن تحدث من دونهما أبدًا، وهما “طور المرور” و “طور الرجوع”.
وانظروا إلى هذه المصطلحات العلمية، فكلمة (Step) التي يستخدمها العلماء للتعبير عن المرحلة الأولى تعني يخطو أو يمر، وكذلك كلمة (Return) والتي يستخدمها العلماء للتعبير عن طور الرجوع تعني يرجع، بما يتطابق مع التعابير النبوية الشريفة! وهذا يدل على دقة الكلام النبوي الشريف ومطابقته للحقائق العلمية بشكل كامل، ولكن ماذا يعني أن يستخدم العلماء اليوم التعابير النبوية ذاتها؟
إنه يعني شيئًا واحدًا ألا وهو أن الرسول الكريم حدثنا عن حقائق يقينية وكأننا نراها، وذلك قبل أن يراها علماء عصرنا هذا، ويدل أيضًا على إعجاز غيبي في كلام هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، فمن الذي أخبره بأن العلماء بعده بأربعة عشر قرنًا سيستخدمون هذه الكلمات؟! ولو كان الرسول الأعظم تعلم هذه العلوم من علماء عصره كما يدعون، لجاءنا بالأساطير والخرافات السائدة والتي كان يعتقد بها علماء ذلك الزمان!
الإشارة الثالثة: هنالك إشارة رائعة في الحديث النبوي إلى الزمن اللازم لحدوث البرق، فقد حدده الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بطرفة عين، وقد بحثنا في اكتشافات العلماء وقياساتهم الحديثة للزمن الذي تستغرقه موجة البرق ذهابًا وإيابًا؛ أي: كم يستغرق البرق ليمر ويرجع؟ فوجدنا بأن الزمن هو أجزاء قليلة من الثانية، ويختلف هذا الزمن من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر، ومتوسط زمن البرق هو عشرات الأجزاء من الألف من الثانية.
ومن ثم فإننا نتساءل: هل هنالك علاقة بين الزمن اللازم لضربة البرق، وبين الزمن اللازم لطرفة العين؟ وإذا كانت الأزمنة متساوية إذًا يكون الحديث الشريف قد حدد زمن ضربة البرق قبل العلماء بأربعة عشر قرنًا، عندما بحث العلماء عن زمن طرفة العين والمدة التي تبقى فيها العين مغلقة خلال هذه الطرفة، وجدوا أن الزمن هو أيضًا عشرات الأجزاء من الألف من الثانية! وهو الزمن نفسه اللازم لضربة البرق.
ووجدوا أن زمن ضربة البرق يختلف من غيمة إلى أخرى حسب بعدها عن الأرض وحسب الظروف الجوية المحيطة، ولكن هذا الزمن يبقى مقدرا بعدة عشرات من الملي ثانية، وكذلك الزمن اللازم لطرفة العين يختلف من إنسان إلى آخر حسب الحالة النفسية والفيزيولوجية، ولكنه أيضًا يبقى مقدرًا بعدة عشرات من الملي ثانية.
وسبحان الله! ما هذه الدقة في تحديد الأزمنة؟ أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزمن والمجال الذي يتراوح ضمنه هذا الزمن، فهل بعد هذا الإعجاز كلام لأحد بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليست معجزة من الناحية العلمية والكونية؟!
الإشارة الرابعة: في قول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:«ألم تروا» معجزة علمية أيضًا؛ فالصحابة في عصرهم ـ وهم المعنيون بالحديث ـ لم يدركوا هذا المعنى العلمي لمرور البرق ورجوعه، بسبب عدم وجود وسائل لقياس زمن البرق في عصرهم، ولكنهم صدقوا كل كلمة يقولها نبيهم وقدوتهم وأسوتهم محمدصلى الله عليه وسلم، وبما أننا استطعنا اليوم رؤية مرور البرق ورجوعه؛ أي تحقق قوله محمد صلى الله عليه وسلم: «ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع؟» فإننا نعتقد أن هذا الحديث النبوي الشريف يخاطب علماء هذا العصر!
كذلك في تشبيه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم للبرق بطرفة العين كل الدقة العلمية، وليس غريبًا أن نجد العلماء اليوم يستخدمون التعبير النبوي ذاته! وهذه إحدى الدراسات عن البرق والرعد يصف مؤلفها ضربة البرق وما تحدثه من تسخين وتمدد وتقلص للهواء:
A lightning strike can heat the air in a fraction of a second. When air is heated that quickly, it expands violently and then contracts, like an explosion that happens in the blink of an eye.
وترجمة هذا: “ضربة البرق تسخن الهواء في جزء من الثانية، عندما يسخن الهواء بسرعة، يتمدد بعنف ثم يتقلص، مثل انفجار يحدث في طرفة عين”.
إذًا علماء عصر الفضاء والذرة والكمبيوتر يستخدمون التشبيه النبوي ذاته، ألا يعني ذلك أن العلم النبوي أعظم وأكبر من علوم البشر؟ ألا يعني هذا أن الكلام الذي جاء به رسول الله لا يمكن أن يكون من عنده، بل هو من عند الله تعالى؟ أكرمه بالمعجزات في كلامه أثناء حياته وبعد مماته وإلى يوم القيامة؛ لتكون أحاديثه محمد صلى الله عليه وسلم شاهدة على صدق رسالته للناس جميعًا.
ومن ثم فإننا نتوجه للطاعن بالسؤال الآتي: هل يمكن لأي إنسان أن يلاحظ عمليات البرق هذه بالعين البشرية؟
نجد الجواب بالنفي؛ فالعين لا يمكن أبدًا أن تلاحظ الأحداث التي تتم في أجزاء من الألف من الثانية، فعلى الرغم من أننا نرى وميض البرق يبدو وكأنه مستمر، إلا أن الدراسة الدقيقة أظهرت وجود عمليات ومراحل متتالية تتم خلال زمن قصير جدًّا لا يمكن إدراكه بالعين.
وهذه دراسة حول البرق يقول صاحبها بالحرف الواحد:
A single flash is usually composed of many distinct luminous events (strokes) that often occur in such rapid succession that the human eye cannot resolve them.
وترجمة هذا الكلام: “الومضة الواحدة تتألف عادة من أطوار متعددة الإنارة، ولكنها تحدث بتعاقب سريع لا يمكن للعين البشرية أن تحلله”.
المعنى اللغوي للكلمتين:
جاء في لسان العرب: “مرر: مر علـيه وبه يمر مرًّا؛ أي اجتاز. ومر يمر مرًّا ومرورًا: ذهب، واستمر مثله. قال ابن سيده: مر يمر مرًّا ومرورًا: جاء وذهب”([4]). وجاء في القاموس المحيط معنى مر: “مر مرًّا ومرورًا: جاز وذهب. مره، ومر به: جاز عليه. واستمر: مضى على طريقة واحدة”([5]).
أما كلمة “رجع” فنجد معناها في القاموس المحيط: “رجع يرجع رجوعًا ومرجعًا، ورجع الشيء: صرفه ورده، الرجيع من الكلام: المردود إلى صاحبه، وراجعه الكلام: عاوده”([6]).
ونلاحظ المعنى الواضح لمرور البرق؛ أي ذهابه ثم رجوعه، أي رده ومعاودته وسلوكه للطريق ذاتها، أي استخدام القناة نفسها التي تم تأسيسها من قبل، وفي كلتا الكلمتين نلحظ إشارة للتكرار والمعاودة، وهذا ما يحدث تمامًا في ومضة البرق من تعدد لضربات البرق وتكرارها ورجوعها ومعاودتها المراحل ذاتها.
3) وجه الإعجاز:
تضمن الحديث الشريف إشارة واضحة لتحرك البرق ومروره وأنه يسير بسرعة محددة، وليس كما كان يظن ويعتقد بأن البرق يسير بلمح البصر ولا وجود لأي زمن.
تضمن الحديث إشارة إلى أطوار البرق التي اكتشفها العلماء حديثًا، وأن البرق يحدث على مراحل وليس كما كان يعتقد أنه يحدث دفعة واحدة؛ أي إن الرسول الكريم محمدصلى الله عليه وسلمحدد المراحل الأساسية التي يحدث خلالها البرق، ومن دونها لا يمكن لضربة البرق أن تحدث أبدًا.
حدد الحديث الشريف اسم كل مرحلة (يمر ويرجع)، باسمها الحقيقي والفعلي، وبما يتناسب مع الاسم العلمي لها. أيضًا الرسول الكريم هو أول من تحدث عن رجوع البرق وصحح ما نتوهمه من أننا نرى ومضة واحدة، والحقيقة أن هنالك عدة ضربات راجعة.
حدد الحديث النبوي زمن ضربة البرق الواحدة بطرفة العين، وقد رأينا كيف تساوى هذان الزمانان؛ أي إن التشبيه النبوي للبرق بطرفة العين هو تشبيه دقيق جدًّا من الناحية العلمية.
(*) أُخذت الشبهة والرد عليها من بحث للمهندس عبد الدائم الكحيل، بعنوان: البرق بين العلم الحديث والكلام النبوي الشريف، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[1]. بنيامين فرانكلين: عالم وسياسي، وواحد من أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية ومجددِّي الماسونية، كان شخصية رئيسية في التنوير وتاريخ الفيزياء، ولد في 17 يناير 1706م، وتوفي في 17إبريل 1790م.
[2]. قتل ريتشمان بسبب صدمة البرق التي تعرَّض لها أثناء قيامه بإحدى التجارب.
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، (2/678، 679)، رقم (474).
[4]. لسان العرب، مادة: مرر.
[5]. القاموس المحيط، مادة: مرر.
[6]. القاموس المحيط، مادة: رجع.
نفي الإعجاز العلمي عن القرآن في إخباره عن ألوان الجبال
مضمون الشبهة:
ينفي بعض المغرضين الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في إخباره عن ألوان الجبال، وذلك في قول الله تعالى:)ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)؛ إذ يرون أن أي جاهل ـ على حد تعبيرهم ـ يستطيع ـ إذا رأى الجبال في أي زمن ـ أن يخبر بمثل هذه المعلومات؛ خاصة في البيئة الصحراوية البدوية، ومن ثم فإن الآية لم تأت بجديد.
وجه إبطال الشبهة:
ورد في قوله تعالى:)ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر) الكثير من الإشارات العلمية، كما أنها قدمت معلومات لم تكن معروفة في وقت نزول القرآن الكريم، وذلك مثل:
o دور الماء في تلوين صخور الجبال كعامل حاسم.
o الفصل بين الجبال على أساس تركيبها وأنواع صخورها المختلفة الألوان.
o الإشارة إلى أن رؤية الألوان نسبية.
o احتمال لفظة “جدد” لعدة معان، لكل منها إعجاز من نوع خاص، لا يتعارض مع إعجاز المعنى الآخر.
وقد أثبتت الأبحاث والدراسات التي قام بها العلماء المتخصصون ما جاءت به الآية الكريمة بما يشهد لها بالإعجاز، ويؤكد أن ما ورد ذكره من معلومات بشأن ألوان الجبال ليس من قبيل الملاحظات العادية.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
قد يعجب الإنسان من علاقة إنزال الماء من السماء باختلاف ألوان الجبال، ولكن العلم الحديث أثبت ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن ألوان الصخور هي نتاج ألوان المعادن المكونة لها، وأن ألوان المعادن نتاج تركيبها العنصري، وبيئتها، وتفاعلها مع الماء؛ فالماء هو العامل الحاسم في تلوين صخور الجبال.
كما ثبت علميا أن المعادن ـ داخل الجبال ـ تتلون بقدر أكسدتها، وأن الماء له علاقة بهذه الأكسدة؛ لذا فهناك تغير مستمر في ألوان الصخور نتيجة الماء النازل عليها، حتى إن بعض العلماء يقول: إن تغير لون الصخور في الجبال يتبع نوع المياه النازل عليها، وتفاعلها مع هذه المياه.
ولا تنفي هذه الحقيقة أن تتأثر ألوان الجبال كذلك بالبيئة المحيطة ودرجات الحرارة والظروف الجوية المحيطة بالجبل، وهذه التغيرات لا نراها مباشرة بل تحدث على فترات تتراوح من آلاف السنين إلى ملايين السنين([1]).
كذلك أثبتت دراسات علم الصخور أن العامل الرئيسي في تصنيف الصخور النارية (الصخور الأولية) هو تركيبها الكيميائي والمعدني الذي ينعكس انعكاسًا واضحًا على ألوانها، وتقسم الصخور النارية على أساس من تركيبها الكيميائي والمعدني إلى المجموعات الرئيسية الثلاث الآتية:
صخور حامضية وفوقحامضية:
وتشمل عائلة الجرانيت التي تتكون أساسًا من معادن المرو (الأبيض) والفلسبار البوتاسي (المقارب إلى الحمرة) والبايوتايت (الذي يتراوح بين اللونين الأصفر والبني المائل إلى الحمرة أو العسلي).
صخور متوسطة:
وتشمل عائلة الدايورايت التي تتكون أساسًا من قليل من المرو ومعادن البلاجيوكليز الكلسي والصودي والأمفيبول، والتي تتراوح ألوانها بين الأبيض والأحمر والرمادي.
صخور قاعدية وفوق قاعدية:
وتشمل عائلتي الجابرو والبريدوتايت، وتتميز بالألوان الداكنة التي تميل إلى السواد؛ لوفرة معادن كل من الحديد والماغنسيوم فيها، مثل: معادن البيروكسين والأوليفين والبلاجيوكليز الكلسي.
وعندما تندفع الصهارة الصخرية في القشرة الأرضية من نطاق الضعف الأرضي، فإنها إما أن تندفع إلى سطح الأرض على هيئة الثورات البركانية، مكونة الطفوح البركانية، وإما أن تتداخل في أعماق القشرة الأرضية حتى تتبلور وتتجمد على هيئة المتداخلات النارية داخل الصخور وتأخذ المتداخلات النارية أشكالًا وأحجاما، منها:
المتداخلات المستوية، والتي منها: الجدد المتوازية [المتوافقة]، وتتكون باندفاع الصهارة إلى داخل الشقوق والفواصل الموازية لمستويات التطبق، أو في مستويات التطبق ذاتها، وهناك المتداخلات غير المستوية، ومنها الجدد القاطعة إذا كانت رأسية أو مائلة.
والجدد الموازية (المتوافقة) إما أن تكون أفقية أو مائلة وموازية لمستويات التطبق، أو لغير ذلك من البنيات الأساسية للصخر المضيف.
ومن المتداخلات النارية غير المتوافقة: بقايا غرف الصهير العملاقة (الباثوليتات) التي تعتبر أضخم المتداخلات النارية حجمًا؛ إذ تمتد لآلاف الكيلو مترات وتكون قلوب الجبال، ويغلب على تركيبها الصخور الجرانيتية والدايوريتية.
ومن المتداخلات النارية الكتلية المتوافقة: أجسام عدسية الشكل تعرف باسم: (اللاكوليثات) سطحها العلوي محدب إلى أعلى، وسطحها السفلي أفقي تقريبًا؛ مما يعكس اتجاه اندفاع الصهير من أسفل إلى أعلى.
ومن ذلك يتضح أن الجدد التي تتداخل في صخور الجبال هي في الأصل من الصخور النارية، وأن أفضل تصنيف لتلك الصخور هو التصنيف القائم على أساس من تركيبها الكيميائي والمعدني، والذي ينعكس على ألوانها على النحو الآتي:
Oصخور تتراوح ألوانها بين اللونين الأبيض والأحمر، وهي الصخور الحامضية وفوق الحامضية، وتشمل عائلة الصخور الجرانيتية (الرايولايت ـ الجرانيت).
O صخور تتراوح ألوانها بين اللونين الأبيض والأحمر من جهة، والألوان الداكنة من جهة أخرى، ولذا يغلب عليها الألوان الرمادية وهي الصخور الموصوفة بالوسطية ـبين الصخور الحامضية وفوق الحامضية من جهة، والصخور القاعدية وفوق القاعدية منجهة أخرى ـ وتضم عائلة الصخور الدايورايتية (الأنديزايت ـ ديورايت).
Oصخور تميل ألوانها إلى الدكنة حتى السواد، وهي الصخور القاعدية وفوقالقاعدية، وتشمل عائلتي الجابرو (البازلت ـ الجابرو) والبريدوتايت([2]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية:
في قوله تعالى:)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)إشارة إلى حقيقة جيولوجية تتمثل في اختلاف وتنوع صخور الجبال وألوانها، والتي يعود اختلاف ألوانها إلى اختلاف تركيبها وتكوينها، كما تشير الآية إلى إمكانية تغير ألوان الصخور مع الزمن مؤكدة على علاقة الماء ودوره في هذا الاختلاف والتنوع، ولبيان الإعجاز والسبق والدقة العلمية فيما أشارت إليه الآية نذكر ما يأتي:
من الدلالات اللغوية للآية:
جدد: (الجدة) في اللغة هي الطريقة أو العلامة الظاهرة، والجمع (جدد). والجددهي الطرائق المختلفة الألوان([3]).
غرابيب سود: الغرابيب، جمع غربيب وهو الشديد السواد، مشتق من اسمالغراب لسواده، والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسودغربيب؛ أي: شديد السواد([4]).
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله تعالى: )ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر)، قال ابن كثير: “يقول تعالى منبهًا على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد، وهو الماء الذي ينزله من السماء يخرج به ثمرات مختلفًا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو مشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها… وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضًا من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة، مختلفة الألوان أيضًا”([5]).
ويقول صاحب الظلال: “وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية؛ ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها… وهنا لفتة في النص صادقة؛ فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها، والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها، مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد… واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ـ بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ـ تهز القلب هزًّا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي”([6]).
ومن ثم فإن القرآن قد سبق المعارف الحديثة وأشار إلى ألوان الجدد باللون الأبيض والأحمر وجبال كالغرابيب السود، وذلك بعد حديثه عن عامل حاسم في تلوين الجبال وهو الماء؛ حيث إن الماء له علاقة بأكسدة المعادن الموجودة داخل بنية صخور الجبال، والتي تتلون بقدر أكسدتها، وكل أكسيد لمعدن يختلف لونه عن الأكسيد الآخر([7]).
لقد وضع القرآن الكريم بإعجازه سرًّا من أسرار علوم الجيولوجيا، وأطلعنا على أنواع الجبال، ومهد لنا مجال البحث في هذا العلم؛ حيث يقوم علماء الجيولوجيا بتصنيف الجبال تبعًا للصخور التي تغلب على تركيبها إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
جبال رسوبية طبقية، وهي المشار إليها في الآية بـ (جدد بيض).
جبال قاعدية متبلورة، وهي المشار إليها في الآية بـ (وحمر مختلف ألوانها).
جبال بركانية نارية، وهي المشار إليها في الآية بـ (غرابيب سود)، (جدد بيض) وهي صفة للجبال الرسوبية التي تكونت بفعل ترسيب الطبقات.
وقد تفيد كلمة (جدد) الوارد ذكرها في الآية الكريمة معنى الشيء المتجدد، ويستدل العلماء على هذا الرأي بأن جبال الجليد الهائلة المتجمدة منذ ملايين السنين تشكل 90% من الماء المخزون في كوكب الأرض.
أيضا قد تفيد كلمة (جدد) معنى الغنى، ويفسر العلماء هذا بأن جبال المعادن النفيسة والرخام والأحجار الكريمة ذات الألوان المختلفة تعد من مصادر الثروة للبشر.
ويقول علماء الجيولوجيا: إنها تتجدد ببطء مع مرور الزمن على الرغم مما يؤخذ منها عن طريق العوامل الطبيعية أو ما تأخذه أيدي الإنسان، فكلما استنزفت قمم هذه الجبال ترتفع جذورها من الأعماق فتعوض (أي تجدد) ما استنزف منها. وهي (بيض)؛ لأن اللون الغالب على هذه الجبال هو الأبيض.
ويرجع العلماء اللون الأحمر لهذه الجبال ـ التي ورد ذكرها في الآية الكريمة ـ إلى شيوع عنصر الحديد فيها، وهو الذي يتأكسد فيظهر الصخر بلون أحمر، ويصاحب الحديد معادن أخرى كالنحاس والرصاص، وتختلف نسبة وجود هذه المعادن؛ لذلك يظهر اللون الأحمر بدرجات متفاوتة.
أما قوله تعالى: )وغرابيب سود (27)( (فاطر)،فهو إشارة إلى الجبال النارية البركانية غير المتبلورة، حيث يشيع اللون الأسود عليها؛ لأن البازلت وهو صخر ناري أسود اللون يغلب على تكوين هذه الجبال، ويتكون بفعل تجمد “اللافا”، وهي المادة المنصهرة التي تخرج من فوهات البراكين([8]).
ويحتمل أن تكون الجدد هي القطع أو الطرائق التي تخالف لون الجبل، فيكون الإعجاز في فصل القرآن بين ألوان الصخور الفاتحة (بيض وحمر) من ناحية، وبين الداكنة (سود) من ناحية أخرى.
أما الغرابيب فهي التراكيب الجيولوجية البازلتية السوداء التي تكون على هيئة الوسادة أو ما يسمى lava pillow.
إن القارئ لتلك الفقرة من الآية القرآنية ليستشعر مقابلة بين كلمتي “جدد بيض” و”غرابيب سود”، فطالما أن “الجدد” تعبر عن شكل و “البيض” لون، فكذلك “السود” لون، ولا بد إذًا أن تكون “الغرابيب” شكلا لا لونا .
كما أن هناك نوعًا آخر من الإعجاز في الآية، ذلك أنه لم تذكر الألوان مرة واحدة في القرآن الكريم إلا مقرونة بمصطلح الاختلاف، “مختلف ألوانه”؛ أي إن رؤية الألوان تقتضي الاختلاف، وهذا ما أثبته العلم الحديث من أن رؤية الألوان ليست خاصية للضوء أو للأجسام التي تعكس الضوء، وإنما رؤية الألوان إحساس ينشأ في الدماغ.
فالطيور والسلاحف والسحالي والعديد من الأسماك لديها قدرة على رؤية الألوان فوق البنفسجية، وهو ما تفتقده الثدييات بما فيها الإنسان، وفي هذا إشارة إلى أن رؤية الألوان نسبية، فيفهم من الآية القرآنية أن هذه الألوان في النبات والجبال والحيوان هي ما تراه أنت أيها الإنسان.
وجاء تقديم كلمة “مختلف ألوانها” للفصل بين الجبال التي على هيئة جدد مختلفة الألوان ـ سواء اختلاف في درجة كل لون على حدة أو اختلاف تداخل الألوان ولا يكون لها قمم واضحة ـ وبين الجبال المكونة من لون واحد لا يكون فيها أي تداخل من ألوان أخرى، أو حتى درجات من هذا اللون وهو الأسود، وهي ذات قمم أو نتوءات، وفي تقديم “مختلف ألوانها” إعجاز؛ لأنه أفاد الفصل بين نقيضين في عدة أمور (وهو ما يسمى في اللغة بـ “المقابلة”):
الجبال مختلفة الألوان والجبال المكونة من لون واحد، وهو الأسود الذي قد لا يعد لونًا لامتصاصه جميع الألوان.
الصخور المكونة من معادن فاتحةFELSIC، وأخرى داكنةMAFIC.
الفصل بين الجبال المكونة من طبقات أفقية (جدد)، وأخرى ذات قمم أو نتوءات، والتي قد يكون لها خطوط رأسية نتيجة التضاغط.
الصخور الرسوبية (التي تكون الجدد أو الطبقات)، والصخور النارية (المكونة للجبال الغرابيب).
أي إن الإعجاز الأكبر في الآية يكمن في الفصل بين هذين النوعين من الجبال, الغرابيب والجدد([9]). وهذا مما لا يقدر على إدراكه ـ فضلًا عن الإخبار به ـ أي شخص في البيئة الصحراوية البدوية دون وحي من الله سبحانه وتعالى الخالق والعالم بدقائق خلقه.
3) وجه الإعجاز:
أشار القرآن الكريم في قوله تعالى:)ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27)((فاطر) إلى اختلاف وتنوع صخور الجبال وألوانها، كما أشار إلى دور الماء في تلوين الصخور، وهذا ما أثبته العلم الحديث في تصنيفه للجبال على أساس تنوع صخورها، وإثبات دور المياه في تلوين هذه الصخور، وهي إشارات علمية دقيقة تنبئ عن علم الله المحيط وطلاقة قدرته سبحانه وتعالى في إبداع خلقه بدقة لا يستطيع الإنسان إدراكها والتعبير عنها دون وحي إلهي معجز.
(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الآفاق، د. محمد راتب النابلسي، دار المكتبي، دمشق، ط3، 1429هـ/ 2008م، ص191. وانظر: ألوان الجبال، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيلwww.kaheel7.com.
[2]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص331: 334.
[3]. لسان العرب، مادة: جدد.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج14، ص342، 343.
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص553.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2942.
[7]. علاقة الماء بلون الصخور، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[8]. الجبال اختلاف في الألوان وثراء في الصنعة، د. كارم السيد غنيم، مقال منشور بموقع: إسلام أون لاين www.islamonline.net.
[9]. من إعجاز حديث القرآن عن الجبال، هشام طلبة، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
دعوى خطأ القرآن في تقسيمه أنواع الحجارة
يدعي المغالطون أن القرآن أخطأ في تقسيمه أنواع الحجارة الواردة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، ذاهبين إلى أن الآية قد قسمت الحجارة إلى ثلاثة أنواع:
حجارة نهرية تأتي بالأنهار.
حجارة آبارية تأتي بالعيون والآبار.
حجارة خاشعة تهوي من خشية الله.
وهذا التقسيم ـ في زعمهم ـ يخالف ما توصل إليه علماء الجيولوجيا من أن أنواع الحجارة هي:
حجارة نارية.
حجارة رسوبية.
حجارة متحولة.
وعليه فالقرآن يناقض العلم في هذا الأمر ويخالفه.
وجه إبطال الشبهة:
إن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأية حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه الحجارة من حيث القسوة، بل يؤكد صحة ما جاء به القرآن، ذاك أن العلم الحديث قسم الحجارة على أساس كيفية الوجودmode of occurance ، فقسمها إلى صخور نارية، وصخور رسوبية، وصخور متحولة، أما القرآن الكريم فقد قسمها من حيث خواصها الكيميائية والمعدنية، والتي كشف عنها العلم الحديث في الآونةالأخيرة؛ لذا لا يوجد أدنى تعارض بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
لقد كانت قسوة الحجارة إحدى الظواهر الكونية التي اكتشفها الإنسان مبكرًا فاستخدمها في بناء مسكنه وحفر بئره وطحن حبه وغيرها من الاستخدامات البدائية، لكن الإنسان لم يعلم أن هذه الظاهرة يمكن حسابها كميًّا، وبالتالي الاستفادة منها بشكل أكبر وأفضل ـ إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وتعتبر قسوة الحجارة (stiffnessof stones)من أهم خصائصها الميكانيكية، وتعتمد على نشأة الحجر، وتركيبه الكيميائي والمعدني، وبنيته ونسيجه، كما تعتمد على تاريخه في الأرض، والتغيرات البعدية التي تعرض لها, ويؤثر ذلك كله في شدة تماسك مكوناته, وقدرته على مقاومة العديد من العمليات الأرضية، من مثل الانضغاط (Compressibility or Compaction)، والإجهاد القصي (Tenacity orResistance to Shear Stress or Stress Stain)، وهي أبعاد لا بد من قياسها عند تقييم درجة متانة الحجر, وقدرته على تحمل المنشآت علىه, أو الحفر فيه للتعدين أو شق الترع والخنادق وغيرها.
وانضغاطية الحجر أو قابليته للانضغاط (Compaction) تعني قابليته للهبوط تحت تأثير الأحمال الواقعة عليه, ويعتمد ذلك ـ فيما يعتمد من عوامل عديدة ـ على مسامية الحجر([1]), وقدرته على إنفاذ الموائع (نفاذيته)([2]), وتركيبه البنيوي, ووزن الأحمال المسلطة عليه، وفي ذلك تقسم الأحجار إلى قليلة, ومتوسطة, وشديدة الانضغاط.
وبالنسبة لمتانة الأحجار، أو قدرتها على مقاومة الإجهاد القصي، أو الاستجابة له مما يؤدي إلى إعادة توزيع القوى الداخلية للحجارة ـ فإنها تقاس بمعاملي القدرة على مقاومة الاحتكاك, وشدة تلاصق المكونات, وكلاهما يعتمد كذلك على نشأة الحجر, وتركيبه المعدني والحبيبي (الميكانيكي), والروابط بين مكوناته, ودرجة الرطوبة فيه.
وتتعرض الحجارة في الأرض لأنواع مختلفة من الإجهاد الخارجي والداخلي, ويتم ذلك في الحالة الأولى؛ نتيجة للضغط الخارجي عليها بواسطة وزن كتلة الصخور التي تعلوها أو بواسطة الضغوط الجانبية الناتجة عن تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض في اتجاه التصادم والتضاغط, أو في اتجاه الشد والتباعد, مما ينتج عنه العديد من البنيات الأرضية من مثل خطوط التصدع, والفواصل والتشققات الأرضية التي تؤدي إلى تفجر الماء المخزون تحت سطح الأرض، وفي حالة الضغوط الداخلية فإن ذلك يتم بواسطة الموائع المختزنة في الحجارة، من مثل: الماء, أو النفط, أو الغاز .
وكل نوع من هذين النوعين من إجهاد الأحجار قد يكون قويًّا أو ضعيفًا, وقد يكون سريعًا أو بطيئًا, وقد يكون في اتجاه واحد أو في أكثر من اتجاه, والنتيجة النهائية تعتمد على شدة ذلك الإجهاد, وعلى نوع الحجارة, وعلى الظروف المحيطة بها من الضغط ودرجة الحرارة, وتتمثل في استجابة الحجارة للإجهاد بتغيرات ملحوظة في الحجم والهيئة قد تنتهي بتقليل قسوتها وتكييفها بتصدعها, أو بتشققها وتكسرها, وحيئنذٍ يفيض الماء منها. وكل من الجبال والمرتفعات الناتجة عن العمليات الأرضية المختلفة يتم بريها بواسطة عمليات التعرية المختلفة، ومنها النحر الرأسي للمجاري المائية, وتكوين المساقط والشرف النهرية والقنوات العميقة التي تعين على تفجير الماء المخزون تحت سطح الأرض.
الخصائص المائية للحجارة ودورها في تليين قسوتها:
ينزل على الأرض سنويا ما مجموعه 380,000 كم3 من ماء المطر, الذي يتبخر أصلًا من بحارها ومحيطاتها, ومن المسطحات والمجاري المائية على الىابسة, ومن الأنشطة الحياتية المختلفة كنتح النباتات، وتنفس وإخراج كل من الإنسان والحيوان.
ويتسرب جزء من ماء المطر إلى ما تحت سطح الأرض عن طريق كل من التربة, والطبقات المسامية, والحجارة والصخور الممزقة المنفذة للماء.
ويتحرك الماء المتجه إلى ما تحت سطح الأرض أولًا في الاتجاه الرأسي بفعل الجاذبية حتى يصل إلى المخزون المائي, ثم يتبع ميل الطبقات المنفذة الحاملة للماء إذا كانت مائلة حتى يظهر الماء على سطح الأرض مرة أخرى على هيئة تدفق مائي بشكل من الأشكال التي منها العيون والينابيع, والمجاري المائية المختلفة, والبرك, والبحيرات, والرطوبة الأرضية.
ويعتمد ذلك أساسًا على معدل سقوط الأمطار أو انصهار الجليد في المناطق المكسوة بالجليد, وعلى نوعية كل من التربة والصخور السطحية, وعلى حجم الكساء الخضري في المنطقة, وعلى معدلات البخر, وعلى غير ذلك من عوامل.
وذلك لأن أكثر من ثلث ماء المطر النازل على مناطق الكساء الخضري يقع على أوراق الأشجار فيتعرض للبخر قبل أن يصل إلى سطح الأرض, ويصل نحو الربع إلى سطح الأرض ولكنه إما يتبخر, أو يحتبس على هيئة بحيرة داخلية أو سمك من الجليد, أو يتحرك على هيئة مجرى مائي يفيض في النهاية إلى البحار والمحيطات, وباقي ماء المطر يتسرب إلى ما تحت سطح الأرض إذا كانت نوعية كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض تسمح بذلك, وتلعب جذور النباتات دورًا مهمًّا في المساعدة على تشقق كل من التربة والحجارة السطحية, وبالتالي تزيد من قدرتها على خزن الماء.
كذلك تلعب تضاريس سطح الأرض دورًا مهمًّا في خزن الماء تحته, فكلما كانت التضاريس لطيفة الانحدار سمح ذلك ببقاء ماء المطر لفترة أطول فوق سطح أرض المنطقة؛ مما يساعد على تشبع كل من التربة وأحجار سطح الأرض بماء المطر, وعلى العكس من ذلك، فإنه كلما زاد انحدار سطح الأرض قلت الفرص لتحقيق ذلك.
ويتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض بفعل الجاذبية من المناطق المرتفعة إلى المنخفضات من الأرض تمامًا كما يجري الماء في مختلف مجاريه السطحية, إلا أن الماء المخزون تحت سطح الأرض يتأثر بفروق الضغط الداخلي عليه من وزن كم الماء الذي يعلوه, ومن ضغوط الصخور المحيطة به, وبزيادة تلك الضغوط قد يتحرك هذا الماء ضد الجاذبية فيفيض مكونًا عددًا من العيون، أو الينابيع، أو البحيرات في مستويات عليا من الأرض, أو يتحرك ليغذي الأنهار. وعلى ذلك فإن تحرك الماء تحت سطح الأرض تحكمه قوانين الجاذبية بين نقطتين مختلفتين في المنسوب, وقوانين الأواني المستطرقة([3]) بين نقطتين بينهما فارق كبير في الضغط.
وفي صخور متوسطة النفاذية يتحرك الماء المخزون تحت سطح الأرض ببطء شديد يتراوح بين نصف السنتيمتر والسنتيمتر ونصف في اليوم الكامل, ويرتفع ذلك إلى مئة متر في اليوم وسط صخور عالية المسامية والنفاذية، من مثل الحصى والبازلت الممزق بالشروخ والشقوق, وقد تتدني حركة الماء وسط الصخور المتبلورة إلى عشرات قليلة من السنتيمترات في السنة, بينما تصل سرعة تحرك الماء الجاري على سطح الأرض إلى مترين في الثانية الواحدة, وذلك في أبطأ المجاري المائية المعروفة([4]).
تباين الصفات المائية لتربةالأرض ولحجارتها وصخورها:
تتباين الصفات المائية لتربة الأرض ولحجارتها بتباين صفاتها الطبيعية, والكيميائية, والميكانيكية, ومنها المسامية والنفاذية, والصفات الشعرية([5]), وقدرة حبيباتها على الاحتفاظ بالماء حول كل حبة منها على هيئة أغشية تحيط بها, وقدرة كل منها على التوصيل الحراري, والكهربي, وعلى توصيل الموجات الصوتية, والاهتزازية, وعلى احتواء نسب معينة من الأملاح القابلة للذوبان في الماء أو التفاعل معه, ومنها درجة اللدونة أو المرونة (Plasticity)، والقدرة على الانتفاخ (Infiation Capacity), وعلى التشرب بالماء Capacity) (Soaking, وعلى الانكماش (Shrinkage Capacity), وعلىالهبوط (Sutbsidence Capacity).
فالحجارة الصلصالية على سبيل المثال يتغير شكلها بتغير كمية الماء الموجودة فيها؛ لأنها تتحول من صخور صلبة أو شبه صلبة إلى الحالة المائعة تمامًا بزيادة كمية الماء فيها, وبذلك يمكن الحكم على إمكان مقاومتها للأحمال الخارجية, وعلى قدرتها على الثبات فوق المنحدرات أو هبوطها منها.
وبتمدد المسام الدقيقة للحجر بعد تشربه بالماء يمكن أن ينتفخ حجمه ويتغير شكله, فإذا سحب منه الماء انكمش, وتُصاحب عملية الانكماش في الحجم عادة بتشقق الحجارة وانفلاقها فيخرج منها الماء إذا كانت خازنة له بكميات كبيرة، وتتباين تربة الأرض وحجارتها كذلك في قدرتها على الانتفاخ بالماء والانكماش بفقده تباينًا كبيرًا، كما تتباين في قابليتها للهبوط بتأثير وزنها الذاتي, ويزيد ذلك بصورة ملحوظة كلما دقت حبيبات الحجر أو التربة, وزادت فيها نسب تجانسها, ومساميتها, وخاصيتها الشعرية, والأملاح القابلة للذوبان في الماء، ويشاهد هبوط كل من التربة والحجارة المكونة لسطح الأرض بصفة خاصة في المناطق التي يضخ من مخزونها المائي تحت سطح أرض بكميات مبالغ فيها, كما هو الحال في حوض لندن الذي يهبط بمعدل يتراوح بين ربع ونصف المتر في السنة, وأرض المكسيك التي وصل الهبوط فيها إلى أكثر من عشرة أمتار خلال السنوات القليلة الماضية.
تباين زاوية الانحدار للتربة أو للحجارة:
تعتبر قيمة زاوية الانحدار الطبيعي للتربة أو للحجارة المكونة لسطح الأرض عاملًا أساسيًّا لثباتها فوق المنحدرات, ولكل نوع منها زاوية انحدار قصوى إذا تعدتها فإنها تنهار فورًا, وتعتمد قيمة هذه الزاوية على نوع التربة أو الحجارة, وعلى تركيبها الكيميائي والمعدني والميكانيكي, وعلى درجة تشبعها بالماء، وتقل قيمة هذه الزاوية بزيادة كل من الرطوبة, وكمية الماء المخزون، وإذا وصل أي جزء من التربة أو الحجر إلى زاوية انحداره فإنه ينهار في الحال هابطًا من أعلى مناسيب سفوح الجبال إلى أخفض مستوياتها، ويلعب الماء المخزون في تربة وحجارة وصخور الأرض دورًا مهمًّا في انهيارها وهبوطها بالكامل.
وهذه الحقائق كلها لم يتوصل إليها العلماء إلا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولم تكتمل معرفة الإنسان بها إلا في العقود المتأخرة في القرن العشرين([6]).
تقسيم الحجارة من حيث زاوية الإجهاد:
يقسم العلماء الحجارة من الناحية الميكانيكية من زاوية الإجهاد باستجابة الحجارة إلى نوعين مثاليين تتدرج الأنواع الأخرى للحجارة بينهما:
النوع الأول: تكون فيه علاقة الإجهاد باستجابةالحجارة علاقة طردية، بحيث كلما زاد الإجهاد زادت استجابة الحجر بتغير حجمه وهيئته، ومع زوال الإجهاد يزول التغير في حجم الحجر وهيئته، وهذا النوع تنتهي علاقة الإجهاد فيه باستجابة الحجر بالتشقق أو التكسر عندما تصل التغيرات فيه إلى نسبة 3: 5% من الحجم والهيئة الأصليين، ويسمى هذا النوع بـ “الحجر التكسري” ( .(Brittle Rock
أماالنوع الثاني: فتكون فيه علاقة الإجهاد باستجابة الحجر ابتداء علاقة طردية كالنوع الأول، إلى أن يصل إلى حد المرونة (Elastic Limit)، فتأخذ علاقة الإجهادباستجابة الحجر نمطًا آخر يتميز بزيادة استجابة الحجر للإجهاد، بحيث تظهر تغيرات كبيرة في حجم الحجر وهيئته مع أية زيادة طفيفة للإجهاد، ويتميز كذلك بعدم زوالالتغيرات في حجم الحجر وهيئته بزوال الإجهاد. وهذا النوع لا ينتهي فيه الحجر بالتشقق أو التكسر إلا عندما تصل فيه التغيـرات إلى نسبـة 5: 10% من الحجم والهيئة الأصليين للحجر، ويسمى هذا النوع بـ “الحجـر اللدن” (Ductile Rock).
يقول أحد العلماء: إن إحدى النتائج الأساسية لاختبار قوة الحجارة أن قياسات قوة الحجارة لا تعني شيئًا البتة ما لم تكن الظروف التي حصلت فيها استجابة الحجارة معروفة، وكذلك فإنالاصطلاحات على تقسيم الحجارة إلى صخور تكسرية Brittle Rock وصخور لدائنيةDuctile Rock لا تكون ذات معنى كبير ما لم تكن الظروف التي تم إجهاد الحجارة فيها معروفة، ومع التغيرات في هذه الظروف مجتمعة فإن هناك مجالًا واسعًا من درجات استجابة الحجارة للإجهاد الواقع عليها، ويكون بالتالي تحديد هذه الاستجابة صعبًا، إلا أنه عندما يتمالتركيز على ظرف واحد من هذه الظروف فإن عملية معرفة استجابة أي صخر للإجهاد كانت تراعي التغيير في طرف واحد فقط، مثل درجة الحرارة أو ضغط السوائل داخل الحجارة، فتأتي نتائج كل تجربة لتصف استجابة الحجارة للإجهاد مع التغير في ذلك الظرف فقط دونالتركيز على الظروف الأخرى([7]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما جاءت به الآية الكريمة:
لقد أراد الطاعن أن ينفي الإعجاز العلمي عن قوله سبحانه وتعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)، وذلك بقوله: إن القرآن الكريم خالف العلم الحديث في تقسيم الحجارة، معتمدًا على مقارنة عقدها بين تقسيم القرآن الكريم للحجارة وبين تقسيم العلم الحديث لها.
والحق أن المقارنة التي عقدها الطاعن بين التقسيمين غير مستقيمة؛ ذلك أنه من المستحيل عقلًا أن تعقد مقارنة بين شيئين لا وجه للمقارنة بينهما، نعني بذلك اختلاف زاوية النظر التي قام التقسيم على أساسها؛ فالقرآن الكريم قد اعتمد في تقسيمه للحجارة على الخواص الكيميائية والمعدنية لها، بينما العلم الحديث قد قسمها عل أساس كيفية الوجود modeofoccurnce))، إذًا فالمقارنة التي عقدها الطاعن خاطئة من أساسها.
ومع اعترافنا بعدم وجود وجه للمقارنة بين التقسيمين إلا أن ذلك لا يؤدي إلى القول بتناقضهما؛ ذلك أن كلا التقسيمين يكمل الآخر.
ومن جهة أخرى فإن تقسيم القرآن الكريم للحجارة قد أثبته العلم الحديث وبرهن عليه، كما ذكرنا في الحقائق العلمية آنفا.
ولعله من المفيد أن نعرج على الدلالات اللغوية لبعض الألفاظ الواردة في الآية الكريمة.
الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:
يتفجر:يقال: فجر الماء فانفجر؛ أي: بجسه فانبجس([8])، وتفجر الماء ونحوه: انفجر، والفجرة: مكان تفجر الماء([9]). وقال الراغب الأصفهاني: “الفجر: شق الشيء شقًّا واسعًا، ويقال: فجرته فانفجر، وفجرته فتفجر، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل”([10]).
يشّقّق: أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارًا، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منفسح([11]).
من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في بني إسرائيل، قال ابن كثير: “يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى:)ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة((البقرة:74) التي لا تلين أبدا… فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة”([12]).
وقد أورد أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط المعنى الشامل لقوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)( (البقرة) قائلا: “والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يندفق منها الماء الكثير الغمر…)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء( (البقرة:74)، التشقق: التصدع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهرًا”([13]).
أما قوله تعالى: )وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة)؛ فقد لـخص أبو حيان في البحر المحيط ما ورد فيها عن المفسرين فقال: “واختلف المفسرون في هذه الآية، فقال قوم: إن قوله: )وإن من الحجارة((البقرة:74) إلى آخره، هو على سبيل المثل؛ بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقل لسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر في عواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشد قسوة، وأبعد عن الخير.
وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عن الحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشد قسوة من الحجارة”([14]).
وقد علق الفخر الرازي في تفسيره تعليقًا علميًّا على هذه الآية من ناحية ما تضمنته من ظواهر طبيعية فقال: “قالت الحكماء: إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رخوًا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا اجتمعت تلك الأبخرة، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذٍ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارًا،)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)؛ أي: إن من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينًا لا نهرًا جاريًا؛ أي: من الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار، وقد تقل”([15]).
ويشتمل هذا التعليق على تصنيف علمي للحجارة من حيث قسوتها مستنبطًا من هذه الآية الكريمة؛ حيث يقول عن النوع الأول: “فإن كان ظاهر الأرض رخوًا”، ويقول عن النوع الثاني من الحجارة: “وإن كان ظاهر الأرض صلبًا حجريًّا”، وقد يكون هذا التعليق من الإمام الرازي من أوائل الاستنباطات العلمية من هذه الآية.
هذا وقد أورد الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لهذه الآية كلامًا علميًّا أيضًا يحسن بنا ذكره في هذا الموضع، يقول: “وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين، وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج؛ لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريًا على قاعدة الجاذبية، فإذا ضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج، حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك؛ فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية، وكان الماء قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي، فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبًا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعًا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر.
وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار، وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذًا إلى أرض ترابية فيخرج طافيًا من سطح الصخور التي جرى فوقها، وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة؛ ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل”([16]).
ويعلق صاحب الظلال على الآية تعليقًا فريدًا يحسن بنا ذكره، قال: “والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى… هي حجارة لهم بها سابق عهد؛ فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينًا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى… قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة”([17]).
إن الله عز وجل عندما ذكر في الآية الكريمة قسوة قلوب بني إسرائيل شبهها بإحدى الأشياء المحسوسة لدى البشر وهي الحجارة، ثم في إشارة لكون قلوبهم أقسى من الحجارة ذكر أن الحجارة تتفاوت في قسوتها؛ ليعلم أن قلوبهم أقسى من أقسى الحجارة.
ثم برزت بعض النواحي الإعجازية عند الحديث عن هذه الأشياء المحسوسة؛ لتكون ذات دلالة على السبق القرآني لهذه الظاهرة العلمية لمن يتفكر ويبحث فيها من المتقدمين والمتأخرين، وقد أتت هذهالنواحي الإعجازية مجملة غير مفصلة لتبقي مجال التفكير مفتوحًا وفرص اكتشاف الحقيقة متساوية لجميع من أنزل إليهم هذا القرآن.
الناحية الإعجازية الأولى: تتمثل في أنه عند ذكر قسوة الحجارة ذكر معها أحد الظروف التي لها تأثير كبير على التغير في هذه القسوة، وهو وجود الماء والمقدار النسبي لضغطه داخل الحجارة ونفاذية الحجر. وهذه الحقيقة التي درست وحققت في المختبرات قد أثبتها القرآن الكريم ملخصة في قوله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار((البقرة: 74)؛ ففي لفظة “يتفجر” إشارة إلى أمرين: الأول هو وجود الماء تحت ضغط عالٍ داخل الحجر، والثاني هو تعرض الحجر للتكسر وليس للتشقق، وذلك بسبب هذا الضغط العالي؛ حيث إن كلمة التفجر بالنسبة للتحجر تعني التفكك القوي المفاجئ، أمـا لفظة “الأنهار” فتدل على غزارة المياه التي تخرج من هذا النوع من الحجر، ومن ثم إلى النفاذية الكبيرة لذلك الحجر.
الناحية الإعجازية الثانية: وتتمثل في الوصف الدقيق للنوع الثاني من الحجارة في قوله سبحانه وتعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، هذا الوصف مبني على أن تفاوت الحجارة في قسوتها إنما هو مرتبط بعوامل أخرى غير التركيب الكيميائي للحجارة، وفي هذه الحالة هناك ربط لقسوة الحجارة بالضغط القليل للماء الموجود في المسامات بين الحبيبات المكونة للحجارة.
وهذا الوصف العلمي لقسوة الحجارة وعلاقتها بالمقادير النسبية لضغط الماء ومعدل تدفقه من الحجارة ـ قد أورده الله تعالى بشكل دقيق في بضع كلمات في قوله تعالى:)وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء((البقرة:74)، فيبدأ بقوله (وإن منها)؛ أي: وإن من الحجارة نوعًا آخر في قسوته غير النوع الذي ذكر في الجزء الأول من الآية، (لما يشقق)؛ أي: لما يتصدع أو يتكون فيه شقوق، وصيغة “يشقق” هنا فيها دلالة على المطاوعة؛ أي إن الحجارة شققت بسبب ضغط الماء، فتشقق استجابة لهذا الضغط، (فيخرج)؛ أي يسيل ويتدفق من غير اندفاع؛ لأن كلمة “يخرج” في هذا الجزء من الآية ذكرت في مقابلة “يتفجر” في الجزء السابق من الآية، والتي تدل على الاندفاع بقوة، ثم قوله: (الماء) للدلالة على أن الماء الذي يخرج من هذا النوع من الصخر إنما يكون بكميات قليلة، وهذا يأتي من كونكلمة “الماء” أتت في مقابلة كلمة “الأنهار” في الجزء السابق من الآية.
الناحية الإعجازية الثالثة: وهي ناحية علمية وفيها لمحة إعجازية لغوية في الوقت نفسه، وتتجلى هذه الناحية الإعجازية فيقوله: (وإن من الحجارة)، وفي قوله: (وإن منها)؛ حيث يدل اللفظ في هذين المقطعين من الآية على التبعيض؛ أي إن هذين النوعين من الحجارة هما على سبيل المثال لا الحصر،ومن ذلك يمكن الاستنباط أن الحجارة قد تكون أنواعًا كثيرة من حيث قسوتها، باعتبارالظروف المختلفة التي تكون فيها الحجارة عندما تتعرض للإجهاد([18]).
إذًا تقسيم القرآن الكريم للحجارة لا يخالف ولا يناقض تصنيف العلم الحديث لها؛ ذلك أن الأخير اعتمد في تصنيفه للحجارة علىأساس كيفية الوجود Modeofoccurrance؛ حيث تقسم الصخور على هذا الأساس إلى ثلاثة أنواع، هي:
صخور نارية Igneous Rocks:
تكونت نتيجة لتبريد وتصلب المادة الصخرية المصهورة في جوف الأرض والتي يطلق عليها الصهيرMagma ، ومن أشهر الصخورالنارية الجرانيت Granite والبازلت Basalt.
صخور متحولةMetamorphic Rocks:
وهي صخور تكونت من صخور سابقة التكوين سواء نارية كانت أم رسوبية، وهي ناتجة من فعل تأثير الحرارة أو الضغط، أو الحرارة والضغط معًا، ومن أشهر الصخور المتحولة الرخامMarble والإردواز.Slate
صخور رسوبية Sedimentary Rocks:
وهي صخور تكونت من صخور سابقة ظهرت نتيجة لعمليات طبيعية شتى مثل التجوية Weathering([19]) بنوعيها، الميكانيكية، والكيميائية، والنقل والترسيب، ومن أشهر الصخور الرسوبية: الأحجار الجيرية، والصخور الطينية، وعلى الرغم من أن هذا التقسيم هو من أكثر تقسيمات الصخور شهرة وتداولًا في مراجع علوم الجيولوجيا، إلا أنه ليس بالتقسيم الوحيد للصخور، فهنالك أكثر من تقسيم للصخور، غير أن الأساس العلمي الذي يستند إليه هذا التقسيم أو ذاك يختلف عن الآخر في وجه من الوجوه([20]).
شكل للصخور الرسوبية
ومن ثم فإن تقسيم العلم الحديث للحجارة لا يخالف ولا يناقض بأي حال من الأحوال ما أشار إليه القرآن الكريم من تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ بل يؤكد على صحة ما جاء به، وأن هذا القرآن كلام الله عز وجل أنزله على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريلعليه السلام.
3) وجه الإعجاز:
إن معرفة الخواص الكيميائية والمعدنية للحجارة لم يعرفها الإنسان إلا في العصر الحديث، هذه الخواص قد أشار إليها القرآن منذ أكثر من 1400 عام في تقسيمه للحجارة من حيث القسوة؛ حيث ذكر أن هناك أنواعًا من الحجارة يتفجر منها الأنهار، وأنواعًا أخرى تشقق فيخرج منها الماء، وأنواعًا ثالثة تهبط من خشية الله، قال الله تعالى:)وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)((البقرة) ، وكل هذا يشهد بعظمة القرآن وبكونه منزّلًا من عند الله سبحانه وتعالى على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(*) موقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1]. المسامية: مجموعة الفجوات ـ متصلة أو غير متصلة ـ في صخر أو في مادة أخرى يمكن أن يحوي مائعًا (سائلًا أو غازًا)، وهي أيضًا القيمة العددية التي تعبر عن هذه الفجوات.
[2]. النفاذية: قدرة الصخر على السماح بمرور السوائل بداخله، أو هي مقدرة الصخر على توصيل أو تصريف السوائل تحت ضغط الميل الهيدروليكي، وهذه المقدرة لتوصيل السوائل يفترض أنها محكومة بقانون داركسي.
[3]. تنص قوانين الأواني المستطرقة على أننا إذا ما وضعنا سائلًا في مجموعة أوانٍ متصلة ببعضها، فإن المستوى العلوي للسائل سيكون متساويًا في الأواني كلها، على الرغم من اختلافها في الشكل والحجم.
[4]. وبطء حركة الماء المخزون تحت سطح الأرض يمثل صورة من صور الحكمة الإلهية في إبداع الخلق؛ وذلك لكي يبقى هذا الماء المخزون لأطول مدة ممكنة في المنطقة التي خُزن فيها (تصل إلى عشرات الآلاف من السنين)؛ لأنه خُزن في وقت كان المطر فيه غزيرًا, وكانت المجاري المائية السطحية كافية لسدِّ حاجات السكان, وبعد تغير المناخ وندرة المطر يبقى المخزون من الماء تحت سطح الأرض هو مصدر الماء الرئيسي لساكني المنطقة, وبتغير المناطق المناخية يبقى المخزون المائي تحت سطح الأرض شاهدًا لله سبحانه وتعالى بتدبير أمر الكون بعلمه وحكمته وقدرته.
[5]. الصفات الشعرية: خاصية فيزيائية يتم بواسطتها انتقال السائل من الأسفل إلى الأعلى، كانتقال الماء من أسفل الشجرة (الجذور) إلى أعلاها (الورق).
[6]. الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية، د. زغلول النجار، بحث منشور بموقع: www.islamicmedicine.org.
[7]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.
[8]. لسان العرب، مادة: فجر.
[9]. المعجم الوسيط، مادة: فجر.
[10]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص373.
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص464.
[12]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج13، ص113.
[13]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، عند تفسيره لهذه الآية.
[14]. المرجع السابق.
[15]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، عند تفسيره لهذه الآية.
[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج1، ج1، ص565.
[17]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج1، ص80.
[18]. الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف الميكانيكي، محمد جابر المحمود، بحث منشور بموقع: www.almaktabah.net.
[19]. التجوية: عملية تفتيت وتحلل الصخور والتربة والمعادن المكونة لها في موقع تلك الصخور نفسه بواسطة التأثير الفيزيائي والكيميائي والحيوي للرياح أو المياه أو تغير الطقس ودرجات الحرارة التي تتعرض لها.
[20]. تصنيف الصخور في القرآن الكريم، الهاشمي، بحث منشور بموقع: www.dahsha.com.