الكتب
اسباب سقوط الشيوعية ( الماركسية ) (1)
اسباب سقوط الشيوعية ( الماركسية ) (3)
الإلحاد في العصر الحاضر وموقف العقيدة الإسلامية منه
الإلحاد وأسبابه الصفحة السوداء للكنيسة
الباحثون المسلمون عن الإلحاد
الفكر المعاصر في ضوء العقيدة الإسلامية
الواقع الإلحادي المعاصر
جهود المفكرين المسلمين المحدثين في مقاومة التيار الإلحادي
كهنة الإلحاد الجديد
نظرية علمية شرعية في واقع الإنحراف الفكري المعاصر (سياق الإلحاد الجديد إنموذجاً)
الإلحاد الحديث بأشكاله من وحدة الوجود والمادية والعلمانية والتنمية والقوانين الطبيعية
الإلحاد الروحي وخطره على العقيدة والعقل
الإلحاد في الفلسفة ومقالات أخرى
جدل الدنيوية العقلانية والعلمانية الإلحادية
ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث
العلمانية فساد وإلحاد
عندما يكون الإلحاد دولة
القضية لا تزال مفتوحة حوار روائي بين الدين والإلحاد
المدخل إلى دراسة الإلحاد
الملحدون الجدد وثائق خطيرة معلومات مثيرة عن أهم قضايا ازدراء الأديان
الموت الرحيم للإلحاد المعاصر
مفهوم الإلحاد في التاريخ الإسلامي
اسباب سقوط الشيوعية ( الماركسية ) (2)
الإلحاد في الغرب
الإلحاد الأسباب والعلاج
الإلحاد والاغتراب - بحث في المصادر
العالمانية طاعون العصر - كشف المصطلح وفضح الدلالة
المذاهب الفلسفية الإلحادية الروحية وتطبيقاتها المعاصرة
أنواع الإلحاد ، نظرة مجملة
قطيع القطط الضالة
ميليشيا الإلحاد، مدخل لفهم الإلحاد الجديد
الإلحاد الحديث
الإلحاد الحديث تاريخه وأبرز نظرياته وآثاره وسبل مواجهته
الإلحاد في العصور القديمة الوثنية
إله الإلحاد المعاصر
جذور الحادية في مذاهب لاهوتية
عصر الإلحاد خلفيته التاريخية وبداية نهايته
علمانيون أم ملحدون
قصة الإلحاد
مختصر عشرة أنواع للإلحاد
مقالات ومقالات عن الإسلام والإلحاد والفلسفة
ملحدون محدثون ومعاصرون..
نظرات في الفكر الإلحادي
المرئيات
موجات الإلحاد المعاصر
أخطر عبادة للشيطان اليوم باسم العلاج بالطاقة
الإلحاد انتحار
ماذا تعرف عن حركة الإلحاد الجديد ؟
لماذا يعتبر الغرب أن العبودية شر أخلاقي في العصر الحالي فقط؟
هل هناك إلحاد جديد؟
منهج الإلحاد الجديد
المغالطات المنطقية 1
المغالطات المنطقية 2
التحليل الأيدلوجي للإلحاد
حركة العصر الجديد.. وثنية مقنعة وعلوم زائفة
بوادر الإلحاد في عصور أوروبا الحديثة
اختراع الحرية في العصر الحديث والعبودية السائلة
المَحكمة… 20 سنة من الإلحاد الجديد
ميليشيا الإلحاد
ما هو الإلحاد؟
هل الإلحاد منتشر في قديم الزمان؟
ما مدى انتشار الإلحاد في العالم اليوم ؟
كيف ظهر الإلحاد في العالم الإسلامي؟
ما هي المدارس الإلحادية ؟
ما هي أسباب الإلحاد؟
ما هي دعائم الإلحاد ومرتكزاته؟
ما هي النظريات العلمية التي يستند إليها الملاحدة ؟
الملاحدة والعقلانية
الملاحدة ومذهب الشك
الملاحدة ومسائل القضاء والقدر
الملاحدة وتلبيساتهم العقلية
ما هي وسائل نشر الإلحاد؟
مقدمة دورة : مقدمات في نقد الإلحاد المعاصر
تمهيد في فهم محتويات الدورة
تاريخ ظهور الإلحاد وأسبابه
خطورة الخطاب الإلحادي وأسباب التأثّر به
وسائل نشر الخطاب الإلحادي
وصايا للمهتمين بنقد الإلحاد المعاصر
المغالطات المنطقية عند الملاحدة = المقدّمة
مغالطة تجسيد المجرّدات
مغالطة المصادرة على المطلوب
مغالطة المراوغة
مغالطة تجاهل المطلوب
مقدمة سلسلة نقد الإلحاد المعاصر
مقدّمات مهمّة عن الإلحاد المعاصر
صفحات من التاريخ
أسباب ظهور الإلحاد في الغرب
الإلحاد أنواعه، وأسبابه، والشبهات المعاصرة المتعلّقة به
أقطاب العلمانية
الجذور الإيمانية للقرار الإلحادي
نقد أطروحات الإلحاد
هل العلمانية حتمية ؟
نقد الالحاد | ارجع لفطرتك
كيف استغل هوكينغ صورته وشهرته لترويج الإلحاد؟
دليلك لفهم الإلحاد والملحدين
الإلحاد والملحدون العرب بعين الدين والمجتمع
ما هو حجم ظاهرة الإلحاد بين الشباب في العالم العربي؟
موجات الإلحاد المعاصر
رحلة فكرية2
حوار نقدي عن الملحدين و الإلحاد
الإلحاد الصابوني
المقالات
لوازم الإلحاد المعرفية
مدخل :
يُطالعنا الملاحدة المعتنقون للإلحاد في صيغته “الشعبَويّة” في استعلاءٍ ووثوقيّة بعقلانيّة موقفهم العقديّ، ولسان حالِهم كما كان يقول (لي ستروبل) لمّا كان ملحدا عِلمويّا قبل أن يخوض ما أسماه (بداية التّحرّي): “شعرت بالتعالي عليهم. دعهُم يظلّون عبيدا لتفكيرهم الساذج عن مكان لهم في السماء، وعن الأخلاقية المستقيمة لإلهِهِمُ الخيالي. أما بالنسبة لي، فسوف أتبع بنزاهة النتائج التي توصّل إليها العلماء والمؤرخون، والتي اختصرت أبحاثهم المنطقية المتسقة العالمَ إلى مجرّد عمليات مادية” .[٣]
لكنّ هذه الوُثوقيّة ما تلبث أن تنقشع أمام أيّ محاولة للنظر في الإلحاد ومع أيّ سعي لمعرفة حقيقته ولوازمه.
سيكون من الجيّد التطرُّق لهذا الموضوع الذي لا يزال غائباً بشكل كبير عن الساحة السّجاليّة الإيمانيّة-الإلحاديّة، ألا وهو التأمُّل في لوازم الإلحاد، وسنخُصُّ بالحديث هنا المعرفيّة منها.
وقبل ذلك لا بدّ من الوقوف على مقاربة للإلحاد الذي نقصده، لتعدّد حدود وتعاريف هذا المصطلح من جهة، ولحصول تصوُّر جيّد للوازم الإلحاد، فإنّ التصوُّر الصّحيح للإلحاد على حقيقته التي هو عليها بوّابة للخُلوص إلى لوازمه.
مقاربة للإلحاد :
الإلحاد في اللغة هو الميل، وفي لغة الشّارع –سبحانه- الميلُ عن الحقّ.
لهذا لا بدّ في البداية من توضيحٍ لما نقصده هنا بالإلحاد، لأنّ هذا المفهوم قد يكون من ما صَدَقاته في المعنى الشرعيّ الابتداع في الدين وإنكار المعلوم منه ضرورةَ –مثلاً-، وهو ما لا نقصده هنا بحال ؛ فنحن نقصد هنا بالإلحاد ما يقصده الناس اليوم في سياقنا التداوُلي للمصطلح، مع أنّنا نرى أن يكون المعنى الشرعي هو الأصل.
نقصد بالإلحاد في سياق المقال باختصار: إنكار وجود الإله، سواء كان هذا الإنكار قويّاً أو ضعيفاً؛ أي سواء كان المنكر يزعم أنّ لديه دليلاً على عدم وجود إله، أو كان يزعم أنّ أدلّة وجود الله غير كافية فيرجِّح بالتالي عدم وجوده، أو تكافأت عنده أدلّة المنكِر والمثبِت فيكون لا أدريّاً.
إذ أنّ لوازم الإلحاد تسري على هذه الأنواع من الإلحاد كلّها، حيث إنّ تصوُّر ما يلزَم عن إنكار الخالق سبحانه كفيل بإبطال هذه المذاهب الإلحاديّة مهما اختلف موقِفها قوّة وضعفاً. فإذا كانت الأمور تُعرَف بأضدادها، فإنّ حقيقة الإيمان بوجود الله وضرورتَه تظهر بجلاء عند تصوُّر لوازم الإلحاد.
مسلّمات ضروريّة لا يمكن التخلّي عنها :
منذ أن كتبتُ أوّل حرفٍ من هذا المقال، ومنذ بدأتَ –أيُّها القارئ- تقرأ أوّل حرفٍ منه، لا بدّ أنّ هناك “مسلّمات” كثيرة نؤمن بها يقينا، وهي التي جعلتني أكتُب هذا المقال، وجعلتك تقرأه. ليكن هذا مفتاح حديثنا عن لوازم الإلحاد المعرفيّة.
أنا لا أقصد موضوع المقال ولا مادّته، بل مجرّد فعل الكتابة هذا..
– ألا ترى أنّي أؤمن بأنّ هناك غاية من حياتي وأبتغي هدفاً من كتابتي هذا، فأسلّم على نحو من اليقين بالغائيّة؟
– ألستَ ترى أنّني “أسلِّم” بأنّ العقل وكذلك الحسّ والخبر مصادر معرفيّة ضروريّة، لأنّي لا أكتب إلّا ما يتحصّل لي من معرفة من خلالها؟
– ألستَ ترى أنّي أعوِّل على “مسلّمات” من قبيل: أنّنا يمكن يقينا أن تتحصّل لدينا معرفة، وأنّ هذه المعرفة يمكن التعبير عنها ونقلُها من شخص لآخر، وأنّ اللغة معوَّلٌ عليها لتؤدّي هذه الوظيفة؟
الحقيقة أنّ مثل هذه “المسلّمات” تسكننا جميعا، ومغروزة في وعينا كبشرٍ، ولا يمكن التخلّي عليها إلّا ويُصاحِب ذلك التنازل عن أخصّ خصائص إنسانيّتنا. وتستحيل كلّ معرفة ويتعذّر كلّ علم بالتّخلي عنها والتشكيك فيها.
أرأيت لو قُلت: إنّ هذه مجرّد افتراضات لا يمكن الوُثوق بها؛ هل كان عليّ أن أنبس ببنت شفة أو أخطّ حرفا هنا، أو حتّى أن أبتغي هدفا لي في هذه الحياة، فتلك النّزعة الغائيّة الكامنة وراء حبّ المعرفة والبحث عن الحقيقة والدّفاع عنها ما هي إلّا من جنس هذه المسلّمات اليقينيّة التي نفترضها مُسبقا في كلّ فعل إنسانيّ؟
قد ترى جليّا بلا أدنى مبالغة ومواربة أنّ التخلي عمّا نسمّيه بالبديهيّات العقليّة الأوّليّة أو الحسّ المشترك أو مسائل الإجماع الإنسانيّ أو الفطرة بالتعبير الصّحيح سيؤول بنا إلى حالة غريبة جدّا، وهي الاستحالة إلى عدم إمكان المعرفة، إذ أنّنّا لم نجعل للمصادر التي تُمِدُّنا بالمعرفة أيّ مصداقيّة، بل نستحيل إلى حالة لا جدوى فيها من الحياة نفسها، إذ أنكرنا الغائيّة التي تحرّكنا في هذه الحياة، وللأسف حتّى لو رأينا حينها في الانتحار حلّاً في هذه الوضعيّة فقرار الانتحار نفسه سيكون مَشوباً بجذور “إيمانيّة”، فأنت إنّما تنتحر لهدف وغاية ما، وأنت تخلّيت مبدئيّاً على فطرة الغائيّة عندك.
أراك تسأل حائراً: وما علاقة هذا بالإلحاد وبقضيّة وجود الله؟
وجود الله ..كتفسيرٍ وضامنٍ للمعرفة :
العلاقة بين هذه المسلّمات العقليّة التي تكون سابقة مُضمَرة في كل فعل بشريّ، وبين وجود الله والإلحاد: هي أنّ هذه الضرورات المعرفيّة الفطريّة لا يمكن تفسيرها إلا بوجود الله، وهو سبحانه الضّامن الوحيد الذي يضمن الوثوقيّة التي لدينا فيها. فوجود الله له قدرة تفسيريّة هائلة لا يمكن لغيرها أن تعطي معنَى للمعرفة البشريّة، وكذلك هو الأساس الذي يمنح لهذه الحقائق مطلقيّتها ويقينيّتها، فهو الرّكن الأنطولوجي الشديد الذي تُبنى عليه، حيث “يسبِق «الإيمان بالله» «الإيمانَ بالعقل» أنطولوجيا.. فلا عقل بلا إيمان بالله”[٤] .
لأنّه ما لم يفسَّر وجود الفطرة بما تتضمّنُه من بديهيّات بالإله كتفسير لا يمكن الاعتراض عليه، كون هذا الإله مطلق العلم والقدرة -سبحانه-، فلن يوجد تفسير آخر يمكن أن يحلّ محلّه في قوّته التفسيريّة. كما أنّه ما لم تؤمن بإله صمّم العقل على نحوٍ لتحصيل المعرفة وأوجَد هذه المعارف الضرورية التي تُبنى عليها كلّ معرفةٍ، فإنّه لن يكون لهذه المسلّمات قيمتها اليقينيّة، فلا مانع حينئذ من اعتبارها خداعاً عقليّاً -مثلاً-. فتصبح بالتالي بلا معنى.
فإنّه “إذا ثبت أن المعرفة الإنسانية لا بد فيها من الاستناد إلى الضرورات العقلية التي ينتهي إليها الاستدلال، فإن ثبوت تلك الضرورات في الواقع لا يمكن تصوُّره إلا مع وجودِ المطلق؛ لكون الضروريات لا تكون إلا مطلقة، والمطلق لا يثبُت إلا بالمطلق، فالنسبي لا يمكن أن يكون مستنَدا لثبوت المطلق؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه لغيره، ولا يوجد مطلق في الوجود إلا الله تعالى، والمنكِر لوجود الله لا يمكنه أن يسلِّم بوجود المعاني المطلقة ؛ لأن كل ما يحصله بحسه وعقله الإنساني القاصر لا يكون إلا نسبياً” [٥] .
إذ “لولا وجود تلك المبادئ المطلقة لما استطاع الإنسان أن يبني التصورات الكليّة عن الموجودات، ولما استطاع أن يصل إلى اليقين في معارفه.
فثبت أن وجود الله والإيمان بخلقه للكون هو الأساس الأولي الذي تقوم عليه المعرفة الإنسانية، والضمانة التي لا استقرار للنظام المعرفي ولا انضباط له إلا بوجودها، ولا يمكن للمرء أن يسلم من التناقض المعرفي إلا به”[٦] .
وبالتالي “إن غاب الله إذا، صارت الحياة بلا معنى، وبات الإنسان والكون مفرغَين من أيّ معنى نهائيّ”[٧] ، وحينئذٍ يكون “المعنى والقيمة والغرض ليست سوى أوهام من صنع البشر، هي جميعا مجرّد أفكار تسكُن رؤوسَنا. وإنِ كان الإلحاد صحيحًا، فالحياة فعلاً، وبصورة موضوعيّة، خاليةٌ من المعنى، ومُفرَغة من القيمة، وبلا غرضٍ. هذا رُغماً من كلّ تصوُّراتنا الذّاتيّة التي ترى نقيض ذلك” [٨].
فالّذي يلزَم الملحدَ المنكر لوجود إلهٍ خلق للإنسان فطرة ضروريّة وجعل له مصادر معرفيّة لأجل غايةٍ وهدف، أن يُنكر ضرورة المبادئ الأوليّة ويتخلّى عن وثوقيّته في مصادر المعرفة. وهذا يلزم عنه استحالة حصول أيّ معرفة نظريّة أو تجريبيّة، ومن ضمن هذه المعرفة الموقف الإلحاديّ نفسه. فحتّى يقوم الإلحاد على “دليل ما” لا بدّ أن يفترض ضمنيّاً وجود الله سبحانه الضّامن للوُثوقيّة في مصادر هذا الدّليل. لذا فإنّ “جميع الرُّؤى الكونيّة عليها استعارة نظريّة المعرفة الدّينيّة، على الأقلّ عندما تصوغ ادّعاءاتها. عليهم الافتراض ضمنيّا موثوقيّة المنطق والعقلانيّة، والتّي لا يدعمُها إلّا الرّؤية الكونيّة الدينيّة، عليهم التصرّف (كما لو) أنّ الدّين صحيح، وإن رفضوه”[٩] .
والالتزام بهذا اللّازم الإلحادي موجود فعلا عند بعض الملاحدة، مع استحالة الاطّراد فيه. فـ”من القضايا اللافتة للنّظر عند بعض الملاحدة الجُدُد رفضهم الصّريح للمبادئ العقليّة الأوّليّة، وهو موقِف يكرّرُه (لورنس كراوس) مثلا في كثيرٍ من حواراته ومُناظراته” [١٠] .
والإشكال المعرفيّ يتفاقم أكثر عندما يلجأ الملحد لتفسيرات ماديّة تطوُّريّة داروينيّة لتفسير المعرفة والاعتقادات. “لذلك قال (کنان مالك): «إذا كانت قدراتنا المعرفية لا تعدو أن تكون سوى نزعات متطوِّرة؛ فلن تكون هناك طريقة المعرفة أي من هذه القدرات تؤدي إلى معتقدات حقيقية وأيها يؤدي إلى أخرى غير صحيحة» [١١]
ومِن عَجَبٍ أنّ (داروین) قد أدرك تلك الحقيقة؛ فقال: «عندي شكٌّ دائم في أن تكون لقناعات عقل الإنسان -التي تطوّرت من حيوانات أدنى- أيّ قيمة أو أن تستحقّ التّصديق أصلا. هل بإمكان أيٍّ منّا أن يصدّق قناعات عقل قردٍ، إن كانت هناك أصلا قناعات في مثل ذلك العقل» “[١٢] [١٣] .
يقول كذلك ألفن بلانتنغا: “في الواقع، فإنه بتبني التطور والمادية، فإن ما يلزم هو أن ملكاتنا المسؤولة عن إنشاء المعتقدات تغدو غیر موثوقة” [١٤] .
وتبيّن نانسي بيرسي التناقض الذاتي في نظريّة التطوُّر، وكونها تنقُض ذاتها بذاتها بالقول: “تفترض النظرية أن العقل البشري نتاج الانتقاء الطبيعي. والنتيجة المترتِّبة على ذلك هي أن الأفكار في عقولنا انتقيت لقيمتها في البقاء، وليس بسبب قيمة صحتها. لكن ماذا لو طبقنا تلك النظرية على نفسها؟ فهي أيضا انتُقيَت من أجل البقاء وليس من أجل صحّتها، ما يدحض ادعاءها نفسَها للحقيقة. وبذلك تنتحر نظرية المعرفة التطورية” [١٥].
ولنَختِم بأخذ ممارسةِ العلم التجريبيّ مثالًا على المعرفة البشريّة، فإنّ “الدافع لاستكشاف الكون عن طريق العلم الطبيعي لا ينسجم مع المادية والإلحاد بحالٍ”[١٦] إذ “لماذا يضع الملحد عمره في طلب الحقيقة، وعنده أن الرغبة في الوصول للحقيقة ليست إلا نتاج عملية تطوُّرية مثلها مثل حاجة الإنسان للدين عند المتدينين ؟! فلماذا ترفض الثانية ولا ترفض الأولى؟!” [١٧] . و “إن الصّادق مع نفسه يُدرك أن الدافع الأكبر لاستكشاف الكون، والأمل الأعظم في البحث عن خوافيه ينبع من افتراض خصيصةٍ مميّزة للكائن البشري في هذا الكون، ولا يمكن أن يتحقّق هذا الأمل في قلب من يعتقد أن الإنسان ليس إلا نتاجَ عمليّة تطورية لا تُخطِّط ولا تدري، لا يمكن أن يوجد هذا الأمل في قلب من يعتقد أنّ حقيقةَ الإنسان أنّه هباءَةٌ في كون غير متناهٍ، لا قيمة له ولا ضمان لمنتجات عقله!” [١٨].
[١]– وليم لين كريغ، مستعدّون للمُجاوبة، ترجمة: سامح فكري حنا وماجد زاخر صبحي، ص: ٣٩.
[٢]– د. عبد الرزاق بلعقروز، مداخل مفهومية إلى مباحث فلسفية وفكرية، مركز نماء، ص ٢٧ (بتصرف يسير)
[٣]– لي ستروبل، القضيّة الخالق، ترجمة: سليم إسكندر وحنّا يوسف، ص ٣٣.
[٤]– د. سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، مركز تكوين، ص ٢٧٢.
[٥]– د. سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، مركز تكوين، الجزء ٢، ص ١٨.
[٦]– د. سلطان العميري، المرجع السابق، نفس الصفحة.
[٧]– وليم لين كريغ، مستعدّون للمُجاوبة، ترجمة: سامح فكري حنا وماجد زاخر صبحي، ص: ٤٣.
[٨]– وليم لين كريغ، المرجع السابق، ص ٣٩.
[٩]– نانسي بيرسي، البحث عن الحقيقة: خمسة مبادئ لكشف الإلحاد والعلمانيّة، ترجمة: مركز دلائل، ص: ١٧٦.
[١٠]– عبد الله العجيري، ميليشيا الإلحاد، مركز تكوين، ص ١٦٠.
[١١]– Kenan Malik, “In Defense of Human Agency,” in Consciousness, Genetics, and Society (Stockholm: Ax:son Johnson Foundation, 2002) (Cited in: Nancy Pearcey, Finding Truth, p.196). To William Graham, 3 July 1881.
[١٢]– نص رسالة (داروین) کاملا :
<https://www.darwinproject.ac.uk/letter/DCP-LETT-13230.xml>.
[١٣]– د. سامي عامري، براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم، ص ٢٧٤.
[١٤]– الإلحاد بين قصورين: حقيقة الإلحاد بين القصور الأخلاقي والقصور المعرفي، ترجمة: د. مؤمن الحسن ود. عبد الله الشهري، مركز دلائل، ١١٨
[١٥]– نانسي بيرسي، البحث عن الحقيقة، ترجمة: مركز دلائل، ص ١٧٨.
[١٦]– د. حسام الدين حامد، الإلحاد: وثوقيّة التوهّم وخواء العدم، مركز تفكّر، ص ٤٢.
[١٧]– د. حسام الدين حامد، المرجع السابق، نفس الصفحة.
[١٨]– د. حسام الدين حامد، المرجع السابق، ص ٤٣.
تقييم نقدي لدوكينز، ودينيت، ولويس، وولبرت، وهاريس، وستنجر (1)
أساس “الإلحاد الجديد” هو الإيمان بعدم وجود إله؛ عدم وجود مصدر أزلي مطلق لكل الموجودات. ذاك هو الاعتقاد الجوهري الذي ينبغي أن يراعى لينبني عليه صلاحية أغلب الحجج والبراهين الأخرى. وهنا أسجل اعتراضي، لأن “الملحدون الجدد” –أمثال ريتشارد دوكينز ودانيال دينيت ولويس وولبرت وسام هاريس وفيكتور ستِنجر– لم يفشلوا فقط في تكوين حجج قوية لذلك المعتقد، وإنما تجاهلوا الظواهر وثيقة الصلة بالسؤال عن وجود الإله.
ما أراه، أن الظواهر الخمسة التي تتجلى خلال خبرتنا المباشرة، التي لا يمكن تفسيرها إلا بوجود إله، هي؛ أولا، العقلانية المضمنة في كل خبرتنا بالعالم الفيزيائي. ثانيا، الحياة والقدرة على السير والتفاعل وظيفيًا بشكل مستقل. ثالثا، الإدراك والقدرة على الوعي والشعور بالمحيط. رابعا، الفكر المفاهيمي والقدرة على التفكير المجرد من خلال صياغة وفهم رموز ذات معنى دلالي، كتلك المتضمنة في اللغة. خامسا، الذات الإنسانية، مِحْوَر الإدراك والعقل والفكر والفعل الإنساني.
ينبغي التصريح بثلاثة أشياء تتعلق بتلك الظواهر وتطبيقها على وجود الإله. أولا، اعتدنا على سماع الحجج والبراهين الدالة على وجود الإله، لكن في نظري، مثل تلك الحجج مفيدة في صياغة بعض الرؤى الأساسية بعينها، إلا أنه لا يمكن اعتبارها “البراهين” الصالحة للتدليل على وجود الإله. في الواقع، تشكل الظواهر الخمس الواردة هنا، كل واحدة بطريقتها الخاصة، افتراض مسبق بوجود عقل مدبر خالد أزلي ومطلق. الإله هو الحالة التي تشكل أساس كل ما هو ذاتي البيان خلال خبرتنا البشرية. ثانيا، كما يجب أن يكون واضحًا من النقطة السابقة، نحن لسنا بصدد التحدث عن احتمالات وفرضيات، بل عن صدامات مع حقائق جوهرية لا يمكن إنكارها بدون تناقض ذاتي. بعبارة أخرى، لا نطبق النظريات الاحتمالية على مصفوفة بعينها من الحقائق والمعطيات، بل نأخذ بعين الاعتبار مسألة أكثر جوهرية بكثير، وهي كيف يمكن بأية حال من الأحوال تقييم الحقائق والمعطيات. وبالمثل تماما، ليس الأمر هو استخلاص وجود الإله من خلال وجود ظواهر بالغة التعقيد بعينها. بل بالأحرى، افتقار كافة الظواهر مقدمًا لوجود الإله. ثالثا، لقد ظل الملحدين، القدامى منهم والمعاصرين، في تَذَمَّرَ دائم من عدم وجود دليل يدعم وجود الإله، أجاب بعض المؤمنين بالإله بأن حرية الإرادة يمكن أن توجد فقط في حالة كون هذه الدليل غير قسري. النهج الـمُتَناول هنا هو أنه لدينا كل الدلائل والبراهين التي نحتاجها في خبراتنا المباشرة وأن الرفض المتعمد “للبحث”، هو وحده المسؤول عن أي نوع من الإلحاد وأشباهه.
دعونا نجري تجربة فكرية، بالنظر لخبرتنا وتجربتنا الإنسانية المباشرة. تخيل لوهلة طاولة رخامية أمامك. هل تعتقد أنه، حتى ولو بعد تريليون سنة أو وقت لانهائي مطلق، يمكن أن تصبح هذه الطاولة فجأة أو تدريجيا واعية؟ تدرك محيطها؟ لديها وعي بالذات بنفس الطريقة التي لديك؟ ببساطة، ذلك لا يمكن ولن يمكن حدوثه، كونه محال التصور أساسًا. الشيء نفسه ينطبق على بقية المواد غير الحية. بمجرد فهمك لطبيعة المادة غير الحية، كطبيعة الكتلة/ الطاقة، تدرك أنه، بحكم تعريفها، لا يمكن أبدًا أن “تدرك” أو “تفكر”، لا يمكن أبدا أن تنطق “أنا”. لكن موقف الملحد هو أنه في مرحلة ما من تاريخ الكون، المستحيل وغير متصور الحدوث قد حدث بالفعل. ففي نقطة ما، أصبحت المادة غير المتمايزة (وهنا نشمل الطاقة) مفعمة بالحياة، ثم أصبحت مدركة لمحيطها، ثم أصبحت بارعة القدرة على الفهم، ثم أصبحت “ذاتا”. بيد أن بالعودة إلى مثال الطاولة، نرى لما هذا التصور مثير للضحك. فالطاولة ليس لديها أي مقومات للإدراك، حتى ومع مرور وقت لا نهائي، فلا يمكن أن “تكتسب” هذه المقومات. حتى وإن توافق الفرد مع إحدى سناريوهات أصل الحياة صعبة التحقق، فقد يمكن أن ينصرف المرء عن رشده تمامًا ويصبح غير عقلاني، حين يفترض أنه يمكن لقطعة من الرخام، في ضوء ظروف معينة، أن يكون لديها فكر ومنهج. وعلى المستوى دون الذري، ما ينطبق على الطاولة ينطبق بالمثل على كل المواد غير الحية في الوجود بالكامل.
على مدى الثلاثمئة سنة الأخيرة، كشفت العلوم التجريبية معلومات وحقائق عن العالم المادي، أكثر مما كان ممكنا لأجدادنا أن يتخيله بكثير. وهذا يشمل الفهم الشامل للجينات والشبكات والوصلات العصبية التي تشكل أساس الحياة، والوعي والفكر والذات. وبتجاوز هذه الظواهر الأربع في تفاعلها مع البنية التحتية المادية التي تم فهمها بشكل أفضل عن أي وقت مضى، فالعلوم لا تستطيع تفسير أي شيء عن طبيعة أو أصل الظواهر نفسها. وبالرغم من أن علماء منفردون حاولوا تفسيرها على أنها تجليات للمادة غير الحية، إلا أنه ليس هناك أي وسيلة ممكنة لإثبات أن فهمي لهذه الجملة ليست سوى تفاعُل عصبي. لا شك قطعا أن هناك تفاعُل عصبي يتزامن مع تفكيري؛ فقد استطاعت العلوم العصبية الحديثة تحديد مناطق الدماغ التي تدعم تَوَلُّد أنواع مختلفة من النشاط الذهني. لكن القول بأن فكرة معينة لا يمكن اعتبارها إلا إحدى مصفوفات التفاعُل العصبي، يحمل نفس القدر من السخافة الذي في قول إن فكرة العدالة ليست سوى حبر على الورق. ومن ثم، فمن غير المترابط منطقيًا افتراض أن الإدراك والفكر هما ببساطة تفاعُل مادي فقط.
نظرا لضيق المساحة هنا، أقدم نظرة عامة غاية في الاختصار، عن الظواهر الأساسية الخمسة التي تشكل أساس تجربتنا الإنسانية في الوجود، والتي لا يمكن تفسيرها داخل إطار “الإلحاد الجديد”. وبالإمكان الاطلاع على دراسة أكثر تفصيلا في كتابي المقبل بعنوان (الحلقة المفقودة The Missing Link).
العقلانية
يسأل دوكينز وآخرون “من خلق الإله؟”. وهنا، نرى بوضوح، أنه يشترك كل من الملحد والمؤمن في اتفاقهم على أمر واحد وهو؛ لو ان هناك شيء ما وجد، فلا بد من وجود أصل، دائم الوجود، يرد إليه. كيف ظهرت تلك الحقيقة الموجودة بشكل أزلي؟ الإجابة أنها لم تظهر، لم تستحدث أبدًا. بل كانت دائمة الوجود. الإله أو الكون، اختر ما تشاء، فإحداهما دائم الوجود.
عند هذه المرحلة تمامًا يعود موضوع العقلانية ليتصدر النقاش. فبخلاف اعتراضات الملحدين، هناك اختلاف جوهري بين ما يدعيه المؤمن والملحد بشأن الكيان دائم الوجود. فيدعي الملحدون أن تفسير نشأة الكون هو بكل ببساطة أنه أزلي الوجود، لكننا لا نستطيع تفسير كيف ظهرت حالة الوجود الأزلي هذه. فهي غير قابلة للتفسير، ويجب أن تُقبل هكذا. أمّا المؤمنون فيصرون على أن الإله لا يمكن أن يكون غير قابل للتفسير إطلاقا؛ وجود الإله غير واضح لنا، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة للإله.
إن الوجود الأزلي للإله يجب أن يتضمن في نفسه منطقا نستطيع فهمه، لأنه لا يمكن أن يكون هناك عقلانية مضمنة في الكون، إلا في حالة كون هذه العقلية مبنية على عقلانية مطلقة. بعبارة أخرى، مثل هذه الوقائع المفردة كقدرتنا على معرفة وتفسير الحقائق، الترابط بين أعمال الطبيعة وأوصافنا المجردة لتلك الأعمال (ما أسماه الفيزيائي يوجين ويجنر Eugene Wigner الفاعلية غير المعقولة للرياضيات) ودور الشفرات (أنساق الرموز systems of symbols الفاعلة في العالم المادي)، مثل الشفرات الجينية والعصبية في مستويات الحياة متناهية البدائية، تتضح في كون طبيعة العقلانية تأسيسية ومنتشرة تماما. على الرغم من أن الصور التقليدية المستقرة في الأذهان حول طبيعة الإله تعطينا بعض التلميحات، إلا أننا لا نستطيع رؤية المنطق المتضمن فيها. فمثلا، تناقش كلًا من (إلَنور ستامب Eleonore Stump) و(نورمان كرِتسمَان Norman Kretzmann) في صفة البساطة المطلقة للإله، والتي عند فهمها فهمًا تامًا، تساعد على توضيح استحالة عدم وجود الإله. ألفن بلانتنجا أيضا أوضح كيف أن الإله يمكن فهمه ككيان ضروري الوجود، في كل العوالم الممكنة.
من الممكن أن يرد الملاحدة بطريقتين: قد يكون للكون منطق ذاتي داخل وجوده لا نستطيع رؤيته؛ و/أو أننا لا نحتاج إلى الإيمان بوجوب وجود كيان (إلهي) بمنطقه الذاتي الذي في وجوده. وعلى النقطة الأولى، يرد المؤمنين برفض وجود كون يتعدى وجوده حاصل كلي لمجموعة من الأشياء التي تشكله، ونحن نعلم يقينا أن أي من تلك المكونات لا تملك منطقًا ضمنيًا لوجود غير منتهي. ويردون على النقطة الثانية، بأن وجود العقلانية التي نختبرها من غير شك –من قوانين الطبيعة إلى قدرتنا على التفكير العقلاني– لا يمكن تفسيرها إلا إذا كان هناك أساس مطلق لها، والتي لا يمكن إلا أن تكون أقل من عقل غير محدود. كما أشار الرياضياتي (كيرت جودل Kurt Gödel) “الوجود عقلاني”.(1) وصلة هذه العقلانية بالموضوع هي أن “نظام الوجود يعكس نظام عقل سام ينظمه”.(2) لا يمكن التحايل على واقع العقلانية باللجوء إلى الانتقاء الطبيعي. الانتقاء الطبيعي يفترض مسبقًا وجود كيانات مادية، التي بدورها تتفاعل وفقًا لقوانين وشفرات معينة تحكم عمليات الحياة. ومعنى ذكر الانتقاء الطبيعي هو افتراض أن هناك نوعا ما من المنطق لما يحدث في الطبيعة (التكيف) وأننا قادرون على فهم هذا المنطق.
وبالعودة إلى المثال السابق عن الطاولة الرخامية، نصرح بأن العقلانية الحقيقية التي يرتكز عليها تفكيرنا والتي نواجهها في دراستنا للكون متناهي الدقة حسابيًا، لم تكن لتولد من صخرة. الإله ليس حقيقة مطلقة عمياء، بل عقلانية مطلقة متضمنة في كل بعد من أبعاد الوجود.
هناك التفاف جديد، رغم عدم معقوليته، على سؤال أصل الواقع المادي، يظهر في ادعاء دانيال دينيت أن الكون “خلق نفسه من لاشيء، أو من شيء لا يمكن تمييزه إطلاقا في الغالب عن اللاشيء”.(3) هذه الفكرة قد تم عرضها بشكل أكثر وضوحا من جانب ملحد معاصر، وهو عالم الفيزياء فيكتور ستِنجر الذي انتهي بعرض حله الخاص لمسألة أصل الكون وقوانين الطبيعة في كتبه (ليس عن طريق التصميم: نشأة الكون Not by Design: The Origin of the Universe) و(هل وجد العلم الإله؟ Has Science Found God?) و(الكون المفهوم The Comprehensible Cosmos) و(الإله: الفرضية الفاشلة God: The Failed Hypothesis).
قدم ستِنجر نقدا مبتكرا عن فكرة قوانين الطبيعة وانعكاساتها المفترضة. في كتابه (الكون المفهوم) قال بأن تلك التي تسمي بالقوانين لم تصدر هكذا من الأعلى، كما أنها ليست ضوابط مدمجة في سلوك المادة غير الحية. هي ببساطة عبارة عن ضوابط، على الطريقة التي بها يمكن للفيزيائيين صياغة عباراتهم الرياضية عن مشاهداتهم وملاحظاتهم. حُجَّة ستِنجر مبنية على تفسيره لفكرة محورية في الفيزياء الحديثة، وهي فكرة التناظر Symmetry. طبقًا لأغلب التفاسير الفيزيائية الحديثة، التناظر هو أي نوع من التحويلات التي تُبقي قوانين الفيزياء الـمُطبقة على النظام غير متغيرة. الفكرة طُبِقت أولًا على المعادلات التفاضلية للميكانيكا الكلاسيكية والكهرومغناطيسية، ثم طُبِقَت بعد ذلك بأساليب جديدة على النسبية الخاصة وعلى مشاكل ميكانيكا الكم. أعطي ستِنجر لقرائه لمحة عامة عن هذا المفهوم الفَعَّال، ولكن بعد ذلك شرع في استخلاص استنتاجين لا يتسقان منطقيًا. الأول هو أن مبادئ التناظر تلغي فكرة قوانين الطبيعة، والآخر هو أن اللاشيء يمكن أن يُنتِج شيء، لأن اللاشيء غير مستقر!
من المدهش أن نرى كيف وظَّفَ (أنتوني زيي Anthony Zee) –أحد رواد المتخصصين في التناظرات– في كتابه (التناظر المخيف (Fearful Symmetry نفس الحقائق التي استشهد بها ستِنجر، ليخلُص إلى استنتاجا مختلفًا:
لعبت التناظرات دورًا مركزيا متزايدا في فهمنا للعالم المادي… الفيزيائيون الأصوليون مستمرون في إيمانهم أن التصميم المطلق انتشر تدريجيا بالتناظرات. بدون التناظرات التي ترشدنا، لم يكن للفيزياء المعاصرة أن توجد… كلما تبتعد الفيزياء عن الخبرات اليومية وتقترب أكثر من المصمم المطلق، كلما تتخلص عقولنا من مراسيها التقليدية… أفضل التفكير في المصمم المطلق الـمُعرّف بالتناظر.(4)
يرى ستِنجر أن “اللاشيء” تناظري بالكامل، لأنه لا توجد حركة أو زمن أو سرعة متجهة أو تسارع بشكل مطلق في الفراغ. وردًا على السؤال “من أين نشأت وأتت التناظرات؟” صرح بأنها هي بالضبط تناظرات الفراغ، إذ أن قوانين الفيزياء هي فقط ما يُتَوقَع أن يكون لو أنها نشأت من اللاشيء.
مغالطة ستِنجر الجوهرية قديمة، فمن الخطأ معاملة “اللاشيء” على أنه جنس من “الشيء”. وعلى مدى القرون، أولئك المفكرون الذين نظروا في مفهوم “اللاشيء” كانوا حريصين على التأكيد على هذه النقطة. فالعدمية المطلقة تعني عدم وجود قوانين، وعدم وجود فراغات، وعدم وجود مجالات وقوى، وعدم وجود طاقة، وعدم وجود بناءات، أو حتى أي كيانات مادية أو عقلية من أي نوع، وبالتالي لن يوجد أي نوع من “التناظر”، وليس هناك أي خواص أو قوى كامنة. العدمية المطلقة لا يمكن أن تنتج شيء معين، حتى في وجود وقت لانهائي. وفي الواقع، لا يمكن أن يكون هناك أي وقت في العدمية المطلقة.
ماذا عن رؤية ستِنجر المتأصلة في كتابه (الإله: الفرضية الفاشلة) من أن ظهور الكون من العدم لا يخرِق مبادئ علم الفيزياء، لأن صافي مقدار الطاقة في الكون يساوي صفر؟ تلك الرؤية بزغت في الأفق عن طريق الفيزيائي (إدوارد تريون Edward Tryon) الذي برهن على أن صافي مقدار الطاقة في الكون يكاد يساوي الصفر تقريبا، وبالتالي ليس هناك أي تناقد في القول بأنه نشأ من اللاشيء، حيث أنه نفسه لاشيء. لو جمعت طاقة الجاذبية، والتي هي سالبة، وبقية كتلة الكون بالكامل، والتي هي موجبة، ستكون النتيجة ما يقرب من الصفر. وعليه، لن يكون الكون في حاجة لأي طاقة ليُخلق، وبالتالي، لا يلزم وجود خالق له.
وفي نفس الإطار، يشير الفيلسوف الملحد (جون سمارت J. J. C. Smart) إلى أن افتراض أن صافي مقدار الطاقة في الكون يساوي الصفر، لا يجيب إطلاقًا على تساؤل لما ينبغي وجود أي شيء من الأساس. أضاف سمارت أن الفرضية وصياغاتها الجديدة لا زالت تفترض بعد زمكاني ومجال كمي وقوانين الطبيعة. وبالتالي، فإن تلك الصياغات لا هي تواجه سؤال لما ينبغي أن يوجد أي شيء ولا تتَعَرَّض لسؤال ما إذا كان هناك سبب لا زماني لوجود الكون الزمكاني.(5)
يبدو جليا من هذا التحليل أن ستِنجر لم يجب على سؤالين مركزيين؛ لماذا يوجد شيء بدلا من لاشيء؟ وكيف للشيء الموجود أن يعمل وفق التناظرات أو يُكَوِن بناءات معقدة؟
وظف أنتوني زيي نفس حقائق التناظر التي أشار إليها ستِنجر، لكي يصل إلى استنتاج مفاده أن عقل المصمم الأسمى هو مصدر التناظر. في الحقيقة، تعكس قوانين الطبيعة التناظرات الكامنة في الطبيعة. ذلك التناظر، وليست فقط لقوانين الطبيعة، يشير إلى عقلانية ووضوح الكون؛ تلك العقلانية المتأصلة في عقل الإله.
تقييم نقدي لدوكينز، ودينيت، ولويس، وولبرت، وهاريس، وستنجر (2)
الحياة
الظاهرة التالية التي يتعين علينا النظر فيها هي الحياة. بسبب معالجة أنتوني فلو لهذه المسألة في هذا الكتاب، فنحن في غنى هنا عن الزيادة بالبت في مسألة نشأة الحياة. إلا أنه يجدر الإشارة إلى أن النقاشات الحالية عن المسألة لا تبدو مطلعة على القضايا الرئيسية. فهناك أربعة أبعاد للكائنات الحية. تلك الكائنات هي كيانات فاعلة، ومحددة الهدف، وذاتية التناسخ، ومُوجهة سيميائيًا (وجودهم يعتمد على التفاعل المتبادل بين الشفرات والكيمياء). كل فرد من الكائنات الحية له المقدرة على الفعل، فكل كائن هو المصدر الـمُوَحَّد والمحور لكل أفعاله. وحيث أن تلك الكيانات قادرة على البقاء والتصرف بشكل مستقل، وتصرفاتهم بطريقة ما يدفعها غايات (كالتغذية)، بإمكانهم استنساخ أنفسهم: فعليه هم كيانات فاعلة، مستقلة وظيفيًا، ذاتية التناسخ، مدفوعة الغاية. علاوة على ذلك، أشار (هاورد باتي Howard H. Pattee) إلى أنه بالإمكان وجود تفاعلات وتأثيرات تبادلية بين العمليات السيميائية في الكائنات الحية (الضوابط والشفرات واللغات والمعلومات والتنظيم) والنظم المادية (القوانين والديناميكيات والطاقة والقوى والمادة).(6)
من بين الكتب التي نتناولها هنا، كتب دوكينز فقط هي التي تناولت مسألة نشأة الحياة. بينما كان وولبرت صريحا تماما فيما يخص الوضع الحالي لمجال البحث “هذا لا يعني أن كافة المسائل العلمية ذات الصلة بالتطور قد تم حلها. فعلي العكس تمامًا، ما زال فهمنا قاصرًا لمسألة نشأة الحياة نفسها وتطور الخلية المذهلة التي نشأت منها جميع الكائنات الحية”.(7) أما بالنسبة لـدينيت، ففي كتبه السابقة، اعتبر ببساطة أن من المسلم به أن بعض الروايات المادية صحيحة.
ولسوء الحظ، حتى على المستوى الفيزيوكيميائي، نهج دوكينز قاصر بصورة فجة أو ربما يكون أسوأ من ذلك. يسأل دوكينز: “لكن كيف يمكن أن تبدأ الحياة؟ … نشأة الحياة هو ذلك الحدث الكيميائي، أو سلسلة الأحداث الكيميائية، والتي بواسطتها توفرت ولأول مرة الظروف الحيوية المناسبة للانتخاب الطبيعي… وما أن أصبح العنصر الحيوي –نوع ما من الجزيء الجيني– في موضعه الصحيح، فيتبع ذلك الانتقاء الطبيعي الدارويني ويبدأ عمله”.(8) كيف حدث ذلك؟ “استدعى العلماء سحر الأعداد الكبيرة… يكمن جمال المبدأ الإنساني في أنه يخبرنا، مناقضًا كل البديهيات، أن النموذج الكيميائي لا يحتاج سوى أن يتنبأ بأن الحياة سوف تنشأ على كوكب واحد في وسط مليار مليار كوكب، لكي يقدم لنا تفسيرا مرضيًا تمامًا لنشأة الحياة هنا”.(9)
مثل هذا النوع من الاستدلال، الذي أفضل ما يمكن وصفه به هو أنه ممارسة متهورة في إطار الخرافة، أن إذا رغبنا وقوع أي شيء في مكان ما، ما علينا إلا ” استدعاء سحر الأعداد الكبيرة”. الحصان الأبيض وحيد القرن (Unicorn) أو إكسير الحياة (elixir of youth)، حتى وإن كان “احتمال وقوعهما محال بشكل صاعق”، فإن حدوثهما حتمي “بالتناقض مع كل البديهيات”. الشرط الوحيد هو” نموذج كيميائي” والذي “يحتاج فقط التنبؤ” بوقوعهما “على كوكب واحد في وسط مليار مليار كوكب”.
الوعي
لحسن الحظ، الأمور ليست سيئة للغاية فيما يخص أبحاث الوعي. هناك اليوم وعي متنامي بطبيعة الوعي.
فنحن نعي، ونعي تمامًا أننا نعي. لا أحد يستطيع أن ينكر ذلك بدون أن يتناقض ذاتيا، على الرغم من أن البعض يستمر في القيام بذلك. المشكلة تصبح بدون حل، عندما ندرك طبيعة الخلايا العصبية. أولًا، وقبل أي شيء، الخلايا العصبية لا يوجد بينها وبين حياتنا الواعية أي شبه. وثانيًا، والأكثر أهمية، أن الخواص الفيزيائية للخلايا العصبية لا تعطي أي مؤشر بأي شكل من الأشكال للاعتقاد بأن لديهم قدرة على إنشاء الوعي. يرتبط الوعي مع بعض مناطق معينة في الدماغ، ولكن وجود نظام الخلايا العصبية هذه في جذع الدماغ غير قادر على “إنتاج” الوعي. في واقِعِ الأمْر، وكما أشار العالم الفيزيائي (چيرالد شرودر Gerald Schroeder)، لا يوجد اختلاف جوهري بين العناصر الفيزيائية المكونة لدماغ أينشتاين وتلك المكونة لحبات من الرمل. هناك اعتقاد أعمى، بلا أساس، يقبع وراء ادعاء قدرة أجزاء من المادة على “تخليق” واقع جديد لا يحمل أي شبه لتلك المادة.
على الرغم من أن الاتجاه العام لأبحاث العقل والجسد الآن يعترف بحقيقة الوعي وبالغموض المترتب على ذلك، إلا أن دانيال دِينيت واحد من الفلاسفة القلائل المتبقيين الذين لا يزالون مستمرون في مراوغة ما هو واضح وبديهي. فيصرح إن مسألة ما إذا كان هناك شيئا “واعي بالفعل” ليست مثيرة للاهتمام أو حتى مسؤولة، بينما يؤكد أن الآلات يمكن أن تكون واعية لأننا بالأساس آلات واعية!
تفسير دانيال دِينيت للوعي هو مذهب (الوظيفية Functionalism)، وهو القول بأنه لا يتعين علينا الاهتمام بما يصنع ما يسمى بالظاهرة العقلية. فبدلا من ذلك، ينبغي علينا استكشاف وفحص الوظائف التي تُجريها تلك الظواهر. فالألم هو شيء يولد رد فعل اجتنابي، والفكر هو إجراء يتخذ في عملية حل المشكلات؛ ليس حدثًا خاصا يقع في مكان خاص، والشيء نفسه ينطبق على جميع الظواهر العقلية الأخرى المفترضة. أن تكون واعيا، هو أن تكون قادرا على أداء هذه الوظائف. وبما أن هذه الوظائف يمكن استنساخها بواسطة النظم غير الحية (على سبيل المثال، جهاز الكمبيوتر يحل المشكلات) فليس هناك شيء غامض حول “الوعي”، وبالتأكيد ليس هناك سبب أو داع للذهاب إلى ما وراء التفسير المادي.
لكن ما تسقطه هذه الرؤية هي حقيقة أن كل الإجراءات أو الأفعال الذهنية دائمًا ما يتلازم وقوعها بحالات الوعي، حالات ندرك فيها ما نفعله تمامًا، ومحال لمذهب الوظيفية أن يفسر أو يدعي قدرته على تفسير حالة الوعي، أو تفسير حالة الإدراك، أو تفسير حالة قدرتنا على معرفة ما نفكر فيه بالتحديد (الكمبيوتر مثلا لا “يعرف” ما يفعله). وبالرغم من عدم مقدرة فلسفته على تحديد من هو المدرك أو الواعي أو المفكر، إلا أن دينيت يخبرنا –مازحًا ربما– أن فلسفته هي “مطلقية الشخص الثالث” والتي تجعله في موقف يؤكد فيه عبارة “أنا لا أؤمن بي أنا”.
ما يثير الاهتمام فعلا هو أن من انتقد دينيت ومبدأ الوظيفية هم من أنصار الفيزيائية؛ مثل (ديڤيد بابينو David Papineau) و(چون سيرل John Searle). وچون سيرل تحديدا كان واضحا تماما، حيث قال: “إذا أغراك مبدأ الوظيفية، فأنا على يقين أنك لا تحتاج إلى دحضه، أنت في أمس الحاجة للمساعدة”.(11)
على عكس دينيت، يدافع سام هاريس بقوة عن الحقيقة فوق الفيزيائية للوعي، حيث يقول: “تكمن المعضلة في أن المخ لا يحتوي –عند معاينته كنسق مادي– على أي شيء يدل على كونه الحامل لذلك البعد الداخلي غير المألوف، الذي يختبره كل واحد فينا متمثلًا ذلك في الإدراك على نحو فريد”. ثم بعد ذلك يباغتنا بقوله: “ربما يعد الوعي ظاهرة أكثر بدائية بكثير عما عليه باقي المخلوقات الحية بأدمغتهم. ولا يتضح وجود أي وسيلة لاستبعاد مثل هذه الأطروحة تجريبيا”.(11)
مما يحسب لدوكينز، إقراره بحقيقة الإدراك واللغة وبالمعضلة التي تنتج عن ذلك. حيث قال مرة: “ليس بمقدوري ولا (ستيڤن بينكر Steven Pinker) تفسير الإدراك الذاتي الإنساني؛ أي تفسير ما يطلق الفلاسفة عليه كواليا[*] Qualia”، وقال أيضا: “تَعَرّض ستيڤن في كتابه (كيف يعمل العقل How the Mind Works) بأناقة لمعضلة الوعي الذاتي، ومن أين تأتي، وما هو تفسير ذلك. وكان أمينا للدرجة التي جعلته يقول “هزمتني شر هزيمة”. هذه أقصى درجة من الأمانة، وأنا أقلده. فنحنا لا نعلم ماهيتها، ولا نفهم طبيعتها”.(12) وقد تجنب وولبرت متعمدًا إثارة قضية الوعي برمتها: ” لقد تجنبت عن قصد أي نقاش عن الوعي”.(13)
[*] الكيفيات المحسوسة Qualia في الفلسفة هو الكيف أو الحالة التي يُنظر إليها في حالة الوعي بصفات الأشياء من منظور ذاتي. إن مفهوم الكيفيات المحسوسة من المواضيع الهامة والشائكة في الفلسفة، ويعود ذلك إلى أن الإدراك الحسي متفاوت بالقياس على الحالات الفردية. ويعد فهم الكيفيات المحسوسة أحد المواضيع الأساسية في فلسفة العقل.
تقييم نقدي لدوكينز، ودينيت، ولويس، وولبرت، وهاريس، وستنجر (3)
الفكر
بخلاف الوعي، لدينا ظاهرة الفكر، ظاهرة الفهم. مع كل استخدام للغة يُكشَف عن نسق وجودي مجرد غير مادي بداهة. يكمن في أساس التفكير والتواصل ومهارة استخدام اللغة، قدرة إعجازية. إنها القدرة على ملاحظة الاختلافات والتشابهات، وملاحظة الشموليات والتعَميمات؛ أو ما يسميه الفلاسفة المفاهيم والمسلمات وما شابه ذلك. فهي طبيعية إنسانية استثنائية، وببساطة محيّره. فكيف يمكن لك، منذ الطفولة، أن تفكر دون عناء في كل من كلبك تحديدا، والكلاب بشكل عام؟ أو كيف يمكن أن تُفكر في الاحمرار، بشكل منفصل عن التفكير في شيء ذا لونٍ أحمر (بالطبع لا يتواجد الاحمرار بشكل مستقل، لكن خلال شيء أحمر اللون). فأنت قادر على أن تجرد فتميز فتوحد، بدون اللجوء لقدرتك على إعادة التفكير. كما أنك قادر على أن تفكر في أشياء فاقدة للوجود الفيزيائي وللخصائص المادية، مثل فكرة الحرية أو نشاط الملائكة. إن تلك القدرة على التفكير تتجاوز بطبيعتها المادة غير الحية.
إذا وجد أي من يخالف أي من هذا، فعليهم أن يتوقفوا عن الكلام والتفكير لكي يحققوا اتساقا داخليا. فمع كل مرة يستخدمون اللغة، هم يجسدون تمامًا الدور واسع الانتشار للمعنى والمفاهيم والنوايا والعقل في حياتنا. ولا يمكن فهم الحديث عن أن التفكير لديه نظير مادي (لا يوجد عضو مسؤول عن الفهم)، على الرغم من أن البيانات الـمُدخَلة عن طريق الحواس أوجدت بالطبع بعض المواد الأولية المستخدمة في التفكير. فبمجرد تفكيرك في ذلك لدقائق، ستصل بفهمك على الفور أن فكرة أن فكرك عبارة عن، بطريقة أو بأخرى، كيان مادي هو أمر سخيف بدرجة لا يمكن تخيلها. دعونا نقول إنك تفكر الآن في تخطيط نزهة مع عائلتك وأصدقائك. ستفكر في أماكن مختلفة محتمل أن تذهب إليها، ستفكر في الأشخاص الذين تريد دعوتهم، ستفكر في الأشياء التي تريد جلبها، ستفكر في السيارة التي ستستخدمها، وما شابه ذلك. هل من المترابط منطقيًا أن نفترض أن أي من تلك الأفكار، بطريقة أو بأخرى، مُشكلة من مواد؟
القضية الأساسية هنا هي أن دماغك ذاتها –بالمعنى الدقيق للكلمة– لا تفهم. أنت من تفهم. دماغك تمكنك من الفهم، وليس بسبب أن أفكارك تُصاغ في دماغك، أو بسبب “أنك” تحفز بعض الخلايا العصبية على العمل. لنأخذ على سبيل المثال عملية إدراكك أن القضاء على الفقر شيء جيد، تلك عملية متكاملة كونها فوق مادية في جوهرها (دلالة المعنى) ومادية في التنفيذ والإخراج (المفردات والخلايا العصبية). لا يمكن فصل العملية إلى شيء مادي وفوق مادي، لأنها عملية غير قابلة للفصل عن الفاعل العاقل، والذي يتألف جوهريًا من جزء مادي وجزء فوق مادي. هناك بنية لكلًا من الجزء المادي والجزء فوق المادي، إلا أن اندماجهما المتكامل بشكل بالغ يجعل من الصعب تأويل أفعالنا على أنها مادية فقط أو فوق مادية فقط أو حتى مزيج من الاثنين. إنها حتما أفعال كائن روحاني ومتجسد.
تنشأ الكثير من المفاهيم الخاطئة حول طبيعة الفكر، من المفاهيم الخاطئة حول أجهزة الكمبيوتر. ولكن دعنا نقول نحن نتعامل مع حاسوب فائق مثل الجين الأزرق، الذي يجري حوالي مائتي تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة. يكمن الخطأ الأول في افتراض أن الجين الأزرق هو “شيء” مثل البكتيريا أو النحلة. ففي حالة البكتيريا أو النحلة فنحن نتعامل مع كيان فاعل، مركز للحدث والفعل حيث يُعد وحدة كاملة متكاملة عضويًا، هو كائن حي. جميع أفعاله مدفوعة عن طريق أهداف بقائه حيًا وتوالُده. لكن الجين الأزرق هو عبارة عن حزمة من الأجزاء التي تجري وظائف، بشكل منفرد أو بشكل تعاوني بيني، زُرِعت ووُجِهَت عن طريق خالقي تلك المجموعة.
ثانيا، تلك الحزمة من الأجزاء لا تدرك ما الذي تفعله، حينما تجري معاملة ما. إن إجراء العمليات الحسابية في الحواسيب الفائقة والمعاملات التبادلية في الحواسيب المركزية كاستجابة للمُدخلات وللتعليمات لهو ببساطة مجرد مسألة تتعلق بالتفاعل البيني بين النبضات الكهربائية والدوائر كهربائية والترانزستورات. بالمثل، نفس العمليات الحسابية والمعاملات التبادلية التي تُجرَى عن طريق الإنسان تنطوي على توظيف آلية الدماغ، لكن تُجري عن طريق كيان مركزي؛ الإدراك، والذي هو مُدرك لما يحدث، يفهم ما الذي يحدث، ويقوم بالإجراء عن عمد. عند إجراء الكمبيوتر لمثل تلك الأوامر، فهو لا يحتوي على وعي أو فهم أو معنى أو عقد نية أو شخص، حتى وإن كان لدى ذلك الكمبيوتر عدة مُعَالِجات تعمل بسرعات خارقة لتصور الإنسان. مُخرَجات الكمبيوتر ذات “معنى” دلالي لدينا (كأخبار حالة طقس الغد أو حسابك البنكي)، لكن بقدر ما كانت تلك الحزمة من الأجزاء التي تسمي كمبيوتر معنية بأن هناك أرقام ثنائية –الصفر والواحد– التي بها تُوَجَه الأنشطة آلية معينة. والقول بأن الحاسب “يفهم ويعي” ما يفعله يتساوى في معقوليته المنطقية، مع قول إن السلك الموصل للطاقة يمكن أن يتمعن التفكير في معضلة حرية الإدارة والجبرية، أو أن موادًا كيميائية في أنبوب اختبار يمكنها تطبيق مبدأ عدم التناقض في استراتيجية حل المشكلات، أو أن مشغل الأقراص يفهم ويستمتع بالموسيقي التي يشغلها.
الذات
المفارقة، أن أهم إغفال للملحدين المعاصرين هو نفسه أهم معطى لديهم؛ ألا وهو ذواتهم. الحقيقة المادية/فوق المادية المطلقة التي نعرفها من التجارب والخبرات هي الـمُجرِب نفسه، أي؛ “ذواتنا”. وبمجرد أن نسلم بحقيقة أن هناك منظور صيغة المتكلم، “أنا”، “لي”، “يخصني”، وما شابه ذلك، نصادف أعظم وأكبر الألغاز إبهاجًا. أنا موجود. وبعكس اتجاه مقولة ديكارت “أنا هنا، إذن أنا أفكر، وأدرك، وأنوي، وأعني، وأتفاعل”، ما هي “الأنا”؟ من” أين” أتت؟ كيف أصبحت؟ فبقدر ما أن “ذاتك” ليس شيئا ماديا، فهي ليست أيضا شيء فوق مادي. هي ذاتا ذا جسد، وجسد ذا روح. “أنت” غير موجود بخلية مخية معينة أو في أي جزء من أجزاء جسمك. تستمر خلايا جسدك في التغير وتظل “أنت” ثابتا لا تتغير. إن درست الخلايا العصبية فليس في خصائص أي منهم ما يؤهلها لتكون “أنا”. بالطبع جسدك جزء لا يتجزأ من كونك أنت، ولكنه “جسدك” لأنه تشكل هكذا عن طريق الذات. أن تكون إنسانا يعني أن تكون روحاني متجسد.
في إحدى الفقرات المشهورة من كتاب (رسالة في الطبيعة الإنسانية Treatise of Human Nature) أعلن هيوم ” حين أتعمق فيما أسميه “ذاتي”… لا أستطيع العثور عليها أبدا بدون إدراك حسي، ولا أستطيع إطلاقًا أن ألحظ شيئًا غير الإدراك الحسي”.(14) هيوم ينكر هنا وجود الذات ببساطة عن طريق جداله بأن (بمعنى “أنا”) لا يستطيع العثور على “ذاته”. لكن ما الذي يوحِد له مختلف خبرات الإدراكات الحسية بشتى الارتباطات، التي تمكنه من أن يكون على علم بالعالم الخارجي، ويبقي كما هو خلال تلك الفترة. من الذي يسأل تلك الأسئلة؟ هو يفترض أن “ذاته” هي حالة يمكن ملاحظتها مثل أفكاره أو أحاسيسه. لكن “الذات” ليست شيئا يمكن ملاحظته. بل هي الحقيقة الثابتة في الخبرة، وفي الواقع، هي أساس أي خبرة.
في الحقيقة من كل الحقائق المتاحة لدينا، الذات هي الحقيقة الأكثر وضوحًا والتي لا جِدالَ فِيهِا، وفي نفس الوقت الأكثر إماتة للفيزيائية. ينبغي توضيح أنه لا يمكن ادعاء إنكار الذات دون الوقوع في التناقض. هناك رد شهير لبروفيسور على سؤال “كيف لي أن أعرف أني موجود؟” رد البروفيسور “ومن الذي يسأل؟”. الذات هي ما نحن عليه، وليس ما لدينا. إنها الـ”أنا” التي ينبثق منها منظور صيغة المتكلم. لا يمكننا تحليل الذات، لأنها ليست حالة عقلية يمكننا ملاحظتها أو وصفها.
ومن ثم، الحقيقة الأكثر جوهرية التي ندركها جميعا هي الذات البشرية، وتفهم الذات سيؤدي لا محالة إلى صياغة رؤى حول جميع المسائل الخاصة بأصل الأشياء، وسيعطي للحقيقة ككل بعدًا منطقيا متكاملا. ندرك أن وصف الذات محال، ناهيك عن تفسيرها بلغة الفيزياء والكيمياء. العلوم لا تستكشف الذات، بل الذات هي التي تستكشف العلوم. ندرك أنه ليس هناك أي رؤية مترابطة منطقيا لتاريخ الوجود، إذا لم تستطع تقديم تفسيرًا لوجود الذات.
أصل فوق المادية
إذن، كيف ظهرت الحياة والوعي والفِكْر والذات؟ يبين التاريخ الزمني للكون بزوغ مفاجئ لهذه الظواهر؛ فالحياة ظهرت بعد عصر تجمد الأرض بقليل، والوعي أبرز نفسه في ظروف غامضة خلال الانفجار الكامبري، واللغة ظهرت في “النوع الرمزي” بدون أي تمهيد تطوري. الظواهر التي نبحثها تتراوح بين نظم معالجة الرموز والشفرات والكيانات الفاعلة بينة النِيَّة مدفوعة الغاية من ناحية، والإدراك الذاتي والفكر التصوري والذات الإنسانية من ناحية أخرى. السبيل الوحيد المترابط منطقيا لوصف تلك الظواهر هو القول إنـها أبعاد مختلفة للكائن والذي هو فوق مادي بطريقة أو بأخرى، فبالرغم من أنها تتكامل تمامًا مع الجانب المادي، لكن مع ذلك هي جديدة تماما على المادة. نحن لا نتحدث هنا عن أشباح تسكن آلات، بل عن كيانات فاعلة ذات طبائع مختلفة، فمنها المدرِك ومنها المدرِك المفكر. ففي كل حالة لا نتحدث عن حيوية ولا عن ثنائية، ولكن عن تكامل، عن كل متكامل،
عن كلانية تمزج بين ما هو مادي وما هو عقلي.
على الرغم من أن الملحدين الجدد فشلوا في أن يستوعبوا طبيعة أو مصدر الحياة والوعي والفكر والذات، إلا أن الرد على سؤال أصل فوق المادية يبدو واضحا؛ الكيان فوق المادي يمكن أن ينشأ فقط من أصل أو مصدر فوق مادي. تأتي الحياة والوعي والعقل والذات بالضرورة من أصل أو مصدر حي مدرِك مفكر. وبما أننا نعتبر مراكز ومحاور الوعي والشعور والفكر حيث أننا قادرين على التعلم والحب والاعتزام والتنفيذ، لا أرى منطقا في أن تلك المحاور نتجت عن شيء يفتقر في نفسه لكل تلك النشاطات. وبالرغم من أن العمليات الفيزيائية البسيطة لديها القدرة على تخليق ظواهر فيزيائية غاية في التعقيد، لكننا هنا لسنا معنيين بالعلاقة بين البسيط والمعقد، نحن نسأل هنا عن أصل “المحاور”؛ إذ ببساطة لا يمكن تصور أي حقل أو مصفوفة مادية قادرة على إنتاج كيانات فاعلة تفكر وتتصرف. وبما أن المادة غير الحية غير قادرة على أن تتنج مفاهيم وتصورات، لذا، على مستوى خبرتنا الحياتية، نميل إلى أن عالم الذوات الفاعلة الحَيّة المُدرِكة المفكرة خلقت لِزاما بواسطة مصدر حي؛ عقل.