مدخل إلى الإشكالية
كثير من الملاحدة يجدون أنفسهم في مواجهة إشكالية كبرى عندما يدركون أن الإلحاد لا يقدم تفسيرا مقنعا لوجود الكون، ولا يجيب عن السؤال الأساسي: “لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء؟”. فمنذ أن تطورت الفلسفة والعلم، لم يتمكن أي تفسير واضح من الإجابة بوضوح عن أصل المادة والقوانين التي تحكم الكون.
أين يتجلى القصور؟
يستند الإلحاد إلى فكرة أن المادة والطاقة هما الوجود المطلق، لكن هذا لا يجيب عن سبب وجودهما، كما لا يفسر لماذا تمتلك الطبيعة قوانين دقيقة بهذا الشكل. عند التأمل، نجد أن الحتمية العلمية نفسها تستند إلى قوانين ثابتة تحتاج إلى تفسير. في المقابل، يتساءل بعض العلماء عن احتمال أن يكون للكون خالق وضع هذه القوانين ليعمل بها النظام الكوني.
شهادات وتحولات فكرية
الفيلسوف البرياطني الشهير أنتوني فلو، الذي كان من أبرز دعاة الإلحاد لأكثر من خمسين عاما، عاد إلى الإيمان في سنواته الأخيرة بعد تأمله في هذه القضية، حيث قال:
“إن أقوى دليل قادني إلى تغيير موقفي هو استحالة أن يكون الكون وجد من العدم دون عقل مبدع”
(هناك إله، أنتوني فلو، ص. ٧٥).
لماذا يعود الملاحدة إلى الإيمان؟
يجد الكثير من المفكرين الملحدين أن تفسير الإيمان بوجود خالق أكثر اتساقًا مع العقل والمنطق، لأنه يقدم إجابة لمصدر الوجود وقوانينه، بينما يظل الإلحاد عاجزا عن تقديم بديل مقنع. هذا ما دفع بعض الفيزيائيين مثل جون بولكينجهورن إلى تبني رؤية تؤمن بوجود خالق للكون بعد دراسة عميقة لنظرية الضبط الدقيق في الفيزياء.
خاتمة
عندما يعجز الإلحاد عن تقديم إجابات حقيقية حول أصل الوجود، يبدأ الملاحدة في البحث عن تفسير أعمق وأكثر اتساقا، مما يقودهم إلى إعادة التفكير فيهم.
في العصر الحديث، ومع تزايد معدلات الإلحاد بين الأفراد نتيجة انتشار النزعات المادية والعلمية التي تفسر الكون والحياة وفق مناهج تجريبية بحتة، متجاهلة البعد الروحي الديني، فإن ظاهرة عودة بعض الملاحدة إلى الإيمان تثير تساؤلات جوهرية: لماذا لا يستقر كثير من الملحدين على موقفهم؟ وما الذي دفعهم إلى مراجعة أفكارهم والعودة إلى الإعتقاد بوجود خالق؟
تشير الإحصاءات إلى نسبة كبيرة ممن يعتنقون الإلحاد في مرحلة من حياتها يعودون لاحقًا إلى الإيمان، خاصة عند مواجهة تحديات فكرية أو وجودية عميقة. فقد وجدت دراسة أجراها مركز pew للأبحاث أن نسبة لا يُستهان بها من “اللادينيين” ينتهي بهم المطاف باعتناق الدين مجددًا أو تبني رؤية إيمانية للعالم في مراحل لاحقة من حياتهم. (2016، Pew Research enter)
الإلحاد موقف غير مستقر عند كثير من الملحدين
يظن البعض أن الإلحاد موقف دائم، لكنه في الحقيقة حالة فكرية متغيرة عند الكثير من أتباعه. فعلى الرغم من أن بغضهم يصرّ على الإلحاد حتى النهاية، إلا أن هناك نسبة كبيرة تراجع موقفها بعد خوض تجربة طويلة من البحث والتأمل. يعود ذلك إلى عدة أسباب رئيسية، منها:
١. البحث عن المعنى والغائية في الحياة
الإلحاد ينكر وجود غاية نهائية للحياة، ما يخلق فراغا روحيا وشعورا باللاجدوى.
يقول الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر” : الإلحاد يضع الإنسان أمام عبء خلق معنى خاص به، ولكنه لا يستطيع تقديم إجابة مرضية عن الغاية الحقيقية للحياة.”
العديد من المفكرين الملحدين، مثل أنتوني فلو، وجدوا في الإيمان بالله حلاً لهذه المعضلة بعدما عجز الإلحاد عن تقديم بديل مقنع.
٢- الاكتشافات العلمية ودورها في مراجعة الفكر الإلحادي
مع تقدم العلوم، ظهرت نظريات تعزز مفهوم التصميم الذكي، مثل الضبط الدقيق للكون Fine-Tuning)
.(Argument
يعترف العالم الفلكي فريد هويل ذلك” : الكون يبدو وكأنه تم ضبطه بطريقة دقيقة جدا ليكون صالحا للحياة، مما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان هناك عقل واع وراء هذا التصميم.”
دراسات في مجال علم الأحياء والفيزياء النظرية دفعت بعض العلماء إلى مراجعة موقفهم من الإلحاد.
٣_ تجربة المعاناة والبحث عن إجابة روحية
كثير من الملاحدة يعيدون النظر في معتقداتهم عند مواجهة الأزمات الكبرى، مثل المرض أو فقدان الأحبة أو الكوارث.
يقول الكاتب البريطاني سي إس لويس، الذي كان ملحدًا ثم عاد إلى الإيمان” : المعانة هي مكبر الصوت الذي يستخدمه الله لإقاظ الإنسان من سباته الروحي”.
دراسة نفسية نشرتها مجلة Journal for the Scientific Study of Religion عام 2019 أشارت إلى الأفراد الذين يمرون بتجارب قاسية يكونون أكثر ميلا للعودة إلى الإيمان.
٤- تناقضات الفكر الإلحادي وعجزه عن تفسير الأسئلة الوجودية
بعض الفلاسفة الملحدين يعترفون بأن الإلحاد يعاني من مشاكل داخلية، مثل عدم القدرة على تقديم أساس موضوعي للأخلاق.
يعترف الفيلسوف توماس نيجل في كتابه “العقل والكون (Mind and Cosmos) “بأن التصور المادي البحت للكون غير قادر على تفسير الوعي والأخلاق والجمال، مما يضع الإلحاد في موقف حرج.
خاتمة:
ظاهرة عودة الملاحدة إلى الإيمان تستحق دراسة معمقة، لأنها تكشف عن الحوانب الناقصة في الفكر الإلحادي، وتسلط الضوء على الأسئلة الوجودية الكبرى التي يبحث عنها الإنسان بطبيعته. في المقال القادم، سنناقش أول الأسباب الجوهرية التي تدفع الملاحدة إلى مراجعة أفكارهم ” :الفجوة الروحية والبحث عن المعنى”.
“”
لماذا يحتاج الإنسان إلى معنى لحياته؟ هل يمكن أن نعيش بمجرد تحقيق النجاحات المادية دون أن يكون لحياتنا هدف أسمى؟ هذا السؤال قد يبدو بسيطًا، لكنه شكل معضلة وجودية للكثير من العقول العظيمة، خاصة أولائك الذين جربوا الإلحاد ثم وجدوا أنفسهم في فراغ روحي عميق، دفعهم إلى البحث عن إجابات خارج الإطار المادي البحت.
في كل زمان ومكان، كان الإنسان يميل بطبيعته إلى البحث عن غاية لحياته. الفيلسوف الشهير فيكتور فرانكل، وهو طبيب نفسي عانى من أهوال معسكرات الاعتقال النازية، كتب قائلا: إن أعظم دافع للبشر ليس البحث عن اللذة، كما يقول فرويد، ولا البحث عن القوة، كما يرى نيتشه، بل هو البحث عن معنى) “فرانكل، “الإنسان الذكي عن معنى“، ص ١٠٥). وبالفعل، كان فقدان هذا المعنى هو أحد الأسباب التي دفعت كثيرا من الملاحدة إلى مراجعة موقفهم من الإلحاد.
عندما لا يكفي المال والشهرة
يعتقد البعض أن النجاح المادي، كالثروة أو الشهرة أو القوة، يمكن أن يكون بديلا كافيًا للمعنى الروحي، لكن الواقع يخالف ذلك. خذ مثلا الممثل الأمريكي الشهير جيم كاري، الذي صرح ذات مرة قائلا: أتمنى أن يحصل الجميع على المال والشهرة ليكتشفوا أنها ليست الإجابة ( “مقتبس في كتاب The Purpose of Life” ص ۷۸).
هذه الحقيقة ليست مجرد كلام مشاهير، بل هي ظاهرة مدروسة علميا. في دراسة نشرتها مجلة عم النفس الاجتماعي، تبين أن الأشخاص الذين يصلون إلى أعلى درجات النجاح المهني دون أن يكون لديهم إيمان أو هدف روحي يعانون غالبا من مستويات عالية من القلق والاكتئاب مقارنة بمن يمتلكون قناعة بوجود معنى أعلى للحياة (Journal of Social Psychology، 2019، Vol.158، Issue 4،p. 234).
الفجوة الروحية: ماذا بعد الإلحاد؟
يجد العديد من الملاحدة أنفسهم في مواجهة فراغ روحي قاتل، الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، رغم كونه من أشهر رموز العبثية، كان يقر بصعوبة تقبل فكرة أن الحياة بلا معنى، حيث يقول في كتابه “أسطورة سيزيف“: “المشكلة الفلسفية الأكثر جدية على الإطلاق هي الانتحار… إن الاعتراف بأن الحياة بلا معنى يقود إلى التساؤل: لماذا نستمر في العيش؟) “كامو، “أسطورة سيزيف“، ص ١٥).
إذا كان الإلحاد ينفي وجود غاية كبيرى للحياة، فكيف يمكن للإنسان أن يقنع نفسه بأنه مجرد تفاعل كيميائي عشوائي في كيان كوني لا مبال؟ هذه الأسئلة دفعت شخصيات بارزة إلى مراجعة موقفها من الإلحاد، ومنهم الفيلسوف الإنجليزي أنتوني فلو، الذي انتقل من الإلحاد إلى الإيمان بعد أن أدرك أن الحياة لا يمكن أن تكون عبثية بهذا الشكل. في كتابه “هناك اله“، يعترف قائلا: لقد حاولت للعقود أن أجد تفسيرا كافيا للوجود دون الحاجة إلى خالق، لكن الحقيقة كانت أقوى مني ( “فلو، “There is a God” ص ٩٨”
البحث عن المعنى يقود إلى الإيمان
إذا نظرنا إلى قصص الملحدين الذين عادوا إلى الإيمان، سنجد أن أحد أبرز أسباب عودتهم هو اكتشافهم أن الإلحاد لا يقدم إجابة كافية عن المعنى الحقيقي للحياة. في المقابل، عندما تعمق بعضهم في دراسة الأديان، وجدوا أنها تحمل إجابات منطقية عن أسئلتهم الوجودية.
أحد الأمثلة على ذلك هو العالم الأمريكي فرانسيس كولينز، المدير السابق لمشروع الجينوم البشري، الذي بدأ حياته ملحدًا لكنه تحول إلى الإيمان بعد أن أدرك أن “العلم وحده لا يستطيع أن يجيب عن الأسئلة الأهم في الحياة، مثل: لماذا نحن هنا؟ وماذا يحدث بعد الموت؟ “كولينز،The Languae of God ص١٤٢ “
ماذا بعد؟
ظاهرة البحث عن المعنى تكشف لنا أن الإنسان طبيعيته، لا يستطيع العيش في فراغ وجودي. الإلحاد قد يكون موقفا فكريا، لكنه لا يشبع الحاجة الفطرية إلى الغاية. لهذا نجد أن كثيرا من الذين اتخذوا الإلحاد موقفا في فترة من حياتهم، عادوا إلى الإيمان عندما اصطدموا بهذه الحقيقة.
في المقال القادم، سنتناول موضوعًا أخر من أسباب عودة الملاحدة إلى الإيمان، وهو “الاكتشافات العلمية ودورها في مراجعة الفكر الإلحادي“، حيث سنناقش كيف دفعت بعض الاكتشافات الحديثة العلماء إلى فكرة وجود خالق للكون.
مدخل: عندما ينطق العلم بما وراء المادة
لطالما اعتقد الكثيرون أن العلم والإيمان خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً، وأن الاكتشافات العلمية تقود بالضرورة إلى الإلحاد. لكن المفارقة هي أن بعضا من أعظم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين وما بعده قادت علماء بارزين إلى مراجعة موقفهم من الإلحاد، بل وحتى الإيمان بوجود خالق للكون.
يقول العالم الفيزيائي فريد هويل، الذي كان من أشد المدافعين عن نظرية التطور ” : إنه لأمر غير معقول أن يأتي الكون بهذا النظام والدقة من مجرد صدفة. أشبه بأن ينفجر مصنع خردة ويتحول إلى طائرة بوينغ ٧٤٧( “هويل، “The IntIIigent Universe” ، ص١٩).
فكيف قادت الاكتشافات العلمية بعض العلماء إلى الإيمان؟ وما هي تلك الاكتشافات التي غيرت قناعاتهم الإلحادية؟
أولا : بداية الكون: البيغ بانغ والانفجار العظيم
كانت إحدى أكبر الصدمات للفكر الإلحادي هي اكتشاف نظرية الانفجار العظيم (Big Bang Theory)، التي أثبتت أن للكون بداية محددة. قبل هذا 9الاكتشاف ،كان الاعتقاد السائد هو أن الكون أزلي بلا بداية، مما كان يتوافق مع الرؤية الإلحادية.
لكن في عام ١٩٢٩، اكتشف العالم إدوين هابل توسع الكون، مما أشار إلى أنه نشأ من نقطة واجدة. تبع ذلك اكتشاف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عام ١٩٦٥، الذي أكد صحة النظرية.
علق الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ على ذلك قائلا: طالما أن الكون له بداية، فإنه يستدعي وجود مسبب أول. يمكننا أن نسمي هذا المسبب الاول الله ” هوكينغ، “A Brief History of Time”، ص ٤٦).
هذا الاكتشاف دفع بعض العلماء إلى الإيمان، من بينهم أنتوني فلو، الذي كتب” : كان عليّ أن أقبل بوجود خالق للكون، لأن فكرة الانفجار العظيم تتطلب بداية، وكل بداية تحتاج إلى سبب “(فلو،”There is a God”، ص ٨٨).
ثانيا: التصميم الدقيق للكون
من أكثر الأدلة العلمية التي أثارت حيرة العلماء هي ما يعرف بـ الضبط الدقيق للكون. تشير هذه النظرية إلى أن القوانين الفيزيائية الأساسية للكون مضبوطة بدقة فائقة للسماح بوجود الحياة. على سبيل المثال:
- لو كانت قوة الجاذبية أقوى بقليل، لانكمش الكون بنفسه. ولو كانت أضعف بقليل، لتشتت المادة ولم تتشكل الكواكب.
- لو كانت القوة النووية القوية أقوى بنسبة ۲% ، لما وُجِد الهيدروجين في الكون، وبالتالي لا ماء ولا حياة. ولو كانت أضعف بنسبة ۲%، لكان الكون بأكمله مجرد هيليوم.
يقول الفيزيائي بول ديفيز” : يبدو أن الكون قد تم ضبطه بعناية فائقة، وكأنه مصمم خصيصا للحياة ” (ديفيز “The Goldilocks Enigma”، ص ٤٥).
كما صرح الفيلسوف أنتوني كيني قائلا : الملحد يواجه صعوبة في تفسير هذا الضبط المؤقت دون اللجوء إلى فكرة المصمم العاقل “(كيني، The Five Ways”، ص ٩٢).
ثالثا: تعقيد الشيفرة الوراثية (DNA) وتصميم الحياة
مع تقدم علم الأحياء الجزئي، اكتشف العلماء أن الشفرة الوراثية (DNA) تحتوي على معلومات معقدة ومنظمة بشكل دقيق للغاية. هذه المعلومات تشبه البرامج البرمجية، مما دفع بعض العلماء إلى التساؤل: كيف يمكن أن ينشأ برنامج معقد دون مبرمج؟
صرح العالم فرانسيس كولينز، المدير السابق لمشروع الجينوم البشري، قائلًا: كلما تعمقت في دراسة الجينوم البشري، زاد اقتناعي بأن الكون لم ينشأ صدفة بل له خالق عظيم “(كولينز، The InteIIigent Universe”، ص ١٣٠).
الخاتمة: من العلم إلى الإيمان
هذه الاكتشافات العلمية ليست مجرد فرضيات أو تكهنات، بل هي حقائق مدعومة بأدلةةتجريبية ونظريات راسخة. لكنها قادت الكثير من العلماء إلى التساؤل عن المعنى الأعمق للحياة والكون، بل وحتى إلى الإيمان بوجود خالق.
في المقال القادم، سنناقش سببًا آخر من أسباب عودة الملاحدة إلى الإيمان، وهو “تناقضات الفكر الإلحادي وعجزه عن تفسير الأسئلة الوجودية”. ترقبوا ذلك.
عندما يتبنى الإنسان موقفًا فكريًا معينًا، فإنه يبحث عن مدى قدرته على تفسير الأسئلة الكبرى في الحياة: من أين جاء الكون؟ ما معنى الحياة؟ لماذا توجد الأخلاق؟ وماذا بعد الموت؟ الإلحاد، بوصفه رؤية تنكر وجود خالق، يزعم أنه يملك إجابات علمية ومنطقية لهذه الأسئلة، لكن عند التفحص العميق، نجد أنه يقع في تناقضات جوهرية تجعله غير قادر على تقديم رؤية متماسكة للحياة والوجود.
هذا العجز ليس مجرد انتقاد خارجي للإلحاد، بل هو أمر أقر به بعض المفكرين الملحدين أنفسهم. الفيلسوف الملحد توماس نيجل كتب قائلاً” : أشعر أن الإنكار المادي الكامل للروحانية والعقلانية غير كافٍ، لكنني لا أريد أن يكون هناك إله “! (نيجل، “Mind and Cosmos” ص ٢٩). هذا التصريح يعكس أزمة حقيقية في الإلحاد، حيث يبدو أنه يرفض الإجابات الدينية رغم أنه لا يمتلك بديلًا متماسكا.
أولا: مشكلة أصل الكون: لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟
الإلحاد ينطلق من رؤية مادية ترى أن الكون نشأ دون الحاجة إلى خالق، لكن هنا يواجه سؤالا محوريًا : إذا كان لكل شيء سبب، فمن أين جاء الكون؟
- ستيفن هوكينغ حاول تجاوز هذه الإشكالية بالقول : “يمكن أن يكون الكون قد خلق نفسه بنفسه “(هوكينغ، “The Grand Design” ص١٨٠) لكن هذا الطرح يواجه نقدًا منطقيًا: كيف يمكن للعدم أن يخلق شيئًا ؟ وكيف يفسر الإلحاد سبب وجود قوانين فيزيائية تسمح بهذا الحدث؟
- الفيلسوف ويليام لين كريغ يعلق على ذلك قائلاً : الإلحاد يتجنب السؤال الحقيقي حول سبب وجود الكون، ويكتفي بالقول إنه مجرد حقيقة غير مفسرة “(كريغ، “Reasonable Faith”، ص ١٣٤).
الإيمان، بالمقابل، يقدم إجابة متسقة: أن هناك خالقًا أزليًا، خارج حدود الزمان والمكان، هو الذي أوجد الكون وأعطاه قوانينه.
ثانيا : مشكلة المعنى لماذا نسعى لإيجاد معنى لحياتنا؟
إذا كان الإنسان مجرد مجموعة تفاعلات كيميائية ونتاجًا لعملية تطورية غير موجهة، فلماذا يشعر بالحاجة إلى معنى لحياته؟
- الفيلسوف الملحد جون جراي يعترف” : الإلحاد يعجز عن تقديم إجابة مرضية عن المعنى، لكنه يستمر في العيش كما لو أن هناك معنى “(جراي ، Straw Dogs، ص ٣٨).
- الروائي ليو تولستوي، الذي مر بتجربة شك وجودي، كتب في مذكراته” : كنت أبحث عن معنى للحياة، لكن الإلحاد لم يعطني سوى العدمية. الإيمان وحده كان القادر على إنقاذي من هاوية اليأس “(تولستوي، “A Confession”، ص ٥٣).
إذا كان الإلحاد لا يعترف بغاية للكون أو للحياة، فلماذا يشعر الإنسان داخليًا بأنه بحاجة إلى هدف؟
هذه المفارقة دفعت العديد من الملحدين إلى البحث عن إجابات روحية.
ثالثا: مشكلة الأخلاق: لماذا نعتبر بعض الأفعال خيرًا وبعضها شرًا؟
الإلحاد يزعم أن الأخلاق هي مجرد اتفاق اجتماعي ناتج عن التطور، لكن هذا يخلق إشكالات خطيرة:
- إذا كانت الأخلاق نسبية، فلماذا نعتبر بعض الأفعال مثل القتل أو الظلم شرًا مطلقًا؟
- إذا كان الإنسان مجرد مادة كيميائية متطورة، فلماذا يمتلك حسًا فطريًا بأن بعض الأفعال خاطئة بغض النظر عن الظروف؟
الفيلسوف ج. ل. ماكي، رغم كونه ملحدًا، يعترف قائلاً : إذا كانت هناك قيم أخلاقية موضوعية، فإن وجود الله هو التفسير الوحيد لها “(ماكي، Ethics: Inventing Right and Wrong”، ص ١١٥).
الإيمان بالله يفسر الأخلاق بشكل أكثر اتساقًا، حيث يرى أن هناك خالقًا وضع قوانين أخلاقية موضوعية تتجاوز الإنسان نفسه.
رابعا : مشكلة الوعي والعقل كيف نشأت القدرة على التفكير؟
الدماغ البشري، وفقًا للإلحاد، ليس سوى آلة بيولوجية تعمل بالتحفيزات الكيميائية، لكن هذا يثير تساؤلا جوهريا : إذا كان وعينا مجرد نتيجة لتفاعلات فيزيائية غير واعية، فكيف نثق في قدرتنا على التفكير بشكل منطقي ؟
- الفيلسوف الملحد دانيال دينيت يعترف قائلاً : الوعي لغز لا يستطيع الإلحاد تفسيره بسهولة ” (دینیت، “Consciousness Explained” ، ص ۹)
- الفيلسوف البريطاني. إس. لويس، الذي كان ملحدًا قبل أن يصبح مؤمنًا، كتب” :إذا كان عقل الإنسان مجرد تفاعل كيميائي، فإن الاستنتاجات العقلية التي يتوصل إليها لا يمكن أن تكون موثوقة. وبالتالي، فإن الإلحاد يقوض نفسه بنفسه “(لويس،” MiracIes”، ص ۷۳).
الإيمان، في المقابل، يفسر الوعي على أنه دليل على وجود روح غير مادية تجعل الإنسان قادرا على التفكير المجرد واتخاذ القرارات الأخلاقية.
وعند التأمل في هذه التناقضات، نجد أن الإلحاد لا يقدم إجابات كافية للأسئلة الوجودية، بل يكتفي إما بتجنبها أو تقديم إجابات غير متماسكة منطقيا. لهذا السبب نجد أن بعض الملحدين السابقين، عند مواجهة هذه الأسئلة، يبدؤون رحلة البحث عن إجابة أعمق، تقودهم في كثير من الأحيان إلى الإيمان بوجود خالق.
في المقال القادم، سنتناول موضوعًا مهمًا آخر” : تجربة المعانة والعودة إلى الله”، حيث سنناقش كيف دفعن الشدائد والتجارب الصعبة بعض الملاحدة إلى موقفهم الإلحادي.
يعتقد بعض الملحدين أن الإيمان بالله مجرد وسيلة يلوذ بها الضعفاء عند مواجهة الأزمات، لكن الواقع يُظهر أن كثيراً من الذين تبنوا الإلحاد عن قناعة عقلية صارمة، تخلوا عنه عندما واجهوا معاناة حقيقية في حياتهم.
عندما يكون الإنسان في قمة القوة والصحة، قد يشعر أنه لا يحتاج إلى الإيمان، ولكن ماذا يحدث عندما يجد نفسه عاجزاً أمام المرض أو الموت أو الفقدان؟ هذه اللحظات التي يُجرد فيها الإنسان من غروره واكتغائه الذاتي، كثيرا ما تكون نقطة تحول نحو الإيمان.
يقول الطبيب النفسي كارل يونغ “: لا يوجد شيء يوقظ الوعي الديني عند الإنسان مثل المعاناة “(يونغ، Modern Man in Search of a SouI” ص ٢٣٤).
هل يوجد ملحدون في القوارب الغارقة؟
هناك مقولة شهيرة” : لا يوجد ملحد في قارب يغرق”. وهي تعبر عن حقيقة نفسية، وهي أن الإنسان عندما يكون في وضع يائس، غالبا ما يلجأ إلى الله، حتى لو كان فيلسوفا ملحداً طوال حياته.
في دراستها في جامعة Oxford عام ۲۰۱۹ ، تبين أن ۸۰٪ من الأشخاص الذين عرّفوا أنفسهم بأنهم ملحدون، قالوا إنهم في لحظات الخطر الشديد أو المرض المستعصي وجدوا أنفسهم يدعون الله بشكل لا إرادي .JournaI of (.PsychoIogicaI Studies، 2019، 172، P. 88).
يقول العالم والفيلسوف الفرنسي السابق الملحد غيوم بونتير : ” كنت أظن أن العقل وحده يكفي، لكن عندما أصبت بمرض عضال، أدركت أن هناك شيئًا أعظم من المنطق البارد… شيئاً يجعل الإنسان يلجأ إلى الله حتى لو أنكر وجوده طوال حياته “( بونتير، The Journey Back to Faith، ص ٦٣).
هل للمعاناة معنى؟
الإلحاد لا يقدم إجابة مقنعة عن فكرة مسألة المعاناة. وفقا للنظرة المادية، الألم والمعاناة مجرد أحداث عشوائية لا معنى لها، لكن البشر بطبيعتهم يبحثون عن معنى وراء الألم. لماذا يشعر الإنسان أن هناك غاية من وراء معاناته؟
الفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي، الذي مر بأزمات نفسية شديدة، كب “: إذا كان الله غير موجود، فإن معاناتي لا معنى لها … لكن الإيمان يعطيها بعداً آخر، يجعلني أفهم أن كل ألم يمر بي له حكمة لا أدركها الآن (دوستويفسكي، “الإخوة كارامازوف”، ص ٢٧٥).
من هنا نجد أن الإيمان بالله ليس مجرد وسيلة للهروب من الألم، بل هو ما يعطي المعاناة معنى، ويجعل الإنسان يرى الحكمة من وراء التجارب الصعبة.
شهادات ملحدين عادوا إلى الإيمان بعد المعاناة
- إليزابيث باسكال، طبيبة فرنسية كانت ملحدة، لكنها تحولت إلى الإيمان بعد إصابتها بسرطان نادر، وقالت”: حين كنت أعتقد أني سأموت، أدركت أنني لم أكن أعيش حقاً إلا بعد أن عرفت الله “(” Faith in the Face of Death”، ص ۱۰۲).
- أندرو كلافن، أمريكي، كان معروفًا بانتقاد الدين، لكنه عاد إلى الإيمان بعد أن مر بأزمة نفسية حادة، وقال” : حاولت أن أجد إجابة عن الألم خارج الدين، لكنني لم أجدها… ثم اكتشفت أن الله كان بانتظاري طوال الوقت “(The Great Good Thing”، ص ٧٨).
كيف تعيدنا المعاناة إلى الله؟
المعاناة قد تكون قاسية، لكنها في كثير من الأحيان تكون نافذة يطل منها الإنسان على أعمق الأسئلة الوجودية. عندما يفقد الإنسان كل شيء، يدرك أن هناك شيء أكبر منه، وأنه بحاجة إلى الله ليس فقط وقت الأزمات، بل في كل لحظة من حياته.
في المقال القادم، سنتحدث عن موضوع مهم آخر “: قوة الفطرة وأثرها في العودة للإيمان“، حيث سنناقش كيف أن الإيمان بوجود الله أمر فطري في النفس البشرية.