تعزيز اليقين وهداية الحيران

الدين والإلحاد

الرئيسية / بنك المعلومات / الدين والإلحاد

الكتب

الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين

أصل الإلحاد هو أن يمسح الإنسان من قبله جميع العلوم والاعتقادات، وليشك في الأشياء ثم ليكتف بعقله وخياله ورأيه. جاء هذا الكتاب ليرد هذه المقولة ويبطلها شرعاً وعقلاً بالأدلة والبراهين القاطعة.
تحميل

الإسلام هو دين الله الحق

يعتبر مؤلف الكتاب أن المشكلة الأساسية في نظرة المخالفين إلى دين الإسلام هو أن هؤلاء "... ثقافتهم مبنية على الحرية المطلقة وهي مرادف عندنا لما يعرف بالهوى أو مرادفة للذوق الشخصي فمن الصعب جداً بالتالي أن يفهموا عقلية التسليم بالأمور التي يعتنقها المسلم....
تحميل

آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين

كتاب نافع قدم فيه مؤلفه - أثابه الله - بيانا تفصيليا ضروريا للمغالطات العقلية الكلية التي تقوم عليها تلك النحلة الفلسفية الكبرى، التي استحوذت على شطر عظيم مما يقال له اليوم العلم الطبيعي، في سياق الرد على بعض أولئك الذين بلغ بهم غرورهم أن زعموا أن الطريقة العلمية الطبيعية تكفي لكشف كل خرافة، وللتحصين من كل سفاهة.
تحميل

الفكر المادي الحديث وموقف الإسلام منه

هذا الكتاب عبارة عن محاولة لتطوير علم الكلام ليوائم النتاج الفكري الحديث والمعاصر وذلك لأن مهمة علم الكلام الرئيسية الدفاع عن العقائد الإسلامية بالإدلة العقلية.
تحميل

ردا على الملاحدة والعلمانيين

حوار مع فضيلة الشيخ الشعراوي حول العلمانية وفلسفة التنوير من الرد على العلمانية والليبرالية والعقلانية والعصرانية والحداثة.. حيث عمل على تفسير القرآن الكريم بطرق مبسطة وعامية مما جعله يستطيع الوصول لشريحة أكبر من المسلمين في جميع أنحاء العالم العربي، لقبه البعض بإمام الدعاة.
تحميل

الإسلام والإلحاد وجها لوجه سؤال وجواب

كتاب مبتدأ في الرد على الإلحاد
تحميل

الإسلام يتحدى، مدخل علمي إلى الإيمان

تقوم فكرة الكتاب على إثبات أحقية الدِّين أمام الفكر المادي الجديد عن طريق الاعتماد على نفس الأدلة التي يسلكها الفكر الإلحادي في نقد الدِّين وهي الاستدلال بالنَّظريات العلميَّة الحديثة. ويعد هذا الكتاب من أهمّ الكتب التي تؤسِّس الاقتناع العلمي لدى الشباب المسلم بصحة العقائد الدينية الكبرى. 
تحميل

الإلحاد.. الوهم المستحيل

يعالج الكتاب مجموعة من القضايا التي لها صلة وثيقة بموضوع الإلحاد.. حاول الكتاب من خلال فصوله المتنوعة إثبات عجز الإلحاد عن أن يكون بديلا أفضل للدين ( = الإسلام )، وكذا إثبات استحالة أن يكون للإلحاد حظ من الوجاهة على المستوى المعرفي والسلوكي والقيمي.
تحميل

التفسير الماركسي للإسلام

قبل الدكتور نصر أبو زيد لم يخض الماركسيون المصريون في عقائد الإسلام.. لكن الرجل اجتاح المقدسات، ليقدم التفسير الماركسي للإسلام تلك " الاجتهادات الماركسية" لنصر أبو زيد.. وأهم من "تكفير" الرجل "محاورته" ولهذه المهمة يصدر هذا الكتاب.
تحميل

الحرية الدينية في الإسلام

يُعد من أهم مصنفات المؤلف، ويرجع ذلك إلى مضمونه الذي يحوي جوهر مشروعه الذي جاهد فيه لتفعيل وإستمرارية باب الإجتهاد، وتجديد علم أصول العقيدة، وتحديث آليات الدعوة، والمواجهة والنقد، فضلاً عن جدَّة وأهمية القضية التي تناولها
تحميل

الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان

هذا الكتاب هو بحث من أبدع ما كتب حول مسائل فلسفة الدين، حتى على المستوى الغربي. ومن الصعب جدا التمييز بين فصول الكتاب، فكل فصل له أهمية خاصة.
تحميل

قبس من الأيمان وحساب للملاحدة والوجوديين

هذه رسالة موجزة، لم تزد أن تكون كما ينبئ عنوانها قبساً من الإيمان.... والرسالة ذات شقين: أولهما وحى آية كريمة، نقتبس من معانيها ضياء الإيمان، وبرد اليقين. وثانيهما حساب ومناقشة علمية لآراء الخاطئين وشبهات الملحدين. في القديم وفي الحديث؛....
تحميل

الله والانسان في القران

كتاب لمؤلف ياباني يتميز بنوع فريد من الموضوعية في نظرته وتحليله للقرآن. الكتاب في أصله باللغة الإنجليزية، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها المؤلف بجامعة مكجيل بمونتريال في كندا
تحميل

المادية الإسلامية وأبعادها

في هذا الكتاب حديث جديد عن دعوة القرآن الكريم الى حل مشكلات الفكر والاعتقاد ببناء التفكير الديني على اسس علمية لمواجهة المادية والإلحادية.
تحميل

موقف الإسلام من نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ

هل الدين أفيون الشعوب

هذا الكتاب هو هجوم قوي من جانب المؤلف ضد الشيوعية ومبادئها؛ حيث اعتبرها مذهبًا هدَّامًا خطِرًا على المجتمع مُفَنِّدًا دعواتها بشكل مفصَّل.
تحميل

هل الإسلام هو الحل

دراسة حول شعار الإسلام هو الحل والذى ترفعه أكثر حركات الإصلاح الإسلامي ويحاول هنا الإجابة على السؤال لماذا يكون الإسلام هو الحل؟
تحميل

الإسلام يتصدى للغرب الملحد

الكتاب يبرهن أن منهج الملحدين لم يكن يوما على أساس حصين بل مجرد خزعبلات وشطحات علمية زائفة بُنيت لها أبراج عاجية لحمايتها من الخصم والآراء التي إهتدت لطريق الإيمان والتسليم..
تحميل

الإنسان بين المادية والإسلام

تطور النظرة إلى الإنسانية بداية من المسيحية وتعاليمها، ورأى فرويد وتأثره بنظرية داروين، ونظرة التجريبيين والشيوعيين ونهاية بنظرة الإسلام وتكاملها وتفصيلها للنفس البشرية، وكذلك علاقة الفرد بالمجتمع، ورأى الإسلام في الجريمة والعقاب والقيم العليا لدى الإنسان.
تحميل

الذاتية الاسلامية، وموقفها من الإلحاد الشيوعي

وضح المؤلف في هذا الكتاب مفهوم الذاتية الإسلامية، والذي يعني أن الله خلقنا على الفطرة وهي العودة إليه بكل الطرق والعودة للتوحيد ويظهر لنا الموقف الإسلامي من الشيوعيين وموقف الشيوعية من المفهوم الذاتي للإسلام فالشيوعية ترتكز على الرأسمالية والربح الفردي.
تحميل

من تاريخ الإلحاد في الإسلام

هذا بحث نادر يتحول في هدوء بين أروقة التاريخ كاشفاُ الأستار عن كثير من الحقائق والمواقف والشخصيات التي بقيت دائماً في طي الظلمة والنسيان، بل لعله الكتاب الأول الذي يناقش بمثل هذه الدقة وتلك الموضوعية ظاهرة "الإلحاد في الإسلام"، معتبرا لأصولها ومبرزاً لتطورها ودارساً لأهم أعلامها، بداية من الزنادقة الأوائل...
تحميل

ردود علماء المسلمين على شبهات الملحدين

تناول المؤلف فيه الرد على شبهات النصارى، بأسلوب مبسط يفهمه العامة قبل الخاصة، وقد بذل فيه جهدا مشكورا لتوضيح المشكل والغامض في بعض المفتريات، وقد أحسن في عرضه للجواب عن كل شبهة...
تحميل

الإسلام والحرية..سوء التفاهم التاريخى

استعرض المؤلف النظريات التي تبلورت في عصر النهضة على أيدي قاسم أمين والطاهر الحداد وعلي عبد الرازق الذين انتفعوا بأفكار قال بها المعتزلة وابن رشد وعقلانيون آخرون في الإسلام. وبيّن كيف أن تلك النظريات، إذا ما طُوّرت، يمكن أن تهيئ مسلم مطلع الألفية الثالثة لكي يعيش في سلام...
تحميل

أصل الدين بين تهافت الملاحدة واتفاق المؤمنين

ھذا الكتاب ھو دراسة علمیة جادة لمعظم الفرضیات التي وضعھا زعماء الإلحاد حول أصل الدین لتبریر إلحادھم، یكشف وھنھا وتھافتھا وخواء الموقف الإلحادي، كما یثبت اتفاق المؤمنین على عقیدة أصالة الدین باقتضاء الفطرة.
تحميل

الإنسانوية المستحيلة إشكالات تأليه الإنسان وتفنيدها في الفكر المعاصر

في هذا الكتاب قام المؤلف باستعراض لأشهر المحطات الفكرية التي تحيط بموضوع الإنسانوية (أو النزعة الإنسانية كمنهج حياة وتشريع) وبيان صورها المختلفة عبر التاريخ
تحميل

توفيق رب العباد في شرح كتاب تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد

شرح لكتاب «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد» للإمام محمد بن إسماعيل بن الأمير الصنعاني، والتي بين فيها: الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وبعض أنواع الشرك والكفر، وبيان بعض البدع والتحذير منها.
تحميل

الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية

يتناول مفهوم الحرية بشكل عام، والحرية الدينية بشكل خاص، ويسلط الضوء على مرجعية الحرية الدينية بين الإسلام والغرب، وكذلك يناقش المؤلف التشريع الإسلامي للحرية، مثل الحرية في الإيمان بالإسلام، والحرية في الإيمان بغير الإسلام، وحرية الفهم الديني، والحرية الدينية وعلاقتها بحكم الردة
تحميل

فتح الملك الرحيم في درء الإلحاد

كتاب في بيان العقيدة الصحيحة ببناء عقلي نظري
تحميل

لماذا أنا مؤمن

يعتقد الكثير من الناس ان الايمان بالله مسألة تعتمد في الاساس على التقليد والتلقين.. والاحاسيس القلبية.. والمشاعر النفسية. وهذا فهم خاطئ لمعنى الايمان بمفهومه العلمي والديني الصحيح.. فالإيمان يجب ان يكون مبنى اساسا على المنطق العقلي والتفكير وليس على الرؤية البصرية او الحسية او التلقينية.
تحميل

ما هو الإسلام

هذا الكتاب، يخاطب روحك وعقلك، وسواء كنت مسلمًا أم لا فأنتَ بحاجةٍ لقراءته كي تفهم ما هو الإسلام صدقًا، ولماذا نصلي ؟، وما هي علاقتنا الروحية بالسماء ؟.إنه كتابٌ عقائدي، يتحدث بلغةٍ سهلة وحميمية..
تحميل

المرأه بين الإسلام والإلحاد

كتاب نافع يعرض فيه مؤلفه - أثابه الله - مقارنة بين الإسلام والإلحاد في قضية تكريم المرأة، ويُركز فيه على بيان كيف يتعامل الإلحاد مع المرأة، ثم يعرض مجموعة من أشهر الشبهات التي يثيرها الملاحدة حول "المرأة في الإسلام"
تحميل

الماركسية والإسلام

كتاب رائع و خفيف.. يتناول رؤية للفكرة الماركسية بعين إسلامية لها سابق معرفة و خبرة في الماركسية.. تفنيد جيد للفكرة.. مزج المؤلف فيه بين الموضوعية و العاطفية.. فهو نقد لا يخلو من المعلومة.
تحميل

لماذا الإسلام؟

هذا الكتاب عبارة عن محاضرة وكان حديث المؤلف في هذه المحاضرة عن لماذا ندعو أنفسنا نحن المسلمين إلى الإسلام؟ وكيف يدعى المسلم إلى الإسلام؟ وكان مفتاح الإجابة: لأننا في الواقع ندّعي الإسلام ولا نطبقه ولا نلتزمه في حياتنا ولا نحيا الحياة الإسلامية التي أرادها الله تعالى لنا...
تحميل

الصراع من أجل الإيمان

كتاب للدكتور جيفري لانج يتحدث فيه عن الدين والقرآن، وعلاقة الاستشراق به. وعلاقة المعتنق الغربي للإسلام وكيف يساعد القرآن الكريم على اعتناق الإسلام، وتحدث عن انتشار الإسلام في الغرب
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

لماذا يصوم المسلمون فى رمضان؟

تشغيل الفيديو

أعطني سببًا لأكون مسلمًا

تشغيل الفيديو

تعدد الزوجات أم تعدد الخليلات

تشغيل الفيديو

حقوق الإنسان المظلومة

تشغيل الفيديو

خمس خطوات لتكون مسلمًا

تشغيل الفيديو

مكانة المرأة في الإسلام والحضارات والديانات الأخرى

تشغيل الفيديو

هذا ما يجب أن يتعلمه الإلحاد من الدين

تشغيل الفيديو

هل الإسلام دين الحزن بالفعل؟!

تشغيل الفيديو

مدخل للتعليق على كتاب داوكنز زعيم الملحدين

تشغيل الفيديو

داوكنز ومشكلة الدين

تشغيل الفيديو

داوكنز في مواجهة الإسلام والنصرانية

تشغيل الفيديو

كيف نصدق أن الإسلام دين حق

تشغيل الفيديو

هل الإسلام كهنوتي أم دين علم ومعرفة؟

تشغيل الفيديو

لماذا لم يحرم الإسلام العبودية؟

تشغيل الفيديو

بين ضلالتين.. كيف قوّم الإسلام منظومة الزواج؟

تشغيل الفيديو

!الوحي… كهانة أم تنجيم؟

تشغيل الفيديو

مسيرة مجهولة .. كيف أسس المسلمون الجامعات الأوروبية؟

تشغيل الفيديو

السعادة الحكيمة.. كيف نحيا بهدوء ورضا؟

تشغيل الفيديو

التدين والصحة النفسية.. هل ينقذنا الدين من المعاناة؟

تشغيل الفيديو

بناء على القش .. التشكيك في ألوهية الدين

تشغيل الفيديو

لماذا لا ندعو بالجنة لمن مات على غير الإسلام؟

تشغيل الفيديو

جناية الإنسانوية على الدين والإنسان

تشغيل الفيديو

كيف حقق ‫الإسلام العدالة في حكم إسقاط المولود؟‬‬‬

تشغيل الفيديو

هل الإسلام دين ذكوري؟

تشغيل الفيديو

فلسفة العقاب والثواب بين الإسلام وغيره من الأديان

تشغيل الفيديو

الإسلام والرق لماذا لم يُحرم الإسلام الرق؟

تشغيل الفيديو

المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية الحديثة

تشغيل الفيديو

العيد والأضحية لماذا تعذبون الحيوان بالذبح؟

تشغيل الفيديو

الإنسانوية 1 : الحيوان ذو الوجنتين الحمراوين!

تشغيل الفيديو

الإنسانوية 2… إلحاد بطعم الأمل

تشغيل الفيديو

هل الإسلام دين اخترعه البشر؟

تشغيل الفيديو

الدين أم الإلحاد، أيهما سبب العنف؟!

تشغيل الفيديو

أكثر الدول سعادة

تشغيل الفيديو

مقدّمة في الفلسفة

تشغيل الفيديو

مصادر المعرفة

تشغيل الفيديو

الأسئلة الفطرية

تشغيل الفيديو

الفرق بين الزواج الإسلامي الصحيح وغيره

تشغيل الفيديو

لماذا الإسلام هو الدين الصحيح؟

تشغيل الفيديو

الفرق بين الملحد واللاأدري والربوبي واللاديني

تشغيل الفيديو

تعدد الأديان

تشغيل الفيديو

حد الحرابة في الإسلام

تشغيل الفيديو

كيف الشيء يكون حرامًا ثم حلالاً أو العكس ؟!

تشغيل الفيديو

الإسلام دين الحق

تشغيل الفيديو

قراءة في كتاب الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان

تشغيل الفيديو

قصة الأديان – النسخة الصادقة

تشغيل الفيديو

لماذا الكافر ينبغي عليه البحث عن الدين الحق بينما المسلم لا ينبغي له ذلك

تشغيل الفيديو

علوم الإسلام الدفينة

تشغيل الفيديو

نصر الله وتأييده دليلٌ على صحة الإسلام

تشغيل الفيديو

هل شعائر الحج تدعو للوثنية وتقديس الحجر ؟

تشغيل الفيديو

حاجة البشرية إلى الدين الحق

تشغيل الفيديو

سنتبع الدين، ولكن بفهم من؟!

تشغيل الفيديو

إذا كان الإسلام حقا ، لماذا توجد شبهات ؟

تشغيل الفيديو

لماذا الإسلام هو دين الحق ؟

تشغيل الفيديو

الإلحاد مبني على الإيمان

تشغيل الفيديو

ما الحاجة إلى الدين ؟

تشغيل الفيديو

لماذا لا تكون الحاجة للدين غير حقيقية ؟

المقالات

إضاءاتٌ حولَ دعوى تشابهِ الإسلامِ معَ الأديانِ السابقةٍ

الحمدُ للهِ المُتفضِّلِ بالإنعامِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِهِ خيرِ الأنامِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ مصابيحِ الظلامِ ومَنْ سارَ على نهجِهِ واقتفى أثرَه واستقامَ، وبعدُ.

يتسائلُ البعضُ عنْ سببِ تشابهِ بعضِ عقائدِ الإسلامِ أوْ عباداتِه معَ بعضِ الأديانِ السابقةِ، وهلْ هوَ ناشيءٌ عنِ الاقتباسِ أمْ بسببِ وحدةِ المصدرِ؟، وإنْ كانَ السببُ هوَ وحدةَ المصدرِ فمَا تفسيرُ ذلكَ إذا كانَ الدينُ الأقدمُ دينًا وضعيًّا (ليسَ اليهوديةُ أوِ النصرانيةُ) مثلَ أديانِ سومرٍ القديمةِ أوِ الزراديشتيةِ.

فإليكَ هذهِ القواعدَ العامةَ التي يعينُ استحضارُها مجتمعةً على معرفةِ الإجابةِ[1] وذلكَ دونَ الحاجةِ للدخولِ في مناقشةٍ “تفصيليةٍ” لكلِّ جزءٍ ادُّعِيَ فيهِ التشابهُ ودونَ البحثِ في تاريخِ وعقائدِ وعباداتِ كلِّ دينٍ مِنْ هذهِ الأديانِ:

المُدَّعِي مُطالَبٌ بالدليلِ على دعواه ابتداءً، فلا بدَّ أولًا مِنْ إثباتِ أنَّ هذهِ الأمورَ المتشابهةَ موجودةٌ في هذهِ الدياناتِ السابقةِ قبلَ الإسلامِ ولمْ تُضَفْ بعدَ ظهورِ الإسلامِ، فحالُ هذهِ الأديانِ لا يتشابهُ معَ ثباتِ دينِ اللهِ الإسلامِ وعدمِ تبدُّلِه، بلْ حدثَ فيها تغييرٌ وتبديلٌ على مرِّ الزمانِ، وحدثَ لكتبِ أهلِها المقدسةِ في الغالبِ التحريفُ بالزيادةِ والنقصِ والتأثرِ بالثقافاتِ المحيطةِ.

فتمحيصُ السندِ التاريخيِّ يثبتُ أنَّ الكثيرَ مِنْ تلكَ الدعاوي ساقطةٌ، فمَا وصَلَنا مِنْ أمورٍ يُظنُ بها أنها تشابهُ ما جاءَ بهِ الإسلامُ قدْ جاءَ ذكرُها في مصادرَ قدْ كُتِبتْ بعدَ الإسلامِ بمدةٍ كافيةٍ لورودِ احتمالِ أنْ تكونَ تلكَ الدياناتُ هيَ التي تأثرتْ بالإسلامِ في صورتِها النهائيةِ، ومثالُ ذلكَ ما زُعِمَ مِنَ اقتباسِ الإسلامِ عنْ كتابِ الزراديشتيةِ المقدسِ والذي ثبتَ بعدَ ذلكَ أنَّه لمْ يُكتبْ في صيغتِه المتداولةِ الآنَ إلا بعدَ الإسلامِ بكثيرٍ، تقولُ ماري بويس: (لقدْ ظلَّ سائدًا أنَّ قصةَ ( آردا ويراذ ناماك ) أثَّرتْ في قصةِ المعراجِ الإسلاميةِ حتى تبيًَنَ أنَّ الصورةَ الأخيرةَ للقصةِ الفارسيةِ حديثةُ العهدِ بالنسبةِ للإسلامِ)[2].

التشابهُ بينَ الدياناتِ هوَ أمرٌ واردٌ، لأنَّ الدينَ الصحيحَ هوَ دينُ الله، فاللهُ سبحانَه هوَ المرسلُ لجميعِ الأنبياءِ مِنْ لدنْ أدمَ عليهِ السلامُ إلى محمدٍ ﷺ فهوَ الذي شرَّعَ، وهوَ الذي أوحى إلى رسلِه وأمرَهم بالتبليغِ، فلذلكَ مِنَ الضروريِّ أنْ يتفقوا في الأصولِ فهُم يخبرونَ عنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعنْ عالَمٍ غيبيٍّ واحدٍ، ويتفقونَ في أصولِ الشرائعِ والعباداتِ، لكنْ تختلفُ بعضُ تفاصيلِ الشرائعِ، قالَ سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [سُورَةُ البَيِّنَةِ: ٥] فمَا وُجِدَ مِنْ تشابهٍ بينها فمردُّهُ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى مصدرِ تلكَ الدياناتِ.

نحنُ لا نعلمُ كلَّ أنبياءِ اللهِ ورسلِه، فالقرآنُ لمْ يقصَّ علينا كلَّ أخبارِهم، فهناكَ أنبياءُ لا نعلمُ عنهم شيئًا ولا عنْ أديانِهم ولا عمَّا أصابَ أهلَها، فاللهُ سبحانَه يقولُ:{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [سُورَةُ فَاطِرٍ: ٢٤] إذًا هناك رسلٌ بُعِثوا ولا نعرفُهم.

فعدمُ العلمِ ليسَ علمًا بالعدمِ، فعدمُ علمِنا بقصصِ الكثيرِ منَ الأنبياءِ لا يستلزمُ عدمَ وجودِهم، بلْ ثبتَ بالخبرِ الصادقِ وجودُ أنبياءَ أخرينَ لمْ يأتِ ذكرُهم في القرآنِ والسنةِ.

فمَا وُجِدَ من تشابهٍ بينَ دينِ اللهِ الحقِّ وبينَ غيرِه منْ أديانٍ باطلةٍ فربَّما كانَ منْ تأثُّرِ هذا الدينِ الباطلِ بدينٍ مُوحى بهِ سابقٍ عليهِ.

ما يُزعمُ منْ أديانٍ وكتبٍ (بالآرميةِ والفارسيةِ والهيروغليفيةِ والسنسكريتيةِ….) أنَّ النبيَّ ﷺ اقتبسَ منها، تحتاجُ إلى جامعاتٍ متخصصةٍ وفرقِ باحثينَ للوصولِ إلى تلكَ الكتبِ وترجمةِ محتوياتِها وصياغتِها في دينٍ باللغةِ العربيةِ الفصحى، فهلْ كانَ محمدٌ الرجلُ العربيُّ الأميُّ الذي لمْ يُعرَفْ بكثرةِ الأسفارِ ولا بطلبِ العلمِ ولا بمعرفةِ تلكَ اللغاتِ، هوَ مَنْ قامَ بهذا الجهدِ الذي تنوءُ به كبرى الجامعاتِ صاحبةِ التمويلِ الكبيرِ والعددِ الوافرِ من الباحثينَ؟

يقولُ الدكتورُ عبدُ الرحيمِ الشريفُ: “كيفَ يستطيعُ سيدُنا محمدٌ ﷺ الاطلاعَ على كلِّ عاداتِ شعوبِ الأرضِ، مِنَ الهندِ إلى مصرَ، وينتقي تلكَ العباداتِ والقصصَ والعقائدَ؟ وأيَّةَ مراجعٍ علميةٍ كانتْ في مكتبتِه؟ وأيَّ جيشٍ منَ المدرسينَ استطاعَ تعليمَه كلَّ ذلكَ في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً، كانتِ الأنظارُ مصوَّبةً نحوَه كلَّ لحظةٍ منْ أتباعِه المخلصينَ وأعدائِه المتربصينَ؟”

فعلى مَنْ يريدُ إثباتَ هذهِ الدعوى أنْ يُعلِمَنا كيفَ نقلَ النبيُّ ﷺ هذهِ الأمورَ عنْ دينٍ أوْ ثقافةٍ معينةٍ وكيفَ ترجمَها منْ لغتِها الأصليةِ إلى اللغةِ العربيةِ؟

فمَا يزعمونَه منَ اقتباسٍ منْ كتبٍ كثيرةٍ بعضِها مندثرٍ ولغاتِها مختلفةٍ وبلادِها متباعدةٍ هوَ أمرٌ محالٌ على أيِّ رجلٍ متعلمٍ في ذلكَ الزمانِ. وإذا انضافَ لذلكَ أنَّ المكانَ هوَ مكةُ التي لمْ تكنْ حاضرةً ثقافيةً عالميةً كروما ولا مكانًا تجتمعُ فيه العلومُ والمعارفُ، فكيفَ بنا ومحمدٌ ﷺ كانَ أميًّا لا يقرأُ ولا يكتبُ؟

يقولُ أحمدُ آلُ بوطامي: (قالَ المؤرّخُ (ابنُ خلدونَ): إنّ الكتابةَ في العربِ كانتْ أعزَّ منْ بيضِ الأَنُوقِ، وإنَّ أكثرَهم كانوا أميينَ، ولا سيَّما سكّانُ الباديةِ، لأنَّ هذهِ الصناعةَ منَ الصنائعِ التابعةِ للعمرانِ. ولذلكَ ما كانَ العربُ يشيرونَ إلى الأميِّ بالأميِّة، وإنَّما كانوا يشيرونَ إلى مَنْ يعلمُ القراءةَ والكتابةَ بالعلمِ في هذا الأمرِ؛ إذْ إنَّ العلمَ بالقراءةِ والكتابةِ كانَ الاستثناءَ لا الأصلَ في الناسِ؛ وصمْتُ نصوصِ الوحيِ وكتبِ التاريخِ الإسلاميِّ عنْ وصفِ محمدٍ ﷺ بالقراءةِ والكتابةِ يكفي لإلزامِ الباحثِ أنْ يستصحبَ الأصلَ في ذاكَ الزمانِ؛ وهوَ أنَّ هذا النبيَّ ﷺ لا يقرأُ ولا يكتبُ)[3].

على مَنْ أرادَ أنْ يروِّجَ لهذهِ الدعوةِ أنْ يدرُسَ الإسلامَ بمنظومتِه المتكاملةِ مِنَ العقائدِ والشرائعِ، فعندَها سيتيقنُ أنَّ مثلَ هذا الدينِ الكاملِ لا يكونُ أبدًا منٍ تلفيقاتٍ مِنْ هنا وهناكَ، بلْ هوَ دينُ اللهِ الخاتمُ الذي ارتضاه اللهُ سبحانَه لعبادِه حتى قيامِ الساعةِ وفيه صلاحُهم وفلاحُهم. فالإسلامُ أبعدُ ما يكونُ عن التلفيقِ والاقتباسِ، فهذا الكمالُ والشمولُ دليلٌ على الأصالةِ وعلى وحدةِ المصدرِ، بلْ إنَّ المنصفَ إذا درسَ تلكَ المنظومةَ بتجردٍ واستنطقَ ما فيها من جمالٍ ومصلحةٍ تأكَّدَ مِنْ ربانيةِ مصدرِ الإسلامِ[4].

وختامًا يجدرُ بنا التذكيرُ بأنَّ الناظرَ في أدلةِ صحةِ نبوةِ محمد ﷺ المتواترةِ وما اتَّصفتْ بهِ مِنَ الظهورِ والضخامةِ لا يتطرقُ إليه أدنى شكٍ أنَّه مرسلٌ مِنَ اللهِ تعالى ربِّ العالمينَ. فالاستدلالُ على صدقِ نبوةِ الرسولِ ﷺ سهلٌ ميسورٌ، ويقنعُ العاميَّ والمتعلمَّ؛ لأنَّ الأدلةَ على صحةِ نبوةِ محمدٍ ﷺ متنوعةٌ مثلُ الإعجازِ بالقرآنِِ والكمالِ الشخصيِّ والأخلاقيِّ وحدوثِ المعجزاتِ والخوارقِ بينَ يديْهِ ﷺ وإخبارِه بالغيوبِ الصادقةِ، وتحتَ كلِّ نوعٍ منْ هذهِ الأنواعِ توجدُ أمثلةٌ كثيرةٌ جدًا وأفرادٌ متنوعةٌ[5].

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، ومَنْ سارَ على نهجِه واقتفى أثرَه بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.

 

[1] يمكن مراجعة المزيد حول دعوى التشابه مع الأديان الكتابية في كتاب (هل القرآن الكريم مقتبس من كتب اليهود والنصارى)

[2] Boyce, Mary. Ed., Textual Sources for the Study of Zoroastrianism, 1984, Manchester University Press.

[3] أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي، الردّ الشافي الوافر على من نفى أميّة سيّد الأوائل والأواخر.

[4]  يمكن مراجعة كتاب تعرف على الإسلام للدكتور منقذ السقار.

[5]  يمكن مراجعة هذه المقالة على موقع المحاورون https://almohaweron.co/prophecy-evidence/

المصدر

شبهة أنَّ شهادة المرأة نصف شهادة الرجل انتقاصٌ لها!

الجواب عن شبهة شهادة المرأة نصف شهادة الرجل انتقاصٌ لها :

أولاً :

تحت مظلة الفقه الإسلامي يجري الخلاف في اعتبار شهادة المرأة أوعدم اعتبارها في أمور محددة وليس في كل الأمور بإطلاق

ثم هل يقبل أن تنفرد النساء بالشهادة في أمور محددة؟

وبالمقابل فهناك اتفاق على أمور معينة تنفرد المرأة بالشهادة فيها دون الرجل ومرد ذلك كله ليس امتهان المرأة ولا تنقصها بل حفظ الحقوق ومراعاة إقامة الشهادة على الوجه الذي تستقيم به وتؤدى به تلك الحقوق فعلماء الإسلام لم يكن نقاشهم حول هل المرأة على قدر من الكرامة تؤهلها لقبول شهادتها أم لا فأمر كرامتها مفروغ منه ومقرر بالكتاب والسنة وبآية الشهادة نفسها التي يستدل بها أصحاب الشبهة ولكن ما دار حوله البحث هو مدى عموم الآية أو خصوصها بقضايا محددة والجمع بينها وبين أدلة أخرى في الكتاب أو السنة كلها تدور حول الشهادة فكان رأي كل فريق من العلماء بحسب فهمه واجتهاده وما ظهر له من الأدلة وكل ذلك لا مدخل لأصحاب الشبهات فيه ولا حجة لهم لأنه خارج ما يزعمون تماماً فسيظل خلافاً في أروقة الفقهاء شأنه شأن المسائل الأخرى الكثيرة التي لا يشنع بعض المجتهدين بها على بعض فضلاً عن أن يشنع على المرأة بسببها

وبعد هذا وقبله فإن الشهادة في الإسلام تكليف لا تشريف وعبئ ثقيل لا حقاً يتزاحم عليه الناس بل قد يتهربون منه لمشقته ومافيه من مغالبة هوى النفس فنهاهم الله عن ذلك ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) فلا يتصور من المرأة أن تتوق نفسها لتحمل هذه الأمانة إذا ما اعتبرنا أن الله خفف عنها ورحمها بجعل نصف العبئ عليها ونصفه على أختها التي تكمل شهادتها ثم رفق بهما فأذن لكل منهما أن تذكر صاحبتها بما نسيت وتصحح لها فيما أخطأت فهل في هذا التخفيف بعد التخفيف تنقص أو ازدراء وهل يقول عاقل بأن تخفيف صلاة المسافر بالقصر والإذن له بالفطر وغيرها من الرخص مهانة وتحقير أم أنها رحمة ومثلها رحمة المرأة بتخيف عبئ الشهادة عنها

 عزز الإسلام الشهادة عموماً فعزز شهادة الرجل بشهادة رجل آخر ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) ولم يعتبر أحد أن هذا يمس كرامة أحدهما وكذلك عزز شهادة الرجل المنفرد بشهادة امرأتين ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) وهنا أيضاً لم يعتبر عضد شهادة الرجل بالمرأتين طعناً في كرامته أو نقصاً لمنزلته فبأي وجه يعتبر تعاضد شهادة المرأتين طعناً في أي منهما ؟!!

ضلال المرأة في الشهادة ليس عيباً يستلزم الذم بل أمر طبيعي له أسبابه :

قال تعالى ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) فالآية قد أبانت أن المرأتين مرضيات وأبانت الحكمة من استشهاد امرأتين (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)

-ولا غرابة في ذلك فرسالة المرأة الأولى والأهم تقتضي لزوم بيتها غالب الوقت فيندر أن تطلع على هذه الأمور وإن اطلعت عليها فقد يضعف عنايتها بها فإن شهدت في شيئ منها تطرق لها احتمال النسيان فعضدت بشهادة أخرى تذكرها مانسيت

-ثم إن الآية تدل على أكمل وجوه الاستيثاق في القضايا المالية التي لا تشغل بها المرأة غالباً ولا تعنى بها إلا لماماً ونادراً ما تقف على تفاصيلها حتى وإن كانت هي ذاتها من أصحاب الأموال والعمل التجاري فإنها غالباً توكل إدارة ذلك لرجل فلا غرابة في نسيانها لما هذا شأنها فيه ولا حط لقدرها بالاستيثاق لأصحاب الحقوق بشهادة الاثنتين

-ونسيان المرأة قد ينشأ من طبيعتها العضوية والبيولوجية المؤثرة في نفسيتها وكل ذلك في بناء محكم يتناسب مع وظيفتها الفطرية التي هيأت لها وماتستلزمه من سرعة الاستجابة لأطفالها وعبور الآلام والأوجاع بالنسيان لتؤدي رسالة الأمومة في حب واحتواء لكن الشهادة شأن آخر لا علاقة له بالعاطفة وينبغي أن يحكم غاية الإحكام فوجود امرأتين في الشهادة أدعى لضبطها

-ذكر د.بلتاجي أن سبب نسيان المرأة قد يرجع لطبيعتها في الإنشغال بالجزئيات عن النظرة الشمولية وما يعتريها من عدم التوازن الهرموني أو اضطراب مزاجها بحسب أحوال معينة

وذكر د. الزنداني أن للرجل مركزاً في مخه للكلام في أحد الفصين ومركزاً للذاكرة في الفص الآخر فإذا اشتغل مركز الكلام عند الإدلاء بالشهادة لم يؤثر على على مركز الذاكرة أما المرأة فالمركزان عندها مختلطين يعملان لتوجيه الكلام وللذاكرة فإذا تكلمت اشتغلا بالكلام وقد يؤثر ذلك على الجزء من الذاكرة التي فيها المعلومة فلا عجب أن تعضد بأخرى لتذكرها

اعتراض : يقول : كيف تكون شهادة امرأة مثقفة كنصف شهادة رجل أمي ؟!

يقول الشيخ الشعراوي :

الشهادة تحتاج عنصرين : الرؤية والمشاهدة ثم أمانة النقل

فأمانة النقل لا علاقة لها بالثقافة

فهل الرؤية يختلف فيها العقل ؟؟!!

إن المسألة في الشهادة ليست ابتكار عقل ولكنها حضور مشهدٍ وأمانة نقل..

ثانيًا:

وأما حضور الحادثة فالمرأة دائماً أمرها مبني على الستر وعدم التهجم على الرجال فتعرض النساء للأحداث التي ينشأ بها الخلاف قليل جداً فإن حدث لا يكون بالدقة التي تعرف بها كل المسائل؛ فلهذا كان لا بد من امرأتين في الشهادة لا طعناً فيها وإنما لما سبق بيانه.

اعتراض : يقول : ولماذا لا تقبل شهادة المرأة كالرجل عدداً وموضوع شهادة ؟

سبقت الإشارة إلى أن ذلك محض خلاف فقهي في فهم الأدلة والجمع بينها لا علاقة له بكرامة المرأة المقررة والمؤكدة في نصوص الكتاب والسنة

فالشروط التي تراعى في الشهادة ليست عائدة أصلاً للذكورة والأنوثة في الشاهد بل عائدة لأمرين :

١- عدالة الشاهد وضبطه وعدم القرابة أو الخصومة بينه وبين المشهود له

٢- أن تكون بين الشاهد والواقعة المشهود بها صلة تجعله مؤهلاً للدراية بها والشهادة فيها

فإذا اختل أحد الأمرين ردت الشهادة سواء كانت من رجل أو امرأة

ولهذا نجد شهادة المرأة لا تقبل فيما يطلع عليه الرجال **كالعقوبات وهي الحدود والقصاص ( لا بد فيها من أربعة رجال في الزنى ورجلين في غيره ) لأن تعامل المرأة معها بالغ الندرة وغالباً لن تطيق الاطلاع على تفاصيلها وقد تفقد وعيها أو تغمض عينيها وتكون بحال من الصدمة والارتباك يستحيل معه وصف الحادثة بدقة

ولأن الحدود تدرأ بالشبهات

ودليل أن ذلك ليس تنقصاً لها أن الرجل لو كان بحال من الرقة والعاطفة يجعل صلته بمثل هذه المسائل وقدرته على الوقوف عليها ضعيفة فإن شهادته فيها لا تقبل وعلى أن أكثر أئمة العلم – ومنهم الأئمة الأربعة – على عدم قبول شهادة النساء في الحدود ، فلا تقوم المرأتين مقام الرجل ، فقد خالف فيه الظاهرية ، فقالوا : إن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل في كل شيء ، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله .

ومما يطلع عليه الرجال أيضاً :

النكاح والطلاق والرجعة ففيه شهادة رجلين وقال بعض العلماء بقبول رجل وامرأتين كالمال

أما المعاملات المالية فللمرأة والرجل علاقة بها لكن صلة الرجل أشد فكانت شهادة رجلين أو رجل وامرأتان

وأما ماهو من شأن النساء الذي ينفردن بالاطلاع عليه فتقبل شهادتهن دون الرجال وذلك في خمسة أمور ( الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب وانقضاء العدة )

كما أن المرأة والرجل يتساويان تماماً في شهادات اللعان بنص القرآن وفي هذا دليل على أنه لا مدخل للذكورة والأنوثة في قيمة الشهادة والا لتفاوت عدد الشهادات بينهما هنا

وبحسب ما سبق تقبل شهادة المرأة الواحدة في إثبات النسب ( الولادة ) وهو إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها وكذلك الفراق بين الزوجين بشهادة المرضعة فأيها أعظم الشهادة على دريهمات أو على قضايا تحدد مصير أقوام

واختار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : أن المرأتين تقومان مقام الرجل في كل شيء إلا في الحدود ، وهو مذهب الحنفية ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه .

وإذا تأملت ما سبق تأكد لك أن المسألة مسألة خلاف فقهي ليس إلا

اعتراض : ترى المرأة أمام عينيها مقتل أهلها فلا تقبل شهادتها !

تطاول البعض فادعى هذا تلبيساً وطعناً وهي دعوى بلا دليل إلا جهل صاحبها ولمزيد البيان :

فإن الشهادة التي توفرت شروطها تعتبر بينة كاملة فإن كانت في حد مثلاً جرّم المشهود عليه بناءً عليها لذا شدد فيها

ودون الشهادة ما يسمى بالقرائن وحتماً تدخل فيها شهادة المرأة حتى في الأمور التي لا تقبل فيها شهادتها

وفي السنة ما هو أعجب من ذلك

روى البخاري (2413) ومسلم (1672) :  عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ

فقد سمع منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الرمق الأخير وقبل دعواها على خصمها وأخذ فاعترف وفي رواية عند البخاري ( فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل به حتى أقر به )

فها هو صلى الله عليه وسلم يقبل منها دعواها لحفظ دمها وهي بهذا الحال الصعب على حافة النهاية فكيف لو جاءت تدعي أو ترفع مظلمة وهي بكامل قوتها وإدراكها فإن جعل شهادتها نصف شهادة الرجل في أحوال معينة لا يعني إنتقاص شهادتها في تلك الأحوال فضلاً عن إهدارها مطلقاً وفضلاً عن رد دعواها ومطالبتها بحقها أو بحق من ظلم من أهلها وليس من لازم إنصافها أصلاً أن يكون وصف ما تقدمت به شهادة وإلا لم يقبل فحقها محفوظ بكل حال.

المصدر

هل الحج فيه شعائر وثنية ؟ وهل الإسلام نقل من الوثنيين مناسكهم ؟

السؤال :

إذا كان الإسلام حارب الأوثان والأصنام فلماذا ينقل عن الوثنيين مناسكهم ويأمر المسلمين بعبادة الكعبة والتوجه لها في صلاتهم وتقبيل الحجر الأسود والتعبد برمي الجمرات؟ وكيف نرد على من يقول أن الإسلام أخذ من العرب الوثنيين شعائرهم وقلدها ؟

وما الحكمة من الطواف ورمي الجمرات وغير ذلك؟

من فضلكم ردوا لي على هذه الشبهة .

 الجواب :

سيكون الجواب في أربعة محاور إن شاء الله :

أولًا : الفرق الشاسع بين الوثنية وبين شعائر الحج والعمرة في الإسلام.

ثانيًا : مظاهر التوحيد في الحج .

ثالثًا: بطلان قول من يدعي أن الإسلام نقل من الوثنيين بعض شعائرهم.

رابعًا: الحِكَم التفصيلية لبعض أفعال الحج والعمرة.

 المحور الأول: الفرق الشاسع بين الوثنية وبين شعائر الحج والعمرة في الإسلام .

الإسلام لم يأمر الناس بعبادة الكعبة مطلقًا كما هو مذكور في السؤال، والفرق كبير جدًا بين شعائر الحج وبين أفعال الوثنيين، فالوثنية هي: صرف العبادة للوثن أو اعتقاد صفات الألوهية فيه، ويجب أن يُضبط هذا التعريف لنميز بين ما هو وثني من غيره، وبضبطه يتضح أن الوثنية ليست موجودة في أي شعيرة من شعائر الإسلام ولله الحمد والمنة.

كما أن المشرك في حجه وعبادته يتوجه مباشرة إلى الأصنام والأحجار، تكون هي المقصودة بعبادته، ويعتقد فيها الألوهية والربوبية ويعتقد فيها النفع والضر، ويعتقد بعضهم أنها واسطة بينه وبين الله عز وجل، فالعبادة والدعاء تكون لهذه الأصنام والأحجار من دون الله جل علاه أو إشراكًا معه .

ولكن في الإسلام أنت لا تعبد إلا الله جل علاه، ولا تقصد بعبادتك إلا وجهه سبحانه وتعالى، لا تطوف للكعبة ولا لحجر وإنما تطوف لله سبحانه، ولا تعتقد في أي شيء مطلقًا أنه ينفع أو يضر، ولا تتوجه له بعبادة أو دعاء قط، بل تعبد الله وتدعو الله وترجو الله وتخاف الله وحده لا شريك وتجهر بهذا مرارًا وتكرارا في التلبية (لبيك لا شريك لك لبيك)،

ومن يفعل غير هذا في الإسلام، أو يعتقد النفع والضر في الكعبة، أو يتوجه لها لذاتها أو يصرف عبادة لها فهو مشركٌ ضال مُضل .

وهذا المعنى (تحريم الشرك وتحريم صرف أي عبادة لغير الله) جاء تأكيده في القرآن مرات ومرات، وتم تأصيله من زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى فيما يخص شعائر الحج، لذا يقول المسلم عند بداية الطواف من الحجر : “اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد “، ليكون الأمر واضحًا أن مناسك الحج والعمرة لله وحده وليس لغيره، وجاء عن عمر بن الخطاب أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: “إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك”. وأكد الإسلام على هذا الأمر وأنها لا تنفع ولا تضر .

ولذا لا يجوز شرعًا في الإسلام مجرد التمسح بالكعبة أو التبرك بها فضلًا عن دعائها وعبادتها، ويُعتبر هذا من الشرك، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالكعبة، وروى النسائي” .. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة … “.

ومما يؤكد هذا أيضا أن المسلمين صلوا باتجاه المسجد الأقصى فترة طويلة، فالكعبة ليست مقصودة بذاتها وإنما التوجه لله والصلاة له سبحانه وتعالى باتجاه القبلة التى يرضاها لعباده، ونحن ما علينا إلا التسليم سواء أمرنا المولى بالصلاة نحو المسجد الأقصى أو إلى الكعبة، فكيف يتساوى المسلم بمن يعبد الأصنام ويدعوها ويرجوها ! شتان بين الأمرين، وليس في شعائر الإسلام أي مظاهر للوثنية.

المحور الثاني: مظاهر التوحيد في الحج .

وكيف يُصدّق القول بأن شعائر الإسلام تشابه الوثنية، والحج من أعلى مقاصده إعلاء التوحيد وهدم الشرك!؟، وهذا يتضح في العديد من المظاهر، منها على سبيل المثال:

 التأكيد على أن البيت الحرام بُني لله وحده لا شريك له، ولعباده الموحدين.

قال عز وجل في كتابه الكريم {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}، وقال ابن كثير في تفسيرها :

(أن لا تشرك بي) أي : ابنه على اسمي وحدي،(وطهر بيتي) قال مجاهد وقتادة : من الشرك،(للطائفين والقائمين والركع السجود) أي: اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له “.

 إزالة النبي صلى الله عليه وسلم لكل مظاهر الشرك. حيث طهر النبي عليه الصلاة والسلام البيت الحرام من من كل الأصنام ومن الشرك ومظاهره، حتى أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أبا بكر الصديق” أن يؤذن في الناس ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان”.

 كذلك لا يفتأ الحاج من ترديد أذكار التوحيد والدعاء في كل المناسك، بل وجُعلت المناسك لهذا أصلا.

فالتوحيد مقترنٌ بمناسك الحج ملازمٌ لها، ابتداءً من التلبية بقول الحاج والمعتمر “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”، كذلك في الطواف والسعي ورمي الجمار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله”.

والتلبية: هي الإجابة، وهي دليل على الاستسلام والانقياد لله تعالى محبة ورجاء له وحده وخوفا منه وحده، ففي هذه الجملة القصيرة نفي الشريك عنه سبحانه، والاعتراف له بالحمد، والإقرار بنعمته، والاعتراف بملكه؛ ولذا كان إله الحق، وما سواه من الآلهة فآلهة باطلة. وكذلك في الطواف والسعي ورمي الجمار . وجاء عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ”، وفي السعي عند الوقوف على الصفا والمروة يُسن ذكر الله والدعاء طويلًا، ونفس الشئ عند رمي الجمرات، لأن غاية الحج ترسيخ التوحيد في القلوب.

كذلك من مظاهر توحيده سبحانه وتعالى في الحج والعمرة: إفراد الله عز وجل بالحُكم والتشريع، والتسليم المطلق له عزوجل، واتباع هدى نبيه صلى الله عليه وسلم دون غيره.

فالمؤمن ما طاف بالبيت ولا سعى بين الصفا والمروة ولا رمى الجمرات إلا استسلامًا لأمر الله تعالى وقبولا لشرعه، وفي التسليم توحيد وهو حقيقة الإسلام، وكذلك كل شئ يفعله بدقة متناهية فلا يجوز أن يطوف ست مرات بدلًا من سبع وهذا دليل على تمام الانقياد لشرع الله والتسليم له، ولا يتبع إلا هدى النبي كما قال عليه الصلاة والسلام: “خذوا عني مناسككم “، فلا يُؤخذ الدين إلا من طريقه، ولا يُفعل إلا ما أمر الله به دون تعدٍّ أو تفريط ولو بمقدار بسيط وهذا تمام التوحيد والعبودية لله وحده.

 المحور الثالث: بطلان قول من يدعي أن الإسلام نقل من الوثنيين بعض شعائرهم .

  • ولا يخفى على أحد تدليس وجهل مَن يقول بأن الإسلام أخذ من العرب بعض شعائرهم الوثنية؛ لأن شعائر الحج كالطواف والسعي وغيرها كانت مستقرة عند العرب منذ زمن نبي الله إسماعيل – عليه السلام – ولكن على الصورة الصحيحة الشرعية والتوحيد الخالص، وبقيت كذلك قرونًا طويلة إلى أن دخل الشرك للعرب فأدخلوا مظاهر الوثنية في الحج كتحريف التلبية وجعلها لشريك مع الله، وكجعل العبادة في الحج للأصنام والأوثان وغيرها من مظاهر الشرك، فما عندهم من شعائر هى من بقايا الحنيفية الصحيحه ومن بقايا دين سيدنا إبراهيم – عليه السلام -، ومن هنا لا يصح مطلقا أن يقول أحد أن الإسلام شابه الوثنية في الطواف أو السعي أو غير ذلك مما هو في الحج، وإنما الصحيح أن هؤلاء الوثنيين هم من أخذوا من الإسلام والحنيفية والتوحيد بعض الشعائر ولكن حرفوها وبدلوا فيها وأضافوا عليها مظاهر الشرك، فنحن الأصل، وهذه الشعائر كانت أولًا على التوحيد والحق، وليس الوثنيون هم من قاموا بها ونحن أخذنا منهم، وهذا المعنى لابد أن يُدرك جيدًا .
  • لذا لما تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة لأنهم كانوا في الجاهلية يسعون بين صنمين هما إساف ونائلة، أبطل الله الصنمين وأبقى شعيرة السعي، وأنزل سبحانه {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وقال عليه الصلاة والسلام “كُتب عليكم السعي فاسعوا”، فالحق يبقى ويُزال فقط ما فيه من باطل وشرك دون أن يُترك بالكلية، ولا تُترك الشعائر الصحيحة لتشابهها مع بعض أفعال المشركين، لذا لا يطلب عاقل بترك شعيرة أو حُكم في الإسلام كالحجاب لوجوده عند بعض طوائف اليهود ! .

المحور الرابع: الحِكَم التفصيلية لبعض أفعال الحج والعمرة.

قبل أن نشرع في ذكر الحِكم التفصيلية، لا بد من التأكيد على أهمية التسليم والامتثال لأمر الله تعالى، سواء علم العبد الحِكمة أم لا، وهذا من أعظم مقاصد التكاليف الشرعية؛ لما يقتضيه من ظهور معاني العبودية الخالصة لله تعالى، مع اليقين بأن الله سبحانه حكيم عليم؛ كما قال عزوجل {إن ربك حكيم عليم} فله الحكمة البالغة في كل شيء وهو العليم بكل شيء وما شرع أمرا إلا لعلة عظيمة وغاية محمودة وإن خفيت على العباد.

ونشير إلى أن بعض أهل العلم يرون أن شعائر الحج من التشريعات غير معقولة المعنى، والتي كُلِّف العبد بها ليتم انقياده.

قال ابن حجر رحمه الله: “وفي قول عمر هذا [يعني قوله: إنك حجر لا تضر ولا تنفع …] التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها. وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه “.

 إلا أن بعض أهل العلم يرى أن في شعائر الحج حِكمًا تفصيلية، منها ما دلت عليها النصوص ومنها ما هو أمور اجتهادية، نذكر بعضا منها على سبيل المثال:

الحِكمة من بناء الكعبة.

الكعبة هي بيت الله الحرام الذي جعله مثابةً وأمنًا وملاذًا لأهل طاعته، بُني ليُعظَّم الله عنده ويُعبد، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

وقال جل شأنه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}.

قال ابن كثير: “أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ، لِعِبَادَتِهِمْ ونُسُكهم، يَطُوفون بِهِ ويُصلُّون إِلَيْهِ ويَعتكِفُون عِنْدَهُ”.

 وجعله الله قياما للناس كما قال تعالى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}.

ومعنى {قِيَامًا لِلنَّاسِ} كما ذكر السعدي في تفسيره:

“يقوم بالقيام بتعظيمه دينُهم ودنياهم، فبذلك يتم إسلامهم، وبه تحط أوزارهم، وتحصل لهم بقصده العطايا الجزيلة، والإحسان الكثير، وبسببه تنفق الأموال، وتتقحم من أجله الأهوال ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين، فيتعارفون ويستعين بعضهم ببعض، ويتشاورون على المصالح العامة، وتنعقد بينهم الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية”.

وهذه من المقاصد العظيمة والأسرار البليغة التي وضعها الله في بيته الحرام.

الحِكمة من الطواف بالكعبة واستقبالها في الصلاة.

أما الحِكمة من الطواف فقد بينها النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “إنما جُعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله”.

قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله تعالى – :

“فالطائف الذي يدور على بيت الله تعالى يقوم بقلبه من تعظيم الله تعالى، ما يجعله ذاكرًا الله تعالى، وتكون حركاته بالمشي والتقبيل، واستلام الحجر، والركن اليماني، والإشارة إلى الحجر ذكرًا لله تعالى؛ لأنها من عبادته، وكل العبادات ذكر لله تعالى بالمعنى العام؛ وأما ما ينطق به بلسانه من التكبير، والذكر، والدعاء فظاهر أنه من ذكر الله تعالى”.

وكذلك توجه المسلمين إلى الكعبة في صلاتهم فهو توجه إلى البيت الذي شرفه الله وجعله قبلة للطائعين، وهو أيضًا من قبيل التسليم للنصوص مع ما استقر في نفوسهم أنها لا تضر ولا تنفع.

وقد ذكر بعض العلماء أن العرب كانوا يعتزون بالبيت فتعبدهم الله باستقبال المسجد الأقصى، فلما أطاعوا الله في ذلك حولهم للمسجد الحرام ليربيهم على الطاعة له والاتباع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله هو مالك جميع الجهات والأماكن فهو يوجه من شاء لما شاء، كما قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.

الحِكمة من السعي بين الصفا والمروة:

ورد في حديث قصة ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل في مكة: “فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات”. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فذلك سعي الناس بينهما” الحديث.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:

“وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: “فذلك سعي الناس بينهما”، فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة؛ لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور، وهي في أشد حاجة، وأعظم فاقة إلى ربها، لأن ثمرة كبدها، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه، ولا أنيس، وهي أيضا في جوع، وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل، فإذا لم تر شيئا جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحدا، فأمر الناس بالسعي بين الصفا والمروة ليشعروا بأن حاجتهم وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم، كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه. وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح “.

الحِكمة من رمي الجمار:

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:

“فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه، والله يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ}، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} وقوله منكرًا على من والاه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة”.

انظر للاستزادة :

 – شبهة الزعم أن شعائر الحج طقوس جاهلية – موقع بيان الإسلام

والله أعلم.

المصدر

هل نحنُ مسلمونَ لأنّنا ولدنا كذلك؟

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى..

وبعد.

نجدُ في هذه الأيامِ بعضَ المسلمينَ -وخاصةً من الشباب- يتسألونَ: لماذا نحنُ مسلمون؟

هل نحن مسلمونَ لأننا ولدنا كذلك؟

هل لو كنّا وُلدنا في بلدٍ أخر كانَ سيؤثّر ذلك على الدين الذي نعتنقُه؟

أم كنّا سنجدُ من الأدلة ما يوصلنَا للإسلامِ؟

لابدَّ أن نذكُر في البدايةِ أن هذا تساؤلٌ مشروعٌ؛ فنجدُ أن القرآنَ يذمُّ أن يبنيَ الإنسانُ عقيدتَه على مجردِ تقليدِ الأباءِ والأجدادِ؛ كحالِ أولئك الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: ٢٣)، فهؤلاءِ وأضرابُهم حَجَبُوا عقولَهم عن النظرِ في الحقِّ ودلائلِ صدقِه، وصمُّوا آذانَهم عن سماعهِ، واكتَفوا بالقُعودِ حيث تاهتْ عقولُ آبائِهم الأولين، فأنكرَ القرآنُ عليهم هذا الجمودَ، وقبَّحَهٌ، ودعاهُم لإعمالِ عقولِهم والإفادةِ منها، فقالَ: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ ۖ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (يونس: ١٦).

فنجدُ في الإسلامِ -لأنَّهُ دينُ الحقِّ- الحضَّ على البحثِ ودراسةِ أدلةِ النبوةِ لأنها تزيد المؤمنَ إيماناً، وقد تكون سبباً لإسلامِ من يردِ الله به خيراً، وقدْ دعانا القرآنُ الكريم للتأملِ في دلائلِ نبوةِ النبي صلى الله عليه وسلم في غيرِ آيةٍ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ: ٤٦).

ولكنْ ماذا بعدَ طرحِ تلك التساؤلاتِ، هل سيركنُ الإنسانُ إلى الكسل والقلق المعرفي ولن يبحثَ جديّاً عن الإجابة؟ فيكونُ قد اكتفى بأن جلبَ لنفسه قلقاً، وشكّاً في العقيدةِ؟ أم أنَّه سيبذُل قصارى وُسعهِ في البحث عن أدلةِ الدينِ الحقِّ؟

إنّ الإسلامَ هو الدينُ الحقُّ لأنَّ الذي جاء به هو نبيٌّ مرسلٌ من ربّ العالمين، وقد أيّده ربُّه بالعديد من الأمورِ التي تدل على أنه مرسلٌ منه لهدايةِ الناس، فمنْ تَدبرَ تلك الأدلةَ على نبوةِ محمدﷺ علم أن دينَه –أي الإسلام– هو الدينُ الحقُّ الذي ارتضاهُ خالقُ الكونِ للعالمين.

فالمسلمُ حين يؤمنُ بنبوةِ النبيﷺإنما يؤمنُ بعقيدةٍ راسخةٍ رسوخَ الجبالِ الرواسي، ورسوُّها مصدرهُ أنها عقيدةٌ قامت على العلمِ والدليلِ والبرهانِ، وعند تدبر أدلةِ النبوة؛ نجدُ أنها ترجعُ إلى أمرين:

الأولُ: شخصيةُ النبيِّ ﷺ

.

الثاني: ماجاء به النبيُّﷺ

.

ويجمعُهما قول الله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}. [المؤمنون/٦٨ – ٧٠].

قال ابنُ القيِّم رحمه الله[١]:

“وقالَ في إثباتِ نبوةِ رسولِه باعتبارِ التأملِ لأحوالِه وتأملِ دعوتِه وما جاءَ به: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ….}الآيات، فدعاهم سبحانَهُ إلى تدبرِ القولِ، وتأمّلِ حالِ القائلِ، فإنَّ كونَ القولِ للشيءِ كذباً وزوراً يُعلم من نفس القولِ تارةً، وتناقضِه واضطرابِه، وظهورِ شواهدِ الكذبِ عليه، فالكذبُ بادٍ على صفحاتِه، وبادٍ على ظاهرهِ وباطنِه، ويعرفُ من حالِ القائلِ تارةً، فإن المعروفَ بالكذبِ والفجورِ والمكرِ والخداعِ لا تكونُ أقوالُه إلا مناسبةً لأفعالِه، ولا يَتأتَّى منه من القولِ والفعلِ ما يتأتَّى من البارِّ الصادقِ المُبرَّأ من كل فاحشةٍ وغدرٍ وكذبٍ وفجورٍ، بل قلبُ هذا وقصدُه وقولُه وعملُه يشبهُ بعضُه بعضاً، وقلبُ ذلك وقولُه وعملُه وقصدُه يشبهُ بعضُه بعضاً، فدعاهم سبحانه إلى تدبرِ القولِ وتأملِ سيرةِ القائلِ وأحوالهِ وحينئذٍ تَتَبينُ لهم حقيقةُ الأمرِ وأنّ ما جاء به في أعلى مراتبِ الصدقِ”.

ويندرجُ تحت هذين الأمرين أدلةٌ كثيرةٌ على نبوةِ محمدﷺ، فالاستدلالُ على صدقِ نبوةِ الرسولِ ﷺ سهلٌ ميسورٌ ويُقنعُ العاميَّ والمتعلمَ، فمنها الإعجازُ بالقرآن والكمالُ الشخصي والأخلاقي وحدوثُ المعجزاتِ والخوارقِ بين يديه ﷺ والإخبارُ بالغيوبِ الصادقةِ وتحت كل نوعٍ من هذه الأنواعِ توجد أمثلةٌ كثيرة جداً وشواهدُ متنوعة[٢].

لذلكَ فالإيمانُ بنبوتهﷺ ليسَ قضيةً تسليميَّةً محضةً، ولا عبارةً عن مشاعر نفسيةٍ روحيةٍ، وليس تقليداً بشرياً قاصراً، وإنّما هو قضيةٌ تصديقيةٌ برهانيةٌ إيمانيةٌ، تقومُ على أسسٍ عقليةٍ مثبتةٍ، وبراهينَ استدلاليةٍ يقينيةٍ[٣].

ونزيدُ ذلكَ بياناً بالحديث بشيءٍ من التفصيلِ عن اثنين من أدلةِ النبوةِ [٤].

الأول: الإعجازُ بالقرآنِ الكريم:

فهو أولُ دلائلِ النبوة وأعظمُها وأظهرُها ظهوراً يفوقُ ظهورَ الشمس والقمر، هو القرآنُ الكريم المُنزَلُ على قلبِ الرسولِ الأمينِ، بلسانٍ عربي مبينٍ تحدى الله به الأولينَ والآخرينَ أن يأتوا بسورةٍ من مثل سوَرِه فعجزوا وإلى يومنا هذا وإلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومن عليها.

فإن النبيَّ ﷺأتَى إلى الناسِ بحجةٍ ظاهرةٍ بينةٍ وهو القرآنُ، وطالبَهم بأن ينقضُوها وكان خطابُه لأهلِ الفصاحةِ والعلوِّ في البلاغةِ منهم ولكنهم مع ذلك عجزوا عجزاً مطبقاً عن الإتيانِ بمثل القرآنِ فإنْ كان النبي ﷺ من جنسِ البشر ولم يخرجْ في قدراتِه العقليةِ والجسديةِ عن القدراتِ التي يعرفونَها فكيف أمكنَه أن يأتيَ بكلامٍ من جنسِ كلامِ البشر ويعجزُ كل الإنسِ عن الإتيانِ بمثله مع تكرارِ التحدي عليهم؟

ودلالةُ القرآن على صدقِ نبوةِ النبيِّ تقومُ على أمرين:

الأولُ: استحالةُ أنْ يكونَ النبي صلى الله عليه وسلم مصدرَ القرآنِ والدلائلُ على هذا الأصلِ متنوعةٌ منها:

أن القرآنَ تضمَّنَ أموراً لا يمكن للرسولِﷺ أن يأتيَ بها من عند نفسهِ، ففي القرآنِ جانبٌ كبير من المعاني النقليةِ البحتةِ التي لا مجالَ فيها إلى الذكاءِ أو الاستنباطِ ولا سبيلَ إلى العلمِ بها لمن غابَ عنها بالتعلمِ عن الأممِ السابقةِ ووقائعِ زمنهِ والأمور المستقبليةِ.

أن النبيَّﷺ كانَ أميّاً ولم يكن معروفاً بكثرةِ الأسفارِ ومعَ ذلكَ فقد أتى في القرآنِ بعلومٍ ومعارفٍ لا يمكنُ أن تكونَ متناسبةً مع حالهِ المعرفي.

أن القرآنَ تظهرُ فيه مشاهدُ كثيرةٌ تدل على أن النبيَّ ﷺ كانَ مجردَ متلقٍ للقرآنِ ومبلِّغٍ له مثل تكرر كلمةِ (قُلْ).

أن النبي ﷺ كانتْ تمرُّ به أحوالٌ عظيمةٌ وأحداثٌ كبيرةٌ ومعَ ذلك كلِّه لم يَظهرْ من ذلك شيءٌ في القرآنِ مثلَ أحداثِ عام الحزن.

الثاني: ثبوتُ عجزِ الجنِّ والإنسِ عن الإتيانِ بمثلِ القرآن:

وعَجزُ العربِ الذين تحداهُم النبيُّ ﷺ بالقرآنِ عن إتيانهمْ بمثلهِ دليلٌ كافٍ على إثباتِ عجزِ من عداهُم من الأممِ لأن عجزَ أهلَ الاختصاصِ عن شيءٍ ما يثبتُ عجزَ غيرهم من بابِ أولى، وليس المرادُ بالمِثْلِيَّةِ في التحدي بالقرآنِ أن يُؤتَى بكلامٍ مطابقٍ للقرآنِ في ألفاظهِ وتراكيبِه ومبانِيه وترتيبِ كلماتِه، وإنما المرادُ بالمِثْلِيَّةِ المساواةُ بالقرآنِ في الفصاحةِ والبلاغةِ وقوةِ البيانِ ودقةِ الإحكامِ وعُلُوِّ المضامينِ بأي لفظٍ عربي آخرَ أو المجيءُ بما هو أعلَى منه في تلك الأمورِ.

وثبوتُ عجزِ العربِ -والناسُ لهم بالتبعِ- دليلٌ على أن القرآنَ خارجٌ عن السننِ المعهودةِ في الكلامِ، فالسننُ الكونيةُ جاريةٌ على أن الناسَ كلهم لا يعجزون عن معارضةِ كلامٍ من جنسِ كلامِهم إلا أن يكونَ خارجاً عن مقدورِهم.

ومما امتازَ بهِ القرآنُ عن باقِي أدلةِ النبوةِ استحالةُ التشكيكِ في ثبوتِه فهو موجودٌ بين أيدي الناسِ الآن في مشارقِ الأرض ومغارِبها يستطيعونَ أن يرجِعُوا إليهِ ليتأكدُوا بأنفسهم من صدقِ النبوةِ، قال ابن الجوزي[٥] -رحمه الله-: “جعلَ اللهُ سبحانه هذا القرآنَ معجزاً لمحمدٍ ﷺ يبقى أبداً، ليُظْهِرَ دليلَ صدقِه بعد وفاتِه وجعلَه دليلاً على صدقِ الأنبياءِ، إذْ هوَ مصدقٌ لهم ومخبرٌ عن حالِهم”.

الثالث: هو حدوثُ المعجزاتِ بين يديِهﷺ :

المرادُ أن النبيّ ﷺ كانتْ تقعُ بين يديه أحداثٌ كثيرةٌ خارقةٌ للسننِ الكونية وخارجةٌ عن مقدورِ الإنس والجن ولا يستطيعُ فعلها أحدٌ منهم، وحدوثُ المعجزاتِ بين يديه صلى الله عليه وسلم لم يقعْ مرةً أو مرتين ولكنَّ ذلك وقعَ عشراتِ المراتِ وفي مجالاتٍ مختلفة ومتنوعة.

وقد تواترتْ تلك الأخبارُ وانتشرتْ بينَ الصحابةِ بشكلٍ كبيرٍ جداً وبعضُها شهدها عددٌ كبير منهم ثم انتشرَ في الجيلِ الذي جاءَ بعدَ الصحابةِ وكذلكَ الحالُ فيمن بعدَهم، فتحققَ لمجموعِ تلك الأخبارِ التواترُ المعنوي الذي يُوصلُ إلى العلمِ اليقيني بوقوعِ تلك المعجزات.

وقد وقعتْ تلك المعجزاتُ مراتٍ عدةً بين يديه، وقد قامَ الكثيرُ من أهل العلمِ بتتبعِ أخبارها وإيرادها في مؤلفاتٍ مخصوصةٍ[٦]، ومن تلك المعجزاتِ:

تكثيرُ القليلِ من الطعامِ بين يديه صلى الله عليه وسلم حتى كانَ يأكلُ منه من معه من الجيشِ، وتبقى منه بقيةٌ، والأحاديثُ في ذلك في الصحيحين وغيرهما.

نبعُ الماءِ من بين أصابِعِه صلى الله عليه وسلم وتكثيرُ الماءِ حتى يشربَ منه جميع الجيشِ ويتوضؤون والأحاديثُ في ذلك أيضاً في الصحيحين.

إخبارهُ صلى الله عليه وسلم بالأمورِ الغيبيةِ المستقبليةِ ثم تقعُ كما أخبرَ، وقد حدثَ مما أخبر به شيءٌ كثيرٌ بعضُها في حياتِه صلى الله عليه وسلم وبعضُها بعده.

ودلالةُ المعجزاتِ على النبوةِ مكونةٌ من أمرين: كونُ انخرامِ السننِ بين يديه وقع كثيراً، ومن كونِه ﷺ مخبراً عن اللهِ بأنهُ مرسلٌ من عندِه، فهذانِ المَعْنَيَانِ يشكلانِ سوياً الدلالةَ على أن تلك المعجزات إنما وقعتْ تأييداً من الله لرسولِه وإكراماً له.

إنَّ مُدَّعِي النبوةِ حالُه منحصرٍ بين أمرين لا ثالثَ لهما: إما أن يكونَ من أصدقِ الناسِ وأبرهم فيما إذا كان صادقاً، وإما أن يكون من أكذبِ الناسِ وأخبثهم فيما إذا كان كاذباً، ولا يمكن أن يوجد حال غير هذين الحال أبداً.

هذه الأدلةُ هي غيضٌ من فيضٍ من دلائل نبوتِه ﷺ وصدقهِ في دعوته، وفيها مقْنَعٌ لكل من كان عندَه عقلٌ يبحث عن الحقيقةِ، وقلبٌ سليمٌ يطمحُ للوصولِ إليها، والحمد لله رب العالمين.

[١] الصواعق المرسلة، ابن القيم، ج 2، ص 469

[٢] انظر مقالة تنوع أدلة النبوة https://almohaweron.co/alnbwah/

[٣] ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، د. سلطان العميري

[٤] انظر كتاب ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، د. سلطان العميري

[٥] الوفا بأحوال المصطفى

[٦] مثل كتاب دلائل النبوة للبيهقي وكذلك للأصبهاني

المصدر

أبرز مظاهر تكريم الإسلام للعقل واهتمامه به

قد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل واهتمامه به في مواضع عدة نذكر منها:-

أولاً:

قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي :

فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد بل دعاه إلى إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها، وقد وجه الإسلام هذه الطاقة بتوجيهات عدة لتصل إلى ذلك :

1- فوجهها إلى التفكر والتدبر.

أ‌- في كتابه .

(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .

ثم يستثير العقل الإنساني ويتحداه أن يأتي بمثل هذا القرآن حتى إذا ما أدرك عجزه عرف أنه من عند الله (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين) .

ب‌- وفي مخلوقاته :

(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار) (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون) (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت) .

ثم يتحدى العقل بحواسه أن يجد خللا في شيء منها ليزداد بعد عجزه إيماناً وتسليماً (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير)

ج‌- وفي تشريعاته :

(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) .

فأمر بالتفكر في تلك التشريعات لتحري الحكمة فيها لأن الحياة لا تسير آلية بحيث تنطبق عليها القاعدة التشريعية انطباقاً آلياً، وإنما هناك مئات من الحالات للقاعدة الواحدة، وما لم يكن الإنسان مدركاُ للحكمة الكامنة وراء التشريع وفاهماً لترابط التشريعات في مجموعها فلن يتمكن من تطبيقها في تلك الحالات المختلفة التي تعرض للبشر في حياتهم الواقعية وقد عني الإسلام بإيقاظ العقل لتدبر هذه التشريعات ليستطيع تطبيقها على خير وجه.

د‌- وفي أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم المعاصي إليه :

(قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين) .

هـ- وفي الدنيا ونعيمها الزائل:

(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً) .

وهذا التأمل والتدبر ليس هو المقصود لذاته وإنما ليؤدي ثمرة نافعة لا أعني بها فلسفة يتشدق بها الفلاسفة ويتبارون في إغماض الكلام فيها وإبهامه ثم لا ينتهون إلى شيء، وإنما أعني بها الإصلاح … إصلاح القلب .. إصلاح العقيدة… إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح.

2-ووجه الإسلام الطاقة العقلية لمراقبة نظام الحياة الاجتماعية مراقبة توجيه وإصلاح لتسير الأمور على منهج صحيح (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) .

وحمل المسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع وهدده بالعقاب إذا علم ولم يصلح ولو كان صالحاً في نفسه (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

وقال e ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)) .

ثانياً:

ولم يقصر الإسلام بعد هذا العقل على الإيمان وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر (لا إكراه في الدين) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر) فلم يكره الإسلام العقل على الإيمان([1]) .

ثالثاً :

وحرص على قيام العلاقة بين العبد وربه على الوضوح العقلي في العقيدة والشريعة وعدم تقييده له بعد اقتناعه وإيمانه بالرهبانية فلا رهبانية في الإسلام([2]) لما فيها من تقييد للعقل([3]) فضلاً عن الغرائز والحواس ولما فيها من تعطيل للطاقة والقوى البشرية والمخالفة لنظام الحياة مخالفة تقضي بالفناء على البشر فيما لو اعتنق الناس الترهب والانعزال ديناً.

رابعاً:

ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل نعيه على المقلدين الذين لا يُعملون أذهانهم وحذر من التقليد الأعمى والتعصب الأصم لنظريات واهية وآراء زائفة ناشئة عن الخرافات والأهواء (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) (فلا تكُ في مريةٍ مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) .

وأمر بالتثبت في كل أمر قبل الاعتقاد به واقتفائه (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) .

خامساً :

ومن مظاهر تكريم الإسلام للعقل أمره بالتعلم والحث على ذلك فكما أن نمو الجسم بالطعام فإن نمو العقل بالعلم إذ بهذا يكون الإيمان عن إدراك أوسع وفهم أعمق وإقناع أتم، بل قرن سبحانه ذكر أولي العلم بذكره عز وجل وذكر ملائكته (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ) (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ) .

وجعل العلم مشاعاً لأنه غذاء العقل الذي به ينمو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).

لذا لم يعرف الإسلام ((رجل الدين)) الذي يحتكر علومه ويعطي صكوك الغفران ويملك التحليل والتحريم ولكنه يعرف فكرة ((عالم الدين)) الذي يرجع إليه لمعرفة حكم الله فيما اشتبه على الناس من أمور دينهم مستنداً إلى دليل معتبر شرعاً من غير إلزام إلا بحجة قطعية من كتاب أو سنة أو إجماع مسلم به.

سادساً:

ومن ذلك إسناده استنباط الأحكام فيما لا يوجد فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى العقل وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثه الرسول e إلى اليمن قاضياً قال : ((كيف تقضي يا معاذ؟)) قال : بكتاب الله قال: ((فإن لم تجد)) قال : سنة رسول الله. قال : ((فإن لم تجد)) قال : أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله e صدره وقال : ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) ([4]) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم وقاعدة للقضاء عند فقدان النص .

سابعاً :

ومنها الأمر بتكريمه والمحافظة عليه والنهي عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله.

فحرم لذلك شرب الخمر (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من علم الشيطان فاجتنبوه) وحرم كل مسكر ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام))([5]) وامتد التحريم إلى الكمية التي لا تسكر منها ((ما أسكر كثيره فقليله حرام))([6]) كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه .

وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته عن آخر، قال ابن قدامة (لا نعلم في هذا خلافاً وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي eلعمرو بن حزم ((وفي العقل الدية)) ولأنه أكبر المعاني قدراً وأعظم الحواس نفعاً فإن به يتميز من البهيمة ويعرف حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس) ([7]) .

ولكن الإسلام بعد هذا التكريم كله وذلك الاهتمام قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأنه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك، لذا فإنه سيظل بعيداً عن متناول كثير من الحقائق وإذا ما حاول الخوص فيها التبست عليه الأمور وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوية متن العديد من الأخطار .

فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك، وقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسجود لآدم عليه السلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام (قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين) فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه، فلما لم يدرك عقله السبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة .

لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهية والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) ([8]) وقال e : ((لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل آمنت بالله ورسله)) ([9]) . وعن الروح قال تعالى: (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فصرف الجواب عن ماهيتها لأنه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية ذلك وغيرها من المغيبات التي ليست في متناول العقل ومداركه)) ([10]) .

ويقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: ((قيمة العقل في الإسلام)):

قد يتبادر لأذهان البعض، عند ما يقرأ مثل هذا البحث، في ذم الاتجاهات العقلية – أن الإسلام، يمقت العقل والفكر، أو يستنقص منهما ويهضمهما قيمتهما، وأننا إنما نذم أصحاب الاتجاهات والفرق العقلية لمجرد أنهم استعملوا عقولهم، التي وهبهم الله .

والحق: أن الأمر ليس كذلك، لأن الإسلام بحق قد رفع قيمة العقل وأعلى من شأنه، وجعل التعقل والتفكير فريضة إسلامية، يلزم كل مسلم أن يؤديها حقها، وجعل العقل هو مناط التكليف، ونعى على أولئك الذي لم يستعملوا عقولهم في معرفة الحق والهداية، فهلكوا . (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير) ([11]) .

وإذا كان العقل هو وسيلة النظر، ووسيلة التفكير والتدبر، فقد جعل الله ذلك كله واجباً، مفروضاً على كل إنسان ومن تركه فهو آثم لا محالة قال تعالى: (فسيروا في الأرض فانظروا) ([12]) .

وقد وردت في مواضع كثيرة .

وقال تعالى في ذم الذين لا يعقلون :

(وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) ([13]).

وقد ورد هذا التوبيخ (أفلا تعقلون) في القرآن أكثر من أربع عشرة مرة.

وقال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) ([14]). وقد وردت في القرآن (لعلكم تعقلون) أكثر من سبع مرات.

وقال تعالى: (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون) ([15]) .

وقال تعالى : (كذلك نفصل الآيات لقومٍ يعقلون) ([16]) .

وإذا كان العقل وسيلة النظر والاعتبار فقد قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)([17]).

وقال تعالى : (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) ([18]).

وكذلك الأمر بالتفكر، قال تعالى :

 

([1]) ولا يقصد بلا إكراه في الدين- التقليل من شأن الجهاد كما حصره بعضهم بأن المراد به الدفاع وعللوا كل حركة بأنها للدفاع بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق فأسقطوا – وهم مشتطون في حماسة الدفاع عن الإسلام ضد من اتهموه بأنه دين السيف – إن للإسلام بوصفه المنهج الأخير للبشرية حقه الأصيل في أن يقيم ((نظامه)) الخاص في الأرض. فـ(لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أما من ناحية إقامة ((النظام الإسلامي)) ليظلل البشرية كلها مسلمين وغير مسلمين فتوجب الجهاد لإنشائه وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة ولا يتم هذا إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض)) أ هـ.

 ((بتلخيص من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته)) لسيد قطب ص 18 .

([2]) لما روى أحمد في مسنده 6/226 ((….فقال يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أفمالك فيَّ أسوة.. الحديث ولما روى الدارمي في سننه ك النكاح ب3 من حديث سعد بن أبي وقاص قال ((… يا عثمان إني لم أؤمر بالرهبانية أرغبت عن سنتي)) وعثمان هذا هو ابن مظعون رضي الله عنه .

([3]) ولا يصح القول بأن الرهبانية تفتح آفاق العقل وتضمن له الصفاء للتفكير بل النـزول إلى معترك الحياة هو الذي يزيد العقل اشتعالاً ويوري زناده ويفتح له أبواب التفكير عكس الرهبانية التي تخبو فيها نار العقل لانطواء صاحبها على نفسه واعتزاله المجتمع، فتؤدي إلى خمود الذهن وعدم الاطلاع على المعارك الضارية بين الخير والشر وبين الإيمان والكفر وعلى كيد الملحدين ومكر الماكرين والرد على ذلك والنـزول إلى معتركهم وحلبتهم .

([4]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي، و ضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة 2/274) لإرساله وجهالة بعض رواته في بحث طويل له.

([5]) رواه مسلم .

([6]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب وابن حبان .

 وصححه وقال الحافظ بن حجر رجاله ثقات (صحيح أبي داود 3128) .

([7]) المغني لابن قدامة (8/37).

([8]) رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159 وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح. والحديث صححه الألباني –رحمه الله- في السلسلة الصحيحة (1788) .

([9]) رواه البخاري ومسلم .

([10]) منهج المدرسة العقلية (29-39) وكتاب الدكتور الرومي هذا من أجود الكتب التي درست منهج المدرسة العقلية في التفسير .

([11]) (10-11) الملك .

([12]) (36 النحل) .

([13]) (80 المؤمنون) .

([14]) (2 ، يوسف) .

([15]) (62، يس) .

([16]) (28، الروم) .

([17]) (2 ، الحشر) .

([18]) (101 ، يونس) .

 (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) ([1]). (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) ([2]). (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنّة) ([3]) . (أولم يتفكروا في أنفسهم) ([4]).

وقد ذكر التفكر في القرآن في أكثر من سبعة عشر موضعاً . وقد ذم الله أولئك الذين يتابعون آباءهم دون تعقل ولا تفكير . فقال: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) ([5]).

وقال تعالى:

(إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون) ([6]).

والإسلام إنما كرّم الإنسان وفضله على سائر المخلوقات بل جعله سيد الكون بالعقل، وبالعقل سخّر له ما في السماوات وما في الأرض وجعله خليفة فيها يعمرها .

فهل يبقى بعد ذلك شك عند أحد في أن الإسلام يحترم العقل ويقدره كل التقدير؟

ثم إن الإسلام عندما حظر على العقل التفكر في ذات الله تعالى، والخوض في أمور الغيب، وألزمه بالتسليم والتوقف عند كل ما ورد عن الله تعالى ورسولهe ، مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، وما يتعلق بالغيب كله- إنما فعل ذلك إشفاقاً على هذا العقل الكريم من العماية في متاهات المجهول .

ثم إن الإسلام في الوقت نفسه فتح للعقل البشري مجالات الانطلاق الواسع في حدود الواقع في حياته هو والمخلوقات من حوله ، بل وفي الأرض كلها والسماء ، وهذا الكون الرحب الواسع الفسيح .

فللعقل البشري أن يبدع، وأن ينظر ويحكم، وأن يتفكر ويعتبر ما وسعه الإبداع والنظر والتفكر والاعتبار ، عليه أن يفعل ذلك كله، وله مع ذلك عليه الأجر والمثوبة إذا هو امتثل أمر الله .

أما الغيب والتفكر في ذات الله، بأكثر مما ورد عن الله، فإنه ليس بمقدور العقل، وليس من وظيفته أن يفعل ذلك، وإن فعل ذلك خرج عن نطاق الواجب عليه، ولن يعود عليه فعله إلا بالحرج والعنت العقلي والنفسي، والخروج عن نطاق مصلحة الإنسان في معاشه ومعاده.

والعقلية الحديثة، هي التي دعت أتباعها إلى الخوص في أمور الغيب ومعارضة أمر الله، ولم تسلّم بما جاء عن الله تعالى، مما هو خارج عن نطاق العقل، وأقحمته فيما لا طاقة له به، ونحن نذمها من هذا الوجه.

فإن مُقْتَضى الإيمان بالغيب :- التسليم لله فيه، بما ورد في كتابه وسنة رسوله e .

والإنسان في هذا العصر أكثر العصور تقدماً في الكشوف والاختراعات- أعلن عجزه وقصوره عن إدراك أكثر حقائق الكون وكُنْهِ طاقاته، حتى تلك الأشياء التي يمارسها ويعيشها ويومياً، إن العقل يجهل نفسه، ويجهل الروح التي تُمدّه بالحياة بأمر الله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ([7]).

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) ([8]).

فإكراماً لهذا الإنسان ، وإشفاقاً عليه، وعلى عقله المحدود، من التشرد والتبدد والتيه، وإشفاقاً عليه بعد ذلك من الضلال والهلاك، وسوء العاقبة، أراحه الله من الخوض في الغيب بعقله؛ فجاءه الوحي يخبره عما فيه صلاحه من أصول العقيدة السليمة، ومسائل الغيب ، ورسم له سبيل الخير والسعادة في الدنيا، وأطلق لعقله فيما عدا ذلك الحرية كل الحرية.

فقد فتح الإسلام للعقل من مجالات البحث والفكر والتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض، ما يكفي لانشغال العقل، وإشباع رغبة التطلع والإنتاج المفطورة فيه)) ([9]).

ويقول الشيخ عبد الرحمن الزنيدي – حفظه الله – :

((لعل من أبرز السمات التي امتاز بها الدين الإسلامي عن سائر المذاهب والأديان الأخرى، هو ذلك المقام السامي الذي وضع الإسلام العقل الإنساني فيه والدور الجليل الذي أناطه به، والآفاق الواسعة التي فتحها أمامه، بشكل لم تصل المذاهب البشرية إليه حتى تلك المذاهب التي تنادي بأنها حررت العقل البشري، وأطلقته من آساره، واحتكمت إليه، هي في الحقيقة التي سخرت منه، واستهانت به:

– فمن جانب دفعته إلى الإيغال في مجالات ليست من اختصاصه فتاه فيها وضل.

ومن جانب آخر تجد هذه المجتمعات العلمانية – التي تدعى أنها تحكم العقل في أمورها- قد نبذته وراءها ظهرياً، فأحكامه وتقريراته في جانب وواقعها في جانب آخر، فالعقل يحكم بأن الخمر والزنا ضار ومفسد للجنس البشري والواقع يبيحها ، بل ويحببها، والعقل يقول إن المرأة تختلف عن الرجل والواقع يقول يجب أن نجعلها كالرجل تماماً…، فأي إهانة للعقل بعد هذا، ونعود

([1]) (219، البقرة) .

([2]) (50 ، الأنعام) .

([4]) (8 ، الروم) .

([5]) (170 ، البقرة) .

([6]) (69، 70 الصافات) .

([7]) (21، الذاريات) .

([8]) (85 ، الإسراء) .

([9]) المدرسة العقلية الحديثة في ضوء العقيدة الإسلامية ، بحث مرقوم على الآلة الكاتبة لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام . (ص18-22) .

المصدر

 

هل أنت مسلم بدون إذنك؟

تروج هذه الشبهة من غير المسلمين للتلبيس على المسلم بأنه مسلم بلا اختيار ولا إرادة. فكيف يكون الحساب لغير المختار؟

وقد يلتبس الأمر بالفعل على المسلم إذا غاب عنه أن الإنسان إنما يولد على الفطرة وهي عقيدة الإسلام، وأهم مرتكزاتها الإيمان بوجود الخالق وأنه واحد بائن عن خلقه لا يشبههم ولا يتطرق إليه النقص الذي يعتري المخلوقين.

كل مولود يولد مسلما

وهذه الحقيقة ذكرها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه… الحديث.” رواه البخاري.

تقول الدكتورة اوليفيرا بتروفيتش، المتخصصة في البحوث النفسية حول الأديان بجامعة أكسفورد: “إن عالمية بعض المعتقدات الدينية (كالإيمان بإله خالق للكون غير متجسد) يمكن عزوها بوضوح إلى أساس تجريبي أكثر من كونها مستقاة من النصوص الدينية. وقد اتضح من البحث في المفاهيم الدينية السابقة أنها متسقة مع تلك الجوانب الأخرى من البحوث التنموية، تلك الجوانب التي توحي بوجود مسلمات معرفية في عدد من مجالات المعرفة الإنسانية.” المصدر:

Key Psychological Issues in the Study of Religion. Olivera Petrovich. psihologija, 2007, Vol. 40 (3), str. 351-363

أما الدراسة التي أجراها البروفيسور روجر تريج Roger Trigg من جامعة أكسفورد أيضا فخلاصتها أن الإيمان الديني طبيعة بشرية. يقول البروفيسور تريج: “إن الأطفال على وجه الخصوص يجدون أنه من السهل التفكير بطريقة دينية، كالإيمان بإله عليم بكل شيء”ـ المصدر:

CNN website, May 12th, 2011, by Richard Allen Greene

وتورد صحيفة ميل أونلاين نتيجة الدراسة التي أجراها الباحث بروس هود Bruce Hood، بروفيسور سيكولوجية النمو بجامعة بريستول في بريطانيا، بأن الإيمان بالغيبيات مغروس في الدماغ منذ الولادة، ولذلك فإن الأديان تستمد قوتها من مصدر قوي. المصدر:

Mail Online, 7 September 2009, by Arthur Martin

ومن أهم البحوث في هذا المجال ما قام به جستن باريت Justin Barrett الباحث المتقدم في علم الإنسان والعقل من جامعة أكسفورد، فهو يقول إن الأطفال الصغار لديهم القابلية المسبقة للإيمان برب، لأنهم يعتبرون أن كل ما في هذا العالم مخلوق لسبب. ثم يذكر أن الأطفال لديهم إيمان حتى لو لم يتلقوا تلقينا بذلك عبر المدرسة أو الأهل، ويقول: “لو تركنا أطفالا لوحدهم على جزيرة فنشأوا بأنفسهم فإنهم سوف يؤمنون بالرب”. وللباحث كتاب شهير حول الموضوع هو Born Believers (المولودون وهم مؤمنون). المصدر:

The Telegraph Magazine, 24 Nov 2008, by Martin Beckford

ويمكن أيضا ملاحظة هذا الميل الإيماني الفطري عند البشر من خلال دراسة أديان ومعتقدات السكان الأصليين الذين لم يخالطهم أحد، كالسكان الأصليين في أستراليا (aborigines). ومن أوضح الأمثلة على ذلك اعتقادات قبائل الكاباوكو الذين عُثر عليهم في مقاطعة بابوا (Kapauku tribes of Papua) في غينيا الجديدة قرب إندونيسيا، حيث لم يعلم أحد عن وجودهم إلا في العشرينيات من القرن الماضي. وعندما بُحثت أحوالهم ومعتقداتهم وُجد أنهم يؤمنون أن الخالق خارج السماء وأنه خلق كل شيء وأنه قدّر كل شيء منذ الأزل، وأنه لم يلد ولم يولد، وأنه لا يخضع للزمان ولا يتغير، وأنه قد خلق بجانب الخلق المحسوس كائنات أخرى غير محسوسة بعضها للخير وبعضها للشر.

ويمكن الاطلاع على معتقدات هذه القبيلة البدائية المعزولة من خلال ما جرى توثيقه عنهم في بعض الكتب المتوفرة التي يسهل الحصول عليها باللغات الأجنبية.

لمن الاختيار؟

هناك فرق بين شخص ولد على الفطرة ثم تحول عنها بسبب والديه ومحيطه، ثم بلغ سن التمييز والعقل، فهذا يختار ولا يجبر، وبين شخص ولد أصلا على الفطرة ولم تتغير فهذا كيف يختار والخيار الوحيد لديه هو الانحراف عن الحق؟

الاختيار إنما هو لشخص تبدلت فطرته وانحرفت وهو طفل صغير لا يعي، فيكون له اختيار عقيدته ومنهجه في الحياة، لأنه هنا بين اختيار الحق واختيار الباطل.

المصدر

هل الإسلام دين عنف؟

كثيرا ما يقتطع الملحد نصا قرآنيا من سياقه ليظهره وكأنه تحريض على القتال ابتداءً، وكل ما عليك عند ذلك هو أن ترجع إلى سياق النصوص لتعرف أن جميع أوامر القتال التي وردت في القرآن الكريم هي أوامر قتال دفاعية وليست هجومية، بل إن هناك العديد من الآيات التي تأمر بالسلم والتعارف والتعايش:

“فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)” (البقرة)

“وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126)” (النحل)

“وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)” (البقرة)

“وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)” (التوبة)

“وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (192) (البقرة)

“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات:133)

“ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” (الأنعام:151)

“من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة:32)

“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)” (الأنفال)

“إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)” (النساء)

“لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)” (الممتحنة)

المصدر

حول حد الردة

هناك مفاهيم خاطئة تتردد حول حد الردة، ويستغلها الملاحدة لتشكيك المسلمين ومحاولة إحراجهم. وسنلقي الضوء هنا على جوانب الشبهة المختلفة لإزالة أي لبس حول هذا الموضوع.

مصادر الإشكال

لا نسبية للحق

أصل الإشكال في قيام الشبهة حول حد الردة هو توهم المساواة بين الإيمان والكفر، وسبب هذا التوهم هو الاعتقاد بنسبية المعتقد، أي أنه يمكن أن تكون كل الأديان على حق، وهذا لا يستقيم عند من يعرف أبجديات المنطق. إذ أنه من القواعد المنطقية أن أي متناقضين ليس لهما إلا حالتان، إما أن يكونا باطلين معا، أو أن يكون أحدهما باطل والآخر حق، ولكن لا يمكن منطقيا أن يكون كلاهما على حق. وهذه قاعدة ثابتة أينما تم تطبيقها. وعلى ذلك فلا يصح أن نعتبر عقيدتين متناقضتين على حق معا.. ومن البديهي أن الإيمان يناقض الإلحاد والكفر، ولهذا فإن المسلم يجد أن القول بنسبية الحق هو غفلة وبلاهة منطقية.

ليس كل كافر مرتد

غالبا ما يحصل الخلط- بقصد أو بغير قصد- بين الكافر والمرتد. فيظن الملحد أن الإسلام يقيم حد الردة على الكافر، بينما الصحيح هو أن الكافر إذا كان معاهدا وغير محارب لا يجوز قتله، ويجري التشديد على ذلك في حق الكافر الذمي. أما المرتد فهو الذي كان مسلما ثم ارتد.

الحد بعد الاستتابة

يظن البعض أن المسلم إذا ارتكب الكفر فينفذ فيه الحد مباشرة، والصحيح أن هناك أعذار قد تحول دون تكفيره أصلا، كالجهل والتأويل والإكراه والخطأ، ولهذا فإن أكثر أهل العلم على استتابة المرتد لاحتمال التباسه في معرفة الحق كما ذكر ابن قدامة في المغني، ويستثنى من الاستتابة المرتد المحارب على قول ابن تيمية.

المرتد ضرره متعدّ

ليس صحيحا أن ضرر المرتد المعلن ردته لازم لنفسه، وإنما الصحيح أن ضرره متعد للمجتمع المسلم. وهناك من الملاحدة من يدعي ضعف عقيدة المسلم، وأنها لو كانت قوية لما كان هناك حاجة لحد الردة.. والصحيح أن المرتد لا خطر منه على المتمكنين من دينهم ويقينهم ولكن ليس كل عامة المسلمين لديهم مناعة عن التأثر، بل إن من الناس من لديه نزعة انقيادية، ومنهم من لديه قابلية للإيحاء، ومنهم من لديه جهل في بعض الجوانب، وهؤلاء يسهل التأثير عليهم كما نرى بقليل من التأمل، ولا شك أن الدين هو أحد الضرورات الخمس التي سعت الشريعة لحفظها، والتعدي عليه جريمة شنيعة، ولذا لزم على الحاكم حماية المجتمع المسلم من المرتدين المجرمين.

حد الردة وقاية

حد الردة يقطع الطريق على محاربة الدين بتشكيك المؤمنين به، فلولا حد الردة لكان من السهل على الكفار إعلان إيمانهم ثم ردتهم ثم إيمانهم.. الخ. هذه حيلة قديمة ذكرها القرآن الكريم عن اليهود، حيث كان هدفهم هو تشكيك المسلمين بإيمانهم، والمسلمون كما أسلفنا مجتمع كبير وطيف واسع منهم من يفتتن بما يرى ويسمع. قال تعالى: ﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏﴾. وحماية المجتمع نفسه من الضرر هو حق لأي مجتمع.

فقط المرتد المجاهر

الملاحدة والمرتدون يعلمون جيدا أنهم إذا لم يجاهروا بردتهم فإنهم لا يقعون تحت طائلة حد الردة أبدا، لكنهم يطالبون المجتمع المسلم أن يفتح المجال لهم فينشرون كفرهم واستهزاءهم بالله ورسوله ﷺ وكتابه دون محاسبة.. هذه وقاحة عجيبة.

وطالما أن المرتد لم يجاهر بالردة فلا يقام عليه الحد، والمنافقون في عصر النبوة مثال واضح للمرتد غير المجاهر، فكان المسلمون يعاملونهم معاملة المسلم، ولهم كل حقوق المسلمين، رغم أن النبي ﷺ كان يعرفهم، وقد أخبر حذيفة بأسمائهم.

لا إكراه في الدين

يحتج البعض بآية “لا إكراه في الدين” على أنها تعطي الحرية بالردة عن الإسلام، وهذا غير صحيح، فإجماع المسلمين على أن الآية لا يقصد بها المسلمون وإنما هي خاصة بغير المسلمين، وسياق الآية يوضح أن الخيار لمن هو كافر في الأصل، فلا تنطبق الآية على المسلم إذ كيف يتحول إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو مسلم أصلا: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.

المولود مسلما

هناك من يحتج بأن المولود من أبوين مسلمين لا يكون مسلما إلا بعد البلوغ، فكيف يحكم عليه بالردة لو كفر؟ وكيف يختار دينه؟ والصحيح هو أن المسلم المولود لأبوين مسلمين هو أصلا يعتبر مسلما ولو لم يبلغ، فتجري عليه أحكام الإسلام من الميراث وغيره، وثبت في البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.. الحديث”. وهناك دلائل علمية تطابقت نتائجها مع مضمون هذا الحديث مثل كلام هذا المتخصص، وأيضا هذا البحث العلمي، وهنا رد للداعية ميلر يثبته من جهة أخرى. فالمسلم أصلا وُلد مسلما ثم كبر وهو مسلم، أي أنه لم يخرج من الإسلام، ولهذا فلا معنى للاختيار هنا، لأنه إما أن يكفر فيكون مرتدا أو يبقى على إسلامه، بينما الكافر يمكنه أن يبقى على كفره دون حد أو يسلم.

الخلاصة

لا يقام حد الردة إلا على المرتد المجاهر بالردة، فلا يقام على المرتد سرا ما دامت عقيدته بينه وبين نفسه. فإذا تعدى خطره إلى غيره قام عليه الحد لقطع الطريق عليه وحفظ أهم الضرورات الخمس لأفراد المجتمع المسلم وهو الدين.

المصدر

الديانات كثيرة والعمر قصير، فهل يكفي العمر لفحصها؟

أديان كثيرة جدا ومعبودات بالآلاف والعُمر قصير.. هل العمر يكفي لفحص كل تلك الديانات؟

هذه الشبهة رائجة بين الملحدين، رغم أن الوصول إلى الحق يتطلب نصف ساعة فقط من البحث وإعمـال العقل!

الديانات ثلاث فقط

أولا: يوجد على الأرض ثلاث ديانات- إسلام ويهودية ومسيحية- يُشكل أتباعها أكثر من 85 % من سكان الأرض، وأما بقية الديانات فهي وضعية لا حاجة حتى للرد عليها، لأنها تعترف ببشريتها، وهي في طريقها للانقراض، وأتباعها يُصنفون في مراكز الأبحاث العلمية أنهم مُلحدون أو روحيون بلا دين. إذن محك الجدال هو في الديانات الثلاث الكبرى فقط. اليهودية أقرت أنها ديانة قومية لا يدخلها إلا يهودي الأبوين، ولهذا فأمرها محسوم باعترافها هي، فهي لا تقبلك أصلا.

أما المسيحية فقد أدخلت التثليث والأقانيم والآلهة البشرية في قلب عقيدتها ولم يقل المسيح يوما أنا الله أو اعبدوني أو أنا لاهوت وناسوت ولكن أتباعها أصروا على صورتها الوثنية المعاصرة. فمثلا.. كلمة “تثليث” لم ترِد في الكتاب المقدس ولو مرة واحدة مع أنها أصل المسيحية، وبذلك تحولت المسيحية من ديانة سماوية إلى ديانة وضعية وثنية.

وفكرة الأقنوم تدور في إطار تعدد الآلهة مع محاولة الحفاظ على نسق التوحيد الفطري، فيقولون “ثلاثة في واحد”! أقنوم الابن الإله الكامل.. وأقنوم الآب الإله الكامل.. وأقنوم الروح القدس الإله الكامل.. ومع ذلك لا يجوز أن يكون الابن هو الآب بل كل إله مستقل تماما عن الآخر.. لكن هؤلاء الآلهة الثلاث إله واحد! وهذه بالبديهة وثنية صريحة وتحدٍّ لبديهيات العقل بسفسطة عقيمة.

ومع ذلك كل هذه الأفكار الوثنية يخلو منها الكتاب المقدس تماما.. إذن المسيحية انتقلت من السماوية إلى الوضعية الوثنية على يد مجامع صناعة الآلهة في عهد قسطنطين.

الأصل هو الإسلام

الإسلام ليس فِرقة من الفرق ولا عقيدة من بين عقائد الأرض حتى يوضع في مجال مُقارنة مع باقي الديانات.. بل هو أصل الأديان والعقائد والعبادات، وهو أنقى أديان التوحيد كما يقول جوستاف لوبون.

فالإسلام هو تصحيح لمسار الديانات التي انحرفت وإعادة لنهج أنبياء العهد القديم من آدم إلى نوح وصالح وأيوب وهود وإبراهيم وموسى وداوود ويونس وهارون وعيسى.. فعقيدة هؤلاء جميعا هي عقيدة الرب إلهنا رب واحد بلفظ التوارة والإنجيل.. هذه العقيدة التي لا تعرف تثليثا ولا أقانيم ولا موت آلهة منتحرة ولا انتزاع آلهة من آلهة أخرى- انتزاع الروح القدس من الآب- ولا آلهة قومية.

يقول الله تعالى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ” [الشورى:13] ويقول تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً” [النساء:163]

إذن فالإسلام ليس ديانة كبقية الديانات، وإنما هو أصل الديانات وتصحيح للخلل الذي أصاب تلك الديانات وبالأخص اليهودية والمسيحية في نسختيهما العهد القديم والجديد.

الإسلام أكثر الأديان انتشارا

الإسلام أكثر أديان الأرض انتشارا.. وأكبر ست دول مسلمة في العالم غير عربية. ويُشكل المسلمون العرب قرابة 19% فقط من المسلمين على وجه الأرض.. ولا تخلو مدينة على وجه الأرض من مسلمين أو من مسجد! فالإسلام قامت به الحجة على أنه الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده.

وهذا بالطبع ليس استدلالا على صحة الإسلام، فالاستدلال بالكثرة مغالطة منطقية، ولكن المقصود هنا هو المقارنة مع بقية الديانات عندما يطرح الملحد الأمر وكأن كل تلك الديانات مثل بعضها.

ومشكلة الملحد هي أنه يربط بين الديانات الوثنية الغارقة في الجهالة وبين الديانة الإسلامية التوحيدية النقية حتى يخرج من هذا الخلط بأن الجميع باطل فيشعر براحة بال واستقرار ضمير على إلحاده، ولو كانت هذه الراحة وذلك الاستقرار مزيفين.

ولكن قد يقول الملحد إن هناك 73 فِرقة في الإسلام، وهذا كلام صحيح، والرد عليه من وجهين:

إن انقسام المسلمين إلى 73 فِرقة دليل نبوة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك في الوقت الذي كان الإسلام في بدايته، وكانوا يُقتلون ويُحرقون على رمال الصحراء دون أن يردهم ذلك أو يُفرق جماعتهم.

أن أهل السنة والجماعة يشكلون من مجموع المسلمين ما نسبته 91% والشيعة 8% و1% فِرق أُخرى. وبداية الفَرق بين السُنة والشيعة هو اختلاف في حب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أول الخلاف بعيدا عن سياسة الصفويين وأحقاد المجوس.

إذن الافتراق إلى 73 فِرقة لا يعني أن حجم كل فرقة 1.3 % من المسلمين، فهذا جهل واضح بالواقع.. والصورة الواقعية للافتراق هي 91% أهل سُنة وجماعة والشيعة 8% و1% فِرق أُخرى.. ولا فرق بين السنة والشيعة في أصل العقائد إلا ما أدخله ساسة الصفوية على التشيع.

أما بخصوص غير المسلمين فإن الله لن يظلم عباده.. قال الله تعالى: “وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ” [آل عمران:108] ويقول تعالى: “وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” [فصلت:46] ويقول: “وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” [الإسراء:15].

الذين لم تُقم عليهم الحُجة في الدنيا ستُقام عليهم يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل.. فلا ينزعج الملحد ولا يقلق إلا على نفسه!

هل تعدد الديانات حجة؟

نقول للملحد الذي يستخدم حُجة تعدد الديانات ليُلحد: هل كفر غيرك يبرر كُفرك؟ هذا ما فعله فرعون من قبل عندما قال لموسى: يا موسى لن أؤمن لك لأن الكفار موجودون منذ القِدم.. “قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى” [طه:51]. هذه حجة بكماء عمياء، لكنها تنطلي على كثيرين!

مشكلة الملحد أو الربوبي أنه يفرح بموضوع كثرة الديانات ويتخذ الأمر ذريعة لكُفره وقلة أدبه مع خالقه ورازقـه، ثم يتخذ الأمر ذريعة لترك البحث في مُقتضى وجوده، ويظن أنه بذلك استطاع أن يجد مبررا للهروب بشنيعة كفره.

وقد يقول الملحد: ما المانع أن يكون أحد آلهة تلك الديانات الوثنية الأرضية الوضعية البدائية هو الإله الحقيقي؟

وهذا خطأ فاضح؛ فلا يوجد معبود في جميع ديانات الأرض إلا الله.. وخلافنـا مع بقية الأديـان ليس لأنهم لا يعبدون الله ولكن لأنهم جعلوا لله شركاء في الدعـاء والطلب والتصرف في الكون؛ فجميع أديـان الأرض تعبد الله، وهو عندهـا الخالق العظيم.. وحتى أكثر الديانات إغراقا في الوثنيـة إنما جعلوا له شركـاء متشاكسين نسبوهم للخالق واعتبروهم أدنى منه منزلة (آلهة صغيرة – Subordinationism).

ففي الكعبة مثلا، ذلك المكان الصغير، كان يوجد ثلاثمائة وستون صنما هُدمت كلها يوم فتح مكة.. لكن هذه الأصنام كانت تُتخذ وسائط متعددة لإله واحد. قال القرآن على لسانهم “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى” [الزمر:3]. أي لا يعبدونهم إلا تقربا وواسطة إلى الله. وقد ألغى الله الواسطة بينه وبين خلقه على لسان جميع أنبيائه.. ولذا يقول تعالى “وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [لقمان:25].

يقول الشهرستاني عن أوثان العرب قديما: أما الأصنام فلم يكن العرب يعبدونها لذاتها، ولم تكن عندهم مجرد قطعة من حجر.

ويوجد في الهند حوالي أربعة آلاف من الآلهة، وهذا لا مثيل له في العالم، ومع ذلك يُنظر لهذه الكثرة الكاثرة من الآلهة على أنها صور وتجسيدات للخالق سبحانه وتعالى، وهذا ما ذكره التقرير المرفوع إلى الحكومة البريطانية في الهند، وفيه أن النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى.. المصدر: قصة الحضارة للملحد ول ديورانت مجلد 3 ص 209.

ويرى ول ديورانت أن هذه الألوف من الآلهة هي نفس ما تفعله الكنائس المسيحية من تقديس لآلاف القديسين، فلا يتطرق إلى ذهن الهندي ولو للحظة واحدة أن هذه الآلهة التي لا حصر لها لها السيادة العليا.. المصدر السابق.

ولذا فقد كان النزاع بين الرسل وأقوامهم في توحيد الألوهية “إفراد الله بالعبادة” لا في توحيد الربوبية “إفراد الله بالخلق”، ولهذا لم يَرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومن ظن في عباد الأصنام أنهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات أو تخلق الحيوان أو غير ذلك فهو جاهل بهم، بل كان قصد عباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور للقبور المعظمة عندهم” مجموع الفتاوى 1-359.

فتوحيـد الله هو فطرة البشـر جميعـا، والجميع يؤمنون بالخالق. والغريزة الدينية التوحيدية توجد في كل العصور والأصقـاع، وهي إحدى النزعات الخالدة للإنسانية.

يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: “لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد”.

التوحيد يسبق الوثنية

طالما أنه منذ البدء والتوحيد هو الأصل فلماذا يخبرنا علم الآثار- الأركيولوجي- والحفريات بعكس ذلك؟

إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية، وهي أن الموحدين لا يصنعون تماثيل ولا أيقـونـات.. فالذي يقرأ التاريخ عبر التماثيل والأيقـونات سيقرأ تاريخ الوثنيين الذين جعلوا مع الخالق آلهة صغيرة.. وهذا مصدر ضلال الملحدين في البحث!

ولذا يرى لانج وباسكال وشميث وبروس وكوبرز وغيرهم، وهؤلاء من كبار الباحثين في أصول الأديان، أن التوحيد كان أولا، وأن كل معبودات الوثنيين جاءت كمرحلة تالية لعبادات توحيدية يُعبد فيها الله الواحد الأحد، فالتوحيد كان أولا ثم أتت الوثنية والتعدد في مرحلة لاحقة. (Andrew Lang: The Making of Religion)

هل الإلحاد واحد أم متعدد؟

لو اختبرت الملحد فسوف تجده غالبا لا يدري أن الفِرق الإلحادية لا حصر لها، وكل فرقة إلحادية تلعن أُختـها؛ فتجد العشرات من الملحدين العرب ينقسمون إلى:

إلحـاد شيوعي

إلحاد علماني

إلحاد ليبرالي

إلحاد سلبي

إلحاد إيجابي

لاديني ألوهي

لاديني متوقف

لاأدري وقتي

لاأدري دائم

strong atheism

weak atheism المصدر

والإلحـاد الشيوعي ينقسم بدوره إلى

إلحاد شيوعي لينيني

إلحاد شيوعي ماوي

إلحاد شيوعي ستاليني

إلحاد شيوعي بلانكي

إلحاد شيوعي تروتسكي

بل إن الإلحاد الشيوعي بالذات ينقسم إلى آلاف الفِرق، وكما يقول الشيوعي الشهير مكسيم لوروا في كتابه “إرادة الاشتراكية الفرنسية”: “لاشك في أن هناك اشتراكيات متعددة، فاشتراكية بابون، تختلف أكبر الاختلاف عن اشتراكية برودون، واشتراكيتا سان سيمون وبرودون، تتميزان عن اشتراكية بلانكي، وهذه كلها لا تتمشى مع أفكار لويس بلان، وكابيه وفورييه، وبيكور، وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة، تحفل بالأسى والمرارة “.

هذا في فرنسـا وحدها فما بالنا بتفريعات تروتسكي وستالين وماو وبول بوت وكوريا الشمالية وآلاف التفريعـات والانشقاقات الأُخرى.

وهكذا كل فرقة من الفرق الإلحـادية تنقسم على نفسهـا وتتشظى وتتفتت..

أما بالنسبة للعلمانية الإلحادية فهناك:

إلحاد علماني سطحي

إلحاد علماني مستنير

إلحاد علماني متعمق

إلحاد علماني نضالي

إلحاد علماني صراعي

إلحاد علماني منفتح

إلحاد علماني فعلي

إلحاد علماني جديد

إلحاد علمانية واقعي

وعلمانية فاشية fascist-secularism في تركيا

وكلها علمانيات متنازعة ومتضاربة وتحارب بعضها بعضا.

وظهرت في الغرب مصطلحات مثل:

إلحاد رأسمالي رشيد

إلحاد رأسمالي حقيقي

إلحاد رأسمالي شكلي

إلحاد رأسمالي منبوذ

وعلمانية فرنسا تختلف تمام الاختلاف عن علمانية هولندا وكلاهما لا تمتان بصلة لعلمانية أمريكا وعلمانية الصين وكأنها دين آخر تماما، وهكذا..

وجنة الملحد الشيوعي لن يدخلها الملحد الليبرالي.. بل إن الإلحاد الشيوعي يرى ضرورة تصفية الإلحاد الرأسمالي جسديا كما في وثيقة الكولاك لزعيم البلاشفة لينين.

وداخل الإلحاد الشيوعي تزعم كل طائفة أنها الحق المُطلق، وستالين يقوم بتصفية تروتسكي ثالث أكبر مُنظر للشيوعية في العالم بدافع الحفاظ على الشيوعية الإلحادية اللينينية. وكوريا الملحدة الشيوعية الشمالية ترى أن كوريا الرأسمالية الجنوبية خطر على العالم يجب سحقه.

وكل الصراعات الأوربية في القرن الأخير، التي راح ضحيتها ربع سكان أوربا، كانت علمانية إلحادية 100%، ولم يدخل فيها حزب ديني واحد.

وقد ظهرت مدرسة داروينية إجتماعية Social Darwinism قوامها أن الأقوى يسيطر ثقافيا وفكريا وبيولوجيا والضعيف ينسحب بهدوء إلى أن يموت! وهي مدرسة القتل البطيء للآخر طبقا للتنظير الدارويني ورؤيته للجنس البشري.

وظهر هربرت سبنسر مُنظر الإلحاد الدارويني في القرن التاسع عشر، الذي أكد على ضرورة القتل البطيء للجنس البشري، فهو يقول حرفيا: “فإن فكرة وسائل الوقاية الصحية وتدخل الدولة في الحماية الصحية لمواطنيها وتلقيحهم تعارض أبسط بديهيات الانتخاب الطبيعي. إن مساندة الضعفاء أو محاولة حماية المرضى والحرص على بقائهم يأتي كتحد صارخ لقانون الطبيعة.” (Social Status, p.414-415)

وهكذا تحول الإلحاد إلى آلة قتل باردة ضد الآخر حتى ولو كان مُلحدا طالما أنه لم ينتمِ لنفس الطائفة والعنصر والجنس، وكانت النتيجة مقتل ربع سكان أوربا في مجازر حربين عالميتين لا تمُتـان بصلة لأي دين من الأديان.

المصدر

شبهة تشابه الإسلام مع الزرادشتية

لقد قام الزرادشتيون بتعديلات كثيرة على دياناتهم حسب المراجع التاريخيّة، وكان العرب يعرفونهم بالمجوس، وكانوا يقولون بأنَّ الله واحد، وهُنا ورد القول في الموطأ: “عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس! فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب”، وقد ورد في البخاري حديث أخذ الجزية من مجوس هجر.. وبهذا من الممكن أن يكون زرادشت نبيا وتَمَّ تحريف تعليماته عبر آلاف السنين كما الكثير من الأديان.

والغريب العجيب أن بعض مُراهقي ومتثاقفي اليوم لا يعرِفون أن الإسلام، والأديان عُموماً، مبني على أن هناك رُسلا وأنبياء لكل أُمّة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان خاتم الرُسُل، وجميع الرُسُل كانوا يدعون لإله واحد ليس كمثله شيء، ثم يتم تحريف ذلك لاحِقاً عبر الزمن فيتم تأليه الرسُل أو المُقربين مِنهُم إلخ.. وهذه حُجّة الله على كُل قوم أن لهُم رسولا.

هل يوجد تشابه بين حادثة معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقصة ويراد؟

تعالوا لنرى..

القصة كما ترجمها د. فريدان فاهمان في كتاب (Arda Wiraz Namag by Fereydun Vahman) تحكي فترة انهيار الديانة المازيدية، حيث يجتمع الكهنة ويجرون قرعة لاختيار رجل يرسلونه للمملكة الروحية ليأتي لهم بالحل المنقذ. فتقع القرعة على البطل الذي اسمه في حكاية (ويراذ) وفي حكاية أخرى (أدربادي)، ثم يسقونه خمرا ويعطونه مادة مخدرة اسمها (هوما)، فيغط في نوم عميق، وبعد سبعة أيام يستيقظ ليحكي لهم ما رآه في المملكة الروحية.

ما يراه المنصرون متشابها مع قصة المعراج هو الآتي:

البطل كان يمشي على جسر اسمه (شين واد) وهو طريق آمن كان يتنقل عليه مع الآلهة ليرى الجنة وفيها الأرواح الطيبة أو الجحيم وفيها الأرواح الشريرة. فقال المنصرون أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم اقتبس فكرة الصراط من الشين واد.

قالوا أيضا إن (ويراذ) رأى نساء معلقة من أرجلها وتفقأ أعينها بمسامير وتمشط صدورها بأمشاط حديدية وهذا مشابه للقصة الإسلامية حسب قولهم!

تعالوا الآن لنرى ما هو التاريخ الحقيقي لهذه القصة..

تقول الموسوعة الإيرانية Encyclopedia Iranica:

The Ardā Wīrāz-nāmag, like many of the Zoroastrian works, underwent successive redactions. It assumed its definitive form in the 9th-10th centuries A.D., as may be seen in the text’s frequent Persianisms, usages known to be characteristic of early Persian literature (e.g., generalized use of the durative particle hamē). This book has become comparatively well known to the Iranian public, thanks to its numerous versions in modern Persian (often versified and with illustrations). It was early made available in Western languages by M. Haug and E. W. West (The Book of Arda Viraf, Bombay and London, 1872 [repr. Amsterdam, 1971]; Glossary and Index of the Pahlavi Text of the Book of Arda Viraf; Bombay and London, 1874) and by M. A. Barthélemy (Artâ Vîrâf Nâmak ou Livre d’Ardâ Vîrâf; Paris, 1887). A recent edition and translation is by Ph. Gignoux (Le livre d’Ardā Virāz, Paris, 1984). Inevitably this work has been compared with Dante’s Divine Comedy (see the bibliography). Some influences, transmitted through Islam, may have been exerted on the latter, but these remain to be fully demonstrated. المصدر

“نصوص اردا ويراذ ناماك مثل باقي الأدب الزاردشتي مرت بتنقيحات كثيرة، والصورة الأخيرة لها التي بين أيدينا الآن كتبت بين القرن التاسع والعاشر الميلادي.”

ويقول مترجم القصة للإنجليزية السيد فاهمان في كتابه السابق ذكره: “إن مقدمة القصة ترجح زمن ما بعد الفتح الإسلامي لفارس. إنها تبدو إنتاجا أدبيا تمت كتابته بين القرنين التاسع والعاشر الميلادي، والتحليل اللغوي للقصة يؤيد هذا الرأي.”

إذن صار من الثابت أن النص الحالي للقصة، الذي يرى الجميع أن التقليد الإسلامي اقتبسه، قد كُتِبَ بعد الإسلام بحوالي مائتي عام!

ولكن ماذا كان يقول النص الأصلي للقصة قبل أن تتعرض للتغيير أكثر من مرة؟ ومتى خرجت القصة للوجود لأول مرة؟ لا أحد يعرف تحديدا. وإن كان (فاهمان) يرجح من المقدمة أنه ربما بدأت الصياغة الأولى لهذه القصة وقت انهيار الإمبراطورية الفارسية على أيدي المسلمين.

وعلى هذا فتأثر القصة الفارسية بالإسلام في بعض تفاصيلها هو الرأي الصحيح وليس العكس.

بقي أن نعرف أن هناك ثلاث مخطوطات للقصة موجودة بين كوبنهاجن وميونخ، وجميعها تاريخها بعد القرن الرابع عشر الميلادي.

كما هو واضح لنا فالقصة الفارسية هي فولكلور شعبي تعرض للتغيير في محتواه بمرور الزمن كعادة هذا النوع من الفنون، والواضح أن القصة تأثرت بحادث معراج رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وليس العكس..

فكما نجد في الرسومات والمنحوتات أنه هو نفسه صعد وبأجنحة، ثم لاحقاً بعد الفتح الإسلامي أصبحوا يرسمونه على دابة، وهناك من يدعي أنها منحوتة للإله أو أسطورة للطيران، ومهما كان الأمر فـمَن لديه عينين يرى أنه شخص بأجنحة وذيل! ويفهم كيف تم تركيب الأسطورة عليها تركيباً ركيكاً، وكما وجدنا مما سبق فإن هذا التركيب جاء بعد الإسلام أصلاً..

اختم بقول السيدة ماري بويس (باحثة أدب شرقي) التي تقول في كتابها (Boyce, Mary. ed. Textual Sources for the Study of Zoroastrianism, 1984):

“لقد ظل سائدا أن قصة (آردا ويراذ ناماك) أثرت في قصة المعراج الإسلامية حتى تبين أن الصورة الأخيرة للقصة الفارسية حديثة العهد بالنسبة للإسلام”.

فأساس الشبهة هو قدم الزرادشتية، ونحن لا نختلف معهم في هذا، ولكن نقطة الخلاف أن النسخة التي ينقلون منها هذا التشابه هي نسخة عائدة لما بعد الإسلام بقرنين أو ثلاثة!

وهذا يعني أن الزرادشتيين المتأخرين الذين كانوا يعيشون في الدولة الإسلامية هم من سرق شرائع الإسلام ووضعوها في كتبهم، وهذا مثل الترجوم الثاني لإستر في الديانة اليهودية، فأصله قديم إلى ما قبل الميلاد، لكن النسخة التي يأخذون منها التشابه مع الإسلام تعود إلى ما بعد الإسلام بقرون، وقد أثبت علماء التوراة اختلاف النسختين وعدم وجود التشابه مع القرآن في النسخة الأقدم، وكذلك في الزرادشتية، فهؤلاء قوم يعدلون كتبهم كل فترة.

على الزرادشتي أن يأتينا بنسخة قديمة إلى ما قبل الإسلام وسيفضح نفسه!

المصدر

لماذا لم يسلم أهل مكة قبل الهجرة؟

هذه الشبهة روّج لها المستشرقون في البداية، ثم تداولها بعض أعداء الإسلام من الملحدين والنصارى، والهدف من ترويجها هو الإيحاء بأن الإسلام ليس مقنعا، ولو كان مقنعا لآمن به أهل مكة كلهم أو أغلبهم وليس فقط 90 شخصا حسب بعض التقديرات. والنتيجة التي يسعون لها هي أن يبدأ المسلم بالتحليل لعله يصل إلى أن الإسلام إنما انتشر بالقوة والسيف.

وهذا الأسلوب الإيحائي يكثر استخدامه عند المنصرين تحديدا، ولكنه يسقط عند التحليل الدقيق للمعطيات.

لماذا لم يسلم الغالبية؟

هناك أسباب عامة متعددة لعدم اتباع الكفار لدين الإسلام، منها تعصبهم وتمسكهم بدين آبائهم، ومنها اتباع الهوى والشهوات خصوصا عند العلم أن الإسلام يحد من تلك الشهوات، ومنها الكبر واحتقار الآخرين عند طبقات معينة من المجتمع، ومنها الخوف من زوال مصلحة دنيوية كالملك والمال والجاه، وهذا ما حصل مع هرقل الذي أسلم ثم ارتد حرصا على الملك، ومنها الحسد الذي كان سبب امتناع اليهود العرب من اعتناق الإسلام لحسدهم على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في العرب ونزول القرآن بالعربية.

ولكن هناك أسباب موضوعية لعدم انتشار الإسلام في مكة خلال الفترة الواقعة منذ بداية الدعوة إلى الهجرة منها:

اضطهاد المسلمين

اضطهاد الكفار للمسلمين عند اكتشاف إسلامهم، وهناك قصص كثيرة لهذا الاضطهاد، منها تعذيب بلال بن رباح، ومنها التعذيب والقتل بصورة شنيعة على آل ياسر، وقد بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة جزاء صبرهم. وكان كفار قريش يعلنون هذا التعذيب والقتل أمام الناس لكي يردعوهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا يترك أثرا ورهبة في النفوس تمنع الناس من الإقبال والتعرف على الإسلام أصلا.

بل إن 15 من المسلمين في العام الخامس للبعثة فروا وهاجروا بدينهم إلى الحبشة حفاظا على أنفسهم من القتل والتعذيب بعد أن أشار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فعلم الكفار بهم وطاردوهم على الساحل ولكنهم تمكنوا من الإبحار على سفينتين، ثم أنهم سمعوا في الحبشة أن أهل مكة أسلموا فعاد بعضهم إلى مكة، ولما اكتشفوا أن الخبر غير صحيح رجعوا إلى الحبشة ومعهم عدد آخر من المسلمين، وهي الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكان عددهم اثنين وثمانين رجلا مع نسائهم وأبنائهم، وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب.

التضييق على الدعوة

تعرض النبي صلى الله عليه وسلم منذ بداية البعثة إلى مضايقات شديدة جعلته غير قادر إيصال الدعوة بحرية، بل وصل الأمر إلى مطاردته والاعتداء عليه بالضرب، ثم استمر الهجوم عليه حتى وصل إلى التخطيط لقتله، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة في السنة الثالثة عشرة للبعثة. فكيف يمكن في مثل هذا المناخ إيصال الرسالة إلى الناس بحرية، وبالتالي الحكم على قبولهم لهذه الرسالة أم لا؟

سرية الدعوة

بسبب هذا الاضطهاد والمطاردة للرسول صلى الله عليه وسلم كانت الدعوة خلال المرحلة المكية دعوة سرية حفاظا على سلامة المسلمين وأرواحهم، وعندما تكون الدعوة سرية فإن السؤال المطروح حول عدم انتشار الإسلام في مكة يعتبر سؤالا لا معنى له.

أهل المدينة

عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى المدينة استقبله الأنصار، وتكاثر المسلمون في المدينة وانتشرت الدعوة بصورة لا تقارن مع المرحلة المكية، وهذا دليل على أن الإشكالية في عدم انتشار الإسلام في المرحلة المكية لا علاقة لها بالدعوة نفسها، فالدعوة واحدة في مكة وفي المدينة، ولكن الفارق هو مناخ الدعوة، ففي مكة قيدت الدعوة وحوصرت فلم تصل للناس، وفي المدينة كان المجال متاحا لإعلان الدعوة ونشرها فأقبل الناس عليها اقتناعا بأنها الحق.

فتح مكة

من الأدلة القوية التي تسقط هذه الدعوى إقبال الناس على الدخول في الإسلام عند فتح مكة بلا حرب. فمكة هي نفسها مكة التي لم تنتشر فيها الدعوة بصورة قوية سابقا، لكن الفارق الآن هو سقوط القيود والمعوقات أمام الدعوة.

وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وهو خافضا رأسه تواضعا لله بعد أن مكنه، ولم يهدد الناس ليدخلوا الإسلام كما كان الكفار يهددونهم ليكفروا بالإسلام، بل قال: “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه داره فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن”. (سنن أبي داوود)

وهكذا دخل الناس في دين الإسلام أفواجا، قال تعالى: “إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا”. (سورة الفتح)

هل العقيدة الإسلامية مقنعة؟

إذا كان المعيار لقياس مدى توافق الإسلام وقبوله عقلا وفطرة هو مستوى انتشاره كما يقول أصحاب هذه الشبهة، فإن الواقع يسقط هذه الشبهة تماما.

الإحصائيات العالمية تقول إن الإسلام هو أكثر المعتقدات قبولا وتسارعا في الانتشار.. طبعا لا أحد يرفع السيف على رؤوس الناس ليعتنقوا الإسلام كما يدعي الملاحدة.

هذه مصادر غير إسلامية تنص على أن الإسلام هو أعلى المعتقدات انتشارا:

أكثر الديانات نموا هو الإسلام

ماهي أسرع الديانات انتشارا؟

الإسلام هو أسرع الديانات نموا في العالم

دراسة عن مستقبل الأديان من حيث السكان

المصدر

أليس هناك العديد من المشكلات في الإسلام

هذا ما يدعيه المسلمون، ولكن أليس هنالك العديد من المشكلات في الإسلام؟

أعنى كيف يمكن لأحد في العالم المتحضر الحر أو في أي مكان، أن يُتوقع منه اتباع دين عمره 1400 عام؟ إنهم يعاملون النساء كمواطنات من الدرجة الثانية، (مع أنه في العالم المتحضر الحر فالنساء ما زلن يتقاضين أجوراً أقل من الرجال في الوظائف نفسها، ويعرضن كأنهن بضائع جنسية، ويعانين من كم مرعب من الاستغلال الجنسي والجسدي، ويواجهن صعوبة في أن يلقين احتراماً كأمهات وزوجات، ولكن على الأقل فالعالم المتحضر يدعي أن النساء لهن حقوق متساوية!). كما أن القرآن يقول بضرب الزوجات في بعض الحالات، ويمكن للرجال أن يكون لديهم أربع زوجات وعدد غير محدد من ملك اليمين، هذا جيد للرجال! وهم يحصلون على ضعف الميراث وشهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل!

وهناك أيضاً أمر الجهاد وكل هذا الإرهاب “وقتل الكفار حيث وجدوا”.

وماذا عن كل تلك القوانين التي تبدوا بربرية من قطع ليد السارق، وقتل للمرتدين والزناة (وكيف أن النساء دائماً هن اللواتي يقتلن فقط)، والموت للمثليين، وجلد شاربي الخمر، وحتى صلب قطاع الطرق!

أليس القرآن مثله كمثل أي كتاب ديني آخر؟ مليئاً بالتناقضات والعبارات الغامضة، ومفتوحاً لتفسيرات متعددة؟

إن القرآن مختلف عن باقي الكتب السماوية الأخرى، على الأقل من ناحية واحدة، وهي حقيقة حفظه غير المتنازع بأمرها. ثم مجدداً كم من القضايا التي لدى الناس ضد الإسلام والمتعلقة بتعاليم القرآن والنبي مقارنة بسلوك المسلمين.

فلننظر إلى هذا الأمر من ناحية عقلية بعيداً عن العاطفة.

هل حقيقة أن القرآن يقول بتعاليم تخالف العادات و الأعراف التي اعتدنا عليها، تعني أنه ليس من عند الخالق؟

في الحقيقة ليس هناك أي سبب منطقي ينفي أن أيَّــاً من الأمور المذكورة آنفاً من المنشأ إلهي. فما المشكلة إذا لم تكن تلك التعاليم متوافقة مع الحياة الحديثة؟ لعل الخالق لا يحب هذه العصرية أو أي فكر صنعه البشر. أنا لا أقول إن هذا هو الحال فعلاً، ولكني فقط أثبت أن هذا ليس سبباً منطقياً لرفض القرآن ككتاب من الخالق، وفي هذا الصدد فإن كل الديانات تقريباً تشترك مع الإسلام في التشكيك بجدوى نظام الحياة المبني على المادية البحتة والمتعة، والتي تتسم بها هذه الحياة العصرية.

 القرآن و العصر الحديث

المشكلة في الحكم على أي كتاب أو تنزيل بناء على الأخلاق والقوانين فقط، أن هذه الأخلاق والقوانين هي أصلا غير متفق عليها عالمياً. فعلى سبيل المثال: هناك أشياء قد تبدو كعقوبات قاسية جداً في ثقافة ما ولكنها تبدو غير ذلك في ثقافات أخرى. تحديد عدد الزوجات قد يبدو تحديداً غير منطقي في مجتمعات تعتمد على الزواج لتوفير الأمن الاجتماعي للنساء ويمسارون تعدد الزوجات غير المحدود. فبالنسبة لهم فإن قانون الزواج من زوجة واحدة قد يبدو جنوناً، بالذات في نظر النساء اللاتي يعتمدن على التعدد لأمنهن، هذا النظام الذي أنشأ نفسه تحت شعار”العالم الحر المتحضر”هو نفسه يغير القوانين والأخلاق باستمرار بناءً على العديد من الأشياء، الأشياء التي كانت سيئة قبل عشر سنوات تعتبر اليوم مقبولة، والعكس صحيح، ومع هذا فبعض المتحدثين عن القيم لـ “العالم الحر” يتحدثون عما يعتبرونه أخلاقهم وقيمهم وكأنها مقدسة ومنزلة، وهي ليست كذلك بالطبع، بل العكس هو الصحيح.

النقطة هنا هي أن المشكلة الكبرى لدى بعض الناس مع الإسلام هي في الواقع ليست حقاً معياراً صحيحاً يمكن من خلالها الحكم عليه، بل منطقياً يجب على الإنسان أن يقول: إذا كان لدينا أسباب وأدلة مقنعة أن هذا الكتاب منزل من الخالق، فعلى الإنسان أن يرضى بأن الخالق يعلم ما هو أفضل لنا. في الحقيقة إن الإنسان يميل إلى أن يختار أخلاقاً ومبادئ وقوانين تشعره بالراحة بدلاً من أن يختار ما يكون حقاً ذا منفعة حقيقية له، أو أن بعض الناس(كأصحاب السلطة) يخترعون نظاماً وقوانين وقيماً أخلاقية لتبقيهم في السلطة! فالحقيقة هي أن هناك الكثير من الأشياء النافعة لنا ولا نحبها، ونحب أشياء هي في الحقيقة ضارة لنا، لذلك فعلينا أن نضع مسألة ما يسمى بعدم توافق الإسلام مع الحياة المعاصرة جانباً ونعتبرها تعمية عن القضية الجوهرية(أو أنها يمكن أن تكون رجلاً آخر بسروال أحمر).

 القرآن هو الهداية من الخالق

ربما حان الوقت الآن لتناول الحبة الأكثر مرارة حتى الآن، حان الوقت لتقبل ما قد يكون للبعض أصعب حقيقة، وهي أن القرآن هو الهداية من الخالق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، ويجب علينا على الأقل أن نضع افتراضاتنا السابقة جانباً، ونلقي نظرة بعقل مفتوح على الحجج المنطقية التي قدمت لصالح أن القرآن هو الهدي من الخالق، ففي النهاية يوجد لدي القرآن نقاط تثبت هذا الزعم، فلنعرضها مرة أخرى.

أولاً: ما يقول القرآن عن الخالق يطابق ما قد يفهمه منطقياً أي شخص عن الخالق في أي مكان، أي أن هناك خالق فرد ليس كالخلق، ويوجد العديد من الآيات في القرآن تشرح هذه الفكرة، مثل: “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ” (الإخلاص:1-4).

بعض الناس يتساءل عن استخدام لفظ “هو” في القرآن، هل هذا يعني أن الخالق رجل؟ الخالق وفقاً لهذه الآيات لا يشبهه شيئاً. النقطة أن العربية كغيرها من اللغات وهي اللغة الأصلية للقرآن، تحتوي فقط على توصيف للذكر والأنثى، ولا يوجد جنس محايد، وحتى في اللغة الإنجليزية، لفظ It (اسم الإشارة لغير العاقل) لا يبدو مناسباً للتكلم عن الله، فيستخدم he الذي هو الجنس المستخدم لوصف الله في القرآن، لكن هذا لا يفيد أن الله هو رجل أو ذكر.

ثانياً: مما يصب في مصلحة الإسلام أن التنزيل محفوظ بطريقة استثنائية، فتاريخ هذا الحفظ وحده جدير بالدراسة، ولكن للاختصار سأنقل بعض التعليقات من مختلف العلماء في هذا المجال، فعلى سبيل المثال:

المستشرق ريتشارد بيرتون يكتب عن القرآن الموجود اليوم أنه:” النص الذي نزل لنا في الشكل الذي نظمه وأقره النبي … ما لدينا اليوم بين أيدينا هو مصحف محمد “

ويصف كينيث كريج نقل القرآن منذ نزول الوحي إلى اليوم:” كتسلسل غير منقطع من الإخلاص”.

شوالي كتب في (تاريخ القرآن):”بالنسبة لما يتعلق بقطع التنزيل، فنحن واثقون أن نصَّهم قد نٌقل عموماً تماماً كما وجد في إرث النبي”.

هؤلاء الخبراء يبدون مقتنعين تماماً بصحة القرآن.

ثالث الأسباب الذي يجب أن ننتبه له: هو أن رسالة الإسلام عالمية، أي أنها لكل الناس، بغض النظر عن العرق و المكانة الاجتماعية، وهذا واضح في التعاليم التي تقول إن الله لا ينظر إلى لون الشخص وعرقه وقبيلته ومستواه المادي ومكانته، ولكن ينظر إلى قلب الشخص و خيريته وعمله.

القرآن نفسه يعطي اختبارًا للصحة

القرآن ليس للقراءة العارضة، فقد يكون صعباً على الشخص أن يفهمه، بما أنه لا يتبع ترتيباً معيناً للأحداث أو الموضوعات، وهو يكرر نفسه في مواضيع كثيرة، وحتى في أفضل ترجمة إنجليزية له فإن نظمه يعتبر تحدياً بلاغياً لإيصال المعنى بأقل عدد من الكلمات، ولفهمه فإنك مجبر على التفكير، والتفكر هو ما يطلب منك القرآن فعله في كثير من المواضع.

وعلى الرغم من هذا فإن رسالته الأساسية واضحة جداَ: لا يوجد سوى رب واحد رحمن رحيم عطوف بكل خلقه، وبالذات المتواضعين منهم والمؤمنين، وهو أيضاً شديد العقاب للذين يتكبرون ويرفضون الحقيقة. الحياة هي اختبار، وعندما نموت وينتهي هذا الكون الذي نعرفه سيكون هناك يوم يعاد فيه خلقنا جسدياً ونحاسب، فإما نجزى خيراً بالنعيم الأبدي، أو نجزى سوءاً بالعذاب الأبدي.

حسناً، قد أخبرتكم منذ البداية أن هناك أشياء لن تعجبكم، كالموت والنار! ومع ذلك، فإن حقيقة أننا لا نحب شيئاً ما لا يعنى أنه ليس حقيقياً أو صحيحاً.

هل هناك أي شئ آخر يساعدنا لقبول زعم أن القرآن هو من عند خالق السماوات والأرض؟ القرآن نفسه يعطي اختباراً للصحة،

وهذا طبعاً اختبار جيد يمكن تطبيقه على أي كتاب يزعم أنه من عند الخالق.

” أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ” (النساء:82).

النقطة هنا أنه إذا كان الكتاب من عند خالق كل شئ، فمن المنطقي استنتاج أن هذا الخالق الفريد يجب أن يكون ذا حكمة وذكاء عظيم، لمستوى يتخطى الإدراك البشري، ومن المؤكد أن يتوقع الشخص أن الخالق عنده علم عن عمل الطبيعة والكون، وعن الأحداث في تاريخ البشرية.

ومن المثير للدهشة أن القرآن ليس فقط خالياً من التناقضات، بل إن له أقواله عن التاريخ، والتوحيد والفلسفة، وعن القانون والعالم الطبيعي، وهذه الأقوال تتحدى التفسير البشري.

وهناك أيضاً ميزة أخرى لافتة للانتباه في القرآن، وهي أنه إلى اليوم لا يزال قائماً كأكثر قطعة أدبية تميزاً في اللغة العربية، بل إن القرآن نفسه تحدى العرب الذين كانوا أسياد الشعر والمهارت اللغوية، ليأتوا بسورة واحدة فقط من مثل القرآن، فأصغر سورة في القرآن هي فقط ثلاث آيات! في وقت كان فيه الشعراء العرب مثل “نجوم البوب” في بلادهم، ومحمد لم يظهر أي قدرة شعرية، لا قبل التنزيل ولا حتى بعده، وفي الحقيقة إن أقواله وأحاديثه مختلفة لغوياً عن القرآن بشكل واضح ويمكن تمييزها عنه بسهوله. وقد أقرَّ العديد من أمهر الشعراء والخطباء في ذلك الوقت أن هذا ليس من كلام محمد، ولا حتى من كلام البشر، والعديد منهم قد اعتنق الإسلام بمجرد سماع القرآن يتلى، فقد كان هذا بالنسبة لهم أكبر دليل على أن القرآن تنزيل إلهي. وبالطبع قد يبدو هذا الشئ صعب علينا إدراكه اليوم، ولكن هذا الأمر يبقى حقيقة تاريخية.

ويبقى السؤال: كيف لشخص لا يملك الموهبة الشعرية القدرة على إنتاج قطعة أدبية تقف إلى اليوم كأعظم ما قدمته اللغة العربية، في الوقت الذي أنتجت فيه أفضل القصائد و القطع الشعرية في التاريخ كله، وإذا أردنا أن نقرب هذا إلى مفهوم اليوم المعاصر، قد نقول إنه استثنائي كشخص غير متعلم وليس له أي تدريب أو خليفة علمية، يقدم نظرية لا تقبل الخطأ في الفيزياء.

المصدر

وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطا

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

ولا تنس نصيبك من الدنيا:

في زيارة لنا لدولة الصين، قمنا بزيارة لحديقة “نافذة على العالم”، وهي عبارة عن حديقة عامة تمتد على مساحات شاسعة، وتضم مجسمات متراصة في توزيع متقن لأبرز مزارات العالم، حيث نجد في ركن من الحديقة مثلاً مجسمًا لبرج “ايفل”، وعلى مقربة منه نجد نموذجًا لساعة “بيغ بن” أيقونة لندن، وفي جانب آخر من الحديقة مجسمًا آخرًا لأهرامات مصر، وفي جزءٍ آخر نجد مسقطًا مائيًا هائلاً تنهمر مياهه محاكيةً “شلالات نياجرا” الأمريكية. وتعطي هذه الزيارة الفرصة لتذوق أكل الطعام اللاتيني مثلاً ولبس أزياء شرق آسيا ومعايشة التقاليد الأفريقية. موقع يأخذ بالألباب ويعطي الفرصة لاكتشاف العالَم بأسره.

ووسط ذهولي وفرحة أبنائي، وقيام زوجي بالتقاط الصور التذكارية، تذكرت سؤالاً كنت أردده كثيرًا في صغري، وهو عن إمكانية تحقيق التوازن بين التعرف على ثقافات وحضارات العالم وتحقيق متع الدنيا والحرص على الفوز في الآخرة في الوقت نفسه. وحينها تذكرت الآية الكريمة، ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ “[1]، وسُعدت كثيرًا.

أُمةً وسطًا:

الفيلسوف النمساوي ليو بولد فايس – الذي ترك اليهودية واعتنق الإسلام وغيَّر اسمه لمحمد أسد – قال في كتابه “الإسلام على مفترق الطرق”:

“إن سفرنا في هذا العالم أمر ضروري وجزء إيجابي من سنة الله، من أجل ذلك كان لحياة الإنسان قيمة عظمى، ولكن يجب ألا ننسى أنها قيمة الواسطة إلى غاية فقط، وليس هنالك مجال في الإسلام لتعظيم الجانب المادي كما هو في الغرب الحديث الذي يقول: مملكتي في هذا العالم فقط، ولا احتقار الحياة الذي يجري على لسان النصرانية: إن مملكتي ليست في هذا العالم. إن الإسلام يتخير في ذلك طريقًا وسطًا، ولذلك يعلمنا القرآن أن ندعو فنقول ” رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً” [2]، وهكذا نرى أن قدر هذا العالم وما فيه من متاع لا يقف حجر عثرة في سبيل جهودنا الروحية. إن النجاح المادي مرغوب فيه، ولكنه ليس غاية في نفسه، فعلى كل مسلم أن ينظر إلى نفسه على أنه مسؤول شخصيًا عن نشر السعادة حوله، وأن يسعى إلى إقرار الحق وإزهاق الباطل في كل زمان ومكان، ومصداق ذلك الآية: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر” [3].

وقال الفيلسوف النمساوي بما معناه أيضًا:

“إن الحرص على انتشار الإسلام لم يحث عليه حب السيطرة، وليس فيه شيء من الأنانية الاقتصادية أو القومية، ولا الطمع في زيادة أسباب رفاهيتنا الخاصة على حساب شعب آخر. ولم يُقصد منه في يوم من الأيام إكراه غير المؤمنين على الدخول في الإسلام، لقد قُصد به دائمًا ما يُقصد به اليوم من بناء إطار عالمي لأحسن ما يمكن من التطور الروحي للإنسان، إن المعرفة بالفضائل – حسب تعاليم الإسلام – تفرض على الإنسان من تلقاء نفسه العمل بالفضائل، وأما الفصل الأفلاطوني بين الخير والشر من غير الحث على زيادة الخير ومحو الشر فإنه فسق عظيم”.

إن من أحد الأسباب التي تدعو الناس للنفور من الدين واللجوء إلى الأخذ بالعلم التجريبي وحده هو وجود تناقضات في بعض المفاهيم الدينية عند بعض الشعوب، لذلك فإنه من أهم السمات والأسباب الرئيسة التي تدعو الناس إلى الإقبال على الدين الصحيح هو وسطيته وتوازنه. وهذا ما نجده بوضوح في الدين الإسلامي.

إن مشكلة الديانات الأخرى والتي نشأت من تحريف الدين الصحيح الواحد إما أن تكون:

روحية صِرفه، وتشجع أتباعها على الرهبانية والانعزال.

مادية بحتة.

وهذا ما تسبب في صرف كثير من الناس عن الدين عمومًا في كثير من الشعوب وأصحاب المِلل السابقة.

لا تغلوا في دينكم:

إن التطرف، التشدد والتعصب، ما هي إلا صفات قد نهى عنها الدين الصحيح أساسًا. وقد دعا القرآن الكريم في آيات كثيرة للأخذ باللطف والرحمة في التعامل والأخذ بمبدأ العفو والتسامح.

” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”[4] .

“ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”[5] .

الأصل في الدين هو الحلال باستثناء بعض المحرمات المعدودات التي ذُكرت بوضوح في القرآن الكريم والتي لا يختلف عليها أحد.

“يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ”[6].

إن ما يدعو إلى التطرف والتشدد أو التحريم بغير دليل شرعي نَسبهُ الدين الى أفعال شيطانية، والدين منها برئ.

” يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ “[7].

” وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا” [8].

يريد الله بكم اليسر:

إن الدين في الأصل يأتي ليُخفف عن الناس كثيرًا من القيود التي يفرضونها على أنفسهم. ففي الجاهلية وقبل الإسلام على سبيل المثال، كانت قد انتشرت ممارسات بغيضة كوأد البنات وتحليل أنواع من الطعام للذكور وتحريمها على الإناث، وحرمان الإناث من الميراث، إضافة إلى أكل الميتة والزنا وشُرب الخمور وأكل مال اليتيم والرِّبا وغيرها من الفواحش.

كما نجد عند بعض الشعوب الأخرى كثيرًا من التشريعات والأحكام والممارسات الخاطئة، والتي نُسبت إلى الدين كذريعة لإجبار الناس عليها والتي انحرفت بهم عن طريق الصواب وعن مفهوم الدين الفطري، وبالتالي فَقَد كثير من الناس القدرة على التمييز بين المفهوم الحقيقي للدين والذي يُلبي الحاجات الفطرية للإنسان والتي لا يختلف عليها أحد، وبين القوانين الوضعية والتقاليد والعادات والممارسات الموروثة من قِبل الشعوب، مما أدى لاحقًا إلى المطالبة باستبدال الدين بالعِلم التجريبي.

إن الدين الصحيح هو الذي يأتي للتخفيف عن الناس ورفع المعاناة عنهم، وليَضَع الأحكام والتشريعات التي تهدف بالدرجة الأولى التيسير على الناس.

“…يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ …”[9].

” يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا”[10].

“…وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” [11].

” …وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”[12].

“…وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ …” [13].

وقوله عليه الصلاة والسلام:

“يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا “[14].

وأذكر هنا قصة الثلاثة رجال الذين كانوا يتحادثون فيما بينهم، حيث قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:

“أنتُم الذينَ قُلتُمْ كَذا وكَذا؟ أمَّا والله إنّي لأَخشاكُم لله وأتقاكُمْ له، لكنّي أَصومُ وأُفطِرْ، وأُصلي وأَرقُد، وأَتزوّج النّساءْ، فَمَن رغِبَ عن سُنّتي فليس مِنّي”[15].

وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لعبد الله بن عمرو وقد بلغه أنه يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله، ويختم القرآن في كل ليله فقال:

” فلا تَفْعَلْ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا”[16].

يقول الفيلسوف محمد أسد النمساوي أيضًا:

“نحن نعدُّ الإسلام أسمى من سائر النظم المدنية؛ لأنه يشمل الحياة بأسرها، إنه يهتم اهتمامًا واحدًا بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد وبالمجتمع، إنه لا يحملنا على طلب المحال، ولكنه يهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من استعداد، وإلى أن نصل إلى مستوى أسمى من الحقيقة، حيث لا شقاق ولا عداء بين الرأي وبين العمل، إنه ليس سبيلاً بين السبل، ولكنه السبيل. وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هاديًا من الهداة، ولكنه الهادي، فاتباعه في كل ما فعل وما أمر هو اتباع للإسلام بعينه، وأما طرح سُنته فهو طرح لحقيقة الإسلام. ويقول أيضًا: ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته الدنيا إلى أقصى حد من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، وهذا يختلف كثيرًا عن وجهة النظر النصرانية”.

التوازن في إعطاء الحقوق:

وأذكر هنا حوار طريف لي مع زائرة لاتينية كانت قد سألتني قائلة: هل بمقدور المرأة المسلمة أن ترتدي أقراط في أذنيها كبقية النساء. وقد أضحكني بشدة هذا السؤال وقلت لها: المرأة المسلمة من البشر ولا تختلف عن نسائكم، لكنها فطنة، وتستطيع أن تميز بين الحقوق والواجبات وإعطاء الأوليات، وعمل التوازن في تطبيق هذه المصطلحات بصورة مذهلة، والتي قد عجزت المرأة اللاتينية والغربية عن القيام به.

قالت: ماذا تقصدين؟

قلت لها: المرأة المسلمة فهمت مصطلح” الخصوصية ” جيدًا، فعندما أحبت أبيها وأخيها وابنها وزوجها، فهمت أن حب كلاً منهم له خصوصية، فحبها لزوجها وحبها لأبيها أو أخيها يتطلب منها إعطاء كل ذي حق حقه. فحق والدها عليها من الاحترام والبر ليس كحق ابنها من الرعاية والتربية وهكذا. فهي تفهم جيدًا متى وكيف ولمن تُبدي زينتها، فهي لا ترتدي في لقاءها مع الغريب كما ترتدي مع القريب، ولا تظهر بنفس الهيئة للجميع.

قلت أيضًا: المرأة المسلمة هي امرأة حُرة، رفضت أن تكون أسيرة لأهواء غيرها وللموضة، ترتدي ما تراه مناسب لها ويُسعدها هي، ويُرضي خالقها، انظري كيف أصبحت المرأة في الغرب أسيرة للموضة ودور الأزياء، إن قالوا مثلاً: إن الموضة هذا العام هي لبس البنطال القصير الضيِّق، أسرعت المرأة لارتدائه، بغض النظر عن ملاءمته لها أو حتى شعورها بالراحة عند ارتدائه من عدمه.

قلت لها مسترسلة: إنه لا يخفاكِ وضعها عندما تحولت إلى سلعة، ويكاد لا يخلو إعلان أو منشور من صورة امرأة عارية، مما يعطي رسالة غير مباشرة للمرأة الغربية بقيمتها في هذا العصر.

إن بإخفاء المرأة المسلمة لزينتها تكون هي التي قد أرسلت رسالة للعالم، وهي: أنها إنسانة ذي قيمة، مُكرَّمة من الله، ويجب على من يتعامل معها أن يحكم على علمها، ثقافتها، قناعاتها وأفكارها، ليس على مفاتن جسمها.

قالت: عجيب! هذا يُدعى لدينا بالإتيكيت.

قلت لها: نعم، والمرأة المسلمة فهمت أيضًا الطبيعة البشرية التي خلق الله الناس عليها، فهي لا تُظهر زينتها للغرباء لحماية المجتمع وحماية نفسها من الأذى، ولا أظنك تنكرين حقيقة أن كل فتاة جميلة مفتخرة بإظهار مفاتنها للعلن عندما تصل لسن الشيخوخة تتمنى لو أن كل نساء العالم ارتدين الحجاب.

قالت: هذا صحيح 100%.

قلت لها متسائلة: هل قرأتِ عن إحصائيات معدلات الوفاة والتشويه الناجمة عن عمليات التجميل؟ ما الذي دفع المرأة لأن تُقاسي كل هذا العذاب؟ لأنهم أجبروها على خوض مسابقة الجمال الجسدي عوضًا عن الجمال الفكري، مما أخسرها قيمتها الحقيقية بل وحياتها أيضًا.

قالت: جميل جدًا، هذه فلسفة عجيبة لم أسمع عنها من قبل.

وقالت: حسنًا، وهل حقق الإسلام للمرأة المساواة مع الرجل؟

قلت لها: المرأة المسلمة تبحث عن العدالة ولا تبحث عن المساواة، فمساواتها بالرجل تُفقدها كثيرًا من حقوقها وتميزها.

قالت: عجيب! وكيف ذلك؟

قلت لها: لنفترض أن لديك ابنان، أحدها يبلغ من العمر خمسة أعوام والآخر ثمانية عشر عامًا. وأردتِ شراء قميص لكلِّ منها، فالمساواة هنا تتحقق في أن تشتري لهما القميصين بنفس المقاس، مما يتسبب في معاناة أحدهما، لكن العدالة أن تشتري لكل واحد منهما مقاسه المناسب، وبالتالي تتحقق السعادة للجميع.

قلت لها مستطردة: تحاول المرأة في هذا الزمن إثبات أنه بإمكانها أن تفعل كل ما يفعله الرجل. غير أنه في الواقع، المرأة تفقد تفردها وامتيازها في هذه الحالة. فإن الله خلقها لتقوم بما لا يمكن أن يقوم به الرجل. لقد ثبت أن آلام الوضع والإنجاب من أكثر الآلام شدة، وجاء الدين ليعطي المرأة التكريم المطلوب مقابل هذا التعب، ويعطيها الحق بعدم تحملها لمسؤولية النفقة والعمل، أو حتى أن يتقاسم زوجها معها مالها الخاص كما هو الحال لديكم. وفي حين لم يُعطِ الله الرجل القوة على تحمل آلام الولادة، لكن أعطاه القدرة على صعود الجبال مثلاً.

قالت: لكنني أحب أن أصعد الجبال، وأستطيع فعل ذلك كالرجل تمامًا.

قلت لها: حسنًا، بإمكانك أن تصعدي الجبال كالرجل وتعملي وتكدِّي، لكن في النهاية أنتِ من سيضع الأطفال أيضًا، ويقوم برعايتهم وإرضاعهم، فالرجل في كل الأحوال لا يستطيع القيام بهذا، وهذا مجهود مضاعف عليكِ كان بإمكانك تفاديه.

ما لا يعرفه الكثيرون، هو أنه إذا أرادت امرأة مسلمة المطالبة بحقوقها من خلال الأمم المتحدة، والتنازل عن حقوقها في الإسلام، فستكون خسارة لها، لأنها تتمتع بحقوق أكثر في الإسلام. فالإسلام يحقق التكامل الذي خُلق من أجله الرجل والمرأة مما يوفر السعادة للجميع.

إحسان الحضارة الإسلامية:

أخبرتني يومًا زائرة من دولة كولومبيا وزميلتها في العمل عن رغبتهما الشديدة بعبادة الله وحده، لكنهما لا تستطيعان التخلص من رغبتيهما في ذكر السيدة مريم أم المسيح في الدعاء، حيث أنهما لا تريدان بخس حق السيدة مريم عليهما.

قلت لهما: المسلم يستطيع تحقيق التوازن في عبادته دون أن يبخس النبي أو أم النبي حقهما.

قالتا: كيف؟

قلت لهما: المسلم أحب خالقه وأعطاه حقه في عبادته وحده، ومحبة المسلم للرسول تكون باتباع المنهج الذي جاء به الرسول من عند الله، وهو عبادة الخالق كما فعل الرسول وليس عبادة الرسول نفسه.

قلت لهما متسائلة: ما هي العبارات التي تستخدمانها في الدعاء إلى الله والتي تشتمل على اسم السيدة مريم ولا تستطيعان التخلص من الرغبة في استخدامها؟

قالت الزائرة الأولى: الله يبارك في مريم.

قلت لها: هذا صحيح وسليم، فإننا نقول صلى الله على النبي محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام، والسيدة مريم أم المسيح كذلك.

قالت الأخرى: نقول أيضًا، يا مريم باركيني وساعديني.

قلت لها: هذا غير صحيح.

قالتا: وما الفرق؟

قلت لهما: في الدعاء الأول طلب للسيدة مريم وفي الثاني طلب منها، ولا يحق الطلب إلا من الله. فباستطاعتكما التمسك في الصيغة الأولى للدعاء، ولكن عليكما التوقف عن استخدام الصيغة الثانية.

ابتهجتا الزائرتين كثيرًا، لأنهما وجدتا أن عبادتها لله مباشرة لن تجعلهما تتركان ذكر السيدة مريم. وطلبتا اعتناق الإسلام مباشرةً.

إننا نجد أن كثيرًا من الأمم والحضارات فشلت في تحقيق هذا التوازن، فبينما رفعت أُمَّة المسيح عليه السلام قدره وأمه الصديقة مريم إلى درجة الألوهية، كان قد رفض قوم موسى عليه السلام الاعتراف بالمسيح كرسول، فجاء المسلم وحقق التوازن المطلوب، وآمن بموسى والمسيح واحترمهم وقدَّرهم، وذلك بتصديق رسالتهم الصحيحة وعبادة الله كما عبد جميع الأنبياء الله.

إن الحضارة الإسلامية قد أحسنت التعامل مع خالقها، ووضعت العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في المكان الصحيح، في الوقت الذي أساءت فيه الحضارات البشرية الأخرى التعامل مع الله، فقد كفرت به وأشركت معه مخلوقاته في الإيمان والعبادة، وأنزلته منازل لا تتلاءم مع جلاله وقدره.

والمسلم الحق لا يخلط بين الحضارة والمدنية، فينهج منهج الوسطية في تحديد كيفية التعامل مع الأفكار والعلوم، والتمييز بين:

العنصر الحضاري: المتمثل بالشواهد العقائدية، العقلية، الفكرية، والقِيم السلوكية والأخلاقية.

العنصر المدني: المتمثل في الإنجازات العلمية، والاكتشافات المادية، والمخترعات الصناعية.

فإنه يأخذ من هذه العلوم والاختراعات في إطار مفاهيمه الإيمانية والسلوكية.

فالحضارة اليونانية آمنت بوجود الله، ولكنها أنكرت صفة الوحدانية له، ووصفته بأنه لا ينفع ولا يضر.

والحضارة الرومانية تنكرت للخالق بدايةً وأشركت به عند اعتناقها النصرانية، حيث دخلت عقائدها مظاهر الوثنية، من عبادة الأوثان ومظاهر القوة.

والحضارة الفارسية قبل الإسلام كفرت بالله وعبدت الشمس من دونه وسجدت للنار وقدَّستها.

والحضارة الهندوسية تركت عبادة الخالق وتعبد الإله المخلوق والمتمثل بالثالوث المقدس، والمتكون من ثلاث صور إلهية: الإله ” براهما” في صورة الخالق، والإله “فشنو” في صورة الحافظ، والإله ” سيفا” في صورة الهادم.

والحضارة البوذية تنكرت للإله الخالق وجعلت من بوذا المخلوق إلهًا لها.

وحضارة الصابئين كانوا من أهل الكتاب وتنكروا لربهم، وعبدوا الكواكب والنجوم. باستثناء بعض الطوائف الموحدة المسلمة التي ذكرها القرآن الكريم.

ومع بلوغ الحضارة الفرعونية درجة كبيرة من التوحيد والتنزيه للإله في عهد أخناتون، إلا أنها لم تتخل عن صور التجسيم والتشبيه للإله ببعض مخلوقاته كالشمس وغيرها، فكانت رمزًا للإله لديهم. وقد بلغ الكفر بالله ذروته عندما ادعى فرعون في زمن موسى الألوهية من دون الله، وجعل من نفسه المشرع الأول.

وحضارة العرب تركت عبادة الخالق وعبدت الأصنام.

والحضارة النصرانية كما ذكرنا أنكرت وحدانية الله المطلقة، وأشركت به المسيح وأمه مريم، وتبنت عقيدة التثليث، وهي الإيمان بإله واحد متجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن، الروح القدس).

والحضارة اليهودية تنكرت لخالقها، واختارت إلهًا خاصًا بها، وعبدت العجل، ووصفوا الإله في كتبهم بصفات بشرية غير لائقة به.

وكانت قد اضمحلت الحضارات السابقة، وتحولت الحضارة اليهودية والنصرانية إلى حضارتين لا دينيتين، وهما الرأسمالية والشيوعية. ووفقًا لأساليب تعامل هاتين الحضارتين مع الله والحياة عقائديًا وفكريًا فإنهما متخلفتين وغير متقدمتين، ويتسمان بالوحشية وغير الأخلاقية، مع وصولهما الذروة في التقدم المدني، العلمي والصناعي، وليس بهذا يقاس تقدم الحضارات.

إن معيار التقدم الحضاري السليم يستند إلى شواهده العقلية، والفكرة الصحيحة عن الله، الإنسان، الكون والحياة. والتحضر الصحيح الراقي هو الذي يُوصِل إلى المفاهيم الصحيحة عن الله وعلاقته بمخلوقاته ومعرفة مصدر وجوده ومآله، ويضع هذه العلاقة في مكانها الصحيح، وبالتالي نصل إلى أن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة المتقدمة بين هذه الحضارات، لأنها ببساطة حققت التوازن المطلوب[17].

الإسلام دين ودولة:

 لقد رسمت الرأسمالية منهجًا حرًا للإنسان ودعته للسير على هديه، حيث ادعت الرأسمالية أن هذا المنهج المنفتح هو الذي سيوصل الإنسان للسعادة الخالصة، لكن الإنسان وجد نفسه في نهاية المطاف يقبع في مجتمع طبقي، فإما غنًا فاحشًا يقوم على الظلم للغير، أو فقرًا مُدقعًا للملتزم أخلاقيًا.

وجاءت الشيوعية فألغت كل الطبقات، وحاولت أن ترسم مبادئ أكثر صلابة، لكنها خلقت مجتمعات أكثر فقرًا وألما، وأكثر ثورية من غيرها.

وأما الإسلام فقد حقق الوسطية بين ذلك كله، وكانت الأمة الإسلامية هي الأمة الوسط، فقدمت للإنسانية نظامًا عظيمًا بشهادة أعداء الإسلام. لكن هناك من المسلمين من قصَّروا في الالتزام بقيم الإسلام العظيمة.

وكان قد سألني يومًا دبلوماسيٌّ فرنسي عما اعتبره تناقضًا. حيث قال:

أنا لا أفهم كيف يكون الدين الإسلامي حسب وصفكِ لي بهذه المنطقية، في حين يخوض كثير من المسلمين في هذه العشوائية وقد ابتعدوا عن النظام والأخلاق، أليس هذا تناقض؟

قلت له: وأين التناقض هنا؟ وهل ارتكاب سائق سيارتك الفخمة حادث مُروِّع لجهله بأصول القيادة السليمة يناقض حقيقة فخامة السيارة؟

فعلَّق فورًا مرافقه الخاص وقد كان فرنسيًا من أصول عربية قائلاً: فعلاً المسلم الفاشل لا يمثل إلا نفسه. وقد تحدث الكثيرون عندما وجدوا أخلاق الإسلام تُمارَس من قبل غير المسلمين، حيث قالوا: وجدنا الإسلام ولم نجد المسلمين.

المستشرق والباحث الألماني في الدراسات العربية والإسلامية “شاخت جوزيف”، وعلى الرغم من تطرفه في بعض آرائه، إلا أنه لم يستطع إلا القول بالحق في تقييمه للدين الإسلامي، فكان مما قال:

“تميز الإسلام بأنه دين ودولة، وتميزت الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي بتأثيره بقوة في الثقافات القانونية التي جاوزته، وكانت سلطتها فوق سلطة الدولة. إن النزاع بين الدين والدولة اتخذ أشكالا مختلفة، ففي المسيحية (النصرانية)كان هناك صراع من أجل السلطة السياسية من جانب هيئة كنسية منظمة تنظيمًا متدرجًا ومتماسكًا ينتهي إلى رئاسة عليا، كان يعتبر القانون الكنسي أحد أسلحتها السياسية. أما في الإسلام، فلم يكن هناك قط ما يشبه “الكنسية”. فالشريعة الإسلامية لم تستند مطلقًا إلى تأييد قوة منظمة، وعلى ذلك فلم ينشأ قط في الإسلام اختبار حقيقي للقوى بين الدين والدولة، وظل المبدأ القائل بأن الإسلام هو دين ينبغي أن ينظم الناحية القانونية في حياة المسلمين، قائمًا لا يتحداه أحد”.

ومن بعض الآراء للمُستشرق “شاخت”:

“إن من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني الذي يسمى “الشريعة”، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافًا واضحًا عن جميع أشكال القانون. إن الشريعة الإسلامية هي أبرز ما يُميّز أسلوب الحياة الإسلامية، وتفرده يعود لنظرته لجميع أفعال البشر وعلاقاتهم بعضهم ببعض، بما في ذلك ما نعتبره قانونًا على أساس المفاهيم التالية: الواجب والمندوب والمتروك والمكروه والمحظور”.

ويقول “شاخت”:

“لقد أثر التشريع الإسلامي تأثيرًا عميقًا في جميع فروع القانون عند أهل الديانات الأخرى من اليهود والنصارى، والذين شملهم تسامح الإسلام وعاشوا في الدولة الإسلامية. فاليهودي موسى بن ميمون (601هـ – 1204م) قد تأثر ببعض ملامح المؤلفات الإسلامية في تنظيمه للمادة القانونية في مدونته (مِشنة توراة)، وهو عمل لم يسبقه إليه أحد من اليهود، ولم يتردد اليعاقبة والمونوفيزية في النصرانية [18]- أصحاب الطبيعة الواحدة – والنسطوريون[19] في الاقتباس من قواعد التشريع الإسلامي” [20].

وقال المؤرخ الهولندي رينهاردت دوزي في كتابه ” نظرات في تاريخ الإسلام”:

“لقد كان غالبية النصارى في الشرق ينتمون إلى مذاهب متعددة، كانت قد لقيت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابها إرهاقًا، فلما جاء الإسلام – ومن طبيعته التسامح والإخاء – ترك لهم الحرية التامة في البقاء على دينهم، وظَلَّلهم بحمايته، وساوى بينهم في الحقوق على اختلاف مذاهبهم، وبما أنهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الروماني، فقد أعفاهم الإسلام منها، ولم يفرض عليهم إلا جزية معتدلة لا تُرهق أحدًا”.

الدولة في الإسلام ليست دولة “دينية” بالمعنى المفهوم في الفكر الغربي سابقًا، بل إن في المفهوم الإسلامي نزع لكل عصمة أو قداسة لفعل البشر، وهي دولة واجبها الرئيس خدمة مصالح الناس. إن الانطلاق من المرجعية الإسلامية للدولة لا ينافي إطلاقًا مفهوم الدولة المدنية أو مفاهيم الحداثة، بل يجب أن يكون سبيلاً للاعتزاز بهويتنا ومكانتنا الحضارية والتاريخية.

في حواري مع أحد العلمانيين الفرنسيين يومًا كان قد سألني قائلاً: لماذا لا يُفصل الدين عن الدولة، وتكون المرجعيات في المجتمع لرأي الإنسان ووجهة نظره فقط كما هو الحال في الدول الغربية؟ والأخذ بالفصل التام للدين عن الدولة وحياة الناس وسلوكهم، كما في التجربة الفرنسية مثلاً.

قلت له مبتسمة: تقصد مرجعيات تعود لأهواء الإنسان ورغباته وتقلبات مزاجه! نحن في الواقع بحاجة إلى شريعة ربانية ثابتة، تناسب الإنسان في كل أحواله، ولا تتغير بحسب الأهواء، كما فعلوا في تحليل الرِّبا والمثلية، ولا تُكتب من قبل الأقوياء لتكون ثِقلاً على المستضعفين كما في النظام الرأسمالي، ولا شيوعية تعارض الفطرة في الرغبة في التملك.

قلت له مستطردة: التجربة الفرنسية جاءت كردة فعل على تسلط وتحالف الكنيسة والدولة على مقدرات الشعب وعقولهم في العصور الوسطى. العالم الإسلامي لم يواجه هذه المشكلة قط، نظرًا لعملية ومنطقية النظام الإسلامي.

قال: إذًا فإنكم لا تعترفون في الديمقراطية.

قلت له: لدينا ما هو أفضل من الديمقراطية، لدينا الشورى.

قال: وما الفرق؟

قلت له: الديمقراطية هي عندما تأخذ رأي جميع أفراد أسرتِك بعين الاعتبار في قرار مصيري يخص الأُسرة مثلاً، بغض النظر عن خبرة هذا الفرد أو عمره أو حكمته، من طفل في رياض الأطفال إلى الجد الحكيم، وتساوي بين آرائهم في اتخاذ القرار. أما الشورى فهي توجهك لاستشارة كبار السن والمقام وأصحاب الخبرة لما يصلح أو لا يصلح.

قلت له معقبة: الفرق واضح جدًا، وأكبر دليل على الخلل بالأخذ بالديمقراطية هو إعطاء الشرعية في بعض الدول لتصرفات هي في حد ذاتها مخالفة للفطرة والدين والأعراف والتقاليد، مثل المثلية الجنسية والرِّبا وغيرها من الممارسات المقيتة، لمجرد الحصول على الأغلبية في التصويت، وبكثرة الأصوات التي تنادي بالانحلال الأخلاقي، كانت الديمقراطية قد ساهمت في خلق مجتمعات لا أخلاقية.

قلت له أيضًا: إن الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية هو خاص بمصدر السيادة في التشريع، فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداءً للشعب والأمة، أما الشورى الإسلامية فإن السيادة في التشريع تكون ابتداءً لأحكام الخالق سبحانه وتعالى والتي تجسدت في الشريعة، وهي ليست إنتاجًا بشريًا، وما للإنسان في التشريع إلا سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، وكذلك له سلطة الاجتهاد بما لم ينزل فيه شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي.

قال: التشريع الإسلامي فريد من نوعه، فبالرغم من أنه قانون ديني إلا أنه من حيث الجوهر لا يعارض العقل بأي وجه من الوجوه، وهو ذو منهج منظم يؤلف مذهبًا متماسكًا، ونُظمه المتعددة مترابطة بعضها مع بعض، لكنني ضد الحدود التي وردت في القرآن.

قلت له: الحدود وُضعت للردع، ولعقاب من يقصد الإفساد في الأرض، بدليل أنها تُعطَّل في حالات القتل الخطأ أو السرقة بسبب الجوع والحاجة الشديدة، وهي في الأساس لحماية المجتمع، ومنها ما هو موجود أصلاً في القانون الفرنسي كحد الإعدام.

قال: وهل حقًا موجود حكم الإعدام في القانون الفرنسي؟

قلت له: نعم، وموجود في كثير من القوانين الوضعية في دول أخرى.

قلت له: تخيل نفسك تعود لمنزلك وتجد أفراد أسرتك قد قُتلوا على يد أحدهم بهدف السرقة أو الانتقام مثلاً، وجاءت السلطات لتقبض عليه وتحكم عليه بالسجن لمدة معينة، طويلة كانت أو قصيرة، يأكل فيها وينتفع بالخدمات الموجودة في السجون، والتي تساهم بتوفيرها أنت بنفسك عن طريق دفع الضرائب.

قلت له مستطردة: ماذا سوف تكون ردة فعلك في هذه اللحظة؟ سوف ينتهي بك الأمر للجنون، أو الإدمان على المخدرات لتنسى آلامك. إن الموقف نفسه لو حدث في دولة تُطبق الشريعة الإسلامية سوف يكون تصرف السلطات مختلفًا، سوف يأتون بالمجرم إلى أهل المجني عليهم لإعطاء القرار في شأن هذا الجاني، إما أن يأخذوا بالقصاص وهو العدل بعينه، أو دفع الدِّية وهي المال الواجب على الجاني بسبب قتل آدمي حُر عوضًا عن دمه، أو العفو، والعفو أفضل كما جاء في القرآن الكريم.

“…وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”[21] .

قلت له مسترسلة: عدد آيات القرآن الكريم 6348 آية، وآيات الحدود لا تتجاوز العشر الآيات، والتي وُضعت بحكمة بالغة من لدن حكيم خبير. هل تخسر فرصة الاستمتاع بقراءة وتطبيق هذا المنهج الذي تعتبره أنت فريد من نوعه، فقط لأنك تجهل الحكمة من وراء عشر آيات؟

التوازن في الاقتصاد:

وأذكر أن سألني أحد اللاتينيين المهتمين بالاقتصاد عن الفرق بين النظام الاقتصادي في الإسلام والرأسمالية والاشتراكية.

قلت له: بخصوص حرية التملك في الرأسمالية فالملكية الخاصة هي المبدأ العام، أما في الاشتراكية فالملكية العامة هي المبدأ العام. أما الإسلام فقد سمح بملكيات ذات أشكال متنوعة:

الملكية العامة: وهي عامة لمجموع المسلمين مثل الأراضي العامرة.

ملكية الدولة: الثروات الطبيعية من غابات ومعادن.

ملكية خاصة: تكتسب فقط عن طريق العمل الاستثماري بما لا يُهدد التوازن العام.

قال: وماذا بخصوص الحرية الاقتصادية؟

قلت له: في الرأسمالية تُترك الحرية الاقتصادية بلا حدود. أما في الاشتراكية فمصادرة الحرية الاقتصادية تمامًا. أما في الإسلام يُعترف بالحرية الاقتصادية في نطاق محدود يتمثل في:

التحديد الذاتي النابع من أعماق النفس بناءً على التربية الإسلامية، وانتشار المفاهيم الإسلامية في المجتمع والتحديد الموضوعي الذي يتمثل بالتشريعات المحددة التي تمنع أعمالاً محددة مثل: الغش، والمَيسِر، والرِّبا، وغيرها.

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”[22].

“وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّـهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ”[23].

“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ”[24].

قال: الدين كالأفيون، يتعاطاه الفقراء والمضطهدين لقبول الظلم والمعاناة، ويتركهم يحلمون بالجنة والآخرة، ليُعطي الفرصة للأغنياء للاستحواذ على الثروات مما تسبب بتخلف وفقر المسلمين، وغيرهم من المتدينين.

قلت له: المجتمعات البشرية لم تشهد الفقر والظلم الاجتماعي بسبب إيمانها أو حتى قلة الموارد لديها، ولكن بسبب بعدها عن دينها وسوء توزيع مواردها، فالفقر المدقع لا يظهر إلا بسبب الغنى الفاحش.

إنه في حين ساد الاعتقاد في الرأسمالية بعدم قدرة الموارد الطبيعية على تلبية احتياجات الإنسان المتجددة، وتحدثت الاشتراكية بوجود التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات التوزيع، كان قد بيَّن الإسلام أن الله تعالى خلق للبشرية من الثروات الطبيعية ما يُلبيِّ احتياجاتها جميعًا دون قصور ونفاد. وأن المشكلة تكمن في الإنسان ذاته بعدم استخدامه للثروات الطبيعية بشكل سليم، وعدم التزامه بعدالة التوزيع.

قلت له مستطردة: الواقع هو أن الدين التزام ومسؤولية، إنه يجعل الضمير متيقظًا، ويحث المؤمن على محاسبة نفسه في كل صغيرة وكبيرة، المؤمن مسؤول عن نفسه وأسرته وجاره وحتى عن عابر السبيل، وهو يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله، ولا أظن أن هذه من صفات مدمني الأفيون.

قلت له: أفيون الشعوب الحقيقي هو الإلحاد وليس الإيمان.

ضحك وقال: لماذا؟

قلت له: لأن الإلحاد يدعو أتباعه للمادية وتهميش علاقتهم مع خالقهم برفضهم للدين والتخلي عن المسؤوليات والواجبات، وحثهم على الاستمتاع باللحظة التي يعيشونها، بغض النظر عن العواقب، فيفعلوا ما يحلو لهم، معتقدين بعدم وجود رقيب أو حسيب، ولا بعث أو حساب.

وسألته مباشرة: أليس هذا وصف للمدمنين حقًا؟

قال: نعم صحيح.

قال: وكيف حقق الإسلام التوازن الاجتماعي؟

قلت له: إن من القواعد العامة في الإسلام أن المال مال الله والناس مستخلفون فيه، وألا تكون الأموال دُوَلة بين الأغنياء، ويَمنع الإسلام كنز المال بدون إنفاق نسبة بسيطة منه للفقراء والمساكين عن طريق الزكاة، وهي عبادة تساعد الإنسان على تغليب صفات البذل والعطاء على نوازع الشح والبخل.

” مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “[25].

” آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ”[26].

“…الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ “[27].

كما ويحث الإسلام على العمل لكل قادر.

” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ “[28].

وحرَّم الإسلام الإسراف وارتفع بمستوى الأفراد لضبط مستوى المعيشة، على أن مفهوم الإسلام للغنى ليس تلبية للحاجات الضرورية فقط بل أن يملك الإنسان ما يأكل ويلبس ويسكن ويتزوج ويحج ويتصدق أيضًا.

“وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”[29].

فالفقير في نظر الإسلام هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة ما يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية وحسب مستوى المعيشة في بلده، وبقدر ما يتسع مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر، فإذا كان المتعارف عليه في مجتمع ما حيازة كل عائلة على منزل مستقل بها مثلاً، أصبح عدم حصول أسرة معينة على منزل مستقل بها يُعتبر لونًا من ألوان الفقر، وعلى هذا فالتوازن يعني إغناء كل فرد (مسلمًا كان أم ذميًا) بالقدر الذي يتناسب وإمكانيات المجتمع في ذلك الوقت.

ويضمن الإسلام تلبية حاجات جميع أفراد المجتمع، ويتحقق ذلك من خلال التكافل العام، فالمسلم أخو المسلم وكفالته واجبة عليه.

قال النبي عليه الصلاة والسلام:

“المسلِمْ أَخو المسِلمْ لا يَظْلِمُه ولا يُسْلِمه، ومَن كان في حاجِةِ أخيهِ كان الله في حاجتِه، ومَنْ فرَّج عَنْ مُسلِمٍ كُربةَ فرَّج الله عَنه كُربَةَ مِن كُرُباتِ يومِ القِيامة، ومَن سَتَر مُسلماً ستره الله يَومَ القيامة” [30].

أذكر هنا قصة جميلة أيضا لزائرة كولومبية قد جاءت مع أبنائها المراهقين وصديقتها لزيارة المركز، وللأسف جاؤوا في وقت متأخر جدًا، حيث كانت نهاية الدوام ولم أتمكن من الإجابة على جميع أسئلتهم، وقد شرحت ما بوسعي خلال خمس عشرة دقيقة، لكنني شعرت أن السيدة الكولومبية تُخفي أمرًا. في صباح اليوم التالي عادت السيدة وأولادها فقط بدون الصديقة، وقالت لي: إنني مصرة على أن أكمل حواري معك، حيث لديّ أسئلة تمنعني من الإسلام منذ سنوات، وأريد أن أجد إجابة على هذه الأسئلة.

قلت لها: لا تترددي في طرح أي سؤال، أنا جاهزة للرد على أسئلتك، معك اليوم كاملاً.

فقالت: أنا تعرفت على صديقه مسلمة في بلدٍ ما خلال سفري وتنقلي مع زوجي، وأخبرتني أنه في الإسلام ليس علينا أن نذهب إلى طبيب عندما نمرض، يكفي أن ندعو الله فيجيب دعائنا، وأنا لم أقتنع بهذه النقطة أبدًا، وكانت هذه النقطة من النقاط التي منعتني من قبول هذا الدين، فأنا باعتقادي أننا يجب أن نأخذ بالأسباب.

قلت لها: فعلاً للأسف أنتِ تعرفين عن الاسلام أكثر مما تعرفه هذه الأخت المسلمة، وأنها بحاجة لمن يشرح لها دينها، الأخت المسلمة لم تعطيكِ المعلومة الصحيحة، فالإسلام دين عمل في الواقع، والله سبحانه وتعالى يأمرنا بالتوكل وليس بالتواكل، فالتوكل يقتضي العزم وبذل الطاقة والأخذ بالأسباب، ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحُكمه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد أن يترك ناقته سائبة توكلاً على الله:

” اعقِلْها وتَوكَّلْ”[31].

وبهذا يكون المسلم قد حقق التوازن المطلوب.

فرحت الزائرة كثيرًا بإجابتي، وأذكر أنني أمضيت معها يومًا كاملاً في الإجابة على أسئلتها، فقالت في نهاية الحوار: إنها فوجئت قبل ستة سنوات بإسلام زوجها الذي لم يكن يعتنق أي دين من قبل ولم يكن له اهتمامات دينية، والذي أخبرها أنه وجد أجوبة على جميع الأسئلة التي طالما دارت في خلده، وقد دعاها للإسلام، لكنها ترددت، لأنها لا زالت لديها شكوك واستفسارات عن نقاط كثيرة، وأخبرتني أنها ولله الحمد وجدت جميع الإجابات على أسئلتها خلال حواري معها.

إن الاسلام ينظر للحياة كما ينبغي أن تكون، إن ما يتطلع اليه الناس هو دين متوازن يُلبِّي الحاجات الروحية التي لا غنى عنها، ولا يُهمِّش الحاجات المادية للإنسان. الدين يدعو إلى الوسطية، وهو المبدأ الذي شدَّد عليه الدين السماوي الخاتم الذي جاء به خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ليُصحح الخطأ الذي وقعت فيه الأمم السابقة، والذي أدى لتشويه مفهوم الدين وربطه بالروحانيات فقط، وبالتالي أدَّى إلى انتشار الخرافات مما أدَّى إلى صرف الناس عن الدين بالكلية. إضافةً إلى أن الدين أصبح مستغلاً لتحقيق أهداف ومآرب خاصة، ومستخدمًا كوسيلة للضغط على الشعوب، وهذا ما دفع كثير من الدول لاتباع نهج ما يُدعى “العلمانية “، وهو فصل الدين عن الدولة.

وقد نجح الإسلام كمنهج، بينما فشلت الرأسمالية والشيوعية، ولكن ابتعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وعجزهم عن نشر مبادئ الإسلام بصورة صحيحة ساهم في العقود الأخيرة بازدياد نسبة الملحدين والمشككين والحائرين في العالم، وبدأت البشرية تكفر بكل العقائد لجهلها بالدين الصحيح وفساد ما يُعرض عليها من معتقدات.

======================================

[1] (القصص: 77).

[2] (البقرة: 201).

[3] (آل عمران: 110).

[4] (آل عمران: 159).

[5] (النحل: 125).

[6] (الأعراف :31 -33).

[7] (البقرة: 168-169).

[8] (النساء: 119).

[9] (البقرة: 185).

[10] (النساء :28).

[11] (النساء:29).

[12] (البقرة: 195).

[13] (الأعراف: 157).

[14] (صحيح البخاري).

[15] (صحيح البخاري).

[16] (صحيح البخاري).

[17] كتاب إساءة الرأسمالية والشيوعية إلى الله. الأستاذ الدكتور غازي عناية.

[18] نسبه للمطران السرياني يعقوب البرادعي عن النصرانيين الذين ينتمون للكنائس الميافيزية المصرية (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية).

[19] المعتقد الديني النصراني الرافض لمجمع أفسس المعقود سنة 431 م. يُعرف داعمو كيرلس الأول النسطورية بأنها العقيدة القائلة بأن يسوع المسيح مكون من جوهرين يعبر عنهما بالطبيعتين وهما: جوهر إلهي وهو الكلمة، وجوهر إنساني أو بشري وهو يسوع.

[20]https://www.islamweb.net/ar/article/193333/ المستشرقون يؤكدون الإسلام دين ودولة.

[21] (التغابن :14).

[22] (آل عمران:130).

[23] (الروم: 39).

[24] (البقرة:219).

[25] (الحشر: 7).

[26] (الحديد: 7).

[27] (التوبة:34).

[28] (الملك: 15).

[29] (الفرقان: 67).

[30] (صحيح البخاري).

[31] (صحيح الترمذي).

المصدر

الدين القيِّم

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

والذين آمنوا أشد حبًّا لله:

في زيارة لنا لمعلَم من المعالم المميزة في هونغ كونغ، وجدنا الناس تتهافت على الصلاة لتمثال بوذا وتقريب القربات له، ودائمًا ما كان يدور في خاطري كيف أن غواتاما استخدم كلمة “بوذا” بسياق كلمة “نبيّ”، وعنى بذلك الشخص الذي يتم تنويره بالوحي الإلهي. وكان قد قال لأتباعه:” أنا لم أكن أول بوذا ولن أكون آخر بوذا”، وعندما يشعر البوذي بخوف شديد فإنه يلجأ إلى القوة التي في السماء لطلب الإغاثة”[1]. ووسط الازدحام الشديد والأفكار التي تدور في خلدي عن اعتقادات هذه الشعوب، سمعت زوجي يقول بصوت واضح وعالي نسبيًا: لا إله إلا الله. ابتسمت وقلت له: أخفض صوتك فنحن محاطون بالناس، قال لي: صدقيني لا أستطيع اخفاض صوتي، لا أستطيع أن أتمالك نفسي. فقلت في نفسي سبحان من جَبَلَ القلوب السليمة على ذِكره، وتذكرت الآية الكريمة: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ”[2]، وسُعدتُّ كثيرًا.

أمَر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القَيِّم:

إن بالنظر إلى الثقافات والحضارات المختلفة للأمم، واختلاف اللغات والمعتقدات للشعوب، نجد أنه يوجد قواسم مشتركة فيما يتعلق بالقيم والأخلاق والمعاني الإنسانية، كما تتشابه كثيرًا مشاكلنا وتحدياتنا وطموحاتنا. فالشعوب لا تتشارك فقط في القِيم والأخلاق والمعاني الإنسانية، بل وأيضا في الخلفية التاريخية وأصول الدين والعقيدة، فنحن جميعًا نلتقي في آدم ولا بد أن آدم كان له دين ومعتقد واحد. وإن اختلاف الديانات والمعتقدات جاءت من البشر.

وبإمعان النظر في معتقدات الشعوب، نكتشف أن غالبية الأمم التي لديها موروث ديني ولديها رموز دينية مختلفة لا تزال تؤمن بوجود خالق للكون وتلجأ إليه عند الشدائد، مما يؤكد أن هذه الديانات والمعتقدات لها أصول تاريخية نابعة من ديانة أصلية واحدة صحيحة. وأن ما لدى الشعوب الحالية من تراث ديني يحوي بداخله على مبدأ التوحيد والإيمان بإله واحد والتفرد بعبادته، وأن هناك دلائل وشواهد في هذه الديانات والكتب تشير إلى أن جذورها وأصولها ترجع إلى عقيدة التوحيد.

أتذكر عندما كان ابني يقضي وقت الاجازة السنوية في العمل التطوعي في مجال الدعوة إلى الله، وقد كان طالبًا في كلية الهندسة آنذاك. كان قد أخبرني يومًا، أنه في أثناء حواره مع شخص من الديانة الهندوسية قد لفت نظره أن الهندوسي يؤمن بإله واحد أحد، لكنه يلجأ بالتوسل لغير الله، حيث قال له الهندوسي: نحن نشتري آلهتنا حسب إمكانيتنا، فمن لديه المال يشتري إلهًا من ذهب، والفقير يشتري إلهًا من خشب، فتعجب ابني من قوله وسأله: وعند حدوث خلل في الطائرة وتدركون أنكم هالكون لا محالة ماذا تفعلون؟ قال: نلجأ إلى الإله الواحد الذي في السماء. فقال له ابني: إذًا لماذا لا تلجؤوا له كل يوم وفي كل وقت لتتوحد قلوبكم لما فيه خيركم.

تذكرت حين انتهى ابني من سرد القصة قصة عمران بن حُصَين، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه:” يا حُصَين كم تعبد اليوم إلهًا؟ قال الأب: سبعةٌ ستةٌ في الأرض وواحدٌ في السَّماء. قال النبي الكريم: فأيهم تَعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السَّماء. فقال له النبي: فاترك الذين في الأرض واعبد الذين في السماء، فأسلم الحصين”[3].

ففرحت وقلت لابني: سبحان الذي هداك لهذا الجواب.

“فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ” [4].

“… إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”[5].

ولن أنسى إجابة زائرة هندوسية عندما سألتها عن خوفها الشديد مني عندما كنت أكلمها عن المفهوم الحقيقي للإله، قالت: أنا أخاف أن أناقشك لأنكِ قد تكوني أنتِ الله، حيث لديكِ كثير من العلم، فالإله قد يأتي بصورة إنسان أو ربما حيوان ليعلمنا درسًا معينًا، وقد يكون قد أتى في صورتك.

حينها شعرت بمشاعر مختلطة بين الرغبة في الضحك من إجابتها، والحزن على حالها، والتعجب من الحال التي وصل إليها هؤلاء الناس.

قلت لها: عجيب أمرك، أنا لا أستطيع أن أتخيل أبي أو زوجي في صورة حيوان أو أي مخلوق آخر، كيف تقبلين هذا التصور للإله الخالق، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وأتذكر هنا قصة زائر هندوسي كان قد جاء برفقة ابنته وزوجها المسلمَيْن، ودموع ابنته شوقًا لسماع خبر قبول والدها لاعتناق الإسلام لا زالت في ذاكرتي.

كان فعلاً قد قبل عرضًا مني لاعتناق الإسلام عندما أجبته عن سؤال يدور في ذهنه، قال: أنا مقتنع بالإسلام، ولكن أشعر أنني حين أُصبح مسلمًا سوف يكون تصرفي هذا فيه كثير من قلة الاحترام لوالديّ وعدم الوفاء لهما بعد موتهما.

قلت له: وهل نسيت حق خالقك الذي خلقك وصَوَّرك وكرَّمك وأعطاك المال والولد؟ إن كان أبواك قد ألقيا بنفسيهما في البحر ليغرقا، هل كنت سترمي بنفسك؟ مستقبلك مع خالقك وليس مع أبويك. ولو كان لأبويك الفرصة للعودة للحياة لنصحاك بالإسلام.

وكنت قد أكدت قبل نطقه بالشهادة على ضرورة الإيمان باليوم الآخر وترك عقيدة تناسخ الأرواح، وهذه من النقاط الأساسية التي يجب التركيز عليها. وكان قد سألني عن السبب.

قلت له: هل تقبل إدارة أي مدرسة أو جامعة لأيٍّ من تلاميذها أن يُكمل أحدًا عنه الاختبار عند انتهاء الوقت المحدد؟ الحياة هي ورقة اختبارك.

إننا لو تأملنا الانسجام الموجود بين أجساد البشر وأرواحهم لتَبيَّن لنا أنه من غير الممكن جعل هذه الأرواح تسكن في أجساد الحيوانات ولا يمكن لها التجول بين النباتات والحشرات (تناسخ الأرواح) ولا حتى في أشخاص. لقد مَيَّز الله الإنسان بالعقل والمعرفة وجعله خليفة في الأرض، وفضَّله وكرَّمه ورَفع من شأنه على كثير من الخلائق. ومن عدل الخالق وجود يوم القيامة والحساب والجنة والنار، لأن كل الأعمال الصالحة والسيئة سوف تقاس وتُوزن في هذا اليوم.

” فمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ “[6].

ومن القصص الجميلة التي رواها لنا أحد شيوخنا الأفاضل في مجال الدعوة، كانت عن شخص من الديانة الهندوسية والذي كان قد سافر لأول مرة في حياته، وكان قد وضع إلههُ الصغير في حقيبة السفر مع باقي أمتعته الشخصية، وعندما وصلت الطائرة إلى وجهتها ضاعت الحقيبة، وذهب إلى استعلامات المطار ليُبلغ عن فقدانها، وعندما سألوه عن محتويات الحقيبة خجل أن يخبرهم أن إلههُ داخل الحقيبة، وقد كان هذا الموقف المحرِج نقطة انطلاق له للبحث عن الحقيقة وإدراك فداحة ما ارتكبه طول حياته من عبادة ما لا ينفع ولا يضر من دون الله. وانتهى به المآل إلى الإسلام. وعندها أيقن أن فقدانه للحقيبة في ذلك اليوم كان من حُسن حظه وليس كما ظن في البداية.

وإلهكم إلهٌ واحد:

منذ ظهور الإنسان على الأرض – منذ عهد آدم – أرسل رب العالمين الرسل، وكان يختار أكثر الرجال ورعًا وتقوى في قومه ليكون نبيًا وحكمًا بينهم، ولتذكيرهم بإخلاص العبودية لله وحده. وكلما قام الناس بتحريف رسالة الأنبياء السابقين وحادوا عن الطريق السليم وعبدوا غيره، كان الله يُرسل نبيًا جديدًا ليقود الناس ويعيدهم إلى الطريق الصحيح وتوجيههم مرةً أخرى لعبادته وحده.

أرسل الخالق رسالة واحدة إلى جميع الأمم وطريق واحد للخلاص، عبارة عن رسالة واضحة بسيطة وهي: الإيمان بإله واحد، وعبادته وحده. كان وجود النبي في قومه بمثابة المشكاة التي تنير الطريق لأتباعه وتوضح لهم وسيلة الحصول على الخلاص، وذلك باتباع تعاليم هذا النبي وأفعاله بعبادة الخالق وحده، وليس كما يفهم البعض خطأً أن يجعلوا نبيهم وسيط أو إله للتقرب لرب العالمين من خلاله.

كما أن العديد من الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله للأمم المختلفة ذُكرت أسمائهم في القرآن الكريم (مثل المسيح عيسى، موسى، إبراهيم، نوح، داود، سليمان، إسماعيل، إسحق ويوسف، إلخ….)، هناك آخرون لم يُذكروا. فإن احتمالية كون بعض الرموز الدينية في الهندوسية والبوذية (مثل راما، كريشنا، وغواتاما بوذا) أن يكونوا أنبياء أرسلهم الله هي فكرة غير مستبعدة، غير أن هذه الشعوب استخدمت هذه الرموز للشرك بالله. وبينما تتذرَّع بعض الشعوب بأن الله لم يبعث فيهم رسولاً ولا نبيًا كما أرسل النبي محمد للعرب، فيأتي القرآن الكريم ليؤكد عكس ذلك في قوله تعالى:

“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ” [7].

وقوله تعالى:

“إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ”[8].

وهنا تتجلَّى عظمة الإسلام في شموليته وبساطته، فمصطلح الإسلام غير مرتبط بأي شخص أو مكان أو جماعة خاصة، ولكنه يعكس العلاقة مع رب العالمين.

أذكر هنا قصة لمدرس اللغة الفرنسية الكاثوليكي في أفريقيا، أنه قال لي يومًا أمام الطلاب في الفصل- وقد كنت المسلمة الوحيدة بينهم- حيث قال: أنا أحب الإسلام.

قلت له: لماذا؟

قال: المسلمون يعبدون إلهًا واحدًا، ولديهم كتابًا مقدسًا واحدًا، ويصلون باتجاه واحد، فأنا معجب جدًا بهذا الدين.

شعرت حينها بفرحة كبيرة وفخر بهذا الدين العظيم، وكانت هذه اللحظة نقطة انطلاق لي لتكريس وقتي وجهدي لدراسة الطريقة السليمة لعرض الإسلام، وتغيير أسلوب الحوار الدارج بين الدعاة، والذي يُنفِّر من الإسلام أكثر مما يُقرِّب إليه. فالإسلام دين الفطرة، بسيط ومفهوم، ولكن يُعرَض بطريقة معقدة وتكاد تكون خاطئة. وقد أعجبني قول سمعته مرة: أن الإسلام سلعة جيدة ولكن المسوق لها فاشل.

في زيارة لزائر أرجنتيني لمركزنا فاجأني بقوله: أنا معي خمس دقائق فقط هنا، وأريد أن أعرف بثلاث دقائق فقط ما هو الفرق بين النصراني والمسلم قبل أن أخرج لأتمكن بباقي الوقت من التقاط بعض الصور للمسجد.

قلت في نفسي: ماذا عليَّ أن أقول بهذه الدقائق الثلاث، واحترت لوهلة، لكنني شعرت بقوة مفاجئة للرد عليه بسرعة وقلت له: هل لديكم في الأرجنتين من النصارى (المسيحيين) من نشأ في أُسرة نصرانية وتعمَّد، وعندما كبر قال: أنا غير مقتنع بأن الله له ولد، وهو بالنسبة لي واحد أحد والمسيح هو نبيٌ فقط، وأنا ألجأ إلى الله في الدعاء مباشرةً ولا ألجأ إلى المسيح؟

قال لي: نعم، هناك الكثير وأنا واحد منهم.

قلت له: إذًا أنت مسلم دون أن تدري.

فذُهل وقال: عجيب! إذًا فأنا مسلم؟

قلت له: نعم، لكن عليك أن تقبل بمحمد عليه الصلاة والسلام على أنه خاتم رسل الله، لأنك قد سمعت عنه مني هنا.

قال: نعم أقبل، وعقَّب قائلاً: عند دخولي المركز كان أقصى أملي أن أعرف الفرق بين المسلم والنصراني، ولم أكن أتوقع أن أخرج من هذا المكان مسلمًا. شكرًا لكِ أن أنرتِ دربي.

قلت له: الحمد والشكر لله وحده أن هدانا جميعًا لدين الحق.

المنطقي من الله والمعقد من البشر:

سألني يومًا زائرٌ ألماني، وقد كان واحدًا من ضمن مجموعة كبيرة من الألمان الذين يستمعون إلى تعريف بالإسلام كنت ألقيه بنفسي عليهم باللغة الألمانية، قال: إذا كان الإسلام بهذه البساطة والمنطقية كما تقولين، فلماذا يتسبب المسلمون بكل هذه المشاكل السياسية؟

وقد كان هذا السؤال أمام المجموعة وكان عليَّ أن أتدارك الموضوع حتى لا يُفسد هجومه هدوء الحوار.

قلت له فورًا: أنا فقط للعلم سوف أموت وحدي، وسوف أُبعث وحدي، وسوف ألقى الله وحدي، بدون أهلي ومالي. إنني سوف ألقى الله بثلاثة أجوبة لثلاثة أسئلة وهي: من ربك، ما دينك ومن رسولك؟ والله ينتظر مني الإجابة، وهي: أن الله الخالق ربي، وديني هو الإيمان به وعبادته وحده بدون وسيط، ونبيّي محمد خاتم الرسل، وباعترافي بمحمد خاتم الرسل أكون قد آمنت بجميع الرسل الذين سبقوه، وهذا فرض وواجب على كل مسلم.

“قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”[9].

” آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ “[10].

قلت له: وأنتم أيضًا، وكل إنسان على وجه الأرض، سوف يقابل الله وحده، والحياة قصيرة، والموت يداهمنا فجأة، متى سوف نتعلم كيف نفرق بين المشاكل السياسية والدين؟ أما آن الأوان لنتعلم كيف نحدد أولوياتنا؟

فهدأ الرجل وصفقت المجموعة فرحًا بالإجابة.

قلت لهم جميعًا بعد ذلك: أريد أن أسألكم سؤالاً، إنه لمن المعروف أن كل أُمَّة وشعب من الشعوب لديهم عادات، تقاليد، أهواء وبدع.

قلت لهم مسترسلة: شخص بسيط مثلي هنا أو آخر في الصين، أو لديكم في ألمانيا أو في أمريكا الجنوبية أو أفريقيا مثلاً، كيف يستطيع أن يُفرِّق مبدئيًّا بين دين الله البسيط وتقاليد وبِدع شعب المكان الذي هو فيه قبل قراءة أي كتاب ديني؟

أخذوا يحاولون التخمين، وبعد أن فشلوا بإعطائي الجواب الصحيح، قلت لهم: كلكم تعرفون مصطلح يُدعى الفطرة السليمة أو المنطق السليم، فكل ما هو منطقي من الله، وكل ما هو معقد من البشر، وضحكوا جميعًا بشدة، ومنهم من صفق ثانيةً.

قلت لهم: على سبيل المثال، إذا أخبركم رجل دين مسلم أو نصراني أو هندوسي أو من أي ديانة أخرى، أن للكون خالق واحد أحد، ليس له شريك ولا ولد، لا يأتي إلى الأرض بصورة إنسان أو حيوان ولا حجر ولا صنم، وأنه علينا أن نعبده وحده ونلجأ إليه وحده بالشدائد، فهذا فعلاً دين الله، أما إن أخبركم عالِم دين مسلم أو نصراني أو هندوسي الخ، أن الله يتجسد بأي صورة معروفة لدى البشر، ويجب أن نعبده ونلجأ إليه عن طريق أي شخص أو نبي أو قسِّيس أَو قدِّيس، فهذا من البشر، اتركوه.

قلت لهم: إنه يكفي لأن تذهبوا لزيارة للهند مثلاً، وتقولوا بين الجماهير: الخالق الإله واحد، لأجاب الجميع وبصوت واحد: نعم، نعم الخالق واحد. فقلت للمجموعة: وهذا فعلاً ما هو مكتوب في كتبهم[11].

لكنهم يختلفون ويتعاركون وقد يذبح بعضهم البعض على نقطة أساسية وهي: الصورة والهيئة التي يأتي بها الله إلى الأرض. فالهندي النصراني يقول مثلاً: الله واحد، لكنه يتجسد في ثلاثة أقانيم (الآب، الابن والروح القدس)، والهندي الهندوسي منهم من يقول: يأتي الله بصورة حيوان أو إنسان أو صنم.

قلت لهم: لو تفكرون بتعمق لوجدتم أن جميع المشاكل والفروقات بين طوائف الديانات والديانات نفسها هي بسبب الوسطاء التي يتخذها البشر بينهم وبين خالقهم، فمثلاً طوائف الكاثوليكية وطوائف البروتستانت وغيرها، وطوائف الهندوسية، تختلف على كيفية التواصل مع الخالق، وليس على مفهوم وجود الخالق نفسه، فلو عبدوا الله جميعهم مباشرة لتوحدوا.

“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”[12].

قلت لهم مسترسلة: إضافةً إلى ذلك، يجب أن تعرفوا أن دين الله واضح ومنطقي ولا ألغاز فيه. فأنا هنا إن أردت أن أقنعكم بأن محمدًا إله عليكم أن تعبدوه، فعليَّ أن أبذل مجهودًا كبيرًا لكي أقنعكم بهذا، ولن تقتنعوا أبدًا، لأنكم قد تسألوني: كيف يكون محمدًا إله وقد كان يأكل ويشرب مثلنا؟ وقد ينتهي بي المطاف لأقول لكم: أنتم لم تقتنعوا لأنه لغز ومفهوم غامض، سوف تفهموه عند لقاء الله كما يفعل الكثير اليوم في تبريرهم لعبادة المسيح وغيره. وهذا المثال يبرهن على أن دين الله الصحيح لا بد أن يكون خالي من الألغاز، والألغاز لا تأتي إلا من البشر.

قلت لهم مسترسلة: دين الله أيضًا مجاني، فالجميع لديه الحرية في الصلاة والتعبد في بيوت الله دون الحاجة لدفع اشتراكات للحصول على عضوية للتعبد فيها، أما إن كان فُرض عليَّ أن أسجل وأدفع النقود في أيٍّ من دور العبادة للتعبد فهذا من البشر.

أما إن أخبرني رجل الدين أن عليَّ أن أُخرج صدقةً لمساعدة الناس مباشرة فهذا من دين الله.

والناس سواسية كأسنان المشط الواحد في دين الله، فإنه لا فرق بين عربيّ ولا أَعجميّ ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى. فلو أخبروكم أن هذا المسجد أو الكنيسة أو المعبد للأبيض فقط والأسود له مكان منفصل، فهذا من البشر.

قلت لهم: تكريم المرأة والرفع من شأنها هو أمر من الله، لكن قمع المرأة من البشر.

فسأل أحدهم: فلماذا المرأة المسلمة في أفغانستان مقمعة إذًا؟

قلت له: وهل تظن أن المرأة البوذية أو النصرانية في أفغانستان تعيش في الجنة؟

إذا كانت المرأة المسلمة مقمعة في أفغانستان، فالهندوسية أيضًا مقمعة والبوذية والنصرانية هناك، هذه ثقافة شعوب، وليس لها علاقة بدين الله الصحيح في شيء.

قلت لهم معقبة: دين الله الصحيح دائمًا في توافق وتناغم مع الفطرة، فمثلاً، أي مدخن للسيجار أو شارب للخمر يطلب من أولاده دائمًا الابتعاد عن شرب الخمر والتدخين لقناعته العميقة بخطرهما على الصحة والمجتمع.

فعندما يُحرِّم الدين الخمر مثلاً، فهذا بالفعل أمرٌ من أوامر الله، لكن إذا جاء الدين ليحرِّم الحليب على سبيل المثال، فهذا ليس فيه منطق، فالجميع يعلم أن الحليب مفيدٌ للصحة. إن من رحمة الله ولطفه في خلقه أن سمح لنا بأكل الطيبات ونهانا عن أكل الخبائث.

وغطاء الرأس للمرأة والاحتشام للرجال والنساء مثلاً أمرٌ من الله، لكن تفاصيل الألوان والتصاميم من البشر، فالمرأة الصينية الريفية الملحدة والريفية النصرانية السويسرية تلتزم بغطاء الرأس، على أساس أن الاحتشام شيء فطري.

فهكذا نستطيع أن نفرق بين الحق والباطل قبل أن نقرأ أي كتاب ديني.

والإرهاب مثلاَ، منتشر بأشكال كثيرة في العالم بين طوائف جميع الديانات، وقد عشت في أفريقيا لفترة طويلة وأعلم أن هناك طوائف نصرانية في أفريقيا وفي جميع أنحاء العالم تقتل وتمارس أبشع أنواع القمع والعنف باسم الدين وباسم الله، وهم يشكلون 4% من تعداد نصارى العالم. بينما من يمارس الإرهاب باسم الإسلام يشكلون 01, 0% من تعداد المسلمين، وليس هذا فحسب، بل الإرهاب منتشر أيضًا بين طوائف البوذية والهندوسية وغيرها من الديانات الأخرى.

لكن تسليط الضوء بوسائل الإعلام على الأمثلة السيئة من المسلمين والجيدة من غير المسلمين، وإلقاء لقب إرهابي على المسلم الذي يقتل غيره، ولقب مريضًا نفسيًا على غير المسلم الذي يقتل الغير، هذا ما لا نقبله أبدًا.

وهذا ما قلته لصحفي فرنسي أثناء حواري معه بهذا الخصوص، قلت له: أنتم في الإعلام تلعبون دورًا خطيرًا في تشويه صورة الإسلام من خلال حرصكم المتواصل على نقل أخبار هذه الأمثلة السيئة من المسلمين.

فقال: عذرًا، نحن لا ننقل إلا الحقيقة ولا ننقل الأخبار الزائفة.

قلت له: أنا لا أدَّعي أن أخباركم زائفة، أنا أقول: إنكم حين تخصصون زاويةً في مجلاتكم الإخبارية للحديث عن الأمثلة السيئة من المسلمين، عليكم أيضًا أن تخصصوا زاوية أخرى للحديث عن غيرهم، وعندما تُلقبوا القاتل المسلم بالإرهابي، فعليكم أن تُلقبوا القاتل غير المسلم بالإرهابي أيضًا.

قال: كلامك فيه كثير من الصحة.

فأقِم وجهك للدين القَيِّم:

“قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”[13].

“وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ”[14] .

إن الدين هو: مجموعة العلاقات والأخلاقيات والقيم التي تربط الإنسان بخالقه وبالمجتمع من حوله.

أولا: جزء يختص بالعلاقة مع رب العالمين.

ثانيا: جزء يختص بتنظيم العلاقات الإنسانية.

تُشدد الوصايا في الآيات الكريمة أعلاه على المحافظة على الحقوق، وعلى رأسها حق رب العالمين في اخلاص العبودية له، وهي النقطة التي تغطي العلاقة بين الإنسان وخالقه.

ومن ثم حق الوالدين بالإحسان لهما، ومن ثم حق الأولاد في الحصول على حياة كريمة، والنهي عن اقتراف الفواحش أو حتى الاقتراب منها، وعدم قتل النفس البشرية بغير حق والمحافظة على مال اليتيم والقسط في الوزن والمكيال، والعدل عند القول والفعل، والوفاء بالعهود وعلى رأسها العهد مع رب العالمين.

ورغم وجود هذه الوصايا في الديانات الأخرى المنتشرة في العالم، إلا أنه من العجيب أنني قد وجدت من خلال حواراتي مع غير المسلمين أنهم يتذكرون كل الوصايا إلا الوصية الأولى، فعندما أطلب منهم سردها لي فإنهم غالبًا ما يبدؤون من الثالثة، ويُعللون ذلك بأنهم دائمًا ما ينسون الوصية الأولى والوصية الثانية، واللاتي تنصان على أهمية الإيمان بالله وعبادته وحده وعدم الشرك به. وهذا دليل على تجاهل هاتين الوصيتين بصورة متعمدة من قبل رجال الدين والمؤسسات الدينية لكسب فوائد دنيوية وسياسية.

أما فيما يتعلق بطبيعة باقي الوصايا والقوانين الأخلاقية العالمية للدين، فيمكن إيجازها على النحو التالي:

إن مجموعة المبادئ التوجيهية الأخلاقية والتي تقيد السلوك البشري يمكن الإشارة إليها بالضمير الداخلي للإنسان أو الحاكم أو الرقيب الإنساني، ويتم تعزيز هذا الضمير أو الرقيب من خلال التربية والتعليم، ويتم تغذيته بالمعلومات والثقافة من البيئة المحيطة بالإنسان.

وهذه المبادئ فطرية معنوية لا تُشرح ولا تُفسَّر للناس، ولا ينبغي فرضها بالقوة، لأنها جزء من التصرف الفطري للإنسان، وبالتالي فإن الناس مدركون لهذه القيم الأخلاقية بشكل طبيعي وغريزي. فمثلاً الصدق والأمانة هي صفات وفضائل طبيعية، بينما الاحتيال والخداع صفات منبوذة بطبيعتها، ويمكن للمرء بسهولة انتهاك أو تجاوز هذه القواعد والأوامر الأخلاقية لأنها ليست مادية ملموسة، لذلك كان على المجتمع المتحضر أن يضع قواعد اجتماعية يتم المحاسبة عليها من خلال نظام المكافأة والعقوبة، وأي شخص يحاول تقويض هذه القيم يجب أن يُحاسَب ويُحاكَم.

هذه المبادئ الأخلاقية عبارة عن التزامات اجتماعية لا يمكن الاختلاف عليها، أو أن تصبح موضوع استفتاء عام. إنها حقائق اجتماعية لا غنى للمجتمع عنها في محتواها ومعناها، فدائمًا مثلاً ما يُنظر إلى عدم احترام الوالدين أو الكذب على أنه سلوك بغيض، ولا يمكن تبريره على أنه صدق أو احترام.

إن تثبيت وإرساء هذه القيم الأخلاقية كمعايير اجتماعية لا يعني عدم وجود الفجور والشر في هذا العالم. إن الدين واقعي وعملي ولا يوجد فيه أوهام ولا يفترض المثالية، إنه يُقر بوجود الخير والشر كما ويُقر بوجود الحياة والموت.

” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”[15].

جميع هذه المبادئ التوجيهية والأخلاقية مترابطة بشكل قوي وتشكل شبكة كلية من الروابط والصلات لا تسمح بالتفكك أو الانقسام، لأنها تُمثل مسارًا مستقيمًا واحدًا لا يمكن تجزئته.

” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” [16].

إن الالتزام بهذه المبادئ الأخلاقية لا يتطلب قوة أو مهارة من الفرد. إن الإيمان بالخالق واتباع الوصايا الأخلاقية لا يتطلب ذكاءً حادًا، ولا قدرات خاصة، ولا يحتاج المرء أن يكون موهوبًا أو مبدعًا بشكل استثنائي حتى يعرف أن قتل الآخرين هو تصرف خاطئ، والنفور من هذه الخصلة متأصل في الطبيعة البشرية. إن أركان الإسلام ووصاياه لا تحتمل التأويل أو أنصاف الحلول.

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ”[17].

يمكن اعتبار الأخلاق على أنها قانون روحي اجتماعي يُرسي أساس العلاقة بين أعضاء الجنس البشري، ولا شك أنه يُميِّز البشر عن الحيوانات، وهو ساري المفعول بغض النظر عن الهيكل الاقتصادي في المجتمع.

تتميز أخلاق الدين بصلاحيتها على المستوى العالمي، هذه الأخلاق تختلف عن العادات والتقاليد (العُرف). فالأحكام والأخلاقيات والقيم عبارة عن قواعد دقيقة وقوانين ثابتة ومحددة، وهي موجودة منذ عهد نوح وحتى آخر الرسل محمد عليهم الصلاة والسلام على شكل وصايا وهي صالحة لكل زمان ومكان، وتتقاسمها العديد من الثقافات المختلفة في العالم، ويتم التقيد بها بغض النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي أو البيئة الاجتماعية.

وتُعتبر القاسم الإنساني المشترك الذي يوحد الثقافات والأنظمة السياسية، ويوحد العرق والطبقة والجنس. إنها تؤثر بشكل مباشر على السلوك الاجتماعي للفرد عند إضفاء الطابِع التشريعي والقانوني عليها كمواد دستورية أو قوانين محلية. كما يجدر الإشارة هنا أن الديانات دعت أيضًا للأخذ بالعُرف (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو احترام التقاليد والعادات للمجتمع التي لا تتنافى مع القيم والأخلاق العامة. وهو ما اعتاد عليه أغلب الناس أو طائفة منهم وساروا عليه من قول أو فعل، مما لا يخالف شريعة الدين القيِّم.

” … وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ” [18].

سألني ملحدٌ يومًا عن أهمية الالتزام بالأخلاق العالمية تحت مظلة الدين، والذي كان برأيه الاكتفاء بمعاملة الناس بعضهم بعضًا بخُلقٍ حسن دون الإيمان بالله ما دام الغرض من الحياة هو تعمير الأرض، وأنه يوجد كثير من الملحدين ملتزمون تمامًا بالأخلاق الحميدة، ويسعون جاهدين لعمارة الأرض.

قلت له: إن تعمير الأرض والخُلق الحسن ليسا الغاية للدين، لكنهما في الحقيقة وسيلة! فغاية الدين أن يُعرِّف الإنسان بربِّه ثم بمصدر وجود هذا الإنسان وطريقه ومصيره، ولا يتحقق حسن النهاية والمصير إلا بالحصول على رضا رب العالمين، والسبيل إلى ذلك يكون بتعمير الأَرض والخُلق الحسن بشرط أن تكون أفعال العبد ابتغاءً لمرضاته تعالى.

” قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا”[19].

نستنتج مما سبق أن الدين القيِّم هو: الإيمان بأن للكون خالق واحد، وهو الله الواحد الأحد، ودين الله يجب أن يكون واحد، سهل، مفهوم وبسيط، موافق للفطرة البشرية، وصالح لكل زمان ومكان. وهو:

الوحدانية: الإيمان بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد، وأنه هو الخالق والرازق للكون كله وما يحتويه.

العبودية: عبادة الله وحده وعدم الاشراك في عبادته أحدًا أو شيئًا آخر.

الإيمان بالرسل: اتباع الرسل والإيمان بما جاؤوا به (في تلك الفترة). (البشارة بقدوم النبيّ محمد، والحث على إتباعه والإيمان به لمن سمع عنه).[20]

الأخلاق: فعل الخيرات واجتناب السيئات.

“قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”[21].

============================================

[1] (إنجيل بوذا، صفحة 217 -218) “قال أناندا للمبارك: من يعلمنا عندما تذهب؟ فرد المبارك: لست أول بوذا جاء إلى الأرض ولن أكون الأخير. في الوقت المناسب سوف يظهر بوذا آخر في العالم “.

[2] (البقرة: 165).

[3](أخرجه الترمذي).

[4] (العنكبوت: 65).

[5] (يوسف: 40).

[6] (الزلزلة: 7-8).

[7] (غافر: 78).

[8] (فاطر: 24).

[9] (البقرة:136).

[10] (البقرة: 285).

[11] في الهندوسية:

(تشاندوجيا أوبانيشاد 6: 2-1).

“إنه إله واحد فقط ليس له ثاني”.

(فيداس، سفيتا سفاتارا أبانيشاد: 4:19، 4:20، 6: 9).

” الإله لا يوجد آباء ولا سيد”.

” لا يمكن رؤيته، لا أحد يراه بالعين”.

“لا يوجد شبيه له”.

(ياجورفيدا 40: 9).

“يدخلون الظلمة، أولئك الذين يعبدون العناصر الطبيعية (الهواء والماء والنار، إلخ). يغرقون في الظلام، أولئك الذين يعبدون السامبوتي (أشياء مصنوعة باليد مثل الوثن، الحجر، إلخ) “..

في المسيحية (النصرانية):

(إنجيل ماثيو 4: 10).

” حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إِلهك تسجد وإياه وحده تعبد “.

(سفر الخروج 20: 3 – 5).

 “لا يكن لك آلهة أخرى أَمامي. لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إِلهك إِله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأَبناءِ في الجيل الثالث والرابع من مبغضيَّ”.

[12] (آل عمران:64).

[13] (الأنعام:151).

[14] (الأنعام:152).

[15] (الأنبياء:35).

[16] (الأنعام:153).

[17] (آل عمران:102).

[18] (النحل:89).

[19] (الكهف:110).

[20] www.fatensabri.com كتاب المفهوم الحقيقي للإله. فاتن صبري.

[21] (الأنعام: 161).

المصدر

رسالة الإسلام

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

لا يوجد في تعاليم الإسلام ما يقود الناس إلى الإلحاد، لا يوجد في الإسلام ألغاز أو غموض تُربك العقل، الإسلام بسيط ومتين، وتتلخص تعاليمه فيما يلي:

للكون إلهٌ واحدٌ أحد، وهو الله، الخالق للكون وما يحتويه، والذي ليس كمثله شيء، وعلى المسلم عبادة خالقه وحده وذلك بالتواصل معه مباشرةً عند التوبة من ذنب أو طلب المعونة، وليس من خلال قسيس ولا قديس ولا أي وسيط. وأن رب العالمين رحيم بخلقه أكثر من الأم بأولادها، فهو يغفر لهم كلما رجعوا وتابوا إليه. وأنه من حق الخالق أن يُعبَد وحده ومن حق الإنسان أن يكون له صلة مباشرة بربِّه.

الخالق لا يأتِ إلى الأرض بصورة إنسان ولا حيوان ولا حجر ولا صنم، وليس له شريكٌ ولا ولد، وأنه تعالى أرسل الأنبياء والرسل كعيسى المسيح وموسى ومحمد لنشر رسالة التوحيد في العالم. خلق المسيح من غير أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وأمرنا بعبادته بالتوجه إليه وحده كما فعلوا هم، فالمسلم يعبد الله كما عبد المسيح الله ولا يعبد المسيح نفسه، ويعبد الله كما عبد محمد الله ولا يعبد محمد نفسه.

الإيمان بالخالق يقوم على حقيقة أن الأشياء لا تظهر بدون سبب أو بمحض الصدفة، ناهيك عن هذا الكون المادي المأهول الضخم وما فيه من مخلوقات، تمتلك وعيًا غير ملموس وتطيع قوانين الرياضيات غير المادية. وإنه لشرح وجود كون مادي محدود، نحتاج إلى مصدر مستقل غير مادي وأبدي.

الإله الخالق ليس بحاجة لأن يموت من أجل البشر، فهو الذي يمنح الحياة أو يسلبها، لذلك هو لم يمت متجسدًا في المسيح على الصليب كما أنه لم يُبعث. هو الذي حمى وأنقذ رسوله عيسى المسيح من القتل والصلب، كما حمى رسوله إبراهيم من النار، وموسى من فرعون وجنوده، وكما يفعل دومًا مع عباده الصالحين في حمايتهم وحفظهم.

الدرس الذي علمه الله للبشرية عند قبوله توبة آدم بسبب أكله من الشجرة المحرَّمة هو بمثابة أول مغفرة لرب العالمين للبشرية، حيث أنه لا يوجد معنى للخطيئة الموروثة، فلا تزر وازرة وزر أخرى، فكل إنسان يتحمل ذنبه وحده؛ وهذا من رحمة رب العالمين بنا. وأن الإنسان يُولد نقيًّا بلا خطيئة، ويكون مسؤولاً عن أعماله ابتداءً من سن البلوغ.

الإنسان لن يُحاسَب عن ذنب لم يقترفه، كما أنه لن ينال النجاة إلا بإيمانه وعمله الصالح، منح الله الحياة للإنسان وأعطاه الإرادة للامتحان والابتلاء، وهو مسؤول فقط عن تصرفاته. وأن الإنسان يمتلك حرية الاختيار فقط في حدود معرفته وإمكانياته. فالحساب مرهون بوجود المسؤولية وإمكانية الاختيار، فالخالق لن يحاسِب المَرء على شكله ووضعه الاجتماعي. والحرية المحفوفة بالصراع والكفاح أعظم درجة وتكريم للمرء من الإنسان السعيد مسلوب الإرادة، فالحساب والثواب ليس لهما معنى بدون الإرادة.

الايمان بكافة الرسل الذين بعثهم الله للبشر دون تمييز. وأن إنكار أي رسول أو نبي يتعارض مع أساسيات الدين. وأن جميع أنبياء الله بَشَّروا بقدوم خاتم الرسل محمد عيه الصلاة والسلام. كما أن العديد من الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله للأمم المختلفة ذُكرت أسمائهم في القرآن الكريم (مثل نوح، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، موسى، داود، سليمان، المسيح إلخ….)، هناك آخرون لم يُذكروا. فإن احتمالية كون بعض الرموز الدينية في الهندوسية والبوذية (مثل راما، كريشنا، وغواتاما بوذا) قد تعود أصولها لأناس صالحين تم تقديسهم من شعوبهم أو أنبياء أرسلهم الله هي فكرة غير مستبعده. وقد ظهرت الفروقات بين المعتقدات عندما قدَّست الشعوب أنبياءها وعبدتها من دون الله.

الإيمان بالكتب والعهود السابقة التي لم يطرأ عليها أي تحريف أو تغيير، بل ويجعل الإيمان بالرسل والكتب السابقة من أسس الإسلام. ويُكرِّم كافة الرسل والأنبياء ويُبرئهم من التهم والنقائص، ويبرهن على إخلاصهم لرب العالمين ووحدانية الرسالة. علمًا بأن النص الكامل لكتابه (القرآن الكريم) لا يزال بلغته الأصلية (العربية) وبدون أي تغيير أو تحريف أو تبديل، ولا يزال محفوظًا كما هو حتى وقتنا هذا، وسيبقى كذلك، كما وعد رب العالمين بحفظه. وهو متداول بأيدي جميع المسلمين ومحفوظ في صدور الكثير منهم، وأن الترجمات الحالية للقرآن بلغات متعددة والمتداولة بين أيدي الناس، ما هي إلا ترجمة لمعاني القرآن فقط. وتعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأقواله تم نقلها وتوثيقها من خلال سلسلة من الرواة المَوثوقين.

الانسجام المَوجود بين أجساد البشر وأرواحهم يُبيِّن أنه من غير الممكن جعل هذه الأرواح تسكن في أجساد الحيوانات ولا يمكن لها التجول بين النباتات والحشرات (تناسخ الأرواح) ولا حتى في أشخاص.ولقد مَيَّز الله الإنسان بالعقل والمعرفة وجعله خليفةً في الأرض، وفضَّله وكرَّمه ورفع من شأنه على كثير من الخلائق. ومن حكمة وعدل الخالق وجود يوم القيامة الذي سيبعث الله فيه الخلائق ويحاسبهم وحده، ويكون مآلهم إلى الجنة أو النار، وكل الأعمال الصالحة والسيئة سوف تُوزن في هذا اليوم.

دين الله الصحيح دائمًا في توافق وانسجام مع الطبيعة البشرية، وهو دين واحد، سهل، مفهوم، بسيط، وصالح لكل زمانٍ ومكان، وأن تعدد الديانات ناتج عن اتخاذ الوسطاء بين الخالق والمخلوق في العبادة، وعند توجه البشر لعبادة الخالق مباشرة بدون وسيط، والإيمان جميعًا بمحمد خاتم الرسل واتباع شريعته، تتوحد القلوب على دين واحد، وهذا هو مفتاح البشرية نحو التناغم والتواؤم.

فعل الخيرات واجتناب السيئات مثل حق الوالِديْن بالإحسان لهما، ومن ثم حق الأولاد في الحصول على حياة كريمة، والمحافظة على مال اليتيم والقسط في الوزن والمكيال، والعدل في القول والفعل، والوفاء بالعهود، والنهي عن اقتراف الفواحش أو حتى الاقتراب منها، وعدم قتل النفس البشرِية بغير حق. وهي مبادئ فطرية معنوية وبالتالي فإن الناس مُدرِكون لهذه القيم بشكل طبيعي وغريزي.

معاملة الناس بعضهم بعضًا بخُلقٍ حَسن بهدف نفع الإنسانية وتعمير الأرض لا يُغني عن الإيمان بالخالق والالتزام بالأخلاق العالمية تحت مظلة الدين، لأن تعمير الأرض والخُلق الحسن ليسا الغاية للدين، لكنهما في الحقيقة وسيلة. فغاية الدين أن يُعرِّف الإنسان بربِّه، ثم بمصدره هو وطريقه ومصيره، ولا يتحقق حُسن النهاية والمصير إلا بالحصول على رضا رب العالمين، والسبيل إلى ذلك يكون بتعمير الأَرض والخُلق الحَسن.

لا يوجد كهنوت في دين الله والدين للجميع، الناس سواسية كأسنان المِشط أمام الله، فلا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح.

من أحد صفات رب العالمين الحكمة، فهو لا يخلق شيئًا عبثًا بدون غاية أو هدف، فهو خلقنا ليرحمنا ويسعدنا ويعطينا، وكل الصفات البشرية الجميلة مشتقة من صفاته. وأن وجودنا في هذه الدنيا هو لهدف وغاية سامية وهي معرفة الله عز وجل والتوجه إليه بالتوبة والاستعانة به مباشرة.

القاعدة هي الخير والشر هو الاستثناء. فالأشياء المنظمة ستنهار وتتلاشى دائمًا ما لم يجمعها شيء من الخارج، أو أن تكون جيدة على نطاق واسع كما هي دون أن ينظم الخالق هذه الظواهر العشوائية التي تظهر في الأشياء الرائعة مثل الجمال والحكمة والفرح والحب.

الخالق وضع قوانين الطبيعة والسنن التي تحكمها وتصون نفسها بنفسها عند ظهور فساد أو خلل بيئي وتحافظ على وجود هذا التوازن بهدف الإصلاح في الأرض واستمرار الحياة على نحو أفضل. وأن ما ينفع الناس والحياة هو الذي يمكث ويبقى في الأرض. وعندما يقع في الأرض من كوارث يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته كالشافي والحفيظ مثلاً، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، أو اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تمامًا كما يتعرف على جماله من خلال العطايا. فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل.

الذي يقع من ابتلاءات هو إرادة الله، والذي أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، حيث أنه لا يوجد شر مطلق بالوجود، وأن الحياة الدنيا التي يعيشها الإنسان ليست إلا لحظة مقارنة بالحياة الأخرى الأبدية ومن ثم يهون كل ما عاناه في الدنيا بغمسة واحدة في نعيم الجنة. وأن الحياة الدنيا بداية لرحلة أبدية يستأنفها الإنسان بعد الموت بالبعث والحساب ومن ثم الجزاء.

عظمة الدين في شموليته وبساطته، فمصطلح الإسلام غير مرتبط بأي شخص أو مكان أو جماعة خاصة، ولكنه يعكس العلاقة مع رب العالمين.

ومن تعاليمه أيضًا:

دوام التواصل مع رب العالمين عن طريق الصلاة.

تقوية إرادة الإنسان وتَحكُّمه بنفسه وتنمية مشاعر الرحمة والتآلف مع الآخرين عنده بالصيام.

إنفاق نسبة بسيطة من مدخراته للفقراء والمساكين عن طريق الزكاة، وهي عبادة تساعد الإنسان على تغليب صفات البذل والعطاء على نوازع الشُّح والبخل.

التجرد والتفرغ للخالق في وقت ومكان مُعَّين، من خلال أداء مناسك ومشاعر واحدة لكافة المسلمين المقتدرين ماديًا وصحيًا، عن طريق الحج الى مكة، وهي رمز للوحدة في التوجه للخالق على اختلاف الانتماءات البشرية وثقافاتهم ولغاتهم ودرجاتهم وألوانهم.

علاقة الإنسان بخالقه يجب أن تكون أفضل وأقوى من أي علاقة، فلذلك فالمسلم يجب أن يحرص على تطبيق تعاليم الإسلام، وهذه العلاقة هي العلاقة الحقيقية التي ستجلب له الخير كله واحترام الآخرين.

كثيرًا من الناس يمرون بفترة يعتريها الشك والبحث والضياع، ولا يجدون السلام التام والراحة إلا بعد أن يجدوا طريقهم لرب العالمين. تمامًا كطفل ضائع يبحث عن والدته، وعندما يجدها يشعر بالسكينة ويكتشف أن هذا الأمان الذي كان يبحث عنه.

المصدر

ومن يبتغ غير الإسلام دينًا

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

فطرت الله التي فطر الله عليها:

في حوار لي مع أسرة بريطانية تتكون من أب وأم وطفل عمره عشرة أعوام، وأثناء إجابتي عن سؤال الأم عن عقيدة المسلمين، قال الطفل الصغير وقد كان غاية في الجمال والذكاء: إذًا أفهم من كلامك أنه إذا كنت في قاعة الاختبار في مدرستي وصعب عليَّ سؤال، وتوجهت لله مباشرة بالدعاء ولم أتوجه إلى المسيح، فأنا في هذه اللحظة مسلم؟ قلت له: نعم. وتذكرت حينها الآية الكريمة” فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا”[1]، وقد ابتهجت فرحًا بتعليق الطفل، والذي شعرت من إجابته أن الرسالة التي أريد أن أوصلها لهم قد وصلت وبسهولة.

ورحمة ربك خير مما يجمعون:

أذكر قصة لحواري مع لاعب كرة قدم لاتيني شهير مع والدته والطبيب المعالج الذي صاحبه أثناء الزيارة، وبعد اقتناعهم التام بالتوحيد، كان من ضمن ما سألوا هو عن تقصير المسلمين في التعبير عن أنفسهم وعن إبلاغ الدين الصحيح، حيث قال اللاعب: الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول محمد هي عبارة عن سلسة لرسوم مسيئة للمسيح أيضًا ومسيئة للخالق نفسه، فمن يرسم هذه الرسوم هم مجموعة من الملحدين الذين يكرسون وقتهم وجهدهم للاستهزاء بجميع الرموز الدينية لجميع الديانات، فلماذا لا يتظاهر المسلمون غضبًا عندما يُساء إلى الإله الخالق مثلاً أو حتى المسيح ويتظاهرون فقط من أجل الرسول محمد؟ لقد نجم عن هذه التصرفات سوء فهم كبير، حيث أننا بتنا متيقنون أن محمدًا إله المسلمين.

قلت له: هذا صحيح، لكن المسلمين غير مثاليين، هم بشر يخطئون ويصيبون.

قلت لهم معقبة: وأنا نفسي أتعجب جدًا كيف يتواجد أعداد هائلة من المسلمين في أوروبا مثلاً، ولا زال الأوروبي لا يعرف عن دين المسلمين سوى أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصوم فقط، ولا يعرف أركان الإيمان والتي من ضمنها الإيمان بنبوة عيسى المسيح والإيمان بالإنجيل الصحيح.

وفي نهاية الحوار أعلن اللاعب ووالدته وطبيبه إسلامهم وسط أجواء من الفرح والسرور.

وأذكر قصة لمجموعة كبيرة من دولة بنما اللاتينية، وكان باص كبير قد أقلهم إلينا، وجاءوا في وقت متأخر جدًا حيث كان موعد مغادرتي بعد يوم حافل بالعمل، وتبين لي أن المرشدة السياحية التي رافقتهم قد جاءت بهم في وقت متأخر حتى لا تعطيهم فرصة للاستماع للعرض المختصر عن الإسلام لضيق الوقت لديها في جدول برنامجها لذلك اليوم، حيث أخبرتني أن الوقت محدود، وقالت لي مازحة: أنت تبدين متعبة ولم يتبق على أذان المغرب كثير من الوقت، حيث يتوجب عليهم مغادرة قاعة المسجد فورًا.

قلت لها: لا عليك، أنا لست متعبة، وأستطيع أن أُنهي الزيارة قبل أذان المغرب.

وقبلت على مضض، وبدأت أنا بالتحدث إليهم وفوجئت بالجميع يجلس على الأرض وقد انهالوا عليّ بالأسئلة ومن ضمنها الفرق بين دين الإسلام واليهودية والنصرانية ونبوءة سيدنا محمد، وغيرها من الأسئلة.

قلت لهم: دين الإسلام هو دين التوحيد الذي يمارسه الكثير في بلدكم بالفطرة، وهو عبادة الله وحده بدون وسيط، والإيمان بأن المسيح هو أحد رسل الله.

قالوا: ومن هو الله؟

قلت لهم: يستخدم المسيحيون واليهود والمسلمون في الشرق الأوسط كلمة (الله) إشارة إلى الإله، وهي تعني الإله الواحد الحق، إله موسى والمسيح، وقد ذُكرت كلمة الله في النسخة القديمة للعهد القديم 89 مرة [2].

قال أحدهم: أنا قرأت القرآن، لماذا يشير الخالق إلى نفسه بصيغة الجمع ما دام هو واحد أحد وليس ثالوثاً؟

قلت له: استخدام رب العالمين لكلمة “نحن” في التعبير عن ذاته في كثير من آيات القرآن الكريم تُعبِّر عن أنه وحده جامع لصفات الجمال والجلال وتُعبِّر كذلك عن القوة والعظمة في اللغة العربية، وتُسمَّى في اللغة الإنجليزية “نحن الملكية”، حيث يستخدم ضمير الجمع للإشارة لشخص في منصب كبير (كالملك، العاهل أو السلطان)، غير أن القرآن كان دومًا يُشدِّد على وحدانيَّة الله فيما يتعلق بالعبودية.

واشتد غضب المرشدة وهي تواجَه بالرفض منهم كلما طلبت منهم المغادرة لضيق الوقت، ودخل موعد الصلاة ولم يقبلوا الخروج لكثرة الأسئلة، وقد كان التعليق المتداول بينهم: وجدنا الحقيقة، وقد ضاعت سنين عمرنا دون أن نعرفها.

وأذكر أيضًا قصة لفريق كرة سلة مكسيكي، كان لمجموعة من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرين عامًا، لكن مختارون بعناية من طوال القامة، وحضر معهم الطاقم المرافق لهم، وعندما قلت لهم: المسلم هو من يؤمن بإله واحد أحد، ويعبده وحده بدون وسيط، ومحمد رسول، والمسيح رسول، صرخوا بصوت واحد وقالوا: هذا ما نؤمن به، وشهد أكثر من نصف الفريق بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وتهافت الباقي على طلب ترجمة معاني القرآن بالإسبانية وكتيبات للقراءة ومنهم من بكى، وقلت في نفسي: ما الذي قلته لهم حتى يجعلهم متألقين فرحًا؟ أنا لم أتكلم سوى بضع دقائق، فسبحان من جبل القلوب السليمة على الدين السليم.

أذكر أيضًا في لقائي مع سيدة بريطانية في التسعين من عمرها، وهي أرملة لشخصية مرموقة، كانت قد جاءت مع صديقتها البريطانية وسائقها الهندي، وبكت السيدة بمجرد أن بدأت أنا بالكلام، وقالت: أنا أعتقد أن لا إله إلا الله وأن المسيح رسول الله.

وقالت بعدها: أنا أحب زوجي جدًا، وقد مات منذ عشرة أعوام، فإذا أسلمت الآن، ما سيكون مصير زوجي؟ هل سألقاه في الجنة؟

قلت لها: ما كانت عقيدة زوجك في المسيح؟ هل كان يؤمن مثلك أنه نبي أم إله؟

قالت: هل تصدقيني إن قلت لك أنني لا أعرف؟ لقد استمر زواجنا ستين عامًا، ولا أذكر أن تناقشنا بهذا الموضوع، وزاد بكاء السيدة حتى شعرت أنني أتألم من الحزن عليها.

قلت لها: إن الله رحيم بخلقه أكثر من الأم بولدها، وهو يرحم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، لعل زوجك كان منهم، وأمره إلى الله.

وغادرت السيدة المسجد تحت إلحاح من صديقتها، والتي لم يَرُق لها الحوار، ولم تطلب مني السيدة حينها اعتناق الإسلام.

وعادت السيدة بعد حوالي ثلاثة أشهر برفقة حفيدها وصديقته وسائقها الشخصي الذي جاء في المرة السابقة، وسألت موظفات الاستقبال عني، وكنت قد فرحت جدًا لرؤيتها.

قال لي سائقها: هي لم تتوقف عن الحديث عن اللقاء السابق منذ خرجت المرة الماضية، وهي تريد أن تعلن إسلامها، فهي مقتنعة أنه الدين الحق، وبصراحة أنا أيضًا مقتنع بذلك جدًا.

قلت له بعد أن نطقت السيدة بالشهادة: وهل تريد أن تشهد مثلها؟

قال: للأسف مع اقتناعي العميق بهذا الدين، ولكن لا أستطيع أن أغير دين آبائي وأجدادي.

أفنجعل المسلمين كالمجرمين:

سألني ملحدٌ يومًا: لماذا يعذب الله عباده إذا لم يؤمنوا به؟

قلت له: يجب أن نفرق بين الإيمان والتسليم لرب العالمين.

فالحق المطلوب لرب العالمين الذي لا يسع أحد تركه هو التسليم له بالوحدانية وعبادته وحده لا شريك له، وأنه الخالق وحده له الملك والأمر، سواء رضينا أم أبينا وهذا أصل الإيمان، ولا نملك خيارًا آخر، والتي على ضوئها يحاسب الإنسان ويعاقب.

وما يقابل التسليم هو الإجرام.

” أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ”[3].

وأما الظلم فهو جعل شريك أو ند لرب العالمين

“…فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ”[4].

” الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ”[5].

قال: ماذا أخسر لو كفرت بالخالق؟ قلت له:

من كفر بالخالق حاله في الحياة الدنيا:

أكثر الناس حزنًا ولو تظاهر بالفرح[6].

“وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ”[7] .

عند المصيبة فإنه غير مأجور.

“وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا”[8].

إذا أراد شيئًا فلا يجد من يطلب منه.

“لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ”[9].

أقصى أعوانه المخلوقات الضعفاء.

“…وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ.”[10].

إذا أفرحه شيء علم أنه بالموت لن يدوم.

“…وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلَّا مَتَاعٌ”[11].

ولو تعرض لظلم فلا يعتقد أنه سينصره حي قيوم.

“مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ”[12].

فكيف لا ينتحر؟

ومن كفر بالخالق حاله في الحياة الآخرة:

يطلب الأمان فلا يجد.

“وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”[13].

يطلب النجدة من الذين عبدهم من دون الله فيتخلوا عنه.

” وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ۚ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ”[14].

يطلب النعيم فلا يجد.

“وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ”[15].

يطلب الفوز فلا يجد.

” يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّـهِ وَغَرَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ مَأْوَاكُمُ النَّارُ ۖ هِيَ مَوْلَاكُمْ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ “[16].

حتى أنه يطلب الهلاك ليتخلص من العذاب ولا يستطيع.

“وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ”[17].

حتى الشيطان يتخلى عنه.

“وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”[18].

يخلد في النار.

“فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ”[19].

فلو تكلمت الأحجار، ونطقت الأشجار والأطيار، لقالت لا إله إلا الله الملك القهار.

 “لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”[20].

لا إله إلا الله حصن الله ومفتاح الجنة وأمان من العذاب، وهي أفضل الذكر، وليس بينها وبين الله حجاب، وموجبة لشفاعة الرسول.

قال رسول الله: “… أسعَد النَّاس بِشفاعَتي يَوم القِيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصا مِن قَلبهِ أو نَفسهِ”[21].

قال رسول الله: ” وأَفضلُ الذِّكرِ لا إله إلا الله وأَفضلُ الدُّعاء الحَمد الله” [22].

قال: ماذا أكسب لو أسلمت؟

حال المؤمن في الدنيا والآخرة:

لا خوف عليه ولا حزن.

“إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”[23].

وعده الله بالأمان.

“الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ”[24].

وعده الله بالأجر عند المصيبة.

“فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”[25].

“وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ”[26].

يجد من يلجأ إليه في الشدائد.

“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”[27].

وليُّهُ الله رب العالمين.

“اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور…”[28].

يُثاب على صبره في الدنيا والآخرة.

“وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”[29].

” قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”[30].

وعده الله النصر في الدنيا والآخرة.

” إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”[31].

وعده الله النعيم الأبدي.

“وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ”[32].

قال: وكيف أطبق التوحيد في حياتي؟

قلت له: قال رسول الله:

“يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”[33].

إن خفت فقل:

“… حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل” [34] .

“فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ “[35].

وإن مُكر بك فقل:

“… وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” [36].

“فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا”[37].

وإن طلبت الدنيا وزينتها قل:

” …مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ…” [38] .

“فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ “[39].

وإن أصابك غم فقل:

“… لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ “[40]

” فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ” [41].

والإيمان قضية غيبية تقتضي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقبول والرضا بقضاء الله وقدره.

” قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”[42].

الآية الكريمة أعلاه تدلنا على أن الإيمان مرتبة ودرجة أرفع وأسمى وهي الرضا والقبول والقناعة، والإيمان درجات ومراتب يزداد وينقص. فقدرة الإنسان وسعة قلبه على استيعابه للأمور الغيبية تختلف من شخص لآخر، والبشر يتمايزون في سعة إدراكهم لصفات الجمال والجلال ومعرفتهم بربهم.

فلن يعاقب إنسان على قلة إدراكه للغيبيات أو ضيق أفقه، ولكن يؤاخذ الله الإنسان على الحد الأدنى المقبول منه للنجاة من الخلود في النار، ويجب التسليم لله بالوحدانية وأن له الخلق والأمر وعبادته وحده، وبهذا التسليم يغفر الله ما سواه من الذنوب لمن يشاء. ولا خيار آخر أمام الإنسان، فإما الإيمان والفوز وإما الكفر والخسران، إما أن يكون شيء أو لا شيء.

” إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا”[43].

فالإيمان قضية تتعلق بالغيب وتتوقف عندما ينكشف الغيب أو تظهر علامات الساعة.

“… يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ …”[44].

والإنسان إن أراد أن ينتفع من إيمانه بالأعمال الصالحة ويزيد من حسناته فلا بد أن يكون ذلك قبل قيام الساعة وانكشاف الغيب.

أما الإنسان الذي ليس له أعمال صالحة فيجب ألا يخرج من الدنيا إلا وهو مستسلم لله ومسلِّم بقضية الوحدانية، والعبادة له وحده، إذا ما كان يرجو النجاة من الخلود في النار، فالخلود المؤقت قد يقع لبعض أهل المعاصي، وهذا تحت مشيئة الله، إن شاء غفر له وإن شاء أدخله النار.

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ” [45].

والإيمان في دين الإسلام قول وعمل، فهو ليس إيمانًا فقط كما في تعاليم النصرانية اليوم، ولا عملاً فقط كما هو الحال في الإلحاد، ولا تستوي أعمال الإنسان في مرحلة إيمانه بالغيب وصبره مع الإنسان الذي عاين وشاهد وانكشف له الغيب في الآخرة، كما لا يستوي من عمل لله في مرحلة الشدة والضعف وعدم معرفة مصير الإسلام مع من عمل لله والإسلام فيها ظاهر وعزيز وقوي.

” …لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَى ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”[46].

ورب العالمين لا يعاقب بدون سبب، فالإنسان إما يحاسب ويعاقب على تضيع حقوق العباد أو حق رب العالمين عليه كما يلي:

الحق الذي لا يسع أحد تركه للنجاة من الخلود في النار وهو التسليم لرب العالمين بالوحدانية وعبادته وحده لا شريك له، بقول:” أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأشهد أن رسل الله حق وأشهد أن الجنة حق والنار حق”. والقيام بحقها.

عدم الصد عن سبيل الله أو معاونة أو مساندة أي عمل يقصد به الوقوف في وجه الدعوة أو انتشار دين الله والذي هو رسالة التوحيد التي توفر تواصل مباشر بين العبد وخالقه.

عدم هضم أو ضياع حقوق الناس أو ظلمهم.

كف الشر عن الخلق والمخلوقات، وإن تطلب ذلك أن ينأى بنفسه أو يعتزل الناس.

فالإنسان ربما لا تكون له أعمال صالحة كثيرة لكنه لم يضر أحدًا أو ينشغل بأي عمل يسيء لنفسه أو للناس، وشهد لله بالوحدانية، فهذا يُرجى له بذلك النجاة من عذاب النار.

” مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيمًا”[47].

فالبشر يتم تصنيفهم على مراتب ودرجات ابتداءً من أعمالهم في الدنيا في عالم الشهادة وحتى قيام الساعة وانكشاف عالم الغيب وبدء الحساب في الآخرة، فمن الأقوام من يبتليهم الله في الآخرة كما ورد في الحديث الشريف.

فرب العالمين يعاقب الأقوام كلاً حسب أعماله وأفعاله السيئة فإما يعجلها في الدنيا وإما يؤخرها للآخرة، ويتوقف ذلك على مدى فداحة الفعل وإذا ما كان له توبة، ومدى أثره وضرره على الحرث والنسل وسائر المخلوقات والله لا يحب الفساد.

“مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ”[49] .

قال: هذا لأنك وُلدت في أسرة مسلمة فإنك تدافعين عن الإسلام، لو كنت ولدت في أسرة نصرانية لكنت الآن تبشرين بالنصرانية، لا أحد يستطيع أن يغير دين آباءه وأجداده.

قلت له: أنت جعلت الإنسان بذلك تابعًا لغيره، وجزمت أنه لن يترك دين أهله! وسلبت منه حق الاستقلال الفكــري والتمييز بين الحق والباطل وحكرت على طلبه للعلم! وهذا خطأ جسيم، لأنه من حق الإنسان أن يطلب العلم ويبحث في آفاق هذا الكون، فالله سبحانه وتعالى أودع فينا هذه العقول لنستخدمها لا لنعطلهــا، فكل إنسان يتبع دين آباءه دون إعمال للعقل وبلا تفكير وتحليل لهذا الدين فهو بلا شك ظــالم لنفسه محتـقــر لذاتــه، محتقر لهذه النعمة العظيمة التي أودعها الله تعالى فيه ألا وهي العقل.

قلت له مستطردة: فكم من مسلم نشأ في أسرة موحدة وحاد عن الطريق بالشرك بالله، وهناك من نشأ في أسرة مشركة أو نصرانية يؤمن بالتثليث، ورفض هذه العقيدة وقال: لا إله إلا الله.

قلت له: سأروي لك قصة رمزية لتوضيح هذه النقطة، حيث قامت زوجة بطبخ سمكة لزوجها ولكنها قطعت الرأس والذيل قبل أن 0تطبخها، وعندما سألها زوجها: لماذا قطعتِ الرأس والذيل؟ قالت: إن أمي تطهوها بهذه الطريقة، سأل الزوج الأم: لماذا تقطعين الذيل والرأس عندما تطبخين السمك؟ أجابت الأم: إن أمي تطهوها بهذه الطريقة. بعدها سأل الزوج الجدة: لماذا تقطعين الرأس والذيل؟ أجابت: كان قدر الطهي في البيت صغيرًا وكان عليَّ أن أقطع الرأس والذيل لأتمكن من إدخال السمكة في القدر.

الواقع أن كثيرًا من الأحداث السابقة والتي جرت في العصور التي سبقتنا كانت رهينة عصرها وزمنها، ولها أسبابها التي ارتبطت بها ولعل القصة السابقة تعكس ذلك، والواقع أنها كارثة بشرية أن نعيش في زمان ليس بزماننا وأن نقلد أفعال غيرنا دون أن نفكر أو نسأل رغم اختلاف الظروف وتغير الأزمنة.

“…إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ…”[50].

قال: وما مصير من لم تبلغه رسالة الإسلام؟

قلت له: هؤلاء لن يظلمهم الله عز وجل ولكنه سوف يمتحنهم في يوم القيامة.

قال: والبشر الذين لم تحن لهم الفرصة بالتعرف على الاسلام جيدًا؟

قلت له: فهؤلاء ليس لهم عذر، لأنه كما ذكرنا فلا ينبغي لهم التقصير في البحث والتفكير.

وإن حكم الله تعالى عليهم بالعذاب ليس ظلمًا بعد كل هذه الحجج التي أقامها عليهم من العقل والفطرة والرسالات والآيات في الكون وفي أنفسهم، وأقل شيء كان من المفترض عليهم أن يفعلوه مقابل ذلك كله هو أن يعرفوا الله تعالى ويوحدوه كحد أدنى، ولو فعلوا ذلك لنجوا من الخلود في النار ولحققوا السعادة في الدنيا والآخرة، أتعتقد أن هذا صعبًا؟

المشكلة الحقيقية ليست في أن يخطئ الإنسان أو أن يرتكب ذنبًا؛ لأن من طبيعة الإنسان الوقوع في الخطأ، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابين، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكلة هي في التمادي في اقتراف المعاصي والإصرار عليها، والعيب أيضًا هو أن يُنصح الإنسان فلا يسمع النصيحة ولا يعمل بها، وأن يُذكَّر فلا تنفعه الذكرى، وأن يوعَظ فلا يتعظ ولا يعتبر ولا يتوب ولا يستغفر، بل يصر ويولي مستكبرًا.

” وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” [51].

قال: ولماذا لا نعصي الله؟

قلت له: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه واخرج من أرضه، وابحث عن مكان آمن لا يراك الله فيه. وإذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك قل له أخرني حتى أتوب توبةً نصوحًا وأعمل لله عملاً صالحًا، وإذا جاءتك ملائكة العذاب يوم القيامة ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم، قاومهم وامتنع عن الذهاب معهم وخذ بنفسك إلى الجنة، فهل تستطيع فعل ذلك[52] ؟

قال: لا.

قلت له: إنك حين تقتني حيوانًا أليفًا في منزلك فأقصى ما ترجوه منه هو الطاعة، وهذا لأنك اشتريته فقط ولم تخلقه، ولله المثل الأعلى، فما بالك بخالقك وبارئك، ألا يستحق منك الطاعة والعبادة والاستسلام، ونحن مستسلمون رغمًا عنا في هذه الرحلة الدنيوية في كثير من الأمور، قلبنا ينبض، جهازنا الهضمي يعمل، حواسنا تدرك على أكمل وجه، وما علينا إلا أن نُسلِّم لله بباقي أمورنا التي خُيِّرنا فيها لنصل سالمين إلى بر الأمان.

قال: وما هو بر الأمان؟

قلت له: تتلخص نهاية الرحلة ووصول بر الأمان في هذه الآيات.

“وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ” [53].

=================================

[1] (الروم:30).

[2] (سفر التكوين 2:4، سفر دنيال 6:20، الترجمة العبرية والعربية للإنجيل).

[3] (القلم: 35).

[4] (البقرة: 22).

[5] (الأنعام: 82).

[6] من أقوال الشيخ مشاري الخراز.

[7] (طه: 124).

[8] (الفرقان: 23).

[9] (الرعد: 14).

[10] (البقرة: 257).

[11] (الرعد: 26).

[12] (الحج: 15).

[13] (النور: 39).

[14] (القصص: 64).

[15] (الأعراف: 50).

[16] (الحديد:13-15).

[17] (الزخرف: 77).

[18] (إبراهيم: 22).

[19] (هود: 106 -107).

[20] (الحشر: 21).

[21] (صحيح البخاري).

[22] (صحيح الترمذي).

[23] (الأحقاف: 13).

[24] (الأنعام: 82).

[25] (آل عمران: 170).

[26] (البقرة 155 – 157).

[27] (البقرة: 186).

[28] (البقرة: 257).

[29] (النحل: 41).

[30] (الزمر: 10).

[31] (غافر: 51).

[32] (هود: 108).

[33] (رواه الترمذي).

[34] (آل عمران: 173).

[35] (آل عمران: 174).

[36] (غافر:44).

[37] (غافر: 45).

[38] (الكهف:39)

[39] (الكهف: 40).

[40] (الأنبياء:87).

[41] (الأنبياء:88).

[42] (الحجرات: 14).

[43] (النساء: 48).

[44] (الأنعام: 158).

[45] (آل عمران: 102).

[46] (الحديد: 10).

[47] (النساء: 147).

[48] (العنكبوت: 40).

[49] (فصلت: 46).

[50] (الرعد: 11).

[51] (لقمان: 7).

[52] قصة إبراهيم بن أدهم.

[53] (الزمر: 69-74).

المصدر

إنَّ الدين عند الله الإسلام

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة

كُنتم خير أُمة أُخرِجت للناس:

أذكر أن أثنت عليَّ مُدرسة اللغة الألمانية مرةً قائلة: من زرع فيك كل هذه الطاقة في حب العلم وبذل المجهود والمال والصحة في الدراسة والعمل ورعاية أولادك؟ قلت لها: من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك. قالت: عجيب! قمة في الحكمة، أنتم نوع فريد من البشر، فتذكرت حينها الآية الكريمة: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”[1]، وحمدت الله كثيرًا.

قد جاءكم من اللَّه نور وكتاب مبين:

وفي حوار لي مع مجموعة من حملة شهادة الدكتوراه، كانوا قد جاءوا في زيارة لحضور مؤتمر دولي، وأثناء زيارتهم للمسجد سألني أحدهم عن خطيئة آدم، واستهزأ قائلاً: فعلها آدم بسبب حواء وتحملناها نحن مدى الحياة.

قلت له: هذا في عقيدتكم، أما في الإسلام فقد غفر الله لآدم، وعلَّمنا كيف نعود إليه متى أخطأنا على مر الحياة، إنها ليست الخطيئة الأصلية، إنها العفو الأصلي.

” فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”[2] .

 وبذلك فإن النساء لا تتحمل وزر خطيئة آدم، بل حرص الإسلام على رفع شأن المرأة. وقد لعبت المرأة دورًا كبيرًا في كثير من القصص التي ذُكرت في القرآن الكريم، مثل بلقيس ملكة سبأ وقصتها مع النبي سليمان والتي انتهت بإيمانها واسلامها لرب العالمين.

“إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ “[3].

قال: وهل يستطيع أي إنسان أن يصبح مسلمًا؟

قلت له: بالتأكيد.

قال: وكيف ذلك؟

قلت له: كل طفل يولد على فطرته الصحيحة عابدًا لله، فهو دون تدخل الأهل أو المدرسة أو أي جهة دينية يعبد الله مباشرة، حتى سن البلوغ، فيصبح مكلفًا ومحاسبًا على أعماله، فحينها إما أن يأخذ المسيح وسيطًا بينه وبين الله ويصبح نصرانيًا، أو يتخذ بوذا وسيطًا ويصبح بوذيًا، أو كريشنا ويصبح هندوسيًا، أو يتخذ محمدًا وسيطًا ليحيد عن الإسلام تمامًا، أو أن يبقى على دين الفطرة عابدًا لله وحده، وحينها صفقت المجموعة.

قال: لماذا لا يُسمح لغير المسلم دخول مكة؟

قلت له: حتى المسلم الذي يتخذ من محمد عليه الصلاة والسلام وسيطًا بينه وبين الله غير مُرحب به في مكة، ويُطلب منه التوقف عن التوسل بالرسول الكريم أو مغادرة المكان.

قال: ألا تجدون ذلك ضد التسامح؟

قلت له: وهل تستطيع شراء الخضار من البنك في بلدك؟

قال: لا.

قلت له: لماذا؟

قال: لأن البنك فقط للمعاملات المالية في حين أن شراء الخضار يكون من المتجر.

قلت له: إذًا فحارس البنك لا يكون غير متسامح عندما يقول لك: هذا المكان للمعاملات المالية، اذهب إلى المتجر لشراء الخضار.

قلت له مستطردة: مكة المكرمة عبارة عن مكان خُصص لعبادة الله وحده بدون وسيط، وهو للعبادة فقط وليس للسياحة، وليس من المنطقي أن يأتي البوذي إلى هذا المكان ويلجأ إلى بوذا بالطلب، ويأتي النصراني ليلجأ إلى المسيح بالطلب، أو حتى المسلم يأتي ليلجأ إلى النبي محمد بالطلب، من أراد أن يعبد غير الله فلا يأتِ إلى بيت الله.

قال أحدهم: لماذا يُرسل الله إلى الناس رسلاً بشرًا مثلهم؟ لماذا لا يُرسل إليهم ملائكة؟

قلت له: إن الذي يناسب البشر هو بشر مثلهم يكلمهم بلغتهم ويكون قدوة لهم، ولو أرسل إليهم ملَكًا رسولاً وفعل ما استصعب عليهم لاحتجوا بأنه مَلَك يستطيع ما لا يستطيعون.

“قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا “[4] .

“وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ”[5].

قال: أنا أؤمن بالله ولا أؤمن برسالة محمد ولا بالمسيح، ولا أؤمن أن الله يرسل رسلاً.

أدركت من تعليقه أنه من الديانة اليهودية، وقلت له: إنك لو عرفت الله تعالى حق المعرفة لعلمت أنه لا يمكن أن يخلق الناس ثم لا يمدهم بما تحتاج إليه أرواحهم من هداية، كما تفضل عليهم بكل ما تحتاجه أجسامهم من طعام وشراب وأرض وهواء وشمس وقمر، بل يتركهم يقعون في التباس وحيرة وقلق، ثم إذا كنت لا تؤمن بأن الله يرسل رسلاً، فكيف تؤمن بموسى؟ من الذي أرسل إليه الكتاب الذي جاء به؟

“وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كثيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ “[6].

قال: وما الدليل على نبوة محمد؟

قلت له: الدليل على صدق نبوته تجدها في سيرته، فقد عُرف رجلاً صادقًا أمينًا، وقد كان أُميًا لا يقرأ ولا يكتب.

“وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ”[7].

وكان الرسول أول من يطبق ما يدعو إليه، ويصدق أقواله بالأفعال، وأنه لم يكن يطلب أجرًا دنيويًا على ما يدعو إليه، فعاش فقيرًا كريمًا رحيمًا متواضعًا، وكان أكثرهم تضحية وأزهدهم فيما عند الناس.

“أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ “[8].

وقدَّم أدلة على صدق نبوته بما أتاه الله من آيات القرآن الكريم الذي جاء بلغتهم وكان من البلاغة والفصاحة ما يجعله يعلو على كلام البشر.

“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كثيرًا “[9].

” أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ “[10].

“فإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”[11].

قال: ما الفرق بين النبي والرسول؟

قلت له: النبي من أُوحي إليه ولم يأتِ برسالة أو منهج جديد، وأما الرسول فيبعثه الله بمنهج وشريعة تناسب قومه، (التوراة، الإنجيل، القرآن، صحف إبراهيم، الزبور).

قال: هل الإمام في الإسلام مثل القسيس في النصرانية؟

قلت له: كلمة إمام تعني من تقدم قومه بالصلاة أو برعاية شؤونهم وقيادتهم، وهي ليست رتبة دينية محصورة في أشخاص معينين، ولا يوجد طبقية في الإسلام، والناس كلهم سواسية كأسنان المشط، والأولى بإمامة الصلاة هو الأكثر حفظًا والعارف بما يلزم معرفته من الأحكام المتعلقة بالصلاة، ومهما حصل الإمام على احترام من المسلمين فإنه في كل الحالات لا يسمع لاعتراف ولا يغفر الذنوب كما هو الحال عند القسيس.

قال: ما الفرق بين الفكر الإسلامي والفلسفة؟

قلت له: الفكر الإسلامي هو مجموعة العلوم والمعارف القائمة على أسس وضوابط إسلامية، وإذا كان مخالفًا لهذه الضوابط فهو فكر غير إسلامي.

والفلسفة في الأصل هي البحث عن الحكمة، وعرفها سقراط بأنها البحث العقلي عن حقائق الأشياء المؤدية إلى الخير، وهي بهذا المعنى أمر حسن، ولكن واقع الفلسفة هو الخوض في علم الكلام، وتحكيم العقل في العقائد ومنها الإلهيات والنبوات والغيبيات وغيرها دون التصديق بالوحي، وهذا يناقض بديهيات العقيدة.

قال: ما الفرق بين الرسول والفيلسوف؟

قلت له: إن معرفة الحقائق القصوى مصدرها الله، والفيلسوف يعتمد على عقله ومنطقه في استنباط الحقائق، وإدخال مفاهيم فلسفية فيها، ويتجاهل محدودية تفكيره كبشر. أما الرسول فتأتيه الحقائق من عند الله عن طريق الوحي. ولا مقارنة بين الرسول والفيلسوف، فعلى الفيلسوف أن يتبع الرسل وليس على الرسل أن تتبع الفيلسوف، فالرسول مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه، والوحي حاكم والعقل محكوم عليه.

قال: وما هو الشرع الجديد؟

قلت له: هو: التشريع الذي يحوي شيئًا جديدًا، لم يكن في التشريع السابق.

“وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ “[12].

قال: الكون هو المصدر الوحيد للمعرفة ولا مكان للوحي.

قلت له: بل كلاهما معًا، الكون والوحي، أي خَلْق الله ووحي الله.

فمصادر العلم عند المسلم هي الكون والوحي، ووسائله هي الحس والعقل، وأما المنهج فيختلف باختلاف نوع العلم ونوع المصدر.

“أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخرة ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “[13].

قال: وما رأي الإسلام في نظرية المعرفة وعقلانية الاعتقاد؟

قلت له: إذا كنت تقصد بنظرية المعرفة بأنه القول المطابق للواقع فهذا ما جاء به الإسلام.

كان بعض العرب يعتقدون أن الرجل الذكي له قلبان، وكان الواحد منهم إذا غضب من زوجته قال لها أنت كأمي، وكان الواحد منهم يتبنى ابن غيره وينسبه إلى نفسه كأنه ولده، كما يفعل الناس الآن في الغرب، فحَكم الله تعالى على كل هذه الدعاوى بأنها مجرد كلام لساني وأنها مخالفة للحق.

“مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ “[14].

” ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ”[15].

وهذا هو الفرق بين الحق والباطل، فالحق يعكس العِلم الحقيقي المطابق للواقع، وأما الباطل فهو وهم.

القرآن الكريم يؤكد على إمكانية اكتساب العِلم بعد ولادة الإنسان.

“وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ “[16].

والحواس كالسمع والبصر مرتبطة كلها بالدماغ، وهي مصدر المدخلات، ويقوم العقل بعملية تفكيك هذه المدخلات (عملية التعقل)، فتنتج الفكرة التي ترتبط بالشعور الذي يدفع الإنسان إلى سلوك مُعيَّن، والعقل هو الذي يحول المادة الآتية عن طريق الحواس إلى أشياء لها معنى بالنسبة للإنسان، ويعرض العقل على القلب الأفكار والخواطر والتي بضوئها تنفعل له عضلة القلب، ويقوم بدوره بالتصديق عليها. ويمكن تشبيه ذلك ببطارية موجودة في جوف الدماغ ومربوطة بسلك عصبي بمصباح موجود في عضلة القلب، فالمصباح يضيء من هذه البطارية التي في الدماغ، ولذلك نرى في القرآن الكريم قول الله تعالى:

” فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ “[17].

أي أن الضلال في عقل الإنسان يُطفأ نور القلب الذي في الصدر، وهو انعكاس ما في باطن الإنسان من أفكار ضالة.

وأكثر الحواس ارتباطًا بالعقل هو السمع.

 الإنسان يسمع:

أصواتًا للأشياء الطبيعية كالرعد والريح والطيور.

الكلام، وهو أصوات تدل على معاني، ويستعمل القرآن الكريم السمع غالبًا بهذا المعنى.

أما الذي لا يعقل الكلام ولا يستفيد منه فإن القرآن يشبهه بالدابة التي لا تسمع من الكلام إلا الأصوات.

“أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً”[18].

“وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ”[19].

وأما الكلام فمنه ما هو حق ومنه ما هو باطل، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالحس وحده، فلابد أن ينضم إليه العقل فيقرر أولاً ما إذا كان الكلام متناقضًا أم متسقًا، فإذا وجده متناقضًا حكم ببطلانه.

ومع أن الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، لكن عقله يأتي مفطورًا على التوحيد.

فنقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”[20].

نفهم هنا أن:

الإنسان يولد وفي عقله بذرة التوحيد، أي الإقرار بأنه لا إله يستحق أن يُعبد إلا الإله الخالق الواحد.

الإنسان يولد بفطرة لا يناسبها إلا الحقائق والأحكام التي جاء بها الإسلام كمعتقد وسلوك.

“فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ “[21].

ولذلك فإنه لا يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية إلا إذا كان مسلمًا عابدًا لله.

“الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ “[22] .

قال: هل الحقيقة نقيضًا للجمال والفن والثقافة في الإسلام؟

“الحقيقة” في الإسلام صيغت لتتوافق والذوق الجمالي المرهف وتخـاطب فطرة الإنسان، وتشير إلى ما تتحقق به سعادته في الدنيا والآخرة.

 “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ “[23].

إن النص القرآني الكريم يقرن الظواهر الجمالية كلها بضرورة شكر خالقها، كما أن نصوص الحديث الشريف بينت أن المسلم مطالب بإظهار نعم الله عليه بالزينة الظاهرة والباطنة، واعتبرت ذلك من شكر الله ومحبته.

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله جَميلٌ يحُبُّ الجَمال”[24].

والجمال هنا يأخذ مشروعيته من تعاليم الإسلام التي تحض المسلم على أخذ الزينة في كل تفاصيل حياته اليومية، بدايةً من التطهر للصلاة والاهتمام بجمال المظهر والمـلبس والمسكن والمركب، مرورًا بجماليات التواصل والتخاطب، والتوجيهات الـمرتبطة بالمبالغة في التزين في العلاقات الزوجية، وهي علاقة يحيطها الإسلام بهالة من التوصيات الجمـالية التـي لا تغفل تفاصيل الكلمة الجميلة، والنظرة الحانية، وانتهاءً بالآداب المختلفة لقضاء الحاجة والسواك والتطيب وانتقاء الجميل من الثياب، وهي تربية جمالية موجهة وقاصدة، تهدف إلى تشكيل السلوك الجمالي للمسلم، ويتجلى في إبداعه اليومي، ركوعًا وسجودًا، دعاءً وابتهالاً، صيامًا وتهجدًا، كتابةً وتأليفًا، رسماً ونقشًا، بناءً ومعمارًا.

في الواقع مشكلة تناقض الدين مع الجمال هي عبارة عن مشكلة غربية وليست إسلامية، فإن تزعزع القيم الدينية في الغرب والموقف السيء الذي وقفه المفكرون والأدباء والفنانون عامة من التصورات الكنسية وتاريخها قد ساعد على محاولة إقصائها عن الحياة والفكر والفن بصفة عامة، كما حدث بينها وبين السياسة والعِلم.

إن العالـم اليوم في أمسّ الحاجة إلى إنتاجات جمالية تُرجع الإنسان إلى إنسانيته، وتحقق له السعادة التي افتقدها في غمرة انشغالاته المادية، وعدم قدرته على المواءمة بين متطلبات الروح وحاجات الجسد، بعد أن تبلدت أحاسيسه وصار يستهلك كل ما تلفظه وسائل الإعلام من مواد، والتي تصل بيوتنا اليوم، والتي ضيقت وعي الإنسان وجعلته أسيرًا للشاشة الصغيرة في البيت.

يقول “بريجنسكي” مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في كتابه “الانهيار”: “نحن أصبحنا مجتمع إباحة الاستباحة؛ الفرد لدينا استباح كل شيء، ولـم يعد في قاموسه كلمة حرام أو محرم؛ وبهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر، السفينة كلها تغرق ولا يـملك أحد إنقاذها، وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق”.

قال الزائر: الفن والجمال هما مصدر الثقافة.

قلت له: الثقافة هي التي تنتج الفن والجمال لا العكس.

“ويلس” عالـم الأثنوجرافيا الثقافية يقـول:

” إن الحدود بين الفنون وغير الفنون يجب أن يعـاد رسمـها أو إلغاؤها كلية، فمن الضـروري ألا يُكتفى بنقد وجهة النظر القائلة بأن المساهمة في الفن تنتج الثقافة، بل يجب علينا الإعلان عن أن الثقافة هي التي تقوم فعليًّا بإنتاج الفن وليس العكس “.

لقد قدَّمت الفلسفات المختلفة منذ القدم تصوراتها في الفن والجمال، فجاءت هذه التصورات مضطربة متناقضة كما نرى في الأمثلة التالية:

“أفلاطون” يُرجع الجمال إلى المثل الخالد وهو من بقايا ذكريات الروح، ويفسّر ذلك بنظرية المحاكاة.

“أرسطو” نقض نظرية المحاكاة وعالم المثل واهتم بالواقع، وكان الجمال عنده تناسق التكوين.

“بومجارتن” ربط الجمال بالحس والشعور.

“كانط” اعتبر الفن غاية في ذاته.

“جوتييه” يرى أنه لا وجود لشيء جميل حقًا إلا إذا كان لا فائدة له وكلُّ ما هو نافع فهو قبيح.

“فيخته” يرى أن الفن هو تحرير الذات.

الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” يرى أن الجمال هو في التأمل الخالص روحيًا دون أن نمزج به إرادتنا، فألغى إرادة الإنسان [25].

أما الأدب والفن في الإسلام هو الأدب الملتزم التزام صدق ويقين والتزام لغة ودين، وهو تعبير عن قضية أو موضوع بوسيلة طاهرة مباحة، وتوفير المتعة الحلال التي أحلها الله لعباده والأمن والأمان، وليعين الإنسان على الوفاء بعهده مع الله سبحانه وتعالى: عبادةً وأمانةً وخلافةً وعمارةً للأرض بالإيمان والتوحيد. وقد نقل الإسلام الأدب نقلة واسعة جدًا لم يحدث مثلها في التاريخ البشري، فقد نقل اللغة العربية من كونها لغة شعب واحد إلى كونها لغة النبوة الخاتمة، ولغة العبادة لكل مسلم أبد الدهر، عبادة وطاعة لله على امتداد الأرض والزمان.

وتحقق الجمالية الإسلامية في تبليغ رسالة التوحيد إلى العالـم، إفرادا لله بالعبودية، وتنـزيها له عن الشركاء والأنداد.

” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ”[26].

ويتجلى الجمال في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، ثم في نفس الإنسان المؤمن وخُلُقه، ثم في عمله، ثم في كلمته وبيانه: صبرٌ جميل، صفحٌ جميل، سراحٌ جميل، هجرٌ جميل، وغير ذلك، هكذا يمتد الجمال في تصور المؤمن حتى إنه يعيش الجمال الحق في أمره كله، على قدر إيمانه واتصاله بالكون وإدراك جماله، واتصاله بخالق الكون[27].

“لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ “[28].

“وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ “[29].

“وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ” [30].

قال: وكيف نشأت اللغة؟ ألم تنشأ كما يقول العلماء تطورًا عن أصوات القردة؟

أضحكني سؤاله وأجبته بما قرأته يومًا وأعجبني[31]: لقد ثبت أن مَلكَة اللغة مبرمجة فطريًا (جينيًا) في بنية أدمغتنا، وأن لغات العالم جميعها تشترك في نفس القواعد التي تحكمها.

“وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ”[32].

لقد ذكر القرآن الكريم أن الله سبحانه تعالى علم آدم الأسماء كلها.

“وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ “[33].

وتعليم آدم الأسماء يعنى أنه تعلم أن لكل شيء اسمًا، سواء كان شيئًا ماديًا كالماء والسماء، أو شيئًا غير مادي كالألم والضوء، أو معنىً مجردًا كالحرية والسعادة، وهذا ما يُسمى بالترميز. والقدرة على الترميز من أرقى الملَكات العقلية الإنسانية التى لا يمارسها سواه، وتُعتبر أحد الفروق الجوهرية بين الإنسان وغيره من الكائنات.

” خَلَقَ الإنسان (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ “[34].

والبيان هو صياغة الأفكار بتعقل وتبعًا لقواعد، ويستعمل الإنسان في ذلك الرموز التى أطلقها على الأشياء، كما يستعمل قواعد اللغة المبرمجة في عقله.

“فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ”[35] .

والنطق هو المرحلة التالية في اللغة المنطوقة، ويقوم بها جهاز النطق (الحنجرة والبلعوم والفم) والمراكز المخية المسؤولة عن عمل هذا الجهاز.

ولا يكون لهذه المنظومة فائدة وقيمة بدون مُستقبِل لهذه المعلومات المنطوقة، لذلك خلق الله تعالى لنا السمع.

“قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ “[36].

وتكتمل منظومة اللغة الإنسانية بأن يعقِل الإنسان ما يسمعه ويفهمه.

“… كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”[37].

وقد توصل الطب الحديث إلى أنواع من الخلل الذي يمكن أن يصيب هذه المنظومة، فمن إنسان لا يعقل ما يسمعه، إلى آخر غير قادر على السمع، إلى ثالث غير قادر على النطق، وآخر لا يستطيع صياغة أفكاره، إلى أخير ينظر إلى الشيء ولا يجد له في عقله اسمًا.

قال: وما رأيكم بمفهوم نسبية الزمن الذي توصل إليه آينشتاين عندما قال: “ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، وما دام كل شيء يتحرك فلا بد أن يحمل زمنه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه”؟

قلت له: قد أشار القرآن الكريم إلى نسبية الزمن، وذكر أن هناك يومًا طوله ألف سنة، ويومًا يبلغ طوله خمسين ألف سنة.

“يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ” [38].

” تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ”[39].

والزمن كما يقول آينشتاين ليست له حقيقة منفردة وقائمة بذاتها، وإنما هو من خواص المادة، ولذلك فالكون أشبه ما يكون بكتاب سُجلت فيه الحوادث بدقة، بحيث إن كل حركة أو فعل أو قول مسجل في هذا الكون، وكل ما يتلفظ به الإنسان من يوم ولادته وحتى وفاته يبقى محفوظًا، وهذا ما ذُكر بدقة عجيبة في القرآن الكريم.

” مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ “[40].

ولدينا أيضًا دلالة أخرى على تطرق القرآن الكريم لمفهوم نسبية الزمن.

” وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا “[41] .

وقد ذكر الله تعالى هنا أن أصحاب الكهف لبثوا 300 سنة وازدادوا تسعًا.

وقد سبق القرآن كل علوم الفلك حينما قدر الفترة التي لبثها أهل الكهف بثلاثمئة سنة، والتي تعدل في الوقت نفسه 309 عام، بمعنى أن كل 300 سنة شمسية = 300 × 25, 365 = 109575 يومًا.

300سنة قمرية = 300 × 37, 354 = 106311 يومًا.

الفرق بين التقويمين: 109575-106311 = 3264 يومًا= 9 سنوات.

أي أن 309 عام قمري يقابلها 300 سنة ميلادية بفرق 9 سنوات.

وأيضًا هنا:

إن 300 عامًا على الأرض (109575يوم) تعادل على عطارد = 109575 ÷ 88 (سنة عطارد 88 يومًا أرضيًا) = 1245 سنة.

على الزهرة = 109575÷243 = 451 سنة.

وهكذا يظل الزمن نسبيًا، أما القيمة الحقيقية فلا توجد إلا عند من أحاط بالزمان والمكان وهو الله تعالى.

” قُلِ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ” [42].

ويتطرق القرآن الكريم إلى نسبية الحياة الدنيا أيضًا.

“قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”[43].

“وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ” [44].

“كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ” [45].

قال بعدها: يقول كثير من العلماء إن كل عصر ينبغي أن يكتب التاريخ من وجهة نظره؛ لأن تقدير كل عصر لما هو مهم وذو معنى بالنسبة له يختلف عن تقدير العصر الآخر، فكل عصر يحاول أن يرى الماضي من خلال اهتماماته والأفكار السائدة فيه، فالتاريخ نسبي أيضًا.

قلت له: هذا صحيح ولكنه لا ينفي أن للأحداث حقيقة واحدة شئنا أم أبينا، وتأريخ البشر المعرَّض للتشويه وعدم الدقة للأحداث والقائم على الأهواء ليس كتأريخ رب العالمين لها، والذي هو غاية الدقة ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.

” غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”[46].

تتحدث هذه الآيات عن هزيمة البيزنطيين على أيدي الفرس في معركة أنطاكيا، وقد كان وعدًا للمسلمين أن تنقلب الهزيمة في بضع سنين إلى انتصار للبيزنطيين، وقد كان انتصارهم أمرًا مهمًا للمسلمين، لأنهم كانوا نصارى ويُعدون من أتباع دين سماوي، بينما يُعد الفرس من أتباع الديانة الزرادشتية وهي ديانة وثنية. وقد دارت المعركة في المنطقة المحيطة بالبحر الميت، (في أخدود وادي الأردن)، والحقيقة المثيرة للاهتمام لغير المسلمين والتي اكتشفت مؤخرًا من خلال الأقمار الصناعية والتكنولوجيا الحديثة أن المنطقة المحيطة بالبحر الميت هي الأقل ارتفاعًا على الأرض، وهذه معجزة قرآنية، فلم تكن هذه الحقيقة معروفة أو متوقعة لهم في القرن السابع، حيث لم تكن الأقمار الصناعية والتكنولوجيا الحديثة متاحة في هذا الوقت، التفسير الممكن الوحيد هو أن النبي محمد قد تلقى وحيًا إلهيًا من الله خالق الكون ومبدعه، وبعد حوالي 7 سنوات من نزول الوحي بهذه الآيات، تحقق وعد الله بانتصار الرومان في القرآن بإعجاز.

وقد سبق القرآن الكريم نظرية نسبية التاريخ أيضًا في تدوين الأحداث في لوح محفوظ.

” وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا “[47].

قال: كيف تنظرون لمفهوم التنوير؟

قلت له: يقوم المفهوم الإسلامي للتنوير على قاعدة راسخة من الإيمان والعلم، والتي تجمع بين تنوير العقل وتنوير القلب، بالإيمان بالله أولاً، ثم بالعلم الذي لا ينفصل عن الإيمان.

وقد تم نقل مفهوم التنوير الأوروبي للمجتمعات الإسلامية كغيرها من المفاهيم الغربية الأخرى، والتنوير بالمفهوم الإسلامي لا يعتمد على العقل المجرد غير المهتدي بنور الإيمان، وبالقدر نفسه لا ينفع المرء إيمانه إن لم يستخدم ما وهبه الله من نعمة العقل في التفكير والتدبر والتأمل وتصريف الأمور على الوجه الذي يحقق المصلحة العامة التي تنفع الناس وتمكث في الأرض.

لقد قام المسلمون في القرون الوسطى المظلمة بإعادة نور الحضارة والمدنية الذي كان قد انطفأ في جميع بلاد الغرب والشرق حتى القسطنطينية. وكانت حركة التنوير في أوروبا رد فعل طبيعي على الجبروت التي مارسته السلطات الكنسية ضد العقل والإرادة الإنسانية، وهو وضع لم تعرفه الحضارة الإسلامية.

“اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ “[48].

وبالتأمل في هذه الآيات القرآنية نجد أن الإرادة الإلهية هي التي تتولى إخراج الإنسان من الظلمات، وتلك هي الهداية الربانية للإنسان التي لا تتم إلا بإذن الله، لأن الإنسان الذي يخرجه الله سبحانه من ظلمات الجهل والشرك والخرافة إلى نور الإيمان والعلم والمعرفة الحق هو إنسان منور العقل والبصيرة والوجدان.

وكما أن الله تعالى قد أشار إلى القرآن الكريم بالنور.

“…قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ”[49].

والقرآن الكريم والتوراة والإنجيل الغير محرفة أنزلها الله تعالى على رسله ليخرجوا الناس من الظلمات الى النور، وبذلك جعل الله الهداية مرتبطة بالنور.

“إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ…” [50].

“…وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ” [51].

ولا هداية بلا نور من الله، ولا نور يضئ قلب الإنسان وينير حياته إلا بإذن من الله.

“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ…” [52].

وهنا نلاحظ أن النور يأتي في القرآن مفردًا في كل الحالات، بينما تأتى الظلمات جمعًا، وفي هذا منتهي الدقة في وصف هذه الأحوال [53].

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا:

أذكر أن جاءتني مكالمة من زميل لي في يوم إجازتي لإخباري أن ملاكمًا من أمريكا الجنوبية – خلال مشاركته في مسابقة دولية في الملاكمة- أراد أن يتعرف على الإسلام، وهو غير متفرغ إلا في يوم الجمعة ولا يتكلم الإنجليزية أبدًا، ويريدون من يتحدث الإسبانية للحوار معه.

استشرت زوجي وقال: أننا نستطيع مقابلته سويًا في مكانٍ عام، وفعلاً خرجنا يوم الجمعة وقابلناه في مقهى قريب، برفقة وفد من النادي المستضيف له، وكان قد أعلن إسلامه في نهاية اللقاء.

سألني الشاب من ضمن ما سأل:

هل يوجد في الإسلام قديسين؟

قلت له: لا.

قال: إذًا ليس لديكم أناس صالحين؟ ألا تقدسون صحابة الرسول محمد؟

قلت له: نحن نحذو بحذو الصالحين وصحابة الرسول ونحبهم ونحاول أن نكون صالحين مثلهم، ونعبد الله وحده كما فعلوا هم، ولكن لا نقدسهم ولا نجعل منهم وسيطًا بيننا وبين الله.

قال: أنا مثلاً أحمل قلادة عليها نجمة داوود لأنني أُدعي ديفيد، فهل إذا أسلمت عليَّ أن أخلعها؟

قلت له: بدايةً، النبي داوود عليه السلام من أنبياء الله المكرمين في القرآن كغيره من الأنبياء، وقد برأهم الله في القرآن الكريم من كل التهم التي نسبت إليهم من تحريفات في كتب العهد القديم والجديد. وقد ذكر القرآن الكريم لنا كيف كانت مخلوقات الله تُسبِّح الله مع داوود لجمال صوته.

“وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ”[54].

فالمسلم ليس لديه مشكلة مع أنبياء الله، ولكن المشكلة مع الذين حرفوا دين الله، وجعلوا من هذه النجمة رمزًا سياسيًا.

قال: ما الفرق بين الشيعة والسنة؟

قلت له: محمدًا لم يكن سنيًا ولا شيعيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا، والمسيح لم يكن كاثوليكيًا ولا غيرها، كلاهما عبد الله وحده بلا وسيط، فلم يعبد المسيح نفسه ولم يعبد أمه، وكذلك لم يعبد محمد نفسه ولا ابنته ولا زوج ابنته.

وعندما أشاع قوم في المدينة المنورة أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم ابن النبي، خطب بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال عبارة كانت بمثابة رسالة لكل من يتبنى خرافات لا تُحصى عن كسوف الشمس حتى يومنا هذا. قال بكل وضوح وبيان قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا:

“إنَّ الشَّمسَ والقَمَر آيتانِ مِن آياتِ الله، لا يُخسَفانِ لمِوتِ أحدْ ولا لحِياته، فإِذا رأيتُم ذلكْ، فافزَعوا إلى ذِكر الله والصَّلاة”[55].

وظهور فِرق كثيرة بسبب مشاكل سياسية أو انحرافات عن الدين الصحيح أو غيرها من الأسباب وارد، ولا علاقة له بالدين الصحيح الواضح البسيط، وفي كل الأحوال فإن كلمة “سُنَّة” تعني اتباع منهج الرسول بحذافيره، وتعني كلمة “شيعة” فِرقة من الناس انشقوا عن النهج الذي ينتهجه عامة المسلمين.

“إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ”[56].

ومن أحسن من اللَّه حُكما لقوم يُوقنون:

سأل الشاب مستطرداً: وما معنى الجهاد؟

قلت له: الجهاد يعني مجاهدة النفس في الكف عن المعاصي، جهاد الأم في حملها بتحمل آلام الحمل، اجتهاد الطالب في دراسته، جهاد المدافع عن ماله وعرضه ودينه، حتى المثابرة على العبادات مثل الصوم والصلاة على وقتها تعتبر نوعًا من أنواع الجهاد.

والإسلام يقدر الحياة، فلا يجوز مقاتلة المسالمين والمدنيين كما يجب حماية الممتلكات والأطفال والنساء حتى في أثناء الحروب، كما لا يجوز التشويه أو التمثيل في القتلى فهي ليست من أخلاق الإسلام.

“لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ “[57] .

“مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كثيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” [58].

فغير المسلم هو واحد من أربعة:

مستأمن: وهو الذي أُعطِي الأمان.

“وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ”[59].

معاهَد: وهو الذي عاهده المسلمون على ترك القتال.

 “وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ”[60] .

ذِميّ: الذمة هي العهد، وأهل الذمة هم غير المسلمين الذين تعاقدوا مع المسلمين على اعطاء الجزية والالتزام بشروط معينة مقابل بقائهم على دينهم وتوفير الأمن والحماية لهم. وهو مبلغ بسيط يُدفع على حسب استطاعتهم، ويُؤخذ من المقاتلين دون غيرهم، وهم الرجال الأحرار البالغين الذين يقاتلون دون النساء والأطفال والغير عاقلين. وهذا المبلغ يدفعه هؤلاء المقاتلون وهم صاغرون بمعنى خاضعون للقانون الإلهي. في حين أن الضريبة التي يدفعها الملايين في يومنا هذا تشمل جميع الأفراد وبمبالغ كبيرة مقابل رعاية الدولة لشؤونهم وهم خاضعون لهذا القانون الوضعي.

” قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” [61].

محارِب: وهو من أعلن القتال ضد المسلمين، فهذا لا عهد له ولا ذمة ولا أمان. وهم الذين قال الله تعالى فيهم:

“وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”[62].

وفئة المحاربون هي من يجب مقاتلتها فقط، ولم يأمر الله بالقتل ولكن بالقتال وهناك فرق كبير بينهما، فالقتال هنا بمعنى المواجهة في الحرب بين مقاتل ومقاتل للدفاع عن النفس، أو قتال من أعلن القتال ضد المسلمين ومنع المسلمين من تبليغ عقيدة التوحيد.

“وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”[63].

قال: أليست كلمة كافر تحقيرًا للطرف الآخر؟

قلت له: ألا أُعتبر كافرة بالنسبة للنصراني لأنني لا أؤمن بعقيدة التثليث؟ كلمة كفر تعني إنكار الحق، والحق بالنسبة لي كمسلمة هو التوحيد، وبالنسبة للنصراني هو التثليث.

قال: ولماذا يُكافَأ من يقوم بالعمليات الانتحارية بالحور العين في الإسلام؟

قلت له: إنه من غير المنطقي أن يأمر واهب الحياة من الموهوب إليه أن يزهقها، ويزهق حياة آخرين دون ذنب وهو القائل “ولا تقتلوا أنفسكم”، وغيرها من الآيات التى تنهى عن قتل النفس إلا بوجود مبرر كالقصاص أو دفع العدوان، دون انتهاك للحرمات أو الإقدام على الموت وتعريض النفس للتهلكة لخدمة مصالح جماعات لا علاقة لها بالدين أو بمقاصده، وتبتعد عن سماحة وأخلاق هذا الدين العظيم. ولا يجب أن يُبنى نعيم الجنة على تلك النظرة الضيقة بالحصول على الحور العين فقط، فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. إن معاناة الشباب اليوم من الظروف الاقتصادية وعدم المقدرة على تحصيل الأمور المادية التى تعينه على الزواج، تجعلهم فريسة سهلة للمروجين لهذه الأعمال المشينة، وخصوصًا المدمنين منهم والذين يعانون من اضطرابات نفسية. ولو صدق المروجون لتلك الفكرة لكان الأولى أن يبدؤوا بأنفسهم قبل أن يرسلوا الشباب لهذه المهمة.

نخلُص مما سبق أنه لا نهضة ولا تقدم ولا علم حقيقي إلا بالإسلام، في إطار الفهم الرشيد لوظيفة الدين في الحياة، والموازنة الواعية بين مقتضيات الشرع وبين متطلبات الحياة دون إخلال بقاعدة من قواعد الدين الحنيف، أو تنازل عن ثابت واحد من ثوابت الدين الراسخة. والعقل وحده لم يستطع أن يصل بالذين اعتمدوا عليه الى معرفة كل الحقيقة، بل أدى الى انحرافهم وفساد رأيهم لأنه جزء من حقيقة كاملة لا تكتمل إلا بأمور أخرى، وكذلك أخطأ الذين تجاهلوا العقل والتمسوا المعرفة الباطنية عن طريق الحدس أو الوجدان وحده، ومن هنا جاء اكتمال النظرية الإسلامية للمعرفة، جامعة بين العقل والقلب، وجامعة بين عالم الشهادة وعالم الغيب.

ولقد عرَّف القرآن الناس بخالقهم بكلام لا يجدونه في كتب الفلسفة ولا كتب الديانات الأخرى، وفي إرشادهم إلى الطريق التي يجب أن يعبدوا بها هذا الخالق، وإلى الخُلق الذي ينبغي أن يسلكوه في معاملة بعضهم لبعض، وفي إرشادهم الى ما يسمو بروحهم ونهيهم عما يحط من قدرهم، وزودهم بمنهج حياة متكامل من الاعتقادات والعبادات والأخلاق، إلى النظام الاجتماعي فردًا وأسرة ومجتمعًا، وإلى العلاقات مع غير المسلمين، وذلك بطريقة متوازنة تلبي المتطلبات العقلية، والحاجات الجسدية والروحية.

” …كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ”[64].

=================================

[1] (آل عمران: 110).

[2] (البقرة: 37).

[3] (النمل: 23).

[4] (الإسراء:95).

[5] (الأنعام: 9).

[6] (الأنعام: 91).

[7] (العنكبوت: 48).

[8] (الأنعام: 90).

[9] (النساء: 82).

[10] (هود: 13).

[11] (القصص: 50).

[12] (آل عمران:50).

[13] (العنكبوت: 19-20).

[14] (الأحزاب: 4).

[15] (الحج:62).

[16] (النحل:78).

[17] (الحج:46).

[18] (الفرقان :44).

[19] (البقرة: 171).

[20] (صحيح مسلم).

[21] (الروم: 30).

[22] (الرعد:28).

[23] (الأنعام:162-163).

[24] (صحيح مسلم).

[25] الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته. عدنان بن علي رضا بن محمد النحوي.

[26] (فصلت:33).

[27] الأدب الإسلامي في موضوعاته ومصطلحاته. عدنان بن علي رضا بن محمد النحوي.

[28] (التين: 4ـ 6).

[29] (النحل: 5-6).

[30] (النمل:88).

[31] مقتبس بتصرف من كتاب وهم الإلحاد. دكتور عمرو شريف. طبعة الأزهر نوفمبر/ ديسمبر 2013.

[32] (الروم: 22).

[33] (البقرة :31).

[34] (الرحمن 4:3).

[35] (الذاريات:23).

[36] (الملك:23).

[37] (الروم: 28).

[38] (السجدة:5).

[39] (المعارج:4).

[40] (ق:18).

[41] (الكهف: 25- 26).

[42] (الكهف: 26).

[43] (المؤمنون: 112 -114).

[44] (الروم: 55).

[45] (النازعات: 46).

[46] (الروم: 2-5).

[47] (الإسراء: 13-14).

[48] (البقرة:257).

[49] (المائدة: 15).

[50] (المائدة: 44).

[51] (المائدة: 46).

[52] (النور: 35).

[53] https://www.albayan.ae/five-senses/2001-11-16-1.1129413 من مقال التنوير في الإسلام. د. التويجري.

[54] (سبأ: 10).

[55](صحيح البخاري).

[56] (االأنعام:159).

[57] (الممتحنة: 8-9).

[58] (المائدة: 32).

[59] (التوبة:6).

[60] (التوبة: 12).

[61] (التوبة: 29).

[62] (الأنفال :39).

[63] (البقرة: 190).

[64] (النحل: 81).

المصدر

اﻹسلام: لا تكليف بغير مقدور

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: دين عالمي

قال لي ياباني بوذي يومًا:

تعتمد تعاليم بوذا كليًا على عدم العنف نحو أي مخلوق، ولذلك لا تتبني البوذية مشروع القصاص كالإسلام، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179).

وقال:

تشجع البوذية أتباعها أن يمتنعوا عن إيذاء أو جرح أو قتل المخلوقات الأخرى. وعقاب القاتل لا يكون بالقتل بل بالتأهيل.

قال بوذا: “إذا أساء إليّ أحدٌ من الناس، سوف أرد إساءته بالحب من جانبي. وكل ما كثر الشر من جانبه، كلما كثر حسن النية من جانبي”.

حتى الدفاع عن النفس لا يباح للراهب البوذي أن يقتل. وقد قال بوذا: “حتى لو قطّعك اللصوص عضوًا عضوًا بمنشار ذي شفرتين، فإن فكرت بعقلك أن ترد العدوان، فأنت لم تتبع تعاليمي”.

قلت للسائل:

تخيل نفسك تعود لمنزلك وتجد أفراد أسرتك قد قُتلوا على يد أحدهم بهدف السرقة أو الانتقام مثلاً، وجاءت السلطات لتقبض عليه وتحكم عليه بالسجن لمدة معينة، طويلة كانت أو قصيرة، يأكل فيها وينتفع بالخدمات الموجودة في السجون، والتي تساهم بتوفيرها أنت بنفسك عن طريق دفع الضرائب.

قلت له مستطردة: ماذا سوف تكون ردة فعلك في هذه اللحظة؟ سوف ينتهي بك الأمر للجنون، أو الإدمان على المخدرات لكي تنسى آلامك. إن الموقف نفسه لو حدث في دولة تطبق الشريعة الإسلامية، سوف يكون تصرف السلطات مختلف. سوف يأتون بالمجرم إلى أهل المجني عليهم، لإعطاء القرار في شأن هذا الجاني، إما أن يأخذوا بالقصاص، وهو العدل بعينه، أو دفع الدية وهي المال الواجب بقتل آدمي حرٍّ، عوضًا عن دمه أو العفو، والعفو أفضل كما جاء في القرآن الكريم.

وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (التغابن :14).

…فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ… (البقرة:178).

قلت له:

 بخصوص محبة اﻷعداء فلا تكليف بغير مقدور، حسب الدساتير العالمية.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ … (البقرة:286).

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( التغابن:16).

الخالق يعلم ما يقدر عليه الإنسان لأنه خالقه ويعرف طبيعته.

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك:14).

علميًا فإنه ليس بمقدور الإنسان التحكم في عملية الحب والكره. فلقد فُطر الإنسان على حب من يحسن إليه وعلى كره من يسئ إليه.

هل يحب اﻹنسان من قتل ابنه أو من اعتدى على زوجته؟

قدم لنا اﻹسلام بديلاً منطقيًا لوصايا بوذا وهو:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( المائدة:8).

بمعنى أن لا تحملكم عداوة شخص على ظلمه، بل عاملوا الجميع بالعدل.

فلا يطالبنا اﻹسلام بحب من اعتدى علينا بالظلم، ولكن يطالبنا بعدم ظلمه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( النساء:135).

وكمثال على ذلك، أذكر أنني كنت معجبة بكتاب لشخص ما جدًا وكنت على يقين من الفائدة التي قد تعم على البشر من هذا الكتاب. وقد تعرضت لظلم كبير من هذا الكاتب لدرجة أنني بكيت من شدة الظلم، وجاءني من استغل هذا الموقف واستغل كوني أحد أعضاء لجنة لقبول كتاب هذا الظالم للتكفل بالنشر والتوزيع، وطلب مني أن أُصوت برفض الكتاب.

فتذكرت هذه اﻵية الكريمة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ….

و أعطيت صوتي بقبول الكتاب في الحال. وهذا ما يجعلني فخورة بتعاليم ديني العظيم.

وقال تعالى:

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت:34).

هل جاء الدين ليعيش الإنسان عزيزًا أم ذليلاً؟ الإنسان عزيز بدينه، هل أطبق ديني لأُذل؟

 أوامر الله فيها عز.

قال تعالى:

… وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة:190).

ولكن قبل ذلك دافع عن نفسك ولا تدع أحد يهينك.

والدفاع عن النفس من الحقوق المشروعة عالميًا، ومن قتل غيره بهدف الدفاع عن النفس يكون عقابه مخففًا في هذه القوانين الوضعية.

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ … (البقرة:190).

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران:186).

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( الشورى:40).

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (اﻷعراف:199).

قال السائل:

فعلاً تعاليم دينكم عظيمة ومنطقية.

واستطرد قائلاً:

لقد حذرنا بوذا من سوء النية في طلب الأشياء، وذلك من تمكين اللذات في النفس، فإن الغرض الفاسد يتحكم في طلب الإنسان للأشياء، فلا يصير واضح المقصد بين الغاية؛ لما له من مآرب يطلبها ويسترها، وغايات تدفعه ولا ينالها، ويدفعه إلى الكتمان رغبة نيلها.

قلت له:

وهذا ما قاله خاتم رسل الله محمد تمامًا.

إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ( رواه البخاري ومسلم).

المصدر

العدالة لا المساواة

بقلم: فاتن صبري

Www.fatensabri.com

من كتاب: دين عالمي

في إطار الحديث عن ظلم اللغة للمرأة والمطالبات العالمية بتوحيد الجنس في مجال أسماء الإشارة للذكر والأنثى، قد أقر المسلمون بمساواة المرأة للرجل من الناحية الإنسانية والحقوق الفطرية التي يهدي إليها الدين، إلاّ أنهم كمسلمين وكبشر أيضًا يخالفونهم في المساواة الجسدية والمعنوية.

إذ نؤمن ككلّ فرد واقعي بوجود الفوارق الجسدية التي تقتضي تقسيم العمل بنحو ينسجم مع الفرق بحسب الخلقة.

وإلاّ فإذا نظرنا إلى المساواة في كل شيء، فإن النتيجة ستكون تردي الحالة النفسية والأخلاقية للمرأة حتمًا. التفريق بين الرجل والمرأة يعلي من شأن المرأة ويحفظ كرامتها.

وأذكر هنا حوار لي مع زائرة بوذية كانت قد سألتني قائلة: هل بمقدور المرأة المسلمة أن ترتدي القصير من الثياب؟

قلت لها: المرأة المسلمة من البشر، لا تختلف عن نسائكم، لكنها فطِنة، وتستطيع أن تميز بين الحقوق والواجبات وإعطاء الأولويات، وعمل التوازن في تطبيق هذه المصطلحات، والتي قد عجزت المرأة في جميع أنحاء العالم عن القيام به.

قالت: ماذا تقصدين؟

قلت لها: المرأة المسلمة فهمت مصطلح” الخصوصية ” جيدًا، فعندما أحبت أبيها وأخيها وابنها وزوجها، فهمت أن حب كلاً منهم له خصوصية، فحبها لزوجها وحبها لأبيها أو أخيها يتطلب منها إعطاء كلَّ ذي حق حقه. فحق والدها عليها من الاحترام والبر ليس كحق ابنها من الرعاية والتربية وهكذا.

فهي تفهم جيدًا متى وكيف ولمن تُبدي زينتها، فهي لا ترتدي في لقاءها مع الغريب كما ترتدي مع القريب، ولا تَظهر بنفس الهيئة للجميع.

قلت أيضًا:

 المرأة المسلمة هي امرأة حرة، رفضت أن تكون أسيرة لأهواء غيرها وللموضة، ترتدي ما تراه مناسب لها ويسعدها هي، ويُرضي خالقها، انظري كيف أصبحت المرأة لديكم أسيرةً للموضة ودور الأزياء، إن قالوا مثلاً أن الموضة هذا العام هي لبس البنطال القصير الضيِق، تسارعت المرأة لارتدائه، بغض النظر عن ملاءمته لها أو حتى شعورها بالراحة عند ارتدائه من عَدمِه.

قلت لها مسترسلة:

 إنه لا يخفيكِ وضعها عندما تحولت إلى سلعة، ويكاد لا يخلو إعلان أو منشور من صورة امرأة عارية، مما يُعطي رسالة غير مباشرة للمرأة بقيمتها في هذا العصر.

إن بإخفاء المرأة المسلمة لمفاتن جسمها، تكون هي التي قد أرسلت رسالة للعالم، وهي: أنها إنسانة ذي قيمة، مُكرَّمة من الله، ويجب على من يتعامل معها، أن يحكم على علمها، ثقافتها، قناعاتها وأفكارها، ليس على مفاتن جسمها.

في الولايات المتحدة الأمريكية لا يستطيع اﻷمريكي أو اﻷمريكية تقديم طلب وظيفة بصورة شخصية. يجب أن يكون الطلب خالي من صورة شخصية لتتمكن اللجنة من الحكم على الشخص حسب خبراته وكفائته.

قلت لها أيضًا: والمرأة المسلمة فهمت أيضًا الطبيعة البشرية التي خلق الله الناس عليها، فهي لا تُظهر زينتها للغرباء لحماية المجتمع وحماية نفسها من الأذى، ولا أظنك تنكرين حقيقة أن كل فتاة جميلة مفتخرة بإظهار مفاتنها للعلن، عندما تصل لسن الشيخوخة تتمنى لو أن كل نساء العالم ارتدين الحجاب.

قالت: هذا صحيح.

قلت لها متسائلة: هل قرأتِ عن إحصائيات معدلات الوفاة والتشويه الناجمة عن عمليات التجميل؟ ما الذي دفع المرأة لأن تقاسي كل هذا العذاب؟ لأنهم أجبروها على خوض مسابقة الجمال الجسدي عوضًا عن الجمال الفكري، مما أخسرها قيمتها الحقيقية بل وحياتها أيضًا.

قالت: حسنًا وهل حقق الاسلام للمرأة المساواة مع الرجل؟

قلت لها: المرأة المسلمة تبحث عن العدالة ولا تبحث عن المساواة. مساواتها بالرجل تُفقدها كثيرًا من حقوقها وتميزها.

قالت: وكيف ذلك؟

قلت لها: لنفترض أن لديك ابنان، أحدها يبلغ من العمر 4 سنوات والآخر 12 سنة. وأردتِ شراء بنطال لكلِّ منها، فالمساواة هنا تتحقق في أن تشتري لهما البنطالين بنفس المقاس، مما يتسبب في معاناة أحدهما، لكن العدالة أن تشتري لكل واحد منهما مقاسه المناسب، وبالتالي تتحقق السعادة للجميع.

قلت لها مستطردة: تحاول المرأة في هذا الزمن إثبات أنه بإمكانها أن تفعل كل ما يفعله الرجل. غير أنه في الواقع، المرأة تفقد تفردها وامتيازها في هذه الحالة، فإن الله خلقها لتقوم بما لا يُمكن أن يقوم به الرجل.

لقد ثبت أن آلام الوضع والإنجاب من أكثر الآلام شدةً، وجاء الدين ليعطي المرأة التكريم المطلوب مقابل هذا التعب، ويعطيها الحق بعدم تحملها لمسؤولية النفقة والعمل، أو حتى أن يتقاسم زوجها معها مالها الخاص كما هو الحال لديكم. وفي حين لم يُعطِ الله الرجل القوة على تحمل آلام الولادة، لكن أعطاه القدرة على العمل الشاق مثلاً.

قالت: لكنني أحب أن أعمل أعمالاً شاقة لأثبت جدارتي، وأستطيع فعل ذلك كالرجل تمامًا.

قلت لها: حسنًا، بإمكانك أن تعملي وتكدّي، لكن في النهاية أنتِ من سيضع الأطفال أيضًا، ويقوم برعايتهم وإرضاعهم، فالرجل في كل الأحوال لا يستطيع القيام بهذا، وهذا مجهود مضاعف عليكِ، كان بإمكانك تفاديه.

قالت: وهل أعطاها اﻹسلام حق التعليم؟

قلت لها: جعل اﻹسلام التعليم أمر وليس مجرد حق.

أعطى المرأة أيضًا حق الخُلع، وحرية التصرف في مالها، واﻹحتفاظ بلقب عائلتها بعد الزواج، وهذا الحق ما تفقده كثيرًا من نساء العالم.

مما لا يعرفه الكثيرون، هو أنه إذا أرادت امرأة مسلمة المطالبة بحقوقها من خلال الأمم المتحدة، والتنازل عن حقوقها في الإسلام، فستكون خسارة لها، لأنها تتمتع بحقوق أكثر في الإسلام. فالإسلام يُحقق التكامل الذي خُلق من أجله الرجل والمرأة مما يوفر السعادة للجميع.

سألتني شابة ألمانية عن وضع المرأة المسلمة فقلت لها:

أكدت دراسة بريطانية أعدها مركز ستارش للأبحاث العلمية أجريت مؤخرًا على تصنيف المرأة السعودية والتي تمثل المرأة المسلمة كثالث أجمل إمرأة بعد المرأة المجرية والبولندية[1].

واعتمدت الدراسة في إعلان هذه النتيجة على الرقة التي تتمتع بها الفتاة السعودية، مع احتفاظها بكم مهول من الحياء الذي يبدو جليًا في تصرفاتها، إلى جانب قدرتها الفائقة على التفاعل مع الموضة دون أن يفقدها ذلك شيئًا من حشمتها.

وقدمت في هذا الخصوص قياسات علمية منها، أن كل طلباتها تتم تلبيتها، كما أنها هناك دائمًا من يقوم بخدمتها، إضافة إلى أن لديها مصروفها المخصص الذي يوفر لها من قبل أولياء أمورها دون حاجتها للعمل، كما أنها محاطة بالاهتمام من قبل أفراد أسرتها، ويظل ذلك الاهتمام ملازمها حتى عندما تنتقل إلى بيت زوجها.

ووصف الباحث الفتيات السعوديات اللاتي يتمسكن بالحشمة التي دعا لها دين الإسلام بأنهن (ملكات العالم)، مثبتًا ذلك بقوله «إن الملكة لا تقود السيارة بل هناك شخص ما يتكفل بذلك».

وأضافت الدراسة أن الفتاة السعودية تعتني عناية فائقة بجمالها وحسن مظهرها ورشاقتها.

ويشير كريستوفور جولايل الذي أعد البحث، أن السعوديات متحجبات، ولا يمكن للشمس أن تؤثر على بشرتهن ما يضفي عليها النضارة.

يذكر أن هذه الدراسة البحثية جاءت تحت مسمى “أكثر بنات العالم دلالاً وجمالا”.

وبغض النظر عن تمسك الفتاة السعودية بصورة خاصة أو الفتاة المسلمة عمومًا بهذه الصورة الجميلة من الحشمة والوقار التي وصفها بها التقرير أم لا، لكنه يبقى تمسكها بتعاليم دينها هو الخيار اﻷنسب لها، لأنه من خالقها الذي يعرف طبيعتها وما يناسبها ويعلي من شأنها، وبين ما لا يناسبها ويدني من مقامها.

وأريد أن أضيف هنا أن المرأة المسلمة أيضًا حققت التوازن في علاقتها مع خالقها بعبادته وحده دون أن تشرك بعبادته أحد.

إننا نجد أن كثيرًا من الأمم والحضارات فشلت في تحقيق هذا التوازن. (أمة بوذا عبدت بوذا وتركت القوة التي في السماء “الخالق”، وأمة كرشنا عبدت كرشنا، وهكذا).

على سبيل المثال: بينما رفعت أُمَّة المسيح عليه السلام قدر المسيح وأمه الصديقة مريم إلى درجة الألوهية، كان قد رفض أتباع موسى عليه السلام الاعتراف بالمسيح كرسول، فجاء المسلم وحقق التوازن المطلوب، وآمن بالمسيح واحترمه وقدَّره، وذلك بتصديق رسالته الصحيحة وعبادة الله كما عبده جميع الأنبياء السابقين.

نشرت العديد من المواقع الإخبارية مؤخرًا مأساة فتاة استرالية تبلغ من العمر ٣١ عامًا[2].

وهي تعمل مصممة ملابس سباحة نسائية.

قامت هذه الفتاة بممارسة حريتها المزعومة بنشر صورها بملابس السباحة.

لكن قوبلت صورها على الانستغرام بالسخرية والهجوم الشديد بسبب زيادة واضحة في وزنها، والتي لا تطابق المعايير الغربية للشكل الأمثل للأنثى.

صحيفة ديلي ستار الإنجليزية نشرت الخبر تحت عنوان:

ناشطة على السوشيال ميديا تتحدى المسيئين الذين طالبوا بتغطية جسدها، وكان هذا التحدي عن طريق نشر صورها الحقيقية بملابس السباحة. والتي وُصفت من المسيئين بالصور المقرفة.

وهذه رسالة واضحة من الغرب للمرأة والتي تقول لها: عندما أعطيناكِ الحرية لإظهار جسدك، فإننا نريد أن نرى منظرًا جميلاً بمواصفات ومعايير نضعها بأنفسنا للإستمتاع بها.

الخبر نفسه أوضح أن الفتاة الأسترالية “كارينا” بطلة قصتنا تعتقد أن الناس لديهم فكرة مشوهة عن شكل النساء الحقيقي، وهذا بسبب معايير الجمال الغير طبيعية الموجودة على واجهات المتاجر وفي الأفلام الإباحية.

وقد نشرت مؤخرًا صحيفة الاندبندنت البريطانية أيضًا عن مأساة فتاة أمريكية تبلغ من العمر ٢٧ عامًا[3].

حيث تعرضت لتجربة محرجة عندما تم منعها من ركوب باص حفلات بسبب وزنها.

وتروي قصتها بنفسها حيث تقول أنها شعرت بالإهانة الشديدة عندما تلقت رسالة من المنظمين للحفلة بأن لديهم معايير صارمة فيما يتعلق بالمظهر.

فيتضح لنا جليًا الآن عنصرية الغرب الذي يدعى التحضر والذي يوجه رسالة غير مباشرة للمرأة بقيمتها المتدنية لديه.

وهذا يكشف حقيقة أسطورة المرأة الغربية الحرة.

ويوضح أيضًا أن حرية المرأة الغربية مرتبطة بمتعة الرجل الغربي الذي وضعها للنساء لكي يسيروا عليها تحت مسميات مختلفة.

مثل الموضة والقوام الممشوق والجسد المثير وغيرها من المسميات.

وأذكر هنا تعليق لمُسن ألماني عندما تكلمت معه عن أهمية حجاب المرأة حيث قال:

أنتم تريدون أن تحرمونا نحن الرجال من متعة النظر إلى الجميلات.

قلت له: إذًا أنتم لا تنادون بحرية المرأة، ولكن تنادون بحرية الوصول إلى جسدها.

في الواقع لم يعرف التاريخ أمة كرمت المرأة ورفعت من شأنها مثل الأمة الإسلامية.

==============================

[1] المرأة السعودية الأولى دلالاً والثالثة جمالاً عالميًا. https://www.alarabiya.net/articles/2012%2F04%2F17%2F208336

[2]Daily Star English news paper

 .Influencer defies trolls who tell her to cover up

[3]woman shares ‘embarrassing’ experience being denied entry onto a party bus because of her weight independent news

المصدر

المحكمات: بين ثبات المؤمن وارتباك الملحد

تنعكس النظرة التي نرى بها الكون والإنسان على القرار الوجودي المتعلق بالدين والإلحاد، وينطلق كل من المؤمن والملحد من مجموعة من الأطروحات لإثبات صحة دليله، وصحة ما يعتقد مستخدمًا جميع الأدوات الوصفية والتحليلية وغيرها، كي يصل إلى نتيجة سليمة تصب في قرارته وأحكامه وفلسفة الحياة عنده.

ولأهمية مفهوم المحكمات في بناء كلتا الوجهتين سأطرح في هذا المقال محاولة تبيان المقدرة التفسيرية لكل من الدين والإلحاد لمفهوم المحكمات والثوابت، وضمنًا مفهوم المتشابه حتى تكتمل الصورة.

يعرف الدكتور حاتم العوني المُحكمات بأنها:

“كل ثابت بأدلة يقينية، يكون عاصمًا للفكر من الانحراف لشدة اتقانه وقوة بنائه الفكري، ويكون الخلل فيه سببًا في الخلل في التفكير”[1].

مسوغات التعريف:

1- تشكل الحقيقة (أي مفهوم الحق) أهم محور ومنطلق في حياة البشر، فبدون نظامٍ محكمٍ يقيني لن تستوي المعرفة، ولن تقر أخلاق، ولن يُعرف صحيح من سقيم.

2- القول المضاد لليقين، الذي هو انعدامها أو ما يُسمى نسبية الحقيقة قولٌ يُدخل صاحبه في إشكال عميق، حيث أنه قول متناقض بذاته؛ فلو سألنا هل قولكم (كل شيء نسبي) هذه المقولة التي بين أقواس هل هي يقينية أم نسبية؟ فإن قالوا: يقينية فقد نقضوا مذهبهم لأنهم لا يعترفون باليقين في الأصل، وإن قالوا: نسبية فقد أبطلوا مقولتهم ذاتها!

3- “إن المغالاة في النسبية يقود إلى العدمية، بما يترتب عليه من خسارة فضيلة اليقين ومنزلة الإحسان، والإغراق في الارتياب والحيرة واللاحسم”[2]. ولهذا كان اليقين والحقيقة هما سيدا الموقف، ومنطلق البشر السليم.

– المحكم الكوني (الكون المعد بعناية The Fine Tuned Universe):

هناك مجموعة من الثوابت الكونية تحكم سير عمل الكون، فلو اختلت بمقدار بسيط جدًا يصبح الكون غير صالح للحياة ولا للفهم، وفي هذا الصدد يقول أينشتاين مقولته الشهيرة:

“إن أكثر الأمور غير المفهومة في الكون، أنه قابل للفهم”!

The most incomprehensible thing about the world is that it is comprehensible[3].

1- يقول عالم الأحياء البيولوجية(مايكل دنتون Michael Denton):

“إذا كانت قوة الجاذبية الثقالية مثلاً أقوى تريليون مرة، فالكون سيكون غايةً في الصغر وتاريخ حياته قصيرًا جدًا! فمن أجل نجم متوسط ​​كتلته أقل بتريليون مرة منها للشمس! فلن تمتد حياته لحوالي سنة، ومن ناحية أخرى إذا كانت الجاذبية الثقالية أقل طاقة، فلن تتشكل نجوم ولا مجرات إطلاقاً، وكذلك فإن العلاقات الأخرى والقيم ليست أقل حدّية من ذلك.. فإذا ضعفت القوة القوية بمقدار قليل جدًا فسيكون العنصر الوحيد المستقر هو غاز الهيدروجين، ولن توجد ذرات لعناصر أخرى في هذه الحالة، وإذا كانت أقوى بقليل بعلاقتها مع الكهراطيسية عندئذ: فستحتوي نواة الذرة على بروتونين، وسيكون ذلك مظهرًا لاستقرار الكون عندئذ، وأنه لن يحتوي على غاز الهيدروجين، وإذا تطورت نجوم أو مجرات فيه فسوف تكون مختلفة تماماً عن طبيعتها الحالية.

واضح أنه إذا لم يكن لتلك القوى المختلفة وثوابتها؛ القيم التي أخذتها بالضبط فلن يكون هناك نجوم ولا مستعرات ولا كواكب ولا ذرات ولا حياة”[4].

2- ويقول البروفسور (جيرارد جيلمور Gerard F. Gilmore):

“الطاقة السوداء هي التي تجمع كوننا، ودون هذه الكمية من الطاقة السوداء فإن الشمس ستبتعد عن مجرتنا، وعليه لن يكون هناك حياة”[5].

– المحكم الكوني في خلق الإنسان:

يقول الكاتب العلمي (كارل زيمر Carl Zimmer) في إجابة له على موقع (ناشيونال جيوجرافيك Nationalgeographic) بخصوص عدد الخلايا في جسم الإنسان:

“إن تقدير عدد الخلايا في جسم الإنسان صعب؛ ذلك بسبب موت عدد كبير جداً من الخلايا في كل ثانية، بالإضافة إلى تفاوت أحجام البشر، ويمكن تقريب القول إن في جسم الإنسان الذي يبلغ وزنه 70 كيلو جراما هناك 70 ترليون خلية”[6].

ويقول الدكتور منصور أبو شريعة العبادي في مقاله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون القلب):

“تتفرع الشرايين والأوردة الرئيسية تفرعات كثيرة بحيث يمكنها الوصول إلى جميع خلايا الجسم، وهي أشبه ما تكون بشبكة توزيع المياه في المدن باستخدام الأنابيب أو المواسير التي تبدأ بمواسير كبيرة، قد يزيد قطرها عن المتر، وتنتهي بمواسير قطرها نصف بوصة عند المنازل. ويبلغ معدل مجموع أطوال الأوعية الدموية في جسم الإنسان 97 ألف كيلومتر! وللمقارنة مع شبكات المياه فإن مجموع طول المواسير في شبكة مياه مدينة القاهرة على سبيل المثال يبلغ 20 ألف كيلومتر تؤمن الماء لخمسة عشر مليون نسمة”[7].

فانظر إلى الدقة والإعجاز بين الشرايين والخلايا وهذه الأعداد العظيمة وكيفية الربط المتقن لها، ولهذا تعتبر هذه من المُحكمات الكبرى للحفاظ على حياة الإنسان واستمرار نظامه.

وانظر إلى هذه الدقة الكونية التي تحفظ سير الكون من الدمار، في معادلات (تُحكم) سير الكون، حيث لو اختلت بشكل بسيط جداً يختل نظام الكون كلياً، ويصبح غير قابل للحياة.

– نظرة الملحد للكون والإنسان:

يكثر في نظر الملحد البحث عن الثغرات في النظام الكوني (فساده، العشوائية فيه)، ومثله في جسم الإنسان، يقول التطوري (ستيفن جاي جولد Jay Stephen Gould):

“ما كانت نظرية الانتخاب الطبيعي لتحل محل مذهب الخلق الإلهي لو كان هناك تصميم واضح رائع منتشر في كل الكائنات، لقد فهم تشارلز دارون ذلك فركّز على المعالم التي لم تكن لتوجد في عالمٍ أُسس وفق الحكمة البالغة. وهذا المبدأ ما زال صحيحاً اليوم”[8].

ويكثر كلامهم عن الأعضاء الأثرية والضامرة، وبخصوص الكون يكثر الكلام عن (لماذا كل هذا الكون بكبره لخدمة هذا الإنسان وتسخير كل شيءٍ له، وهو نقطة مهملة لا قيمة لها في الكون؟!.. إلى آخر هذه المتشابهات التي يسوقها الملحد.

وأكبر إشكال عند الملحد أنه يعتقد أن المؤمن لا يُسلم بالفساد من حيث الأصل، وهذا غلط وخلل في تمحيص وجهة النظر الإيمانية.

حيث تنطلق وجهة النظر الإيمانية من باب المُحكم: وهو النظام الدقيق في الكون كما سقت بعض دلائله في أول المقال، وأما ما يتشابه من النظام الكوني أو الخلق الإنساني فنظرة المؤمن ترده للمُحكم، وحتى يستقيم الفكر والعقل وإلا لكان الشاذ هو القاعدة ولما قام حكم عقل قط!

ثمّ إن الصورة عند المؤمن تتكون من ظل وأصل، وأي نظر لواحد منهما بمعزل عن الآخر يَنتج عنه خلل في التصور، فنحن نرى السواد الذي في الصورة كعامل إبداع ليكتمل ظلها وجمالها، ونرده إلى تلك الشمس والبحار التي تزين المنظر، وهذا أساس يقام عليه أصل الفكر ومتانة المنطق ولا يُنكر.

يقول الدكتور عبد الكريم بكار في قول الله عز وجل ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]:

“إن فَطْر الله (جل وعلا) للكون على المزاوجة دليل إضافي على المغايرة بين المخلوق والخالق المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله، حيث إن ما يترسخ في الخبرة البشرية على الدوام من أن الخلق واحد، ويخضع لقوانين واحدة، وتحكم حركتَه ونموه وانهياره قواعدُ واحدة، إن كل ذلك يدل على توحد الخالق (جل ثناؤه) الذي أوجد كل ذلك التنظيم الدقيق المعجز”[9].

وعليه فالمؤمن لا ينفي جهله ببعض مظاهر الكون التي لم تتجلى حكمتها له بعد، بل هو يدمجها في المُحكم الكوني المتمثل بالدقة حتى تكتمل جمالية الصورة التي سلبت عقول العلماء والأدباء.

– المُحكم ونقد أطروحة سام هاريس في الحكمة الإلهية:

يبدأ سام هاريس مقاطعاً له على ذكر عدد الأطفال الذين يموتون قبل سن الخامسة، ويقول إنهم بالملايين، ثم ينسج على هذه المقولة حججاً (عاطفية) في ظلم الإله وكيف يتركهم للموت؟ إلى أن يصل إلى أن الإله غير موجود!

لنستعرض في البداية حسابًا بسيطًا قمت به في يوم 30/3/2014م في الساعة 10.40 دقيقة لعدد المواليد والوفيات في العالم معتمدا على موقع “إحصاءات العالم” وكان الحساب كالتالي:

عدد المواليد = 33686607 * 100 / 7000000000 = 0.48%

عدد الوفيات = 13899903 * 100 / 7000000000 = 0.19 %

حساب بسيط يرشدك إلى أن المحكم هنا نعمة الحياة، حيث تساوي تقريباً ثلاث أضعاف نسبة الوفيات!

والسؤال المطروح بعدها هو: لماذا لا ينظر الملحد إلى هذه النسبة المحكمة وما يتبعها من: فرحة ونعمة وخَلق وترتيب ونظام، ويترك نفسه لمتشابه الأمر الذي لا يدري حكمته!

وكما سأل الدكتور هيثم طلعت في مقال له: كيف يفسر الملحد معضلة الخير في الأرض وهي الأصل والأساس؟![10]

فانظر فيمن حولك (أغلبهم): هل الأصل فيهم الصحة أم المرض لا شك أن الصحة هي الأصل والحياة هي الأصل، إذًا لماذا هذه النظرة من الملحد وكأنه يريد أن يقول أن الأصل هو المرض والموت؟! ولتفسير عميق لهذه الظاهرة انظر في قول الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].

ويُهمل هاريس قضية في غاية الأهمية في المبحث الوجودي، ألا وهي (مُحكم الحكمة والإتقان)، فالشخص المتسم بشدة الإتقان والبناء الفكري -كما أشرت بالتعريف- سيجعل موت الأطفال لحكمة وعلم: لا عن عبث وعجز!

ولنبين القضية بشكل أوضح: فلنتكلم عن الميزان الكوني في ظل واقعة شهيرة حدثت في ولاية أريزونا الأمريكية، حيث كان يوجد بها في عام 1907م عدد 4000 أيل -أي غزال- بسلام، ووفق التوازن الطبيعي المُحكم الذي وضعه الله، فسمحت السلطات الأمريكية للصيادين بأن يصطادو مفترِسات تلك الأيائل في تلك المنطقة -مثل الكوجر والذئاب- ظناً منهم بأنهم سيكونون أرحم من الله بتلك الأيائل! فشرع الصيادون في الاصطياد بالفعل وقتلوا الكوجر والذئاب إلى أن تناقصت أعدادها بشكل ملحوظ، فماذا حدث بعد ذلك؟؟ في عام 1916م أصبح عدد الأيائل 100000!! نعم: مئة ألف! ولكن.. كيف ستتغذى كل هذه الأيائل؟ بعد عدة أعوام: هلك نصفها لعدم توافر الطعام الكافي! وبعد أن توقف الصيادون عن اصطياد الكوجر والذئاب: عاد عدد الأيائل إلى قريب من العدد السابق 4000 حيث وصل في آخر رصيد سنة 1939م 10000 أيل، وهذا تم وفق التوازن الطبيعي الذي فرضه الله، ووفق حكمته![11].

فكيف غاب عن الملحد أن موت الأطفال أو أي روح على الأرض تكون عبثاً، ولماذا لم يُرجعها للأصل المُحكم في الكون وهو الحكمة؟ والتي هي هنا التوازن الدقيق العجيب في نظام الكون، وخاصة أن علة القياس واضحة في قياس الأيائل على الأطفال.

مع التنويه على أن موت الأطفال يتبعه اختبار لهم في الآخرة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة [12]، ومثلهم مثل كل مَن لم تبلغه رسالات الله في الدنيا، وإنما كان امتحاناً وابتلاءً لغيره.

وفي نهاية الرد على أطروحة هاريس:

ماذا يقدم الإلحاد لأهل مَن يموت مِن الأطفال، وماذا يقدم للأطفال هؤلاء، مِن منطلق ما يكرره مِن أن الطبيعة جبرية؟ لأنه حين تقول ما ذنب فلان أن يترعرع في بيئة لا تؤمن بالدين الصحيح –و هذا يرشد إلى قوله بتأثير البيئة المباشر على البشر- فلماذا تعترض في الأساس على فعلها بالقتل؟ مَن أعطى الملحد هذا الحس الإنساني ليعترض على الفعل المادي الذي هو الأصل عنده؟!

وعليه فالإلحاد لا يقدم شيئًا في الحقيقة إلا العدم..

– محكم النطق:

قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 23].

يقول ابن كثير في تفسير الآية: يُقْسِم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به مِن أمر القيامة والبعث والجزاء، كائن لا محالة، وهو حق لا مرية فيه، فلا تشكو فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون.

النطق هو هذا الظاهر الذي لا خلاف عليه بين عقلاء أهل الأرض، وهو مِن أحكم الصفات بين بني البشر، ومِن أميزها لهم عن الحيوان! ومع هذا فمسألة النطق واللغة هي مِن أصعب ما يكون على مستوى التفسير والماهية، فهي معجزة وآية مِن آيات الله، ويفسر كارل بوبر (karl popper) اللغة استنادًا إلى تفسير أستاذه (Karl Bühler) بناء على ثلاث وظائف:

1- الوظيفة التعبيرية:

عبارة عن تعبير خارجي عن حالة داخلية، وهذه حتى أجهزة الراديو أو إشارات المرور تستطيع أن تطلق تعبيرات بسيطة، الحيوانات كذلك والإنسان أيضاً، بل حتى أي فعل تفعله هو شكل مِن التعبير الذاتي.

2- وظيفة الإشارة أو النشر:

عندما يؤدي تعبيرنا الذاتي (سواء اللغوي أو غيره) إلى رد فعل في الحيوان أو الإنسان: يمكننا أن نقول أنه أخذ مأخذ الإشارة.

3 – الوظيفة الوصفية:

تتضمن النوعين السابقين، ولكن ما يميز هذه الوظيفة علاوة على التعبير والتواصل (اللذين قد يصبحان جانبين للموقف غير مهمين على الإطلاق) فإنها تصنع عبارات يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة: أي تدخل معيار الصدق والكذب.

4- وأضاف إليهم بوبر الوظيفة الجدلية (argumentative) :لتضيف الحجة إلى الوظائف الثلاث مع إدخال قيمتيها: الخطأ والصواب.

وعلى هذا.. فالمادي أو الفيزيائي على رأي بوبر:

“لا يستطيع التعامل إلا مع الوظيفة الأولى والثانية فقط، حيث إن الفيزيائي سيجعلها مقابلة لحالة المتكلم لها وظيفة تعبيرية فقط، وأما السلوكي فسيعتبرها جزء مِن التواصل ورد الفعل لا أكثر! وما يترتب على قول هؤلاء كارثي (كما يسميه بوبر نفسه) حيث إن هذا الرأي “يغفل كل ما هو مميز للغة البشرية ومفرق لها عن لغة الحيوان: أي قدرتها على صنع عبارات صادقة وكاذبة، وإنتاج حجج صائبة تقوم عليها النظريات العلمية والمناظرات الحجية، وحجج كاذبة يتم تفنيدها بالفحص العلمي، وهذا الإغفال مِن شأنه بالضرورة أن يحجب عنا رؤية الفرق بين الدعاية والترهيب القولي والحجة العلمية”[13]!

وقد أشار بوبر إلى نظرية نعوم تشومسكي في اللغة “التي يتحدث عنها باعتبارها معجزة، وباعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها مادياً، وإنما في إطار نموذج توليدي يفترض كمون القدرة اللغوية في عقل الطفل. وهذا الكمون يعني أن العقل ليس مجرد المخ أو مجموعة من الخلايا والإنزيمات”[14].

انظر إلى هذا الشاهد الواضح الخفي، فالميعاد والقيامة هي أمور واضحة كالنطق، وإن كانت تخفى مثله (أي النطق) مِن حيث التفسير والماهية!

فهل يجوز لنا أن نحتج بالخرس الذي هو (متشابه) على المُحكم الذي هو النطق، ثم نقول النطق عملية لا أهمية لها لأن هناك مَن لا ينطق، وعليه لا فائدة مِن هذه العملية ثم الإله لا حكمة له فيها ثم الإله غير موجود!

وفي النهاية: أيهما أقدر -بعد هذا التحليل- على تفسير المُحكم والمُتشابه، الإيمان أم الإلحاد؟

 

[1] الشريف حاتم العوني، المُحكمات صمام أمن الأمة وأساس الثبات، الإدارة العامة للإعلام والثقافة، إدارة الثقافة والنشر، سلسلة دعوة الحق كتاب محكم 1432 هـ.

[2] مآلات الخطاب المدني، إبراهيم بن عمر السكران، مركز الفكر المعاصر 1435هـ.

[3] Antonina Vallentin, Einstein: A Biography (1954), p 24.

وقد نقلها عن المقولة الأصلية لأنيشتاين:

Einstein, Physics and Reality, Journal of the Franklin Institute (March 1936).

[4] Michael Denton, Nature’s Destiny :Hom the laws of Biology Purpose in the universe, The Free Press 1998. p.12-13.

[5] في مقال على موقع (Voice of America) بعنوان: (Scientists plan to make 3D map of the milky way).

[6] How Many Cells Are In Your Body?

[7] موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (وفي أنفسكم أفلا تبصرون القلب).

[8] Stephen Jay Gould, Ever since Darwin, p91.

[9] مقال بعنوان الآية على موقع صيد الفوائد.

[10] معضلة الخير – د. هيثم طلعت – الإلحاد في الميزان http://www.laelhad.com/index.php?p=2-0-247

[11] The Lesson of the Kaibab. http://www.biologycorner.com/worksheets/kaibab.html

[12] يُنظر أحاديث امتحان أهل الفترة في عرصات يوم القيامة مثل الحديث الذي أخرجه قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد: “يُـؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني، كلهم يتكلم بحجته”.

[13] كارل بوبر، جون إكلس، «النفس ودماغها»، ترجمة الدكتور عادل مصطفى.

[14] الدكتور عبد الوهاب المسيري «الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان»، دار الفكر، ص55.

المصدر

الزعم أن الزكاة إتاوة فرضها النبي – صلى الله عليه وسلم – على القبائل العربية

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يفرض على القبائل ما ترى فيه إتاوة أو رشوة، يسوءهم أداؤها ويذلهم دفعها ولو إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ذاته، ويستدلون على ذلك بأن كثيرا من القبائل قد عارض دفع الصدقة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – مبرهنين على ذلك بقوله – عز وجل – آمرا نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ الصدقات من هذه القبائل الكثيرة المعارضة: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها( (التوبة: ١٠٣)، متوهمين أن في الآية ما يؤكد بواعث هذا التشريع المنفر. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في بواعث بعض تشريعاته – صلى الله عليه وسلم – طعنا فيها وصرفا للناس عنها.

وجها إبطال الشبهة:

1) لم يعرف عن أحد من معاصري النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه خالف في دفع الزكاة، فضلا عن أن تكون قبائل بأكملها.

2) قوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة( لا علاقة له بفرض الزكاة على الناس، بل هو في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك.

التفصيل:

أولا. لم يمتنع أحد عن دفع زكاة ماله للنبي صلى الله عليه وسلم:

في البداية نود أن نشير إلى أن هؤلاء المدعين قد أرادوا برفعهم هذه الشعارات اللفظية – إتاوة، رشوة – تصوير النبي – صلى الله عليه وسلم – على أنه حاكم ظالم مستبد، يفرض على الناس ما يرهقهم ويذلهم، وما يجعلهم دائما خاضعين له؛ لكي يملأ خزانته الخاصة.

ولكن هل يصدق هذا الكلام على رجل وجدت في بيته – إبان مرض موته – بضعة دنانير، فأمر أهله أن يتصدقوا بها، فنسوا لانشغالهم بمرضه، وأفاق يوم الأحد الذي سبق يوم وفاته، فسأل عائشة: «يا عائشة، ما فعلت الذهب”؟ فجاءت ما بين الخمسة إلى السبعة أو الثمانية أو التسعة، فجعل يقلبها بيده ويقول: “ما ظن محمد بالله – عز وجل – لو لقيه وهذه عنده؟! أنفقيها»[1]. ثم تصدق بها على الفقراء، وقد لقي الله في كساء ملبد[2] وإزار غليظ[3]؟!

أيمكن أن يصدق عاقل أن رجلا مستبدا ظالما يجمع أموال الناس ليملأ خزانته، ثم يأتيه الموت، وليس في بيته إلا بضعة دنانير لم يهدأ له بال حتى تصدق بها؟!

ثم إن الحق الذي يؤيده التاريخ وكتب السير أنه لم يظهر أحد من مانعي الزكاة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – معارضا له، أو مخالفا إياه، فضلا عن أن يكون هذا المانع قبائل كثيرة:

نعم لقد ارتدت بعض القبائل العربية بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن شكل ردتهم لم يكن واحدا؛ فقد كان المرتدون أصنافا ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام، ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي – صلى الله عليه وسلم – فاعترضوا على إعطائها لخليفة النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي بكر الصديق.

فما كان من بعض الصحابة – ومنهم عمر بن الخطاب – إلا أن أشاروا على أبي بكر بأن يترك مانعي الزكاة، ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ويدفعوها، فامتنع الصديق عن ذلك وأباه.

فعن أبي هريرة قال: «لما توفـي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله”؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا[4] – وفي رواية عقالا[5] – كانوا يؤدونها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله، ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق»[6] [7].

وهكذا كان المسلمون – أفرادا وقبائل – ملتزمين بأداء الزكاة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصفها ركنا من أركان الإسلام، ولم يتخلف أحدهم عن أدائها فضلا عن أن يتخلف كثير من القبائل عن أدائها – كما يدعي مثيرو هذه الشبهة – ولو صح هذا فلماذا لم يذكروا لنا اسم قبيلة واحدة من هذه القبائل الكثيرة التي ادعوا أنها عارضت أداء الزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

يقول د. محمد عمارة: “ونحن هنا أمام دعوى تقول: إن قبائل كثيرة – ومع ذلك لم يذكر لنا اسم واحدة منها – قد عارضت وتمنعت – وهي مسلمة – في دفع الصدقة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – معتقدة أنه قد فرض عليها إتاوة أو جزية أو خراجا أو رشوة، وأن إخراجها للصدقة لا طوع فيه ولا اختيار، الأمر الذي يجعل فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – معها ذلة وخضوعا وخنوعا منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم!!

وبرغم شذوذ هذا الادعاء، فإننا سنناقشه بموضوعيه وهدوء، فهؤلاء – كما قلنا – لم يذكروا لنا اسم قبيلة واحدة من القبائل الكثيرة التي صنعت ذلك.. ولم يذكروا لنا اسم مرجع أو مصدر واحد ذكر هذا الادعاء، والقرآن الكريم وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وجميع مصادر التاريخ لا أثر فيها ولا إشارة لهذا الذي قالوه” [8]!

ثانيا. آية التوبة لا علاقة لها باستدلالهم:

لقد استدل أصحاب هذه الدعوى بقوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة) على أن قبائل كثيرة امتنعت عن دفع الصدقة للنبي – صلى الله عليه وسلم – لأنها اعتبرتها جزية أو خراجا أو إتاوة أو رشوة، يسوءهم أداؤها ويذلهم دفعها، فما كان من الله – عز وجل – إلا أن قضى على هذه الممانعة وتلك المعارضة، وذلك بأن أنزل هذه الآية، آمرا رسوله – صلى الله عليه وسلم – بأن يأخذ الصدقات من هؤلاء الممانعين المعارضين.

هذا هو التفسير الخاطئ الذي فسر به هؤلاء آية سورة التوبة، ولا نصيب له من الصحة، وذلك أن المفسرين اختلفوا في هذه الصدقة المأمور بها في قوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة( فالجمهور على “أن الآية نزلت في شأن المتخلفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم في سواري المسجد كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله – عز وجل – ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين”، فأنزل الله هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا. فقال: “ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا”، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة(قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم، وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها” [9].

فالجمهور إذن على أن هذه الآية مخصوصة بمن أنزلت فيهم، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ يقول د. محمد عمارة: “فإن آية )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم( تأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ صدقة هو ممتنع أو متوقف في أخذها.. ولا تأمر القبائل بدفع الصدقات المعارضين في دفعها!!

إن آية )خذ من أموالهم صدقة( قد نزلت عقب غزوة تبوك سنة 9هـ في صدقة تطوع بها نفر تخلفوا عن الخروج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للغزو في تبوك، وهذه الصدقة التي أرادوا بها التكفير عن ذنب اقترفوه قد كانت ثلث أموالهم – التي فضلوا البقاء معها على الخروج للغزو، فلا علاقة لها بالزكاة والصدقات المفروضة، والمعروف مقاديرها في الأحاديث النبوية ومكاتبات الرسول – صلى الله عليه وسلم – للولاة، وفي كتب الفقه الإسلامي.

وعليه فالآية تتحدث عن صدقة، والرسول هو المتوقف في أخذها؛ لأنه لم يكن لديه فيها أمر بشيء، فأين هذه الصدقة التطوعية من الصدقة الفريضة التي يزعم هؤلاء أن كثيرا من القبائل قد كانت رافضة لفرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – لها وممتنعة عن أدائها؟!

فنحن هنا أمام نفر تطوعوا بكل أموالهم، كفارة عن ذنب اقترفوه، راجين التطهر من هذا الذنب، وطالبين من الرسول – صلى الله عليه وسلم – التصدق بهذا المال عنهم.

فأخذ ثلث أموالهم كفارة عن ذنبهم تصدق بها عنهم، وهو الأمر الذي يباعد بين تلك الكفارة وبين الصدقة الواجبة المفروضة ذات المقادير المحدودة والمحددة، التي فرضها الله – عز وجل – ولم يفرضها الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكنه سوء القصد، يستعين بالتلفيق ليصور الرحمة المهداة في صورة المستبد الذي كانت كثير من القبائل المسلمة تتململ مما يفرضه عليها من إتاوات ترى فيها الذل والخضوع والخنوع” [10]!

الخلاصة:

لم تكن الزكاة التي فرضها النبي – صلى الله عليه وسلم – على القبائل بمنزلة الإتاوة أوالرشوة، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلا مستبدا ظالما يجمع أموال الناس بغير وجه حق، وكيف يوصف بذلك، وقد مات ولم يكن في بيته إلا بضعة دنانير أمر أن يتصدق بها قبل وفاته.

كان المسلمون جميعا ملتزمين بأداء الزكاة في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – بوصفها ركنا من أركان الإسلام، ولم يتخلف أحدهم عن أدائها، فضلا عن أن يكون هذا المتخلف قبائل كثيرة كما يزعمون؟

آية سورة التوبة )خذ من أموالهم صدقة( تأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأخذ صدقة كان متوقفا في أخذها حتى يأمره الله – عز وجل – بأخذها، ممن تخلف عن غزوة تبوك من أصحابه، ومن الافتراء على الله القول بأن كثيرا من القبائل امتنعت عن دفع الصدقة للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تلك الآية آمرا رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يجمعها من هؤلاء المعارضين؛ لأن أسباب النزول توقيفية لا يصح معها الاجتهاد.

 

(*) سقوط الغلو العلماني, د. محمد عمارة، دار الشروق، مصر، ط1، 1416هـ/1995م.

[1]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الزهد، باب ما ذكر عن نبينا صلى الله عليه وسلم (34371)، وأحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24268)، وصححه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (24268).

[2]. كساء ملبد: مصنوع من الصوف.

[3]. بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم, عبد الرحمن عزام، دار القلم، الكويت، دار الهداية، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص38.

[4]. العناق: الأنثى من أولاد الماعز والغنم من حين الولادة إلى تمام السنة.

[5]. العقال: الحبل الذي يقيد به البعير، والمقصود: البعير نفسه.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1335)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (133).

[7]. الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الأسكندرية، 2002م, ص235 وما بعدها.

[8]. سقوط الغلو العلماني، د. محمد عمارة، دار الشروق، مصر، ط1، 1416هـ/1995م، ص48.

[9]. الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/1985م، ج8، ص242.

[10]. سقوط الغلو العلماني، د. محمد عمارة، دار الشروق، مصر، ط1، 1416هـ/1995م، ص49، 50 بتصرف يسير.

المصدر

إنكار ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغالطين ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية، ويدعون أنها أقرت عقيدة التثليث، مستدلين على ذلك ببعض شعائر المسلمين، كقولهم في الأذان: الله أكبر؛ فاستخدام صيغة أفعل تدل على أن هناك أكثر من إله، هذا أكبرهم. وكذلك قول المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم؛ كما يقول النصارى: بسم الآب والابن والروح القدس، كما يستدلون على ذلك بقوله تعالى: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون) حيث تدل صفة أفعل (أحسن) أيضا على وجود أكثر من خالق، هذا أحسنهم، ويتساءلون: كيف بعد هذا يدعى أن الإيمان في الإسلام مؤسس على التوحيد؟

وجوه إبطال الشبهة:

1) الحقيقة الواضحة في القرآن هي التوحيد الخالص، ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وهذا هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.

2)  التوحيد هو أصل جميع الشرائع، والأنبياء دينهم واحد وإلههم واحد.

3)  ليس في القرآن الكريم ما يسوغ أن يكون إشارة إلى إقرار التثليث ونحوه من صور التعدد.

التفصيل:

أولا. التوحيد الخالص في القرآن الكريم:

إن التوحيد هو الأساس الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في الإسلام، وتصح معه جميع الأعمال، كما قال تعالى: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)، وقال تعالى: )ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65)( (الزمر)، وقال تعالى: )إنا أنزلنا إليــك الكتـاب بالحـق فاعبـد الله مخلصا له الديـن (2) ألا لله الدين الخالـص( (الزمر).

فدلت هذه الآيات الكريمة، وما جاء بمعناها – وهو كثير – على أن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت خالصة من الشرك، والتوحيد ثلاثة أنواع:

  1. توحيدالربوبية[1]:

 وهو الذي أقر به الكفار على زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستحل دماءهم وأموالهم، وهو توحيد بفعله تعالى، والدليل قوله تعالى: )قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميـت من الحي ومـن يدبـر الأمر فسيقولــون الله فقـل أفلا تتقـون (31)( (يونس)، وقال تعالى: )قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتـم تعلمـون (88) سيقولـون لله قـل فأنـى تسحــرون (89)( (المؤمنون).

والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر[2].

  1. توحيد الألوهية[3]:

وهو التوحيد الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والنحر، والرجاء والخوف والتوكل، والرغبة والرهبة والإنابة.

وذلك كما في قوله تعالى: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)( (غافر)، وكل نوع من هذه الأنواع عليها دليل من القرآن.

وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول – صلى الله عليه وسلم – قال تعالى: )وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18)( (الجن)، وقال تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقال تعالى: )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)( (الرعد)، وقال تعالى: )ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)( (لقمان).

  1. توحيد الذات والأسماء والصفات:

قال تعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وقال تعالى: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)( (الأعراف)، وقال تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى) [4].

مما سبق يتبين أن التوحيد هو أساس العقيدة الصحيحة، ولأهميته كان اهتمام الرسل – عليهم السلام – بإصلاح العقيدة أولا ودعوة الناس إلى توحيد الله – عز وجل – وترك عبادة ما سواه، كما قال تعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وكل رسول يقول أول ما يخاطب قومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 59)، قالها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وسائر الأنبياء لقومهم.

وقد بقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلى التوحيد، وإصلاح العقيدة؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الدين[5].

وقد تبين أن الإسلام نبذ الشرك ونفى تعدد الآلهة، فليس في هذا الوجود من إله إلا الله عز وجل.

ثانيا. التوحيد هو الأصل الذي دعت إليه جميع الشرائع، والأنبياء دنيهم واحد وإلههم واحد:

وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة مثل ما جاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [6]، ومثل صفته في التوراة: “لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا”، ولهذا وحد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى: )اهدنا الصراط المستقيم (6)صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)( (الفاتحة)، ومثل قوله تعالى: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( (الأنعام:153).

والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح عليه السلام: )فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، وقال الله عن سحرة فرعون: )ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)( (الأعراف)، وقال عن فرعون: )آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)( (يونس)، وقال الحواريون: )اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)، وقال يوسف عليه السلام: )توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)( (يوسف)، وقال موسى: )وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس)، وقالت بلقيس: )رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( (النمل: 44)، وقال عن التوراة: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار( (المائدة: 44).

وقد وردت نصوص عديدة في التوراة تدعو إلى التوحيد، وتحذر من صور الشرك، فقد جاء في سفر الخروج: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية”. (الخروج 20: 2)، وفي سفر التثنية: “فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك.ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك، إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وأبآر محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها، وأكلت وشبعت، فاحترز لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. الرب إلهك تتقى، وإياه تعبد، وباسمه تحلف. لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم، لئلا يحمي غضب الرب إلهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض”. (التثنية 6: 5 – 15)، وكما نهوا عن عبادة الأوثان نهوا عن عبادة النجوم وغيرها كما جاء: “ولئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها “. (التثنية 4: 19).

بل وأمروا أن يعاملوا بالشدة جميع الأمم التي تدين بعبادة الأوثان، كقوله في سفر التثنية: “فإنك تحرمهم، لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك؛ لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى، فيحمي غضب الرب عليكم ويهلككم سريعا، ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار”. (التثنية 7: 2 – 5).

وكما أمروا بالقسوة على الأمم الوثنية أمروا بمثل ذلك في حق من يشرك منهم: فقد أمر موسى – عليه السلام – بني لاوي رهطه بقتل عبدة العجل حين عبد العجل في غيبته، وفي سفر التثنية: “إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما، وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل، لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر، وفداكم من بيت العبودية، لكي يطوحكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم أن تسلكوا فيها، فتنزعون الشر من بينكم، وإذا أغواك سرا أخوك ابن أمك، أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك أو البعيدين عنك، من أقصاء الأرض إلى أقصائها، فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له ولا تستره، بل قتلا تقتله، يدك تكون عليه أولا لقتله، ثم أيدى جميع الشعب أخيرا، ترجمه بالحجارة حتى يموت”. (التثنية 13: 1 – 10).

وكما أمرت التوراة بعبادة الله وحده ونبذ الشرك وعبادة غير الله، كذلك وجد في الإنجيل ما يدل على أن الله واحد لا شريك له، وما ذهبوا إليه من التثليث وادعاء آلهة مع الله، هو وهم باطل لا دليل عليه من كتابهم، وهذا التوحيد قد بينته نصوص من أناجيلهم على النحو التالى:

  1. إنجيل متى:”وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، فقال له: لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله”. (متى 19: 16، 17). فهذا القول يقلع أصل التثليث، وما رضى تواضعا أن يطلق عليه لفظ الصالح. أيضا ولو كان إلها لما كان لقوله معنى، وكان عليه أن يبين، لا صالح إلا الآب وأنا وروح القدس، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وإذا لم يرض بقوله “الصالح”، فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلاتهم: يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيدك؟

وورد في قول إبليس للمسيح: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك، ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان! لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”. (متى 4: 6 – 10).

ويقول المسيح لتلاميذه: “متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء، كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا وأعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير؛ لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين”. (متى 6: 9 – 13).

ويقول: “أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء”. (متى 22: 31، 32).

  1. إنجيل مرقس:”فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين”. (مرقس 12: 28 – 31).
  2. إنجيل يوحنا: قال عيسى – عليه السلام – في خطاب الله: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 17: 3)، فبين عيسى – عليه السلام – أن الحياة الأبدية عبارة عن أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي، وأن عيسى – عليه السلام – رسوله. وما قال: إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي. وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله مجسم، فلو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لبينه، وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي لله واعتقاد الرسالة للمسيح، فضدها يكون موتا أبديا وضلالا بينا ألبتة. والتوحيد الحقيقي ضد للتثليث الحقيقي. وكون المسيح رسولا ضد لكونه إلها؛ لأن التغاير بين المرسل والمرسل ضروري.

وهذه النصوص السابقة تدل على أن المسيح – عليه السلام – دعا إلى عبادة الله وحده، ولم يدع أحدا إلى عبادة نفسه، والقرآن يشهد له أنه ما خالف الأنبياء والمرسلين في دعوة التوحيد، قال تعالى: )ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64)( (الزخرف).

ويذكر لنا القرآن صورة لما سيكون يوم القيامة، حين يسأل عيسى – عليه السلام – عما يقوله النصارى من أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فيجيب على ذلك البهت بهذا الجواب المفحم: )سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة). فتبين أن التوحيد هو أصل جميع الأديان، دعت إليه التوراة ودعا إليه الإنجيل، وإنما طرأت مزاعم التعدد بالتثنية أو الثليث في هذه القصائد في طور متأخر من تاريخها، ولم تكن تعرفها النصوص الأولى التي لم تزل – على رغم تبديلها – تحتفظ بما يشهد للاعتقاد الأول فيها، وهو التوحيد[7].

ثالثا. تهافت المزاعم عن إقرار الإسلام لبعض صور التثليث:

من العجيب – بعد كل ما تقدم – أن يلتمس أناس إشارات إلى التثليث في القرآن الكريم وغيره من العبادات التي يرددها المسلمون في عباداتهم، ويقدمون هذا الفهم الخاطئ لهذه الإشارات التي يتوهمونها على الآيات الصريحة الكثيرة التي تشرح التوحيد خالصا من شوائب الشرك.

ومن ذلك استدلالهم بما يقال في أول القرآن عند التسمية )بسم الله الرحمن الرحيم( بأنه مثل ما جاء في الإنجيل عن عيسى عليه السلام: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. (متى28: 19)، فالمسلمون بهذا في نظرهم يعتقدون بتثليثهم. والجواب: أن التثليث ليس من المسيحية التي أتى بها المسيح، فالمسيح جاء بالتوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وقد تقدم بيان ذلك.

أما زعمهم أن )بسم الله الرحمن الرحيم( هي مثل: الآب والابن والروح القدس، فهذا فهم خاطئ وتحريف؛ لأن الله تعالى في البسملة معناه: الذات الموصوفة بصفات الكمال، ونعوت الجلال، و )الرحمن الرحيم( صفات الله سبحانه وتعالى باعتبار الخير والإحسان الصادرين عن قدرته[8].

فهذا – إذن – ليس تثليثا، والله – عز وجل – كما هو رحمن ورحيم، فهو – أيضا – ملك وقدوس، وسلام ومؤمن ومهيمن… إلخ، فأسماء الله وصفاته كثيرة، لا يعقل أن يقال إن الله يتعدد بتعدد صفاته وأسمائه.

وأما استدلالهـم بقـول الله تعالـى: )فتبـارك الله أحسـن الخالقيــن (14)( (المؤمنون)، فهذا فهم خاطئ، فقوله في هذه الآية: )أحسن الخالقين( أي: المقدرين، والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير، ومنه قول زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ     ض القوم يخلق ثم لا يفري

فقوله: يخلق ثم لا يفرى؛ أي: يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم[9].

فكيف يزعمون ذلك والله تعالى ينفي الخلق عن غير الله، فيقول: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، ويثبت الخلق لله وحده: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)( (الأعراف: 54)، أي: له الخلق وليس لغيره، ويتحدى الله تعالى أن يكون الشركاء الذين يعبدون من دونه الله يخلقون: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)( (الحج).

وأما زعمهم بأن قول المؤذن: “الله أكبر” يقتضي أن هناك مقارنة بين إلهين أكبر وأصغر، فهذا الفهم الفاسد يبرهن على فساده آيات كثيرة، جاءت صريحة قاطعة بأن لا إله إلا الله، حتى أصبحت حقيقة إسلامية يعرفها جميع الناس عن الإسلام دين التوحيد، الذي لا يؤمن فيه المؤمن بإله مع الله.

أما التكبير بهذه الصيغة في الآذان وفي الصلاة، وفي الذكر فهو تنبيه للعاقل بأنه مهما كبر عندك شىء فانتبه إلى أن الله أكبر منه؛ ليترك كل ما في يده مهما كان شأنه عنده، ويقبل على ربه ومناجاته، فليس هناك أكبر من الله تعالى.

من هنا اقتضت الحكمة أن يفتتح بها الآذان ويختتم، وتفتتح بها الإقامة للصلاة وتختتم، وتفتتح بها الصلوات وتتخلل أعمالها، ليكون التكبير تنبيها متواليا يرد المسلم إلى ربه كلما شرد به تفكيره إلى ما يهمه من أمر دنياه.

ومن هنا كان التكبير شعار المجاهدين المنتصرين الفاتحين، فهو مصدر إلهام لهم، وقوة إيمانية لهم، حيث لا يجدون فوق الله كبيرا، وبهذا تتحطم على أيديهم قوى الطغيان والبطش مهما أوتيت، وكيف يكون التكبير اعترافا ضمنيا بإله مع الله، وإن كان أصغر، مع أن كل تكبير في أذان أو إقامة أو صلاة، أو ذكر يعقبه إعلان بأنه: لا إله إلا الله، لا إله غيره، لا إله معه، لا إله إلا هو سبحانه؟!

الخلاصة:

  • إن توحيد الله – عز وجل – هو الحقيقة الواضحة الجلية التي دعا إليها الإسلام، وتوحيد الله – عز وجل – ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وتعدد الآلهة أمور يعلمها كل مسلم ولا تخفى على أحد؛ لأن الإسلام جعل التوحيد هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.
  • والتوحيد هو دعوة جميع الأنبياء، وكذلك هو أول ما بدأ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعوته، وظل في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو إليه، التوحيد هو دين جميع المرسلين، أقرته التوراة والإنجيل، على الرغممما فيها من أمور تتنافى مع العقيدة الصحيحة، كالقول بالتثليث وألوهية غير الله.
  • وما زعمه هؤلاء من إقرار الإسلام لصور من التثليث هو زعم طائش لا يستند إلى فهم سليم لهذه الإشارات والشواهد التي استدلوا بها، وهو يخالف ما يعرفه المسلمون عن دينهم بالبداهة ويجعلونه أصل إيمانهم.

 

(*) هذا هو الحق: رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، القاهرة، 1979م. الجذور التاريخية والجسور الحضارية بين الإسلام والغرب، د. محمد محمد أبو ليلة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2001م.

[1]. توحيد الربوبية: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ عز وجل ـ رب كل شيء، ولا رب غيره، أو بعبارة أخرى: الإقرار بأن الله هو الخالق لكل شيء، وهو المدبر، وهو الذي يعطي ويمنع، ويحي ويميت، لا يشاركه أحد في فعله سبحانه وتعالى.

[2]. مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى، محمد بن عبد الوهاب، دار الفكر، بيروت، د. ت، ص3، 4.

[3]. توحيد الألوهية: توحيد القصد والطلب، ومعناه: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ عز وجل ـ وحده هو الإله المستحق للعبادة، وإفراده ـ عز وجل ـ بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة.

[4]. مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى، محمد بن عبد الوهاب، دار الفكر، بيروت، د. ت، ص4، 5.

[5]. عقيدة التوحيد، د. صالح بن فوزان، مؤسسة الحرمين الخيرية، الرياض، د. ت، ص6، 7.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم: ١٦) (3259)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6281).

[7]. انظر: دعوة أهل الكتاب إلى دين رب العباد، د. سعيد عبد العظيم، دار العقيدة، القاهرة، د. ت. إظهار الحق، رحمة الله بن خليل الهندي، دار الحرمين للطباعة، مصر، ط2، 1413هـ/1992م.

[8]. انظر: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، القرافي، تحقيق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م.

[9]. أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1408هـ/ 1988م، ج5، ص781.

المصدر

إنكار عالمية الإسلام

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المشككين عالمية الإسلام زاعمين أن رسالته محدودة الزمان والمكان، ويدعون:

أن الإسلام دين محلي قومي، أنزل للعرب واختص بهم في شبه الجزيرة العربية، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه( (إبراهيم: 4)، ويتساءلون: كيف يرسل الله رسولا إلى قوم لا يعرفون لغته، فلا يفهمون ما يقول؟!

أن الإسلام دين مؤقت اقتصرت صلاحيته الزمنية على وقت نزول الرسالة المحمدية. ويستدلون على ذلك بأن الإسلام نشأ في بيئة بدوية صحراوية، فلا يصلح للمدنية الحديثة.

أن الإسلام دين تتعدد صوره بتعدد الأقطار، وتبقى العروبة أصلا في حين يجيء الإسلام فرعا عليها.

أن فكرة عالمية الإسلام لم تخطر ببال محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كان متأكدا من أنه مرسل إلى العرب وحدهم، ومن ثم يشككون في صحة الروايات التي تؤكد إرسال النبي – صلى الله عليه وسلم – الرسائل للملوك المعاصرين له، كالمقوقس في مصر، وملك الحبشة النجاشي، وهرقل عظيم الروم، وكسرى ملك الفرس.

أن المسلمين ظلوا بعد وفاة نبيهم بمائة عام يعدون الإسلام دينا محليا للعرب فحسب.

أن من يزعمون عالمية الدعوة الإسلامية، يضعون بذلك الله سبحانه موضعا لا يليق حتى بإنسان عاقل، ويستدلون على ذلك بأن الله تعالى يقول: )إنا أنزلناه قرآنا عربيا( (يوسف:٢)، متسائلين: كيف يعقل أن يبعث الله – عز وجل – رسوله محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالإسلام إلى الناس كافة، ثم يوحي إليه بلسان عربي لا يفهمه إلا العرب؟! ويأمره بأن ينذر أهل مكة ومن حولهم من العرب؟! ومن هؤلاء من يزعم أن الإسلام كان خاصا بالعرب، ثم جعله محمد – صلى الله عليه وسلم – دينا عالميا، وعمم دعوته، عندما انتصر في المدينة.

وبالجملة فإن هؤلاء ينكرون عالمية الإسلام، هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  عالمية أي دين أو محليته لا يحددها هوى المدعين وآراؤهم، وإنما نصوصه وسيرة رسوله وتاريخه، وهي كالآتي:

القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكاتبته للملوك، وتاريخ الفتوحات الإسلامية، كل ذلك يؤكد عموم الدعوة الإسلامية، وعالمية الرسالة المحمدية الخاتمة.

نصوص الكتب السابقة تؤكد عالمية رسالة الإسلام وختمها للرسالات السابقة، كما تؤكد خصوص غيرها بزمانها ومكانها.

2)  تتعدد المظاهر والشواهد التي تؤكد عالمية الإسلام وعموم رسالته، وتشهد بذلك.

3) معنى الآيات التي استدل بها المدعون وتفسيرها لا يدل على محلية الإسلام، وليس معنى نزول الرسالة على أمة بدوية أنها لا تصلح للمدنية، بل هي التي صنعت منهم أمة ذات حضارة عريقة ومدنية راقية قصرت دونها كل الحضارات والمدنيات.

4) الدين الإسلامي دين عالمي للناس كافة، ولا فرق فيه بينهم اعتمادا على الجنس أو النوع، بل التفضيل فيه على أساس التقوى؛ لذلك فالإسلام رسالة إنسانية نفسية عالمية تعالج نفوس الناس في كل زمان ومكان.

5) الإسلام هو الذي بعث أمة العرب بعثا من وهاد التاريخ وظلماته، ومنحهم هويتهم الخاصة وطابعهم المميز؛ فالإسلام هو الأصل والعروبة فرع عنه بعكس ما يدعي هؤلاء المغالطون.

6) الإسلام – بما أنه الرسالة الخاتمة الصالحة لكل زمان ومكان – قامت رسالته على أصول وفروع، أو ثوابت ومتغيرات؛ فالأصول ثابتة في كل عصر ومصر لا تتغير، والفروع يمكن الاجتهاد فيها بما يلائم كل زمان ومكان، ولكن في إطار الثوابت ودون الخروج عليها، وليس لكل دولة إسلام خاص – كما يدعي المفترون – إنما هي عوامل سعة الشريعة الإسلامية ومرونتها.

7) عالمية الإسلام أمر ثابت ومقرر، لكن العولمة بمفهومها المعاصر الذي يعني قولبة الأمم المختلفة – أي: صبها في قالب واحد على نمط معين ومسح هويتها – أمر مذموم، ولا ريب في ذلك لدى كل من لديه شرف وكرامة وأصالة.

التفصيل:

أولا. عالمية أي دين أو محليته لا يحددها هوى المدعين وآراؤهم، وإنما نصوصه وسيرة رسوله وتاريخه:

إن الأباطيل التي نحن بصدد دفعها – سواء كان أصحابها يزعمون أن الإسلام دين محلي قومي خاص بالعرب وحدهم، أم أن الإسلام كان دينا خاصا، ثم جعله محمد – صلى الله عليه وسلم – دينا عالميا عندما انتصر في المدينة، وسواء أكان هذا التحويل بعد وفاة محمد – صلى الله عليه وسلم – مباشرة، أم بعدها بمائة عام – كل هذه الأباطيل أباطيل واهية لا تستند إلى برهان عقلي أو نقلي، وهذا ما يجعلها تنهار أمام الحقائق التي تؤكدها نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والفتوحات الإسلامية، وتاريخ الإسلام، وذلك على التفصيل الآتي:

آيات القرآن الكريم:

إن كثيرا من آيات القرآن الكريم يتجه نحو عمومية الدعوة[1]، يقول عز وجل:

)إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88)( (ص).

)تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1)( (الفرقان).

)قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا( (الأعراف: ١٥٨).

)هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)( (التوبة).

)وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28)( (سبأ).

)وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)( (يس).

)قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)( (التوبة).

وفي مستهل استعراضه للأدلة النقلية على عالمية الدعوة الإسلامية من القرآن والسنة، ونصوص الأديان السابقة، كالتوراة والإنجيل، يورد الدكتور على عبد الحليم محمود عددا من الآيات القرآنية، يقدم لها بقوله: “سوف نستعرض في هذا الفصل – بعون الله تعالى – آيات بينات من القرآن الكريم، تؤكد عالمية الدعوة وتنادي بها، وذلك بعد ما قدمنا من أدلة كثيرة على ذلك، وقد حاولت أن أنظر في تلك الآيات الكريمات حسب ترتيب نزولها حتى يمكن أن أتتبع اتساع نطاق الدعوة، منذ أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بها لنفسه ولعشيرته الأقربين إلى أن أمر بتبليغ العالم كله.

وقد لاحظت في هذه الجولة الممتعة في رحاب القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى – وإن كان لم يطلب من محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يبلغ دعوته العالم كله بادئ ذي بدء – أنزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – آيات تشير إلى أن رسالته عالمية ودعوته للناس جميعا، أنزل تلك الآيات في بداية نزول الوحي، وبالتحديد في ثانى سورة نزلت عليه – صلى الله عليه وسلم – وذلك حين يتحدث عن القرآن الكريم فيقول: )وما هو إلا ذكر للعالمين (52)( (القلم)، وذلك لكي يضطلع محمد – صلى الله عليه وسلم – بالعبء ويعد نفسه له.

ثم يشفع هذه الآية الكريمة بآية أخرى أدل على طبيعة عمل الرسول – صلى الله عليه وسلم – في رابع سورة نزلت من القرآن – سورة المدثر – التي بدأت بالمطالبة بالإنذار والتشمير لما يستتبعه: )قم فأنذر (2)( (المدثر)، وفي هذه الصورة نفسها يقول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: )نذيرا للبشر (36)

المصدر

حول حد الردة

هناك مفاهيم خاطئة تتردد حول حد الردة، ويستغلها الملاحدة لتشكيك المسلمين ومحاولة إحراجهم. وسنلقي الضوء هنا على جوانب الشبهة المختلفة لإزالة أي لبس حول هذا الموضوع.

مصادر الإشكال

لا نسبية للحق

أصل الإشكال في قيام الشبهة حول حد الردة هو توهم المساواة بين الإيمان والكفر، وسبب هذا التوهم هو الاعتقاد بنسبية المعتقد، أي أنه يمكن أن تكون كل الأديان على حق، وهذا لا يستقيم عند من يعرف أبجديات المنطق. إذ أنه من القواعد المنطقية أن أي متناقضين ليس لهما إلا حالتان، إما أن يكونا باطلين معا، أو أن يكون أحدهما باطل والآخر حق، ولكن لا يمكن منطقيا أن يكون كلاهما على حق. وهذه قاعدة ثابتة أينما تم تطبيقها. وعلى ذلك فلا يصح أن نعتبر عقيدتين متناقضتين على حق معا.. ومن البديهي أن الإيمان يناقض الإلحاد والكفر، ولهذا فإن المسلم يجد أن القول بنسبية الحق هو غفلة وبلاهة منطقية.

ليس كل كافر مرتد

غالبا ما يحصل الخلط- بقصد أو بغير قصد- بين الكافر والمرتد. فيظن الملحد أن الإسلام يقيم حد الردة على الكافر، بينما الصحيح هو أن الكافر إذا كان معاهدا وغير محارب لا يجوز قتله، ويجري التشديد على ذلك في حق الكافر الذمي. أما المرتد فهو الذي كان مسلما ثم ارتد.

الحد بعد الاستتابة

يظن البعض أن المسلم إذا ارتكب الكفر فينفذ فيه الحد مباشرة، والصحيح أن هناك أعذار قد تحول دون تكفيره أصلا، كالجهل والتأويل والإكراه والخطأ، ولهذا فإن أكثر أهل العلم على استتابة المرتد لاحتمال التباسه في معرفة الحق كما ذكر ابن قدامة في المغني، ويستثنى من الاستتابة المرتد المحارب على قول ابن تيمية.

المرتد ضرره متعدّ

ليس صحيحا أن ضرر المرتد المعلن ردته لازم لنفسه، وإنما الصحيح أن ضرره متعد للمجتمع المسلم. وهناك من الملاحدة من يدعي ضعف عقيدة المسلم، وأنها لو كانت قوية لما كان هناك حاجة لحد الردة.. والصحيح أن المرتد لا خطر منه على المتمكنين من دينهم ويقينهم ولكن ليس كل عامة المسلمين لديهم مناعة عن التأثر، بل إن من الناس من لديه نزعة انقيادية، ومنهم من لديه قابلية للإيحاء، ومنهم من لديه جهل في بعض الجوانب، وهؤلاء يسهل التأثير عليهم كما نرى بقليل من التأمل، ولا شك أن الدين هو أحد الضرورات الخمس التي سعت الشريعة لحفظها، والتعدي عليه جريمة شنيعة، ولذا لزم على الحاكم حماية المجتمع المسلم من المرتدين المجرمين.

حد الردة وقاية

حد الردة يقطع الطريق على محاربة الدين بتشكيك المؤمنين به، فلولا حد الردة لكان من السهل على الكفار إعلان إيمانهم ثم ردتهم ثم إيمانهم.. الخ. هذه حيلة قديمة ذكرها القرآن الكريم عن اليهود، حيث كان هدفهم هو تشكيك المسلمين بإيمانهم، والمسلمون كما أسلفنا مجتمع كبير وطيف واسع منهم من يفتتن بما يرى ويسمع. قال تعالى: ﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏﴾. وحماية المجتمع نفسه من الضرر هو حق لأي مجتمع.

فقط المرتد المجاهر

الملاحدة والمرتدون يعلمون جيدا أنهم إذا لم يجاهروا بردتهم فإنهم لا يقعون تحت طائلة حد الردة أبدا، لكنهم يطالبون المجتمع المسلم أن يفتح المجال لهم فينشرون كفرهم واستهزاءهم بالله ورسوله ﷺ وكتابه دون محاسبة.. هذه وقاحة عجيبة.

وطالما أن المرتد لم يجاهر بالردة فلا يقام عليه الحد، والمنافقون في عصر النبوة مثال واضح للمرتد غير المجاهر، فكان المسلمون يعاملونهم معاملة المسلم، ولهم كل حقوق المسلمين، رغم أن النبي ﷺ كان يعرفهم، وقد أخبر حذيفة بأسمائهم.

لا إكراه في الدين

يحتج البعض بآية “لا إكراه في الدين” على أنها تعطي الحرية بالردة عن الإسلام، وهذا غير صحيح، فإجماع المسلمين على أن الآية لا يقصد بها المسلمون وإنما هي خاصة بغير المسلمين، وسياق الآية يوضح أن الخيار لمن هو كافر في الأصل، فلا تنطبق الآية على المسلم إذ كيف يتحول إلى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو مسلم أصلا: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”.

المولود مسلما

هناك من يحتج بأن المولود من أبوين مسلمين لا يكون مسلما إلا بعد البلوغ، فكيف يحكم عليه بالردة لو كفر؟ وكيف يختار دينه؟ والصحيح هو أن المسلم المولود لأبوين مسلمين هو أصلا يعتبر مسلما ولو لم يبلغ، فتجري عليه أحكام الإسلام من الميراث وغيره، وثبت في البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.. الحديث”. وهناك دلائل علمية تطابقت نتائجها مع مضمون هذا الحديث مثل كلام هذا المتخصص، وأيضا هذا البحث العلمي، وهنا رد للداعية ميلر يثبته من جهة أخرى. فالمسلم أصلا وُلد مسلما ثم كبر وهو مسلم، أي أنه لم يخرج من الإسلام، ولهذا فلا معنى للاختيار هنا، لأنه إما أن يكفر فيكون مرتدا أو يبقى على إسلامه، بينما الكافر يمكنه أن يبقى على كفره دون حد أو يسلم.

الخلاصة

لا يقام حد الردة إلا على المرتد المجاهر بالردة، فلا يقام على المرتد سرا ما دامت عقيدته بينه وبين نفسه. فإذا تعدى خطره إلى غيره قام عليه الحد لقطع الطريق عليه وحفظ أهم الضرورات الخمس لأفراد المجتمع المسلم وهو الدين.

 

هل الإسلام دين عنف؟

كثيرا ما يقتطع الملحد نصا قرآنيا من سياقه ليظهره وكأنه تحريض على القتال ابتداءً، وكل ما عليك عند ذلك هو أن ترجع إلى سياق النصوص لتعرف أن جميع أوامر القتال التي وردت في القرآن الكريم هي أوامر قتال دفاعية وليست هجومية، بل إن هناك العديد من الآيات التي تأمر بالسلم والتعارف والتعايش:

“فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)” (البقرة)

“وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126)” (النحل)

“وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)” (البقرة)

“وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)” (التوبة)

“وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (192) (البقرة)

“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات:133)

“ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” (الأنعام:151)

“من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة:32)

“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)” (الأنفال)

“إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)” (النساء)

“لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)” (الممتحنة)

الإسلام وشبهة الرق

لقد جاء الإسلام والرقيق موجود في القانون الروماني والإغريقي والهندي واليهودي والنصراني.. ثم استمرت تجارة الرقيق عند الأمم الغربية حتى القرون المتأخرة، حيث مارست أوروبا المعاصرة الرق، وكان يموت الكثير من العبيد بسبب طرق الاصطياد وفي الطريق إلى الشواطئ التي ترسو عليها مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها، فيموت نحو 4% أثناء الشحن، و12% أثناء الرحلة، فضلاً عمن يموتون في المستعمرات! وكانت لملكة إنجلترا “اليزابيث” سفينة اسمها “يسوع” تشتغل بخطف العبيد من غرب أفريقيا.

ومكثت تجارة الرقيق في أيدي الشركات الإنجليزية التي حصلت على حق احتكار ذلك بترخيص من الحكومة البريطانية، ثم أطلقت الحكومة أيدي جميع الرعايا البريطانيين في الاسترقاق.

ويقدر بعض الخبراء مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق واستعبدوه في المستعمرات من عام 1680 حتى عام 1786م حوالي 2,130,000 شخصاً.

فعندما اتصلت أوربا بأفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية، تعرض فيها سكان هذه القارة لبلاء عظيم طوال خمسة قرون.. وقد ابتدعت دول أوربا طرقا خبيثة في اختطاف هؤلاء السكان واستجلابهم إلى بلادها ليكونوا وقود نهضتها، وليكلفوهم من الأعمال ما لا يطيقون. وحينما اكتُشِفَتْ أمريكا زاد البلاء، وصاروا يخدمون في قارتين بدلاً من قارة واحدة!

تقول دائرة المعارف البريطانية (2/779) مادة Slavery: “إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرية حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل”.

وتم نقل مليون زنجي أفريقي إلى أمريكا مقابل موت تسعة ملايين أثناء عملية الاصطياد والشحن والنقل، وذلك في الفترة ما بين عام 1661م إلى عام 1774م، أي أن عشر الذين كانوا يصطادونهم فقط هم الذين يبقون أحياء، ويتم نقلهم إلى أمريكا، لا ليجدوا الراحة والمواطنة وإنما ليعاملوا بالسخرة والتعذيب!

وكان للأمريكيين في ذلك قوانين يخجل منها العقلاء! فمن قوانينهم أن من اعتدى على سيده قُتل، ومن هرب قطعت يداه ورجلاه وكوي بالحديد المحمى، وإذا أبق للمرة الثانية قُتل! وكيف سيهرب وقد قطعت يداه ورجلاه!

ومن قوانينهم: يحرم التعليم على الرجل الأسود ويحرم على الملونين وظائف البيض.

ومنها أيضا: إذا تجمع سبعة من العبيد عُدَّ ذلك جريمة، ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يبصق عليهم، ويجلدهم عشرين جلدة.

وينص قانون آخر: العبيد لا نفس لهم ولا روح، وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة، وأن الحياة لا توجد إلا في أذرعهم فقط.

والخلاصة في ذلك أن الرقيق من جهة الواجبات والخدمة والاستخدام عاقل مسئول يعاقب عند التقصير، ومن جهة الحقوق شيء لا روح له ولا كيان بل أذرعة فقط!

ثم أخيرا وبعد قرون طويلة من الاستعباد والظلم تم تحرير البروتوكول الخاص بمنع الرق والعمل للقضاء عليه، وكان ذلك في مقر الأمم المتحدة عام 1953 م، لكن هناك فرق كبير بين أن تصدر هذه الدول قوانين تنظيمية وعقوبات حول الرق وبين أن يكون التنظيم في صلب الدين والتشريع.. ابحث في محرك البحث عن عبارة “الاتجار بالبشر” لترى ضخامة هذه المشكلة حاليا وحجم هذه التجارة بالبشر في تلك الدول وقارنها بالدول الإسلامية لتعرف الفرق.

كيف حاصر الإسلام الرق؟

إن السعي لمحاصرة ظاهرة من الظواهر الاجتماعية الموجودة يجب أن يقوم على خطة استراتيجية واضحة، والخطة التي اعتمدتها الشريعة الإسلامية لمحاصرة الرق تتمثل في جانبين مهمين: تجفيف منابع الرق وتنويع مصارفه، بعد أن كانت منابعه أكثر بكثير من مصارفه.

ولكي نتصور الأمر بصورة واضحة سنشبه الرق بمياه السد، فإذا كان السد يتغذى من مصادر متنوعة يرد منها الماء وكانت مصارف الماء من السد أقل، فإن السد سيظل مملوءا بالمياه، بل سيرتفع منسوبها.. لكن إذا كان التصريف في السد أكبر كثيرا من التغذية، فإن هذه المياه ستنضب ويخلو السد منها بمرور الوقت.. وهذا ما نراه واضحا في العالم الإسلامي اليوم، فهو يخلو من الرق.

أضف إلى ذلك أن منع الرق فجأة في مجتمعات انتشر فيها الرق يخالف الحكمة، فلا المجتمعات جاهزة لهذا التغيير المفاجئ ولا الرقيق أنفسهم جاهزون.. ولا تصح النظرة السطحية البسيطة للتعامل مع البشر وكأنهم أشياء يفرض عليها التغيير في النسيج الاجتماعي فجأة وبلا مقدمات، فهذا يخالف الأسس الاجتماعية، وأيضا يخالف طبيعة الرقيق الذين عاشوا كل حياتهم على نمط الرق ثم يتم تسريحهم بلا مقدمات ليتحملوا مسئوليات العيش التي لم يتخيلوا أصلا أنهم سيتحملونها. فالتحرير المفاجئ لا يتوافق مع الجوانب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للناس.

وسنّة التدرج هنا مهمة وناجحة للغاية.. وحتى تحرير العبيد في الولايات المتحدة وإلغاء الأمم المتحدة للرق لم يتم إلا بعد أن نضج الطرح حولها وطالب العبيد كثيرا بتحريرهم ونشبت المعارك والثورات أحيانا لهذا السبب، فكانت المجتمعات جاهزة لقبول التغيير، ولكن بعد قلاقل وفتن وتمردات لم تحصل في البلاد الإسلامية.

هل كان هدف لنكولن هو تحرير العبيد؟

يتغنى البعض بما فعلته الولايات المتحدة على يد رئيسها أبراهام لنكولن من تحرير العبيد، وكأنه عمل حضاري مقصود، بينما الحقيقة هي أن تحرير العبيد يهدف فقط إلى الحفاظ على وحدة الولايات المتحدة كما يقول لنكولن بنفسه: “إذا كان بإمكاني الحفاظ على الاتحاد بدون تحرير أي عبد سأفعل، وإذا كان بإمكاني الحفاظ عليه بتحرير كل العبيد فسأفعل، وإذا كان بإمكاني الحفاظ عليه بتحرير بعض العبيد والإبقاء على بعضهم فسأفعل أيضا.”

https://tinyurl.com/m3wgc47

وقد كان لدى بعض الرؤساء الأمريكيين كجورج واشنطن وجفرسون عشرات العبيد.

https://wapo.st/2wbHnle

تجفيف منابع الرق

اقتصر الرق في الإسلام على مصدر واحد فقط: هو أسرى الحرب من الرجال والنساء المحاربين فقط، ولا يجوز استرقاق أي شخص من الأعداء إذا لم يكن مقاتلا في المعركة. وبذلك منع الإسلام منابع الرق الشائعة مثل اختطاف الحر أو الاحتيال عليه ثم بيعه، واستعباد الحر لعدم قدرته على سداد الديون، وبيع الأبناء لعدم القدرة على إعالتهم ومعيشتهم، وكذلك الاستعباد القائم على العنصرية، واسترقاق المجرمين والجناة عقابا لهم على جرائمهم.

تنويع مصارف ومخارج الرق

بعد أن قيد الإسلام منابع الرق في مصدر واحد فقط، جعل المصارف متنوعة وكثيرة، منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب. فيقوم المسلم بالعتق سواء كان مالكا للرقيق أو عن طريق شراءه وإعتاقه. ومن مصارف الرق:

  • كفارة القتل الخطأ
  • كفارة الحنث باليمين
  • كفارة الظهار
  • الإفطار العمد في رمضان
  • ضرب الحر لعبده المملوك
  • المكاتبة (عقد بين العبد وسيده للعتق مقابل مبلغ من المال)
  • ولادة الأمة
  • عتق الرقيق من مصارف الزكاة
  • تعظيم شأن العتق والأجر المترتب عليه “وما أدراك ما العقبة، فك رقبة”

هل الأسرى يسترقّون بالضرورة؟

عندما نقول إن المنبع الوحيد للرق في الإسلام هو الأسر في الحروب، فهل هذا يعني أنه كلما كان هناك حرب بين المسلمين والكفار وتم أسر أحد من الكفار فإنه يكون رقيقا؟ وإذا كان هناك خيارات أخرى، فهل استرقاق الأسرى هو أفضل الخيارات؟

الحقيقة هي أن هناك خيارات مختلفة وليس الرق هو النتيجة المتوقعة للأسرى، فإما أن يبقى الأسير أسيرا أو أن يفديه المسلمين بأسراهم لدى العدو، أو أن يمنوا عليه ويطلقوا سراحه.. وبالتأكيد فالخيارين الأخيرين أفضل وأعظم أجرا. قال الله تعالى: “فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً” محمد/4

بل إن من النادر جدا أن يتم استرقاق الأسرى من الرجال، وإنما يغلب ذلك على النساء (المقاتلات فقط بالطبع)، وذلك لأسباب منها أنه لا يجوز قتل النساء، ولهذا فإن إطلاقهن بعد المعركة بلا عائل قد يترتب عليه ضرر عليهن أو على المجتمع، فكان لا بد من تنظيم واضح لا يعطيهن مكانة المسلمات الحرائر بعد أن شرعن في قتل المسلمين. فإذا لم يتم فداؤهن بالأسرى المسلمين لدى العدو، ولم يتم العفو عنهن وإعادتهن للأعداء، فإنه يجوز في حقهن الرق بعد أن وهبن الحياة. ويجري على الجواري ما يجري على الزوجات الحرائر باستثناء واحد: هو أن الحرة لها الحق في اختيار زوجها بينما الجارية تحرم من هذا الحق.

ولك أن تلاحظ كيف تم تقييد وحصر هذا المنبع الوحيد نفسه أيضا، فصار الرق خيارا واحدا من ثلاثة خيارات يتم التعامل بها مع الأسرى.

مضى 14 قرنا ولم يقض عليه الإسلام!

لقد مضى الآن أكثر من 1400 عام ولم يقض الإسلام على الرق، وانتهى في عضون عقود قليلة من القرن العشرين! هناك مشكلة كبيرة في الفهم لدى من يردد مثل هذه العبارة، لأنه ببساطة لا يفهم الفرق بين التشريع وبين تطبيقه على الأرض. عندما تناقش الأمر فيجب عليك أن لا تخرج نهائيا عن التشريع. أما إذا بدأت تحاكم التشريع إلى سلوك الناس وواقعهم فالزنا أيضا والخمر والقتل والسرقة كلها محرمة، فهل وجودها بين الناس يعتبر إشكالا في التشريع؟ أبدا. يجب أن ندرك جيدا أن مبدأ المسئولية عن السلوك لدى الناس هو الأساس الأصيل لفكرة الوجود في هذه الحياة. لو كان الناس يطبقون الشريعة جبرا دون خيار منهم لانتفى مبدأ الحساب الأخروي أصلا، وهو مبدأ من أصول الإيمان. ومن هنا أيضا يمكن التفريق بين القضاء على الرق كمبدأ وبين القضاء على وجود الرقيق. فلا يدل الاحتجاج بالواقع سوى على جهل بالتصور الإسلامي الصحيح.

معاملة الرقيق في الإسلام

يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية وكلفه بالتكاليف الشرعية ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره، ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حق، ومن اجترأ على ذلك بلا حق فهو ظالم جائر. وسنوضح متى يحق الرق على الإنسان في شريعة الإسلام.

لكن إذا كان الإنسان رقيقا، فكيف يعامله الإسلام؟ هل يعامله مثلا كما كان الرومان يعاملونه كأداة للتدريب على القتال بطعنه وقتله، أو كما كان يعامل في أوروبا وأمريكا؟

ضمان الغذاء والكساء مثل أوليائهم

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ أَخَاهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ.” رواه البخاري (6050).

حفظ كرامتهم

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ.” رواه البخاري (6858).

وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يقل أحدكم: هذا عبدي، وهذه أمتي، وليقل فتاي، وفتاتي.” رواه البخاري

وأعتق ابن عمر رضي الله عنهما مملوكاً له، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: ما لي فيه من الأجر ما يساوي هذا. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ.” رواه مسلم (1657).

العدل مع الرقيق والإحسان إليهم

روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دَعَك أُذُن عَبْدٍ له على ذنب فعله، ثم قال له بعد ذلك: تقدم واقرص أذني، فامتنع العبد فألح عليه، فبدأ يقرص بخفة، فقال له: اقرص جيداً، فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة، فقال العبد: وكذلك يا سيدي، اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضاً.

وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إذا مشى بين عبيده لا يميزه أحد منهم لأنه لا يتقدمهم، ولا يلبس إلا من لباسهم.

ومر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً فرأى العبيد وقوفاً لا يأكلون مع سادتهم، فغضب وقال لمواليهم: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم.

ودخل رجل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن– وكان أميراً- فقال له: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال بعثنا الخادم في شغل فكرهنا أن نجمع عليه عملين!

للعبد أن يتقدم على الحر

له أن يتقدم على الحر فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا، وقد صحت إمامته في الصلاة، وكان لعائشة أم المؤمنين عبد يؤمها في الصلاة.

للعبد أن يشتري نفسه (المكاتبة)

يحق للعبد أن يشتري نفسه من سيده مقابل مال يدفعه له على أقساط، بحيث يكاتب سيده على دفعات من المال يحضرها له حتى يكتمل ثمنه، فيطلقه سيده ليبحث عن مصدر للرزق يكسب منه ذلك المال. وهذا ما ورد في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ” النور/33.

والأمر هنا للوجوب، فقد قال إمام المفسرين الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره: “وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: واجب على سيد العبد أن يكاتبه إذا علم فيه خيرا، وسأله العبد الكتابة، وذلك أن ظاهر قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ظاهر أمر، وأمر الله فرض”.

بل إن للعبد إذا عجز عن إكمال ثمن نفسه أن يُدفع له من الزكاة، فعتق الرقاب من مصارف الزكاة.

هذا هو عدل الإسلام مع الرقيق وإحسانه إليهم، ومعاملته لهم.. قارنه بما ذكرناه عاليا من معاملة الأمم الغربية لهم حتى في العصور المتأخرة..

وفي مجال المقارنة يقول جوستاف لوبون في “حضارة العرب” (ص459-460): “الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة.. وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجئون إلى استعمال هذا الحق.” لاحظ أنه يعتبر معاملة الأرقاء عند المسلمين أفضل حتى من معاملة الخدم في أوروبا..

لماذا المعاملة الحسنة بلا حرية؟

قد يقول البعض إن حرص الإسلام على الإحسان إلى الرقيق والحفاظ على حقوقهم وحسن معاملتهم في المأكل والمشرب والملبس كما أوضحنا يشبه معاملة العجوز الساحرة للأطفال في قصة هانسيل وجريتل، حيث تقوم بتسمينهم لتأكلهم! الإشكال عند هؤلاء يتضح عند افتراض موقفهم لو كان الإسلام يحتقر الرقيق ويسمح بإساءة معاملتهم.. ماذا سيكون موقفهم من الإسلام؟ عندما يعطيك الناقد موقفا معارضا في حالة الإحسان وبالطبع موقفا معارضا في حالة الإساءة فهذا دليل صريح على أنه شخص لا ينطلق من موقف مبدئي في نقده وإنما هو عداء نفسي، فنفسه ليست مهيئة في كل الأحوال إلا لشيء واحد فقط؛ هو تحويل كل شيء إلى عيب، وستكون أنت معه متهما في كل الأحوال، سواء أحسنت أو أسأت. ومثل هذا لا قيمة لاتهاماته، لأنها تسقط تلقائيا لسقوط مصداقيتها وموضوعيتها.

هل الرق عمل أخلاقي؟

ليس كل عمل يمكنك تصنيفه إجمالا كعمل أخلاقي أو غير أخلاقي بمعزل عن أسباب وهدف ذلك العمل.. فقط الممارسات المصنفة على أساس قيمي يمكنك أن تحدد إن كانت أخلاقية أو غير أخلاقية، أو تقول إنها مشروعة أو غير مشروعة. أما الممارسات العامة فلا يمكنك الفصل فيها إجمالا من الناحية الأخلاقية أو الشرعية.

فمثلا التجارة لا يمكنك أن تعتبرها كلها أخلاقية أو كلها غير أخلاقية، فهناك من يتاجر بالسيارات مثلا وهناك من يتاجر بالمخدرات.

لاحظ مثلا أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة إذا كانا زوجين فهي مباحة وأخلاقية ومهمة لاستمرار الجنس البشري، ولكن إذا كانت زنا أو اغتصاب فهي غير أخلاقية.

بل إن القتل ليس شرطا أن نعتبره دائما غير أخلاقي.. فهو قد يكون في كثير من التشريعات أخلاقيا ومطلوبا إذا كان تنفيذه من أجل العدل والقصاص، أو من أجل حفظ أمن الأمة ضد الخونة حتى لا يتجرأ غيرهم على الخيانة.

وعلى ذلك قس كثيرا من الممارسات، ومن هذه الممارسات الرق الذي نتحدث عنه. فإذا تمكنت من العدو في أرض المعركة بعد أن شرع في قتلك وسعى فيه، ثم أبقيت عليه حيا أسيرا مع قدرتك الكاملة على قتله، وجازيته بالأدنى وهو سلب حريته مع أن حقه القتل، فلا شك أن العدول عن قتله إلى استرقاقه عمل أخلاقي. ولو أنك خيرته بين الموت وبين الرق فلن يختار الموت، خصوصا مع علمه أن هناك احتمال كبير لنجاته من الرق من خلال مصارف الرق التي ذكرناها. وإذا كان يسعى ليسلبك حياتك لو وقعت بيده ثم يقع هو بيدك فتهب له حياته وتسلب حريته مع علمك أنه قد يتحرر ويعود إلى أهله، فأنت هنا أكرم منه وأرفع أخلاقا.. وإن عفوت عنه وأحسنت إليه فقد بالغت بإكرامه ولك الأجر العظيم في ذلك.

أما النساء المقاتلات فلا يصح لمسهن عند أسرهن كما يتوهم البعض إلا بعد أن تذهب كل واحدة مع سيدها، والفرق بين الجارية والحرة هو أمر واحد: أن الحرة تختار زوجها بينما الجارية ليس لها الحرية في الاختيار.

ماذا عن استيراد الجواري؟

المقصود هنا هو شراء الجواري من خارج بلاد المسلمين.. ويجب أن لا ننسى أن هؤلاء الجواري كن إماء قبل أن يشتريهن المسلمون فليس للمسلمين دخل في كونهن إماء، والملحد الذي ينتقد الإسلام على شرائهن أو قبولهن كهدايا لا ينطلق من الواقع وإنما ينطلق من مشاعر الكراهية للإسلام، فالواقع يقول إن عيشهن بين المسلمين في معيار الأخلاق أفضل كثيرا من عيشهن بين الكفار لسببين: الأول هو فرض الإسلام لنظام صارم في إحسان معاملة الجواري كما أوضحنا، والثاني هو أن فرصة تحريرهن في الإسلام أعلى بكثير منها عند غير المسلمين. وإذا كان منطلق هذا الملحد الذي ينتقد هو مصلحة الجواري وكرامتهن فكيف يعترض على انتقالهن إلى حالة أفضل يغلب فيها أن ينلن حريتهن؟

من شهادات المنصفين

تقول المستشرقة الألمانية أنا ماري شيمل (Annemarie Schimmel): “الإسلام يأمر بحسن معاملة العبيد، فللعبيد مثلا الحق في الحصول على رواتبهم في حالات العجز والمرض. وعتق العبيد من الأمور التي يدعو إليها الإسلام، وللعبد الحق في شراء المحل الذي يعمل فيه، وله الحق في الحصول على قدر من دخل العمل، وقد قضى الإسلام نهائيا على الرق، وتبوأ العبيد أرفع المراكز، وهذا ما نلاحظه من قراءة التاريخ الإسلامي عامة.” (الإسلام دين الإنسانية– ص 82)

ويقول المفكر النصراني المصري الدكتور نظمي لوقا: “لقد سوّى الإسلام بين العبدان والأحابيش وملوك قريش.” (محمد الرسالة والرسول ص 185)

ويؤكد العالم جوستاف لوبون (Gustave Le Bon) في كتابه “حضارة العرب” أن أوضاع الرقيق في البلاد الإسلامية كانت أفضل بما لا يقاس من خدم المنازل في الغرب. فالرقيق- كما يلاحظ لوبون- كانوا يعتبرون من أفراد الأسرة، لا فوارق بينهم وبين الأبناء، فهم يتناولون ذات الطعام، ويلبسون ملابس مماثلة لسادتهم، ويختلطون بهم في المعيشة اختلاطاً تامًا ، حتى يكاد الغريب عن المكان لا يعرف العبد من السيد في الأسرة العربية. وقد رفض كثير من الرقيق الحرية وفَضَّلوا البقاء مع سادتهم العرب لنبلهم وكرمهم. (حضارة العرب– طبعة الهيئة العامة للكتاب– مصر– ضمن مشروع مكتبة الأسرة)

وما ذكره المنصفون من غير المسلمين مثبت بالوقائع التاريخية، فالتاريخ يثبت أن المسلمين كانوا يعاملون الرقيق كالأبناء فعلاً. ولهذا نبغ الموالي في كل الأقطار الإسلامية في الحرف والمهن المختلفة، ووصلوا إلى قيادة الجيوش والمناصب الإدارية العليا، بل وصلوا إلى رئاسة الدولة كما حدث في دولة المماليك بمصر.

فالسلطان قطز قاهر التتار كان مملوكاً عطف عليه سيده وربّاه وثقفه، ثم دفع به إلى الصفوف الأولى حتى وصل إلى حكم مصر، وكذلك الظاهر بيبرس والملكة شجرة الدر وعز الدين أيبك وكافور الإخشيدي وغيرهم. ولولا سماحة الإسلام ونبل معاملته للمماليك لما كان من هؤلاء حكام خلّدهم التاريخ الإسلامي كما لم يحدث في أية أمة أو حضارة أخرى. وصدق قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : “هكذا الإسلام يزيد الشريف شرفاً ويرفع المملوك على الأسّرة”.

و كان من أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي كله من كانوا عبيداً من قبل، وأنعم الله عليهم بالإسلام والحرية ثم خلود الذكر. ونكتفي هنا ببعض الأمثلة فقط:

  • بلال بن رباح: صاحب أول آذان في تاريخ الإسلام ثم مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام طوال حياته. هل هناك أشرف من الآذان الذى يدعو الناس إلى بيت ربهم للصلاة والوقوف بين يدي الخالق جل وعلا؟ ألا يدل تكليف النبي صلى الله عليه وسلم لبلال العبد السابق بهذه المهمة السامية على تشريف الإسلام لأولئك الذين استعبدوا وأهدرت إنسانيتهم حيناً من الدهر؟ وكان عمر رضي الله عنه يأذن له بالدخول عليه قبل أبي سفيان بن حرب سيد مكة في الجاهلية.

  • صهيب الرومي: صلى إماماً بالصحابة صلاة الجنازة على عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وكان خلفه مأموما عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من سادات العرب، وهو العبد السابق الذي أعزّه الله بالإسلام.

  • زيد بن حارثة: تولى– ثم ابنه أسامة من بعده– قيادة جيش المسلمين، وكان من جنوده سادات وأكابر المهاجرين والأنصار.

  • الحسن البصري: كان أبوه من العبيد الذين تحرروا بالإسلام، وكانت أمه مولاة للسيدة أم سلمة، وهو إمام فقيه له مكانة عظيمة في تاريخ العلماء والفقهاء المسلمين.

  • محمد بن سيرين: تحرر أبواه بالإسلام، وله مكانة وغزارة علم وتقوى ومنزلة رفيعة في قلوب السلف والخلف.

  • عكرمة مولى ابن عباس: كان من أكثر الناس دراية بعلم حبر الأمة سيده ابن عباس رضي الله عنهما. ومثله نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما.

  • سالم مولى أبي حذيفة: قال عنه عمر رضي الله عنه، لو كان حيا لاستخلفته على المسلمين.

  • زيد بن حارثة: ورد اسمه في القرآن، وقالت عائشة عنه: لو كان حيا لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، أي جعله خليفة.

إنكار أصالة التشريع الإسلامي وثبوته

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المشككين أصالة التشريع الإسلامي وثبوته، ويستدلون على ذلك باختلاف التشريع المدني عن التشريع المكي؛ حيث ظهر بالمدينة تشريع الجهاد، والزكاة، والحج، ونحو ذلك، ويعتبرون هذا الاختلاف ناتجا عن استقاء النبي صلى الله عليه وسلم هذه التشريعات من مجتمع المدينة المتمدين؛ خاصة اليهود، ويتساءلون: أي أصالة للتشريع الإسلامي وثمة اختلاف في أحكامه واستقاء لها من أهل الكتاب؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) يتسم التشريع الإسلامي بالأصالة والثبوت، يتحقق من ذلك المتأمل في تشريعاته وأحكامه، والمقارن بينه وبين التشريعات الوضعية.

2) قضايا التشريع الإسلامي ليست صنفا واحدا بل أصناف متنوعة، منها: الثابت الذي لا يقبل التجدد أو التطور لورود النص القطعي فيه، ومنها المتطور الذي يقبل الاجتهاد والقياس ومراعاة المصلحة.

3) تطور تشريع العهد المدني عن العهد المكي؛ لأن العهد المكي كان عهد تربية للمؤمنين على عقيدة التوحيد وضبط النفس والتجرد والصبر والاحتمال، بينما كان العهد المدني عهد إقامة الدولة الإسلامية، وما تستلزمه من مقاومة وقتال وتشريعات تنظم المجتمع الجديد، وإكمال بقية الدين، ومن ثم فلا غرابة أن يتطور التشريع حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة.

4) ليس ثمة صحة لزعم المغرضين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخذ هذه التشريعات من أهل المدينة، بل جاءهم بما يناقض عقائدهم المحرفة ويهدم الباطل من تشريعاتهم.

التفصيل:

من أميز خصائص شريعة الإسلام أنها تتصف بالأصالة الباقية، والخلود الأبدي في نصوصها ومصادرها، دون أن يتطرق إليها تحريف، أو يطرأ عليها أي تبديل أو تغيير.

فالقرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع، قد تكفل الله بحفظه وبقائه إلي يوم البعث والنشور دون أن تناله يد تحريف أو تبديل، وها هو ذا قد مضى على نزول القرآن الكريم أكثر من أربعة عشر قرنا، وما يزال – وسيبقى إن شاء الله – هو هو في لفظه ومعناه، وتجويده وأدائه؛ مصداقا لقوله عزوجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) [1].

ولقد شهد لأصالة هذا القرآن وخلوده الأبدي على مدى الأجيال منصفون من رجالات الغرب، ومن هؤلاء البروفيسور رينولد نيكلسون؛ حيث يقول في كتابه “التاريخ الأدبي للعرب”: “القرآن الكريم وثيقة إنسانية رائعة توضح بدقة سر تصرفات محمد – صلى الله عليه وسلم – في جميع أحداث حياته، حتى إننا لنجد فيه مادة فريدة لا تقبل الشك ولا الجدل، نستطيع خلالها أن نتتبع سير الإسلام منذ نشأته وظهوره في التاريخ المبكر، وهذا ما لا تجد له مثيلا في البوذية أو المسيحية، أو أي دين من الأديان القديمة”.

مع ملاحظة أن تعبير “وثيقة إنسانية” تعبير استشراقي، فالقرآن الكريم رسالة سماوية وشريعة ربانية.

والسنة النبوية التي هي المصدر الثاني من مصادر الشريعة، بل هي المبينة للقرآن الكريم، والمكملة لأنظمة الإسلام.. هذه السنة قد هيأ الله لها من يحفظها من عبث العابثين، ووضع الملفقين، ودس المغرضين[2].

وخطأ القائلين بمثل هذه الشبهة أنهم يقيسون طبيعة الشريعة، التي اكتملت – بوحي السماء – على يد صاحب الرسالة – صلى الله عليه وسلم – فلا مجال بعده لإضافة حرف إلى ما بلغ عن ربه، أو قال، أو فعل، أو أقر، يقيسون هذه الطبيعة متجاهلين اكتمال الشريعة في عصر الرسالة على طبيعة القانون الوضعي الذي نشأ – كالمجتمع البشري – بسيطا بدائيا، ثم تراكمت خبراته، وتفرعت أبوابه، وتعقدت مسائله بمرور الزمن وتتابع الأجيال، ومن هذا المنطلق فإنهم ينعتون الشريعة بعدم الأصالة والثبوت، وبالقابلية للإضافات والزيادات على مر العصور بوسائل؛ كالإجماع، والاجتهاد، والقياس ونحو ذلك.

وحول أصالة التشريع الإسلامي وثبوته وكماله يحدثنا القانوني الفقيه عبد القادر عودة – رحمه الله – فيقول: “ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلا محدود القواعد، ثم يتطور بتطور الجماعة فتزداد قواعده وتتسامى نظرياته، كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها.

ثم يقارن بين نشأة القانون الوضعي والشريعة، فيقول:

القانون الوضعي؛ كالوليد ينشأ صغيرا ضعيفا، ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو، كلما تطورت الجماعة التي يحكمها، وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور.

فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي، وتصيغه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، وهو تابع لها وتقدمه مرتبط بتقدمها.

وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى للقانون يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل.

والدولة حين بدأت تتكون وحدت العادات والتقاليد، وجعلت منها قانونا ملزما لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة، ولكن قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدول الأخرى، وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية، والعلمية، والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي من ذلك الوقت حتى الآن تطورا عظيما، وأصبح قائما على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة، وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة، والمساواة، والرحمة، والإنسانية.

وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقي لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.

هذه هي خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها، تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن. وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطيء استمر آلاف السنين.

أما الشريعة؛ فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ هذه النشأة، ولم تسر في هذا الطريق، فلم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت.

ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية، ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما ولدت شابة مكتملة، ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة جامعة مانعة، لا ترى فيها عوجا، ولا تشهد فيها نقصا، أنزلها الله تعالى من سمائه على قلب رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – في فترة قصيرة لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها، فقد بدأت ببعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانتهت بوفاته، أو يوم قال الله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم، وتباين عاداتهم وتقاليدهم، وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة، وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة؛ بل هي الشريعة العالية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها.

وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول؛ فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات، وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظم شئون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم. ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة، ونظرياتها الأساسية، فجاءت نصوصها من العموم والمرونة، بحيث تحكم كل حالة جديدة، ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل.

وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله عزوجل، وهو يقول: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصا تبقى صالحة على مر الزمان، أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب، تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه.

ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها أخيرا القانون الوضعي مع أن القانون أقدم من الشريعة – ويقصد الشريعة الإسلامية – بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر مما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمنى رجال القانون اليوم أن يتحقق من المبادئ موجود في الشريعة من يوم نزولها. ثم يخرج الدكتور عودة بعد هذه المقارنة بين الشريعة والقانون بنتيجة مؤداها أنه:

لا مماثلة بين الشريعة والقانون:

يوضح ذلك قائلا: “ونستطيع بعد أن استعرضنا نشأة القانون ونشأة الشريعة أن نقول بحق: إن الشريعة لا تماثل القانون ولا تساويه، ولا يصح أن تقاس به، وإن طبيعة الشريعة تختلف تماما عن طبيعة القانون، ولو كانت طبيعة الشريعة من طبيعة القانون الوضعي لما جاءت على الشكل الذي جاءت به، وعلى الوصف الذي أسلفنا، ولوجب أن تأتي شريعة أولية، ثم تأخذ طريق القانون في التطور مع الجماعة، وما كان يمكن أن تأتي بالنظريات الحديثة التي لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيرا، بل ما كان يمكن أن تصل إلى مثل هذه النظريات إلا بعد أن تعرفها القوانين وبعد مرور آلاف السنين.

ومن اليسير على أي منصف استعرض تاريخ القانون والشريعة الاسلامية، أن يتبين الاختلافات المتعددة بين الشريعة، والقانون، والمميزات الكثيرة التي تميز الشريعة عن القانون؛ حيث تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافا أساسيا؛ بأن القانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم، ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل، أو ما نسميه “بالتطور”، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو جدت حالات لم تكن منتظرة. فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون وإن استطاع الإلمام بما كان.

أما الشريعة فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله، وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن، ومن ثم صاغها العليم الخبير، بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال؛ حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر – عزوجل – ألا تغير ولا تبدل حيث قال: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل، مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.. وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية مايأتي:

أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.
أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر – في وقت أو عصر ما – عن مستوى الجماعة.

والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع السماوية والوضعية؛ فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.

ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرنا تغيرت في خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطورا كبيرا، واستحدث من العلوم والمخترعات، ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه أكثر من مرة لتتلاءم مع الحالات الجديدة، والظروف الجديدة، بحيث انقطعت العلاقة بين القواعد القانونية الوضعية التي نطبقها اليوم، وبين القواعد القانونية الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وبالرغم من هذا كله، ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل، ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم حاجاتهم وسدها، وأقرب إلى طبائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.

ويؤكد الفقيه عبد القادر عودة على أن المسلمين الأوائل آمنوا وحسن إيمانهم فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم – على قلتهم وضعفهم – قادر أن يمكن لنا في الأرض، إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله سبحانه وتعالى: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( (النور: ٥٥)، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته حيث يقول عزوجل: )قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة) [3].

ثانيا. قضايا التشريع الإسلامي ليست ثابتة، بل منها الثابت والمتطور والمتجدد:

من أعظم خصائص الشريعة الإسلامية، ومن أبرز مزاياها أنها جمعت بين الثبات والتطور، وبين الإجمال والتفصيل، وبين القديم والجديد؛ لتستوعب بخصيصتها هذه حاجات الزمن، وتواكب – بمزيتها تلك – حضارات العصور، ويتحدث د. عبد الله ناصح علوان عن ذلك، فيقول: تنقسم الأحكام التشريعية ثلاثة أقسام، هي:

مسائل تشريعية ثابتة لا تقبل التجديد ولا التطور؛فهذه المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية وأحكام تفصيلية، وهذه الأحكام لا مجال للاجتهاد فيها ألبتة؛ كمسائل العقيدة، وأركان الإيمان، وأحكام العبادات، ومسائل الحدود، وحرمة الزنا، والربا، والخمر، والميسر، وقتل النفس… إلى غير ذلك، فهذه النصوص أحكام ثابتة لا يدخلها الاجتهاد، ولا تخضع للتطور الزمني[4].

وكل من يريد أن يبدل فيها، أو يجتهد في تطويرها يكون هادما للشريعة، ومحاربا لله وللرسول، وخالعا من عنقه ربقة الإسلام.

وبناء على هذا يقول علماء الأصول: “لا مجال للاجتهاد في مورد النص”.

ولا يعيب الشريعة شيئا أن يشرع الله – عزوجل – هذه الأحكام الثوابت لكونها تحقق المصلحة للفرد والمجتمع في كل العصور والأمصار، فلا وجه أبدا لتطويرها لأن شارعها العليم الخبير؛ فهو الأعلم بما يحقق لعباده من مصالح، ويدرأ عنهم من مفاسد )والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)( (البقرة).

القضايا التشريعية الخاضعة للتطور؛ هي القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة، فهذه القضايا خاضعة للاجتهاد الزمني، حيث يحكم لها أو عليها علماء راسخون متخصصون، متسمون بالورع والتقوى، ومتصفون بالذكاء، وسعة الاطلاع، وملكة الاجتهاد.. فيصدرون أحكامهم بما يحقق وجه المصلحة، وما يتلاءم مع التطور الحضاري، والتقدم العلمي؛ كبيان حكم الإسلام في الضمانات التقاعدية للموظف والعامل، وفي تعويضات التسريح وفي التعويض العائلي، وفي التكافل الاجتماعي.

فهذه المسائل وما كان على شاكلتها تحتاج إلى نخبة من أهل الفقه والاختصاص ليقرروا حكم الإسلام فيها على ضوء المصلحة والتطور، وروح الشريعة ومقاصدها العامة شريطة ألا تتعارض مع نص صريح، أو تخرج عن القاعدة العامة، أو تتجاوز هذا الإطار المحدد لها.

وبناء على هذا يقول علماء الأصول: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.

أما القضايا التشريعية القابلة للتجديد:فهي المبادئ والقواعد التي لها ارتباط وثيق بالمعاملات المالية، والشئون القضائية، والنظم الاقتصادية، والقضايا الإدارية والدستورية، فهذه المعاملات والقضايا مما يتجدد فيها مصالح الناس، ومما تدور مع الاجتهاد في كل زمان ومكان.

ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة:

القرآن الكريم في الأمور القضائية نص بوضوح على قاعدة العدل: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: ٥٨).

فقاعدة العدل التي نصت عليها الآية الكريمة قاعدة كلية ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، ويجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة العدل متروكة للزمن المتطور والحياة المتجددة. فتطبيق قاعدة العدل قد يكون في محكمة واحدة، أو بتعدد المحاكم، أو بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية… فهذا كله متروك لأهل الحل والعقد، بل متروك للإصلاح من تجارب البشرية.

فمقصد الشريعة الأول تطبيق مبدأ العدل، فليكن التطبيق بأية وسيلة وبأية صورة ارتآها أهل الحل والعقد، وبأي تنظيم أو إطار أشار إليه المختصون في هذا المجال، ما دامت المحاكم تطبق قاعدة العدل، وتحقق مصلحة المساواة بالنسبة للجميع.

والقرآن الكريم في أمور المعاملات نص بوضوح على قاعدة الإيفـاء بالعقـود، فقال تعالـى:)  ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود( (المائدة: 1).

فقاعدة الوفاء بالعقود التي نصت عليها الآية قاعدة كلية ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، بل يجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن الفقهاء اجتهدوا فيما يراد بالعقود هل تقتصر على العقود التي أقر الشرع اسما لها؛ كعقد البيع، والهبة، والإجارة، والزواج… أم تشمل العقود التي استحدثت فيما بعد؛ كعقد الاستصناع، والتعهدات، والمقاولات، والتأمينات الاجتماعية.

فذهب أكثر الفقهاء إلى أن اللفظ في الآية عام يشمل كل عقد أقر الشرع تسميته أو استحدث فيما بعد إلا عقدا أحل حراما، أو حرم حلالا.

وبناء على أن اللفظ في الآية عام يشمل كل عقد، نشأت في الفقه الإسلامي عقود جديدة كثيرة في عصور مختلفة، وسماها الفقهاء بأسماء خاصة كعقد الإجارتين، وعقد التحكير في الأموال الموقوفة، ولا بد من إيضاح لمفهوم هذين العقدين الأخيرين[5]:

فعقد الإجارتين: هو أن يتفق المشرف على الوقف مع شخص على أن يدفع مبلغا يكفي لتعمير عقار الوقف المبني المتوهن عند عجز الوقف عن التعمير على أن يكون لدافع المال حق السكنى الدائمة في هذا العقار بأجر سنوي ضئيل.

وعقد التحكير[6]: هو الاتفاق على إعطاء أرض الوقف الخالية لشخص لقاء مبلغ يقارب قيمتها باسم أجرة معجلة ليكون له عليها حق القرار الدائم ويتصرف فيها بالبناء والغرس وغيرهما كتصرف المالكين للأرض، ويترتب عليه أيضا أجر سنوي ضئيل.

هذا في الاستنباط الاجتهادي فيما يجد من عقود كما دلت عليها آية: )أوفوا بالعقود( (المائدة: 1).

أما عن وسائل تطبيق قاعدة الوفاء بالعقود فتركها الإسلام للزمن المتطور، والحياة المتجددة، فتطبيق هذه القاعدة، وتنظيمها، وتسجيلها، وتوثيقها، وضمان حقوق أصحابها، هذه الأمور كلها تركها الإسلام لأهل الحل والعقد، بل تركها للأصلح من تجارب البشرية، فمقصد الشريعة الأول – تطبيق مبدأ “الوفاء بالعقود”، فليكن التطبيق بأية وسيلة، وبأية صورة ارتآها أهل الاختصاص سواء كان تسجيل العقد في دائرة، أو كان على صورتين يحتفظ كل من المتعاقدين بصورة منه، أو كان قائما على الإشهاد موثقا بكاتب عدل، أو غير ذلك.

والقرآن الكريم في الشئون الدستورية نص بوضوح على قاعدة الشورى: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى: 38).

فقاعدة الشورى التي نصت عليها الآية قاعدة كلية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، بل يجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة الشورى متروك للزمن، فتطبيق قاعدة الشورى في مجلس استشاري يضم النخبة من أهل الرأي والاختصاص، أو في مجلس انتخابي ينتخبه الشعب، أو انتقاء مجالس وزارية من أهل الخبرة والاختصاص، أو انتخاب مجالس محلية لكل مقاطعة أو بلد، فهذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية.

فمقصد الشريعة الأول تطبيق قاعدة الشورى، فليكن التطبيق بأية وسيلة كانت، وبأية صورة أو هيئة ارتآها أهل الحل والعقد ما دامت الدول برئيسها وهيئة الحكم فيها تطبق قاعدة الشورى.

ومثل ذلك:

o  مبدأ إعداد القوة في قوله تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( (الأنفال: 60).

o  ومبدأ تنظيم الدين في قوله تعالى: )إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه( (البقرة: 282)، إلى غير ذلك من هذه المبادئ والقواعد التي نصت عليها شريعة الإ سلام[7].

تلكم أهم اللمحات الخاصة بالتطور والثبات في مبادئ الشريعة، وهي بهذا المعنى جمعت بين القديم والجديد، والأساسيات الثابتة والتطوير، وهذا يعني أنها بهذه الخصيصة تفي بحاجات الزمن المتطور، وتواكب حضارات البشر المتجددة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ثالثا. تطور تشريع العهد المدني عن العهد المكي:

ويبرز هذا التطور وسببه من خلال مقارنة يسيرة بين طبيعة العهدين وما يتطلبه كل منها من تشريعات:
العهد المكي: إن أبرز سمات هذا العهد، هي تربية المؤمنين على ضبط النفس، والتجرد والصبر والاحتمال، وهو عمل كبير، وجهاد شاق، قام به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفق منهج القرآن، فربى جماعة كانت هي الأساس الذي قام عليه مجتمع المدينة، وجيش الإسلام الجديد.

هذا العهد هو عهد بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة والدعوة، وتكوين النواة القوية الصلبة لجيش يجاهد في سبيل الله، وتربية الأسرة المؤمنة الفاهمة، التي تسند ظهر المجاهدين، وتؤمن بالبذل والشهادة، وتؤدي رسالتها في المجتمع، فلا تتلفها خسارة الأنفس والأموال.

إن ذلك كله لا بد أن يتم قبل تكوين الدولة وخوض معارك القتال، وذلك ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو سر عظمة مجتمع المدينة، وسر ما رواه التاريخ عن الرعيل الأول في السلم والحرب على السواء[8].

العهد المدني: انصرفت الجهود خلال العصر المكي إلى بناء الإنسان المسلم، وإنضاج الشخصية الإيمانية، فلما تم ذلك تحولت تلك الجهود في أثناء العصر المدني إلى بناء المجتمع المسلم والدولة بسواعد المسلمين.

ذلك أن الإسلام دين ودولة، دنيا وآخرة، فما إن استقر بالرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين المقام في المدينة المنورة، وصارت قاعدة لهم، حتى شرعت الجماعة المسلمة في بناء دولتها وترسيخ أركانها عبر خطوات عديدة، منها:

بناء المسجد:

فللمسجد في الإسلام رسالة مهمة تعدو كونه دار عبادة ومحل طقوس وشعائر. ويبين لنا د. محمد سعيد رمضان البوطي هذا فيقول: “ولا غرو، ولا عجب فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي، وذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ، والتماسك بالتزام النظام الإسلامي وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه.

إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يوميا على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت مما بينهم فوارق الجاه، والمال، والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم”[9].

المؤاخاة بين المسلمين:

فمن البديهي أن الدولة المبتغاة يجب أن تكون قوية الأركان وأن تكون الأمة المنشودة عزيزة الجانب، إذن لا بد أن تتألف من مجتمعات مستقرة متينة الأواصر بين أفرادها ووحداتها المختلفة، غير متنافرة ولا متباعدة، ولا مشققة اللحمة متقطعة الروابط؛ ولهذا سارع – صلى الله عليه وسلم – إلى المؤاخاة بين الأنصار أصحاب دار الهجرة، ومن هاجر إليهم من إخوانهم ليواسوهم بأموالهم وأنفسهم عما خلفوه وراءهم من المال، والوطن، والأهل، والولد لتتم الألفة وينخرط المجاهدون في المجتمع الجديد غير مستشعرين غربة ولا نفرة.

وضع الدستور (صحيفة المدينة):

فقد ضمت المدينة بعد الهجرة طوائف شتى، فبالإضافة إلى المسلمين وجد المشركون من العرب، كما كانت تسكنها قبائل عدة من اليهود، كبني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، فكان لا بد من وضع معاهدة تكون بمثابة دستور ينظم العلاقة بين هذه الطوائف، ويحدد لكل حقوقه وواجباته. وهي ما عرفت بوثيقة المدينة، وهي من أهم لبنات تأسيس الدولة بها.

تشريع القتال والجهاد:

بعد الهجرة إلى المدينة تحول حال المسلمين من ضعف إلى قوة، ومن فقر إلى غنى، ومن ذل وهوان إلى كرامة وعزة، فبدأ عهد جديد للإسلام، حيث أصبح له دولة ورجال يدافعون عنه، فبدأ المجتمع الإسلامي الجديد يحس بالهدوء والأمن والاستقرار، ولكن ما كانت قريش لتترك الإسلام والمسلمين، فقد اعتبرت انتقال الدعوة إلى المدينة خطرا كبيرا على تجارتها في طريقها إلى الشام، وخطرا كبيرا على سلطانها بانتشار الإسلام، فلا غرو أن يتوقع المسلمون مهاجمتها للمدينة في أي وقت، فشرع القتال لدفع العدوان وتحرير المستضعفين، ونظم القرآن قواعده وآدابه[10].

بناء الجيش:

إذ لا بد لكل دعوة من قوة تحميها حتى وإن كانت دعوة حق لا باطل؛ لأن البشر ليسوا جميعا مثاليين، وإنما فيهم الخير والشر، ومن ثم فإن حزب الشر لا بد سيقف في وجه دعوة الحق، يقاومها ويصدها عن المضي في سبيلها، ويحاول بكل سبيل إعاقتها، فلا بد إذن من القوة لحماية الحق وإزاحة العوائق والطواغيت، وتخلية الطريق أمامه؛ لينساب مجرى نهر الدعوة انسيابا طبيعيا فيميل إليها من يرغب فيها، ويميل عنها من يرغب عنها، دون تهديد أو إكراه في الحالتين، من هنا بادر الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى إعداد أصحابه للجهاد في سبيل نشر الدعوة، بعد أن أذن له بالقتال، فبدأ في إرسال السرايا وتجييش الجيوش للغزوات.

تشريع الزكاة:

بعد أن ترسخت العقيدة في صدور المسلمين، وبعد أن ثبتوا على إيمانهم، وقد نجحوا في اختبار التجرد والصبر والاحتمال، وبعد أن استقروا في المدينة، وبعد أن امتلكوا مالا، وأصبحت لهم تجارة، وفاض المال وكثر، فرض الله – عزوجل – عليهم الزكاة؛ تطهيرا لنفوسهم من أنجاس الذنوب، وتزكية لأخلاقهم بخلق الجود والكرم، وترك الشح، والضن بالمال. فالزكاة تنقي النفس من أشد الأمراض وأسوئها وهو داء الشح، كما أنها تعالج داء الحقد والحسد في نفس الفقير[11].

تشريع الحج:

لقد شرع الحج – أيضا – بعد الاستقرار في المدينة، وإقامة الدولة، وبعد أن شعر المسلمون بالأمن والأمان، وبعد أن بدءوا في السعي في الدنيا، وشغلتهم أموالهم وأهلوهم، فرض الحج؛ لإعادة قلب المسلمين إلى الصفاء والنقاء، والاطمئنان بذكر الله عزوجل وفي الحج يتحكم الإنسان في جوارحه ومشاعره وشهواته ونزواته، فيتدرب على الامتناع عن الحلال توصلا إلى الكف عن الشبهات والحرام، كما أن الحج يسهم مع العبادات الأخرى في تخلق المسلم بالكرم، والجود فهو يبذل مالا كثيرا ابتغاء مرضاة الله تعالى[12].

إن هذا المجتمع الإسلامي المركب المنظم في المدينة يختلف في طبيعته وظروفه عن أحوال الجماعة المسلمة البسيطة بمكة، ولأجل تنظيم ظروف هذا المجتمع الجديد والدولة الوليدة نزلت تعاليم سماوية بقواعد شرعية جديدة مختلفة عما نزل بمكة في ملامحها وأهدافها، ومن هنا جاء التمايز التشريعي الإسلامي بين العهدين المكي والمدني، فهي شريعة واحدة أصيلة تترسخ قواعدها، وتتكامل أركانها على مر سني العهد النبوي حتى تتم بتمامه، فلا تتبدل أصولها بعد صاحب الرسالة ولا تتغير ولا تزيد، ولا تنقص، وليس كما زعم الزاعمون أنها شريعة مقلدة غير أصيلة، متقلبة متغيرة غير ثابتة ولا راسخة، تزيد وتنقص مع الزمان!

رابعا. تشريعات العهد المدني غير متأثرة بأهل المدينة ولا مأخوذة عنهم، بل اقتضتها ظروف المرحلة المدنية:

وللإبانة عن وجه الحق في علة تباين التشريع في العهد المدني وتطوره عنه في العهد المكي، نورد هنا رأي اثنين من أعلام المتخصصين في علوم القرآن، يقول الشيخ الزرقاني: “يقولون: إن القسم المكي خلا من التشريع والأحكام، بينما القسم المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام. وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد وتأليفه، تبعا لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه، فهو حين كان بمكة بين الأميين، جاء قرآنه المكي خاليا من العلوم والمعارف العالية، ولما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين، جاء قرآنه المدني مليئا بتلك العلوم والمعارف العالية، وننقض هذا الكلام بما يأتي:

أن القسم المكي لم يخل جملة من التشريع والأحكام، بل عرض لها وجاء عليها، ولكن بطريقة إجمالية، فإن مقاصد الشريعة الكلية خمسة: حفظ الدين. حفظ النفس. حفظ العقل. حفظ النسل. حفظ المال، وقد تحدث القسم المكي عنها إجمالا.

واقرأ إن شئت قوله – عزوجل – في سورة الأنعام المكية: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم( (الأنعام: 151)، إلى تمام ثلاث آيات بعدها، جمعت الوصايا العشر لهذه المقاصد الخمسة، ولا يخفى عليك أن آيات العقائد في القسم المكي ظاهرة واضحة، وكثيرة شائعة، ليست من موضوع الاشتباه، ولا يختلف اثنان في أنها أكثر من مثيلاتها في السور المدنية بأضعاف الأضعاف.

أن كثرة التفاصيل في تشريع الأحكام بالمدينة، ليس نتيجة لما زعموه، إنما هو أمر لا بد منه في سياسة الأمم وتربية الشعوب، وهداية الخلق؛ ذلك أن الطفرة حليفة الخيبة والفشل، والتدرج حليف التوفيق والنجاح، وتقديم الأهم على المهم واجب في نظر الحكمة، لهذا بدأ الله عباده في مكة بما هو أهم، بدأهم بإصلاح القلوب، وتطهيرها من الشرك والوثنية، وتقويمها بعقائد الإيمان الصحيح، والتوحيد الواضح، حتى إذا استقاموا على هذا المبدأ القويم، وشعروا بمسئولية البعث والجزاء، وتقررت فيهم هذه العقائد الراشدة، فمنعهم عن أقبح العادات وأرذل الأخلاق.

وقادهم إلى أصول الآداب وفضائل العادات، ثم كلفهم ما لا بد منه من أمهات العبادات – وهذا ما كان في مكة – ولما مرنوا على ذلك، وتهيأت نفوسهم للترقي والكمال، وكانوا وقتئذ قد هاجروا إلى المدينة، جاءهم بتفاصيل التشريع والأحكام، وأتم عليهم نعمته ببيان دقائق الدين وقوانين الإسلام.

ونظير ذلك ما تواضع عليه الناس قديما وحديثا في سياسة التعليم، من أنهم يلقنون البادئين في مراحل التعليم الأولى أخف المسائل وأوجزها، فيما يشبه قصار السور ومختصر القصص، حتى إذا تقدمت بهم السن وعظم الاستعداد تلاطم بحر التعليم وزاد – على حد قولهم – الإمداد على قدر الاستعداد.

أما ما زعموه من أن ذلك كان نتيجة لاختلاط محمد – صلى الله عليه وسلم – بأهل المدينة المستنيرين، فينقضه أن القرآن جاء ليصلح عقائد أهل الكتاب، وأخطاءهم في التشريع، وفي التحليل والتحريم، وفي الأخبار والتواريخ، فكيف يأخذ المصيب من المخطئ؟ وهل يستمد الحي حياته من ميت؟ اقرأ – إن شئت – قوله عزوجل: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا( (آل عمران: 64)، وقوله عزوجل: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيــم ومـا أنزلـت التــوراة والإنجيــل إلا مـن بعــده أفــلا تعقلــون (65)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف( (المائدة: 45).

وأن ما زعموه لو كان صحيحا؛ لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم، من عرب أهل المدينة، وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة، ولكانوا هم الأحرى بهذه النبوة والرسالة، ولسبق محمدا – صلى الله عليه وسلم – إليها كثير غيره من فصحاء العرب، وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.

وأن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين، بل من جن وإنس، فلم يستطيعوا – ولن يستطيعوا – أن يجاروه، ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة، يا لها من فرية، ثم يا لها من صفاقة”[13].

ونختم بكلام بليغ عرى فيه الأستاذ محمد قطب مكامن نفوس مثيري مثل هذه الشبهة، وكشف زيف دعواهم، فقال: “كانت الفترة الممتدة في مكة فترة تربية وإعداد؛ تربية بالعقيدة، وإعداد لحمل الأمانة الكبرى التي لم تحملها أمة أخرى من قبل؛ وهي تحقيق منهج الله في واقع الأرض، والقيام في الوقت ذاته بقيادة البشرية قيادة راشدة مهتدية بنور الله عزوجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: 110)، )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( (البقرة: 143).

فأما التربية فكانت قد آتت ثمارها بالفعل في نفوس الفئة المختارة، التي رباها على عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة عشر عاما في مكة.

وحين علم الله من قلوب هذه الفئة التي تربت بـ “لا إله إلا الله” على عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين علم منها أنها تجردت لله وأخلصت له، وأصبح الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما، عندئذ نقلها النقلة الثانية الهائلة لتقوم بدورها المطلوب. كانت النقلة الأولى نقلة العقيدة، من الأرباب المتفرقة إلى لا إله إلا الله، والنقلة الثانية كانت من فترة الابتلاء والتمحيص، والاستضعاف والتشريد إلى التمكين في الأرض والاستخلاف.

وكما كان القرآن – وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم – هو أداة النقلة الأولى من الكفر إلى الإيمان، فكذلك كان هو أداة النقلة الثانية إلى التمكين والاستخلاف. فكيف كان القرآن هو الموجه والمربي في فترة التمكين؟ وفي أي الموضوعات كان يتحدث؟

تتحدث السور المدنية عن العقيدة، ولكن حديث العقيدة هنا لا يأخذ المساحة التي كان يأخذها في السور المكية؛ لأنه هناك كان للتأسيس، وهو هنا للتذكير. لقد تأسست العقيدة بالفعل في فترة التربية العقدية في مكة، واليوم يقوم مجتمع مسلم ودولة مسلمة في المدينة تحتاج إلى تنظيمات وتشريعات، وتحتاج إلى جهاد لحمايتها من أعدائها، ثم لنشر الإسلام في الأرض فيما بعد، ومن ثم يحتل هذان الموضوعان الجديدان معظم المساحة في السور المدنية: التنظيمات والتشريعات، والجهاد في سبيل الله.

في السور المدنية نجد ربطا كاملا بين العقيدة والشريعة، يلفت النظر إليه لفتا مباشرا – كما تحمله الإشارات والتلميحات – في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقوله سبحانه وتعالى: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء)، وقوله سبحانه وتعالى: )ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافــون أن يحيــف الله عليهــم ورسولــه بــل أولئــك هــم الظالمــون (50) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).

ومفهوم هذه الآيات كلها أن المدلول الحقيقي للإيمان هو التحاكم إلى شريعة الله، وأن ادعاء الإيمان مع رفض التحاكم إلى شريعة الله، أو عدم التسليم لها في داخل النفس هو ادعاء كاذب مردود على أصحابه، فالمحك الحقيقي للإيمان هو تحكيم الشريعة، والتحاكم إليها، وبغير ذلك فهي دعوة كاذبة لا يؤخذ بها في الأرض ولا يؤخذ بها في السماء، ويؤكد الأستاذ محمد قطب هذا الموضوع بقوله: ما جد في العهد المدني إلا تفصيل ما أنزل الله، أما اتباع ما أنزل الله فقد كان مقررا من قبل في العهد المكي على أنه هو العقيدة، وهو معنى لا إله إلا الله.

إلا أننا في المدينة نجد موضوعين جديدين، هما:

التشريعات والتنظيمات.
الجهاد في سبيل الله.

فأما التشريعات والتنظيمات، فقد شملت كل جوانب الحياة الإنسانية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والخلقية، وأما الجهاد في سبيل الله، أو ما نستطيع أن نطلق عليه “معركة لا إله إلا الله”، فقد شمل الحديث عنه: تحديد أعداء لا إله إلا الله، الذين لا يرغبون في إقامة حكم الله في الأرض، ويتربصون الدوائر للقضاء على الإسلام، وهم: اليهود، والنصارى، والمشركون، والمنافقون. والأعمال التي يقومون بها لمحاولة تفريق الصف المسلم، وتعويق الدعوة، وخلخلة بناء المجتمع الإسلامي مع عناية خاصة بما نسميه بيان واجب المسلمين إزاء هذه المخططات الشريرة، من عدم موالاة اليهود والنصارى، أو المشركين والمنافقين والحذر من مؤامراتهم ضد الإسلام”[14].

وبهذا التفصيل يتبين بطلان ما أنكره بعض المشككين ويثبت – بما لا يدع مجالا للشك – أصالةالتشريع الإسلامي وثبوته، أما الاختلاف بين التشريعات، بين العهدين :المكي و المدني، فالمسألة راجعة إلى اختلاف طبيعة الفترتين ـ المكية والمدنية ـ وظروفهما، مما اقتضى مغايرة في التوجيه الرباني والإرشاد السماوي، والهدي النبوي، وليس انقلابا أو تقلبا أو تخبطا، كما افترى المفترون.

الخلاصة:

الشريعة الإسلامية تتصف بالأصالة الباقية، والخلود الأبدي في نصوصها ومصادرها دون أن يتطرق إليها تحريف، أو يطرأ عليها أي تبديل أو تغيير، وواقعها خير شاهد.
للقضايا التشريعية أقسام ثلاث:

o   قضايا تشريعية لا تقبل التجديد ولا التطوير: وهي التي وردت فيها نصوص قطعية، وأحكام تفصيلية؛ كمسائل العقيدة، وأركان الإيمان، ومعظم أحكام العبادات وغيرها.

o   قضايا تشريعية خاضعة للتطور: وهي القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نص صريح من كتاب أو سنة.

o   قضايا تشريعية قابلة للتجديد: وهي المبادئ والقواعد التي لها ارتباط وثيق بالمعاملات المالية، والشئون القضائية، والنظم الاقتصادية وغيرها.

العهد المكي هو عهد تربية المؤمنين على عقيدة التوحيد وضبط النفس والتجرد، والصبر، والاحتمال، وهو عهد بناء الجماعة المسلمة، وإعدادها لحمل أمانة العقيدة والدعوة، وتكوين النواة القومية الصلبة لجيش يجاهد في سبيل الله، وتربية الأسرة المؤمنة التي تسند ظهر المجاهدين.
العهد المدني عهد مقاومة وجهاد؛ دفاعا عن النفس والعرض والمال والدين، وعهد دولة وتشريع؛ استعدادا لنشر دين الحق، وهداية الناس أجمعين.
شرعت الزكاة تطهيرا للنفوس، وتزكية للأخلاق، وتنقية للنفس من أشد الأمراض وأسوئها وهو الشح، وشرع الحج لإعادة القلوب إلى الصفاء والنقاء والاطمئنان بذكر الله، وذلك بعد أن امتلك المسلمون المال، وكثر وفاض في أيديهم، وشعروا بالأمن والأمان والاستقرار، كما أن الجهاد شرع لحماية الدولة الإسلامية الناشئة، ولنشر دعوة لا إله إلا الله في الأرض.
التشريع الإسلامي رباني المصدر، يتميز بالشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان، وليس صحيحا ما يتوهمه المتوهمون من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخذه عن يهود المدينة؛ بل لقد جاء الإسلام بما ينقض عقائدهم الباطلة ويخالف تشريعاتهم المحرفة.

 

(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.

[1]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص21.

[2]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص22 بتصرف.

[3]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، د.عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص14 وما بعدها.

[4]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص41، 42.

[5]. هذا الإيضاح مأخوذ من كتاب: المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، ص617، نقلا عن: محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص44.

[6]. الحكر: العقار المحبوس، والتحكير: الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها.

[7]. محاضرة في الشريعة الإسلامية وفقهها ومصادرها، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط1، 1984م، ص41 وما بعدها.

[8]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص5، 6 بتصرف.

[9]. فقه السيرة النبوية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار السلام، القاهرة، ط14، 2004م، ص143، 144. 

[10]. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، ص5.

[11]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص21: 27، ص54: 58 بتصرف.

[12]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص33: 41 بتصرف.

[13]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار الباز، الرياض، ط1، 1996م، ج1، ص183 وما بعدها.

[14]. دراسات قرآنية، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط7، 1993م، ص273 وما بعدها.

اتهام المسلمين بالعنف والغلظة في معاملة غير المسلمين

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المدعين أن تشريع الإسلام ينتهج نظام العنف والغلظة في معاملة غير المسلمين، ويصادر حقوقهم، ويستدلون على ذلك بما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»[1]. ويمنع غير المسلمين من ممارسة حقوقهم الدينية والسياسية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي. ويتساءلون: ألا يدل ذلك على إهدار حقوق غير المسلمين والعنف والغلظة في التعامل معهم؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، ورسالته تدعو للتعايش الإيجابي بين البشر جميعا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس – على اختلاف معتقداتهم – وقد أسس القرآن لهذه السماحة بمبادئ متعددة.

2) دستور الإسلام وعلاقة المسلمين مع غيرهم – قديما وحديثا – يؤكدان على سماحة الإسلام وإنسانيته، والواقع الفعلي للصحابة والتابعين وقادة المسلمين خير شاهد على هذه السماحة.

3) رد التحية لغير المسلمين بـ “عليكم السلام” ممنوعة إذا تحقق أنه قال “السام عليكم” أو شك فيما قال، وأما إذا تحقق من قوله: “السلام عليكم” فمن باب العدل والإحسان التحية بمثلها، أو بأحسن منها، وعدم إلقاء السلام عليهم من قبيل أنها تحية من خصائص أهل الإسلام؛ فلا تقال لغيرهم.

4) بمقارنة يسيرة بين أوضاع غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وأوضاع المسلمين في المجتمعات غير الإسلامية، يتبين لنا الفروق الشاسعة بين سماحة الإسلام والسماحة الوهمية التي يدعيها أنصار الحضارات الحديثة.

التفصيل:

أولا. الإسلام دين عالمي يدعو إلى التسامح:

يهدف الإسلام إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعا، في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم؛ فالجميع ينحدرون من نفس واحدة.

وعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى؛ نظرا لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوما بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة.

والإسلام دين يسعى من خلال مبادئه وتعاليمه إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء كل الأديان والثقافات، فقد جعل الله الناس جميعا خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها، وجعلهم شركاء في المسئولية عنها، ومسئولين عن عمارتها ماديا ومعنويا كما يقول القرآن الكريم: )هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها( (هود: 61)، أي: طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها، ومن أجل ذلك ميز الله الإنسان بالعقل وسلحه بالعلم؛ حتى يكون قادرا على أداء مهمته وتحمل مسئولياته في هذه الحياة.

ولهذا يوجه القرآن الكريم خطابه إلى العقل الإنساني الذي يعد أجل نعمة أنعم الله بها على الإنسان.

ومن هنا فإن على الإنسان أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل، وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له، والتي هي شرط ضروري لتحمل المسئولية، فالله – عزوجل – لا يرضى لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزا عن العمل الحر المسئول، فعلى الإنسان إذن أن يحرص على حريته، وألا يبددها فيما يعود عليه وعلى الآخرين بالضرر.

ومن شأن الممارسة المسئولة للحرية أن تجعل المرء على وعي بضرورة إتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضا؛ لأن لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه، وهذا يعني أن العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدر من حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع، وهذا يعني بعبارة أخرى أن هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح إلا إذا ساد التسامح بين أفراده، بمعنى أن يحب كل فرد للآخرين ما يحب لنفسه[2].

التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية:

والسماحة الإسلامية عطاء بلا حدود، فليست مجرد كلمة تقال أو شعار يرفع أو صياغة نظرية مجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يتحكم حاكم بمنحها لمن يشاء، أو منعها عمن يشاء، وإنما هي دين مقدس، ووحي سماوي، وبيان نبوي عن هذا الوحي، ومن ثم فالسماحة ثمرة الدين الخالد، والشريعة الخاتمة، وهي منهاج المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا غرابة في أن يعلي الإسلام قيمة التسامح، ويؤسس القرآن لهذه القيمة، وعن ذلك يذكر المفكر الإسلامي د. محمد عمارة أن القرآن بدأ فأسس السماحة الإسلامية على قاعدة الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود، ففي هذا الوجود هناك “حق” هو الله عزوجل، و”خلق” يشمل جميع عوالم المخلوقات وهناك “واجب الوجود” وهناك “الوجود المخلوق” لـ “واجب الوجود”.

وفي هذا التصور الفلسفي الإسلامي تكون “الواحدية والأحدية” فقط للحق، لله – عزوجل – واجب الوجود؛ بينما تقوم كل عوالم الخلق المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية، أي: كل ما عدا الذات الإلهية، على التعدد، والتنوع والتمايز والاختلاف باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانونا إلهيا تكوينيا، وسنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، الأمر الذي يستلزم – لبقاء هذه السنة الكونية قائمة ومطردة – تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق، أي: سيادة خلق السماحة في العلاقات بين الأمم والشعوب، والثقافات والحضارات، والمذاهب والفلسفات، والشرائع والملل والديانات، والأجناس والألوان، واللغات، والقوميات، فبدون السماحة يحل “الصراع” الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية محل التعايش والتعارف، الأمر الذي يصادم سنة الله – عزوجل – في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات.

على هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله.

وفي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون والوجود نقرأ في آيات الذكر الحكيم: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)، فالإنسانية تتنوع إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام.

وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها وألوانها وألسنتها ولغاتها ومن ثم قومياتها كآية من آيات الله، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات.

وهذه الأمم والشعوب تتنوع دياناتها وتختلف مللها وشرائعها، وتتعدد مناهجها وثقافاتها وحضاراتها، باعتبار ذلك سنة من سنن الابتلاء والاختبار الإلهي لهذه الأمم والشعوب، وحتى يكون هناك تدافع وتسابق بينها جميعا على طريق الحق وفي ميادين الخيرات، قال عزوجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)( (هود).

والمفسرون لهذه الآيات يقولون عن هذا الاختلاف: إنه علة الخلق، وأن المعنى: وللاختلاف خلقهم، وبدون السماحة يستحيل تعايش هذه التعددية، التي هي علة الوجود، وسر التسابق في عمران هذا الوجود.

وانطلاقا من هذا الموقف القرآني الذي جعل هذا التنوع سنة إلهية وقانونا كونيا، كان العدل الذي هو معيار النظرة القرآنية وروح الحضارة الإسلامية، وهو أساس السماحة الإسلامية في التعامل مع كل الفرقاء المختلفين، ففي التأسيس لهذه السماحة العادلة يطلب القرآن الكريم منا العدل مع النفس والذات.. وذلك في قول الله عزوجل: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97)( (النساء).

ويطلب منا العدل مع الآخر في قوله عزوجل: )فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم( (الشورى: 15)، وقوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا( (النساء: 135)، وقوله عزوجل: )وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)( (الأنعام)، بل ويوجب الله – عزوجل – علينا العدل حتى مع من نكره فقال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا( (المائدة: 2)، بل ويوجب القرآن علينا العدل حتى مع من يعتدي علينا ويقاتلنا، قال عزوجل: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة: 194).

إن الإسلام دين ودولة، وأمة وجماعة، ونظام واجتماع، ليس الدين الذي يخلو من السلطة التي تعاقب المعتدين وتدين الجناة، ومع ذلك فإن سماحته تدعو إلى العدل في رد العدوان، وإنزال العقاب والجزاء، بل وتفضل الصبر الجميل على رد العقاب، قال عزوجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)( (النحل).

كذلك يوجب الإسلام علينا العدل في النظر إلى المخالفين لنا في الاعتقاد الذي هو سنة إلهية، ونحن مدعوون وفق منهاج القرآن ألا نضع كل المخالفين لنا في سلة واحدة، وألا نسلك طريق التعميم الذي يظلم عندما يغفل الفروق بين مذاهب هؤلاء المخالفين ومواقفهم، وإقامة لهذا المنهاج رأينا القرآن الكريم لا يعمم أبدا في حديثه عن أهل الكتاب وأصحاب العقائد والديانات، وإنما يميز بين مذاهبهم وطوائفهم، فيقول عزوجل: )من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75)( (آل عمران).

فالقاعدة القرآنية الحاكمة في التمييز العادل بين الفرقاء المخالفين لنا هي أنهم: )ليسوا سواء(، صنع القرآن ذلك عندما ميز فرقاء اليهود فلم يعمم في الحكم على مجموعهم، وصنع ذلك أيضا في الحديث عن النصارى عندما ميز بين من هم أقرب مودة للمسلمين، قال عزوجل: )ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)( (المائدة).

لقد صنعوا ذلك وهم نصارى ولصنيعهم هذا لم يحبط الإسلام عملهم، ولم يضعهم في سلة الأخرين – من النصارى – الذين أشركوا المسيح مع الله في الألوهية، والربوبية والخلق، فكفروا بالوحدانية التي جاء بها السيد المسيح – عليه السلام – عندما قالوا: “إن المسيح هو خالق كل الأشياء، وإن كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء عما كان فهو الأول والآخر”: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)( (المائدة)، فلم يسو القرآن الكريم بين هؤلاء الفرقاء من النصارى.

والمنطق الإسلامي لهذا التمييز المؤسس للعدل والسماحة هو العدل الإلهي الذي هو فريضة إسلامية جامعة؛ فالله – عزوجل – رب العالمين جميعا: )الحمد لله رب العالمين (2)( (الفاتحة)، وليس رب شعب بعينه دون سائر الشعوب، والتكريم الإلهي شامل لكل بني آدم: )ولقد كرمنا بني آدم( (الإسراء: 70)، ومعيار التفاضل بين البشر المكرمين هو التقوى: )إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13 ( (الحجرات)، )ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123)( (النساء).

وليس معيار التفاضل لونا أو جنسا أو سلالة أو أية صفة من الصفات اللصيقة التي تستعصي على الاختيار والكسب والتغيير. ولذلك قال الله عزوجل: )إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30)( (الكهف)، )إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120)( (التوبة)، )إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)( (الأعراف)، )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة)، )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة).

وتأسيسا على هذا العدل الإلهي، أسس القرآن الكريم سماحة الإسلام في النظر إلى مواريث النبوات والرسالات التي سبقت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن الكريم لم يأت نافيا لما سبقه من كتب، وإنما جاء مصدقا لها ومهيمنا عليها، أي مشتملا على ثوابتها ومستوعبا لأركان العقائد فيها، ومضيفا إليها، ومصححا لما طرأ عليها؛ فعلى حين كانت اليهودية تنكر النصرانية، وكانت النصرانية تنكر اليهودية، قال عزوجل: )وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم( (البقرة: 113)، جاء القرآن الكريم مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة: )وهو الحق مصدقا لما معهم( (البقرة: 91)، ومؤكدا على أن ما أصاب بعض مواضع هذه الكتب لم يمح ما أودعه الله فيها من هدى ونور: )الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان( (آل عمران)، فالتوراة: )فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وكذلك الإنجيل: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور( (المائدة: 46)، وطلب الإسلام من أهل الكتاب تحكيم كتبهم، ولم يطلب منهم نبذها: )وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه( (المائدة: 47)، )وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله( (المائدة: 43).

ذلك هو التأسيس القرآني للسماحة الإسلامية على الرؤية الفلسفية للكون والوجود، المحكومة بسنة التعدد والتنوع والتمايز والاختلاف كقانون تكويني أزلي أبدي؛ الأمر الذي يجعل السماحة ضرورة لازمة، وفريضة واجبة لبقاء قانون التنوع والاختلاف عاملا في عوالم المخلوقات والفلسفات والشرائع والديانات والثقافات والقوميات والحضارات[3].

مبادئ التسامح في الإسلام:

وعن مبادئ هذا التسامح يعرض لنا د. شكور الله باشا زاده أهم هذه المبادئ محتكما في عرضه واستقاء معلوماته إلى النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ومعضدا ببعض مؤلفات المستشرقين المشهورين مع عقد مقارنات مع الديانات الأخرى فيقول: إن الإسلام هو دين التسامح وإذا احتكمنا بالنصوص القرآنية، فيمكننا صياغة المبادئ الآتية للتسامح في الإسلام.

اختلاف الناس في عقائدهم حكمة إلهية:قال عزوجل: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118)( (هود)، وقال عزوجل: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا( (يونس: 99). ومعنى الآيتين المباركتين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان حريصا على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت الآيتان لبيان أن إيمان الملجأ[4] غير نافع، وبين – عزوجل – أن ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه.
الاقتناع هو أساس الإيمان:قال عزوجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256). ويفسر العلامة الراغب الأصفهاني الإكراه بمعنى حمل الإنسان على ما يكرهه ويكتب في تفسير الآية: فقد قيل في ذلك أقوال:

الأول: كان ذلك في ابتداء الإسلام، فإنه كان يعرض على الإنسان الإسلام، فإن أجاب وإلا ترك.

والثاني: أن ذلك في أهل الكتاب فإنهم إن أدوا الجزية والتزموا الشرائط تركوا.

والثالث: أنه لا حكم لمن أكره على دين باطل فاعترف به ودخل فيه. والرابع: لا اعتداد في الآخرة، بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرها. والخامس: لا يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة مما يكلفهم الله، بل يحملون على نعيم الأبد. والسادس: أن الدين الجزاء. معناه: أن الله ليس بمكره على الجزاء، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء كما يشاء[5].

ويقول الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان لكنه لم يفعل وبني الأمر على الاختيار.

أما ابن كثير فيفسر هذه الآية بمعنى: “أيها المسلمون، لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحدا على الدخول فيه.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة ناهية عن حمل الإنسان على الاعتقاد بإكراه، قال عزوجل: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)، وقال – عزوجل – أيضا: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29).

ينبغي أن تكون الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة: قال سبحانه وتعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )( (النحل:125)، وقال عزوجل: )( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن( (العنكبوت:46). والمقصود في تلك الآيات أن الحوار ينبغي أن يكون على أساس الحكمة لإبراز كلمة سواء بين المسلمين وبين أهل الكتاب؛ إذ قال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله( (آل عمران: 64).

هذا وقد دل الإسلام على الملتقى أو النقطة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب وهي الحنيفية الإبراهيمية – تلك الحركة الدينية التوحيدية القوية الواسعة الانتشار – التي سبقت الديانات السماوية الثلاث، ومهدت الطريق لها وبقيت جذورها راسخة في العقلية التوحيدية العربية إلى أن جاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – فسار على ذات النهج التوحيدي المستقيم لإبراهيم عليه السلام: )واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)( (النساء).

وإذا لم يتمكن المسلمون وأهل الكتاب من إبراز كلمة سواء بينهم فهناك مبدأ أخير من مبادئ التسامح التي يقدمها الإسلام وهو:

لكل فرد حق في أن يبقى على اعتقاده:

قال عزوجل: )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)، وبيان موقف القرآن الكريم من اليهودية والنصرانية، دليل آخر على سماحة الإسلام.

مبدئيا يعلن الإسلام أنه دين الله الحق، لكنه مع ذلك لا يحدد حدود الاعتقاد بحد ذاته فقط، بل يعترف بالتعددية، ولا يوجد في القرآن الكريم آية اتهام لنبي أو لكتاب، ولا تعصب ضد الصابئة واليهود والنصرانيين.

ونرى أن الإسلام قد اعترف بسماوية اليهودية والنصرانية، وأن موسى وعيسى – عليهما السلام – نبيان مرسلان، وأكد القرآن الكريم أن التوراة والإنجيل وحيان من الله، ويتجلى ذلك في قوله عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، وقوله عزوجل: )وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور( (المائدة: 46)، وقوله عزوجل: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة).

وكما حفل القرآن الكريم بدعوة المسلمين إلى التسامح والتعايش مع أصحاب الديانات الأخرى، حفلت سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحض المسلمين كذلك على السماحة والرفق بأهل الملل الأخر