الكتب
إمكان التاريخ وواقعية السنة
مكانة السنة في التشريع الإسلامي ودحض مزاعم المنكرين والملحدين
المتوسّط في الإعتقاد والرد على من خالف السنّة من ذوي البدع والإلحاد
الإلمام شرح منزلة السنة في الإسلام ورسالة صدع الدجنة وشبهات الملحدين
حجية السنة ودحض الشبهات التي تثار حولها
رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد
القرأنيون بهتان عظيم اقبح الوان النفاق اخطر الوان الإلحاد
نَقْضُ شُبهَاتِ أَهْلِ الإلحاد حَول خَبَرِ الآَحاَد
السيرة النبوية عند الرواد المعاصرين، مناقشات وردود
المرئيات

الرد على القرآنيين

حجج صحة الإلحاد هي براهين وجود الله

هل الاشمئزاز من العبودية أمر مشروط في ثقافتنا الإسلامية؟

كيف حاولت الشريعة الإسلامية تجفيف منابع العبودية؟

إعتاق الجارية بإنجابها

تيسير العتق وتنويع سبله

ما هو مفهوم (ملك اليمين) في الإسلام؟

لماذا توجد حركة ثورية لإلغاء الرق في الإسلام؟

مدرسة الحقيقة الإبراهيمية

السنة النبوية والتحديات المعاصرة: 1

السنة النبوية والتحديات المعاصرة: 2

السنة النبوية والتحديات المعاصرة: 3

السنة النبوية والتحديات المعاصرة 4

عودة أرض العرب مروجًا وأنهارًا

القبض على الملحد شريف جابر 1

القبض على الملحد شريف جابر 2

القبض على الملحد شريف جابر 3

القبض على الملحد شريف جابر 4

القبض على الملحد شريف جابر 5

الملحد شريف جابر وخطأ البخاري

كيف وصلتنا السُّنة المشرفة؟

كيف تم تدوين السُـنـة النـبـويـة؟

ما أهم الإشكاليات التي يطرحها الأبناء حول الإجماع؟

السنة النبوية بين الحفظ والحب

كيف وصلنا الحديث النبوي الشريف؟
المقالات
الطعن في أحاديث العدوى
مضمون الشبهة:
ثار كثير من الجدل ـ قديما وحديثا ـ حول الأحاديث النبوية التي تتعلق بالعدوى، فقيل: إن الأحاديث التي ترفض فكرة العدوى لا تتفق مع مقتضيات العلم الحديث؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوَى ولا طِيَرَة »؛ حيث ثبت انتقال كثير من الأمراض عن طريق العدوى، كما يقولون: إن هذه الأحاديث تتعارض مع الأحاديث التي تثبت العدوى؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُورِد مُـْمرِض على مُصِحّ»، ويتساءلون: هل الإعجاز في الأحاديث الأولى أم في الأحاديث الأخيرة؟! ويصلون إلى نتيجة مؤداها أن المفاهيم العلمية والطبية ليست من العقيدة ولا من الأوامر الإلهية الموحاة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) أجمع العلماء على أنه لا تعارض بين تلك الأحاديث؛ لأن المراد من حديث: «لا عدوى ولا طيرة»- وما في معناه- نفي ما كانت الجاهلية تعتقده بأن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله عز وجل وقدره، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم أن العدوى تكون بقدر الله عز وجل؛ لذلك قال في آخر الحديث: «فمن أعدى الأول»؟! وأما الأمر بالفرار من المجذوم ـ وما في معناه- فمن باب سد الذرائع؛ لئلا ينتقل للشخص السليم الذي يخالطه شيء من ذلك فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسمًا للوقوع في المحظور.
2) لقد ميز النبي صلى الله عليه وسلم بين المريض الذي لا يسبب العدوى والُممرِض الذي تنتقل العدوى منه قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، وقبل أن يكتشف علماء هذا العصر هذه الحقيقة؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم ندب- من ناحية أولى- زيارة المريض، ونهى- من ناحية ثانية- عن إيراد الُممرض على الُمصِحّ، وأمر بالفرار منه والبعد عنه، كما ميز صلى الله عليه وسلم بين الُممرض بمرض مُعْدٍ والممرض بمرض وبائي، وأخبرنا صلى الله عليه وسلم بالطرق التي نتعامل بها مع المصابين بالأمراض المعدية أو الأمراض الوبائية الفتاكة.
التفصيل:
أولاً. لا تعارض بين أحاديث العدوى، فكل شيء بقدر الله وحكمته:
ذهب جمهور العلماء إلى الجمع بين هذه الأحاديث؛ يقول الإمام النووي: وطريق الجمع أن حديث: «لا عدوى ولا طيرة…»([1]) المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: «لا يورد الممرض على المصح»([2]) فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدر الله عز وجل وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدرته، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الأحاديث والجمع بينها هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء([3]).
ثم يزيد الإمام النووي الأمر وضوحًا فيقول: قوله: «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع»([4])، هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري: «وفِرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»([5])، وأنه غير مخالف لحديث: «ولا يورد مُمرض على مُصح».
وقال القاضي: اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم؛ فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر رضى الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكلاً عليه»([6])، وعن عائشة قالت: «كان لي مولى مجذوم، فكان ينام على فراشي ويأكل في صحافي»([7]).
والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ، بل الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز([8])، وحديث جابر ضعيف كما حكم بذلك الألباني في “السلسلة الضعيفة”([9]).
يقول الحافظ ابن حجر: قالوا: وأما حديث جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكلاً عليه» ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبيَّن الاختلاف فيه على راويه ورجَّح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قال الكلاباذي في “معاني الأخبار”: والجواب أن طريق الجمع أَوْلَى، وفي طريق الجمع مسالك أخرى:
أحدها: نفي العدوى جملة، وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم؛ لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين»([10])، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين؛ فحيث جاء: «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوِي يقينه، وصحَّح توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها؛ وعلى هذا يُحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء: «فِرَّ من المجذوم» كان المخاطب بذلك من ضعُف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل، فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببًا لإثباتها([11]).
المسلك الثالث: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة؛ ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة، قال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرًا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا عن طريق العدوى، بل عن طريق التأثر بالرائحة؛ لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح»؛ لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حكها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به… وأما قوله: «لا عدوى» فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه؛ لأن فيه نوعًا من الفرار من قدر الله تعالى.
المسلك الرابع: أن المراد بنفي العدوى- كما ذكرنا آنفًا- أن شيئًا لا يعدي بطبعه، نفيًا لـما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله عز وجل، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم؛ ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه؛ ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها؛ ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئًا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضًا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الجَذْمَى كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلاً كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية.
قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عدوى» فهو على الوجه الذي كان يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح ومن به شيء من هذه العيوب سببًا لحدوث ذلك؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فِرَّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»، وقال: «لا يورد مُمرض على مُصحّ»، وقال في الطاعون: «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»([12])، وكل ذلك بتقدير الله عز وجل.
المسلك الخامس: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأسًا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة؛ لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: «لا يورد مُمرض على مُصحّ» إثبات العدوى، بل لأن الصِّحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه([13]).
وهذا ما قرره ابن القيم في كتابه “زاد المعاد”، وقد أكده الشيخ الألباني تعليقًا على حديث: «ائته فأعلمه أني قد بايعته فليرجع»([14]) قائلاً: وفي الحديث إثبات العدوى والاحتراز منها، فلا منافاة بينه وبين حديث: «لا عدوى»؛ لأن المراد به نفي ما كانت الجاهلية تعتقده أن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله عز وجل وقدره، فهذا هو المنفي، ولم ينفِ حصول الضرر عند ذلك بقدر الله ومشيئته، وهذا ما أثبته الحديث، وأرشد فيه إلى الابتعاد عما قد يحصل الضرر منه بقدر الله وفعله([15]).
وبناء على ما سبق، فإن حديث: «لا عدوى ولا طيرة» أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إلى من اتكل على الأسباب، وحديث: «فِرَّ من المجذوم» فيه إشارة إلى من اعتمد واتكأ عليها، فهذا ليس فيه نفي للعدوى، إنما فيه إثبات لها، بدلالة تتمة الحديث حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟»([16]) أي: أول جمل أجرب على وجه الأرض من أعداه؟ فيريد أن ينبه بهذا إلى أن الله عز وجل هو الذي قدر العدوى وقدر تأثيرها، وأنه لا عدوى تنتقل بذاتها، بدليل أن الجمل الأول الذي أصابه الجرب لم يـجرب بسبب عدوى، وإنما قدرة الله عليه، وهكذا ما بعده([17]).
ثانيًا. الإعجاز العلمي في لفظي “المريض” و “الممرض”:
لقد عملت أجهزة الكشف والتحليل الحديثة على توسُّع العلوم والمعرفة في شتى الميادين بشكل هائل للغاية، كما مكَّن توسع العلوم المتعلقة بمسبِّبات الأمراض العلماء من إظهار علم جديد أطلق عليه “علم أسباب الأمراض” (Aetiology)، وعرف الإنسان أن المريض قد يصاب بالأمراض نتيجة تعرضه لمسببات مختلفة ومتنوعة.
وحسب نوع المرض فإن المرض إما أن يظل حبيسًا في جسد المريض ولا ينتقل إلى من يخالطهم ويآكلهم، ولا تحدث العدوى بهذا المرض أبدًا، وإما أن ينتقل هذا المرض من المريض إلى من يخالطهم ويآكلهم، وتحدث العدوى، ويكون هذا المريض ممرضًا لغيره بإذن الله عز وجل ومشيئته.
ولسنا بحاجة لأن نشير إلى أن كل مؤمن يعرف ويوقن تمامًا أن من يتعرض لمسببات المرض فإن ذلك لا يعني أبدًا أنه سوف يصاب بهذا المرض إذا أراد الله سبحانه وتعالى حفظه وتجنيبه، وفي الوقت نفسه فإن من لا يتعرض لمسببات المرض الظاهرة فإن ذلك لا يعني للمرء أنه لن يصاب بالمرض إذا قدر مقدِّر المقادير ومسبِّب الأسباب أن يصاب هذا المرء بالمرض، ومن واجب المسلم التوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع أمور حياته اليومية، لكنه مأمور بالأخذ بالأسباب والتحصن ضد مسببات الأمراض.
ولعدم معرفة الطرق الصحية السليمة للتعامل مع المرضى المصابين بأمراض معدية، وللخوف الشديد من انتقال العدوى منهم- فقد واجه مرضى الجذام في القرون السابقة انعزالاً اجتماعيًّا مـجحفًا، خاصة في تلك المجتمعات التي لم تتقيد بالتعاليم الدينية والأخلاقيات الإنسانية؛ إذ أشارت الموسوعات العلمية إلى أن مرضى الجذام كانوا في الأزمنة السابقة ضحايا تحامل الناس عليهم وخوفهم منهم، وذلك بسبب التشوهات المرتبطة بالمرض، وفي العديد من المجتمعات يعامل مرضى الجذام معاملة المنبوذين، في حين أن تعاليم الإسلام تنهى عن ذلك.
ولأن علم أسباب الأمراض لم يكن معروفًا بشكل واضح ودقيق في العصور السابقة فقد احتار العلماء في الجمع بين الأمرين: العدوى واللاعدوى.
وذكر النووي أن بعض العلماء قد قالوا: إن حديثًا جاء فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا يورد مُمرض على مُصح» منسوخ بحديث: «لا عدوى»، ولكنه قد غلطهم فقال: وهذا غلط لوجهين؛ أحدهما: أن النسخ يُشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين، ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما، والثاني: أنه يُشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجودًا هنا، وقال آخرون: حديث: «لا عدوى» على ظاهره، وأما النهي عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى، بل للتأذي بالرائحة الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم، والصواب ما سبق، والله أعلم([18]).
وبعدما كشفت لنا الأجهزة والآلات الحديثة النقاب عن الكائنات الحية الدقيقة، وعرف الإنسان حقيقة المرض غير المعدي والمرض المعدي، وأنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض، والعدوى تحدث بمخالطة الممرض، أو بانتقال مسببات المرض بوسائل أخرى- جاءت هذه الحقائق العلمية الحديثة منسجمة بشكل مذهل مع ما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ لتكشف عن إعجاز نبوي جديد من الإعجازات النبوية المتتابعة والمتجددة مع مرور الأزمنة.
وحتى تتضح صور الإعجاز العلمي في أحاديث “لا عدوى” وأحاديث “العدوى” بالأمراض المعدية، والأمراض الوبائية- ينبغي أن نتعرف أولاً على المعاني اللغوية والعلمية للألفاظ المعنية بالإعجاز في هذا البحث؛ كالمريض والممرض والعدوى والطاعون (الوباء)، ونعرف أيضًا كيف جاءت نتائج الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة منسجمة بشكل بليغ مع ما ورد عنها في الأحاديث النبوية الشريفة.
المريض (الذي لا ينقل العدوى):
هو الإنسان الذي يعاني من مرض أو علة جسمية أو عقلية نتيجة إصابته بمسببات معينة، دون أن تنتقل مسببات هذا المرض إلى من يخالطهم ويآكلهم.
وأسباب الأمراض غير المعدية عديدة؛ بعضها تسببه مواد مؤذية أو مهيجة للجسم، وبعضها يحدث بسبب تناول أغذية غير متوازية، وبعضها يحدث نتيجة تناول الماء والأطعمة الملوثة بمعادن سامة لها تأثيرات على أجهزة الجسم المختلفة أو المخ، كما أن القلق والتوتر يمكن أن يؤديا إلى أمراض الصداع وارتفاع ضغط الدم والتقرحات وغيرها، وتدل نتائج الدراسات والأبحاث وملاحظات الأطباء والعلماء أن مخالطة المريض بالأمراض غير المعدية ومآكلته الناس لا تسبب العدوى أبدًا.
لا عدوى بمخالطة المريض:
سبق أن أشرنا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ميز بين المريض والممرض؛ فقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض، منها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، الكلمة الحسنة»([19])، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا غول ولا صفر»([20]).
ولأن معلم البشرية الخير والصلاح يعلم أن مخالطة المريض- وليس الممرض- لا تصدر من جسمه العدوى، وهو صلى الله عليه وسلم يأبى أن يعرض أمته إلى عوامل الأذى والهلاك، وفي الوقت نفسه يأخذ بكل وسيلة توصل الناس إلى فعل الخير، فقد حث على زيارة المريض المسلم وغير المسلم، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض، وأمرنا بتطييب نفس المريض ورفع معنوياته، وتذكيره أن المرض حاتٌّ لذنوبه وخطاياه.
وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة المريض راويًا عن ربه عز وجل حديثًا قدسيًّا طويلاً رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»([21])؟!
الممرض:
لفظة “الممرض” تعني الكائن الحي الذي يعاني من مرض أو علة جسمية نتيجة إصابته بمسببات هذا المرض، وتنتقل مسببات المرض منه إلى كل من يخالطهم ويآكلهم بوسائل مختلفة ومتنوعة، ويطلق العلماء على الكائنات الحية المسببة لهذا المرض “الكائنات الممرضة”.
ولقد جاءت لفظة “الممرض” في أحاديث نبوية شريفة؛ إذ روى مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يورد الممرض على المصح»([22])، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يوردن ممرض على مصح»([23]).
والمتأمل في هذه الأحاديث يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الممرض هو إنسان أو حيوان مريض بمرض معدٍ، وينتقل هذا المرض منه إلى غيره بالمخالطة، وقد دل النووي على أن المقصود بالممرض هو المجذوم، معللاً النهي عن إيراد الممرض- المجذوم- على المصح لأسباب سبق ذكرها.
وقد عرف ابن حجر لفظة “الممرض” فقال: الممرض: هو الذي له إبل مرضى، ثم ذكر أن أهل اللغة قد قالوا: إن الممرض هو اسم فاعل من أمرض الرجل: إذا أصاب ماشيته مرض، والمصح اسم فاعل من أصح: إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت.
والأمراض التي يمكن أن تنتقل من الممرض إلى السليم إما أن تكون أمراضًا غير وبائية، تأثيراتها لا تسبب الهلاك والفناء على نطاق واسع، ومن أمثلة الأمراض المعدية غير الوبائية التي يمكن الوقاية منها بالبعد عن المريض مسافات معينة: الزكام والجذام.
والزكام هو واحد من أنواع كثيرة من العدوى التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي، ويعد الزكام أكثر الأمراض انتشارًا وشيوعًا، وقطع العلماء شوطًا بعيدًا لتحديد أكثر من مئة فيروس يتسبب في هذا المرض، وينتقل المرض بواسطة العدوى الرذاذية، ويعتقد العلماء- إلى جانب ذلك- أن جراثيم الزكام يمكن أن تنتشر بالاحتكاك المباشر، وبخاصة من خلال الأيدي.
أما الجذام- ويُسمى أيضًا “مرض هانس”- وهو مرض مزمن مُعْدٍ يؤثر أساسًا على الجلد والأغشية المخاطية، وخاصة تلك التي في الفم، وهو ليس مرضًا قاتلاً في العادة، ولكن إهمال المرض أو عدم علاجه قد يؤدي إلى تشوهات ربما تشل اليدين والقدمين، ولا يعرف الباحثون كيفية انتقال البكتيريا المسببة للجذام، بينما أشارت تقارير إلى حدوث الإصابات عن طريق التلامس الجلدي.
وتدل نتائج الدراسات والأبحاث الطبية الحديثة على أنه يمكن تجنب انتقال مسببات المرض من الممرضين بالأمراض المعدية للأصحاء بعدم الاحتكاك المباشر بهم، وعدم ملامسة جلد المصاب بدون وقاية، ولعل جعل مسافة بين الممرض وبين من حوله يسهم كثيرًا في وقايتهم من الإصابة بمثل هذه الأمراض المعدية.
العدوى:
ذكر ابن منظور أن أصل العدوى من عدا ويعدو: إذا جاوز الحد، ومعنى أعدى: أي أجاز الجرب الذي به إلى غيره، أو أجاز جربًا بغيره إليه، وذكر أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: «لا عدوى»: أي لا يعدي شيء شيئًا، وقد أشار إلى أن ذكر العدوى في الحديث قد تكرر، وأنه اسم الإعداء، والعدوى: أن يكون ببعير جرب مثلاً فتتقي مخالطته بإبل أخرى؛ حذرًا أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه.
ويكشف لنا علم الطب وعلم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة أن العدوى تحدث بما يعدي من كائنات حية طفيلية تنتقل من كائن حي مصاب بالمرض الذي تسببه، أو حامل لهذه الكائنات، إلى كائن حي آخر سليم، وتسبب له بإذن الله المرض المعدي أو المرض الوبائي الخطير، والأمراض المعدية هي أكثر الأمراض شيوعًا؛ حيث تستطيع أنواع عديدة من الكائنات الحية الدقيقة- كالبكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات والحشرات وغيرها- أن تغزو جسم الإنسان وتسبب له الأمراض.
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم:
سبق أن أشرنا إلى أن علماء هذا العصر لم يقفوا على حقيقة العدوى إلا بعد اختراع أجهزة الكشف والتحليل، وخاصة بعد اختراع المجاهر- الميكروسكوبات- فعملت هذه الأجهزة على إظهار الكائنات الحية الدقيقة- المجهرية- التي كانت تخفى تمامًا عن العيون لصغر حجمها، وأدرك العلماء كيفية غزو الكائنات المجهرية الممرضة جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات، وكيفية انتشارها، وعرفوا أن العدوى تحدث بشكل رئيسي عن طريق مخالطة الممرض للكائنات الحية السليمة، فتنتقل إليها الكائنات المجهرية الممرضة فتمرضها.
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سبق علماء العصر الحديث في الدلالة على حدوث العدوى بالمخالطة وبغير المخالطة، ويدل على سبل الوقاية من العدوى؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟»([24])
ومن هذا الحديث يظهر جليًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وافق الأعرابي على ملاحظته في أن العدوى تحدث بالمخالطة، لكنه قد بين له ولنا أن العدوى تحدث أيضًا بوسيلة أخرى غير المخالطة، فقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول»؟ فيه دلالة واضحة على أن الجمل الأول أصيب بالعدوى ولكن دون مخالطة، ولم يكتشف العالم حقيقة نقل العدوى دون مخالطة إلا في العصر الحديث؛ إذ كشفت لنا نتائج الدراسات والأبحاث الحديثة كيف تصل العدوى إلى الكائن الحي دون مخالطة؛ إذ من الممكن أن تسقط الطفيليات المسببة للمرض من ممرض ما على التربة، أو تتلوث بها المواد أو الأدوات والآنية التي يحتك بها الممرض، وقد تبقى الطفيليات الساقطة على الأرض زمنًا طويلاً لا يصل إليها أي كائن حي، أو تترك المواد أو الآنية أو الأدوات بعيدة عن متناول الأيدي زمنًا طويلاً، وبالرغم من هذا فإن الجراثيم تبقى حية، ولكنها في وضع سكون.
فعلى سبيل المثال تستطيع أنواع من البكتيريا أن تنتج تركيبًا خاصًّا يُسمى “الجرثومة الداخلية”، والجراثيم الداخلية تستطيع مقاومة الظروف البيئية القاسية غير الملائمة لنمو هذه البكتيريا وتكاثرها، فبعضها يقاوم درجات الحرارة العالية التي تتعرض لها والتي تصل إلى 120 م ولمدة ثلاث ساعات، وتعتبر الجراثيم الداخلية مرحلة ساكنة للخلية الأم، وهي تستطيع أن تعيش لعشرات السنين في غياب مصدر غذائي خارجي يتاح لها، ولكن عندما يأذن الله سبحانه وتعالى لهذه الجراثيم الممرضة الساكنة أن تصيب الإنسان أو الكائن الحي الآخر بالمرض، فإن المصدر الملوث بها- التربة أو المواد أو الآنية أو الأدوات- يجد طريقه ميسرًا إلى جسم الكائن الحي الذي قدر الله سبحانه وتعالى له إصابته بالعدوى، فتجد هذه الجراثيم في جسمه الوسط الغذائي المناسب لتكاثرها ونموها، فتتكاثر وتنمو، وتسبب له العدوى دون أي مخالطة لممرض.
ومن هنا يظهر بشكل واضح أن ذهاب المرض المعدي من أرض قد انتشر فيها لا يعني غيابه عن هذه الأرض أبدًا؛ إذ أشرنا إلى أن شيئًا من مسببات هذا المرض قد يبقى ساكنًا لمدة طويلة في أي مكان يُترك فيه، وعندما يقدر الله سبحانه وتعالى- مسبب الأسباب- ظهور هذا المرض من جديد تصل هذه الجراثيم إلى جسم كائن حي وتسبب له العدوى، وينتشر المرض من جديد، وقد أخبرنا بهذا الأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ روى البخاري من حديث أسامة بن زيد رضى الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع- الطاعون- فقال: رجز- أو عذاب- عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فرارًا منه»([25]).
ومن الإعجاز النبوي العجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي العدوى وفي الوقت نفسه يقر بها في حديث واحد؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد»([26]).
الطاعون (الوباء):
ذكر الجوهري أن الطاعون هو الموت الوَحِيُّ من الوباء؛ أي: الموت السريع الذي ينتج من الوباء، وزاد ابن منظور في تعريف الطاعون فذكر أنه هو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان، كما يذكر علماء اللغة أن الوباء هو الطاعون وهو كل مرض عام، ويقال: الوبأ والوبا والوباء بالقصر والمد والهمز.
ومما تقدم ذكره ندرك أن معنى الطاعون في اللغة لا ينحصر في مرض معين، وإنما يشمل أي مرض يعم الناس وينتشر في البقاع بسرعة عظيمة ويسبب الموت السريع، ولقد جاء العلم الحديث موافقًا للتعريف اللغوي للوباء أو الطاعون؛ إذ يُعرف الوباء علميًّا بأنه: ازدياد مفاجئ لمرض معد- تفجرات وبائية- ينتشر بشكل واسع وسرعة كبيرة بين الناس، وفي وقت واحد وفي أي منطقة.
ومن أمثلة الأمراض الوبائية: الطاعون الدبلي- الموت الأسود- والطاعون البقري، والطاعون الكبير، والكوليرا، والأنفلونزا، وأنفلونزا الطيور، وأمراض الكبد الوبائي، والحمى الصفراء، وحمى الوادي المتصدع، وغيرها كثير.
ولقد تسببت الأمراض الوبائية في هلاك ملايين البشر والحيوانات في فترة زمنية وجيزة، بل وأدت إلى فناء أمم في مواطنها، وفي القرن الرابع عشر تسبب نوع من الطاعون الدبلي عُرف بـ “الموت الأسود” في هلاك ربع سكان أوربا، كما اجتاحت الأوبئة الخطيرة منذ أقدم العصور كلاًّ من أوربا وآسيا وأفريقيا.
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن المرض الوبائي قد يسبب فناء أمة بأسرها؛ إذ روى أحمد بن حنبل عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون»([27])، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الصحية السليمة للوقاية من انتشار الأمراض الوبائية الخطيرة وحصرها في مكانها للحيلولة دون انتشارها.
الإعجاز النبوي في مكافحة الأمراض المعدية:
لو تمعنا في تعاليم الإسلام المتعلقة بمكافحة الأمراض المعدية لرأينا أن هذه التعليمات قد شملت المرضى والأصحاء، ولرأينا أيضًا أن الرسول الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم قد وضح لنا الوسائل المثلى للتعامل معهم؛ ابتعادًا عن احتمالية نقل الإصابة بهذا المرض منهم إلى الأصحاء، ولوضح لنا أيضًا كيف عملت تعاليمه صلى الله عليه وسلم على السيطرة على الأمراض المعدية وحصرها في مكانها والحيلولة دون انتشارها، ولظهر لنا كذلك كيف خص رسولنا الرءوف الرحيم الممرضين بكل ما يسهم في رفع معنوياتهم وعدم عزلهم عن مجتمعاتهم.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن العلوم الحديثة قد أثبتت أن الوقاية من الأمراض المعدية غير الوبائية يمكن أن تتم عن طريق عدم ملامسة جلد الممرض بشكل مباشر، وجعل مسافة تحول دون وصول ما يخرج من جسمه من رذاذ ونحوه، وطرق التعامل الصحية هذه لم تكن جديدة على المسلمين، فقد وجه إليها ودل عليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فَلْنَرَ الآن كيف دلنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم على هذه الوسائل:
1 ـ الوقاية من نقل العدوى بالنخامة أو البصاق:
تنتقل كثير من الأمراض المعدية عن طريق بصاق الممرض، وقد يكون المرء حاملاً لمسببات الأمراض المعدية دون أن تظهر عليه أعراض المرض، ويبدو ظاهريًّا أنه يتمتع بصحة جيدة، فإذا ما أصاب البصاق جلد الإنسان فإن ذلك قد يسبب له العدوى ويؤذيه، ومن أهم الوسائل التي توصل إليها العلم الحديث والتي تسهم في الوقاية من هذه الأمراض وعدم انتشارها ألا يبصق الإنسان على الأرض في الساحات العامة وغيرها من الأماكن، وأن يغيبها في منديل يُرمى بعد ذلك في سلة المهملات التي تُعالج غالبًا بالحرق أو بالوسائل الصحية الأخرى.
وقد وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فعل هذا الأمر قبل أن يوجه إليه المهتمون بالصحة العامة في هذا العصر؛ فقد روى أحمد عن سعد رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تنخَّم أحدكم في المسجد فليغيِّبْ نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه»([28]).
ومن أمثلة الأمراض المعدية التي تسبب العدوى عن طريق استنشاق الرذاذ الخارج من فم الممرض والمحمَّل بالجراثيم المسببة للأمراض: مرض السل الرئوي؛ حيث يُطلق على هذا النوع اسم “العدوى الرذاذية”، ومن أجل الوقاية من الأمراض التي تنتقل عن طريق الرذاذ فقد علمنا معلمنا وقدوتنا الكيفية المثلى لكفِّ أذانا عن الآخرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم الطاهر المطهر كان يضع يده أو ثوبه على فِيهِ عندما يعطس؛ فقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فِيهِ، وخفض أو غض بها صوته»([29]).
2 ـ الحجر الصحي:
الحجر الصحي: هو عزل أشخاص بعينهم أو أماكن أو حيوانات قد تحمل خطر العدوى، وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية من مواجهة الأمراض الوبائية.
ولقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الأسس السليمة الصحية في كيفية احتواء انتشار الأمراض الوبائية؛ ففي الوقت الذي سمح به صلى الله عليه وسلم بالتكلم من بُعْد مع المصاب بالأمراض المعدية غير الوبائية، نجده هنا ينهى صلى الله عليه وسلم تمامًا عن دخول الأرض التي يقع بها مرض وبائي، بل وينهى أيضًا عن الخروج منها، وقد وردت أحاديث عديدة في هذا الموضوع؛ منها ما رواه البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»([30])، وروى مسلم عن أسامة بن زيد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناسًا من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه»([31]).
وقد يثار في النفس سؤال أو استفسار حول الحجر الصحي في الإسلام، فمنع الدخول إلى الأرض التي يقع فيها الطاعون هو حماية من العدوى، ولكن لماذا لا تُترك الفرصة لخروج مَنْ هم فيها فرارًا من هذا الوباء القاتل؟
ونجيب عن هذا السؤال ونقول: إن من يخرج من الأرض التي يقع بها الوباء فهو إما أن تكون الجراثيم الممرضة قد غزت جسمه، ولكن فترة حضانة هذه الجراثيم تأخذ فترة معينة حتى تظهر عليه أعراض المرض، فخروجه من الأرض الموبوءة التي كان بها يعني أنه قد عمل على نقل المرض إلى أماكن أخرى بعيدة؛ فيؤذي الآخرين ويتسبب بذلك في مرضهم أو هلاكهم، وهو في كلتا الحالتين- بقائه في المكان الموبوء أو خروجه منه- لن يفر من الموت إن قدَّر الله له ذلك، ففراره لن ينفعه، بل ربما يجعله آثمًا إن تسبب في انتشار المرض، والمولى سبحانه وتعالى الرءوف الرحيم الذي ابتلاه بهذا الوباء قد أنعم عليه بأجر الشهيد، وإن قدر الله له أن يعيش فلن يضره شيء إن صبر على مكوثه وسيحصل أيضًا على أجر الشهيد؛ إذ لا يقتضي الأمر أن يكون الموت مصير كل من أصابته العدوى بمرض وبائي فتاك، فقد يخلق الله سبحانه وتعالى في جسمه الأجسام المضادة التي تحارب وتقضي على الجراثيم الممرضة، وتكون في جسمه كجهاز مناعي يحميه بعد ذلك من هذا المرض الفتاك.
وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : «أنها سألت رسول صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذابًا يبعثه الله على مَنْ يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس مِنْ عبد يقع الطاعون في بلده فيمكث صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد»([32]) ([33]).
وبهذا يتبين أنه لا تناقض بين تلك الأحاديث الشريفة السابقة، وأن المسالك التي سلكها أهل العلم للتوفيق بين الأحاديث المثبِتة للعدوى والأخرى النافية لها كانت مسالك صحيحة، وقد أيدتها نتائج الأبحاث العلمية الحديثة.
الخلاصة:
ليس هناك تعارض أو تناقض بين أحاديث العدوى، لا سيما وأن لكل حديث حالة معينة وسببًا خاصًّا، وأجمع العلماء على الجمع بين الأحاديث؛ فحديث: «لا عدوى ولا طيرة» المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده من أن المرض والعاهة تُعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث: «لا يورد ممرض على مصح» فأرشد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره.
لقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه محمول على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله النبي صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز.
لقد ميز الرسول صلى الله عليه وسلم بين المريض الذي لا يسبب العدوى عن الممرض الذي تنتقل العدوى منه إلى الآخرين قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، وقبل أن يكتشف هذه الحقيقة علماء العصر الحديث.
كما ندب الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة المريض، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض ويطيب نفسه، ونهى في الوقت نفسه عن إيراد الممرض على المصح، وأمر بالفرار منه والبعد عنه.
كما ميز نبي الهدى صلى الله عليه وسلم بين الممرض بمرض معدٍ والممرض بمرض وبائي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع أسس التعامل مع هؤلاء الممرضين؛ حيث سبق علماء العصر الحديث في هذا الأمر.
(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5687).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5684).
[3]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج8، ص3353.
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: اجتناب المجذوم ونحوه، (8/ 3364)، رقم (5714).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الجذام، (10/ 167)، رقم (5707).
[6]. ضعيف: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الكهانة والتطيُّر، باب: في الطيرة، (10/ 300)، رقم (3918). وضعَّفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3925).
[7]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل مع المجذوم، (5/ 568)، رقم (30/ 9).
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج8، ص3364.
[9]. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1420هـ/ 2000م، ج3، ص281.
[10]. حسن صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: الجذام، (2/ 1172)، رقم (3543). وقال عنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1064): حديث حسن صحيح.
[11]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج10، ص169.
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: رقم (54)، (6/ 592)، رقم (3473).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج10، ص169: 171 بتصرف.
[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث الشريد بن سويد، رقم (19486). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
[15]. السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1422هـ/ 2002م، ج4، ص614.
[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا صَفَرَ وهو داء يأخذ البطن، (10/ 180، 181)، رقم (5717).
[17]. الجمع بين حديث: «لا عدوى ولا طيرة» و «فِرَّ من المجذوم»، أبو إسحاق الحويني، درس صوتي بموقع: فضيلة الشيخ أبي إسحاق الحويني www.alheweny.org.
[18]. شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ص216.
[19].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الفأل، (10/ 225)، رقم (5756).
[20].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5688).
[21].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر، باب: فضل عيادة المريض، (9/ 3698)، رقم (6434).
[22].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5684).
[23].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا هامة، (10/ 251)، رقم (5771).
[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا صفر وهو داء يأخذ البطن، (10/ 180، 181)، رقم (5717).
[25].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحيل، باب: ما يكره من الحيل في الفرار من الطاعون، (12/ 360)، رقم (6974).
[26].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الجذام، (10/ 167)، رقم (5707).
[27]. إسناده جيد: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عائشة رضي الله عنها، رقم (25062). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده جيد.
[28]. إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رقم (1543). وقال عنه شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[29]. حسن صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأدب، باب: في العطاس، (13/ 252)، رقم (5019). وقال عنه الألباني: حسن صحيح.
[30].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: ما يُذكر في الطاعون، (10/ 189)، رقم (5728).
[31].صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، (8/ 3343)، رقم (5666).
[32].صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: أجر الصابر في الطاعون، (10/ 203)، رقم (5734).
[33]. الإعجاز العلمي في لفظي المريض والممرض، د. عبد البديع حمزة زللي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (35)، محرم 1431هـ، ص18: 25.
مناقشة الشبهات حول حديث سجود الشمس تحت العرش
روى البخاري رحمه الله عن أبي ذر: قال النبي ﷺ حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.
الشبهات التي تثار حول هذا الحديث هي من عدة جوانب، وسوف أناقش كل جانب على حدة هنا.
الشبهة الأولى: دوران الشمس حول الأرض
درج في جميع اللغات تعبيرات مثل “غروب الشمس” و “شروق الشمس” وكل ما يتعلق بها مما يشابهها، كالمشرق والمغرب وطلوع الشمس وغيابها.. الخ. وكثيرا ما يأخذ الملاحدة مثل هذه العبارات من النص القرآني ليتهموا القرآن بأنه يخالف العلم، على اعتبار أن هذه العبارات تدل على أن الشمس تدور حول الأرض بينما الصحيح هو أن الأرض هي التي تدور حول نفسها ليتعاقب الليل والنهار وتدور حول الشمس لتتعاقب فصول السنة. ولو أنهم دققوا في ألفاظهم لوجدوا أنهم أنفسهم يستخدمون مثل هذه العبارات، فلا يقولون مثلا: “عندما نبتعد عن ضوء الشمس” وإنما يقولون “عندما تغيب الشمس” أو “عند الغروب”.. إلخ.
هذه لغة الناس التي يتداولونها، والقرآن نزل بلغة الناس، ويحدثهم بلغتهم، وليس معنى هذا أنه يوافقهم في الخطأ، لأن هذه التعبيرات نزلت على خلق يعيشون على الأرض وهم جزء منها، وليس موجها لكائنات تعيش على حافة المجموعة الشمسية! واستخدام هذه التعبيرات النسبية لا خطأ فيه. والقرآن عموما يحدثهم بما يرونه بأعينهم ويدركونه بحواسهم، فهو مثلا لا يقول إن الأرض مسطحة، وإنما يقول: “أفلا ينظرون… وإلى الأرض كيف سطحت”، ولا يقول إن الشمس “إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين” وإنما يقول “وترى الشمس إذا طلعت تزاور ذات اليمين.. الآية”، ولا يقول إن الشمس تغيب في عين حمئة، وإنما يقول “وجدها تغرب في عين حمئة.. الآية”، فهو يتحدث عما يراه الناظر أمامه، فإذا كان الناظر يرى الشمس تغرب أمامه بفعل ارتباطه بالأرض وكونه جزءا منها وعدم قدرته تبعا لذلك على إدراك دورانها، فإنه لا يستقيم أن تصف ما يراه وصفا يخالفه. وهذا موجود ومتعارف عليه عند كل البشر.. بل عند وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، وهي أهم مرجع علمي في علوم الفضاء، فهي تتحدث في موقعها كثيرا عن غروب الشمس sunset وعن شروقها sunrise، وتستخدم هذا التعبير في صيغة الفعل مثل “تشرق الشمس” و “تغرب الشمس”. وهذه روابط من موقع ناسا فيها مثل هذه التعبيرات:
Sunset Over South America
Space Shuttle Endeavour Comes Home to Los Angeles
NASA On Air: NASA’s Curiosity Sees Blue Sunset On Mars (5/21/2015)
والأمثلة كثيرة جدا في الموقع.
الشبهة الثانية: حركة الشمس
يظن البعض أنه على اعتبار أن الأرض هي التي تدور حول الشمس فإن الشمس ثابتة، وهذا خطأ.. الشمس ثابتة بالنسبة للأرض ولكنها ليست ثابتة بالنسبة للمجرة، فهي تسير بسرعة كبيرة جدا مع المجموعة الشمسية. والوصف القرآني واضح في ذلك تماما: “وكل في فلك يسبحون” (الأنبياء- 33).
الشبهة الثالثة: سجود الشمس
الحديث في هذه الشبهة موجه للمسلم الذي يشتبه عليه أمر الحديث، أما الملحد فهو أصلا لا يقبل الاحتجاج بالنصوص الشرعية. سجود الكائنات كلها وارد في القرآن الكريم، ومن ضمن هذه الكائنات الشمس والقمر. فقد قال تعالى: “ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس” (الحج-18)، وقال تعالى: “ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون” (النحل-49).
فهذا السجود العام لا إشكال فيه، وهو سجود لا نعرف كنهه ولا طريقته، فهو خاص بتلك المخلوقات، ولا علاقة له بالسجود الاصطلاحي الذي نقوم به نحن البشر. مثله في ذلك مثل تسبيح الكائنات الذي قال الله تعالى فيه “… ولكن لا تفقهون تسبيحهم”. فنحن نعلم بتسبيح الكائنات وسجودها ولكن لا نفقههما. وإيماننا بهذا التسبيح وهذا السجود قائم على أنه من مصدر موثوق صحيح عندنا هو الوحي.
أما السجود الخاص الوارد في الحديث أنه يحصل في لحظة معينة من اليوم، فهو أيضا من النص الشرعي (الوحي) ولا يصح رفضه بلا علة ما دام سنده صحيحا كما هو واضح. فإن حجية السجود العام للكائنات هي بالضبط نفس حجية السجود الخاص، والاختلاف هو أن الأول مصدره نص القرآن والثاني مصدره نص الحديث الصحيح. وكلا المصدرين يؤخذ منهما الإيمان بالغيبيات.
الاعتراض الحاصل عند البعض على السجود الخاص الوارد في نص الحديث هو أنه يخالف العلم، وهذا غير صحيح. فالشمس تجري كما أوضحنا وهذا ثابت علميا، واللبس الحاصل سببه القياس على البشر في سجود الشمس واستئذانها.. الخ. بينما الصحيح أن كل ما ورد من سلوك الشمس هو مثل السجود والتسبيح، لا يمكننا أن نفقهه، لأنه من الغيبيات، والقاعدة المعروفة هي أن عدم فقه الشيء ليس حجة مقبولة لقبوله ولا لرفضه.
الشبهة الرابعة: تحت العرش
الاعتراض على أن سجودها يحصل تحت العرش هو اعتراض لا قيمة له لسبب بسيط، وهو أن العرش غيب وموقعه غيب. فلا يمكننا مثلا أن نحدد موقع العرش فلكيا لنرى إن كانت الشمس تسجد تحته أم لا، ومعنى هذا أنه لا يتوفر لدينا العلم الكافي لحسم الأمر، وبالتالي فإن عدم توفر العلم لدينا يمنعنا من القطع فلكيا في هذا الأمر، فلا نستطيع فلكيا أن نؤكده أو ننفيه. والنفي يصح فقط إذا كان هناك دليل على استحالته، ولا يوجد دليل على ذلك.
أما كوننا لا نستطيع أن نتصور الأمر، من كون الشمس كل 24 ساعة تمر على مكان يقع تحت العرش، أقول إن عدم قدرتنا على تصوره لا يعطينا الحق على نفيه، وهذا هو المنهج العلمي الصحيح، لا يقوم النفي إلا بدليل ولا يقوم الإثبات إلا بدليل.. هذا من الناحية العلمية، لكن عند المسلم الإثبات قائم ليس بدليل علمي وإنما بدليل نصي، والنص الصحيح هو مصدر موثوق عند المسلم.
فهناك فرق كبير جدا بين عدم إمكانية التصور وعدم إمكانية الحدوث، والخلط بين الأمرين هو مصدر الإشكال في كثير من الشبهات التي يدعي فيه الناس معارضة النص الشرعي للعلم.
والقاعدة عموما بين تعارض النص مع العلم هي كالتالي: إذا تعارض قطعي الدلالة من أحدهما مع ظني الدلالة من الآخر فإنه يقدم قطعي الدلالة سواء كان نصا أو علما. وبالطبع لا يمكن تعارض قطعي الدلالة من النص الشرعي الصحيح مع قطعي العلم. هذا محال لسبب بسيط، أن خالق الكون هو نفسه منزل الوحي.
ادعاء أن في السنة أحاديث ليست صالحة لزماننا
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن ثمة أحاديث في السنة كانت وقتية ظرفية، ارتبط ظهورها بحيثيات الزمان والمكان، التي ظهرت فيه، أما وقد تغير الزمان والمكان فإنها لم تعد صالحة لنا.
ويمثلون لذلك بـحديث أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – للصحابة بالرمل في الحج، قائلين: إن ذلك كان لغاية محدودة، وهي إظهار القوة للمشركين، مستشهدين بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما لنا والرمل؟ كنا نتراءى به المشركين، وقد أهلكهم الله». وكذلك حديث توفير اللحى؛ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين، ووفروا اللحى، وأحفوا الشوارب». قائلين: لقد كان إعفاء اللحية إذ ذاك لعلة وقتية وهي مخالفة المشركين.
متسائلين: إذا كان الرمل وتوفير اللحى لعلة وقتية وزمانية، فما الداعي للأخذ بهذه الأحاديث ومثلها الآن؟!
قاصدين من وراء ذلك إلى الطعن في حجية السنة من خلال تقييد بعض الأحاديث بزمن النبي – صلى الله عليه وسلم – فقط.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – جاءت بتشريع لازم ودائم، يحقق مصلحة ثابتة ودائمة، لا تتغير ولا تتبدل، ولا تنقلب إلى مفسدة أبدا، وقد أثبت الواقع والعلم الحديث صحة ذلك.
2) أما أمر الرمل في الحج فلقد اجتزأ الزاعمون جزءا من الحديث الذي استدلوا به – عمدا – للإيهام بصواب رأيهم، ولو أكملوه لتبين فساد دليلهم وعور استدلالهم؛ إذ يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في تتمة حديثه: «ولكنه أمر فعله رسول الله، ورمل», وتأكيدا على هذا فقد رمل النبي – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع، مما يثبت أنه صار نسكا ثابتا، وليس حكما مؤقتا بزمن الكفار.
3) إعفاء اللحية واجب لدلالة أمره – صلى الله عليه وسلم – على الوجوب، ولم ترد قرينة تصرفه إلى الندب، أو تربطه بزمن معين، فالعلة هنا أمارة على وجود الحكم، وليست منشئة له بذاتها، وهي أحد التعليلات وليست كلها.
التفصيل:
أولا. السنة تشريع دائم يحقق مصلحة لازمة غير موقوتة بظروف:
في البداية نود أن نشير إلى حقيقة هامة مؤداها أن الذي يدين به كل مسلم أن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصحيحة تشريع ثابت ودائم إلى يوم الدين، لا يملك أحد من البشر تغييره أو تبديله.
وينص علماء الأصول على أن الشرع جاء لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، والسنة تندرج ضمن الشرع المحقق لهذا المقصد الشرعي، ومعلوم أن المصلحة تمثل نمطا ثابتا دائما، لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، ولا ينقلب إلى مفسدة أبدا؛ إذ منه اكتسبت الأحكام التي تضمنتها السنة صفة الديمومة والثبات[1].
وصدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول: «فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»[2], وما ذلك إلا تحقيقا للمصلحة ومراعاة أيضا لظرف كل إنسان وزمانه. ومما يؤكد هذه الحقيقة قول المولى عز وجل: )وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا( (النساء: ٨٣).
إذ تشهد لنا هذه الآية أن الله – سبحانه وتعالى – أمر المسلمين بالرجوع إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – في حياته وإلى سنته[3] بعد وفاته، وإلى أولي الأمر الذين منحهم الله القدرة على استنباط الحكم الشرعي من القواعد العليا في القرآن والسنة، مما يؤكد أن السنة لا تتقيد بالزمان أو المكان.
ثم إن هذا الرجوع يفسره لنا سيدنا ميمون بن مهران – رضي الله عنه – فيقول: الرد إلى الله: هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله إذا كان حيا، فلما قبضه الله فالرد إلى سنته، وفي هذا دليل قاطع على أن السنة لا تتقيد بزمن حتى ولو كان هذا الزمان هو حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ تتعداه إلى ما بعده فنرجع إليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ومما يدعم هذه الرؤية أيضا، ما جاء عن ابن القيم رحمه الله في شرحه لقوله عز وجل: )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه( (النور: ٦٢), يقول: “فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبا إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه، وإذنه يعرف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه”[4]. “إذا كان الله – سبحانه وتعالى – جعل من لوازم الإيمان ألا يذهب المسلمون، إذا كانوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أمر جامع أي مذهب إلا إذا استأذنوه، فإنه من الأحرى والأولى أن يكون من لوازم الإيمان ألا يذهب المسلمون – وقد أكمل الله لهم دينهم في مجال العقيدة، والتشريع، والأخلاق… إلخ – إلى مذهب ما: من تشريع أو علم… إلا بعد أن يستأذنوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستئذانه: إما بالرجوع إليه في حياته، كما ذكر ميمون بن مهران. وإما بالرجوع إلى سنته بعد مماته”[5].
وعليه فلا وجه معتبر لمن قال بظرفية أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وكم من اكتشافات أتت لكي تثبت صلاحية السنة لكل زمان ومكان، ولعل العالم اليوم يرجع إلى سنته – صلى الله عليه وسلم – فرحا مسرورا.
ولذلك وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – نظر الأمة إلى الاعتناء بتبليغ سنته – صلى الله عليه وسلم – فعن أبي بكر الثقفي – نفيع بن الحارث – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه»[6].
فاللام في قوله “ليبلغ” للأمر، و”الشاهد” هو من يشهد مجلسه – صلى الله عليه وسلم – و”الغائب” هو من يغيب عن مجلسه، ولقد ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك في حجة الوداع، فأرسى هذا المبدأ، ألا وهو تبليغ رسالته وسنته إلى كل الناس، دون فرق بين أعجمي وعربي أو مكان أو زمان[7].
ثانيا. حديث الرمل حجة عليهم وليست لهم:
إن في حديث “الرمل” الذي استدل به الطاعنون ما يبين فساد دعواهم؛ فالحجة قائمة به عليهم وليست لهم؛ فقد أخبر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في نهايته: أن هذا الرمل شيء فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا نحب أن نتركه, مما يثبت أنه صار نسكا ثابتا, ومعلوم أن الكلام سياق، وسباق ولحاق، فلا يفهم النص إلا باجتماعها, فإن بتر جزء منه فسد النص وتحرف المعنى، وهو ما اتكأ عليه أصحاب هذه الشبهة؛ إذ إنهم أخذوا من الحديث ما يخدم شبهتهم، ثم توقفوا عنده، ليتبين للرائي أنهم على صواب.
ولو أنهم لم يتعجلوا ونظروا إلى بقية الحديث, لما حكموا هذا الحكم, ولنذكر الحديث كاملا ليتضح الأمر جليا؛ فقد رواه البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – استلمك ما استلمتك، فاستلمه، ثم قال: ما لنا وللرمل؟ إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا نحب أن نتركه»[8].
وبإتمام كلام عمر بن الخطاب يتبين أنه قام بالرمل امتثالا لفعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكرها لترك فعل فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – كما فعل – رضي الله عنه – مع استلام الركن، وليس الأمر كما حاول المغرضون إيهامنا.
إن هؤلاء إنما أرادوا نفي صفة التشريع عن الرمل في الحج؛ بحجة أنه كان مقرا لمصلحة خاصة وزالت, واستندوا في ذلك على الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه مكة, فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنهم حمى يثرب فأمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم»[9].
فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما اعتمر “عمرة القضاء”، وكانت مكة مع المشركين لم تفتح بعد، وكان المشركون قد قالوا: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، وقعد المشركون خلف جبل المروة ينظرون إليهم، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط من الطواف؛ ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، ولم يرملوا بين الركنين؛ لأن المشركين لم يكونوا يرونهم من ذلك الجانب, فكان المقصود بالرمل إذ ذاك من جنس المقصود بالجهاد، فظن هؤلاء أنه ليس من النسك؛ لأنه فعل لقصد زال، لكن هذا غير صحيح؛ إذ ظل هذا الفعل نسكا ثابتا بعد انتهاء هذه العلة، فقد فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة معه في حجة الوداع؛ وهذا ما ثبت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه لما حجوا حجة الوداع، رملوا من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ثلاثا[10]، فكملوا الرمل بين الركنين، وهذا قدر زائد على ما فعلوه في عمرة القضاء.
ومع العلم أيضا أنه لم يحج معه في حجة الوداع إلا مؤمن، فدل ذلك على أن الرمل صار من سنن الحج، فإنه فعل أولا لمقصود الجهاد، ثم شرع نسكا، فإذا كانت الحكمة التي شرع من أجلها قد زالت إلا أن حكمه باق إلى يوم القيامة عند جميع العلماء[11].
ولو افترضنا جدلا – بعدما تأكد لنا أنه تشريع ونسك لازم ودائم – أنه كان لحكمة زال بزوالها، فإنه يرجع برجوعها، وما أحوج الأمة الآن إلى أن تظهر ولو شيئا من قوتها للعدو، وهي في أوهن أيامها، فإذا ما شاهدنا العدو عبر الفضائيات وغيرها أثناء أداء المناسك غاية في النشاط والجلد والقوة, يؤدون العبادة بلا هوادة، فإن هذا من شأنه أن يورث في نفوسهم قوة المسلمين وشدتهم.
إننا في حاجة لأن نعود إلى السنة وما فيها, فإن فيها الخير والمصلحة، لأنه يستحيل أن تنقلب المصلحة التي دعت إليها السنة إلى مفسدة أبدا.
ثالثا. حكم إعفاء اللحية ثابت في كل زمان ومكان:
من المعلوم بداهة أن الشارع قد قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، وذلك على وجه لا يختل به نظام الدين، وسواء أكان ذلك من قبيل الضروريات، أم الحاجيات، أم التحسينات، فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها؛ إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، ولكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق, فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا وكليا وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال[12].
وعليه فإن سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – القولية والعملية ليست فيها شيء قابل للتحنيط أو العزل عن حياة المسلمين بدعوى أنها زمانية انتهت بانتهاء زمن النبوة.
وقد زعم بعضهم أن حديث توفير اللحى: «خالفوا المشركين، ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب»[13] من الأحاديث التي بنيت على المصلحة القائمة في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ففي صيغة النص ما يفيد ارتباط الحكم بزي المشركين وعاداتهم في توفير اللحية والشارب معا, وأزياء الناس وزينتهم أمور لا استقرار لها, فهو لذلك تشريع زمني روعيت فيه البيئة التي كان يعيش فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول لهؤلاء: إن الذي يحدد تاريخية الأحكام الشرعية سواء كانت واردة في الكتاب أو السنة هو الشارع الحكيم الذي شرعها لا أهواء الناس وأمزجتهم إذ إننا لو التفتنا إلى رأي كل ناعق لأفرغ الدين من مضمونه ومحتواه، ولم يبق الناس منه إلا اسمه ولا من الحديث إلا رسمه، بل والقرآن الكريم أيضا، فهذه جملة من الأحكام تلغى بادعاء عدم صلاحيتها للعصر؛ لأنها أحكام وقتية قصد بها زمانها فقط دون غيره، وطائفة أخرى زالت عللها، ومجموعة ثالثة لا تلائم كل البيئات وهكذا إلى أن يلغى الدين كله.
من أجل هذا، فنحن نبين لهؤلاء ما قرره علماء المسلمين سلفا وخلفا من وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها لورود الأمر بإطلاقها بعبارات مختلفة نحو “اعفوا، أوفوا، أرخوا، وفروا”، والأمر يفيد الوجوب كما هو مقرر في علم الأصول… ثم إن حلق اللحية – فضلا عن كونه معصية – إنكار للرجولة والفحولة وتشبه بالنساء والمردان، وأيضا تشبه بالكفار[14] لقوله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين».
وفي حلق اللحية تغيير لخلق الله، قال تعالى: )لا تبديل لخلق الله( (الروم: ٣٠) وقال تعالى حكاية عن الشيطان: )ولآمرنهم فليغيرن خلق الله( (النساء: ١١٩) وفي الحديث: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله»[15].
لذا لم يعرف في سير الأنبياء أو الخلفاء أو أئمة الهدى أحد كان يحلق لحيته، فمن خالفهم فقد اتبع غير سبيلهم، قال تعالى: )ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)( (النساء)[16].
وبهذا يتبين حرمة حلق اللحية لأنه مناقض للأمر النبوي بإعفائها وتوفيرها، وهذا الحكم ثابت لا يخص زمنا دون آخر، وأن العلة الواردة فيه ليست هي المنشئة للحكم بل هي دالة على وجوده فقط أو ليست هي كل العلل، بل هي واحدة من علل كثيرة… فقد أراد الإسلام أن يجعل لأتباعه كيانا خاصا، وعلامة فارقة تميزهم فلا يذوبوا في غيرهم؛ اضمحلالا وتقليدا, فيبقوا كما هم أمة واحدة تتعاون ظواهرها وبواطنها، أجسادا وأرواحا، على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
ولقد ثبت أن في توفير اللحى فوائد صحية، فإن هذا الشعر تجري فيه مفرزات دهنية من الجسد يلين بها الجلد، ويبقى نضرا فيه حيوية الحياة ونضارتها، كالأرض المخضلة المبتلة النابتة بالعشب الأخضر، الذي يعاوده الماء بالسقي فهي به حية، وحلق اللحية يفوت هذه الوظائف الإفرازية على الوجه فيبدو جافا، زيادة عما في حلقها من تجريح لجلد الوجه، بحيث يكون علوق الجراثيم به سهلا ميسورا.
كما أن في إعفاء اللحية فائدة أخرى هي حماية لثة الأسنان من العوارض الطبيعية، فهي لها وقاء، كشعر الرأس للرأس[17]. هذا كما ذكر أهل الطب، وعلى الرغم من ذلك فالمؤمن لا ينظر إلى ما يظهر من الإعجاز ربما في أحكام الشريعة قرآنا وسنة وإن كان ذلك يقوي الإيمان ويثبت اليقين أنه على الحق، ومن ثم يقوي الهمة والعزيمة على السمع والطاعة لله ورسوله – إلا أن المؤمن بحق في غاية الرضا به والرضا في طاعته وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – حتى وإن لم يظهر له علة في الحكم أو مقصد أو مصلحة.
ومن هذا كله نخلص إلى أن الأمر بإعفاء اللحية ليس لعلة مخالفة المشركين في وقت النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يزعمون، وإنما هو حكم عام ثابت والمسلمون في حاجة إليه في كل وقت وحين، والعلل لهذا الحكم كثيرة كما بينا.
الخلاصة:
قد مزقت السنة حدود الظرفية الزمانية والمكانية التي يحاول منكرو السنة تقييدها بها، وأنها دائمة ما دامت على الأرض حياة، ولما لا وهي تقدم على طول أربعة عشر قرنا أحكاما تشريعية مستمدة من أصولها وقواعدها العامة.
إن الاستدلال بحديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في التدليل على تاريخية السنة، وأنها ظرفية، حاله كحال من يقف على قوله عز وجل: )فويل للمصلين (4)( (الماعون) دون أن يكمل كلامه عز وجل: )الذين هم عن صلاتهم ساهون (5)( (الماعون)؛ إذ إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أردف قائلا: «شيء صنعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا نحب أن نتركه», ويتبين من ذلك أن الرمل نسك وسنة من سنن الحج لازمة ودائمة غير مؤقتة؛ ولذلك فعله عمر رضي الله عنه.
حكم إعفاء اللحية هو الوجوب، وحلقها محرم لدلالة الأمر على الوجوب دون قرينة تصرفه إلى الندب، كما أن حلقها يدخل في تغيير خلق الله الذي هو من فعل الشيطان، ويذهب بالمروءة؛ إذ حلقها تشبه بالنساء والمردان والمجوس، كما أنه تنكيس للفطرة ومخالفة لسبيل أئمة الهدى من الأنبياء والمرسلين؛ فهي سنتهم وهديهم وشعيرتهم.
إعفاء اللحية فيه كثير من المصالح الدنيوية، والدينية، والاجتماعية، إذ هي تعمل على ترطيب بشرة الإنسان، كما أنها طاعة لأمر الله – عز وجل – واقتداء برسوله – صلى الله عليه وسلم – وتمييز للأمة الإسلامية، كما أنها تتعلق بهيئة الإنسان وليس بزيه، مما يثبت أن السنة جاءت مراعية للفطرة، وصالحة لكل زمان ومكان.
(*) السنة تشريع لازم ودائم, د. فتحي عبد الكريم، دار التوفيقية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م.
[1]. السنة تشريع لازم ودائم, د. فتحي عبد الكريم، دار التوفيقية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ص93 , 94 بتصرف يسير.
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (13/ 264)، رقم (7288). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم، (8/ 3481)، رقم (5998).
[3]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1189).
[4]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 51).
[5]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، مصر، 1987م، ص32.
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “رب مبلغ أوعى من سامع”، (1/ 190)، رقم (67).
[7]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص101.
[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحج، باب: الرمل في الحج والعمرة، (3/ 550)، رقم (1604).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحج، باب: كيف كان بدء الرمل، (3/ 548)، رقم (1602). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف، (5/ 2003)، رقم (3006).
[10]. انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف، (5/ 2002)، رقم (2998، 2999، 3000، 3001).
[11]. السنة تشريع لازم ودائم, د. فتحي عبد الكريم، دار التوفيقية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ص60: 62 بتصرف.
[12]. السنة تشريع لازم ودائم, د. فتحي عبد الكريم، دار التوفيقية، القاهرة، 1405هـ/ 1985م، ص94.
[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظفار، (10/ 361)، رقم (5892).
[14]. قد يحتج بعضهم بأن المشركين الآن منهم من يطلق لحيته، والجواب: أنهم إن أطلقوها فقد عادوا في أمرها إلى أصل الفطرة، فلا يصلح لمسلم أن ينكس فطرته، وأيضا فإن الحلق عندهم هو أصل عملهم فإن خالفوه فلا يستوجب ذلك منا المخالفة، وأيضا فإن إطلاق اللحية هو من شعيرة المسلمين وشعيرة المرسلين، فالتعليل الوارد في الحديث بمخالفة المشركين هو أحد التعليلات وليس هو كل العلة ]انظر تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة، عادل بن يوسف العزازي، دار العقيدة، القاهرة، ط3، سنة 1427هـ/ 2006م، (1/ 57)[.
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: اللباس، باب: المستوشمة، (10/ 393)، رقم (5948). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، (8/ 3249)، رقم (5469).
[16]. تمام المنة في فقه الكتاب وصحيح السنة، عادل بن يوسف العزازي، دار العقيدة، ط3، سنة 1427هـ/ 2006م، (1/ 57، 58).
[17]. مجموعة رسائل الشيخ محمد الحامد, المكتبة العربية، دمشق، ط3، 1414هـ/ 1994م، ص97.
الزعم أن السنة رويت بالمعنى مما أدى إلى تحريفها
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن السنة قد رويت بالمعنى مما أدى إلى تحريفها وتغيير كثير من مضامينها؛ مستدلين على ذلك بأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أقر الرواية بالمعنى، فشاعت وانتشرت وأدى ذلك إلى إهمال الصحابة والتابعين رواية الحديث بلفظه، ومع الرواية بالمعنى لا يؤمن أن يقع من الراوي – من غير قصد – تغيير فيما سمع بالزيادة، أو بالنقص، أو بالتبديل، أو بالتحريف، كما لا يؤمن أن يكون الراوي مصيبا في فهمه، واعيا لكل ما صاحب الحديث من ظروف وأحوال، فربما يروي الحديث مطلقا في حين أنه صدر مقيدا، أو يرويه مقيدا في حين أنه صدر مطلقا. ويرمون من وراء ذلك إلى محاولة تلمس خيط في الرواية بالمعنى ينفذون منه إلى تعميم القول في السنة ووصمها بالتحريف؛ وصولا لإنكار حجيتها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه أن يرووا أحاديثه بألفاظها كما سمعوها منه – صلى الله عليه وسلم – ورغب في ذلك أيما ترغيب، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – إذا سمع هو راويا يبدل لفظا مكان لفظ استوقفه, وأمره أن يرويه كما قاله – صلى الله عليه وسلم -.
2) لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على رواية الحديث بلفظه أشد الحرص، وذلك بحفظه – كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم – في صدورهم أو بكتابته في صحفهم.
3) إذا كان العلماء قد جوزوا للراوي العالم بالألفاظ ومدلولاتها روايته الأحاديث بالمعنى، فإنهم لم يجوزوا لغير العالم بالألفاظ ذلك، وعلى الجملة فقد وضعوا قيودا وضوابط لرواية الحديث بالمعنى تضمن حفظه من التحريف والتغيير، وقد كانت هذه الشروط خاصة برواة أجيال ما بعد الصحابة، لا جيل الصحابة الكرام أنفسهم.
التفصيل:
أولا. رواية الأحاديث باللفظ هي الأصل، وحث النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك:
لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على رواية أحاديثه باللفظ كما سمعوها منه صلى الله عليه وسلم، ورغب في هذا كثيرا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع»[1].
فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «فبلغه كما سمع» إنها دعوة إلى نقل الحديث عنه بألفاظه ومعانيه، لا بمعانيه فقط، وهذا دليل على استحباب الرواية على اللفظ، وكراهة روايته على المعنى، وإن كان ذلك لا يتعدى إلى رفض الرواية بالمعنى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»[2].
وواضح ما في الحديث من وعيد لمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإبدال لفظ مكان لفظ – مع التعمد – يندرج تحت الكذب على رسول الله، وهذا الحديث بلغ مبلغ التواتر الذي لا مثيل له، وقد اشتهر بذلك عند المحدثين، فمن يا ترى – من أصحاب رسول الله، وهم الذين رووا لنا كل أحاديثه القولية، وكل سنته الفعلية، ومن منهم – يجرؤ على الكذب على رسول الله مع علمه بهذا الحديث؟!
ومن أقوى الأدلة التي تؤكد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على الرواية عنه باللفظ ما رواه البخاري من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال البراء: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: لا، ونبيك الذي أرسلت»[3].
ففي هذا الحديث دعوة من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رواية الحديث بلفظه، والتمسك بذلك، وعدم مخالفة اللفظ، و قد أدى حثه – صلى الله عليه وسلم – الصحابة على ذلك إلى تأثرهم الشديد بما قاله، فعمل الصحابة على المحافظة على نصه.
وعليه فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – وإن لم ينه عن الرواية بالمعنى ربما لكي لا يشق على أمته إلا أنه رغب في رواية الحديث بلفظه، وحث أصحابه الكرام على ذلك كثيرا ونهى من سمعه عن أن يغير لفظا ولو بمرادفه، وقد اتبع أصحابه هذا المبدأ فحفظوا لنا السنة، كما قالها صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. صيانة الصحابة للحديث وحرصهم على روايته بلفظه:
لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على نقل الحديث بألفاظه، وإن ترخص بعضهم في روايته بالمعنى، فإن ذلك عند الضرورة فقط، وعلى هذا المنوال سار التابعون من بعدهم، ونهجوا نهجهم.
فمما لا شك فيه أن جميع الصحابة حرصوا على أداء الحديث، كما سمعوه من الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى إن بعضهم ما كان يرضى أن يبدل حرفا بحرف، أو كلمة مكان كلمة، أو يقدم كلمة على أخرى، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه كان يقول: “من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم”[4]. وروي نحو ذلك عن عبد الله بن عمر وزيد بن أرقم.
وقد اشتهر من بين الصحابة الذين كانوا يتشددون في الحرص على لفظ حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عبد الله بن عمر؛ فقد روى حديث بني الإسلام على خمس، فأعاده رجل فقال له ابن عمر: “لا، اجعل صيام رمضان آخرهن، كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم “[5]. وقد كان عبد الله بن عمر جالسا ذات يوم وعبيد بن عمر يقص على أهل مكة، فقال عبيد: «مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين، إن أقبلت إلى هذه الغنم نطحتها، وإن أقبلت إلى هذه نطحتها، فقال: عبد الله بن عمر: ليس هكذا، فغضب عبيد بن عمير، وفي المجلس عبد الله بن صفوان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف قال رحمك الله؟ فقال: قال: مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين، إن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، وإن أقبلت إلى ذا الربيض نطحتها، فقال له: رحمك الله، هما واحد، قال: كذا سمعت»[6].
ولهذا نرى في بعض الأحاديث، قول الراوي – كذا وكذا – لا أدري بأيهما بدأ، أو أيهما قال قبل، ونحو ذلك، وهذا تنبيه من الراوي إلى أنه أدرك الحديث وفهمه، ولكنه لم يتأكد من ترتيب اسمين فيه أو كلمتين فيبين موضع شكه وأن الشك ليس في أصل الحديث.
ومن تشدد الرواة في المحافظة على نص الحديث بألفاظه، أنهم كانوا يمنعون زيادة حرف واحد، أو حذفه وإن كان لا يغير المعنى؛ ومن هذا ما رواه سفيان قال: حدثنا الزهري أنه سمع أنس بن مالك يقول: “نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الدباء[7] والمزفت[8] أن ينتبذ فيه[9]، فقيل لسفيان: أن ينبذ فيه؟ فقال: لا، هكذا قاله لنا الزهري “ينتبذ فيه”[10].
وبلغ من شدة حرصهم على اللفظ الذي سمعوه أنهم كانوا لا يخففون حرفا ثقيلا، ولا يثقلون حرفا خفيفا، ولا يبدلون حركات الحروف التي يسمعونها، بل يروونها كما سمعوها، وإن كان ذلك التغيير لا يبدل معناها، نحو “نما – نمى” في حديثه صلى الله عليه وسلم: «ليس الكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيرا أو نمى خيرا». قال حماد: “سمعت هذا الحديث من رجلين، فقال أحدهم: نما خيرا “خفيفة”. وقال الآخر نمى خيرا “مثقلة”[11].
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة والتابعين على الحفاظ على حديثه – صلى الله عليه وسلم – بلفظه دون أي تغيير أو تبديل، فهل من المعقول أن يروي قوم هذا حالهم السنة بطريقة تؤدي إلى تحريفها؟!
لقد اهتم الصحابة الكرام بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – اهتماما عظيما في حياته وبعد مماته، وهذا الاهتمام الواضح يبين أن ما ادعاه المغرضون من إهمال الصحابة للسنة إن هو إلا كذب مفترى، فقد تنوعت أساليب حفظ الصحابة لها بحفظها في الصدر أو تقييدها في الكتاب.
أما عن حفظ الصدر؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: “جزأت الليل ثلاثة أجزاء، ثلثا أصلي وثلثا أنام وثلثا أذكر فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “[12].
وكان الصحابة يحثون بعضهم بعضا على مذاكرة الحديث، فمن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه «تذاكروا الحديث، فإنكم إلا تفعلوا يندرس»[13]. فدل هذا كله على حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على حفظ الحديث بلفظه، وضبطه في صدورهم كما قاله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وأنهم رضوان الله عليهم قد بذلوا ما في وسعهم لتحقيق هذا الغرض، معتبرين ذلك تعبدا لله – عز وجل – وطاعة لأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – ولذلك وصل إلينا الحديث النبوي دون تحريف أو تبديل.
ولا ننسى أن مما ساعدهم على حفظ الحديث بلفظه في صدورهم – الذاكرة الحافظة التي وهبها الله – عز وجل – لحملة الشريعة الإسلامية، ورواة الحديث الشريف من الصحابة والتابعين؛ فيروي لنا التاريخ، ما كان يحفظه أبو هريرة وغيره، وإن المرء ليعجب عندما يطلع على أخبار صحيحة تذكر أولئك الحفاظ الذين حملوا إلينا السنة، فنجد عبد الله بن عباس الذي اشتهر بسرعة حفظه، كان يحفظ الحديث من مرة واحدة، ويروى أنه سمع قصيدة لابن أبي ربيعة عدتها ثمانون بيتا فحفظها من المرة الأولى، وكذلك زيد بن ثابت الذي حفظ معظم القرآن قبل بلوغه، وتعلم لغة اليهود في سبعة عشر يوما، وفيهم عائشة – أم المؤمنين – التي كانت آية من آيات الذكاء والحفظ, وغيرهم كثير.
وفي التابعين نافع مولى عبد الله بن عمر الذي لم يخطئ فيما حفظ، وأجمع النقاد على دقة حفظه، وفيهم ابن شهاب الزهري حافظ زمانه، وعامر الشعبي ديوان عصره، وقتادة بن دعامة السدوسي مضرب المثل في سرعة الحفظ والضبط والإتقان[14].
أضف إلى هذا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يختار في تعليمه من الأساليب أحسنها، وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدها تثبيتا للعلم في ذهن المخاطب، وأكثرها مساعدة على إيضاحه له[15], فكان – صلى الله عليه وسلم – إذا حدث بحديث فإنه يفصل كلامه ويردده، ولم يكن يتحدث كما يتحدث الناس على عجل، وهذا أدعى إلى حفظ الحديث بلفظه.
هذا عن حفظ الصدر، أما عن حفظ السنة بالكتابة فقد اهتم الصحابة – رضي الله عنهم – بكتابتها كما قالها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – لا سيما بعد أن نسخت أحاديث المنع، وما كان اهتمامهم بالكتابة إلا لحفظ الحديث لفظا، ووصوله إلى المسلمين بلفظه، فنجد من المحدثين من لم يحدث طلابه إلا إذا كتبوا عنه، إذ خشي ألا يحفظوا عنه؛ فيقع منهم الوهم والخطأ، وهذا ما يرويه الخطيب البغدادي، بسنده عن ابن عيينة، قال: “قال محمد بن عمرو: لا والله لا أحدثكم حتى تكتبوا، إني أخاف أن تكذبوا علي، وفي رواية “أخاف أن تغلطوا علي”[16].
ومما يدل على أن كتابة الحديث مندوب إليها إذا خيف عليه التحريف أو النسيان ما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: “لم يكن أحد من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه يكتب وأنا لا أكتب”[17]. وفي هذا تأكيد على أنهم كانوا يدركون جيدا أن كتابة الحديث أدعى لحفظه من غيرها.
وعن ابن عمرو قال: “كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أريد حفظه فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[18]، فدل هذا على أن ابن عمرو كان يكتب خلف رسول الله ما يقوله بلفظه، ويحفظه كما هو لفظا لا معنى.
ولم يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ فقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يرسل كل منهم للآخر في طلب أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكتوبة، فتعددت الصحف التي كتب فيها الصحابة الحديث، وانتقل هذا الحرص على الكتابة إلى الجيل الأول من التابعين.
ونخلص من هذا كله إلى أن مرحلة ما قبل التدوين الرسمي للسنة لم تقف الرواية فيها على الشفاهة فقط، وإنما كانت الكتابة موافقة لها، ومن ثم لم تكن السنة مروية بالمعنى في بادئ الأمر مما يدل على سلامتها ووصولها إلينا باللفظ والمعنى محفوظة من التحريف والتغيير مؤداة كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثا. شروط الرواية بالمعنى:
إن للعلماء في رواية الحديث بالمعنى مذاهب عدة، نستخلص منها مذهبين:
المذهب الأول: أن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز لمن لا يعلم مدلول الألفاظ في اللسان العربي، ومقاصدها، وما يحيل معناها، والمحتمل من غيره، والمرادف منها، وذلك على وجه الوجوب بلا خلاف بين العلماء؛ لأن من اتصف بذلك لا يؤمن أن تؤدي روايته بالمعنى إلى خلل، ووجب على من هذا حاله أن يروي الحديث بالألفاظ التي سمع بها مقتصرا عليها دون تقديم ولا تأخير، ولا زيادة، ولا نقص لحرف أو أكثر، ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، ولا مشدد بمثقل، أو خلافه[19].
أما من كان عالما بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرا بما يحيل معانيها، بصيرا بمقادير التفاوت بينها، فاختلف فيه السلف وأصحاب الحديث، وأرباب الفقه والأصول، فالمعظم منهم أجاز له الرواية بالمعنى إذا كان قاطعا بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه سواء في ذلك الحديث المرفوع أو غيره[20].
المذهب الثاني: المنع من الرواية بالمعنى مطلقا، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف بمعاني الألفاظ وغيره، وهو مذهب كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وهو مذهب الإمام مالك، ومعظم المحدثين[21].
ومن هنا يظهر لنا أن الأصل في رواية الحديث عند العلماء روايته باللفظ للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، وغيره أيضا، والفرع هو الترخص في الرواية بالمعنى للعالم دون غيره، وهذا هو الراجح عند العلماء.
وإذا سلمنا – جدلا – بأن الأصل هو الرواية بالمعنى، فإنها لا تفضي إلى تحريف السنة كما يزعمون؛ لأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل يرجع إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي كانت تختلف ألفاظه بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، ففي كل ذلك تختلف ألفاظه – صلى الله عليه وسلم – إيجازا وإطنابا، وتقديما وتأخيرا، وزيادة ونقصانا، بحسب ما تقتضيه الحال ويدعو إليه المقام.
فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلا، فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه فيظن من لا علم له أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، أو من آثار الرواية بالمعنى، وواقع الأمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان طبيب النفوس، يجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس في جميع الظروف، أو في الظرف الذي كان فيه الاستفتاء[22].
فقد كانت له – صلى الله عليه وسلم – حكمة عظيمة في التعليم، وتبليغ الوحي الإلهي، وإسداء ما يناسب الأفراد والجماعات، من العظات وبيان الحكم، ولا غرابة في ذلك، فهذا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه القصة الواحدة لنبي من الأنبياء، تذكر في جملة سور منه على وجوه شتى، فتارة تذكر كلها كاملة، موجزة أو مبسوطة، وتارة يذكر طرف منها في سورة وطرف آخر في سورة أخرى، موجزا ذلك الطرف أو مبسوطا، كل ذلك مع اختلاف الألفاظ، وتنوع العبارات، كما تراه في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام[23].
ويرجع اختلاف الأحاديث أيضا إلى أنها ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، وأشباه ذلك، وهذان الضربان ليسا محل نزاع، ولا دخل للرواية بالمعنى فيهما[24].
هذا من جانب, ومن جانب آخر فإن علماء الحديث قد وضعوا شروطا، وضوابط حازمة فيما تصح روايته بالمعنى، حفاظا على الرواية من التحريف أو الخطأ، من هذه الشروط:
- أن يكون الراوي ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به.
- أن يكون الراوي عالما بلغات العرب ووجوه خطابها.
- بصيرا بالمعاني والفقه.
- عالما بما يحيل المعنى وما لا يحيله.
- أن لا يكون الحديث أحد ثلاثة؛ وهي:
مما يتعبد بلفظه كالشهادة، والتشهد، والإقامة، والدعاء وغير ذلك.
أن يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
أن يكون مما يستدل بلفظه على حكم لغوي.
- أن يكون ذلك في خبر ظاهر.
- أن لا يكون ذلك في الخبر؛ لأنه ربما نقله الراوي بلفظ لا يؤدي مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- أن يقول الراوي عقب روايته للحديث: (أو كما قال) أو (نحوه) أو (شبه).
- أن يكون الراوي قد اضطر اضطرارا إلى روايته بالمعنى:
كأن يغيب اللفظ عنه في حالة روايته له.
أو أن لا يكون ضابطا للحديث؛ لأن الضبط الدقيق مطلب عزيز لا يتقنه إلا القليل، والضرورة تقدر بقدرها.
- أن لا تكون روايته للحديث على سبيل الرواية والتبليغ خاصة بخلاف الاستفتاء والمناظرة.
- أن يبين الراوي أن هذا هو معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لا لفظه[25].
هذه هي الشروط التي وضعها العلماء لقبول رواية الحديث بالمعنى، فهل يعقل أن الحديث الذي روي بالمعنى مراعيا مثل هذه الشروط هل يعقل أن يؤدي إلى تحريف السنة؟!
نود أن نبين أن الخلاف الذي وقع بين العلماء في جواز رواية الحديث بالمعنى، إنما يقصد بهم رواة ما بعد جيل الصحابة الكرام؛ لأن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا حفاظا من الطراز الأول وساعدهم على حفظ الحديث بلاغة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان الصحابة أعلم الناس بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأحواله وأقواله, ومن ثم فإن روايتهم لحديثه بأي شكل من الأشكال لن تؤثر في معنى الحديث ولفظه.
وبذلك فإن المنبع – وهو الرسول صلى الله عليه وسلم – والجداول – وهم الصحابة الكرام – كانت سليمة من أي تحريف.
وإذا علمنا أن التدوين الخاص وجد في القرن الأول الهجري، وأن التدوين العام بدأ في أواخر القرن الأول وبداية الثاني، وأن الرواية بالمعنى لا تجوز في الكتب المدونة، والصحف المكتوبة، وأن الذين نقلوا الأحاديث ورووها، منهم من التزم باللفظ، ومنهم من أجاز الرواية بالمعنى، وهؤلاء المجيزون كانوا عربا خلصا، ممن قد سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا أحواله، وأنهم أعلم الناس بمواقع الخطاب، وكامل الكلام، وأنهم يعلمون حق العلم أنهم يروون ما هو دين، ويعلمون حق العلم حرمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أيضا أن الكذب على رسول الله إنما هو في حقيقته كذب على الله فيما شرع وحكم.
إذا علمنا كل ذلك، علمنا أن الرواية بالمعنى لم تجن على الدين، وأنها لم تدخل على النصوص التحريف والتبديل، كما زعم بعض المستشرقين ومن لف لفهم، وأن الله – عز وجل – الذي تكفل بحفظ كتابه قد تكفل بحفظ سنة نبيه من التحريف والتبديل، وقيض لها في كل عصر من ينفون عنها تحريف المغالطين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فذهب الباطل الدخيل، وبقي الحق موردا صافيا للشاربين[26]، )فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض( (الرعد: 17).
وإذا كان الأمر كما أوضحنا، وأن الراوي بالمعنى لا بد أن تتوفر فيه مثل هذه الشروط، يتأكد أن احتمال الخطأ بالنسبة إليه أشبه بالأمر الموهوم الذي لا يؤبه له، ولا يلتفت إليه، وبخاصة إذا نظرنا إلى ما كان عليه السلف من دقة وأمانة وثقة وورع وصدق ودين، والأحاديث مع تعدد طرقها لا نرى فيها اختلافا في المعنى، وعلى هذا الأساس يكون الظن بصحة الرواية بالمعنى قائما وراجحا، ومع الظن يجب العمل؛ إذ الظن في هذا كاف لوجوبه بما في ذلك أصول الدين التي يكفر جاحدها، وهو ما علم من الدين بالضرورة[27].
الخلاصة:
لقد حث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه الكرام أن يرووا أحاديثه بألفاظها كما سمعوها منه – صلى الله عليه وسلم – ووعدهم بالخير الجزيل إذا فعلوا ذلك.
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى من سمعه أن يبدل لفظا مكان لفظ في رواية الحديث، وأرشده إلى التزام اللفظ الذي قاله، وفي ذلك ما يدل على ترغيبه – صلى الله عليه وسلم – في الرواية باللفظ.
توعد – صلى الله عليه وسلم – من يكذب عليه أشد الوعيد، ومن يبدل لفظا مكان لفظ – متعمدا – يندرج تحت الكذب على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غير المعنى.
لقد حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على نقل الحديث بألفاظه، ولم يترخصوا في ذلك إلا عند الضرورة، وعلى هذا المنوال سار التابعون من بعدهم.
لقد اعتنى الصحابة – رضي الله عنهم – بالحديث النبوي، وكانوا يرفضون أي تغيير ولو لم يؤثر على المعنى سواء أكان ذلك في الكلمات نفسها، أم الحروف، أم الحركات.
لقد تجلى اهتمام الصحابة بالحديث في صور كثيرة منها حفظهم إياها في الصدور، وتقييدهم له في الكتب والصحائف. ومدارسته حتى يتسنى لهم إتقانه وتثبيته، وساعدهم على ذلك الحافظة القوية، وأسلوب النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي بلغ الغاية في حسن العرض والأداء, وسلامة التلقين.
لقد حرص الصحابة على كتابة الحديث من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يتغير لفظه، وحث العلماء تلاميذهم على ذلك، والأدلة على كتابة السنة في مرحلة ما قبل التدوين الرسمي أكثر من أن تحصى.
- إذا كان العلماء قد جوزوا للراوي العالم بالألفاظ ومدلولاتها رواية الحديث بالمعنى فإنهم لم يجوزوا ذلك لغير العالم بالألفاظ، ووضعوا شروطا حازمة لقبول رواية الحديث بالمعنى، مما يضمن سلامته من أي تغيير أو تحريف، وما حدث من تغيير في بعض الأحاديث لم يقبلها العلماء.
إن الأصل في رواية السنة هو روايتها باللفظ، والفرع هو الترخص في رواية المعنى عند الضرورة بشروط وضوابط.
اختلاف بعض الألفاظ في الأحاديث ليس مرده الرواية بالمعنى فقط، وإنما من أسبابه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يلقي الأحاديث وقد تتغير العبارات أو الألفاظ بما يقتضيه الحال دون أن تتغير المعاني، وذلك موجود في القرآن حيث تروى القصة أو يقع الأمر والنهي بأكثر من صياغة في أكثر من موضع، كما أن الإخبار عن أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – محل تنوع؛ فكل يروي بلفظه ما يراه، فهل يعقل أن يتهم هؤلاء السنة بالتحريف وقد أحيطت بكل هذه العناية وذاك الاهتمام؟!
(*) في السنة النبوية ومصطلح الحديث, د. حسين سمرة، دار الهاني، القاهرة، 1427هـ/ 2006م. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م. دفاع عن السنة ورد شبهات المستشرقين والكتاب المعاصرين, د. محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م.
[1]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع، (7/ 347، 348)، رقم (2794، 2795). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2657).
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 244)، رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوضوء، باب: فضل من بات على الوضوء، (1/ 426)، رقم (247).
[4]. المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، القاضي الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، دمشق، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص538.
[5]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 515).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، (7/ 5546)، رقم (5546). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.
[7]. الدباء: القرع، واحده دباءه، وكانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب.
[8]. المزفت: الوعاء المطلي بالقار وهو الزفت.
[9]. النبذ والانتباذ: أن يوضع الزبيب أو التمر في الماء ويشرب نقيعه قبل أن يختمر أو يسكر.
[10]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 522).
[11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، 2002م، (1/ 530).
[12]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 399).
[13]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 173)، رقم (324).
[14]. السنة قبل التدوين, محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص136 بتصرف.
[15]. الرسول المعلم وأساليبه في التعليم, د. عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص63 بتصرف.
[16]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (5/ 675).
[17]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص83.
[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، (10/ 15)، رقم (6510). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[19]. تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي, السيوطي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط2، 1392هـ/ 1972م،(2/ 98، 99).
[20]. السنة النبوية, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 376) بتصرف.
[21]. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول, الشوكاني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، ط1، 1356هـ/ 1937م، ص57.
[22]. الحديث والمحدثون, محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر, القاهرة, ط1, 1378هـ/ 1958م، ص207، 208 بتصرف.
[23]. الحديث والمحدثون, محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر, القاهرة, ط1, 1378هـ/ 1958م، ص209.
[24]. السنة النبوية, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 381) بتصرف.
[25]. قضايا حديثية، أشرف خليفة عبد المنعم، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، 2004م، ص455.
[26]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين, د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص56: 58 بتصرف.
[27]. مكانة السنة في بيان الأحكام الإسلامية، علي الخفيف، ص23بتصرف.
الزعم أن السنة مليئة بالأخطاء التاريخية(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن السنة النبوية مليئة بالأخطاء التاريخية، لما فيها من أغلاط واضطرابات في الأحداث التاريخية التي أخبرت بها، بسبب الوضع الذي تسرب إليها، فأصبحت سجلا مضطربا من الأغلاط التاريخية الفادحة، ومن هنا يرون أن السنة لا تبنى عليها الحقائق التاريخية، ولا يعول عليها في دراسة التاريخ.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن المعارف التاريخية والأحداث التي أخبر بها النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ليعلمها ويخبر بها من تلقاء نفسه، وهو الأمي الذي لم يقرأ كتابا في التاريخ أو العلم، وإنما هي وحي من الله إليه تثبت الأحداث التاريخية كل يوم صدقها وصحتها، ومن أصدق من الله حديثا.
2) لقد جاءت السنة النبوية لتبين للناس ما نزل إليهم من القرآن الكريم، وقد حوت بين طياتها أحداثا تاريخية صادقة، مما يجعلها أحد مصادر التاريخ الصادقة، وليس هناك دليل على وجود أي من هذه الأغلاط التاريخية المزعومة في الأحاديث الصحيحة، وأما الأحاديث غير الصحيحة فلا يعتد بها، وقد تناولها العلماء بالفحص والتمحيص.
التفصيل:
أولا. ما ورد في السنة من علوم ومعارف وأخبار وحي من الله عز وجل:
اشتمل القرآن الكريم على سير كثير من الأنبياء والمرسلين وأخبار كثير من الأمم السابقة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – هو المبلغ عن ربه – عز وجل – وهو المبين لما جاء في كتاب الله، بوحي من الله، فيعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحابة علوما ومعارف غير ما ورد في القرآن، أو يبين ما جاء في القرآن من قصص وأخبار، وهذا هو الشطر الثاني من رسالته – صلى الله عليه وسلم – قال تعالى: )كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151)( (البقرة).
وهذه العلوم والمعارف التاريخية وأخبار القدماء وأحداث القصص التاريخي القرآني – لم يكن ليعلمها النبي – صلى الله عليه وسلم – من تلقاء نفسه، ولم يتعلمها في أماكن التعليم، أو في أديرة الأحبار والرهبان، وإنما علمه الله ــ عز وجل – إياها، وفي ذلك يقول تعالى في مناسبات تتصل بها: )تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (49)( (هود). ويقول عز من قائل عن قصة ابنة عمران: )ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)( (آل عمران)، وعن أخبار الرسل وقصصهم يقول رب العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم: )وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك( (هود: ١٢٠).
فالرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يوضح لصحابته ما يغيب عن أذهانهم من أمور، ويذكر لهم مدلولاتها وما حوته من إشارات تاريخية، وذكر لسير الأنبياء والمرسلين، وأخبار عن أحداث الماضين من الشعوب البائدة والأمم الفانية المنقرضة.
وكل هذا بوحي من الله له، ومن أصدق من الله حديثا، ومن أصدق من الله قيلا[1].
لقد جاء لفظ التبيين في جانب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله سبحانه وتعالى: )لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤)، وهو قصد مقصود وراءه دلالات يبحث عنها، وهي: أن بيان الله للقرآن إنما هو لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ومصدره هو الله – عز وجل – ومستقبله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وطريقه الوحي في صورة ما من صوره، أما التبيين فهو من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للناس، ومصدره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المتلقي عن الله، ومستقبله المخاطبون بهذا القرآن، وطريقة عرضه عليهم اللغة والكلام[2].
إن السنة وكل ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – وحي من الله له: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)؛ ولذا قال – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[3]، وقال سبحانه وتعالى: )واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة( (الأحزاب: 34).
وقد نقل القرطبي رحمه الله عن أهل العلم بالتأويل تفسير الحكمة ها هنا بالسنة، فإذا كانت الحكمة معناها السنة، والله – عز وجل – قرن بين الكتاب والسنة في الإنزال، فهذا يقتضي كونها من عند الله تعالى.
وقد جاء في السنة أن السنة وحي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه…»[4].
قال ابن حزم رحمه الله: “فصح أن كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كله في الدين وحي من عند الله – سبحانه وتعالى – لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل العلم في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل”[5].
وقال أبو البقاء الحسيني: “والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما وحيا من عند الله”[6].
إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان كل ما يتحدث به النبي – صلى الله عليه وسلم – وحيا من عند الله، فكلامه – عز وجل – الصدق، وحديثه الحق، ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا؟
وليس في القرآن – بفضل الله – مقولة واحدة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث، كما يقول المستشرق موريس بوكاي، وكذلك السنة وحي من الله ليس بها خطأ أو غلط، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأنى لهذا النبي الأمي أن يأتي بشيء من هذه الأخبار من تلقاء نفسه؟ وقد كان بعض أهل الكتاب يسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن شيء أو حدث أو شخصية؛ كأهل الكهف، وخبر موسى والخضر، و ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج و… إلخ، فينتظر النبي – صلى الله عليه وسلم – الوحي حتي يأتيه فيجيبهم، وما كان أحد من أهل الكتاب يكذب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأن كل ما جاء به صحيح صادق، لأنه بوحي من الله، ومن أصدق من الله قيلا؟
ثانيا. السنة النبوية سجل صادق، له أهميته في دراسة التاريخ:
إن القرآن الكريم في الأصل كتاب هداية، لكنه يعد أيضا مصدرا صادقا من مصادر التاريخ لما حواه من إشارات تاريخية، وذكره لأحداث جسام في الأزمنة الغابرة؛ وكذلك الحديث النبوي الذي جاء في الأصل لتبيين القرآن الكريم يعد أيضا من مصادر التاريخ فهو مصدر توضيحي تحليلي صادق لكل هذه الأحداث التاريخية القديمة التي حدثت في تاريخ الأقوام السابقين وحياتهم، ومرجع تفسيري لقصص الأنبياء، وغيرها من القصص الواردة في القرآن.
ومن هنا تأتي أهمية دراسته بوصفه مصدرا تاريخيا مهما، يوضح ما جاء في القرآن مجملا، ويفسر ما ورد عاما، ويحلل الدقائق التاريخية، ويلقي عليها الضوء لتظهر في جلاء ووضوح[7].
إن كل ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من أخبار وأحداث تاريخية، وأخبار الأمم السابقة، وحياة الأنبياء والمرسلين، بدءا من حديث بدء الخلق وخلق آدم، وانتهاء بما سيكون في أمته – كل هذا صحيح صادق غير مكذوب، هذا إن كان في الأحاديث الصحيحة المعتمد عليها في دراسة التاريخ، ولقد تنبأ النبي – صلى الله عليه وسلم – بأشياء سوف تحدث، من مثل استيلاء المسلمين على ملك كسرى وفتح القسطنطينية، وقد حدث كل هذا بالفعل، وغير ذلك مما تحقق وقد تنبأ به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وما هو آت لا محالة مما أخبر به الصادق – صلى الله عليه وسلم – وليس هناك دليل واحد لحدث رواه النبي – صلى الله عليه وسلم – أو أخبر به وكان غلطا أو خطأ.
ولو كان فيما يخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – من خطأ أو غلط تاريخي، أو وهم في رواية الأحداث لشنع به أهل الكتاب فيما يحكيه ويرويه عن ربه، ولو وجد العرب – الذين كانوا يودون لو ظفروا بما يتوصلون به إلى تكذيب النبي – صلى الله عليه وسلم – وإقصاء الناس عنه – لو وجدوا ذلك لما سكتوا عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بل لأذاعوا ذلك ونشروه، وشهروا به صلى الله عليه وسلم.
وما دمنا نتحدث عن الحديث النبوي وعلاقته بالتاريخ، فإننا ينبغي علينا أن ننظر سريعا في عناصر التاريخ الأساسية وهي: الزمان، والمكان، والأحداث، وعالم الغيب وارتباطه بعالم الواقع، والأشخاص والأبطال.
وأما العنصر الأول من هذه العناصر وهو الزمان، فقد جاء في الحديث النبوي أنواع من الزمان يمكن إجمالها فيما يأتي:
- الزمن الكوكبي.
- ما بعد الزمن الكوكبي
- ما قبل الزمن الكوكبي.
- الزمن النفسي.
والزمن الكوكبي: هو الزمان الذي نقيم عليه حساباتنا وأقسامها ومضاعفاتها، وقد ورد في أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذكر ما يتصل بهذا الزمن وأجزائه، مثل حديث «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض»[8]، وحديث «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة…»[9].
وبهذا الزمن تتحدد أعمار الأفراد ومراحل السنين، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود ــ رضي الله عنه – قال: حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»[10]، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا يتسع المقام لذكرها.
وبهذا الزمن تتحدد العبادات اليومية؛ كالصلوات الخمس، والعبادات السنوية؛ كالصيام والحج، والعبادات ذات الطابع الاقتصادي كالزكاة.
أما ما قبل الزمن الكوكبي: وهي تلك المدة الزمنية التي خلقت فيها السماوات والأرض، فقد جاء في الأحاديث ذكره، وقد جاء بعضها إجابة على أسئلة اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما بعد الزمن الكوكبي: فهو المدة التي جاءت بعد خلق الكون إلى أن يأذن الله بانتهاء كل العوالم الدنيوية، وقد جاءت أشراط الساعة والحديث عن قيام الساعة والحشر والموقف الصعب في عرصات القيامة، جاء كل ذلك في الحديث النبوي، وقد تحققت كثير من أشراط الساعة، وسيكون ما أخبر به النبي الصادق الأمين ولتعلمن نبأه بعد حين.
أما الزمن الرابع فهو الزمن النفسي: وهو الذي يبدو فيه إحساس الإنسان بطول الزمن أو قصره.
إن الزمان في الحديث النبوي مقاييس معلومة ومقاييس مجهولة، سابقة ولاحقة وإحساس به قصرا وامتدادا، يطغى على القياس المعلوم[11].
أما العنصر الثاني من العناصر الأساسية فهو المكان، والقرآن الكريم مصدر تاريخي مهم، بل أقدم المصادر العربية المدونة لتاريخ العرب في عصر الجاهلية وعصر النبوة، وأصدقها على الإطلاق؛ لأنه تنزيل من رب العالمين، لا سبيل إلى الطعن أو الشك في صحة نصه.
ففيه ذكر لبعض مظاهر حياة العرب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وفيه ذكر لبعض أخبار الأمم البائدة (عاد وثمود)، وفيه أخبار عن أصحاب الفيل (أبرهة الحبشي وجيشه)، وسيل العرم، وهو السيل الذي أصاب سد مأرب، وأصحاب الأخدود (أهل نجران الذين أحرقهم ذو نواس الحميري في أخاديد).
ولقد أثبتت الدراسات التاريخية والكشوف الأثرية الحديثة في الأماكن المختلفة صحة ما ورد في القرآن الكريم من أخبار العرب البائدة ودقتها.
فلقد ورد في القرآن الكريم أن قبائل عاد وثمود قد بادت بصاعقة دمرت كل شيء، وأن الله أرسل عليهم في أماكنهم ريحا صرصرا عاتية أتت على كل شيء.
وفي عصر النبوة تتجلى الأهمية التاريخية للقرآن الكريم؛ إذ إن النبي – صلى الله عليه وسلم – تولى توضيح ما جاء في القرآن الكريم من ذكر أماكن وتحديد مساكن، وتفسير لكل ما جاء في القرآن الكريم من أمور تتصل بالجوانب التاريخية، هذا بالإضافة إلى توضيح تطور الدعوة الإسلامية، وما اتصل بها من غزوات وفتوحات واتصال بالأمصار المختلفة.
وما ذلك إلا لأن الحديث النبوي الشريف كان مواكبا للقرآن، مسايرا لأحداثه، موضحا لمعانية، مفصلا لمجمله، مبينا لغامضه.
والباحث المدقق في الحديث النبوي يجد تحديدا دقيقا لكثير من الأماكن، وتفسيرا جيدا لأماكن الأحداث الطارئة على تاريخ الدعوة الإسلامية، كما يجد ذكرا وتحليلا للعديد من الأمور التاريخية التي وردت في القرآن، أو التي لم ترد في القرآن، وإنما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يذكرها للعلم والتوضيح، تماما كما كان يذكر الكثير من الأحكام والقوانين الخاصة بالمجتمع الإسلامي المتطور.
من هنا يمكن القول بأن الحديث النبوي يعد مصدرا مهما، بل من أصدق المصادر التاريخية.
الطعن في أحاديث حد الردة
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«من بدل دينه فاقتلوه».
مستدلين على ذلك بأن في سنده عكرمة مولى ابن عباس وهو ضعيف، بالإضافة إلى أن هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي تأمر بقتل المرتد تتعارض مع ما ثبت من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المنافقين، مع علمه بكفرهم؛ إذ قال لما طلب منه قتلهم: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي». وأنه لما ارتد عبد الله بن جحش لم يرسل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يقتله.
وتتعارض كذلك مع الآيات القرآنية التي تدعو إلى الحرية الدينية كقوله عز وجل: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (الكهف: ٢٩)، وقوله عز وجل: لا إكراه في الدين (البقرة: ٢٥٦)، ويرون أن هذه الأحاديث باطلة مردودة. رامين من وراء ذلك إلى إنكار حد الردة الثابت في الصحيح من أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- والدعوة إلى حرية الكفر لا حرية الفكر.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حديث «من بدل دينه فاقتلوه» حديث صحيح، رواه البخاري في صحيحه عن عكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة ثقة ثبت لم يضعفه أحد، بالإضافة إلى أن الحديث لم يرو عن عكرمة وحده، وإنما رواه الطبراني عن أبي هريرة، ومالك عن زيد بن أسلم بسند صحيح.
2) إن حد الردة – وهو القتل – ثابت في الشرع، ومقطوع به في السنة النبوية الشريفة، وعليه إجماع أهل العلم، وليس هناك دليل قاطع على نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تطبيق هذا الحكم لمن ثبت في حقه الردة.
3) لا تعارض بين حد الردة والآيات التي تتحدث عن الحرية الدينية؛ لأن الحرية في اختيار الدين إنما تكون قبل قبوله، أما إذا ارتضاه المرء بكامل حريته فعليه أن يلتزمه؛ لأن الأمر في الدين جد لا عبث فيه، وذلك حفاظا على وحدة الأمة
التفصيل:
أولا. الحديث صحيح سندا، وعكرمة لم يضعفه أحد:
إن حديث «من بدل دينه فاقتلوه»حديث صحيح، رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أيوب عن عكرمة «أن عليا -رضي الله عنه- حرق قوما، فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه»([1]).
أما القول بضعف الحديث لوجود عكرمة في سنده فهو مردود من وجهين:
الأول: إجماع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة فقال الحافظ ابن حجر في (التقريب) عنه: ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا تثبت عنه بدعة([2])، وقال الحافظ العجلي: ثقة، وهو بريء مما يرميه الناس به من الحرورية، وهو تابعي([3]).
الثاني: الحديث لم ينفرد به عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنه- بل له شواهد عن جماعة من الصحابة تصل بالحديث إلى درجة الشهرة وليس درجة الآحاد كما زعم بعضهم، فهو في الأوسط للطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه([4])بإسناد حسن كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد.
وكذلك عن معاوية بن حيدة -رضي الله عنه- بإسناد رجاله ثقات. وأخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ «من غير دينه فاضربوا عنقه»([5]).
أما طعن بعضهم في صحة الحديث بحجة أن عمومه يشمل من انتقل من الكفر إلى الإسلام فإنه يدخل في عموم الخبر، فلا تخصيص في الحديث للإسلام.
فجواب هذا: بأن العموم ليس هو المراد من الحديث؛ لأن الكفر ملة واحدة، فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، وكذا لو تهود الوثني؛ فهو في ذلك ينتقل من باطل إلى آخر؛ إذ لا فرق بين الظلمة والعتمة. فوضح من ذلك أن المراد من بدل دين الإسلام “وهو الحق” بدين غيره؛ لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران) وما عداه فهو بزعم المدعي([6]).
يقول الدكتور المطعني: وليس لمنكري حد الردة أي دليل في قول من قال: إن عموم الحديث يشمل اليهودي والنصراني إذا تنصر اليهودي أو تهود النصراني؛ لأن هذا القول يمنع عموم الدلالة ولا ينازع في أصل العقوبة التي هي قتل المرتد، وهذا الحديث: “من بدل دينه فاقتلوه” تدل قرائن الأحوال على أنه خاص بالمسلم إذا ترك الإسلام واعتنق دينا آخر، ولم يعتنق أي دين.
فصاحب الدعوة يخاطب بهذا مسلمين، والدين الذي يعنيه هو الإسلام، لا محالة، وذلك لقوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام (آل عمران: ١٩)، وقوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) (آل عمران).
فالحديث وإن كان في صياغته عاما فهو خاص في معناه قطعا، فلا دليل فيه لمنكري حد الردة مهما تحمسوا وتعسفوا([7]).
وفي النهاية فالحديث صحيح سندا لا مطعن فيه أبدا.
ثانيا. إن ثبوت حد الردة مقطوع به في السنة النبوية، وعند علماء المسلمين وفقهائهم، ولا دليل على نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تطبيق هذا الحكم في السنة مطلقا:
الأمر الذي لا يمكن للناظر في الكتاب والسنة أن يغفله بحال من الأحوال – هو حكم الردة فقد جاء بصيغة بينة قطعية لا مجال للشك فيها، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء وعلماء المسلمين، فحكم الردة ثابت في شرعنا الحنيف، وجاء في السنة بقول قاطع لا خلاف عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه». ولا وجود في السنة لأمر يتعارض مع هذا الحكم، ولم يرد نهي من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الحكم، أو عدم تطبيق له، وهذا ما سنبينه في هذا الوجه.
والردة في معناها اللغوي هي الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهي أفحش الكفر. وأغلظه حكما، ومحبطة للعمل إن اتصلت بالموت عند الشافعية، وبنفس الردة عند الحنفية، قال الله تعالى: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) (البقرة).
وهي شرعا: الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر، سواء بالنية أو بالفعل المكفر، أو بالقول، وسواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا.
وعلى هذا “فإن المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر؛ مثل من أنكر وجود الخالق، أو نفى الرسل، أو كذب رسولا، أو حلل حراما بالإجماع كالزنا واللواط، وشرب الخمر، والظلم، أو حرم حلالا بالإجماع؛ كالبيع والنكاح. أو نفى وجوبا مجمعا عليه؛ كنفي ركعة من الصلوات الخمس المفروضة… إلخ”([8]).
أما عن حكم المرتد فهو القتل، وقد اتفق العلماء على وجوب قتل المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»([9])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»([10]).
وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وكذا قتل المرأة المرتدة عند جمهور العلماء غير الحنفية([11]).
ثم ذهب أهل العلم إلى وجوب استتابة المرتد قبل قتله، ومنهم من جعل ذلك على الاستحباب، ومنهم من جعل مدتها ثلاثة أيام وبعضهم ذهب إلى أنه يستتاب، ويؤجل ما رجيت توبته.
وهذا كما جاء عند الإمام ابن تيمية – رحمه الله – في كتابه “الصارم المسلول” حيث يقول فيه: “فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد أنه يستتاب، ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام وهل ذلك واجب أو مستحب؟ على روايتين عنهما، أشهرهما عنهما: أن الاستتابة واجبة، وهذا قول إسحاق بن راهويه. وكذلك مذهب الشافعي، هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين، لكن عنده في أحد القولين يستتاب، فإن تاب في الحال. وإلا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني. وفي القول الآخر يستتاب كمذهب مالك وأحمد. وقال الزهري وابن القاسم في رواية: يستتاب ثلاث مرات ومذهب أبي حنيفة أنه يستتاب – أيضا – فإن تاب وإلا قتل، والمشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة… وقال الثوري: يؤجل ما رجيت توبته، وكذلك معنى قول النخعي”([12]).
هذا ما اتفق عليه أهل العلم والفقهاء في تعريف الردة وثبوت حكمها. وهذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة الثابتة.
والمهم أن حكم الردة ثابت في السنة. وقد طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته وطبقه الصحابة -رضي الله عنهم- من بعده، ولا دليل على أن الردة وقعت أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يطبق فيها الحد، والأدلة التي استدل بها الواهمون في هذا الأمر لا تصلح أن تكون حجة على ذلك؛ لأن الردة لم تكن فيها صريحة، ولم يكن فيها الكفر جهرا.
ثالثا. حرية العقيدة ثابتة بالقرآن والسنة، أما الدخول في الإسلام ثم الارتداد عنه – أمر يرفضه العقل، لما في ذلك من المفاسدالتي تثير الفتن بين المسلمين، فكان قتل المرتد حدا من الحكمة لحماية الدين:
إن حرية العقيدة في الإسلام مكفولة ومقدسة إلى الحد الذي لا يجوز العدوان عليها، وهذا بصريح النصوص القرآنية التي تعلن أنه: لا إكراه في الدين (البقرة: ٢٥٦)، ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدا لا يقبل التأويل في قوله عز وجل: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (الكهف: ٢٩)، وجاء التأكيد الصريح في ترك مسألة الاعتقاد للحرية الكاملة في قوله عز وجل: قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عابدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5) لكم دينكم ولي دين (6) (الكافرون)، هكذا بالإعلان الصريح، أنتم أحرار في اختياركم وأنا حر في اختياري أفبعد هذه حرية؟!
وقد أكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلك الحرية عمليا، عندما هاجر إلى المدينة المنورة، ووضع أول دستور للمدينة حينما اعترف لليهود أنهم مع المسلمين يشكلون أمة واحدة.
جاء هذا في سيرة ابن هشام قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس…. إلى أن قال: وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم”([13]).
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كلمته المشهورة: “مذ كم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ “([14]).
إذن فالقرآن والسنة وكذلك أفعال الخلفاء الراشدين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين – كل هذا – قد تقرر عند كل منهم مبدأ الحرية.
وبالرجوع إلى القرآن – ثانية – نجد أنه لم يبح أن يكره الناس على اعتناقه أو اعتناق سواه من الأديان، قال عز وجل: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) (يونس)، هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني قال عز وجل: لا إكراه في الدين، وسبب نزول هذه الآية أن الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية إذا اقتنعت المرأة من الحمل نذروا إذا ولدت ولدا هودته (أي جعلته يهوديا)، وهكذا نشأ بعض أولاد الأوس والخزرج يهودا فلما جاء الإسلام أراد بعض الآباء أن يعيدوا أبناءهم إلى الإسلام (دينهم الجديد، ودين الأمة في ذلك الحين) وأن يخرجوهم من اليهودية وذلك كرها بدون رضاهم، ورغم الظروف التي دخلوا بها اليهودية، ورغم العداء والحرب بين اليهود والمسلمين فإن الإسلام لم يبح ذلك الإكراه، أن يخرج أحد من دينه ليدخل دينا آخر ولو كان الإسلام، فقال عز وجل: لا إكراه في الدين، ولم يكن هذا مطلبا شعبيا، أو نتيجة التطور، أو بثورة، أو نضج الناس في ذلك الوقت، وإنما جاء مبدأ أعلى من المجتمع والناس جاء مبدأ من السماء ليرتفع به أهل الأرض، جاء الإسلام ليرتقي بالبشرية بتقرير هذا المبدأ “حرية الاعتقاد”.
ومع تقرير الإسلام الحرية المطلقة في اختيار العقيدة، إلا أن هذه الحرية تقف عندما تبدأ حرية الغير وحقه.
فقتل المرتد عن الإسلام ليس لأنه ارتد فقط، ولكن لإثارته الفتن والبلبلة، وتعكير النظام العام في الدولة الإسلامية!
أما إذا ارتد بينه وبين نفسه دون أن ينشر ذلك بين الناس ويثير الشكوك في نفوسهم ولم يطلع أحدا على ذلك – فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ما تخفي الصدور، ولن تخسر الأمة أبدا بارتداده شيئا، بل هو الذي سيخسر دنياه وآخرته قال عز وجل: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) (البقرة). فإن الإسلام إذ يقرر حرية العقيدة على ما سبق، لا يجبر أحدا على اعتناقه، فإذا ارتضاه الإنسان بكامل إرادته وحريته واقتناعه، فعليه أن يلتزمه؛ لأن الأمر في الدين جد لا عبث فيه؛ لأنه بدخوله الإسلام أصبح عضوا في جماعة المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وكأنه بهذا دخل مع جماعة المسلمين في عقد اجتماعي يقرر الانتماء والولاء بكل ما لهما من حقوق وواجبات للفرد والأمة التي ينتمي إليها، وبهذا العقد الاجتماعي يصبح الفرد كأنه جزء من جسد الأمة، على النحو الذي أشار إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى» ([15]).
فإذا عن لأحدهم بعد ذلك أن يرتد – أعني أن يفارق الأمة التي كان عضوا فيها وجزءا منها تمنحه ولاءها وحمايتها، ويسعى إلى تمزيق وحدتها، إنه بذلك قد مارس ما يشبه الخيانة الوطنية على المستوى السياسي، وخيانة الوطن جزاؤها الإعدام، ولن تكون أقل من خيانة الدين!
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “ولكن هذا المبدأ الذي أقره الإسلام مشروط ومقيد – أيضا – بألا يصبح الدين ألعوبة في أيدي الناس كما قالت اليهود فيما حكاه القرآن عنهم: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72) (آل عمران)؛ أي: آمنوا الصبح وفي آخر النهار تولوا وقولوا: لقد وجدنا دين محمد صفته كذا وكذا فتركناه، أو آمنوا اليوم واكفروا غدا أو بعد أسبوع ثم شنعوا على هذا الدين الجديد.
فأراد الله ألا يكون هذا الدين ألعوبة في أيدي الناس، فمن دخل هذا الإسلام بعد اقتناع ووعي وبصيرة فليلزمه، وإلا تعرض لعقوبة الردة([16]).
ولقد أصدرت المجامع الفقهية العديد من الفتاوى في موضوع الردة، مزيلة ببيان عدم مخالفتها للحرية الدينية، وفي الفتاوى المصرية تكررت هذه العبارة عند الحكم بقتل المرتد حدا: يقضي الحكم الشرعي بقتل المسلم الذي بدل دينه إذا أصر على ردته ولم يتب ولم يرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل، وهذا لا يتنافى مع الحرية الشخصية([17]).
فهل ترضى جماعة تحترم دينها بهذا العبث أو أن ينجح هذا التلاعب مثل الذي أرادته اليهود؟ فتستغل هذه الحرية لضرب الإسلام وصرف الناس عنه، إن الردة شيء والحرية شيء آخر، فحد الردة إنما هو سد لذريعة أن يتخذ الدين ألعوبة، أو لدفع المفاسد التي يمكن أن تنجم عن المرتد، ومن باب الحفاظ على الكيان الإسلامي، وهذا لا يتعارض مع الحرية.
الخلاصة:
- إن حديث «من بدل دينه فاقتلوه» متفق على صحته بين علماء الإسلام، وأما طعنهم في الحديث لرواية عكرمة له فهو مردود؛ لإجماع العلماء على توثيقه وصلاحه، بالإضافة إلى أن الحديث روي عن غيره مثل أبي هريرة وزيد بن أسلم، فلا مطعن في الحديث بوجه من الوجوه.
- حكم الردة وهو القتل مقطوع به في شرعنا الحنيف وثابت بالأدلة الصريحة في السنة النبوية المشرفة، وقد اتفق عامة أهل العلم على ذلك.
- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتطبيق هذا الحكم على المرتد ولم يثبت أن هناك ردة صريحة وقعت أمامه ولم ينفذ فيها الحكم، وكذلك شأن الصحابة من بعده.
- إن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن قتل المنافقين مع أن ظاهر فعلهم الردة لا تصلح دليلا على عدم تطبيق حد الردة؛ لأن أصحابها – أي المنافقين – كان ظاهرهم الإسلام، وكانوا يصلون ويقرؤون القرآن، ولم يصرحوا علانية بردتهم.
- إن حرية العقيدة مكفولة ومقدسة في الإسلام، وجاء ذلك صريحا في غير آية من كتاب الله -عز وجل- وأكدتها السنة النبوية عمليا، وقد عمل الصحابة في سبيل تحقيق هذه الحرية، فالإنسان حر، له أن يعتقد ما يشاء، لكنه عندما يدخل الإسلام يصبح جزءا من كيانه، ملتزما بواجباته وحقوقه، ومن ثم يصبح محاطا بحمايته، وذلك من خلال تشريعاته النبيلة، التي تكفل له الحقوق تكريما لآدميته، وتحرم كل ما يعارض هذه الآدمية.
- إن المرتد عن الإسلام بعد انتفاعه بحمايته يعد بمثابة الخائن الجاحد المنكر، فلا يستحق إلا القتل جزاء هذا الجحود، وجزاء ما جره من مفاسد على عقيدة المسلمين، ولإثارته الفتنة عن طريق نشر أفكاره التي تؤثر على النظام الذي ارتضاه الله لعباده، وليس في هذا تعارض مع حرية العقيدة.
________________________________________
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م. حديث حد الردة في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، د. سعد المرصفي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م. الردة والحرية الدينية، د. أكرم رضا، دار الوفاء، مصر، ط1، 1426هـ/ 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لايعذب بعذاب الله، (6/ 173)، رقم (3017).
[2]. تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: أبي الأشبال صغير أحمد الباكستاني، دار العاصمة، الرياض، ط1، 1416هـ، ص 687، 688.
[3]. تاريخ الثقات، أحمد العجلي، دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، 1450هـ / 1984م، ص 339.
[4]. حسن، أخرجه الطبراني في الأوسط، باب: من اسمه مسعود، (8/ 275)، رقم (8623). وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد برقم (10572).
[5]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: الأقضية، باب: القضاء فيمن ارتد عن الإسلام، ص 282، رقم (1419).
[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (12/ 284، 285).
[7]. عقوبة الارتداد عن الدين، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ / 1993م، ص31، 32.
[8]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، (6/ 183).
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، (6/ 173)، رقم (3017).
[10]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: ما يباح به دم المسلم، (6/ 2608)، رقم (4296).
[11]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، (6/ 186).
[12]. الصارم المسلول على شاتم الرسول، ابن تيمية، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ / 1978م، ص 321.
[13]. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: محمد بيومي، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1416هـ/ 1995م، (2/ 96، 97).
[14] . فتوح مصر وأخبارها، ابن عبد الحكم، تحقيق: محمد الحجيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1416هـ/1996م، (1/183).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم، (10/ 452)، رقم (6011). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المسلمين وتعاطفهم، (9/ 3711)، رقم (6463).
[16]. الجريمة، د. القرضاوي، نقلا عن: الردة والحرية الدينية، د. أكرم رضا، دار الوفاء، مصر، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص 184.
[17]. فتاوى دار الإفتاء لمدة مائة عام رقم (1228)، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، نقلا عن: الردة والحرية الدينية، د. أكرم رضا، دار الوفاء، مصر، ط1، 1426هـ/ 2006م،بتصرف.
الزعم أن الله تكفل بحفظ القرآن دون السنة
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الطاعنين أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن، ولم يتكفل بحفظ السنة، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). قائلين: إن في الآية حصرا يدل على أن السنة لم تدخل في دائرة الحفظ، لقصره على القرآن فقط، فهو المقصود بالذكر في الآية دون غيره. وعليه فإنهم يرون أن السنة لم يكن لها حظ من الحفظ وأنها تعرضت للضياع والتحريف. ويتساءلون: لو كانت السنة حجة فلماذا لم يتكفل الله بحفظها كما تكفل بحفظ القرآن؟ قاصدين من وراء ذلك هدم السنة وإنكار حجيتها بدعوى أن الله لم يتعهد بحفظها مثل القرآن.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن الذكر في الآية موضوع الشبهة، ليس بمعنى القرآن فقط، وإنما معناه الرسالة أو الشريعة الإسلامية التي هي القرآن والسنة معا؛ لذلك كان حفظ الله للقرآن والسنة معا حتى وصلت إلينا.
2( لو سلمنا – جدلا – بأن الذكر في الآية هو القرآن فقط – كما يزعمون، فإن وعد الله بحفظه يشمل السنة أيضًا؛ إذ السنة بيان للقرآن وحفظ المبين يتضمن حفظ المبين.
3) لو تتبعنا الحوادث والتاريخ، لوجدنا أن الله – عز وجل – قيض لحفظ السنة رجالا أفنوا أعمارهم، وبذلوا النفس والنفيس من أجل الذود عن حياضها؛ مما يؤكد أن الله – عز وجل – قد حفظ سنة نبيه كما حفظ كتابه الكريم.
التفصيل:
أولا. الذكر في الآية بمعنى الرسالة أوالشريعة الإسلامية التي هي القرآن والسنة معا:
مما لا شك فيه أن منشأ هذه الشبهة جاء من كلمة )الذكر( الواردة في قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر), حيث اقتصر فهم الطاعنين في حجية السنة المطهرة على أن المراد بكلمة )الذكر( في الآية هو “القرآن الكريم” فقط.
وتناسوا أن ما وعد الله به من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سنة.
إذا رجعنا إلى الكتب المتخصصة نجدها تعدد معاني الذكر التي وردت في القرآن، فقد وردت كلمة “الذكر” في القرآن اثنين وخمسين مرة، ولها معان كثيرة؛ فهي تأتي بمعنى القرآن، وبمعنى الرسالة والشريعة، وبمعنى الحفظ، وبمعنى السنة، وبمعنى التذكرة، وبمعنى الشرف، وبمعنى العبادة… إلخ”[1]. وفي ذلك نقل صاحب كتاب “بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز” عن أحد العلماء قوله: “ذكر الله الذكر في القرآن على عشرين وجها، وفيها الذكر بمعنى رسالة الرسول”[2].
ومما يدل أيضا على أن الله – عز وجل – قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها قوله عز وجل: )يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبـى الله إلا أن يتـم نـوره ولـو كـره الكافرون (32)( (التوبة), ونور الله: شرعه ودينه الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم, والذي أوحاه إلى رسوله – من قرآن أو غيره – ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة[3].
إذا فالمعنى المناسب “للذكر” في قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( هو رسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بصفة عامة بما في ذلك الكتاب والسنة, وذلك أن القرآن والسنة وحي من الله عز وجل، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقول شيئا من عنده: )إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم). فلماذا يتكفل الله تعالى بحفظ القرآن، ولا يتكفل بحفظ السنة مع أن كليهما وحي من عنده سبحانه وتعالى؟!
وفي ذلك يقول ابن حزم: “ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله – عز وجل – فهو ذكر منزل, فالوحي كله محفوظ بحفظ الله – عز وجل – له بيقين, وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه, وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه… فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد – صلى الله عليه وسلم – محفوظ بتولي الله – عز وجل – حفظه, مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا, قال عز وجل: )لأنذركم به ومن بلغ( (الأنعام: 19). فإذا كان ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل ألبتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الدين, ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط بباطل موضوع اختلاطا لا يتميز عند أحد من الناس بيقين؛ إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ, ولكان قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) كذبا ووعدا مخلفا, وهذا لا يقوله مسلم.
ثم يرد على من زعم أن حفظ الذكر مقتصر على القرآن وحده قائلا: “هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل… فالذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم – من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن, وأيضا فإن الله – عز وجل – يقول: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: 44) فصح أنه – صلى الله عليه وسلم – مأمور ببيان القرآن للناس, فإذا كان بيانه – صلى الله عليه وسلم – غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه, فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه, فلم ندر صحيح مراد الله – عز وجل – منها, وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب, ومعاذ الله من هذا”[4].
واستنادا إلى ذلك فإن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل والتاريخ.
- أما الأدلة من كتاب الله – عز وجل – على تكفل الله بحفظ السنة النبوية:
قوله عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤), ففي الآية الكريمة إخبار من الله تعالى بأن السنة مبينة للقرآن، وقد تكفل الله بحفظه في قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) فيلزم من هذا أن يكون قد تكفل أيضا بحفظ السنة؛ لأن حفظ المبين يستلزم حفظ المبين للترابط بينهما.
وقوله عز وجل: )إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18) ثم إن علينا بيانه (19)( (القيامة), فهذا نص صريح يدل على أن الله – عز وجل – قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن في قوله عز وجل: )ثم إن علينا بيانه( أي: بيان القرآن, والبيان كما يكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – يكون لأمته من بعده, وهو يكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالإيحاء به إليه ليبلغه الناس, وهو المراد من قوله عز وجل: )وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه( (النحل: 64).
فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله (بوحي غير متلو). وفي هذه الآيات السابقة – آيات سورة القيامة – دليل على أن الله تكفل بحفظ السنة، كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقا لهذا الوعد الكريم من الله – عز وجل – هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها، فأثار في نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها، فكانت موضع اهتمامهم، ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ويذكر الإمام ابن حزم دليلا ثالثا من كتاب الله على تكفله – سبحانه وتعالى – بحفظ السنة في قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3). وقال عز وجل: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19).
قال: فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ, وأنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا: أخبرونا عن إكمال الله – عز وجل – لنا ديننا, ورضاه الإسلام لنا دينا, ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام. أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة؟ أم إنما كان للصحابة – رضي الله عنهم – فقط؟ أم لا للصحابة ولا لنا؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه…
فإذا كانت الإجابة بالضرورة: كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة, صح أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة,… وهذا برهان ضروري وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الدين, وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه[5].
- أما الدليل من السنة النبوية على تكفل الله – سبحانه وتعالى – بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»[6].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض»[7].
ففي هذه الأحاديث وغيرها يخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن له سنة مطهرة تركها لأمته, وحثهم على التمسك بها, والعض عليها بالنواجذ, ففي اتباعها الهداية, وفي تركها الغواية, فلو كانت سنته المطهرة غير محفوظة, أو يمكن أن يلحقها التحريف أو التبديل, فلا يتميز صحيحها من سقيمها – ما طالب أمته بالتمسك بها من بعده, فيكون قوله مخالفا للواقع, وهذا محال في حقه – صلى الله عليه وسلم – فأمره بالعمل بها يدل على أنها ستكون محفوظة تأكيدا لقوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)[8].
- وأما الدليل العقلي على تكفل الله – عز وجل – بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
فيقول الدكتور رءوف شلبي: “ليس بلازم في الاحتمالات العقلية أن يكون المراد بالذكر القرآن الكريم وحده، لأمرين:
أنه لو كان المراد بالذكر القرآن الكريم وحده، لصرح المولى – عز وجل – به باللفظ، كما صرح به في كثير من المواضع في القرآن الكريم، كما في قوله عز وجل:)إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم( (الإسراء: ٩)، وقوله عز وجل: )بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ (22)( (البروج)، وقوله عز وجل: )ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17)( (القمر).
لو كان المراد بالذكر القرآن لعبر عنه بالضمير “إنا نحن نزلناه”؛ إذ افتتاح السورة فيه نص وذكر للقرآن )تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1)( (النمل: ١)، والتعبير بالضمير في نظر اللغة أجود؛ لأن العلم في المرتبة الثانية من الضمير؛ إذ هو أعرف المعارف، وهو عمل يتفق مع منزلة القرآن، وتعتمده الصناعة الإعرابية.
وعليه فليس بالحتم أمام فهم العقل أن يكون المراد من الذكر هو القرآن فقط دون غيره، بل إن تفسير الذكر بالقرآن فقط احتمال بعيد في نظر العقل، لعدم وجود مرشح لهذا التفسير يقوى على مواجهة الأمرين السالفين اللذين يقويان بالمنزلة والعرف النحوي.
وعلى هذا يكون الأقرب من هذا التفسير أحد الاحتمالين:
الأول: أن يكون المراد من الذكر الرسالة والشرف الذي استحقه الرسول – صلى الله عليه وسلم – واتصف به بنزول النبوة والقرآن عليه، ويقوي عندنا هذا الاحتمال أمام نظر العقل افتتاحة سورة “الحجر”؛ حيث بينت أن مقالات الكافرين المعتدين على النبوة، إنما هي مفتراة ذكرها رب العزة في كتابه حكاية على لسانهم: )وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
فالآيتان الأوليان تصوران اتهامات الكافرين الكاذبة، والآيتان التاليتان تردان على هذه الاتهامات، وتعدان بحفظ الرسالة والشرف الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وماذاك إلا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
الثاني: أن يكون المراد من الذكر الشريعة مطلقا، ويرشح لهذا الاحتمال ما تناولته السورة بعد الآية التي معنا في ذكر موقف الأمم السابقة مع رسلهم، يقول الله عز وجل: )ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (11) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13)( (الحجر).
فالأنبياء يكلفون الأمم بالشرائع, والشريعة: كتاب الله وسنة نبيه, والذي يستعرض حالات الأمم مع الأنبياء يقف على محاجات الكافرين مع الرسل, وهي تدور كلها حول التكليف الذي مصدره ما ينزله الله بالوحي وما يشرحه الرسول بالسنة, وتكون الآية قد نبهت إلى أمر خطير: هو أنه إذا كان الأمر في الأمم السالفة ينتهي إلى إلغاء الشريعة بعد معارك عنيفة بين الأمم ورسلهم, فإن هذه الشريعة قرآنا وسنة سنحفظها, ولن ينال الكافرون من كيدهم إلا خسارا, لأنه وعد الله, ولن يخلف الله وعده, وكان أمرا مفعولا[9].
ومن ثم فإن المراد من الذكر ليس القرآن فقط، كما زعم الطاعنون بل هو الرسالة، أو الشريعة الإسلامية، أي “القرآن والسنة” دون تفريق بينهما، أو اختصاص أحدهما بالحفظ دون الآخر.
ثانيا. حفظ القرآن يستلزم حفظ السنة:
إن الحفظ الوارد في الآية يشمل القرآن والسنة لا القرآن وحده، ولو افترضنا – جدلا – أن المراد بالذكر، هو القرآن الكريم وحده للزم منه حفظ السنة، فالسنة تابع للقرآن وحفظ المتبوع يلزم منه حفظ التابع.
وعلى هذا فيكون وعد الله بحفظ السنة داخلا في مضمون حفظه للقرآن؛ إذ السنة توضيح وتبيان لما في القرآن الكريم يقول الله عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)( (النحل)[10].
“وتقديم الجار والمجرور هنا ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رءوس الآيات، بل لو كان في الآية حصر إضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص لما جاز أن يكون هذا الشيء هو السنة؛ لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين، تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره، وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما يمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له”[11].
وبهذا يتضح أن الحصر الوارد في الآية كان عن طريق تقديم الجار والمجرور، وهو في علم المعاني من الدرجة الثالثة في إفادة الحصر، فلو كان المقصود الأهم هو حفظ القرآن وحده لآثر القرآن التعبير:
- إما بالحصر الحقيقي حقيقة.
- أو بطريق (ما وإلا) التي تفيد الحصر بالدرجة الأولى.
- أو (بإنما) التي تفيد الحصر بالدرجة الثانية على الأقل[12].
وبناء عليه فلا وجه معتبر لقول من قال إن الحفظ المذكور في الآية حصري في القرآن مخصوص به؛ إذ كيف يحفظ الله القرآن ويترك حفظ السنة وقد دعا إلى التمسك بها في كثير من الآيات القرآنية من خلال حضه على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال تعالى: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم( (آل عمران: ٣١)، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: ٥٩)، وقال أيضا:)فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجـدوا في أنفسهـم حرجـا ممـا قضيـت ويسلمـوا تسليما (65)( (النساء: ٦٥)، وقال أيضا: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)( (النحل: ٤٤).
“ومن ثم فالرسول – صلى الله عليه وسلم – ليس مجرد واعظ يلقي كلمته ويمضي لتذهب في الهواء، إن الدين منهج حياة، منهج حياة واقعية، بتشكيلاتها وتنظيماتها، وأوضاعها، وقيمها، وأخلاقها، وآدابها، وعباداتها، وشعائرها” [13]، وليس تحكيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – تحكيما لهواه، إنما هو تحكيم شريعته التي استمرت بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – ولولا أنها منهج قائم بذاته لما استمرت، فها هو أبو بكر – رضي الله عنه – قاتل المرتدين على منعهم الزكاة، ومخالفتهم لأمر الله ورسوله، وأقسم أنه لو منعوه عقال بعير أو عناقا كان يؤدونه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلهم عليه أو كما قال.
ونخلص من هذا كله إلى أن القرآن الكريم حث على طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في كل ما يصدر عنه؛ إذ هو نبي موحى إليه، وما ينطق عن الهوى، وهذا يعطي الثقة بأن السنة قد أقرها الله تعالى، وإقراره لها يعطيها قوة في أنها داخلة في مشتملات كلمة )الذكر(، ومن ثم تنال الحفظ والعناية.
ثالثا. قيض الله – عز وجل – لحفظ السنة رجالا أفنوا أعمارهم، وبذلوا النفس والنفيس؛ من أجل الدفاع، والذود عن حياضها:
لقد نالت أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – من الاهتمام والعناية ما لم تنله أقوال أي عظيم من العظماء، ولا بطل من الأبطال، ولا رئيس من الرؤساء، ولا ملك من الملوك، ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في واقع الأمر ليس إنسانا عاديا، ولا قائدا يشبه في أخلاقه وصفاته الإنسانية أحدا، فهو أفق وحده لا يدانيه أفق، ولذلك كان هو الأسوة، وهو النبراس المضيء، بل لم يكن رسول قوم دون غيرهم أو زمان مؤقت وإنما كان رسولا إلى الثقلين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أدرك هذه الحقيقة أصحابه وتابعوهم، والمسلمون من بعدهم، فعكفوا على نقل، وتدوين وحفظ، وتطبيق كل ما صدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قول، أو فعل، أو تقرير، حتى الحركات والسكنات، فقد نقلت حياته بكل تفاصيلها، في عباداته، ومعاملاته، في سلمه وحربه، وفي نومه ويقظته، وفي أدق الأمور مما نعده من الخصوصيات الشخصية، بصورة لم تحظ بها سيرة أحد غيره من البشر[14].
ونمثل لهذا الحفظ بنموذج من نماذج حرص الصحابة ومن بعدهم السلف الصالح وأهل الحديث على تلقي السنة ونقلها:
فقد أورد البخاري في كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم، قال: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد… قال ابن حجر: وفي حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد؛ لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة… وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم، وقيل لأحمد: رجل يطلب العلم يلزم رجلا عنده علم كثير، أو يرحل؟ قال: يرحل يكتب عن علماء الأمصار فيشافه الناس ويتعلم منهم”[15].
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «كان أخوان على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكان أحدهما يأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لعلك ترزق به»[16]؟
هذا، وإن من أجل مظاهر عناية الله تعالى بالسنة أن الصحابة يتذاكرونها فيما بينهم، فقد كانت عادة الصحابة – رضي الله عنهم – استذكار أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – أفرادا أو جماعات.
ودليل ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه: “جزأت الليل ثلاثة أجزاء، ثلثا أصلي، وثلثا أنام، وثلثا أذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].
بالإضافة إلى ما سبق، فإن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يوصون التابعين بمذاكرة الحديث، فعن أنس بن مالك قال: “كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه”، ومن ذلك ما نقل عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: “إذا سمعتم مني حديثا فتذاكروه بينكم”[18]. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «تذاكروا الحديث فإنكم إلا تفعلوا يندرس»[19].
هكذا كان ديدن الصحابة في تذكر الأحاديث فيما بينهم، والتواصي بذلك، واستمر الوضع على هذا النهج في عهد التابعين[20].
وحمل مشعل الحفاظ على السنة المطهرة بعد الصحابة والتابعين – جهابذة العلماء من ذوي الصدق والتحري، فبينوا صحيحها وضعيفها والموضوع منها بدراسة أسانيد الرواة ومتونهم، وتركوا لنا مصنفات مكنت العلماء فيما بعد إلى يوم القيامة من معرفة صحة ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم[21].
وكل هذا حفظ من الله لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولولا أن المولى – عز وجل – رعاها كما حفظ القرآن لاندثرت مع تعاقب الدهور لكثرة ما وجه إليها من طعون، ولكثرة ما صادفت من أعداء أضمروا لها شرا، وأرادوا بها سوءا، فجعلهم الله الأخسرين بما قيض لها من الرجال الأوفياء في كل عصر، وفي كل جيل، وفي كل مكان[22].
وهذا يورث اليقين من أن الله – عز وجل – حفظ كتابه وسنة نبيه, وأنه – سبحانه وتعالى – كما أرسل محمدا – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين، فإنه أيضا قد حفظ أصول دينه, لتظل الحجة قائمة على الخلق إلى قيام الساعة[23].
الخلاصة:
إن الآية الكريمة التي استند إليها الطاعنون – في أن الله تكفل بحفظ القرآن دون السنة وهي قوله عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) ـ هي نص صريح على حجية السنة، ودليل واضح على حفظ الله لها، كما حفظ القرآن الكريم؛ إذ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه، الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرع الله ودينه ليس القرآن فقط، بل القرآن والسنة.
ينص القرآن الكريم على أن السنة النبوية هي المصدر التشريعي الثاني بعده، ولا يمكن أن يكتمل الدين ولا الشريعة بدونها، فهي المبينة والموضحة، والمؤكدة للقرآن، وليس من المعقول أن يحفظ المبين، ويترك البيان، لذا أمر الله بطاعة نبيه تأكيدا للحفظ والرعاية فقال )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧) فهوـ صلى الله عليه وسلم – المحرم والمحلل بشرع الله وأمره )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
لو سلمنا – جدلا – أن المقصود بالذكر هو القرآن فقط فهذا يلزم منه حفظ السنة؛ إذ إن وعد الله بحفظ السنة داخل في مضمون حفظه للقرآن؛ إذ السنة توضيح وتبيان لما في القرآن الكريم.
إن الله – عز وجل – قد تكفل بحفظ القرآن والسنة معا فقيض للسنة رجالا يحفظونها ويرعونها جيلا بعد جيل، من عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ومرورا بعصر الصحابة والتابعين، إلى عهد علماء الحديث والمصنفين, وهذا تحقيق لوعد الله – عز وجل – بحفظ الرسالة الخاتمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
(*) مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي, حمدي عبد الله، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2006م. تدوين وتوثيق السنة النبوية في حياة الرسول والصحابة, جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشتها والرد عليها”، د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م.
[1]. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بحاشية المصحف الشريف، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1422هـ/ 2001م، ص335، 336.
[2]. بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادي، (3/ 4)، نقلا عن: دفع الشبهات عن السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص64.
[3]. الرد على من ينكر حجية السنة, د. عبد الغني عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص423.
[4]. الإحكام في أصول الأحكام, ابن حزم, دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 117، 118) بتصرف.
[5]. الإحكام في أصول الأحكام, ابن حزم, دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 122، 123).
[6]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، (12/ 234)، رقم (4594). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4607).
[7]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: العلم، (1/ 172)، رقم (319). وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع برقم (5248).
[8]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 204: 209) بتصرف.
[9]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي, دار السعادة، القاهرة، 1398هـ/ 1978م، ص40: 43 بتصرف.
[10]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي, دار السعادة، القاهرة، 1398هـ/ 1978م، ص44, 45.
[11]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 214).
[12]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي، دار السعادة، القاهرة، 1398هـ/ 1978م, ص46.
[13]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1987م، (2/ 695، 696).
[14]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، د. عماد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 214، 215) بتصرف.
[15]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 210).
[16]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء في الزهادة في الدنيا، (7/ 8)، رقم (2448). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2345).
[17]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 399).
[18]. الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي، تحقيق: د.محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 364).
[19]. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: العلم، (1/ 173)، رقم (324).
[20]. السنة النبوية “حجية وتدوينا”, محمد صالح الغرسي، مؤسسةالريان، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2002م، ص38 بتصرف.
[21]. خبر الواحد وحجيته, د. أحمد بن محمود عبد الوهاب الشنقيطي، مكتبة الملك فهد الوطنية، المدينة المنورة، ط2، 1422هـ، ص172 بتصرف.
[22]. السنة في كتابات أعداء الإسلام, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 215) بتصرف.
[23]. دفع الشبهات عن السنة, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي, دفع الشبهات عن السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م, ص65.
الطعن في حديث لطم موسى ملك الموت
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين صحة حديث “لطم موسى ملك الموت”، والذي أورده الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «جاء ملك الموت إلى موسى – عليه السلام – فقال له: أجب ربك، قال: فلطم[1] موسى – عليه السلام – عين ملك الموت، ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور[2]، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟[3] قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر[4]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»[5].
ويزعمون أن هذا الحديث مخالف للعقل والشرع، واستدلوا على دعواهم بعدة استشكالات حول هذا الحديث، وهي:
أن هذا الحديث جاء في الصحيحين من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وهو منسوب إلى التشيع، وقد اختلط في آخر عمره بعدما عمي، ثم إن مداره على أبي هريرة، وقد تفرد به، وكان يأخذ الإسرائيليات عن كعب الأحبار، ويروي بالمعنى، وليس هو من جملة الفقهاء.
كيف لموسى – عليه السلام – أن يفقأ عين ملك الموت، وقد جاءه بأمر الله؟ فإن كان قد عرفه فهذا استخفاف منه به، وعدم انقياد لأمر الله؛ وإن لم يكن يعرفه، فلماذا لم يقتص الله منه للملك؟
هل الملائكة تعرض لهم العاهات التي تعرض للبشر من عور أو عمى؟
وهل لنبي من أولي العزم أن يكره الموت، في الوقت الذي أحب فيه الصالحون لقاء الله؟
كيف لملك الموت أن يخالف أمر الله في المرة الأولى في تنفيذ قضائه بقبض موسى عليه السلام، وهل في قضاء الله بالموت على أحد رجعة أو تخيير، والآية تقول: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)( (الأعراف).
رامين من وراء هذه الطعون والتساؤلات إلى الطعن في صحة هذا الحديث بما يوجب رده، وإثارة الشكوك حول الأحاديث الصحاح.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن حديث لطم موسى لملك الموت في أعلى درجات الصحة، رواه الثقات العدول من أئمة الإسلام والحديث، ونسبة عبد الرزاق – أحد رواته – للتشيع لا تقدح في روايته، وغمز أبي هريرة – رضي الله عنه – برواية الإسرائيليات إغفال للحق، وقصد لغير سبيل المؤمنين، فقد أجمعت الأمة على حفظه وعدالته؛ لتواتر عدالته – وعموم الصحابة – عن الله ورسوله، فلا يسعنا إلا أن نسلم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرد بمجرد استشكال العقل القاصر له.
2) إن تمثل ملك الموت في صورة بشر أمر غير مستغرب ولا ممتنع؛ فقد دلت نصوص القرآن والسنة على ظهور الملائكة في صورة البشر بما يخفي حالهم على الأنبياء – فضلا عن عموم الناس – ولا يلزم من ذلك خروج الملك عن ملكيته, وفقء موسى لعين الصورة البشرية التي تمثل فيها ملك الموت رد فعل طبيعي يتصف بالشرعية مع رجل غريب اقتحم بيته بغير إذنه يطلب روحه.
3) إن كراهية الموت أمر جبلي فطر الله الناس عليه، ولو سلمنا بأن موسى – عليه السلام – كره الموت – مع أن المدقق يرى خلاف ذلك – فإن ذلك لا يشينه، فقد سمى الله الموت في القرآن مصيبة وبلاء، وقد أقر النبي – صلى الله عليه وسلم – قول أصحابه: “كلنا يكره الموت”، وبين لهم أن كراهية الموت ليست هي كراهية لقاء الله، ونهاهم عن تمني الموت، ومع كل هذا فموسى – عليه السلام – لم يخرج عن بشريته لكونه نبيا مرسلا.
4) إن لطم موسى – عليه السلام – لملك الموت لا يعد اعتراضا من موسى على قضاء الله؛ لثبوت عدم معرفته لملك الموت ابتداء، دل على ذلك اختياره جوار ربه في المرة الثانية لما خير بين الموت والبقاء، وليس هذا اضطرابا في الآجال كما يزعم المشككون؛ فقد سبق في علم الله أن قبض موسى – عليه السلام – لا يكون إلا بعد هذه المراجعة والتخيير، وإن لم يطلع الله ملك الموت على ذلك أولا.
التفصيل:
أولا. الحديث في أعلى درجات الصحة، وتلقته الأمة بالقبول والتسليم:
حديث صك كليم الله – موسى عليه السلام – لملك الموت رواه الثقات العدول أئمة الإسلام والحديث؛ فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما[6]، وأحمد في مسنده[7]، وعبد الرزاق في مصنفه، والنسائي في سننه[8]، والبغوي في شرح السنة، وابن جرير في تاريخه، وابن حبان في صحيحه[9]، والحاكم في المستدرك على الصحيحين[10]، وغيرهم.
وقبل أن نعرض للكلام في الحديث، وجب علينا ابتداء أن نذكر نص الحديث – الذي هو موضع الإشكال لدى أصحاب الفكر السطحي – بنص ألفاظ رواته، ومخرجيه؛ إذ إن ذلك هو الأساس الذي ينبني عليه كل ما بعده، ونكتفي في هذا المقام برواية الشيخين (البخاري ومسلم)؛ لكونهما يغنيان في إثبات الصحة، وألفاظ القصة عن غيرها.
قال الإمام البخاري: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «أرسل ملك الموت إلى موسى – عليهما السلام -، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر».
وقال الإمام مسلم: حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد – قال عبد: أخبرنا، وقال ابن رافع: حدثنا – عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: «أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم مه؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر».
وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاء ملك الموت إلى موسى – عليه السلام – فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى – عليه السلام – عين ملك الموت، ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله – عز وجل – فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي، فقل: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال: ثم مه؟ قال: ثم تموت. قال فالآن من قريب، رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر».
ومن خلال هذا العرض الموجز لروايات البخاري ومسلم نجد أن الحديث لم يروه من الصحابة إلا أبو هريرة، وأنه كان مرة يصرح في أوله برفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، ومرة كان يستغني عن ذلك بما في آخره من الدلالة على رفعه، وأنه بالوجهين (الوقف والرفع) لم يأت في الصحيحين وسنن النسائي إلا من طريق عبد الرزاق، وهذا في بداية الأمر قد جعل بعض المغالطين يلمز سند الحديث بحجة أن عبد الرزاق متهم بالتشيع، وأن أبا هريرة كان يحمل من كعب الأحبار.
وللجواب عن هذه المغالطات نقول: إن انفراد الصحابي بالحديث لا يؤثر في صحة الحديث، وجماهير علماء الأمة لا يشترطون تعدد رواة الحديث للقول بصحته، وفي هذا المعنى يقول السيوطي في ألفيته:
وليس شرطا عدد ومن شرط
رواية اثنين فصاعدا غلط
أي: ليس تعدد الرواة شرطا في صحة الحديث[11].
وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم: “إذا روى العدل عن مثله خبرا حتى يبلغ به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد وجب الأخذ به، ولزمت طاعته، والقطع به… سواء روي من طريق أخرى، أم لم يرو إلا من تلك الطريق”[12].
وقال الإمام ابن القيم: “ولا ترد أحاديث الصحابة، وأحاديث الأئمة الثقات بالتفرد، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، ولم يروه غيره، وقبلته الأمة كلها! ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع، ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو تسعين حديثا لم يروها غيره، وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده”[13].
فإذا كان تفرد مطلق الصحابي بحديث ليس بعلة يرد بها، فكيف بما تفرد به أحفظهم باتفاق، وهو أبو هريرة[14]؟!
قال السيوطي:
والمكثرون في رواية الأثر
أبو هريرة يليه ابن عمر[15]
أما عن كون المنفرد بالحديث أبو هريرة، وغمزه بتلقي الإسرائيليات عن كعب الأحبار، مع كونه يروي بالمعنى وليس هو من الفقهاء.
فأما الجواب عن تلقيه من كعب الأحبار فمن وجوه:
الأول: أنه لم يثبت قط عن أبي هريرة أنه حمل رواية إسرائيلية، ونسبها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – على أنها حديث نبوي، ولقد وجد الصحابة والتابعون في أبي هريرة – رضي الله عنه – صحابيا، حافظا، محققا، مدققا، إذا ناقشه أحد ثبت أنه الحافظ، وإذا روجع في مسألة ثبت أنه الراسخ، ولم يجربوا عليه خطأ ولا كذبا، وإنما وجدوا فيه عكس ذلك، يتحرى ويحتاط، ويعظم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كل الإعظام[16].
الثاني: أن الصحابة – وعلى رأسهم أبو هريرة – مجمعون على الحذر من رويات أهل الكتاب، بل لقد بلغ الأمر بالصحابة أنهم كانوا إذا سألوا أهل الكتاب عن شيء فأجابوا عنه خطأ ردوا عليهم خطأهم، وبينوا لهم وجه الصواب فيه[17].
الثالث: أن جمهور المحدثين مجمعون على أن كعب الأحبار من الرواة الثقات، ولم يعلم عليه كذب قط، فقال فيه الذهبي: “حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء”[18].
وأما غمز أبي هريرة بعدم الفقه: فيكفيه أن حفاظ الأمة – منهم ابن حزم وابن القيم – لما انتصبوا لترتيب أهل الفتوى جعلوا أبا هريرة مساويا للخليفتين أبي بكر وعثمان – رضي الله عنهما – في الاندراج في الدرجة الوسطى، وهي الطبقة الثانية عندهم[19].
وأما كون الحديث لم يأت في الصحيحين إلا من طريق عبد الرزاق، وهو ملموز بالتشيع، وقد اختلط في أواخر عمره، فالجواب عن ذلك:
أن الحافظ في مقدمة الفتح قد أتى في ترجمة عبد الرزاق بما لا يدع مجالا لطاعن في أن يرد روايته بشبهة تافهة، فقال عنه: أحد الحفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وثقه الأئمة كلهم إلا العباس بن عبد العظيم الغنبري وحده، فتكلم بكلام أفرط فيه، ولم يوافقه عليه أحد، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قيل لأحمد: من أثبت في ابن جريج، عبد الرزاق أم أحمد بن أبي بكر البرساني؟ فقال: عبد الرزاق.
وقال عباس الدوري عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر من هشام بن يوسف، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن علي بن المديني قال: قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. وقال ابن عدي: رحل إليه ثقات المسلمين، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وهو أعظم ما ذموه به، أما الصدق فأرجو أن يكون لا بأس به.
قلت – أي ابن حجر: احتج به الشيخان في جملة من حديث من سمع قبل الاختلاط، سمع منه أحمد بن شبويه فيما حكى الأثرم عن أحمد وإسحاق الديري، وطائفة من شيوخ أبي عوانة، والطبراني ممن تأخر إلى قرب الثمانين ومائتين[20].
فكل منصف يرى أن عبد الرزاق من الحفاظ الأثبات، وأنه موثق عند الأئمة كلهم إلا عباس العنبري الذي جازف في الطعن على عبد الرزاق بما لم يوافقه عليه أحد، وأن ثقات الناس رحلوا إليه، وما نسب إليه من التشيع لا يطعن في عدالته ولا يخرجه عن الصدق، وكونه تغير بعد عماه، فالشيخان – البخاري ومسلم – لم يحتجا إلا بالمروي عنه قبل الاختلاط، وأنهما – وبقية الستة الذين اتفقوا على الاحتجاج به – لم يحتجوا به إلا لما ثبت عندهم وعند الجمهور من كمال حفظه وثقته إلى وقت تغيره، وأن الشيخين لم يحتجا إلا بما رواه الثقات عنه قبل التغير. في الوقت الذي نفى الإمام أحمد عنه تهمة التشيع، وهو من كبار تلاميذه[21].
ومع هذا كله فقد حل لنا ابن الصلاح هذا الإشكال في وصف حال رواية صاحب البدعة حيث قال: “ذهب الكثير أو الأكثر إلى قبول رواية غير الداعية لبدعته، وهو أعدل المذاهب وأولاها، فإن كتب الأئمة طافحة بالرواية عن غير الدعاة من المبتدعة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الأصول وغيرها”[22].
وبعد هذا كله لا شك أن كل من كانت عنده معرفة وإنصاف إذا استحضر مبلغ حفظ الشيخين (البخاري ومسلم) ومعرفتهما بعلم الحديث عند أهل المعرفة به، ثم ضم لذلك ما اتفق عليه الحفاظ الثلاثة؛ ابن الصلاح والنووي وابن حجر، من الجزم بأن جميع ما في الصحيحين من حديث الرواة الذين حدث لهم اختلاط، هو من حديثهم المروي عنهم قبل حدوث الاختلاط لهم.
فإن ذلك يلجئه إلى أن يطمئن لذلك ويجزم به، ويحكم برفض احتمال وقوع شيء من أحاديث المختلطين فيها بعد اختلاطهم، لا الحديث الذي نحن بصدده ولا غيره[23].
وبعد أن أثبتنا صحة الحديث ينبغي أن ننبه على أن هذا الحديث – وغيره من الأحاديث – يجب الإيمان به من باب الإيمان بالغيب، طالما أنه ثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مروي عن الثقات العدول، أئمة الإسلام والحديث، كالبخاري ومسلم، وأحمد والنسائي وغيرهم. وتلقته أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – بالقبول، وآمن به الصحابة، وتلقاه الخلف عن السلف، وبناء على هذا، فالواجب علينا في مثل هذه النصوص الصحيحة الإيمان بها كما جاءت، وعدم تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها لمجرد استشكالها، فمن ظهر له المعنى فذاك، وإلا فليتهم عقله وفهمه.
سئل أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه عن هذا الحديث في جملة من أحاديث الصفات، فقال أحمد: كل هذا صحيح، وقال إسحاق: هذا صحيح ولا يدفعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي[24].
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي: ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى – عليه السلام – فصكه ففقأ عينه، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره إلا ضال مبتدع أو ضعيف الرأي[25].
لذا يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم ـوصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، ونعلم أنه حق وصدق، يستوي في ذلك ما عقلناه وما جهلناه، وما لم نطلع على حقيقته ومعناه.
ومع هذا فإن جزمنا وإقرارنا بصحة هذا الحديث وصدق ناقليه لا يمنعنا من الجواب عما أثير حوله من شبهات واعتراضات، وهذا ما نوضحه في الصفحات الآتية إن شاء الله.
ثانيا. تمثل الملك في صورة بشر غير ممتنع، وخفاء حاله على موسى جعله يدافعه على أنه غريب معتد:
ثبت في الكتاب والسنة أن الملائكة يتمثلون في صور الرجال، وقد يراهم الناس ويظنون أنهم من بني آدم، كما في قصة إبراهيم عليه السلام: )هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28)( (الذاريات)، فلو علم حالهم ابتداء لما وسمهم بالنكارة، ولا قدم لهم طعاما، ولا أوجس منهم خيفة.
وقال عز وجل: )ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79)( (هود)، وقال عز وجل: )فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)( (مريم).
وكذلك ما ثبت عن عمر بن الخطاب قال: «بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام…»الحديث.
وفيه «قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»[26].
فمن خلال هذه النصوص نستطيع أن نجزم بأن الملائكة قد تظهر في صورة بشر، وأن أمرهم قد يخفى على الأنبياء أنفسهم.
وبناء عليه، فلا يستغرب أن يخفى حال ملك الموت على موسى، كما خفي حال غيره من الملائكة على إبراهيم ولوط ومريم وغيرهم.
ومما يؤيد هذا ما يلي:
سياق الحديث، فإنه يدل على أن موسى – عليه السلام – حين لطم ملك الموت لم يكن يعرفه، وذلك أنه لما جاءه في المرة الثانية وعرف أنه رسول من عند الله لم يصنع به ما صنع في المرة الأولى، بل سلم الأمر واختار الموت، ولو كان قد عرفه في المرة الأولى لصنع به في المرة الثانية ما صنع في الأولى.
ولهذا يقول ابن حبان: “لو كانت المرة الأولى عرف موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه منه وعلمه به”[27].
وأما كون الملائكة يتمثلون بصور مختلفة مما أقدرهم الله عليها؛ كصور الرجال مثلا، فيراهم بعض الأنبياء فلا يعرفونهم، بل يظنونهم من بني آدم، هذا ما ثبت في الكتاب والسنة؛ كما في قصة إبراهيم – عليه السلام – مع أضيافه، فإنه لم يعرفهم ابتداء، حتى إنه أوجس منهم خيفة.
ومثله لوط – عليه السلام – فإنه لو عرف الملائكة حين أتوه في آدميين لما خاف عليهم من قومه.
وقد قال – سبحانه وتعالى – عن مريم: )فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18)( (مريم).
وفي السنة ما يدل على هذا أيضا؛ كما في حديث جبريل المتقدم ذكره حين أتى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعرفه في أول الأمر، ولا عرفه أصحابه.
ما المانع أن تقتضي حكمة الله عزوجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل، ويأمره أن يدخل على موسى بغتة، ويقول له مثلا: سأقبض روحك، وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت، فيكون في قص ذلك عبرة لمن بعده وعظة.
وبناء على هذا فإن ملك الموت قد أتى موسى – عليه السلام – في صورة بشرية، ولم يعرفه موسى – عليه السلام – فلطمه لأنه رآه آدميا قد دخل داره بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى – عليه السلام – عن نفسه مدافعة أدت إلى فقء عين ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دارغيره بدون إذنه.
فقد جاء في شريعتنا جواز فقء عين الناظر في الدار بغير إذن صاحبها؛ كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حل لهم أن يفقئوا عينه» [28]، فما المانع أن يكون ذلك كذلك في شريعة موسى عليه السلام؟ فمن المعلوم أن الشرائع تتفق في بعض الأحكام، لا سيما أن موسى – عليه السلام – لم يلم على هذا الفعل، مع أن الأنبياء لا يقرون على خطأ، وقد رد الله تعالى لملك الموت عينه[29].
فموسى – عليه السلام – في داره، الباب مغلق، والنافذة مغلقة، فجأة وجد رجلا في البيت، من أين دخل هذا الرجل؟ لا بد أن هذا الرجل قد دخل صائلا، والصائل: هو الذي يهجم على الناس في البيوت، أو يهجم على الناس عموما، فموسى وجد رجلا يصول عليه، ويقول له: أجب ربك، أجب ربك، معناها: سلم روحك؛ يعني يريد أن يقتله، فما كان من موسى – عليه السلام – إلا أن دفع هذا الصائل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى الأمر إلى قتله، فهو جائز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد»[30].
فما كان من موسى – عليه السلام – إلا أن فقأ عينه، وهذا حد الذي ينظر في بيوت الناس بغير إذن، فضلا عن أن يدخل بقدميه؛ لحديث سهل بن سعد قال: «اطلع رجل من جحر في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي – صلى الله عليه وسلم – مدرى يحك بها رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»[31].
فموسى – عليه السلام – مع هذا الرجل الصائل المتهجم على بيته لم يفعل أكثر من الحكم الشرعي، وهو المدافعة التي كان مؤداها فقء العين.
وإلى القول بأن موسى – عليه السلام – لم يكن يعرف ملك الموت في المرة الأولى ذهب ابن خزيمة، وابن حبان، والخطابي، والبغوي، والمازري، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن الوزير، والقسطلاني، والمعلمي اليماني، واستحسنه القرطبي[32].
قال ابن حبان: “كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى – عليه السلام – عليها، وكان موسى غيورا، فرأى في داره رجلا لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها… ولـما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره، أنه لا جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الجمة الواردة فيه… كان جائزا اتفاق الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيا بأمر آخر، هو أمر اختبار وابتلاء، فلما علم موسى كليم الله أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: الآن، فلو عرف موسى في المرة الأولى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به”[33].
ومن هنا يعلم أن مجيء ملك الموت كان في صورة يمكن فقء البشر لعينها، هذه الصورة لا تستلزم خروج الملك عن ملكيته.
وفي هذا المعنى يقول العلامة المعلمي اليماني – رحمه الله: “الجسد المادي الذي يتمثل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس من لازم تمثله فيه أن يخرج الملك عن ملكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن ماديته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أرواح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا، لو عرض ضرب أو طعن أو قطع لذاك الجسم لم يلزم أن يتألم بها الملك، ولا أن تؤثر في جسمه الحقيقي”[34].
قال القاضي محمد العلوي: “إن ملك الموت جاء في صورة يمكن فقء البشر لعينها، والمعهود في مجيء الملك للبشر هو مجيئه له على صورة البشر، كما قال تعالى: )فتمثل لها بشرا سويا (17)(، وكما أفادته النصوص القرآنية التي ذكر فيها مجيء الملائكة لإبراهيم وللوط وداود، وكذا نصوص الأحاديث التي ذكر فيها مجيء جبريل – عليه السلام – لنبينا صلى الله عليه وسلم، وبه تبين أن فقأ العين هنا هو على ظاهره، وأنه وقع في الصورة البشرية التي جاء ملك الموت عليها، وهو ممكن غير متعذر إلا في الصورة الملكية الأصلية النورانية البعيدة عن ذلك، إذ لم يعهد مجيء الملائكة للبشر فيها. أما رؤية نبينا – صلى الله عليه وسلم – لجبريل على صورته الأصلية في السماء مرة، وبين السماء والأرض أخرى، فهي خارجة عن مجيء الملك الذي عليه مدار الحديث هنا، وبمجموع هذا الذي قررناه يكون قد حل استشكال صك موسى لعين الملك، وحصول فقء عين الملك من أثره”[35].
وعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلا لا يعرفه قد دخل عليه بغتة، وقال ما قال، حمله حب الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدة حب الحياة لتأنى وقال: من أنت وما شأنك؟ ونحو ذلك، ووقوع الصكة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة: “فرد الله عليه عينه” فحاصله: أن الله تعالى أعاد تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليما، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليما مع قرب الوقت، عرف لأول وهلة خطأه أول مرة [36].
ومن قال: إن الله لم يقتص لملك الموت من موسى، فهذا دليل على جهله، ومن أخبره أن بين الملائكة وبين الآدميين قصاص؟! ومن قال: إن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقاصصه الله منه، وقد أخبرنا الله تعالى أن موسى قتل نفسا، ولم يقاصص الله منه لقتله!…
أما القول بأن العين التي فقأها موسى – عليه السلام – إنما هي تمثيل وتخييل، لا حقيقة لها؛ لأن ما تنتقل الملائكة إليه من الصور ليس على الحقائق، وإنما هو تمثيل وتخييل، فالجواب عنه: أن هذا يقتضي أن كل صورة رآها الأنبياء من الملائكة فإنما هي مجرد تمثيل وتخييل لا حقيقة لها، وهذا باطل، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد رأى جبريل على صورته التي خلق عليها سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، ففي الصحيحين من حديث عائشة، «أنها سألته عن قوله عز وجل: )ولقد رآه بالأفق المبين (23)( (التكوير)، )ولقد رآه نزلة أخرى (13)( (النجم)، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض»[37].
ولهذا قال القرطبي: هذا القول لا يلتفت إليه؛ لظهور فساده، فإنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة والأدلة القطعية.
ثم إن هذا القول – أيضا – لم يزل الإشكال؛ لأنه يمكن أن يقال: إذا كان قد علم أنه ملك، وأن ذلك تخييل، فلماذا يلطمه، ويقابله بهذه المقابلة؟! هذا مما لا يليق بالنبي؟[38].
ومن خلال هذا العرض الموجز يمكن القول بأن تمثل ملك الموت في صورة البشر أمر غير مستغرب ولا مستنكر؛ إذ دلت نصوص القرآن والسنة على ذلك، وأن الملك قد يأتي في صورة لا يعرفها النبي، فكان لطم موسى لرجل دخل بيته بغير إذنه، ولا يعرفه، يطلب روحه، أمرا طبيعيا له مسوغ شرعي، ثم إن فقء العين غير مستبعد مادام قد وقع على الصورة البشرية التي تصور فيها الملك، ووقوع الصلة وتأثيرها – وإن كان على حقيقته – وقع على الجسد العارض الذي تصور فيه الملك، ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال صورته، فيكون ذلك أقوى في اعتباره.
ثالثا. كراهية الموت أمر جبلي، وقد سماه الله في القرآن مصيبة، وموسى لم يكره الموت، وإن حصل لا يعيبه؛ لأنه لم يخرج على بشريته بنبوته:
تعسر على بعض المغالطين فهم حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستشكلوا قول ملك الموت – عليه السلام – لرب العزة سبحانه وتعالى: «لقد أرسلتني إلى رجل يكره الموت»، فلما أعياهم فهمه، جعلوا عقولهم حاكمة على النص بالضعف والنكارة، قالوا: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف يكرهه نبي من أولي العزم؟!
وهذا أقل ما يقال عنه أنه نظر إلى النصوص بنظرة سطحية، ثم أعمل فيها عقله القاصر.
فمن تأمل ألفاظ هذا الحديث، ثم تقصى نصوص القرآن والسنة، لن يجد غضاضة في وجود جواب على هذه الاستشكالات المتهافتة، فليس في الحديث ما يدل دلالة قاطعة على أن موسى يكره الموت، بل إن آخر الحديث دل دلالة واضحة على أن موسى آثر جوار ربه على طول البقاء، وذلك عندما خير بين طول البقاء، وبين الموت.
وقول ملك الموت في موسى: «لا يريد الموت» هو مبلغ علمه من ظاهر ما صدر له منه، حيث قابل أمره له بالإجابة لربه بصكه له، وفقئه لعينه. ولكن قد تبين من قول موسى في آخر الحديث «الآن» تمام محبته للقاء ربه؛ لتعجله موته بعد تمكينه من تأخيره إلى غاية أبعد، تبين من ذلك أن موسى في الواقع بخلاف ما تراءى منه لملك الموت من كونه لا يريد الموت.
وقد علم الله تعالى – الذي لا تخفى عليه خافية – أن كليمه موسى ليس هو كما ظنه ملك الموت؛ وإنما هو على الحالة التي اختارها أخيرا في قوله: «فالآن»، وعلم الله تعالى بذلك منه – الظاهر أنه – هو الذي لأجله أمر ملك الموت برجوعه إليه، وبتخييره بين طول الحياة أو الموت، وينبغي للمسترشد هنا أن يتذكر بهذا المقال من أحد كبار رسل الملائكة، وهو ملك الموت في كليم الله ورسوله موسى نظيره من الملائكة كلهم أو جلهم في أصل البشر آدم عليه السلام، الواقع في قوله عز وجل: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)( (البقرة)، فهذا الذي ظنته الملائكة بآدم – عليه السلام – هو نظير ما ظنه ملك الموت هنا بموسى عليه السلام، وما أجاب الله تعالى الملائكة به في هذه الآية هو عين الجواب لملك الموت، وهو المستفاد مما اختاره موسى أخيرا، وبه يتضح سقوط التمسك بقول الملك هنا في موسى على إشكال هذا المحل، من حيث كونه لا يليق بموسى عليه السلام.
ثم إن عدم انتصاف الله تعالى له من موسى، ولو بالعتاب، وثناؤه تعالى عليه بعد ذلك في قوله عز وجل: )واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا( (مريم: ٥١)، كل ذلك دل على أن الله تعالى يعلم أن ما اعتقده الملك لا حق له فيه في الواقع. وقد تحقق ذلك من جهة أن ما صنعه موسى تأبى رتبته في الرسالة والتكليم اللذين اصطفاه الله بهما أن يسام بقصد الاعتداء فيه، بل اللائق بذلك أن يحمل صنيعه على أنه لم يقصد إلا أن يدافع عن نفسه وعن روحه ممن تسور عليه منزله بدون إذنه، ورام بسلب روحه في حال كونه لم يعرف أنه ملك الموت، ولا أتاه بعلامة صدقه في كونه جاء من عند الله، التي هي التخيير بين الموت والحياة الذي عهد به الله تعالى لأنبيائه قبل قبض أرواحهم، كما جاء في الموطأ والصحيحين وغيرهما، كما أنه لا يلزم من نبوة موسى علمه بكل من يجيء إليه من ملائكة الله[39].
من أجل ذلك نستطيع القول بأن موسى – عليه السلام – لا يكره الموت حقيقة، وإنما خرج ذلك من ملك الموت – عليه السلام – بمقتضى فهمه لما وجده من رد فعله في المرة الأولى.
ولو سلمنا جدلا لهؤلاء أن في الحديث دلالة على كراهية موسى – عليه السلام – للموت، فإن ذلك لا يقدح فيه – عليه السلام – وذلك لأن كراهية الموت أمر جبلي فطر الله الناس عليه، ولا يعاب الإنسان على كراهيته للموت.
وقد دلت على ذلك شواهد ونصوص متعددة نذكر منها:
أن الله سمى الموت في القرآن مصيبة، وذلك في قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين (106)( (المائدة).
قال القرطبي: “سمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه، وإن فيه لعبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن تفكر”[40]، وسماه الله – عز وجل – ابتلاء، فقال: )ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155)( (البقرة).
فلا شك لدى كل عاقل أن كراهية المصيبة والبلاء أمر جبلي فطر الله الناس عليه، حتى قال أحد الشعراء في كراهية الموت:
قامت تشجعني هند فقلت لها
إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته
ما يشتهي الموت عندي من له أدب
وقالت الحكماء: الموت كريه[41].
ومن السنة ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته»[42].
والشاهد من هذا الحديث قوله جل وعلا: «ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته».
قال الحافظ ابن حجر معلقا على هذا الحديث: يقول الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان:
أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا، ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء النفسه.
والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترددي إياهم في نفس المؤمن، كما روي في قصة موسى، وما كان من لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى، قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به وشفقته عليه.
وقال الكلاباذي ما حاصله: إنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، أي: عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب، إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك، قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلا عن إزالة الكراهة عنه، فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه ويكره الله مساءته، فيزيل عنه كراهية الموت؛ لما يورده عليه من الأحوال، فيأتيه الموت وهو له مؤثر، وإليه مشتاق…
قوله: «يكره الموت وأنا أكره مساءته» في حديث عائشة: «أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته»، زاد ابن مخلد عن ابن كرامة في آخره: «ولا بد له منه»، ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب، وأسند البيهقي في “الزهد” عن الجنيد سيد الطائفة قال: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته.
وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي، وهو مفارقة الروح للجسد، ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا؛ كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت، فقال: “كأني أتنفس من خرم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي”، وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا، فلما كان الموت بهذا الوصف، والله يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر، وتنكس الخلق[43].
فدل ذلك على أن المؤمن المقرب من الله جل وعلا يكره الموت، وأن الله – سبحانه وتعالى – يكره الإساءة إليه، فيحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده – عز وجل – فيحب لقاء ربه، فيحب الله لقاءه.
وبناء على هذا، فاستغراب بعضهم من كراهية موسى – عليه السلام – للموت بعدما جاءه ملك الموت ورع باهت وتعسف، فكراهية الموت قد جبله الله – سبحانه وتعالى – في كل إنسان، فمن طبيعة ابن آدم أن يكره الموت كائنا من كان، ولا غرابة أن يكرهه موسى عليه السلام، وهو لا يخرج عن إنسانيته وبشريته.
ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت. فقال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه»[44].
والشاهد في هذا الحديث قول عائشة: «كلنا يكره الموت»، وليس هذا قول عائشة وحدها، بل قول عموم الصحابة حال قول رسول الله هذا الحديث.
قال ابن حجر: “وقع في رواية حميد بلفظ: «فقلنا يا رسول الله»، فيكون أسند القول إلى جماعة، وإن كان المباشر له واحدا، وهي عائشة. وكذا وقع في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها، وفيها: «فأكب القوم يبكون، وقالوا: إنا نكره الموت، قال: ليس ذلك».
وقال ابن الأثير في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض منه الموت؛ لأن كل الناس يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت.
قال الطيبي: يريد أن قول عائشة: إنا لنكره الموت، يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت، وليس كذلك؛ لأن لقاء الله غير الموت؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: «والموت دون لقاء الله»[45]، لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله.
وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته؛ لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة، قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة، فقال: )إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7)( (يونس).
وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهة بضد ذلك”[46].
وقال النووي: “معنى الحديث: أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه، وما أعد له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله؛ لينتقلوا إلى ما أعد لهم، ويحب الله لقاءهم، أي: فيجزل لهم من العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم، أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهيته – عز وجل – لقاءهم”[47].
ومن خلال عرض أقوال أهل العلم في هذا الحديث يتبين جهل من جعل هذا الحديث بعينه حجة؛ ليستشكل به على كراهية موسى – عليه السلام – للموت، واكتفى بطرف الحديث دون تمامه، ثم غاب عن عقله القاصر مراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من محبة لقاء الله، وبورع باهت وتعنت سخيف راح يدلل على نكارة متن الحديث بقوله: “إن الصالحين يحبون لقاء الله”.
أضف إلى كل هذا نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن تمني أي إنسان الموت لضر أصابه، كما جاء عند الشيخين وغيرهما من حديث أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي»[48].
فكيف يقال: إن الصالحين يحبون الموت؟! إن الصالحين يحبون لقاء الله، نعم. ولكن – كما ذكرنا – اللقاء غير الموت، ولما كان الموت وسيلة للقاء الله، ولا يتم اللقاء إلا به، عبر عن الموت باللقاء، فخفي على أصحاب الفكر السطحي.
رابعا. لطم موسى لملك الموت ليس اعتراضا؛ لاستشكال الأمر عليه ابتداء، وكان الأمر أولا على الابتلاء والاختبار، لا على الإمضاء:
كان من جملة الطعون الموجهة لهذا الحديث أن بعض هؤلاء الطاعنين استشكل هذا الحديث من حيث إن موسى – عليه السلام – قد لطم ملك الموت؛ إذ كيف يجوز أن يفعل نبي الله هذا الصنيع بملك من ملائكة الله، جاءه بأمر من أمره، فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟! ثم كيف يخالف الملك أمر ربه، فيعود إليه دون أن ينفذ أمره بقبض روح موسى عليه السلام؟!
وقد عنون ابن حبان لهذا الحديث بقوله: “ذكر خبر شنع به على منتحلي سنن المصطفى – صلى الله عليه وسلم – من حرم التوفيق لإدراك معناه”[49].
ووصف هؤلاء رد فعل موسى – عليه السلام – بصك ملك الموت بأنه اعتراض على قضاء الله وقدره.
والحق الذي ينبغي المصير إليه أن صك موسى ملك الموت في المرة الأولى ليس من قبيل الاعتراض كما فهمه المشككون، وغاية الأمر أن موسى – عليه السلام – استشكل عليه الأمر ابتداء؛ لعدم معرفته ملك الموت، فكان تصدقه مع رجل غريب تسور بيته بغير إذنه طالبا سلب روحه تصدقا طبيعيا.
يقول الخطابي – مقررا هذا القول: “لما دنا موسى – عليه السلام – حين وفاته – وهو بشر يكره الموت طبعا، ويجد ألمه حسا – لطف له – أي الله – بأن لم يفاجئه بغتة، ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرا وقسرا، لكن أرسله إليه منذرا بالموت، وأمره بالتعرض له – على سبيل الامتحان – في صورة بشر… فلما نظر نبي الله موسى – عليه السلام – إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، يريد نفسه ويقصد هلاكه، وهو لا يثبته معرفة، ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسول رب العالمين فيما يراوده منه، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان ذلك سببا لذهاب عين الصورة التي تمثل فيها ملك الموت، وقد امتحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر، كدخول الملكين على داود في صورة الخصمين لما أراد الله – عز وجل – تعريفه بذنبه، وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله، وكدخولهم على إبراهيم – عليه السلام – حين أرادوا إهلاك قوم لوط فقال: )قوم منكرون (62)( (الحجر)، وقال: )فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة( (هود: ٧٠) وكان نبينا – صلى الله عليه وسلم – أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره، ولما جاءه جبريل – عليه السلام – في صورة رجل، فسأله عن الإيمان لم يثبته، فلما انصرف عنه تبين أمره، فقال: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم»[50]، فكذلك كان أمر موسى – عليه السلام – فيما جرى من مناوشته ملك الموت، وهو يراه بشرا، فلما عاد الملك إلى ربه – عز وجل – مستثبتا أمره فيما جرى عليه، رد الله – عز وجل – عليه عينه، وأعاده رسولا إليه بالقول المذكور في الخبر؛ ليعلم نبي الله – صلى الله عليه وسلم – إذا رأى عين ملك الموت المفقوءة سليمة صحيحة أنه رسول بعثه الله لقبض روحه، فاستسلم حينئذ لأمره، وطاب نفسا بقضائه، وكل ذلك رفق من الله – عز وجل – به، ولطف منه في تسهيل ما لم يكن بد من لقائه والانقياد لمورد قضائه”[51].
فالقول بأن هذا اعتراض من موسى قول مغلوط تخالفه الحقائق، ويخالفه مفهوم النصوص السوية المستقيمة.
هذا في الوقت الذي علم موسى – عليه السلام – أن الأنبياء مخيرون قبل موتهم بالضرورة، فاستبعد أن يأتيه ملك الموت بهذه الطريقة، وعلى هذه الصفة دون تخيير.
ودلت على ذلك أخبار صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ منها ما رواه الشيخان عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده في الجنة، ثم يحيا أو يخير. فلما اشتكى وحضره القبض، ورأسه على فخذ عائشة، غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى. فقلت: إذا لا يجاورنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا، وهو صحيح»[52].
وعنها – رضي الله عنها – قالت: «سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. فعلمت أنه خير»[53].
قال الحافظ ابن حجر: “قولها: «كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير»، ولم تصرح عائشة بذكر من سمعت ذلك منه في هذه الرواية، وصرحت به في الرواية التي تليها من طريق الزهري عن عروة عنها قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيى أو يخير. وهو شك من الراوي، هل قال: يحيى أو يخير»[54].
وبناء على هذه الدلائل الواضحة كان من الثابت أن يخير موسى عند موته إذا جاءه الملك، فلما جاءه بغير هذه الصفة التي يعرفها، ولا بما استقر عنده من التخيير قبل الموت، استبعد أن يكون هذا ملك الموت، فكيف يقال: إن لطمه له كان اعتراضا قبل أن يقرر معرفة موسى لملك الموت ابتداء؟! وأنى له ذلك حين يقف على قول موسى في آخر الحديث – لما خير بين طول البقاء وبين الموت في المرة الثانية: «الآن»؟ أي أنه آثر جوار ربه على طول البقاء، وذلك بعد مجيء الملك على الهيئة التي تجعله يتيقن بأن هذا ملك من قبل الله.
والقول بأن موسى قد لطم ملك الموت وهو يعرفه؛ لأنه لم يخيره فيه نظر من وجهين:
الأول: أنه من المستبعد جدا أن يصدر هذا الفعل من كليم الرحمن تجاه ملك الموت – الذي هو رسول رب العالمين – وهو يعرفه، فإن هذا مما ينزه عنه الأنبياء.
الثاني: أن هذا الجواب ليس فيه حسم لمادة الإشكال؛ لأن الله تعالى أخبر عن الملائكة أنهم: )لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6)( (التحريم)، فلماذا خالف ملك الموت أمر الله هنا، فلم يخير موسى عليه السلام؟
ولهذا قال ابن حجر عن هذا الجواب: “فيه نظر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله وأخل بالشرط”[55]؟!
وبناء على هذا الشرط نستطيع أن نرد على قول من قال بأن فعل موسى – عليه السلام – كان اعتراضا على حكم الله وقضائه.
فإن قيل: إذا كان أجل موسى – عليه السلام – قد حضر، فكيف تأخر مدة هذه المراجعة، وقد قال الله عز وجل: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)( (الأعراف)؟ وإن كان لم يحضر، فكيف جاء الملك لقبض روحه؟
فالجواب: أن أجل موسى لم يكن قد حضر، فلم يبعث إليه ملك الموت في المرة الأولى؛ لكي يقبض روحه، وإنما بعث إليه اختبارا وابتلاء، وليس لأمر يريد الله – عز وجل – إمضاءه، وإنما هو كأمره خليله إبراهيم – عليه السلام – بذبح ابنه ابتلاء وامتحانا، فإنه – عز وجل – لم يرد إمضاء الفعل، ولهذا لما عزم إبراهيم – عليه السلام – على ذبح ابنه، وتله للجبين، فداه الله بالذبح العظيم.
ولو أراد الله تعالى قبض روح موسى حين لطم ملك الموت لكان ما أراد؛ كما قال عز وجل: )إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)( (النحل).
وبهذا أجاب ابن خزيمة، وابن حبان، والخطابي، والبغوي، وابن الجوزي، واستحسنه العراقي[56].
وخلاصة الجواب: أن أجل موسى قد كان قرب حضوره، ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولا، مع سبق علم الله أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة، والله أعلم[57].
وهذا ما ذهب إليه ورجحه فضيلة الشيخ المحدث أبو إسحاق الحويني فقال: “إن الله – عز وجل – أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار، وأمره أن يقول له: أجب ربك، أمر اختبار وابتلاء، لا أمرا يريد الله جل وعلا إمضاءه، كما أمر خليله – صلى الله على نبينا وعليه – بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء، دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه”[58].
إذن فالأقدار مكتوبة في أم الكتاب… والأحداث تتغير وفقا لما هو مكتوب في أم الكتاب، فنزول ملك الموت، ثم رد موسى له… أمر كتبه الله، كما كتب – سبحانه وتعالى – كل ما كان بعد ذلك، حتى رجوع ملك الموت وقبض روح موسى؛ ليكون الأجل المقدر لموسى هو ما كان في الرجوع الثاني للملك.
وبهذا نصل إلى الحقيقة الواضحة الجلية، وهي أن لطم موسى لملك الموت لم يكن من قبيل الاعتراض، يتبين ذلك من موقفه في المرة الثانية من اختياره للموت عندما خير، وقال: «فالآن».
كما أن هذا ليس اضطرابا في الآجال المقدرة، كما زعم بعض المشككين، وقالوا: إن هذا يعارض قوله عز وجل: )فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)(، وهذا من أعظم الفرى؛ لأن الأقدار مكتوبة، والآجال مؤجلة، ولا تعارض؛ فالمراجعة التي دارت بين ملك الموت، وبين موسى إنما هي أمر قدره الله تعالى – وإن لم يطلع ملك الموت على هذا – وسبق في علم الله تعالى أن قبض موسى لا يقع إلا بعد المراجعة.
الخلاصة:
لقد اتفق الثقات من أئمة الإسلام وعلماء الحديث على صحة حديث لطم موسى ملك الموت؛ فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
إن جماهير علماء الأمة لا يشترطون تعدد رواة الحديث، ما دام الحديث قد جاء عمن يؤمن في دينه، واشتهرت عدالته، فانفراد الصحابي بالحديث – وما نزل في الإسناد من الثقات العدول – لا يؤثر في صحة الحديث.
لم يثبت قط عن أبي هريرة أنه حمل رواية إسرائيلية ونسبها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – على أنها حديث نبوي، ولقد وجد الصحابة والتابعون في أبي هريرة حافظا ضابطا مدققا، إذا ناقشه أحد ثبت أنه الحافظ، وإذا روجع في مسألة ثبت أنه الراسخ، ولم يجربوا عليه كذبا ولا خطأ.
يكفي أبا هريرة شرفا أن حفاظ الأمة – كابن القيم وابن حزم – لما انتصبوا لترتيب أهل الفتوى جعلوه مساويا للخليفتين أبي بكر وعثمان في الاندراج في الدرجة الوسطى، وهي الطبقة الثانية عندهم.
لقد اتفق أئمة الحديث ونقاده على إمامة عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الحديث ونقل الرواية، وعلى أن ما نسب إليه من تشيع لا يطعن في عدالته ولا يقدح في روايته، وأن رواية من هو حال عبد الرزاق في الصحيحين، وممن اختلطوا في آخر حياتهم هي من قبيل روايتهم قبل الاختلاط.
لقد ثبت في الكتاب والسنة أن الملائكة يتمثلون في صور الرجال، وقد يراهم بعض الناس، ويظنونهم من بني آدم.
لا يمنع أن تقتضي حكمة الله عز وجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل، ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتة؛ ليكون بلاء واختبارا لموسى؛ لتظهر رغبته في الحياة، وكراهيته للموت، فيكون في قص ذلك عبرة وعظة لمن بعده.
لقد كان فقء موسى لعين ملك الموت أمرا طبيعيا، وتصرفا يتصف بالشرعية في مواجهته – عليه السلام – رجلا غريبا اقتحم بيته بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى عن نفسه مدافعة أدت إلى فقء عين الصورة البشرية التي تمثل فيها ملك الموت.
إن فعل موسى مع ملك الموت لا جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، وقد اتفقت شريعتنا مع شريعة موسى – عليه السلام – في إسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه.
إن الصورة المادية التي تمثل بها ملك الموت ليست هي الصورة الحقيقية لملك الموت، فعلى هذا لو عرض ضرب أو طعن في هذا الجسد لم يلزم أن يتألم بها الملك، أو تؤثر على صورته الحقيقية.
إن قول ملك الموت عن موسى: إنه يكره الموت هو مبلغ علمه من ظاهر ما صدر له منه؛ حيث قابل – عليه السلام – أمر الملك له بالإجابة لربه بصكه له وفقئه لعينه، ولكن قد تبين من قول موسى – عليه السلام – في آخر الحديث «فالآن» ما يفيد محبته تعجيل موته بعد تمكينه من تأخيره إلى غاية بعيدة، فتبين من ذلك أن موسى في الواقع بخلاف ما تراءى منه لملك الموت من كونه لا يريد الموت.
على افتراض أن موسى كره الموت على الحقيقة، فإن ذلك لا يقدح فيه ولا يشينه؛ لأنه بشر، والله – عز وجل – فطر البشر على كراهية الموت، فقد سمى الموت في القرآن مصيبة وبلاء.
لقد صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه عن رب العزة أن الله تبارك وتعالى ما تردد في شيء أكثر من تردده عن قبض روح عبده المؤمن، يكره الموت والله يكره مساءته؛ فدل ذلك على أن العبد المؤمن يكره الموت، ولا غضاضة في ذلك.
وقد صح عن عائشة وجمع كثير من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قولهم لرسول الله: «كلنا يكره الموت»، فبين لهم رسول الله أن كراهية الموت ليست هي كراهية لقاء الله – عز وجل -، ولكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله لا يتم إلا بها عبر عن لقائه – سبحانه وتعالى – بالموت.
لا يصح القول بأن موسى فقأ عين ملك الموت من قبيل الاعتراض على حكم الله؛ وذلك لثبوت عدم معرفة موسى بحقيقة ملك الموت في أول مرة.
إن أجل موسى – عليه السلام – لم يكن قد حضر في المرة الأولى؛ لكي يقبض الله روحه، وإنما بعث الله ملك الموت إليه اختبارا وابتلاء، وليس أمرا يريد الله إمضاءه بين ملك الموت وبين موسى، بل هو أمر قدره الله تعالى مع سبق علم الله أن أجل موسى لا ينتهي إلا بعد المراجعة، وإن لم يطلع ملك الموت على ذلك أولا.
(*) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط11، 1996م. أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية، مطبعة صور الحديثة، لبنان، ط2، 1383هـ/ 1964م. مشكلات الأحاديث النبوية، عبد الله القصيمي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ط2، 2006م. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م.
[1]. اللطم: ضرب الخد وصفحة الجسد ببسط اليد بالكف مفتوحة.
[2]. المتن: الظهر في الناس والدواب، ومتن الثور ظهره.
[3]. ثم مه: استفهام معناه: ثم ماذا يكون، أحياة أم موت؟
[4]. أي: أدنني من الأرض المقدسة حتى يكون بيني وبينها مقدار رمية بحجر.
[5]. الكثيب: الرمل المرتفع.
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى وذكره بعد، (6/ 508)، رقم (3407). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل موسى عليه السلام، (8/ 3497)، رقم (6033، 6034).
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (16/ 65، 66)، رقم (8157). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[8]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الجنائز، باب رقم (121)، (1/ 343)، رقم (2101). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (2089).
[9]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب: التاريخ، باب: بدء الخلق، (14/ 112)، رقم (6223). وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ذكر النبي الكليم موسى بن عمران، (2/ 632)، رقم (4107).
[11]. شرح ألفية السيوطي في الحديث، محمد بن علي بن آدم الإتيوبي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م، (1/ 28).
[12]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الظاهري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 135).
[13]. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1395هـ/ 1975م، (1/ 295).
[14]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص179، 180.
[15]ـ شرح ألفية السيوطي في الحديث، محمد بن علي بن آدم الإتيوبي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م، (2/ 213).
[16]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص173 بتصرف.
[17]. الإسرائيليات في التفسير والحديث، محمد حسين الذهبي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص56 بتصرف.
[18]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 489).
[19]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص181.
[20]. انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص440. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجاج المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1400هـ/ 1980م، (18/ 52). سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (9/ 563).
[21]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص183، 184 بتصرف.
[22]. انظر: علوم الحديث، ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، المكتبة العلمية، بيروت، ط1، 1401هـ/ 1981م، ص103، 104.
[23]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص186، 187 بتصرف.
[24]. انظر: الشريعة، أبو بكر الآجري، تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة قرطبة، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2003م، (2/ 94). التمهيد، ابن عبد البر، تحقيق: عبد الله بن الصديق، مؤسسة قرطبة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، (7/ 147، 148).
[25]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص533.
[26]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، (1/ 140)، رقم (50). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، (1/ 292)، رقم (93).
[27]. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1993م، (14/ 112).
[28]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر بيت غيره، (8/ 3277)، رقم (5538).
[29]. انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص533: 535.
[30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المظالم، باب: من قاتل دون ماله، (5/ 147)، رقم (2480). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره، (2/ 554)، رقم (354).
[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، (11/ 26)، رقم (6241). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، (8/ 3277)، رقم (5537).
[32]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص528.
[33]. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1993م، (14/ 112).
[34]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص214.
[35]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص196 بتصرف.
[36]. الأنوار الكاشفة، المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص215.
[37]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: سورة النجم، (8/ 472)، رقم (4855). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: معنى قوله عز وجل: ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) (، (2/ 632)، رقم (432).
[38]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص538.
[39]. توضيح طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد في حديث صك الرسول المكلم موسى ـ عليه السلام ـ للملك الموكل بقبض أرواح العباد، محمد بن أحمد العلوي، تحقيق: د. محمد بن عزوز، دار ابن حزم، بيروت، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص203، 204 بتصرف.
[40]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 352).
[41]. العقد الفريد، ابن عبد ربه، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2004م، (3/ 197).
[42]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: التواضع، (11/ 349)، رقم (6502).
[43]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (11/ 353، 354) بتصرف.
[44]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، (11/ 364)، رقم (6507). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: من أحب لقاء الله، (9/ 3797)، رقم (6696).
[45]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والاستغفار، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، (9/ 3798)، رقم (6698).
[46]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (11/ 366: 368).
[47]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3799).
[48]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء بالموت والحياة، (11/ 154)، رقم (6351). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهية تمني الموت لضر نزل به، (9/ 3796)، رقم (6688).
[49]. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1993م، (14/ 112).
[50]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان، (1/ 140)، رقم (50). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، (1/ 292)، رقم (93).
[51]. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعيد آل سعود، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1409هـ/ 1988م، (1/ 699، 700).
[52]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 743)، رقم (4437). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله عنها، (8/ 3568)، رقم (6180).
[53]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووفاته، (7/ 743)، رقم (4435).
[54]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 743) بتصرف.
[55]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 510).
[56]. انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، (3/ 301).
[57]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 510).
[58]. إقامة الدلائل على عموم المسائل، أبو إسحاق الحويني الأثري، دار التقوى، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م، (1/ 65).
الطعن في حديث “نحن أحق بالشك من إبراهيم”
مضمون الشبهة:
يطعن بعض خصوم السنة المطهرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: )رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي( (البقرة: ٢٦٠)، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» زاعمين أن هذا الحديث ينفي عصمة الأنبياء؛ إذ إنه – على حد زعمهم – ينسب إلى إبراهيم – عليه السلام – ومحمد – صلى الله عليه وسلم – الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ويفيد أن لوطا – عليه السلام – لم يكن يلجأ إلى الله عز وجل، كما يرون أن في الثناء على يوسف – عليه السلام – ما ينقص من قدر محمد صلى الله عليه وسلم. وهم بذلك يهدفون إلى التشكيك في هذا الحديث الصحيح، وإثبات أن بالسنة النبوية ما ينفي العصمة عن الأنبياء.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن حديث «نحن أحق بالشك من إبراهيم» حديث صحيح، بل في أعلى درجات الصحة؛ فقد رواه الشيخان – البخاري ومسلم – في صحيحيهما، وذهب جمهور العلماء إلى أن المراد من الحديث هو نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، فكأنه قال: إن إبراهيم لم يشك، ولو كان الشك متطرقا إليه لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا نحن لم نشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشك، فالنبي نفى الشك عن إبراهيم وعن نفسه وسائر الأنبياء.
2) لم يكن قوله صلى الله عليه وسلم:«يرحم الله لوطا» لوما للوط – عليه السلام – أو نسبة الخطأ إليه كما يتوهمون، بل يدل على أنه – عليه السلام – كان يأوي إلى الله دائما، كما أن ثناء النبي – صلى الله عليه وسلم – على يوسف لا يعني انتقاصا من قدره – صلى الله عليه وسلم – بل هو على سبيل التواضع الذي يزيده قدرا وإجلالا.
التفصيل:
أولا. الحديث صحيح ثابت، وهو خير دليل يؤكد عصمة الأنبياء جميعا:
إن حديث «نحن أحق بالشك من إبراهيم» الذي طعن فيه أعداء السنة قديما من أهل الأهواء والبدع، وزعموا أن فيه طعنا في عصمة الأنبياء – عليهم السلام – وتابعهم في ذلك أذيالهم من المعاصرين – هذا الحديث صحيح، وثابت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بل في أعلى درجات الصحة؛ إذ إنه قد ورد بأصح الأسانيد في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فقد رواه الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:«نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي(، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»[1].
ومن ثم، فلا يحق لأحد أن يطعن في هذا الحديث – لا سندا ولا متنا؛ إذ إن الأمة قد أجمعت على قبول هذين الكتابين – صحيح البخاري وصحيح مسلم – وحصل لهما من الإجماع ما لم يحصل لغيرهما من كتب الحديث[2].
وإذا أضفنا إلى ذلك أن حديث «نحن أحق بالشك من إبراهيم» قد روي بأصح الأسانيد كما شهد بذلك أهل العلم من علماء الحديث، فقد سبق أن أشرنا إلى أن الإمام البخاري، والإمام مسلم، قد رويا الحديث من طريقين:
الأول: عن ابن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الآخر: عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد قال الحاكم النيسابوري: وأصح أسانيد أبي هريرة، الزهري عن سعيد بن المسيب عنه[3].
ولقد أشار السيوطي إلى ذلك في ألفيته في الحديث عند حديثه عن أصح الأسانيد عن أبي هريرة، إذ يقول: ولأبي هريرة الزهري عن سعيد، أو أبو الزناد حيث عن[4]
وهكذا يتبين أن هذا الحديث الشريف موطن الاشتباه، ثابت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ إنه قد ورد في أصح كتب الحديث، وبأصح الأسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلا مجال للتشكيك في سنده ومن ثم متنه أيضا.
أما ما يثيره الطاعنون حول متن الحديث، فجوابه فيما يأتي:
بداية نشير إلى أن “علماء الأمة مجتمعون على عصمة أنبياء الله – عز وجل – ورسله أجمعين من الكفر والشرك، ومن تسلط الشيطان عليهم، وأن تلك العصمة صفة أساسية فيهم، وشرط ضروري من شروط الرسالة، كما أنها جزء من الكمال البشري الذي كملهم الله – عز وجل – به حتى يبلغوا رسالة ربهم إلى أقوامهم[5].
يقول ابن الوزير اليماني: “أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء – عليهم السلام – عن الجهل بالله تعالى وصفاته وقواعد شرائعه، وعلى صحة عقائدهم فيما يتعلق بأفعال الله وحكمته وجلالته”[6].
ومن هذا المنطلق، فإن الذي يمكن الجزم به هنا أن الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى منفي عن آحاد الأنبياء – عليهم السلام – فضلا عمن بلغ مرتبة الخلة، وعظيم المنزلة عند الله تعالى، كإبراهيم – عليه السلام – ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل ذلك مستحيل في حقهم – باعتبار حالهم لا باعتبار بشريتهم؛ لأنهم أنبياء، والأنبياء أعلم الناس بربهم، وما يتصف به من صفات الحسن والكمال، والتي منها صفة القدرة، فهم يعلمون أن الله تعالى متصف بكمال القدرة والإرادة، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فتصور وقوع الشك منهم باطل؛ لأنه كفر والكفر لا يجوز في حق الأنبياء – عليهم السلام، كيف وهم الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم لتبليغ رسالاته وتحكيم شرعه؟[7].
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فليس فيه إثبات للشك لإبراهيم عليه السلام، ولا اعتراف من النبي – صلى الله عليه وسلم – بوقوع الشك منه كما قد يتوهم، وإنما المراد بالحديث – كما اتفق أهل العلم – خلاف ذلك، وهو نفي الشك عن إبراهيم – عليه السلام – وعن نبينا – صلى الله عليه وسلم – إذ إن معنى الحديث، كما ذهب جمهور العلماء: أن المراد به نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، فكأنه قال: إن إبراهيم – عليه السلام – لم يشك، ولو كان الشك متطرقا إليه لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا نحن لم نشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم – عليه السلام – من باب أولى ألا يشك، قال ذلك – صلى الله عليه وسلم – على سبيل التواضع وهضم النفس.
وإلى هذا القول ذهب جمهور أهل العلم كابن قتيبة، والطحاوي، والخطابي، والحميدي، وابن عطية، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن الجوزي، والنووي، وصفي الرحمن المباركفوري، وابن عثيمين، وغيرهم[8]، ونستطيع أن نفصل بعض أقوالهم على النحو الآتي:
o قال ابن قتيبة: “قال قوم سمعوا الآية: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام ” تواضعا منه، وتقديما لإبراهيم على نفسه، يريد: إنا لم نشك ونحن دونه، فكيف يشك هو؟” [9].
o قال الخطابي: “مذهب الحديث التواضع والهضم من النفس، وليس في قوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم» اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم عليه السلام، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بأن لا يشك فيه وأن لا يرتاب”[10].
o وقال ابن الجوزي: “مخرج هذا الحديث مخرج التواضع وكسر النفس، وليس في قوله “نحن أحق بالشك” إثبات شك له ولا لإبراهيم، وإنما يتضمن نفي الشك عنهما؛ لأن قوما ظنوا في قوله تعالى: )رب أرني كيف تحيي الموتى( أنه شك، فنفى ذلك عنه، وإنما المعنى: “إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشك، فكأنه رفعه على نفسه”[11].
o وقال ابن عطية عن هذا الحديث: “معناه: أنه لو كان شك لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم – عليه السلام – أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم”[12].
o وقال ابن حزم: “أما ما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمن ظن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شك قط في قدرة ربه – عز وجل – على إحياء الموتى فقد كفر، وهذا الحديث حجة لنا، ونفي للشك عن إبراهيم، أي: لو كان هذا الكلام من إبراهيم – عليه السلام – شكا، لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم – عليه السلام – أحق بالشك، فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك، فإبراهيم – عليه السلام – أبعد من الشك.
ومن نسب إلى الخليل – عليه السلام – الشك فقد نسب إليه الكفر، ومن كفر نبيا فقد كفر، وأيضا فإن كان ذلك شكا من إبراهيم عليه السلام، وكنا نحن أحق بالشك منه، فنحن إذا شكاك جاحدون كفار، وهذا كلام نعلم – والحمد لله – بطلانه من أنفسنا، بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى، وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل”[13].
فالحديث إذن لا يثبت شكا لا لإبراهيم – عليه السلام – ولا لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – كما يتوهم الطاعنون، بل إنه – كما تبين لنا من أقوال جمهور العلماء – ينفي عنهما مظنة الشك.
سبب قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»:
إن سبب قوله – صلى الله عليه وسلم – نحن أحق بالشك من إبراهيم على ما جاء في الحديث – ما ذكره النبي – صلى الله عليه وسلم – من قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: )رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي(، وهذه الآية الكريمة وما بعدها قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، فأراد – صلى الله عليه وسلم – نفي هذا الشك عن سيدنا إبراهيم، وإبعاد الخواطر الضعيفة أن تظن هذا به عليه السلام [14].
الأدلة التي تؤكد ذلك:
o الدليل الأول: أن إبراهيم – عليه السلام – مؤمن مصدق بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى، يدل على ذلك أنه قال في محاجته للنمرود )ربي الذي يحيي ويميت( (البقرة: ٢٥٨)، وعندما سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى قال الله تعالى له: )أولم تؤمن قال بلى(، فقوله “بلى” يزيل كل لبس وينفي كل توهم في نسبة الشك إليه عليه السلام [15].
والاستفهام هنا )أولم تؤمن( للتقرير، وليس للإنكار ولا للنفي، فهو كقوله تعالى: )ألم نشرح لك صدرك (1)( (الشرح) يعني: قد شرحنا لك، فمعنى )أولم تؤمن( ألست قد آمنت، لتقرير إيمان إبراهيم عليه السلام [16].
قال ابن حزم: “وأما قوله: )رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي(، فلم يقرره ربنا – عز وجل – وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله، وتعالى الله عن ذلك، ولكن تقريرا للإيمان في قلبه، وإن لم ير كيفية إحياء الموتى، فأخبر – عليه السلام – عن نفسه أنه مؤمن مصدق”[17].
وقال ابن عطية: “إحياء الموتى إنما يثبت بالسمع، وقد كان إبراهيم أعلم به، يدلك على ذلك قوله: )ربي الذي يحيي ويميت(، فالشك يبعد على من ثبتت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا”[18].
o الدليل الثاني: أن سؤال إبراهيم – عليه السلام – إنما هو عن الكيفية لا الإمكان، كما هو صريح في قوله: )كيف تحيي الموتى(.
قال ابن عطية: “وإذا تأملت سؤاله – عليه السلام – وسائر ألفاظ الآية رأيت أنها لم تعط شكا؛ وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شيء موجود، مقرر الوجود عن السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك وكيف زيد، فإنما السؤال عن حال من أحواله، و”كيف” في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر[19].
وقال ابن جزم: “إنما أراد أن يرى الكيفية فقط، ويعتبر بذلك، وما شك إبراهيم – عليه السلام – في أن الله تعالى يحيي الموتى، وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل، والتمساح، والكسوف، وزيادة النهر، والخليفة، ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك، ولا يشك في أنه حق، لكن ليرى العجب الذي يتمثله في نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره قط”[20].
إذن فإبراهيم – عليه السلام – لم يسأل شكا أو شبهة أو ترددا، وهذا ظاهر من سؤاله؛ إذ لم يقل لله تعالى: “هل تقدر أن تحيي الموتي، أم لا تقدر” وهذا يشبه قولك لرسام كبير: دعني أنظر إليك وأنت ترسم لوحة، أو لخطاط فنان: خط أمامي لكي أرى كيف تخط مثل هذه الخطوط الجميلة.
فليس في مثل هذا الطلب أي ناحية تعجيزية، بل هو تعبير عن الافتنان بفنه الجميل، واعتراف به، ولهفة على رؤية دقائق فنه، وسعادة كبيرة في تأمل كيفية ظهور لوحة رائعة مرحلة مرحلة، أجل: فالسؤال كان حول كيفية الإحياء، وليس حول إمكانيته أو عدم إمكانيته.
وأخيرا: كيف يشك من وصفه ربه – عز وجل – في كتابه بقوله تعالى: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51)( (الأنبياء)، وقوله سبحانه: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75)( (الأنعام)، والرشد والإيقان أسمى مراتب العلم الذي لا يصح معه شك أو شبهة.
فكيف يصح الشك، وقد وصفه ربه تعالى بقوله: )وإن من شيعته لإبراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84)( (الصافات)، فبين رب العزة كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد به أنه سليما من الشك، وخالصا للمعرفة واليقين، ثم ذكر المولى – عز وجل – أنه عاب قومه على عبادة الأصنام؛ فقال تعالى عنه: )إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا آلهة دون الله تريدون (86)( (الصافات) فسمى عبادتهم إفكا وباطلا، ثم قال عز وجل: )فما ظنكم برب العالمين (87)( (الصافات)، وهذا قول عارف بالله تعالى غير شاك.
وصفوة القول: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» حجة لنا لا علينا؛ إذ فيه نفي للشك عن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وعن نفسه – صلى الله عليه وسلم – إذ المعني كما سبق أن قلنا: أن الشك مستحيل في حق إبراهيم – عليه السلام – فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم؛ لأن ما يجوز في حق واحد من الأنبياء يجوز في حقهم جميعا، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم – عليه السلام – لم يشك [21].
ثانيا. إن الحديث يدل على أن لوطا كان يأوي إلى الله تعالى دائما، الذي هو أقوى الأركان، وثناء النبي على يوسف – عليه السلام – هو من باب التواضع:
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد» فليس فيه ما يفيد نسبة الخطأ إلى لوط – عليه السلام – أو ينفي عصمته؛ إذ إنه إشارة منه – صلى الله عليه وسلم – إلى قول لوط – عليه السلام – لقومه: )قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( (هود).
والمقصود بالركن هنا: القبيلة والعشيرة، قال ابن حجر: “يقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه؛ لأنهم من سدوم، وهي من الشام، وكان أصل إبراهيم ولوطا من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطا إلى أهل سدوم، فقال: لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة، لكنت أستنصر بهم عليكم، ليدفعوا عن ضيفاني”[22].
والمتأمل في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد» يجد أن العلماء قد اختلفوا فيه على عدة أقوال، ليس من بينها نسبة الخطأ للوط – عليه السلام – أو ما يفيد إلى أنه توكل على غير الله عز وجل، ويمكن أن نستعرض هذه الأقوال على النحو الآتي:
أن المعنى: أي رحمه الله على هذا التمني الذي فرط منه في وقت الضيق والشدة، حيث سها فذكر الأسباب المحسوسة، من قومه وعشيرته، مع أنه كان يأوي إلى أشد الأركان وأقواها، وهو الله تعالى.
وإلى هذا ذهب ابن قتيبة، والبغوي، والقاضي عياض، وابن الأثير، والقرطبي، وهو ظاهر كلام الطحاوي، وجوزه النووي، ورجحه ابن حجر وغيره[23].
قال ابن قتيبة: وأما قوله: «رحم الله لوطا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد» فإنه أراد قوله لقومه: )قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80)( يريد سهوه في هذا الوقت الذي ضاق فيه صدره، واشتد جذعه بما دهمه من قومه، حتى قال: أو آوي إلى ركن شديد، وهو يأوي إلى الله تعالى أشد الأركان”[24].
ما ذهب إليه ابن حزم من أنه لا تثريب على لوط في قوله هذا، ولم يقصد النبي – صلى الله عليه وسلم – لومه عليه، وإنما أراد الإخبار بأن لوطا كان في نصر من الله بالملائكة، لكنه لم يكن يعلم ذلك.
قال – رحمه الله: “إن لوطا – عليه السلام – إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش – من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل قط لوط – عليه السلام – أنه كان يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن، فلا جناح على لوط – عليه السلام – في طلب قوة من الناس، فقد قال تعالى: )ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض( (البقرة: ٢٥١) فهذا هو الذي طلب لوط عليه السلام.
وقد طلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى، فكيف ينكر على لوط أمرا هو فعله صلى الله عليه وسلم، تالله ما أنكر ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإنما أخبر – عليه السلام – أن لوطا كان يأوي إلى ركن شديد، يعني: من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط – عليه السلام – علم بذلك، ومن ظن أن لوطا – عليه السلام – اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر؛ إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضا ظن سخيف؛ إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات – وهو دائبا يدعو إليه – هذا الظن”[25].
ما ذهب إليه ابن الجوزي من أن لوطا – عليه السلام – لم يغفل عن الله تعالى، ولم يترك التوكل عليه، لكن لما كان ظاهر كلامه قد يفهم منه نسيانه لله تعالى، أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – منا ألا نقول ما يوهم ذلك.
قال – رحمه الله: ” أما قصة لوط، فإن لوطا لم يغفل عن الله – عز وجل – ولم يترك التوكل عليه، وإنما ذكر السبب، وذكره للسبب وحده يتخايل منه السامع نسيانه لله، فأراد منه نبينا – صلى الله عليه وسلم – ألا نقول ما يوهم هذا”[26].
أن لوطا – عليه السلام – التجأ إلى الله في باطنه، وهو ما يخبر عنه الحديث، وإنما قال: )أو آوي إلى ركن شديد (80)( أمام الأضياف اعتذارا وتطييبا لنفوسهم، فقد قدر لوط في نفسه في هذه اللحظة أن أضيافه – وهو لا يعلم أنهم ملائكة – يتساءلون – ولو في أنفسهم: أما لهذا الرجل ولد أو عشيرة تدفع عنه، فقال هذا القول اعتذارا لهم بأن لا ولد له ولا عشيرة تحميه، أما في الباطن فملتجئ إلى الله تعالى[27].
وقد نقل ابن حجر عن النووي قوله: “إنه التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارا”[28].
وفي ذلك يقول الأبي المالكي: “لوط – عليه السلام – لم ينس اللجوء إلى الله تعالى في القضية، وإنما قال ذلك تطييبا لنفوس الأضياف، وإبداء العذر لهم، بحسب ما ألف في العادة من أن الدفع إنما يكون بقوة أو عشيرة، وهذا في الحقيقة محمدة وكرم أخلاق، يستحق صاحبه الحمد، فقوله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله لوطا» ثناء لا نقد، وهو جار على عرف العرب في خطابها”[29].
هذه هي أهم أقوال أهل العلم في معنى الحديث الشريف، وحاصلها أنه لا خلاف في أن لوطا – عليه السلام – لم يكن يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد، كيف وهو يركن ويأوي إليه في كل وقت وحين؟ ولذا قال ابن حزم – رحمه الله – كما تقدم: “ومن ظن أن لوطا – عليه السلام – اعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر”.
إذن لم يقل النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك لائما للوط – عليه السلام – وسائلا له الرحمة والتجاوز عن هذا الخطأ كما يتوهمون، بل قاله – صلى الله عليه وسلم – منافحا عنه، ومخبرا عن حاله، أنه كان يأوي إلى الله تعالى ويعتمد عليه، حتى لا يتوهم متوهم أن لوطا – عليه السلام – في قوله هذا قد ترك الاعتماد على الله، كما لا يلزم من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – للوط – عليه السلام – بالرحمة أن يكون قد أخطأ ونسي الله تعالى كما قد يتوهم؛ لأن ذلك يجري على سبيل المدح وبيان الفضل، كما في قوله – صلى الله عليه وسلم – لما استغضب: «يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»[30] [31].
وعليه فلا حجة لمن يزعم أن الحديث الشريف يطعن في عصمة لوط عليه السلام.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» فلا يفهم منه أي انتقاص لقدر النبي – صلى الله عليه وسلم – لو كان مكان يوسف – عليه السلام – فبادر بالخروج من السجن؛ إذ لا حرج على يوسف – عليه السلام – ولا على النبي – صلى الله عليه وسلم – لو كان مكانه وفعل ذلك؛ إذ لا إثم ولا نقص في ذلك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلا يفهم من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك أنه كان يبادر بالخروج من السجن لو كان مكان يوسف، وإنما أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا: الثناء على يوسف – عليه السلام -، وبيان فضله، وقوة صبره وحزمه، حيث إنه لما جاءه رسول الملك، آذنا له بالخروج، لم يبادر بالخروج – كما هو مقتضى الطبيعة – مع أنه مكث في السجن بضع سنين، بل قال: )ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن( (يوسف: ٥٠) قال ذلك حتى تظهر براءته، وتتبين مظلمته، فيخرج خروج من له الحجة، لا خروج من قد عفي عنه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – تواضعا منه وأدبا: «لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي».
هذا هو معنى الحديث عند أهل العلم، كابن قتيبة، والطحاوي، والخطابي والبغوي، وابن عطية، والمازري، والقاضي عياض، وابن الجوزي، والنووي، والأبي، وابن حجر، وابن عثيمين، وغيرهم[32].
قال ابن قتيبة في بيان معنى الحديث: “يعني: حين دعي للإطلاق من الحبس بعد الغم الطويل، فقال للرسول: )ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن( ولم يخرج من الحبس في وقته، يصفه بالأناة والصبر، وقال: لو كنت مكانه، ثم دعيت إلى ما دعي إليه من الخروج من الحبس، لأجبت ولم أتلبث، وهذا جنس من تواضعه، لا أنه كان عليه لو كان مكان يوسف فبادر وخرج، أو على يوسف لو خرج من الحبس مع الرسول نقص ولا إثم، وإنما أراد أنه لم يكن يستثقل محنة الله – عز وجل – له، فيبادر ويتعجل، ولكنه كان صابرا محتسبا”[33].
وقال البغوي بعد ذكره للحديث: “وصف يوسف بالأناة والصبر، حيث لم يبادر إلى الخروج حيث جاءه رسول الملك – فعل المذنب الذي يعفي عنه – مع طول لبثه في السجن، بل قال: )ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن(، أراد أن يقيم عليهم الحجة في حبسهم إياه ظلما، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك أيضا على سبيل التواضع، لا أنه كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف.
والتواضع لا يصغر كبيرا، ولا يضع رفيعا، ولا يبطل لذي حق حقا، ولكنه يوجب لصاحبه فضلا، ويكسبه جلالا وقدرا”[34].
وعليه فلا مجال للطعن في هذا الحديث الشريف بأي وجه من الوجوه بدعوى أنه يطعن في عصمة بعض النبيين عليهم السلام، بل إنه يثبت لهم العصمة؛ لأن سياقه كما رأينا من آراء جمهور العلماء سياق مدح وثناء على الأنبياء، لا سياق لوم أو تخطئة.
الخلاصة:
إن حديث «نحن أحق بالشك من إبراهيم»حديث صحيح وثابت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بل في أعلى درجات الصحة؛ فقد روي في صحيحي البخاري ومسلم، وقد اتفق علماء الأمة على قبول ما ورد فيهما، والقطع بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
إن الشك في قدرة الله على إحياء الموتى منفي عن آحاد الأنبياء، فضلا عمن بلغ مرتبة الخلة، وعظيم المنزلة عند الله تعالى؛ كإبراهيم – عليه السلام – ومحمد صلى الله عليه وسلم.
إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أي: لو كان الشك متطرقا إلى إبراهيم – عليه السلام – لكنا نحن أحق بالشك منه، فإذا كنا لا نشك في قدرة الله، فإبراهيم – عليه السلام – من باب أولى، وهذا على سبيل التواضع منه – صلى الله عليه وسلم – وهضم النفس، وفي هذا نفي للشك عن إبراهيم – عليه السلام – وعن نفسه صلى الله عليه وسلم.
لقد ذهب العلماء في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم:«ويرحم الله لوطا»إلى عدة أقوال، ولكنهم اتفقوا جميعا على أن لوطا – عليه السلام – لم يكن يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد، كما اتفقوا على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقل ذلك لائما للوط – عليه السلام – وإنما قاله منافحا عنه ومخبرا عن حاله.
إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي» هو وصف ليوسف – عليه السلام – بالأناة والصبر، فهو ثناء عليه، وهو من النبي – صلى الله عليه وسلم – على سبيل التواضع الذي لا يصغر كبيرا، ولا يضع رفيعا، ولا يبطل لذي حق حقا، بل يزيده – صلى الله عليه وسلم – جلالا وقدرا.
(*) تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: قوله عز وجل: ) ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) (، (6/ 473)، رقم (3372). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، (2/ 572)، رقم (375).
[2]. انظر: مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، عبد العزيز العتيبي، شركة غراس للنشر، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص13 وما بعدها.
[3]. معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، (1/ 92).
[4]. شرح ألفية السيوطي في الحديث، محمد بن علي بن آدم الإتيوبي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م، (1/ 41).
[5]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص239.
[6]. الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، دار المعرفة، بيروت، 1399هـ/ 1979م، (2/ 79).
[7]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص407.
[8]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص400، 401.
[9]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص91، 92.
[10]. أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعيد آل سعود، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، ط1، 1409هـ/ 1988م، (3/1545، 1546).
[11]. كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي حسن البواب، دار الوطن، الرياض، 1418هـ/ 1997م، (3/ 358).
[12]. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1400هـ، (2/ 303).
[13]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 18).
[14]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، د. عماد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص240.
[15]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص409.
[16]. تفسير القرآن الكريم، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1423هـ، (3/ 299، 300).
[17]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 18).
[18]. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1400هـ، (2/ 303).
[19]. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1400هـ، (2/ 303).
[20]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 18).
[21]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص241، 242.
[22]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 478).
[23]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص315.
[24]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص92.
[25]. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (4/ 19، 20).
[26]. كشف المشكل من حديث الصحيحين، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق: علي حسن البواب، دار الوطن، الرياض، 1418هـ/ 1997م، (3/ 358، 359).
[27]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص302، 303 بتصرف.
[28]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (6/ 479).
[29]. إكمال إكمال المعلم، محمد بن خليفة الأبي، (1/ 436)، نقلا عن: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص418.
[30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام، (6/ 503)، رقم (3405). صحيح مسلم (بشرح النووي) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، (4/ 1691)، رقم (1062).
[31]. انظر: أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص415: 422 بتصرف.
[32]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص422، 423.
[33]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص93.
[34]. شرح السنة، البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، (1/ 116، 117).
دعوى تعارض أحاديث صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم- على من مات وعليه دين
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين وقوع التعارض في أحاديث صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على من مات وعليه دين؛ إذ جاء في حديث جابر – رضي الله عنه – قال: «توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران فانصرف، فتحملها أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحق الغريم وبرئ منهما الميت؟ فقال: نعم، فصلى عليه»، وهذا الحديث يتعارض مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فهو لورثته». زاعمين أن حديث أبي هريرة لم يكن ناسخا لحديث جابر، لذا فإن الحديثين متعارضان.
وجه إبطال الشبهة:
- لقد كان فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا تعارض بين الحديثين، حيث إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من توفي وعليه دين فعلي قضاؤه» ناسخ لحديث ترك الصلاة على من مات وعليه دين.
التفصيل:
إنما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ناسخ لحديث جابر -رضي الله عنه- وليس في هذا – بحمد الله تعالى – تناقض؛ لأن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين، إذا لم يترك وفاء لدينه، كان في صدر الإسلام، قبل أن يفتح الفتوح، ويأتيه المال، وأراد ألا يستخف الناس بالدين، ولا يأخذوا ما لا يقدرون على قضائه، فلما أفاء الله – عز وجل – عليه، وفتح له الفتوح، وأتته الأموال، جعل للفقراء والذرية نصيبا في الفيء، وقضى منه دين المسلم[1].
قال العلماء: “إنما ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، والتساهل في الاستدانة”[2].
ثم يزيد الإمام ابن حجر – رحمه الله – الأمر وضوحا إذ يقول في شرحه لصحيح البخاري: “يقول العلماء كأن الذي فعله – صلى الله عليه وسلم – من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة أو جائزة؟ في هذا وجهان، قال النووي: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان دينا غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع… ثم يضيف ابن حجر قائلا: وفي صلاته – صلى الله عليه وسلم – على من عليه دين بعد أن فتح الله عليه الفتوح إشعار بأنه كان يقضيه من مال المصالح، وقيل بل كان يقضيه من خالص نفسه”[3].
ومعنى هذا الحديث: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته، من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم[4].
ولا تعارض بين حديث جابر -رضي الله عنه- الذي قال فيه:«توفي رجل فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، ثم أتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطى، ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملها أبو قتادة، فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أحق الغريم وبرئ منهما الميت، فقال: نعم، فصلى عليه»[5].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه فضلا؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»[6]؛ لأن الحكم في حديث جابر -رضي الله عنه- كان في بداية الإسلام، ثم نسخ بحديث أبي هريرة بعد أن فتح الله على المسلمين وأتتهم الخيرات، فتحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- دين من مات مدينا من المسلمين.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؛ يعني: في كل شيء؛ لأني الخليفة الأكبر الممد لكل موجود، فحكمي عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم وهذا قاله لما نزلت الآية، فمن توفي، بالبناء للمجهول؛ أي: مات من المؤمنين فترك عليه دينا فعلي قضاؤه، مما يفيء الله به من غنيمة وصدقة، وهذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين[7].
وعلى هذا فإن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه» والصلاة عليه أيضا، وعليه فلا تعارض.
قال القاضي عياض: تأول ترك الصلاة بأنه تداينه في غير مباح، وقيل فيمن تداين عالما أن ذمته لا تفي بدينه، وقيل هذا كان في بدء الإسلام، ثم نسخ حين فتحت الفتوحات وصار لكل من المسلمين حق في بيت المال وفرض لهم فيه سهم الغارمين ويدل عليه الحديث، وقيل فعله تأديبا للمدينين ليقلوا من الدين ويجتهدوا في خلاص ما تداينوا خوف أن تذهب أموال الناس[8].
قال ابن بطال: قوله: «من ترك دينا فعلي» ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقوله: “فعلي قضاؤه”؛ أي: مما يفيء الله عليه من الغنائم والصدقات[9].
كما يقول الحافظ المنذري: قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يصلي على المدين ثم نسخ ذلك[10].
فقد نسخ الرسول – صلى الله عليه وسلم – الحكم لما فتح عليه – صلى الله عليه وسلم – واتسع الحال بتحمله الديون عن الأموات، فظاهر قوله:«فعلي قضاؤه» أن يجب عليه القضاء، وهل هو من خالص ماله أو من مال مصالح محتمل[11].
قال ابن بطال: “وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله فيمن مات وعليه دين، فإن لم يفعل فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه[12]، وقد ذكر الرافعي في آخر الحديث: «قيل يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال وعلى كل إمام بعدي»[13].
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه، أنه قد ذهب جمهور العلماء إلى أن ترك الصلاة على المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك دينا فعلي قضاؤه»، كما نقله ابن حجر في الفتح عن ابن بطال، وذكره ابن قدامة في المغني، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: “قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يصلي على المدين، ثم نسخ ذلك”.
والراجح – والله أعلم – أن الحكم منسوخ، وأن ترك الصلاة عليهم [المتوفين المدينين] كان في بادئ الأمر زجرا لهم وتأديبا لخطر الدين، فلما فتح الله على عباده المسلمين تركه الرسول صلى الله عليه وسلم [14].
وقد ورد ما يدل على أن من مات من المسلمين مدينا فدينه على من إليه ولاية المسلمين بقضائه عنه من بيت مالهم، وهناك أحاديث تدل على ذلك، وفي معنى ذلك عدة أحاديث ثبتت عنه – صلى الله عليه وسلم – قالها بعد أن امتنع عن الصلاة على المدين، فلما فتح الله عليه البلاد وكثرت الأموال صلى على من مات مدينا وقضى عنه، وذلك مشعر بأن من مات مدينا استحق أن يقضي عنه دينه من بيت مال المسلمين[15].
الخلاصة:
- ليس هناك تعارض أو تناقض بين حديث جابر -رضي الله عنه- الذي فيه ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة على الميت المدين حتى يقضي دينه أو يتحمله غيره عنه وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي فيه يتحمل النبي -صلى الله عليه وسلم- الدين عن المدين ويصلي عليه، إذ ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين في صدر الإسلام قبل أن يفتح الفتوح، وأراد ألا يستخف الناس بالدين، ولا يأخذون ما لا يقدرون على قضائه؛ فلما أفاء الله – عز وجل – عليه، وفتح له الفتوح، وأتته الأموال، جعل للفقراء الذرية، نصيبا في الفيء، وقضى منه دين المسلم.
- قال غير واحد من العلماء: إن ترك النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء زجرا للناس عن المماطلة، والتساهل في الاستدانة، لكي يحرضهم هذا على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
- إن تركه – صلى الله عليه وسلم – الصلاة على الميت المدين منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم «فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه» وصلاته عليه إذا فلا تعارض بين أحاديث صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على من مات وعليه دين.
- قال ابن بطال: قوله: «من ترك دينا فعلي» ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وعلى هذا – أي: على حكم النسخ – أجمع العلماء، وذكر ذلك ابن قدامة في المغني والمنذري في الترغيب والترهيب.
- ومما يدل على ما ذهبنا إليه من النسخ ويؤكده قوله – صلى الله عليه وسلم – حينما سئل: «يا رسول الله وعلى كل إمام بعدك؟ قال: وعلى كل إمام بعدي»؛ فدل ذلك كله على أن الحديث منسوخ، مما يبطل القول بالتعارض من أساسه.
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م.
[1]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص177
[2]. الناسخ والمنسوخ من الحديث، أبو حفص عمر بن شاهين، تحقيق: د. محمد إبراهيم الحفناوي، دار الوفاء، مصر، ط2، 1428هـ/ 2007م، هامش ص314.
[3]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558) بتصرف.
[4]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (6/ 2514).
[5]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه، رقم (14576). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده حسن.
[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الكفالة، باب: الدين، (4/ 557)، رقم (2298). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفرائض، باب: من ترك مالا فلورثته، (6/ 2513)، رقم (4080).
[7]. التيسير بشرح الجامع الصغير، الإمام المناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط 3، 1408 هـ/ 1988م، ص766.
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، هامش (6/ 2514).
[9]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558).
[10]. صحيح الترغيب والترهيب، الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط5، (2/ 168).
[11] . سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، محمد بن إسماعيل الصنعاني، (5/ 204).
[12] . فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (4/ 558).
[13]. سبل السلام الموصلة إلى بلوغ المرام، الصنعاني، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1418هـ/ 1997م، (5/ 204).
[14]. فتاوى الشبكة الإسلامية، الصلاة على الميت، (2/ 2084).
[15]. فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ، (4/ 112).
دعوى تقديم العقل على السنة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين وجوب تقديم العقل على السنة، ويستدلون على ذلك بأن العقل أسبق من السنة في الوجود، زاعمين أن السنة نتاج لتفاعل العقل مع الواقع وهذا يؤكد هيمنة العقل وسيادته عليها.
مضيفين: أن الإنسان الذي يعطي السيادة للسنة يكون بهذا العمل قد ألغى سيادة عقله، وأسلم قيادته لعقل من سبقه؛ لأن السنة نتاج للعقل.
ويتساءلون: كيف يمكن للإنسان أن يعطي من سبقه في الوجود قيادة زمام أموره والتفكير عنه، لحل مشكلاته المعاصرة وتحقيق مصالحه؟!
وهم يرمون من وراء ذلك إلى الطعن في صلاحية السنة النبوية لهذا العصر.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أثبت الإسلام للعقل سيادة واستقلالا، لكنه لم يجعل هذا الاستقلال مطلقا، وإنما حدده وقيده بما يتلائم مع طبيعته غير الكاملة.
2) إن السنة ليست نتاجا لتفاعل العقل مع الواقع، وإنما هي شرع أوحي به إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – المعصوم من ربه عز وجل؛ إذ إنها ليست مقصورة على زمن محدد، وإنما هي ممتدة بامتداد الزمان، لعالمية رسالتها وخاتميتها، وكذا هيمنتها على الرسائل السابقة.
3) إن الصحابة والتابعين لم يكونوا يقدمون عقولهم وآراءهم على النقل، على الرغم من أنهم أسلم الأمة عقولا بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. قدرة العقل وسيادته ليست مطلقة:
إن للعقل منزلة كبيرة في عقيدة المسلمين، لهذا كان الخطاب الإلهي في القرآن يدعو الإنسان إلى التفكر والتأمل في خلق السماوات والأرض، فقال: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب( (آل عمران: ١٩٠)، وقال: )وفي أنفسكم أفلا تبصرون( (الذاريات: ٢١).
ولقد جاء الإسلام محررا العقل البشري من أسر الخرافة، وأساطير الجاهلية، معتقا له من منطق الآباء والأجداد، فأثبت للعقل سيادة، وجعل له منزلة ومكانة، لكنه لم يطلق له العنان, وإنما حدد الإسلام للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل؛ لأنه لا يستطيع إدراك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على الاستيعاب والإدراك، لذا أمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال الشرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب في ذلك.
وقد كانت أول معصية عصي الله بها سببها إعمال العقل في الأمر الإلهي، حينما استبد إبليس برأيه ورفض السجود لآدم، وقال: )قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين( (الأعراف: ١٢). فلما لم يدرك عقله المريض السبب، رفض الامتثال فكانت المعصية، وكانت العقوبة، لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه، كالذات الإلهية والروح والجنة ونعيمها والنار وجحيمها، وغيرها من الغيبيات التي ليست في متناول العقل ومداركه[1].
فالله – عز وجل – جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري – عز وجل – في إدراك ما كان وما يكون, وما لا يكون، ومعلومات الله لا تتناهى، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى، فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها، ومفاسدها على التفصيل؛ لأنها ناقصة[2].
فالشارع أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس؛ إذ إن العقل يقف عاجزا عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة, “ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله, وسفه رأيه في ذلك, واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه، ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات، وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرا للمعقولات وساقطة لديه بالكلية، فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا؛ لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من خلق الناس”[3].
فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل؛ لأنها ناقصة كما قلنا، فما بالنا بمصالح الدين وأمور الشرائع التي تصلح للحاضر والمستقبل؟!
ومن هنا وجب أن يقدم ما حقه التقديم – وهو السنة – ويؤخر ما حقه التأخير – وهو نظر العقل؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل, ومن قدم العقل على الشرع لزمه القدح في العقل نفسه, لأن العقل قد شهد للشرع والوحي بأنه أعلم منه, فلو قدم عليه,لكان ذلك قدحا في شهادته, وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله, بل إن من قدم العقل على الشرع لزم القدح في الشرع أيضا[4], وهذا لا يصح لا عقلا ولا نقلا.
ومما يؤكد ذلك أن الله – عز وجل – جعل المعجزات الخارقة لكل مألوف عقلي, أو علمي ليقهر بها غرور العقل وغرور العلم. وإلا فماذا يملك العقل من نجاة إبراهيم – عليه السلام – من النار التي أضرمها له أولياء الشيطان, ثم ألقوه فيها لم تمسه بسوء قط؟! وماذا يملك العقل في شأن عصا موسى – عليه السلام – في أوضاعها الثلاثة, فمرة تنقلب ثعبانا يبطل السحر, ومرة ينفلق بها البحر اثني عشر فلقا,كل فلق كالطود العظيم, ومرة يضرب بها الحجر فيتدفق منه الماء عيونا (اثنتي عشرة عينا) كالفلوق التي حدثت في الضربة الأولى؟!
وهل يستطيع العقل أن يدرك كيفية تسخير الجن والطير وجميع القوى الطبيعية, كالريح وإسالة الطاقة من الأرض, كما حدث من قدرة الله التي وهبها سليمان عليه السلام؟!
وهل يستطيع العقل أن يدرك كيفية إعادة الروح بعد مفارقتها لجسد الميت,كما أجرى الله ذلك على يد عبده ورسوله عيسى – عليه السلام – معجزة له أمام عناد بني إسرائيل وكفرهم؟!
وهل يستطيع العقل المعاصر بما أوتي من علم أن يقتلع عرشا بكل ما فيه وينقله من اليمن إلى الشام في لحظة,هي خارج نطاق الزمن,عبر آلاف الكيلو مترات دون أن يصيبه أدنى خلل في نظامه وديكوراته, كما صنع الله ذلك معجزة لنبيه سليمان عليه السلام؟!
وهل تستطيع التكنولوجيا الحديثة أن تقتلع قرية من أساسها, تعلو بها إلى طبقات الفضاء ثم تخسف بها الأرض رأسا على عقب كما صنعت القدرة الإلهية مع قوم لوط عليه السلام؟!!
فأين العقل هنا؟ وماذا يملك إلا التسليم العاجز الخذول؟
ونسأل منكري السنة – الذين يدعون تقديم العقل على السنة – هذه الوقائع المذهلة التي أيد الله بها رسله، بلا ريب تخالف العقل مخالفة صريحة، فهل أنتم مؤمنون بها؟!
إن كنتم مؤمنين بها فيلزمكم الإيمان بالأحاديث التي قصت علينا مثل ما قص القرآن، وإن أصررتم على تكذيبكم لهذه الأحاديث لزمكم أن تكذبوا القرآن؛ لأنه روى مثل ما روت هذه الأحاديث، فأنتم محجوبون من كل جهة، مقهورون أمام صولة الحق، فماذا أنتم فاعلون؟![5].
واستنادا إلى ما سبق نقول لهؤلاء: إنكم حين تعملون عقولكم في أي أمر وتقولون: هذا يجب، وهذا يستحيل، وكيف هذا، إنما هو اجتراء على الله – عز وجل – وعلى عظمته جل جلاله، واعتراض على حكمه وشرعه الحكيم، وتقديم بين يدي الله ورسوله، ومن آمن بالله تعالى وعظم حكمه وشرعه، لم يجترئ على ذلك، فلله الحجة البالغة والحكمة الكاملة، ولا معقب لحكمه، فوجب الوقوف مع قوله تعالى: )قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149)( (الأنعام). وقوله تعالى: )لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)( (الأنبياء)، وقوله تعالى: )والله يحكم لا معقب لحكمه( (الرعد: ٤١).
فكيف نجعل العقل حاكما على شرعه، ونقدمه عليه بعد كل هذا، وكيف نتصور أن الشارع الحكيم يشرع شيئا يتناقض مع العقول المحكومة بشرعه الحنيف[6]؟!
إن الإسلام قد صحح الانحرافات التي مارسها كثير من رجال الدين من أهل الكتاب، حيث زعموا أن بيدهم صكوك الغفران والحرمان، فجاء القرآن وأبطل اختصاص هؤلاء بالتحريم والتحليل، فهل تعود هذه الانحرافات مرة أخرى تحت اسم جديد هو حكم العقل؟!
إذا كان الأمر كذلك فإن عقول الأوربيين تحسن الزنا، وتراه عاديا، وليس جريمة في حق المجتمع، فهل تصبح هذه العقول حكما على سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سواء أكان الناطق بهذا الحكم مسلما أم غير مسلم؟!
إن مشاعر ملايين من البشر في روسيا قد تقبل أن يقتل السارق، ولكنها لا تقبل أن تعاقب الزوجة الزانية بأدنى العقوبات، ومشاعر دعاة الحرية الجنسية ترى أن الرجم عقوبة شنيعة بينما رجم القرى والمدن الآهلة بالسكان بوابل من القنابل في لبنان، وفلسطين، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين لا يعد أمرا شنيعا أو ماسا بمشاعر الناس، فكيف تتبع الشريعة مشاعرهم وعقولهم[7]؟!
واستنادا على ما سبق نقول:
إن تحكيم العقل في شرع الله – عز وجل – إيذان بفساد العالم، فطبائع الناس مختلفة، واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات والضروريات، فأي عقل من هذه العقول التي لا تتفق أبدا يصح أن نأخذ منه أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه، فهما وتأويلا[8]؟!
ومن أين للعقل البشري القاصر أن يأتي بشرع سليم عادل صالح لكل زمان ومكان كشرع الإسلام، وهو يتخبط في كل هذه النواقص وذاك القصور، إن العقل الذي يراد تحكيمه في الشرع هو نفسه الذي تنهار أمام حكمه هذه الترهات.
ثانيا. السنة ليست نتاجا لتفاعل العقل مع الواقع، وإنما هي شرع أوحى الله به إلى نبيه المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ لذا صلحت لكل زمان ومكان:
إن السنة وحي من الله – عز وجل – أنزلها على نبيه تماما كما أنزل القرآن، وليست – كما يدعي المغرضون – نتاجا لتفاعل العقل مع الواقع إذ لو كانت كذلك لاقتصرت أحاديثها على المرحلة التي وجد فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – فقط، وهذا ما أثبت الواقع خطأه؛ لأن السنة تناولت أحداثا خارج زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – كالفتن والملاحم، وما يستقبل من الزمان، ولو كانت نتاجا للعقل كما يزعمون لما خرجت قيد أنملة عما لا يقبله عقول الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وما علاقة العقل البشري بالأحداث التي سوف تحدث في آخر الزمان من أشراط الساعة وغيرها؟ هل كان أحد يستطيع مهما أوتي من قوة خارقة في ذكائه وإدراكه أن يتنبأ بما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد أو يخبر بأمور القبر من عذاب ونعيم وأحداث اليوم الآخر، وما أعده الله تعالى للمؤمنين في الجنة، وما أعده الله تعالى للكافرين في النار؟! وإذا كان هؤلاء المدعون لا يؤمنون بأمور الغيب فهذا أمر آخر، ومع ذلك نقول لهم: فماذا أنتم قائلون في النبوءات التي أخبر عنها المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ووقعت في التاريخ وما أكثرها؟!
وكذلك الأحاديث التي بها إشارات علمية، وقالها النبي – صلى الله عليه وسلم – في زمن لم يكن له صلة بالعلم التجريبي ولم يكتشفها العلم إلا بعد قرون وما زال العلم كل يوم يطالعنا باكتشافات كثيرة نجد أن الحديث النبوي قد سبق إليها، فكانت هذه الأحاديث بمثابة المعجزات الدالة على صدقه – صلى الله عليه وسلم – وعلى أن السنة وحي من عند الله تعالى، ما كان لمحمد – صلى الله عليه وسلم – وهو الأمي الذي نشأ في البادية أن يعرف شيئا مثل ذلك، ثم تتطاول القرون ويتقدم العلم ويثبت صدق هذه الإشارات العلمية وصحتها، وقد كثرت الدراسات العلمية والطبية حول الإعجاز العلمي في السنة المطهرة، وأثبتت أنها بالفعل ليست من كلام بشر، وإنما هي وحي من الله تعالى، وهذه الدراسات منشورة في موسوعات عظيمة لمن شاء أن يتأملها.
لذلك كانت رسالته – صلى الله عليه وسلم – خاتمة ليس بعدها رسالة إلى يوم الدين، وعامة إلى كل الأمم والأجناس بل إلى الثقلين الأنس والجن، قال سبحانه وتعالى: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا( في رسالة تعم الزمان والمكان، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة»[9].
ثم بعد ذلك أراد الحق – عز وجل – أن يثبت عمومية رسالته – صلى الله عليه وسلم – بعمومية تسخير الكون للخلق، لذا كان الحديث موجها إلى كافة الناس: )قل يا أيها الناس(، فكل من يطلق عليهم ناس فالرسول – صلى الله عليه وسلم – مرسل إليهم )إني رسول الله إليكم جميعا([10].
هذه هي الدلائل العقلية على أن السنة وحي من الله تعالى وليست نتاجا للعقل البشري وتفاعله مع الواقع، أما القرآن الكريم الذي يزعم هؤلاء المدعون أنهم يؤمنون به – وكذبوا في دعواهم؛ إذ لو كانوا يؤمنون به لما أنكروا السنة – ففيه العديد من الأدلة على أن السنة وحي من عند الله، ووجوب طاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يأمر به وينهى عنه كثيرة جدا، وقد فصلنا منها الكثير سابقا، ولكن نستأنس هنا بذكر بعضها:
قال الله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
فأعلمنا ربنا – عز وجل – أن رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن هوى وغرض في نفسه، وإنما ينطق حسبما جاء به الوحي من الله عز وجل.
وقال سبحانه وتعالى:)قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي( (الأنعام: ٥٠).
فهنا وحي منه – عز وجل – لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل لبني البشر ليس عندي خزائن الله، فلست أملكها، ولا أتصرف فيها، وإنما ذلك لله وحده، ولا أقول لكم إني ملك من الملائكة، وإنما أنا بشر، وما أتبع إلا ما يوحيه إلي ربي، لا أتبع غير ذلك ولا أتجاوزه, إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي يطول المقام بحصرها.
وبناء عليه، فالسنة النبوية وحي الله إلى رسوله، كالقرآن الكريم، وليس كما ادعى بعض المغرضين أنها نتاج لتفاعل العقل البشري مع الواقع، ولقد بلغها – صلى الله عليه وسلم – كالقرآن الكريم، وإن الأمة مكلفة بالأخذ بهما معا، والسير على نهجهما[11].
وهو – صلى الله عليه وسلم – معصوم في كل ما بلغه، فقد حفظه الله في نطقه فلا يقول إلا حقا، وحفظه في فعله فلا يفعل إلا صوابا، وصانه في إقراره فلا يقرر إلا ما وافق شرع الله تعالى، وهو في خلقه أجمل ما خلق الله، وفي خلقه أكمل مخلوق، وكل ذلك نابع من عقيدة صحيحة جمله الله – عز وجل – بها[12].
ولقد أمر الله – عز وجل – نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن يبلغ جميع ما أنزل إليه، وبين تعالى أنه إن قصر في شيء منه لم يكن مبلغا رسالته، وبين أنه تعالى قد عصمه من جميع خلقه، قال تعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس( (المائدة: ٦٧).
وبين – عز وجل – أنه قد عصمه من أن يقوم أحد بإضلاله، أو يمنعه من أداء رسالته، قال تعالى: )ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)( (النساء).
وبين – عز وجل – أيضا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو اختلق شيئا عليه لأنزل أشد العقاب به وأهلكه، قال عز وجل: )ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47)( (الحاقة).
ثم إن الله – عز وجل – مع ذلك قد شهد له بالبلاغ والصدق، وأنه مستمسك بما أمر به؛ لأنه يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، قال تعالى: )وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52)( (الشورى).
فهل لنا أن نقول بعد ذلك إن السنة النبوية نتاج لتفاعل العقل مع الواقع؟!
ثالثا. لم يكن الصحابة والتابعون يقدمون عقولهم وآراءهم على السنة:
لم يكن لأحد من الصحابة أو التابعين أن يتجرأ على سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – برأيه، بل كان أحدهم يتهم عقله على الرغم من قربه من النبي – صلى الله عليه وسلم – وتحصيله لأدوات الاجتهاد، وما ذلك إلا لأن الصحابة يعلمون تمام العلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مأمور من قبل ربه، ولا اعتراض على أمر الله، حتى وإن بدا مخالفا لما تدركه عقولهم من العلل والحكم، لأنهم يوقنون أن وراء ذلك حكمة سواء علموها أم لم يعلموها، وما حدث في صلح الحديبية ما هو إلا نوع من ذلك، فقد ورد أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – راجع النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبا بكر عن أمر الصلح، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: «الزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد»[13].
فأ بو بكر لم يعترض على أمر رسول الله، وكذلك عمر رضي الله عنهما إنما قال ذلك من قبيل الحمية والغيرة على المسلمين.
وعن سهل بن حنيف، قال: «يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولوأستطيع أن أرد أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لرددته»[14].
إنه يعترف أنه يوم صلح الحديبية، كان رأيه يختلف عما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو كان الأمر بالرأي لرد أمر رسول الله، لكنه لا يصح ذلك، فاتبع رسول الله، فاتضح أن الخير كله كان فيما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن علي بن أبي طالب قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمسح على ظاهر خفيه»[15].
فالصحابة كلهم مجمعون على اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما يأمر وينهى، وعلى عدم تقديم آراءهم على سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحينما جاء التابعون ومن تبعهم، ما كان يسعهم إلا ما وسع الصحابة من قبلهم، فلم يقدموا آراءهم وعقولهم بل اتهموها كما اتهمها الصحابة من قبل، وهذا الإمام الألباني في كتاب “صفة صلاة النبي” ذكر عدة أقوال للأئمة الكرام يتبين منها مدى تمسكهم بالحديث وتقديمه على العقل، ومن هذه الأقوال:
قال الإمام أبو حنيفة: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.
وقال أيضا: “لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذنا”.
أما الإمام مالك فقال: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة، فخذوه, وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه”.
وقال الشافعي: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو قولي”.
وقال أيضا: “كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي”.
أما الإمام أحمد فقال: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا”.
وقال أيضا: “الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، ثم هو من بعد التابعين مخير”.
وقال محذرا من رد الحديث: “من رد حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو على شفا هلكة”[16].
تلك هي أقوال الأئمة – رضي الله عنهم – في الأمر بالتمسك بالحديث، والنهي عن الأخذ بالرأي دون بصيرة.
إن السلف – رضي الله عنهم – جوزوا إعمال الفكر والعقل فيما يؤدي إلى إظهار الحديث والعمل بمقتضى النقل والرد على المخالفين للكتاب والسنة، ولم يجوزوا أن يكون النقل مطية للعقل، بحيث يوجه الإنسان آيات القرآن وأدلة السنة في غير مسارها الذي نزلت من أجله، كما فعل أصحاب المدرسة العقلية[17].
فالصحابة الكرام والسلف من بعدهم كان حسبهم أن يعوا نصوص الوحي، وأن يفهموها، وأن يستنبطوا دينهم منها، بحيث تكون نصوص الوحي من كتاب وسنة هي المصدر لكل أمر يتصل بالدين، إنهم لم يخرجوا عن هذه الدائرة، وإنما داروا فيها بكل فهم عميق، واستنباط دقيق.
وكيف يقدمون العقل على السنة وقد حذرهم من الرأي الذي لا يعتمد على الكتاب والسنة، وبين أن من تعبد الناس برأيه، فقد ضل وأضل، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون»[18].
إن هؤلاء المغرضين يتمرغون في الجهل حينما يعتمدون على رأيهم في الفتوى؛ إذ لا يعبد الله برأي مخلوق، وإنما يعبد بما أوحى إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – هذا الوحي الذي لا يفهمه إلا العلماء، الذين يفتون وفق النص لا برأيهم. ومن هنا أثر عن كثير من السلف ذم الرأي والتحذير منه.
وخلاصة القول: أن الدين يؤخذ من الكتاب والسنة، نصا أو استنباطا، ولا دخل للرأي فيه، وعلى المسلم أن يمتثل لنصوص الكتاب والسنة دون مغالاة، أو تشدد، ودون تقعر في المسائل، أو افتراض ما لم يقع؛ ليعرف دليل كل أمر من أمور دينه.
والمسلم موقن أن الخير كله فيما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – قرآنا وسنة؛ لأنه المنهج السوي، والهدي القويم، وليس هناك ما هو أحسن، ولا ما هو مماثل لهذا الهدي، هذه عقيدة المسلم، فلا يقدم الرأي على النص ولا يقدم ثقافة ولا سلوكا، ولا فكرا على ما جاء به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن رب العزة – عز وجل – وإنما هو معظم لنصوص الكتاب والسنة، متمثل لكل ما فيهما، وكفى[19].
وهذا هو ما كان عليه سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – فنحن لم نتبع السلف الصالح، بناء على اتباعهم لعقولهم، وإنما الأمر أننا اتبعنا السلف الصالح بناء على اتباعهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على أن السنة النبوية وحي من عند الله تعالى أنها جاءت صالحة لكل زمان ومكان لعالميتها وخاتميتها وهيمنتها؛ إذ إننا لم نتخلف في ذيل الأمم إلا عندما تركنا العمل بسنة محمد – صلى الله عليه وسلم – لأن كل الشرائع التي جاء بها الإسلام قرآنا وسنة أثبت البحث النزيه المجرد أنها الأصلح للبشرية في كل زمان ومكان[20]، فقد جاء القرآن الكريم منهجا شاملا جامعا، لكل نواحي الحياة، كما قال عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩).
وجاءت السنة النبوية أيضا بمنهج يسير في إطار منهج القرآن؛ لأنها مبينة وشارحة له، فإن منهج السنة يتميز بالشمول لحياة الإنسان كلها، وهو منهج يتميز كذلك بالتوازن، فهو يوازن بين الروح والجسد، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة، وبين المثال والواقع، وبين النظر والعمل، وبين الغيب والشهادة، وبين الحرية والمسئولية، وبين الفردية والجماعية، وبين الاتباع والابتداع[21].
ولا شك أن منهجا كهذا لمنهج دائم دوام الحياة البشرية، عام لجميع عناصرها.
وعموم رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – زمانيا ومكانيا ثابت بالنص القرآني، قال عز وجل: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا( (الأعراف: ١٥٨). وقال تعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
وهكذا يبين القرآن أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو خاتم الرسل، وبعثته للناس كافة، وللزمن كله إلى أن تقوم الساعة، وقد جاء الرسل السابقون عليه لمدة زمنية محددة، ولقوم بعينهم، أما رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – فجاءت رحمة للعالمين جميعا؛ لذلك لا بد أن تتسع لكل أقضية الحياة التي تعاصرها أنت، والتي يعاصرها خلفك، وإلى يوم القيامة[22].
فكيف تكون رسالته – صلى الله عليه وسلم – عامة لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة، ثم تكون السنة – الشق الثاني من الوحي – نتاجا لتفاعل العقل مع الواقع؟!
الخلاصة:
إن الإسلام اعترف للعقل بالسيادة والمكانة, لكنه لم يجعل له السيادة المطلقة, إنما قيده بالشرع, وذلك لعجز العقل عن إدراك بعض الأشياء الخارجة عن طاقته, كالمعجزات التي اختص بها الأنبياء, آية بينة ودلالة واضحة على صدق رسالتهم, فهذه أشياء لا يستطيع العقل أن يتوصل إليها مهما بلغ من العلم والتقدم والرقي, وكذلك الروح التي اختص الله بها نفسه, والغيبيات الخارجة عن إدراكنا, كالجن والملائكة.
إن تفاوت العقول والأفهام واختلاف إدراكها يوجب على الإنسان أن يرد كل شيء إلى ما لا يقع الخطأ من جانبه, وهو الشرع الموحى به من قبل الله – عز وجل – لأن الإنسان بفكره وعقله القاصر لا يستطيع أن يشرع شرعا – مهما بلغ من العبقرية والذكاء – يتماشى مع كل الناس, وقد ظهر ذلك في القوانين الوضعية الحديثة, حيث لم تلب حاجات البشرية جميعا فظهر النقص والعجز.
ليست السنة النبوية نتاجا لتفاعل العقل مع الواقع؛ لأنها وحي من الله – عز وجل – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فالقرآن الكريم قد أخبرنا في آيات كثيرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوتي القرآن ومثله معه, والمقصود به السنة النبوية.
إن الإعجاز الغيبي والعلمي في السنة النبوية، وصلاحية السنة لكل زمان ومكان – يؤكدان على أنها وحي من الله تعالى.
إن آثار الصحابة والتابعين من بعدهم تدل على أنهم كانوا يقدمون السنة على آرائهم وعقولهم, وهذا يظهر واضحا جليا في بعض المواقف التي عاصروها مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانوا يرون أن الخير في غيرها, وظهر لهم أن الخير فيها، ومن آراء تابعيهم بعد ذلك – رحمهم الله.
بما أن السنة النبوية جزء من الوحي الإلهي, فإنها صالحة لكل زمان ومكان, مهما امتد بها الزمان, بما توافرت لها من سمات ومواصفات تؤهلها للعالمية والشمول والامتداد, وعليه فإنها تتكيف مع أي طارقة أو نازلة.
(*) تحرير العقل من النقل, سامر إسلامبولي، مطبعة الأوائل، دمشق، 2001م. السنة المفترى عليها, سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط4، 1413هـ/1992م. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام “مناقشاتها والرد عليها”, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م.
[1]. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء, حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م، ص157.
[2]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 249، 250) بتصرف.
[3]. مقدمة ابن خلدون, ابن خلدون، دار القلم، بيروت، ط6، 1406هـ/ 1986م, ص459، 460.
[4]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 250) بتصرف.
[5]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص150: 152 بتصرف.
[6]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 252) بتصرف.
[7]. السنة المفترى عليها, سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط4، 1413هـ/1992م، ص362، 363 بتصرف.
[8]. تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل, عبد الرازق عفيفي، بحث في مجلة التوحيد المصرية، عدد (4), نقلا عن: مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي, حمدي عبد الله، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2006م، ص179.
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المساجد، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا…”، (1/ 634)، رقم (438). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، (3/ 1083)، رقم (1143).
[10]. تفسير الشعراوي, محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1991م، (7/ 4385، 4386) بتصرف.
[11]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص47: 49 بتصرف.
[12]. السنة النبوية “مكانتها,عوامل بقائها، تدوينها”, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار النصر، القاهرة، 1989م، ص12 بتصرف.
[13]. حسـن: أخرجـه أحمـد في مسنـده، مسنـد الكوفييـن، مسنـد المسـور بـن مخرمـة، رقـم (18930). وحسنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يذكر من ذم الرأي, (13/ 296)، رقم (7308).
[15]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الطهارة، باب: كيفية المسح, (1/ 192)، رقم (162). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (147).
[16]. انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1417هـ/ 1996م، ص46: 53.
[17]. مصادر التشريع ومنهج الاستدلال والتلقي, د. حمدي عبد الله، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2006م، ص178.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، (13/ 295)، رقم (7307).
[19]. المدخل إلى السنة النبوية, عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص259: 263 بتصرف.
[20]. انظر ـ مثلا ـ كتاب: المنصفون للإسلام في الغرب، رجب البنا، دار المعارف، القاهرة، 2005م.
[21]. كيف نتعامل مع السنة النبوية, د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، مصر، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص26, 27 بتصرف.
[22]. تفسير الشعرواي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1991م، (16/ 9674، 9675) بتصرف.
حادثة الكسوف في المدينة النبوية من الحسابات الفلكية
متى وقع الكسوف في الحسابات الفلكية
وهذه صورة من أحد البرامج المتخصصة في رصد وقوعات الكسوف:
توافق الروايات التاريخية مع الحسابات
فائدة: هذا الحديث من دلائل النبوة
وهذا الحديث هو من الدلائل العظيمة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
لكن الموقف كان موقف نبي مرسل من عند الله.. لا يتوهم ولا يستغل الظروف.
اللهم صل وسلم على نبيك وحبيبك محمد.
الزعم أن الدين مكتمل بالقرآن دون السنة(*)
مضمون الشبهة:
يدعي منكرو السنة أن القرآن وحده يكفي المسلمين في كل ما يحتاجون إليه، ولا حاجة لهم في السنة، ويعتبرونها زيادة في الدين وليست منه، ومن ثم يرون أن السنة لا تعتمد كمصدر ثان في التشريع الإسلامي؛ إذ إن الدين قد اكتمل بالقرآن وحده دون السنة، ويستدلون على ذلك بالآتي:
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع.
قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم((المائدة: ٣)، وأن هذه الآية نزلت في أواخر حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يكن للسنة وجود يومها – حسب زعمهم – فقد جمعت بعد ذلك، ولو كان الدين وكماله متوقفا عليها، لما نزلت هذه الآية.
أن القرآن الكريم جاء بكل شيء قال عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء((الأنعام: ٣٨)، وقال عز وجل:)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51)( (العنكبوت), وأن القرآن كما جاء بكل شيء فقد بين كذلك كل أمر من أموره وفصله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر يفصله قال عز وجل:)ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩).
ويتساءلون: إذا كان القرآن جاء بكل شيء ولم يترك شيئا إلا بينه وفصله على أكمل وجه، فما الحاجة إذن إلى السنة؟ رامين من وراء ذلك كله إلى إنكار حجية السنة والطعن في كونها المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، بغية التحلل من هذا المصدر العظيم وترك العمل بها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد تواترت آيات القرآن الصريحة في الدعوة إلى التمسك بالسنة والحض على الاعتصام بها، وأكد النبي – صلى الله عليه وسلم – في كثير من أحاديثه أن الهدي في اتباع سنته، فأمر بالأخذ بها وحذر من مخالفتها، فكيف يدعون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع؟!
2) السنة النبوية كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت هي الطريقة العملية والتطبيق المجسد لتعاليم الدين، وقد بثها صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاته خشية التأثم بكتمان العلم، كما أن عدم كتابتها لا يعني عدم وجودها؛ إذ لا يلزم من نفي الكتابة نفي المكتوب، هذا فضلا عن أن الكتابة ليست من لوازم الحجية، لا سيما وقد حل محلها ما هو أقوى منها، وهو الحفظ الواعي عند الصحابة بعد التلقي المباشر من النبي صلى الله عليه وسلم.
3) إن القرآن لم يتضمن تفصيلا لكل أمور الشريعة كالعبادات من صلاة وصيام وحج… إلخ، وإنما جاء مجملا لكل شيء، وترك التفصيل للسنة النبوية. أليس هذا دليلا قاطعا على وجوب وجود السنة وصدورها عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كمصدر ثان للتشريع؟!
4) الآيات التي استشهدوا بها لا تنفي حجية السنة، بل تؤكدها:
فالدين في قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم((المائدة: ٣) المقصود به القرآن والسنة؛ إذ هما الوحي الذي بني عليه الدين، وليس المقصود به القرآن فقط، والدليل على ذلك أن الوحي القرآني لم يتوقف عند هذه الآية، وإنما نزلت بعدها آيات أخر تتضمن تشريعات ذات أهمية كآية الربا، ولو افترضنا أن الآية آخر ما نزل وأن معنى الدين هو القرآن فليس في ذلك نفي لحجية السنة بل هي دليل آكد على حجيتها؛ إذ هي بيان للقرآن ولا كمال للدين بدون بيان.
المراد بـ “الكتاب” في قوله عز وجل:: )ما فرطنا في الكتاب من شيء((الأنعام: ٣٨) هو اللوح المحفوظ الذي أحصى الله فيه كل شيء من أمور خلقه, وليس المراد به القرآن الكريم، وإذا سلمنا بأن المقصود به القرآن الكريم؛ فإن المعنى أنه يحوي كل أمور الدين، إما بالنص الصريح، وإما ببيان السنة له.
إن استدلالهم بقوله عز وجل::)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب((العنكبوت: ٥١) استدلال خاطئ؛ وذلك لأن المخاطبين هنا هم المشركون حينما قالوا: لو أن الله أنزل على محمد آيات من عنده، فرد الله عليهم بأن كتابه هذا معجزة كافية لهم في التصديق برسالته، ولا علاقة لها بأن القرآن كفاية للمؤمنين في كل شيء دون السنة كما زعموا.
قوله عز وجل:)ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء((النحل: ٨٩) تعني أن القرآن قد نزل مبينا لكل شيء من أمور الدين في شكل قواعد كلية مجملة، أما تفاصيل تلك القواعد وما أشكل منها فالبيان فيها قد أوكل إلى السنة النبوية, ولذلك أمر الله نبيه أن يبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عن طريق قوله أو فعله أو تقريره، ومن ثم يتعذر الانتفاع بالقرآن دون السنة؟
التفصيل:
أولا. القرآن والسنة أوجبا العمل بما جاءت به السنة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – حذر من مخالفتها:
إن الله – سبحانه وتعالى – أنزل القرآن الكريم هداية بينة، ومعجزة لرسوله – صلى الله عليه وسلم – باهرة باقية، ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له كما قال عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤), فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك..
فالقرآن الكريم هو الأصل الأول للدين والسنة هي الأصل الثاني، ولقد اختص الله تعالى هذه الأمة الإسلامية بحفظ دينها وصيانتها له، وتعهد به سبحانه، فحفظت هذه الأمة كتاب الله المنزل إليها، فتلقته بأمانة وثقة وتواتر، وذبت الكذب والخلل عن الحديث النبوي بما وضعته من قوانين للرواية هي أصح وأدق طريق علمي في نقل الروايات واختبارها.
ولقد كانت عناية الأمة الإسلامية برواية الحديث النبوي وحفظه تهدف إلى صيانة هذا التراث العظيم من التحريف والتبديل فيه؛ فحاز حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – من الوقاية والمحافظة ما لم يكن – قط – لحديث نبي من الأنبياء، فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الأمور كلها؛ العظيمة واليسيرة، بل في الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، فنقلوا تفاصيل أحواله – صلى الله عليه وسلم – في طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وقيامه وقعوده، حتى ليشعر من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه – صلى الله عليه وسلم – إلا روته ونقلته[1].
إذا كانت عناية المسلمين بالسنة والعمل بها معلومة من الدين والتاريخ والحضارة والتراث الإسلامي بالضرورة، ولا يجهل ذلك جاهل – فإن الإنسان بعد ذلك لتأخذه الدهشة والعجب ويحار لبه في أفهام وعقول منكري السنة، كيف يطعنون في حجيتها؟! وبأي عقل وعلى أي منطق اعتمدوا في قبولهم القرآن دون السنة؟! أليس الذي أخبرنا بالقرآن هو صاحب السنة، الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى؟! أليس رواة القرآن هم رواة السنة من خير القرون وخيرة الأجيال؟! القائمين بالحق والمقيمين بالعدل من الصحابة – المشهود لهم بالثناء الحسن في التوراة والإنجيل والقرآن – والتابعين بإحسان إلى يوم الدين؟!
فلماذا يقبل منكرو السنة رواية الصحابة والتابعين للقرآن ولم يقبلوها في السنة، أليسوا هم الذين استرعاهم الله على الكتاب فكانوا أمناء وشهداء بالقسط في حفظه وصيانته وروايته، فلم وثقوا في جانب وطعنوا في آخر؟! أليست الطريق التي وصلنا القرآن والسنة منها طريقا واحدا؟!
ألم يكن منهجهم في الحفظ والتثبت والرواية واحدا، وإن اختلف في جعل الصدارة والأولوية للمصدر الأول للدين وهو القرآن، إلا أنه لم يهمل المصدر الثاني وهو السنة. إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في أخص خصوصيات هذه الأمة وهو الإسناد الذي ميز الله به أمة الإسلام وألهمها إياه – ولم يكن في أمة من قبل – لحفظ كتابه وسنة نبيه، إنهم يريدون للأمة الإسلامية أن تكون كالذين من قبلهم، حيث طال عليهم الأمد؛ فقست قلوبهم ونبذوا دينهم وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون، وما كان ضلال الأمم السابقة وتحريفهم لكتبهم إلا لفقدهم ما حبانا الله به من حفظ الإسناد، فهل المقصود أن نكون مثل الذين من قبلنا فنترك ونهدم شطر الدين؛ فنضل ونحرف ونغير ونبدل كل ما ليس له تفصيل في القرآن.
إن الذين يطعنون في السنة يكذبون القرآن؛ لأن الله تعهد بحفظ الكتاب والسنة، قال تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وصدق وعده فقيض للقرآن رجالا حفظوه وذبوا عنه، كما قيض للسنة رجالا حفظوها وذبوا عنها.
إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في القرآن ويكذبونه ويخالفون أوامره؛ لأن القرآن أمر باتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وطاعته ونهى عن مخالفته وعصيان أمره، وحث على التمسك بالسنة والاعتصام بها، فكيف يدعون أنهم يؤمنون به وهم يخالفونه؟!
القرآن الكريم يفرض علينا طاعة الرسول والأخذ بسنته:
لقد أمرنا الله – عز وجل – باتباع نبيه – صلى الله عليه وسلم – وحثنا على الاقتداء به، والعمل بسنته، وحذرنا من مخالفته, وجاءت آيات القرآن في ذلك صريحة واضحة، ويمكن تصنيفها إلى:
آيات تأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم.
آيات تأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
آيات تحذر من مخالفته صلى الله عليه وسلم.
آيات تبين قدره صلى الله عليه وسلم.
o أما الآيات التي تأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم: فمنها قوله عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)( (آل عمران).
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن قوما على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا محمد إنا نحب ربنا، فأنزل الله عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)( (آل عمران)[2]، فجعل اتباع نبيه – صلى الله عليه وسلم – سببا لحب الله، وجعل العقاب لمن خالفه.
أما الآيات التي تأمر بطاعته – صلى الله عليه وسلم – فمنها قوله عز وجل: )وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13)( (النساء).
فجعل ربنا – عز وجل – طاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – طاعة له سبحانه؛ وذلك لأنه – صلى الله عليه وسلم – مبلغ عن الله، وما جاء به إنما هو من رضوان الله، وفي ذلك إعلاء لكل ما جاءنا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإعلاء لقدر طاعته وأنها طاعة لله، وأن سنته من دين الله، على المسلم أن يلتزم بها، وأن يطيع أوامر القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن ينتهي بنواهيهما، والله تعالى يقول: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
حيث يؤدب الله – عز وجل – الأمة كلها، ويعلمها أن تسمع وتطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفرد الضمير في قوله )ليحكم(؛ لأنه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله عز وجل.
هذا، وإن كان سياق الآية على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم هذا الأدب، وأنه يجب على المؤمنين أن يقبلوا حكمه – صلى الله عليه وسلم – ويمتثلوا أمره، وهم بذلك المفلحون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، دون من عداهم ممن لم يمتثلوا أمره[3].
o أما الآيات التي تحذر من مخالفته – صلى الله عليه وسلم – فإنها جاءت لتبين أن من خالفه – صلى الله عليه وسلم – فقد ضل ضلالا مبينا، ومصيره جهنم خالدا فيها، وله عذاب مهين, منها: قوله عز وجل: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)( (الأحزاب).
والمعنى: أنه لا يصح أن يكون للمؤمن اختيار فيما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعلى كل المؤمنين أن يطيعوا أمر الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بالامتثال، لا سيما وقد عطف قضاء رسول الله على قضاء الله؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – مبلغ عن الله عز وجل، فطاعته طاعة لله عز وجل.
وحذر ربنا سبحانه المؤمنين من معصيته، ومن معصية رسوله مبينا أن هذه المعصية ضلال بين وانحراف عن سواء السبيل.
ومن هذا المنطلق حرص السلف على هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – فها هو طاوس بن كيسان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: اتركهما، قال: إنما نهى عنهما أن يتخذا سنة. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد نهى عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله تعالى يقول: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( (الأحزاب: ٣٦)[4].
ومن الآيات التي تحذر من مخالفة الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله عز وجل: )إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا (15) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا (16)( (المزمل)، واتساقا مع ما أسلفنا نجد أن القرآن الكريم يؤكد على وجوب العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، بدليل هذه الآية التي أبانت أن فرعون إنما عذب لمخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه فكل من عصى رسوله المبعوث إليه من قبل رب العزة فلينتظر الأخذ الوبيل في الدنيا والآخرة.
o أما الآيات التي تعظم قدره صلى الله عليه وسلم: فمنها قوله عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، و “العالمين” اسم لما سوى الله عز وجل، جمع عالم فيشمل جميع المخلوقات، فهو – صلى الله عليه وسلم – رحمة لكل الخلائق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما هو رحمة للمؤمنين والكافرين إذا عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة[5].
وقال عز وجل: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة).
ولا شك أن هذه الآيات وأمثالها – وهي كثيرة في كتاب الله – تأخذ بأيدي المؤمنين إلى الاقتداء به – صلى الله عليه وسلم – والحرص على كل ما هو من سنته وطريقته، فهو الذي اصطفاه الله لدينه، وأنزل عليه وحيه، وأسرى به وأراه من آياته، ووفقه وشرفه، وأعلاه وكرمه.
وقد اتبعه السلف اتباعا صادقا، فاقتدوا به، في كل أمر، واهتدوا به في كل حال، وهكذا يجب على كل مسلم أن يتبع سنته في كل مكان وزمان، وفي كل حلال وحرام[6].
ومما تجدر الإشارة إليه أن القارئ المتدبر للقرآن الكريم، يجد أن القرآن في دعوته إلى التمسك بالسنة، وأمر المؤمنين بذلك قد اتخذ ثلاث صور[7]:
الصورة الأولى: فتتمثل في طاعة الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – في آن واحد، وهذا مستمد من مثل قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20)( (الأنفال).
وكقوله عز وجل:)فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (1)( (الأنفال).
الصورة الثانية: فتتمثل في طاعة الله – عز وجل – وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مثل قوله عز وجل: )وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12)( (التغابن).
الصورة الثالثة: فتظهر في الطاعة مستقلة للرسول – صلى الله عليه وسلم – في مسائل ترك فيها الحق – سبحانه وتعالى – لرسوله مهمتي البلاغ والبيان؛ إذ لم يرد لها بلاغ في القرآن الكريم، وأوضح دليل على الأمر باتباع السنة، والسمع والطاعة لكل ما صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ورد في سورة الحشر في قوله عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7)( (الحشر).
فالآية تؤكد على عقوبة الاكتفاء بالقرآن، وتحذر من شدة العقاب يوم القيامة، ثم إن هناك آيات في القرآن خارج هذه الصور الثلاث تنص على أن طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من طاعة الله في مثل قوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)( (النساء).
كما تنص أخرى على نفي الإيمان، عمن لم يحكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يقوله ويقضي به، ومثالها قوله عز وجل: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء).
ومعلوم أن هذا الذي قضى به – صلى الله عليه وسلم – لم يكن تنفيذا لآية موجودة في القرآن، وإنما كان بحكم من عنده هو صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أعلن القرآن أن الإنسان لا يعد – أيا كان – مؤمنا بالله إلا إن قبل حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخضع له، ثم لم يجد أي حرج تجاهه[8].
والله أمرنا عند التنازع أن نرجع إلى القرآن والسنة في قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء)[9].
قال “ابن القيم” تعليقا على هذه الآية: “فأمر الله – عز وجل – بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا، سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة[10].
ومن ثم فالآية تدل دلالة واضحة على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم الذي يمثل المصدر الأول له، ولا يمكن لدين الله أن يكتمل، ولا لشريعته أن تتم إلا بالأخذ بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – جنبا إلى جنب مع القرآن الكريم.
وبعد.. فماذا يصنع منكر السنة بهذه الحجج القرآنية التي إن قبلها رجع إلى السنة فبطل قوله، وإن لم يرجع، خالف القرآن بزعمه أن الدين اكتمل به دون السنة.
النبي – صلى الله عليه وسلم – يأمر باتباع السنة ويحذر من مخالفتها:
أما زعمهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يصرح بأن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، فهذا أوهى من أن يعتبر، وهل عموا عن الأحاديث المتعددة التي تأمر باتباع السنة وتوجب ذلك وتؤثم من يخالفها، بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – يصرح بأنه أعطي السنة وحيا كما أعطي القرآن تماما، فقد روى المقداد بن معديكرب أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه…»[11].
فقوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت الكتاب ومثله معه» معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى وأوتي مثله من البيان، أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرع ما ليس في الكتاب له ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن [12].
وفي هذا الحديث النبوي معجزة نبوية ودلالة قاطعة على حجية السنة، فإنه إضافة إلى تحقيق نبوءة النبي – صلى الله عليه وسلم – بظهور هذه الشرذمة من منكري السنة – وهذه معجزة دالة على حجية السنة وليس بعد ذلك برهان – إلا أن الأقوى إعجازا من ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصفهم بصفاتهم التي نراها فيهم أمامنا وذلك بقوله: “يوشك رجل شبعان على أريكته”، ولفظ “رجل شبعان” كناية عن البلادة وسوء الفهم الناشئ عن الشبع أو عن الحماقة اللازمة للتنعم والغرور، وقوله: “على أريكته” أي: سريره، وأراد بهذه الصفة: أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه… [13]، نعم لا تجد واحدا منهم له شيخ في العلم وكلهم جهلة بالدين وعلومه؛ لذا فإننا نوضح أن النصوص النبوية في هذا المجال كانت على اتجاهين: الأمر باتباع السنة، والتحذير من مخالفتها.
أما الاتجاه الأول فيتمثل في:
أمره – صلى الله عليه وسلم – باتباع سنته، وقد تعددت صيغ هذا الأمر، وتنوعت أساليبه:
منها ما ورد عن العرباض بن سارية قال: «قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم، فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقيل: يا رسول الله، وعظتنا موعظة مودع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، وسترون من بعدي اختلافا شديدا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة»[14].
ولقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث في صحيحه بعنوان “باب: وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم “، وقال عقب إيراد هذا الحديث في صحيحه: قال أبو حاتم في قوله صلى الله عليه وسلم «فعليكم بسنتي» – عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته – بيان واضح أن من واظب على السنن، وقال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء” هو “من الفرقة الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنه”[15].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، فإن لفظ «فعليكم» اسم فعل أمر معناه “الزموا” أي: الزموا سنتي واعملوا بها واحرصوا عليها ثم أكد ذلك – صلى الله عليه وسلم – فقال: “فتمسكوا بهذا” أي: لا تحيدوا عنها، ولا ينبغي أن يصرفكم عنها صارف، ولا يصح أن تقبلوا أي بديل لها، لا من شرق ولا من غرب.
ثم أكد – صلى الله عليه وسلم – ثانية فقال: «عضوا عليها بالنواجذ»، والنواجذ: الأضراس التي في آخر الفك، والعض: كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها.
ومع هذه التأكيدات حذر – صلى الله عليه وسلم – من غيرها فقال: «إياكم ومحدثات الأمور»؛ أي: الأمور التي يبتدعها بعض الناس ولا دليل لها من القرآن ولا من السنة، هذه المبتدعات إياكم أن تعملوا بها، «وإياكم»: أسلوب تحذير، أي احذروا محدثات الأمور. وتدعيما لهذا الأمر يقول الإمام الجنيد: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول – صلى الله عليه وسلم – واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه”.[16] وواضح من كل ما تقدم أنه – صلى الله عليه وسلم – يأمرنا باتباع سنته، والشواهد على ذلك من السنة كثيرة وفيما ذكر كفاية.
أما الاتجاه الثاني فيتمثل في التحذير من مخالفتها:
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[17].
والشاهد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن رغب عن سنتي فليس مني»، وفعل «رغب» يحدد معناه حرف الجر الذي بعده، “فرغب عن كذا” معناه أعرض عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم «فليس مني»؛ أي ليس على ملتي؛ لأن الإعراض عن السنة كفر.
وبهذا يتضح أن الله – عز وجل – قد أوحى لنبيه بالقرآن والسنة، وما دامت السنة وحيا، فإنه لا بد من العمل بها، ونبذ كلام أهل البدع الذين يدعون إلى بدعة الاكتفاء بالقرآن وترك السنة، وهو – صلى الله عليه وسلم – يحذر من هذا، فإن سنته البيان الصادق للقرآن.
ثانيا. وجود السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
السنة النبوية وحي مثل القرآن انقطع بموته صلى الله عليه وسلم، فكيف يدعون عدم وجودها في عهده صلى الله عليه وسلم:
إن من أغرب الفرى التي ما كان يتصور أن تصدر عن إنسان يحترم عقله – أن يدعي منكرو السنة أنها لم تكن موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يزعمون أنها وجدت بعد ذلك بقرون… والحق أننا أمام دعاوى متهافتة تنقض نفسها بنفسها؛ فلسنا ندري كيف تكون السنة غير موجودة في حياة صاحبها ثم تكون موجودة بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم – بقرون؟! هل يقصدون أن الأمة قد اخترعتها من تلقاء نفسها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم يقصدون أنها لم تكن مدونة في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم جمعت ودونت بعد ذلك؟
فإذا كانوا يقصدون الأول، فقد تم الرد على ذلك باستفاضة وبينا زيف الدعاوى التي تتهم الأمة بالتواطؤ على الكذب والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلنا جهود الأمة في حفظ السنة في مواضعه، وإن كانوا يقصدون الاحتمال الثاني فإننا كذلك قد عالجنا كل ما يتصل بقضايا كتابة السنة وتدوينها وتوثيقها، وفندنا كل المزاعم التي تغرض إلى الطعن في السنة من ناحية التدوين بالأدلة العقلية والتاريخية والواقعية في مواضعه أيضا.
ومع هذا فإننا نشير في إيجاز إلى بطلان ذلك الزعم الذي لا دليل عليه، بل الأدلة على خلافه؛ إذ لا ينكر وجود السنة في عهده – صلى الله عليه وسلم – أو حتى بعد وفاته إلا جاهل أو مكابر، فالأصل في حياة الصحابة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن بعده هو العمل بالسنة: أولا لأمر القرآن المتكرر باتباع السنة واقتفاء أثره – صلى الله عليه وسلم – والتحذير من مخالفته وعصيانه، وقد بينا ذلك منذ قليل، وثانيا لأن السنة كانت الطريقة العملية والتطبيق المجسد لتعاليم الدين منذ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك حظيت السنة النبوية من العناية والحفظ والتمحيص والدرس بذات القدر الذي حظي به القرآن الكريم، فقد عاش – صلى الله عليه وسلم – بضعا وعشرين سنة يبلغ عن ربه عز وجل، فكانت كل أقواله وأفعاله وحركاته وأحواله وصفاته وتقريراته، وأسفاره وغزواته محل ملاحظة أصحابه وحفظهم وعنايتهم ودرسهم، وفوق ذلك كله العمل بها وتطبيقها بحيث صارت لهم منهج حياة، لا سيما وحبهم له فاق الوصف فقد فدوه بأرواحهم وأموالهم وأهليهم، إضافة إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الشخص الوحيد الذي لا تنطوي حياته على أسرار أو خفايا يجب أن لا يطلع عليها الناس أو أن لا يعرفوها، فهو – صلى الله عليه وسلم – لم يحجر على واحدة من أزواجه أو واحد من أصحابه أن ينقل عنه ما يرى أو يسمع، ولهذا رويت تفاصيل حياته حتى في أخص الأمور.
ولم تكن عناية الصحابة بسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – بدافع حبهم له والاستجابة لأمر القرآن بطاعته أو لأنه معلمهم ومرشدهم والمبين لهم عن الله مراده فقط، وإنما أيضا لأن السنة وحي مثل القرآن لقوله عز وجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) إلا أن القرآن وحي متلو، متعبد بتلاوته، لا يجوز روايته بالمعنى، معجز بلفظه ومعناه، بينما السنة وحي غير متلو، منزلة بالمعنى واللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم [18]، يقول العلامة ابن حزم: “لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووجدناه – عز وجل – يقول فيه واصفا رسوله: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) فصح لنا بذلك أن الوحي من الله – عز وجل – إلى رسوله على قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام، ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله – عز وجل – مراده منا، قال عز وجل: )لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤)، ووجدناه – سبحانه وتعالى – قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن دونما تفريق، فقال عز وجل: )وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (المائدة: ٩٢)”[19].
أما عن مظاهر وجود السنة في حياته – صلى الله عليه وسلم – فهي أكثر من أن تحصى ولكن نذكر منها بعض الصور:
حرص الصحابة على تعلم العلم والعمل جميعا:
لقد كان الصحابة يتعلمون من النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن الكريم، يقتصرون منه على آيات معدودات، يتفهمون معناها، ويتعلمون فقهها، ويطبقونه على أنفسهم، ثم يحفظون غيرها، وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السلمي: “حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقترئون من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل”[20].
ومعنى هذا أن أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – كان همهم الأكبر أن يتلقوا العلم النظري متمثلا في القرآن الكريم مشفوعا به التطبيق العملي من الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أن أقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتوجيهاته وأفعاله إنما هي بمثابة التطبيق والتنفيذ لآيات وأحكام القرآن الكريم، فكان أصحابه – رضي الله عنهم – يحرصون على تلقي الأمرين جميعا.
ومذهب الصحابة – رضي الله عنهم – في طلب العلم والعمل هذا قد أمرهم الله – عز وجل – به في كتابه العزيز، فقال: )وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم( (التوبة: ١٢٢).
أي: إذا نفر المسلمون إلى الجهاد فلتبق طائفة منهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا وعلموه. وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة[21]، فهذه الآية تقتضي أن أقوال وأفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – تحفظ عنه وتبلغ إلى غيرهم.
وكذلك قال الله – عز وجل – في موضع آخر: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة( (آل عمران: ١٦٤)، والحكمة هي السنة. فهل بعد هذا يقال: إن السنة لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أرشد الله الصحابة إلى تعلمها وتبليغها للناس.
مفارقة الأهل والوطن من أجل سماع الحديث من النبي – صلى الله عليه وسلم – وتلقي العلم عنه:
لقد كان الصحابة – رضي الله عنهم – يقيمون عند النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم يعودون بعد ذلك إلى أهليهم وذويهم يعلمونهم ما تعلموه ويفقهونهم بما فقهوه. فعن مالك بن الحويرث قال: «أتينا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا – أو قد اشتقنا – سألنا عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه. قال: “ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم – وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها – وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم»[22].
هكذا يأمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقيموا عند أهليهم؛ ليعلموهم ما تعلموه، ولينقلوا إليهم ما شاهدوه من أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وعبادته، وأن تكون صلواتهم كصلاته صلى الله عليه وسلم.
التناوب في طلب العلم وسماع الحديث:
لقد كان لأصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ما يشغلهم – كغيرهم – من الأعمال والمهن والتجارات، بحثا عن القوت الحلال لهم ولمن يعولونهم من الأهل والولد، وعلى الرغم من ذلك كان حرصهم شديدا على حضور مجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لسماع حديثه، فكان الواحد منهم يتناوب مع صاحبه في حضور مجلس الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيبلغه ما فاته ليحفظه وليعمل به!
فعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية ابن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك…» الحديث[23].
تجشم المتاعب والمشاق في سبيل سماع الحديث وجمعه:
يدل على ذلك ماذكره الخطيب البغدادي من حديث عكرمة عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: “لما قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اليوم كثير. قال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من فيهم؟ قال: فترك ذاك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب، فيخرج، فيقول: “يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: “أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث قال: فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني، فيقول: “هذا الفتى كان أعقل مني”[24].
إن هذا الموقف من ابن عباس رضي الله عنهما ليرسم لنا صورة دقيقة عما كان يتجشمه أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – من المتاعب والمشاق في جمع حديث نبيهم وسماعه وتحريره.
بل لقد كان الصحابي – منهم – يقطع المسافات الطويلة ليسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن حكم شرعي، ثم يرجع إلى أهله لا يلوي على شيء.
فعن عقبة بن الحارث: «أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟ ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره. أي: ذهب من مكة إلى المدينة طلبا للعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[25].
الحرص على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد بلغ من حرص الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – على حديث نبيهم – صلى الله عليه وسلم – أن كانوا يتدارسونه ويتذاكرونه فيما بينهم؛ وذلك ليحفظوه ويفقهوه، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: “كنا نكون عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه”[26].
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه»[27].
لم يكن يمنعهم الحياء عن سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومراجعته:
لم يمنع الحياء الصحابة من أن يسألوا الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن أخص أمورهم وأكثرها سرية، حرصا منهم على العلم والفقه في الدين، فعن قيس بن طلق بن علي عن أبيه قال: «جاء رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل مس ذكره في الصلاة، قال: وهل هو إلا مضغة منك أو بضعة منك»[28].
إن حرص الأصحاب الكرام على العلم دفعهم إلى السؤال؛ لا فرق بين القريب للرسول – صلى الله عليه وسلم – الملازم له وبين الأعرابي البعيد عنه، كلهم يريد الحق، ومعرفة الصواب من المعلم صلى الله عليه وسلم.
وإذا حدث واستحى أحدهم أن يسأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن شيء ما – كلف غيره عبء السؤال، فعن محمد بن الحنفية قال: «قال علي: كنت رجلا مذاء[29]، فاستحييت أن أسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: فيه الوضوء»[30].
وسبب استحياء سيدنا علي بينه لنا الإمام البخاري – في رواية أخرى للحديث[31] – أنه لمكان ابنته فاطمة وأنها زوج علي – رضي الله عنهما، مما يجعلنا نقول إن سبب حيائه هو أدبه ووقاره رضي الله عنه.
ولا يتوقف الأمر عند الرجال، بل إن النساء – ومن طبعهن الحياء – لم يكن يمنعهن الحياء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليتفقهن في الدين!! فعن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يارسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة – تعني وجهها – وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟! قال: نعم تربت يمينك، ففيم يشبهها ولدها»[32].
بل حرص نساء الصحابة أن يسألن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أخص من ذلك، لم يمنعهن الحياء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: كنت عند رفاعة. فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب[33]، فتبسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»[34].
وهكذا كانت سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأساس هي التطبيق العملي لأصحابه في حياته، وهي كما لاحظنا إما تفسير وبيان للقرآن أو أحكام مستقلة لم ترد في القرآن.
وبذلك يتضح أن السنة كانت موجودة في حياته – صلى الله عليه وسلم – وكانت متداولة بين الناس والعمل جار عليها في كل شئون الحياة[35].
أما زعمهم أن السنة جمعت بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بقرون فهذا إن سلمنا به جدلا وهو غير صحيح[36] لا يقوم حجة على نفي وجود السنة في عهده صلى الله عليه وسلم، بل هو دليل على وجودها محفوظة في الصدور؛ لأنهم يقيمونها ويطبقونها على أنفسهم ويتدارسونها ليل نهار، إضافة إلى أن العرب كانوا أمة أمية، من يجهل الكتابة فيهم أضعاف أضعاف من يعلمها، ومن ثم قوت عندهم ملكة الحفظ، وتوقدت قرائحهم، واشتدت قواهم التذكرية نظرا لتعويلهم على هذه الوسيلة دون غيرها.
ومعلوم عقلا أن صيانة الحجة تحصل بعدالة حاملها، ومدى قدرته على المحافظة عليها، وصيانتها من التبديل والخطأ.
ومعلوم أيضا أن التحمل يكون إما عن طريق حفظ اللفظ، أو كتابته، أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه، دون لبس ولا إبهام.
وأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة، ما دامت صفة العدالة متحققة، وإذا انتفت العدالة انتفت الصيانة، ومن ثم فالكتابة ليست من لوازم الحجية – إذ كان المهم في المحافظة على حجية السنة عدالة الحامل لها – على أي وجه كان حملها – كما سلف.
وكانت وسيلة الحفظ عند العرب أقوى؛ لأن جهلهم بالكتابة، جعلهم يتكئون على الحفظ، عكس الأمم المتمرنة على الكتابة المتعلمة لها, فتضعف فيهم ملكة الحفظ، ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه.
وهذه الحال مشاهدة فيما بيننا، فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من البصير؛ لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف البصير فإنه يعتمد على الكتاب، وأنه سينظر فيه عند الحاجة.
فإذا كان هذا حال العرب في جاهليتهم، فما بالك بحال الصحابة الذين قيضهم الله لحفظ الشرع وصيانته، وحمله وتبليغه لمن بعدهم، وما كانوا عليه من الحفظ، والتثبت والتيقظ لكل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم فنقول للمنكرين: إذا سلمنا جدلا بما قلتم من تأخر الكتابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم – مع أن القول بذلك خطأ بين – فإنه قد حل محلها ما هو أقوى منها ضبطا، وأعظم فائدة وأجدى نفعا، ألا وهو الحفظ، ذلك أن لا يكون – أي الحفظ – إلا مع الفهم وإدراك المعنى والتحقق منه، ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه، واستذكاره آنا بعد آن، حتى يأمن من زواله.
ثم إن المحفوظ يكون مع الحافظ في صدره في أي وقت، وفي أي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند الحاجة، ولا يكلفه ذلك الحمل مؤنة ولا مشقة, خلافا للكتابة، فإنها ربما تكون بدون فهم المعنى عاجلا وآجلا، أو سببا لعدم الفهم في الحال اعتمادا على ما سوف يفهم فيما بعد, وقد تضيع الفرصة عليه في المستقبل لضياع المكتوب، ثم إن الكاتب لا يجد في الغالب باعثا يدعوه إلى مراجعة ماكتبه إلا أهل العلم المشتغلين بتدريسه ومراجعته، ثم إنه يجد مشقة ومؤنة في حمل المكتوب معه في كل وقت ومكان[37].
وبذلك يتبين بما لا يدع مجالا للشك أن الدليل الذي استدل به المنكرون على فرضية صحته – واه ضعيف غاية الضعف ولا يقوم دليلا على شيء.
ثالثا. بيان السنة للقرآن وتفصيلها لمجمله، ودورها التشريعي:
لقد جاء القرآن الكريم بالأصول العامة، ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات، ولم يفرع عليها إلا بالقدر الذي يتفق مع تلك الأصول، ويكون ثابتا بثبوتها لا يعتريه تغير أو تطور باختلاف الأعراف والبيئات ومرور الأزمان؛ لأنه الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد اشتمل على العقائد والشرائع، وعلى الآداب والأخلاق فكان تبيانا لكل شيء.
وجاءت السنة توافق الكتاب الكريم في أصوله، وتتعرض للتفصيلات والجزئيات، فتفسر المبهم، وتفصل المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العام، كما أتت السنة كذلك بأحكام لم يرد في القرآن نص عليها.
وذلك أن “السنة إما أن تكون بيانا للكتاب أو زيادة عليه، فإن كانت بيانا فهي في الاعتبار بالمرتبة الثانية عن المبين؛ فإن النص الأصلي أساس والتفسير بناء عليه، وإن كانت زيادة فهي غير معتبرة (في تأسيسها للأحكام واستقلالها بها) إلا بعد التأكد من أنها لا توجد في الكتاب وذلك على تقدم اعتبار الكتاب”[38].
وعطفا على ما فات فإن الله – عز وجل – قد أوكل إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – مهمة بيان ما في القرآن الكريم، وذلك في قوله عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)( (النحل)، وقوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله( (النساء: ١٠٥).
ومن هنا نستطيع القول: إن علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة هي علاقة البيان، وهذا البيان له أنواع متعددة، يمكن حصرها في ثلاثة أقسام هي:
أن تأتي السنة مؤكدة لما جاء في القرآن ومثبتة له.
أن تأتي السنة مبينة لما في القرآن الكريم، ويأتي هذا البيان على أربعة أنواع[39]:
تفصيل المجمل.
تقييد المطلق.
تخصيص العام.
توضيح الـمشكل.
أن تستقل السنة بتأسيس الأحكام من غير أن يسبق لها ذكر في القرآن الكريم.
أما القسم الأول فهو: تأكيد السنة للقرآن الكريم وذلك أن تأتي السنة مؤكدة لما ذكره القرآن الكريم كما في قوله عز وجل: )وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (102)( (هود), فنجد تأكيد السنة لهذا المعنى فيما روي عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله – عز وجل – ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»[40].
والأمثلة على تأكيد السنة الشريفة للقرآن الكريم كثيرة جدا فمنها ما يتعلق بالعبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ومنهما ما يتعلق بالجنايات، والحدود في الإسلام، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق، وميراث… إلخ.
واتساقا مع ما أسلفنا فهذا النوع من البيان النبوي، وهو التأكيد، يشمل كل جوانب التشريع القرآني.
أما القسم الثاني فيتمثل في: بيان السنة لما جاء في القرآن الكريم.. ولهذا البيان أنواع منها:
تفصيل المجمل:
بمعنى أن يأتي الشيء في القرآن الكريم مجملا موجزا لا نستطيع أن نفهم المراد منه إلا بعد تفصيله، فتتولى السنة ذلك التفصيل[41].
ومن ذلك مثلا ما ورد في القرآن الكريم عن الصلاة، وهي ركن الإسلام الأول بعد الشهادتين، وبها يتحدد الفرق بين المؤمنين وغيرهم، فماذا جاء عن الصلاة في القرآن الكريم؟ لقد جاء الحديث عنها مجملا، في قوله عز وجل: )إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)( (النساء)، وكذلك قوله عز وجل: )وأقيموا الصلاة( (النور: ٥٦)، وقوله: )والذين هم على صلواتهم يحافظون (9)( (المؤمنون).
إن هذه الآيات توضح أن الله تعالى قد أوجب الصلاة على المؤمنين من غير أن يبين لنا أوقاتها وفرائضها وعدد ركعاتها، وأركانها، وشروطها، وغير ذلك مما يتعلق بالصلاة.
وعلى هذا جاءت السنة الشريفة، وفصلت ذلك المجمل، وعلمت الناس الصلاة، وكل ما يتعلق بتفصيلاتها في قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[42]. ولولا السنة لما عرفنا كيف نصلي.
وما قلناه عن الصلاة نقوله عن سائر العبادات من زكاة، وصيام، وحج، فقد جاء ذكر ذلك مجملا في القرآن الكريم، وتولت السنة المطهرة تفصيله وبيان المراد منه.
وروى الخطيب البغدادي: “أن عمران بن حصين – رضي الله عنه – كان جالسا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له: ادنه – أي اقترب مني – فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيها صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا، والمغرب ثلاثا، تقرأ في اثنتين؟! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة؟! ثم قال: أي قوم – أي: يا قوم – خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن”[43].
وبناء على ذلك، كيف تكون حياة الناس مستقيمة لو لم يأت تفصيل كل ذلك في السنة المطهرة؟!
وبالنظر إلى هذا النوع من أنواع بيان السنة للقرآن نجد أنه يؤكد في جلاء ووضوح أن القرآن يحتاج إلى السنة الشريفة، كما يثبت في يقين أنه لولا السنة لضاع القرآن – أي: بعد فهمه – وهذا ما يرمي إليه أعداؤنا حين يشككون في السنة الشريفة، فما بالنا ببقية الأنواع التي سيتوالى ذكرها؟!
تقييد المطلق:
وذلك بأن يأتي الشيء مطلقا في القرآن الكريم، وتقيده السنة مثل قوله عز وجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).
وعلى هذا نجد أن الآية الكريمة لم تقيد قطع اليد بوضع محدد؛ لأن اليد تطلق على الأصابع، والكف، والرسغ، والساعد، والمرفق، والعضد. ولكن السنة الشريفة بينت ذلك وقيدت القطع بمقدار الكف فقط من اليد الواحدة[44]. فلولا السنة لما استطعنا إقامة الحد على وجهه الصحيح.
تخصيص العام:
وذلك بأن يأتي اللفظ عاما فتأتي السنة الشريفة وتبين أن هذا العموم ليس مرادا، بل المراد بعض أفراده فقط، ويكون ذلك تخصيصا من السنة لما ورد عاما في القرآن الكريم مثل قوله عز وجل: )يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين( (النساء: ١١).
وهذا عام يثبت في كل أب وأم موروثين، ويثبت أيضا في كل ابن وارث، فجاءت السنة فخصصت المورث بغير الأنبياء، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركنا صدقة»[45]. وخصصت السنة الوارث أيضا بغير القاتل، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس للقاتل شيء…»[46], كما خصصت السنة الاثنين معا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»[47].
فكان معنى الآية بعد التخصيص هو أن كل موروث من أب وأم يرثه أبناؤه، إلا أن يكون المورث نبيا، فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلا لأصله المورث فإنه – في هذه الحالة – لا يرثه، وإلا أن يختلف الدين بين المورث والوارث، فإنه لا توارث عند اختلاف الدين.
توضيح المشكل:
وذلك بأن تكون هناك بعض الألفاظ في القرآن الكريم مشكلة لا نفهم معناها، فتوضحها لنا السنة الشريفة، مثل ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب، عذب. قالت، قلت: أليس يقول الله تعالى: )فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8)( (الانشقاق)، قال: ذلك العرض»[48]، وفي رواية: «إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب»[49].
ليس معنى ذلك أن كل عام في القرآن يحتاج إلى تخصيص، وأن كل مطلق يحتاج إلى تقييد، وأن كل مجمل يحتاج إلى تفصيل؛ فإن كثيرا من عام القرآن باق على عمومه؛ لأن عمومه مراد، وكثيرا من إطلاق القرآن باق على إطلاقه؛ لأن إطلاقه مراد وهكذا في المجمل، وإنما المراد أن يحتاج إلى شيء من ذلك – فقط – هو الذي يتولى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بيانه بواحد من أنواع البيان[50].
أما القسم الثالث فيتجلى في: أن السنة تستقل بتأسيس الأحكام:
لا ينكر منصف ولا عاقل أن أحكام الشريعة حوت كثيرا من الأحكام التي دليلها المباشر هو السنة، أما القرآن فسكت عنها تفصيلا وإن لم تخل “كلياته” من الإيماء إليها إجمالا، وهذه هي عقيدة السلف والخلف، وإن جحد الجاحدون، أو نكب عن الصراط القويم الناكبون.
ومن الأحكام التي استقلت بها السنة: زكاة الفطر، وما يتعلق بها من أحكام؛ إذ لم يكن لها دليل إيجاب إلا ما ورد في السنة.
وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها في عصمة زوج واحد في وقت واحد، على الرغم من أنه لم يرد في القرآن الكريم إلا تحريم هذا الجمع بين الأختين فحسب.
أضافت السنة إلى ما حرم الله في القرآن من الميتة، ولحم الخنزير، والدم المسفوح… إلخ – تحريم أكل كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وأكل لحوم الحمر الأهلية، وهذه لم يرد تحريمها في القرآن منصوصا عليها مفصلا.
واستقلت السنة بتقرير الشفعة للجار، وكونه أحق من غيره بما جاوره من مملوكات عقارية لجاره إذا زهد فيها وعرضها للبيع، ولا نجد في القرآن إلا الأمر بالترغيب في الإحسان إلى الجار.
وما ذكر إنما هو غيض من فيض الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين استقلت السنة فيها بالتشريع.
واتساقا مع ما أسلفنا فإن معنى استقلال السنة بالتشريع، أنها كانت دليل الحكم وأمارته، لا أن الرسول هو المشرع من غير إذن الله، فصاحب التشريع هو الله، سواء أكان دليل الحكم هو القرآن أم الحديث النبوي.
وبعد هذا البيان الشافي الكافي يحق لنا أن نقول: إن المشتبهين خابت مساعيهم في تعطيل السنة وإلغاء مكانتها التشريعية في الإسلام[51].
رابعا. الآيات التي استدلوا بها لا تنفي حجية السنة بل تؤكدها:
كلمة “الدين” في قوله تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم((المائدة: ٣) تشمل القرآن والسنة؛ بدليل أن هذه الآية ليست آخر ما نزل:
ذكر جماعة من العلماء[52]: أن المراد بكلمة “الدين” في قوله: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣) أركانه الخمسة الرئيسة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وقد أشار إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «بني الإسلام على خمس…»[53] وذكر الأركان الخمسة.
ومعلوم أن القرآن الكريم قد أثبت حجية هذه الأركان الخمسة إجمالا، وتولت السنة بيان أحكامها التفصيلية، وإكمال الدين يقتضي إكمال البيان، والاقتصار على القرآن دون السنة يوجب بقاء الدين ناقصا غير مكتمل، وهذا محال شرعا وعقلا، ومن ثم صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة يندرج تحت مسمى الدين، وبدون السنة لم يكن الدين كافيا لهدي الأمة في عباداتها ومعاملاتها وسياساتها، في سائر عصورها بحسب ما تدعو إليه حاجتها، لا سيما وقد اقتصر القرآن على الأمور الكلية، والقواعد العامة من ضروريات وحاجيات وتحسينات ومكمل كل واحد منها.
قال الطاهر ابن عاشور: والدين: ما كلف الله به الأمة من مجموع العقائد والأعمال والشرائع والنظم. فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج – بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا( (النحل: ٨٩)، وقوله: )لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤)، بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا لهدي الأمة في عبادتها ومعاملتها وسياستها في سائر عصورها بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون. ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جماعتهم، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها؛ إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكن رسوخه، حتى استكملت جماعة المسلمين كل شئون الجوامع الكبرى، وصاروا أمة كأكمل ما تكون أمة، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ. وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصا، ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة، فلما توفرت كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية… ثم نقل عن الشاطبي قوله: القرآن مع اختصاره جامع، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣). وأنت تعلم: أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم تبين جميع أحكامها في القرآن، إنما بينتها السنة، وكذلك العاديات من العقود والحدود وغيرها، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها… وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧)»[54] [55].
وقد قيل: إن المراد بإكمال الدين في قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣)، أي: بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله، كما نقول: قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك، قال الشيخ ابن عاشور: “ثم لـما فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين، وغلب الإسلام على بلاد العرب، تمكن الدين وخدمته القوة فأصبح مرهوبا بأسه، ومنع المشركين من الحج بعد عام، فحج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام عشرة وليس معه غير المسلمين، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين: بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه وذلك تبين واضحا يوم الحج الذي نزلت فيه هذه الآية.
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه؛ لأن الدين في كل يوم من وقت البعثة هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما، فمن كان من المسلمين آخذا بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسك بالإسلام، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين”[56].
ولقد نص جمهور المفسرين على أن المراد بالآية معظم الفرائض، والتحليل والتحريم، لا سيما وأن الآية نزلت يوم الحج الأكبر، وهم بالموقف عشية عرفة، فجاءت في معرض الامتنان على المسلمين بأن وفقهم الله – عز وجل – للحج – الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره – فحجوا, فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه، وقياما بفرائضه التي بين النبي – صلى الله عليه وسلم – تفاصيلها.
وتنكب القرآن ذكرها، وأوكلها إلى السنة – كما تقدم – وقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الصحيح: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»[57]؛ أي: لتأخذوا عني مناسككم.
من الأدلة التي تدحض دعاوى منكري السنة، في استشهادهم بقوله عز وجل:: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣) على كمال الدين بالقرآن فقط دون السنة – أنهم قد ظنوا أن هذه الآية هي آخر ما نزل من القرآن، وهم يفضحون أنفسهم من حيث لا يدرون؛ إذ لا يبينون إلا عن جهلهم بالقرآن الذي يزعمون الإيمان به، فضلا عن جهلهم المركب بالسنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي.
نقول إن هذه الآية ليست آخر ما نزل من القرآن، فالوحي القرآني لم يتوقف عند هذه الآية؛ وإنما نزلت بعد هذه الآية آيات أخرى تتضمن تشريعات ذات خطر كالربا[58] والكلالة وغيرهما، فكيف يدعي أعداء السنة اكتمال الإسلام بالقرآن – فقط دون السنة ويستشهدون بهذه الآية – ولما يكتمل القرآن بعد بها؟!
وجاء في تفسير القرطبي: “وقال الجمهور: المراد – أي بالآية – معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج؛ إذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة[59].
وقال ابن عاشور: “ولا يصح أن يكون المراد من الدين القرآن؛ لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة وآية الكلالة التي في آخر النساء على القول بأنها آخر آية نزلت، وسورة )إذا جاء نصر الله والفتح (1)( (النصر) كذلك، وقد عاش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد نزول آية: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣) نحوا من تسعين يوما يوحى إليه[60].
قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية: “وجملة القول أن الله تعالى أكمل الدين بالقرآن وببيان النبي – صلى الله عليه وسلم – للناس فيه، فما صح من بيانه لا يعدل عنه إلى غيره، وما بعد سنته نور يهتدى به في فهم أحكامه”[61].
وبناء على ذلك يتضح أنه لا دليل لمنكري السنة في إنكارهم لحجيتها وأن الآية التي استدلوا بها، وهي قوله عز وجل:: )اليوم أكملت لكم دينكم( (المائدة: ٣) تعني كمال معظم الدين بالقرآن والسنة وليس القرآن فقط؛ إذ إنها لم تكن آخر ما نزل من القرآن كما توهموا، فالإسلام قرآن وسنة ولا يكتمل بأحدهما دون الآخر.
المراد بالكتاب في قوله عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء((الأنعام: ٣٨) اللوح المحفوظ وليس القرآن الكريم:
لقد فهم هؤلاء المنكرون للسنة المطهرة خطأ أن المراد من الكتاب في هذه الآية الكريمة هو القرآن الكريم, ولكن المتأمل في أقوال المفسرين والعلماء في تفسيرهم لهذه الآية الكريمة, وكذلك المتأمل في سياق الآيات – ابتداء ونهاية – يجد أن المراد بالكتاب هنا “اللوح المحفوظ” الذي حوى كل شيء, واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها, جليلها ودقيقها ,ماضيها وحاضرها ومستقبلها, على التفصيل التام كما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: “سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»[62].
وهذا هو المناسب لصدر الآية, يقول عز وجل: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم( (الأنعام: ٣٨), والمثلية في الآيات ترشح هذا المعنى؛ لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها للبشر, وإنما الذي حوى كل شيء للطير والبشر, وتضمن ابتداء ونهاية للجميع هو اللوح المحفوظ, يقول الحافظ ابن كثير: “أي الجميع علمهم عند الله عز وجل, ولا ينسى واحدا من جميعها, من رزقه وتدبيره سواء كان بريا أو بحريا,كقوله عز وجل: )وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)( (هود). أي: مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها”[63].
وعلى هذا الأساس فهم أن المراد من قوله عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: ٣٨), هو القرآن، وذلك فهم غير دقيق, ويأباه السياق العام للآية وربطها بما قبلها[64].
قال الشيخ ابن عاشور: “وجملة )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38) معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته… وقيل: الكتاب القرآن، وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير”[65].
حتى لو سلمنا لهم جدلا أن المقصود بالكتاب هنا هو القرآن الكريم؛ فإن المعنى أن ما تركنا شيئا من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب كما قال عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩).
وقد قال – عز وجل – طالبا من رسوله الكريم أن يبين للناس ما نزل إليهم من القرآن فقال: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: ٤٤). وهذا التبيين يكون من خلال سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال – عز وجل – أيضا:)وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧) [66] وبناء على ذلك، فعلى تقدير أن الكتاب في هذه الآية هو القرآن، فالمعنى أنه يحتوي على كل أمور الدين إما بالنص الصريح، وإما ببيان السنة له، وقد أرسل الله رسوله ليبين للناس أحكام دينهم وأوجب عليهم اتباعه، وكان بيانه للأحكام بيانا للقرآن، ومن هنا جاءت أحكام الشريعة من كتاب، وسنة، وإجماع، وقياس، أحكاما من كتاب الله، إما نصا وإما دلالة، فلا منافاة بين حجية السنة وبيان القرآن لكل شيء[67].
هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فإننا لو نظرنا إلى المراد من كلمة “شيء” نجد أنه ليس المراد منها في الآية كل الأحكام التي يحتاج إليها المجتمع في وجوده المستمر، وإنما المراد منها الأحكام الرئيسة العليا، التي تحدد القواعد والضوابط التي تأخذ سمة الطابع الدستوري، باعتباره معالم للطريق الفاضل الذي يقيس عليه – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه أحكام الحوادث التي تتولد من العلاقات بين الناس في حركة نشاطهم[68].
وعلى هذا فلا بأس في أن يكون الكتاب هو القرآن، وأن يكون القرآن حاويا – دون تفريط – كل القواعد الكبرى التي تنظم حياة الناس، وتكون السنة هي الموضحة لهذه المعالم, وبذلك تنسجم هذه الآية مع غيرها من الآيات الأخرى التي تؤكد أهمية السنة في بيان ما في الكتاب من القواعد التي تحتاج إلى تخصيص أو تقييد، أو توضيح، مثل قوله عز وجل:)وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: 44).
وعليه, فسواء كان المقصود بالكتاب في قوله عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38), اللوح المحفوظ أم القرآن الكريم, فلا مجال للاستدلال بهذه الآية الكريمة في نفي حجية السنة, أو الاستغناء بالقرآن عنها كما يزعم الزاعمون.
إن آية )أولم يكفهم(تقول للكفار: ألم يكفكم القرآن الكريم الذي هو أعظم من كل معجزة للتصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد استدل هؤلاء المنكرون بقوله عز وجل:)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب( (العنكبوت: 51), واعتبروا أن هذا دليل على أن في القرآن غناء للمؤمنين عن أي شيء آخر حتى ولو كان السنة، وهذا فهم خاطئ لهذه الآية الكريمة.
وزيادة في البيان نذكر الآية التي قبلها، وهي قوله عز وجل: )وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50)( (العنكبوت), فالقرآن هنا يحكي قول المشركين الذين يصرون على الاستكبار، ويقولون: لو أن الله أنزل على محمد آيات من عنده؟ وقالوا هذا الكلام، وكان قد نزل قدر عظيم من القرآن سورا وآيات، وأسمعهم النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا القرآن، وكرره على مسامعهم مرات، وراعهم بيانه، وأعجزتهم بلاغته، وهم قد وصفوه بالسحر في شدة تأثيره على القلوب والعقول والمشاعر.
إنهم وصفوه بالشعر، وللشعر في دولتهم دولة، وفي حياتهم حياة، وهو صناعتهم التي عرفوا بها، ولم تكن لهم صناعة غيرها، لقد جردوا القرآن من دلالته الإعجازية وهم بها مقرون، واعتبروه كأن لم يكن، واعتبروا محمدا – صلى الله عليه وسلم – رسولا أو مدعي رسالة بلا معجزات، فأنزل الله – عز وجل – قوله: )أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم( (العنكبوت: 51). أي: ألم يكن القرآن معجزة كافية لهم في التصديق برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم قد تأكدوا من سموه فوق كلام أعقل العقلاء، وأفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء من الخلق أجمعين[69].
جاء في التحرير والتنوير: “والاستفهام تعجبي إنكاري، والمعنى: وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن، فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم “[70].
وبعد هذا التوضيح لمعنى هذه الآية يتضح لنا أنهم اقتلعوا الآية من سياقها، وحرفوا معناها عامدين؛ ليؤيدوا رأيهم، وتحريف المعاني بلي أعناق النصوص ليس غريبا عليهم, بل هو ديدنهم. وبهذا يتضح أنه لا حجة لمنكري السنة في استدلالهم بهذه الآية بعد بيان معناها الحقيقي؛ لأنها لا تدل – كما زعموا – على أن القرآن وحده فيه كفاية للمسلمين في دينهم عن أي شيء آخر حتى ولو كان السنة النبوية.
قوله تعالى: )تبيانا لكل شيء((النحل: 89)، فيه الأمر بالرجوع إلى السنة التي تكمل هذا البيان:
إذا نظرنا إلى أقوال المفسرين في قوله عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: ٨٩). فإننا نجد ابن مسعود يقول فيها: “قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء”، وقال الأوزاعي: )تبيانا لكل شيء( أي: “السنة”، ولا تعارض بين القولين، فابن مسعود يقصد العلم الإجمالي الشامل لا التفصيل، والأوزاعي يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالي[71].
أما معنى “الكتاب” في قوله السالف، فهو القرآن والسنة معا، يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: “إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك، فإن كتاب الله كما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد، سواء كان هذا الفرض والحكم مسطورا في القرآن أم لا.
كما قال الله عز وجل: )كتاب الله عليكم( (النساء: ٢٤)؛ أي حكمه وفرضه عليكم، وكل ما جاء في القرآن من قوله عز وجل: )كتب عليكم( (البقرة: ١٧٨) فمعناه: فرض وحكم به عليكم، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن[72].
وعليه, فإن القرآن الكريم قد حوى الكثير من أمور الدين وأمر باتباع السنة, واتباع الإجماع, والاعتماد على القياس عند الحاجة, فأصبح متضمنا لعلومه, وعلوم السنة والإجماع والقياس؛ لأنه لما أمر باتباع هذه الأشياء كان العمل بها عملا بالقرآن الكريم, فبهذا أصبح تبيانا لكل شيء.
ونتساءل: إذا أمكن أن يكتفى بالقرآن وأن تنحى السنة جانبا، فما بال الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن كثير من أمور الإسلام؟ كالذي أرسل امرأته إلى بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تسأل عن تقبيل الرجل زوجته وهو صائم؟ وأكثر من ذلك لماذا سأل الصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن معاني القرآن نفسه؟ فسألوه حينما نزلت: )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)( (الأنعام) قائلين: أينا لا يظلم نفسه؟ فاهمين أن المقصود بالظلم في الآية مطلق الظلم, فبين لهم – صلى الله عليه وسلم – أن الظلم في الآية المراد به الشرك؛ مستدلا بآية أخرى من الكتاب العزيز وهي قوله عز وجل:)وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13)( (لقمان).
إن تساؤلات الصحابة هذه دليل على أن البيان موكول إليه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جاء الأمر بطاعته والتحذير من مخالفته[73].
ومن ثم فإن مسألة الاكتفاء بالقرآن دون السنة المطهرة أمر غير وارد؛ لأنها تعني تعطيل أركان الإسلام العملية وهي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ذلك أن القرآن نص على وجوبها, لكن لم يذكر طريقة أدائها، فإذا نحينا السنة جانبا كما يريدون فمن أين لنا بعدد الصلوات في اليوم والليلة؟ وكذلك عدد الركعات في كل صلاة؟ وما الذي يقرأ فيها وجوبا من القرآن؟ وما هي الصلاة التي يجهر فيها والتي يسر فيها ومتى تؤدى؟
وكذلك الزكاة، فما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة، وشروط الزكاة ومقاديرها؟ وما يقال هنا يقال في الصوم والحج أيضا.
وإذا تركنا هذه الأركان وتوجهنا إلى أمور الإسلام الأخرى، فإننا نتسائل ونقول: أين صيغة الأذان في القرآن الكريم؟ وأين زكاة الفطر؟ وأين صيغة العقد الشرعي للزواج؟ أنترك هذه الأمور التي وردت في السنة بترك القرآن لها جريا وراء هذه الدعوات الخبيثة؟!
ويحاول هؤلاء المنكرون أن يدفعوا هذه الأسئلة القوية التي طرحناها هنا بأن هذه الأركان الأربعة العملية، يكفينا فيها محاكاة النبي – صلى الله عليه وسلم – في كيفية أدائها وهي سنن عملية منقولة إلينا بالتواتر.
فهم يقولون: إن الصلاة – مثلا – فيها هذا الأمر بمحاكاة تأدية رسول الله لها إذ قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»[74]. كذا في الحج في قوله: «لتأخذوا مناسككم»[75]. والجيل الذي عاصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – حاكاه في كيفية الصلاة والحج، ونقل هذه المحاكاة عمليا إلى الجيل الذي بعده حتى وصلت إلينا.
فإن كان فريق منهم يحاول أن يخرج من مأزق الأسئلة الحرجة التي طرحت فقالوا نأخذ بالسنة العملية ونترك القولية، فهذا الدفع مرفوض؛ لأن في السنن العملية التي تحدثوا عنها، كالصلاة، والحج سننا قولية لا حصر لها، وهذه السنن القولية لا تدرك برؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – يصلي ويحج ويصوم ويزكي، وإنما ظهرت لنا بأقواله، وهذان الحديثان اللذان استدلوا بهما هما من السنة القولية لا من السنة العملية، ومعنى هذا أن السنة القولية أصل للسنة العملية، فكيف إذن يستغنى عن أصل تثبت به السنة العملية؟ نعني أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو لم يقل ذلك ما ثبت شرعا وجوب محاكاته – صلى الله عليه وسلم – في صلاته وحجه[76].
وختاما للحديث على هذه الدعوى – دعوى أن القرآن يستغنى به عن السنة – فإننا نتساءل: إذا كان القرآن يغني عن السنة. فما معنى الآيات الآمرة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, مثل قوله عز وجل:)قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)( (آل عمران),وقوله عز وجل: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب).
وما معنى الآيات التي تبين نزول السنة عليه صلى الله عليه وسلم؛ ومنها قوله عز وجل: )وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم( (النساء: 113), وقوله – عز وجل – لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: )واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة( (الأحزاب: 34).
وما معنى الآيات الآمرة بطاعته صلى الله عليه وسلم, مثل قوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله ((النساء: 80).
وإذا كان القرآن يغني عن السنة فما معنى الآيات المحذرة من مخالفته صلى الله عليه وسلم, ومنها قوله عز وجل: )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)((النور).
إن الذين يدعون اتباع القرآن وأنه يغني عن السنة يتناقضون مع القرآن الكريم, فإن القرآن يشتمل على الكثير من الآيات الدالة على وجوب العمل بسنته صلى الله عليه وسلم, وعليه فلا يخدعوا أنفسهم بأنهم ينتصرون للقرآن, فإنهم ليسوا أنصارا للقرآن؛ لأنهم لا يعملون بهذه الآيات الآمرة باتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والموجبة لطاعته, إنما أنصار القرآن هم الذين يتبعون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كل ما جاء به عن الله, من قرآن, ومن سنة, وهو – صلى الله عليه وسلم – القائل: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنة نبيه»[77][78].
وبعد تفنيدنا لاستدلالاتهم الباطلة يبدو: أنهم لم ينفقوا وقتا كافيا في دراسة القرآن الكريم؛ لأنهم لو درسوا القرآن كما ينبغي فهل يتفق لمسلم يؤمن بأن منزل الكتاب قد كلف نبيه بتبيين ما أنزل عليه وتفصيله، ثم يضرب عرض الحائط بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
فالرسول مأمور بتبيين الأمور للناس، ونحن مأمورون باتباع أوامره ونواهيه وكل هذا بنص القرآن الكريم[79].
الخلاصة:
إن الآيات القرآنية الصريحة التي تأمر بطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – واتباع سنته وتحذر من مخالفته – أكثر من أن تحصى، فكيف يدعي منكرو السنة أن الدين مكتمل بالقرآن دون السنة؟!
ولو كان ما ادعوه صحيحا لوجدنا ما يؤكد دعواهم في القرآن الكريم، بل وجدنا ما ينقضها، ورضوان الله أحق أن يتبع، وكل من خالفه حق عليه الخزي والخذلان في الدنيا والآخرة، وهذا الحث الرباني على اتباعه – صلى الله عليه وسلم – هو إعظام لرسالته – صلى الله عليه وسلم – وإعلاء لطاعته صلى الله عليه وسلم.
إن التأكيد على ضرورة اتباع السنة والتحذير من مخالفتها لم يرد في القرآن فحسب، بل ورد أيضا في الحديث النبوي، حيث بين – صلى الله عليه وسلم – أن الهدي في اتباعه وأن الضلال في سلوك طريق غير طريقه، فكيف يدعي منكرو السنة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يصرح بأنها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي؟
السنة النبوية وحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ومظاهر وجودها في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – تتمثل فيما يأتي:
o حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على تعلم العلم والعمل جميعا من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقترئون عشر آيات ولا يأخذون غيرها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، وقد حثهم القرآن الكريم على ذلك في أكثر من آية.
o مفارقة الصحابة الأهل والوطن من أجل سماع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقي العلم عنه.
o تناوبهم في طلب العلم وسماع الحديث؛ إذ كان عمر بن الخطاب وجار له يتناوبان النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل عمر يوما، وينزل جاره يوما، ويبلغ كل منهما الآخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
o تجشمهم المتاعب والمشاق في سبيل سماع الحديث وجمعه، وأفضل مثال على ذلك ابن عباس رضي الله عنه.
o حرصهم الدائم على مذاكرة ما يسمعونه من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يحفظوه.
o لم يكن يمنعهم الحياء عن سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم – ومراجعته في أخص الأمور وأكثرها سرية؛ حرصا منهم على العلم والفقه في الدين. أليس في كل ذلك دلالة على وجود السنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفاظ الصحابة عليها حتى دونت؟!
إن ضبط السنة في الصدور أفضل من ضبطها في السطور؛ لأن العرب في ذلك الحين كانت أمة أمية، وملكة الحفظ عندها قوية بحكم اعتمادها عليه دون الكتابة، هذا فضلا عن أن الحفظ يمتاز عن الكتابة بخصائص، منها أنه – أي الحفظ – لا يكون إلا مع الفهم، وإدراك المعنى، ويحمل المرء على مراجعة محفوظه واستذكاره، ثم إن المحفوظ يكون مع الحافظ في صدره في أي وقت وفي أي مكان، بخلاف الكتابة لا تتوافر لها هذه الخصائص إلا مع العلماء المشتغلين بالعلم والمدرسين ليل نهار.
إن من الجهل حصر مصدر التشريع في القرآن وحده، ولاشك أن القرآن هو المصدر الأول الذي انبنت عليه جميع المصادر بعده من السنة والإجماع والقياس، ولكن هذا لا يمنع أن تكون السنة هي الأصل الثاني، بل ذلك هو الحق، لا سيما وقد اتضحت فائدة السنة في بيان القرآن، وإن ذلك لمن أوكد الأدلة العقلية وأصرحها على مكانة السنة في التشريع، وأنها المصدر الثاني ولا ينكر ذلك إلا جاحد.
إن السنة كانت الطريقة العملية الشرعية التي تبين ما جاء في القرآن، وقد اتخذت ثلاث طرق في هذا البيان:
الأولى: تأكيد أحكام جاءت في القرآن.
الثانية: بيان ما جاء في القرآن، إما بتفصيل مجمله، أو تقييد مطلقه، أو تخصيص عامه، أو توضيح مشكله.
الثالثة: استقلالها بتأسيس أحكام لم يرد لها ذكر في القرآن الكريم، ومن ثم فقد كانت موجودة وإن لم تكن كلها مدونة.
الآياتالتي استدلوا بها لا تنفي حجية القرآن بل تؤكدها، فلم يكن المقصود من اكتمال الدين في قوله: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: ٣) القرآن بمفرده، وأنه به اكتمل الدين، بدليل أن هذه الآية لم تكن آخر آية نزلت من القرآن، فقد نزلت آيات تضمنت أحكاما وتشريعات أخرى مهمة كآية الربا والكلالة، فأين اكتمال الدين بالقرآن، وهو لا يزال يستقبل آيات الأحكام الشرعية؟!
إن المقصود باكتمال الدين في الآية، اكتمال أركان الإسلام الخمسة، وهذه الأركان فرضها القرآن جملة، وأوكل أمر تفصيلها إلى السنة، ومن ثم فإن اكتمال تشريعها، منوط بالقرآن والسنة معا.
إن المقصود من الكتاب في قوله عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء((الأنعام: ٣٨) هو اللوح المحفوظ الذي أثبت الله فيه كل ما هو كائن، وما كان وما سيكون، ويؤيد ذلك صدر الآية، وإذا سلمنا بأن المقصود هو القرآن الكريم، فإن المعنى يكون ما تركنا شيئا إلا ودللنا عليه في القرآن، إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولهذا قال عز وجل: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧).
الخطاب في قوله عز وجل:)أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب( (العنكبوت: ٥١) موجه للمشركين لا المؤمنين، حيث إن المشركين على عهد رسول الله طالبوا بنزول آية على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – ليصدقوه في رسالته، وكان قد نزل قدر كبير من القرآن، فرد الله عليهم بأن هذا القرآن بإعجازه البلاغي كاف لهم في التصديق برسالته صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود هنا – كما زعموا – أن القرآن فيه كفاية للمسلمين عن السنة في كل أمور الدين.
لقد نزل القرآن مفصلا ومبينا لكل شيء في شكل قواعد كلية مجملة، أما تفصيل بيانها فقد أوكل إلى السنة النبوية, فقال عز وجل:)وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم((النحل: ٤٤)، وأمرنا الله باتباعها فقال: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: ٧).
المقصود بالكتاب في قوله عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء((النحل: ٨٩) القرآن والسنة معا، فكتاب الله هو ما فرضه على العباد سواء كان في القرآن أم في غيره.
لولا السنة لتعطلت أركان الإسلام العملية، وهي: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وإذا نحينا السنة فمن أين نأتي بصيغة الأذان وزكاة الفطر وغيرها من الأمور الكثيرة التي لم ترد في القرآن؟
(*) من جهود الأمة في حفظ السنة “دراسات في السنة وعلوم الحديث”, د. أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م. تدوين وتوثيق السنة النبوية في حياة الرسول والصحابة, د. جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م. دفاع عن الحديث النبوي, د. أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2000م. حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها، الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية، طبعة خاصة. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية “عرض وتفنيد ونقض”, د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء, حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، مصر، ط1، 2007م. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رءوف شلبي، مطبعة السعادة، القاهرة، ط1، 1398هـ/ 1978م.
[1]. علوم الحديث، ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، المكتبة العلمية، بيروت، 1401هـ/ 1981م، ص12.
[2]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427ه/ 2007م، ص79.
[3]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص82 بتصرف.
[4]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبي الأشبال الزهيري، مكتبة التوعية الإسلامية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1183).
[5]. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى, القاضي عياض, دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ( 1 / 17).
[6]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص95 بتصرف.
[7]. موقع أفق للبرمجيات. www.affok.com
[8]. “هل القرآن يغني عن السنة”, بقلم د. محمد سعيد رمضان البوطي، مقال منشور بموقع موسوعة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة.
[9]. “إذا كان القرآن وافيا مكتملا فما الحاجة إلى السنة”، مقال منشور بموقع منتديات شبكة الإعلام العربية.
[10]. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/ 48).
[11]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، (12/ 231)، رقم (4591). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4604).
[12]. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (12/ 232).
[13]. عون المعبود شرح سنن أبي داود، شمس الحق العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، (12/ 232).
[14]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، (1/ 15)، رقم (42)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (42).
[15]. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ابن حبان، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1993م، (1/ 168).
[16]. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (10/ 257).
[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، (9/ 5)، رقم (5063).
[18]. من جهود الأمة في حفظ السنة، د. أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص35.
[19]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 95).
[20]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رجل من أصحاب النبي، رقم (23529). وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[21]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (8/ 293، 294).
[22]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، (2/ 131، 132)، رقم (631). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة، (3/ 1251)، رقم (674).
[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: التناوب في العلم، (1/ 223)، رقم (89).
[24]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 235، 236).
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، (1/ 222)، رقم (88).
[26]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 363، 364).
[27]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه، (1/ 237)، رقم (103).
[28]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الطهارة، باب: ترك الوضوء من مس الذكر، (1/ 127)، رقم (166). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (165).
[29]. مذاء: كثير المذي، والمذي: هو الماء الذي يخرج من الرجل عند الملاعبة.
[30]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر، (1/ 339)، رقم (178).
[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، (1/ 451)، رقم (269).
[32]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم، (1/ 276)، رقم (130).
[33]. هدبة الثوب: طرفه الذي لم ينسج، تكني بهذا عن استرخاء ذكره، وأنه لا يقدر على الوطء.
[34]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، (5/ 2262)، رقم (3463).
[35]. من جهود الأمة في حفظ السنة، د. أحمد حسين محمد إبراهيم، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص70: 76.
[36]. الآثار التي تصرح بوجود الذين كانوا يكتبون الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحف التي كتبت في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرة.
[37]. الرد على من ينكر حجية السنة، عبد الغني عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص439.
[38]. السنة النبوية وعلومها، د. أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، 1989م، ص30.
[39]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 503).
[40]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، سورة هود، باب قوله: ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (، (8/ 205)، رقم (4686).
[41]. البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، تحقيق: عبد القادر العاني ود. عمر سليمان الأشقر، دار الصفوة، مصر، 1413هـ/ 1992م، ص38، 39.
[42]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري), كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين، (2/ 131، 132)، رقم (631).
[43]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي, تحقيق: أبي إسحاق الدمياطي، مكتبة ابن عباس، مصر، (1/ 83).
[44]. انظر: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحدود، باب: قول الله تعالى: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا (، (12/ 99).
[45]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفرائض، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لا نورث، ما تركنا صدقة”، (12/ 8)، رقم (6730).
[46]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الديات، باب: ديات الأعضاء، (12/ 199)، رقم (4551). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4564).
[47]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، (12/ 51)، رقم (6764).
[48]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: من نوقش الحساب عذب، (11/ 407)، رقم (6536).
[49]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الرقاق، باب: من نوقش الحساب عذب، (11/ 407)، رقم (6537).
[50]. تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير, د. مروان محمد شاهين، مكتب فوزي الشيمي للطباعة، مصر، د. ت، ص70: 259.
[51]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص179.
[52]. الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 63).
[53]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم، (1/ 64)، رقم (8). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، (1/ 320)، رقم (112).
[54]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، (8/ 3248، 3249)، رقم (5469).
[55]. انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (6/ 103، 104)
[56]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص105.
[57]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، (5/ 2037)، رقم (3079).
[58]. فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “آخر آية نزلت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية الربا”. [صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله (، (8/ 52)، رقم (4544)].
[59]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 61، 62).
[60]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (6/ 106).
[61]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، دمشق، ط2، د. ت، (6/ 166).
[62]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر, باب: حجاج آدم وموسى ـ عليهما السلام, (9/ 3768)، رقم (6624).
[63]. تفسير القرآن العظيم , ابن كثير, المكتبة التوفيقية, مصر، د. ت، (3/ 182).
[64]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام ,د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م, (1/ 193، 194) بتصرف.
[65]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (7/ 217).
[66]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (6/ 420). تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، دمشق، ط2، د. ت، (7/ 394، 395).
[67]. حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها، الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية، طبعة خاصة، ص271 بتصرف.
[68]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين, د. رءوف شلبي, مطبعة السعادة، القاهرة، ط1، 1398هـ/ 1978م، ص23 بتصرف.
[69]. الشبهات الثلاثون, د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص133 بتصرف.
[70]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (21/ 14).
[71]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام، مناقشاتها والرد عليها, عماد السيد الشربيني، دار اليقين، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، (1/ 196، 197) بتصرف.
[72]. الميزان بين السنة والبدعة, د. محمد عبد الله دراز، تحقيق: أحمد مصطفى فضيلة، دار القلم، القاهرة، ط2، 1427هـ/ 2006م، ص164 بتصرف.
[73]. المدخل إلى السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص381 بتصرف.
[74]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة، (2/ 131، 132)، رقم (631).
[75]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، (5/ 2037)، رقم (3079).
[76]. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية, د. عبد العظيم المطعني, مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م, ص135: 137.
[77]. أخرجه مالك في موطأه، كتاب: القدر، باب: النهي عن القول بالقدر، ص355، رقم (1628).
[78]. المدخل إلي السنة النبوية, د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي, مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2007م, ص382، 383 بتصرف.
[79]. دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه, د. محمد مصطفى الأعظمي, المكتب الإسلامي, بيروت, 1413هـ/ 1992م, (1/ 36) بتصرف.