الكتب
الكون والقرآن
الإجابة - القرآن وأسئلتك الوجودية
القراءات في نظر المستشرقين والملحدين
القرآن والملحدون
العلم وحقائقه بين سلامة القراَن الكريم وأخطاء التوراة والإنجيل
هل القرآن مقتبس من كتب اليهود والنصارى؟
القرآن والأساطير أيهما اقتبس من الآخر؟
شبهات مزعومة حول القرآن الكريم
تنزيه القرآن عن المطاعن
شبهات حول القرأن وتفنيدها
كشف أكاذيب القسيس زكريا بطرس وأمثاله حول القرآن الكريم
غلبت الروم - واقع الإعجاز وحفيفة العجز
غلبت الروم - واقع الإعجاز وحفيفة العجز
دفاع عن اللقرآن الكريم في وجه الملاحدة والمعرضين
القرآن الكريم في مواجهة الماديين الملحدين
القرآن الكريم في مواجهة الماديين والملحدين
ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل
الانتصار للقرآن
القرآن المحفوظ بين التاريخ والإلحاد
النَّبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن
تفسير القرآن بالسريانية دسائس وأكاذيب
المرئيات

أسرار من تحت الكبري

الإلحاد والحوار القرآني

قصص واقعية

دراهم يوسف… هل تشكيك في مصداقية القرآن؟

سريانية القرآن الكريم حقيقة أم أكذوبة

تأويلات شحرور لنصوص القرآن الكريم…

أوهام شحرور في مفردات القرآن

نفي الترادف بين الكتاب والقرآن

محمد شحرور يحل محرمات في نص القرآن الكريم!

خيانة علمية وأوهام وتعقيد في تأويلات القراءة المعاصرة لشحرور

هل القرآن كتاب هداية أم علم؟

هل القرآن تأليف بشري؟

كيف يستطيع العالم أجمع الاستفادة من الإسلام والقرآن؟

قصة المصحف الشريف من الغار حتى الطباعة

من فسّر القرآن؟

العلم والقرآن، هل يتعارضان!؟

ما معنى أن آية السيف نسخت ما قبلها ؟

المعرفة بين نظرة القرءان والنظرة العلموية

ثنائية الشُبهات والشهوات في القرآن

رسائل القرآن

قصة الإسلام

سلامة القرآن من التحريف

الأدلة العقلية في القرآن

الربوبية والكمال الإلهي

بطلان تعدد الأرباب

خمسة أصول قرآنية في نقض الشبهات الفكرية

حوار القرآن مع أهل الكتاب

سمات الأدلة الشرعية

كيف تحاور ملحدًا بالقرآن؟

محاضرة بيان البيان

نظرية المعرفة .. نظرة قرآنية

سلطان القرآن في مقابل الجدل الكلامي

آيات في كتاب الله

هل تعدد القراءات القرآنية من جنس تحريف كتب أهل الكتاب ؟

هل تعدد القراءات القرآنية يشير إلى وقوع التحريف ؟

جواب شبهة عن قوله تعالى {ومن كل شيء خلقنا زوجين}
المقالات
ادعاء اشتمال القرآن الكريم على كلام زائد لا معنى له
مضمون الشبهة:
ادعى المشككون أنه قد جاء في فواتح بعض سور القرآن الكريم ألفاظ لا معنى لها؛ فمثلا قوله )طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1)( (النمل)** ليس بمعجز ولا هو بالمبين كما يفهم من الآية، بل بالعكس هو شيء مبهم، فأين البيان فيه؟! ويزعمون أن فواتح السور المسماة ب “الحروف المقطعة” ليست من القرآن، وأنها رموز لمجموعات الصحف، التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني؛ فمثلا: حرف الميم كان يرمز لصحف المغيرة، والنون لصحف عثمان، والصاد لصحف سعد بن أبي وقاص، والهاء لصحف أبي هريرة رضي الله عنهم… وهكذا1.
ويقولون: إن الحروف المقطعة في القرآن قد أخذها عثمان رضي الله عنه من كلمات كان المسيحيون يستخدمونها باعتبارها لغة سرية للفرار من بطش الرومان بهم، وهذه الكلمات هي: “أبجد هوز حطي كلمن”.
وجوه إبطال الشبهة:
قال المفسرون في فواتح السور أقوالا؛ أهمها: أنها حروف إعجاز وبيان، إن المتأمل للقرآن الكريم يجد فيه من البلاغة، وحسن النظم، وروعة البيان والأسلوب ما يأخذ بالألباب، ويستحوذ على المسامع والقلوب، ومن ذلك أن فواتح تسع وعشرين سورة في القرآن جاءت حروفا مقطعة، من أمثلة ذلك: “الم، المر، المص، ص، ق، كهيعص…”، وقد جاءت هذه الحروف المقطعة لتعجز العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، واللسان والبيان، ولكن المشككين ادعوا أنه يحتوى على كلام زائد لا معنى له، وقد رد عليهم المفسرون والعلماء قولهم هذا بوجوه عدة؛ من أهمها:
1) إن الآية الكريمة “طس” تنطق هكذا: “طا سين”؛ لأنها حروف، والرسول – صلى الله عليه وسلم – كان أميا لا يعرف أسماء الحروف، فهي إذن دليل على أن القرآن من عند الله، لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
2) إن أكثر السور المبدوءة بالفواتح نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى، فواجههم القرآن بالتحدي أن يأتوا بسورة من مثلة.
3) للعلماء آراء وتوجيهات في هذه الحروف وتقديمها، ومقتضى هذه التوجيهات أن في ذلك حكمة بالغة وبلاغة باهرة وفصاحة كاملة.
التفصيل:
أولا. إن “طس” تنطق هكذا “طا سين”؛ لأنهما أسماء حروف، وفرق بين اسم الحرف ومسماه، فكل من الأمي والمتعلم يتكلم بحروف، يقول مثلا: كتب محمد الدرس، فإن طلبت من الأمي أن يتهجى هذه الحروف لا يستطيع؛ لأنه لا يعرف اسم الحرف، وإن كان ينطق بمسماه، وأما المتعلم فيقول: كاف تاء باء، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان أميا لا يعرف أسماء الحروف.
لذلك كانت مسألة توقيفية، فالحروف “الم” نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف “ألف لام ميم”، أما في أول الانشراح فقلنا )ألم نشرح لك صدرك (1)( (الشرح) بنطق أصوات الحروف نفسها[1].
ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعرف القراءة والكتابة لكان من الطبيعي أن ينطق بأسماء الحروف، فإذا جاء بها وهو أمي دل ذلك على أن هذا إعجاز من الله عز وجل[2].
ثانيا. إن أكثر السور المبدوءة بالفواتح “الحروف المقطعة” نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى، وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء، والسحر، والشعر، والكهانة، فواجههم القرآن بالتحدي وأعجزهم مجتمعين ومن ظاهرهم من الجن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو حتى بسورة واحدة مثله، ما داموا يزعمون أن محمدا افتراه وتقوله، فعجزوا جميعا أن يأتوا بسورة من مثله، مع أنه كتاب عربي؛ ألفاظه من لغتهم، وحروفه هي حروف معجمهم، تلك الحروف التي تقرأ مقطعة، مفردة أو مركبة فلا تعطى دلالة ما، لكنها حين تأخذ مكانها في القرآن الكريم يتجلى سرها وسحرها البياني، والبلاغي المعجز[3].
ثالثا. للعلماء آراء وتوجيهات في هذه الحروف وتقديمها، ومن أهم هذه التوجيهات الآتي:
أنها حروف يتألف منها اسم الله الأعظم، ورووا عن سعيد بن جبير أنها أسماء الله تعالى مقطعة، لو عرف الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم، قال ابن عباس: إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
أنها اسم ملك من ملائكته تعالى، أو نبي من أنبيائه.
أنها دوال على أسماء الله الحسنى، أو مفاتيح لها، فما من حرف منها إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى، فالكاف من الكريم، أو الكبير، والهاء من الهادي، والعين من العزيز أو العليم أو العلي، والصاد من الصمد أو المصور، والألف من الله، والراء من الرحمن…، ونحو ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن قوله تعالى: (آلم): أنا الله أعلم، وفي (الـمص): أنا الله أفصل، وفي (الر) أنا الله أرى.
أنها أسماء للسور التي افتتحت بها، وقال الزمخشري. “وعليه – أي على هذا الوجه – إطباق الأكثر، ولا يعنى هذا عنده أنها أسماء السور حقيقة، بل هي التسمية بما افتتحت به واستهلت، ونظيره قولهم: فلان يروي “قفا نبك، عفت الديار”، وقول القائل: قرأت من القرآن “الحمد لله”، و ” براءة” وقريب من قول من قال: إن الفواتح من أسماء القرآن، كـ “الفرقان”.
أنها أصوات للتنبيه كما في النداء، عمد إليها القرآن؛ ليكون في غرابتها ما يثير الالتفات، وقد تركوا ما ألفوا من ألفاظ التنبيه إلى ما لم يألفوا؛ لأنه لا يشبه كلام البشر، ولكي يكون أبلغ في قرع الأسماع، ثم اختلفوا فيمن يكون المقصود بهذا التنبيه، فأبو حيان يرى أنها تنبيه للمشركين إلزاما لهم بالحجة لسماع القرآن، على حين يتجه بها الرازي إلى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركين.
أنها من حروف حساب الجمل، أو ما يسمونه “حساب أبي جاد”، ويعنون به الأبجدية: “أبجد هوز حطي كلمن”، واتجهوا بدلالة الأعداد فيها إلى مدة الملة، أو مدة الأمم السابقة أو مدة الدنيا.
أنها تشير إلى غلبة مجيئها في كلمات هذه السورة، فكل سورة بدئت بالحروف المفردة، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له.
أنها سر من مكنون علمه تعالى، وجاء عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – عنه أنه قال: “في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور”[4].
الأسرار البلاغية وأوجه الإعجاز في هذه الحروف المقطعة:
القرآن كتاب معجز، وأوجه الإعجاز فيه أكثر من أن يحصيها إنسان، ومن ذلك ما قد تنبه السلف إلى أن مجموع هذه الحروف المفردة التي جاءت في القرآن بغير المكرر منها، أربعة عشر حرفا هي نصف الحروف العربية، كما أطال بعضهم النظر في هذه الحروف، وكان ما آثار انتباههم أن ها نصف الحروف الهجائية، على أي وجه من الوجوه التي اصطلح عليها علماء اللغة بعد نزول القرآن بزمن طويل، ففيها خمسة مهموسة، وعدد المهموس من العربية عشرة، وفيها كذلك نصف الحروف المجهورة، وفيها ثلاثة من حروف الحلق هي: نصف الحروف الحلقية، كما أن فيها نصف الحروف غير الحلقية، وفيها نصف الحروف الشديدة، ونصف الحروف الرخوة، وفيها حرفان من الأحرف الأربعة المطبقة، ونصف الحروف الأخرى، المنفتحة غير المطبقة، وفيها الحروف المستعلية، ونصف الحروف المنخفضة، وقد ذهب قوم منهم الباقلاني إلى أن مجيء هذه الحروف على حد التصنيف مما تواضع عليه العلماء بعد العهد الطويل، هو من دلائل الإعجاز من حيث لا يجوز أن يقع هكذا إلا من الله عز وجل؛ لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب، وإن يكن في موضع آخر قد عدها معنى من معاني إعجاز القرآن ببديع نظمه وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة[5].
بهذا الإعجاز يبطل القول بأن هذه الحروف لا معنى لها أو أنها من كلمات كان يستخدمها المسيحيون لغة سرية للفرار من بطش الرومان، أو أنها رموز لصحف بعض الصحابة.
(*) الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، د. محمد الدسوقي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1415 هـ/ 1995م. الاستشراق والقرآن العظيم، د. محمد خليفة، دار الاعتصام، القاهرة، ط1، 1994م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. موسوعة القرآن العظيم، عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م. مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م. موقع أقباط مصر المتحدة، عزت أنداروس.
تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج17، ص10727.
تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج1، ص103 بتصرف.
[3]. الإعجاز البياني للقرآن الكريم، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1984م، ط2، ص180.
[4]. الإعجاز البياني للقرآن الكريم، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1984م، ص143: 150 بتصرف.
[5]. إعجاز القرآن، الباقلاني، إعداد: ممدوح حسني محمد، دار الأمين، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص58: 62.
ادعاء اضطراب القرآن الكريم في استخدام الضمائر
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في القرآن الكريم اضطرابا في استخدام الضمائر، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)( (الفتح)؛ حيث يرون أن في الآية اضطرابا في استخدام الضمير من وجهين: الأول: في قوله: “أرسلناك” الذي خاطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عدل إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: “لتؤمنوا”. الثاني: أن الضمير المنصوب في “تعزروه” و “توقروه” عائد على الرسول المذكور آخرا، وفي “تسبحوه” عائد على لفظ الجلالة المذكور أولا رغم تأخره. ويقولون: فإن كان القول: “تعزروه وتوقروه وتسبحوه” عائدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يعد كفرا؛ لأن التسبيح لا يكون إلا لله فقط، وإن كان عائدا على الله، فإن هذا يعد كفرا أيضا؛ لأن الله – عز وجل – لا يحتاج لمن يعزره ويقويه**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يعود الضمير على اسم قبله متقدم عليه لفظا ورتبة، وإن تعددت الأسماء، وتعددت الضمائر العائدة عليها، ويجب أن تعود الضمائر مرتبة حسب ترتيب الأسماء، وقد خالفت الآية في وهم بعضهم ذلك الترتيب في قوله تعالى: )لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9)( (الفتح)؛ وذلك في العدول عن مخاطبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في “أرسلناك” إلى مخاطبة المؤمنين في “لتؤمنوا”، ثم في عدم مراعاة الترتيب بين الضمائر، بحسب الترتيب بين الأسماء وتقدم الضمير في “تعزروه”، و “توقروه” على الضمير في “تسبحوه” يخالف ترتيب بين لفظ الجلالة “الله” و “رسوله”.
وهذا التوهم مدفوع ومردود عليه من وجوه:
1) العدول عن مخاطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: )أرسلناك( إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: )لتؤمنوا( من أساليب الالتفات في الخطاب، وهو أسلوب معروف في لغة العرب، وأشعارهم، ولم يبتدعه القرآن الكريم.
2) لا حرج في عود الضمائر في )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه( جميعا على الله؛ لأن من معاني التعزير والتوقير: النصرة والتعظيم، ومن ثم فلا اضطراب في عود الضمائر في هذه الآية الكريمة على لفظ الجلالة.
3) إن بعض الضمائر في الآية يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها يعود على الله عز وجل، ولا يوجد في ذلك أي اضطراب؛ لأن السياق يوضح مرجعية كل ضمير على صاحبه.
التفصيل:
أولا. إن العدول عن مخاطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – والتي جاءت في قوله: )أرسلناك( إلى مخاطبة المؤمنين في قوله: )لتؤمنوا( من أساليب الالتفات في الخطاب، وأسلوب الالتفات من الأساليب المعروفة في كلام العرب، و الالتفات فن عريق من فنون البلاغة العربية، طرقه الشعراء في الجاهلية، وشاع في كلامهم، ووردت منه نماذج كثيرة في القرآن الكريم، وفي أحاديث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأسراره لا تحصر، ودلالته لا تنضب، وكفاه فضلا أنه يروح عن مشاعر السامعين، وينتقل بهم من لون إلى لون في معرض جذاب لا يقدره حق قدره، إلا من رزق حسن الفهم، والقدرة على التذوق لمرامي الكلام[1].
والالتفات في رأى الزمخشري يحقق فائدتين:
فائدة عامة: وهي إمتاع المتلقي وجذب انتباهه بتلك التحولات التي لا يتوقعها في نسق التعبير.
فائدة خاصة: تتمثل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور في موقعها من السياق الذي ترد فيه، من إيحاءات، ودلالات خاصة[2]. وقد كثر ورود هذا الفن في أشعار العرب، مثل قول النابغة الذبياني:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
فقد عدل من “الخطاب” إلى “الغيبة” في هذا البيت، وهو جائز في اللغة، بل هو من مظاهر البلاغة العربية، والشواهد كثيرة في أشعار العرب على ذلك، ومن ثم فإن العدول عن ضمير الخطاب المفرد في “أرسلناك” إلى ضمير الخطاب الجمع في قوله “لتؤمنوا بالله”، هو من أسلوب الالتفات المعروف لدى العرب.
ومن ثم فلا يوجد أي اضطراب في استخدام الضمائر في الآيتين كما يتوهمون؛ لأن أسلوب الالتفات هو الأنسب لمعنى الآيتين ولأن الإرسال خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بينما التكليف بالإيمان له ولسائر المخاطبين ممن يبلغهم القرآن الكريم. فأين هذا الاضطراب المزعوم في استخدام الضمائر في هاتين الآيتين؟!
ثانيا. إن المتأمل في استخدام الضمائر في قوله: )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا( لا يجد أي مانع لغوي أو شرعي في عودة الضمائر كلها على الله عز وجل، بل إن ظاهر الآية – والذي قال به كثير من المفسرين – يفيد ذلك؛ لأن التعزير في اللغة هو التعظيم والتفخيم، يقول القرطبي: “وتعزروه”، أي: تعظموه وتفخموه، قاله الحسن والكلبي. وقال قتادة: تنصروه، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه[3]، أما قوله: “وتوقروه” فهو التعظيــم. ومنــه قــول نـوح لقومـه: )مـا لكـم لا ترجــون لله وقارا (13)( (نوح)، أي: تعظيما له، وذكر الطبري في تفسيره أن قوله: )وتعزروه وتوقروه( بمعنى: تجلوه وتعظموه، وعن ابن عباس: “وتعزروه” يعني: الإجلال، “وتوقروه” يعني: التعظيم، وروى ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: )وتعزروه وتوقروه( قال: الطاعة لله، وهذه الأقوال متقاربة المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها، ومعنى “التعزير” في هذا الموضع: التقوية بالنصرة والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال.
ومن ثم فلا نرى أي غضاضة في عودة الضمائر في قوله: )وتعزروه وتوقروه( على الله عز وجل، فلا يعد هذا كفرا – كما يزعم هؤلاء – ولا منقصة في حق الله تعالى؛ لأن معناهما هو الإجلال والتعظيم، كما ذكرنا.
ولا شك أن الضمير في قوله: )وتسبحوه( عائد على الله عز وجل؛ لأن التسبيح معناه: تنزيهه سبحانه من كل قبيح، أو هو الصلاة التي فيها التسبيح، ولا يكون ذلك إلا لله عز وجل، ومن ثم فإن القول بأن في القرآن اضطرابا في استخدام الضمائر، هو قول أبعد ما يكون عن الصحة؛ لأن كل الضمائر في هذه الآية يجوز أن تكون عائدة على
الله عز وجل.
ثالثا. إن القول بعودة بعض الضمائر على النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها على الله – عز وجل – في قوله: )وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا( ليس فيه أي اضطراب في استخدام الضمائر كما يدعي هؤلاء؛ لأن السياق في الآية الكريمة يوضح مرجعية كل ضمير على صاحبه، ولا شك أن السياق يسهم إسهاما هاما في نصوص العربية، فلا بد من مراعاته من جانب المتلقي؛ للوصول إلى الفهم الصحيح للنص، والمتأمل في هذه الآية الكريمة تتضح له أهمية مراعاة السياق في تحديد عودة الضمائر؛ فلا شك أن الضمائر في )وتعزروه وتوقروه( عائدة على النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا كان المعنى التقوية والنصرة، أو كما قال القرطبي: أي: تدعوه بالرسالة والنبوة، لا بالاسم والكنية، أو ما قاله ابن عباس وعكرمة: تقاتلون معه بالسيف[4]، أما الضمير في “وتسبحوه” فلا شك أنه عائد على الله عز وجل؛ لأن التسبيح لا يكون إلا لله، وهذا معلوم بالبديهة، وعلى هذا فلا يوجد لبس ولا اضطراب في معنى هذه الآية الكريمة، ولا في استخدام الضمائر فيها لدلالة السياق عليها.
الأسرار البلاغية:
إن قوله: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8)( (الفتح)، استئناف ابتدائي، وتأكيده بحرف التأكيد “إن” للاهتمام بما سيخبر عنه، وهو إرسال محمد – صلى الله عليه وسلم – وكونه شاهدا ومبشرا ونذيرا.
أما السر من تقدم البشارة على النذارة؛ فلأن النبي – صلى الله عليه وسلم – غلب عليه التبشير؛ لأنه رحمة للعالمين؛ ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
أما قوله: “نذيرا” ولم يقل: “منذرا”؛ فلأن الإنذار هو إخبار بحلول حادث مسيء، أو قرب حلوله، فناسب ذلك أن يأتي بلفظ يدل على المبالغة في التحذير والإنذار، وللإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم حتى كأنه قد حل بهم، وكأن المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير[5]، هذا وقد شمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات.
أما قوله: )إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8)( (الفتح) فنجد أنه قد التفت من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطاب المؤمنين، والالتفات – كما ذكرنا – من الأساليب البلاغية عند العرب، وفائدته هي الترويح عن مشاعر السامعين، والانتقال بهم من لون إلى لون في معرض جذاب.
أما قوله: )بكرة وأصيلا( فهما كناية عن استيعاب الأوقات بالتسبيح، والإكثار منه، كما يقال: شرقا وغربا؛ لاستيعاب الجهات، وقيل: التسبيح هنا: كناية عن الصلوات الواجبة[6].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م، ص137.
[2]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص26.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج16، ص266 بتصرف يسير.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص267 بتصرف يسير.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج22، ص53 بتصرف.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص156.
ادعاء اضطراب القرآن الكريم في المطابقة بين المبتدأ والخبر في النوع
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يراع المطابقة بين المبتدأ وخبره؛ فأخبر بالمذكر عن المؤنث، وهذا يخالف قواعد اللغة التي توجب المطابقة بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، وقوله عز وجل: )وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى)، فكلمة “قريب” في الآيتين خبر لـ “إن” و “لعل” على الترتيب، وقد جاءت مذكرة مع أنها خبر لمبتدأ مؤنث، والصواب في ظنهم أن يقال: “إن رحمة الله قريبة”، ويقال: “لعل الساعة قريبة” بتأنيث الخبر**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الخبر المفرد أن يوافق المبتدأ ويطابقه في النوع – التذكير أو التأنيث – والعدد – الإفراد أو التثنية أو الجمع – كما في: “إن الشجرة مثمرة”، فقد توافق الخبر “مثمرة” مع المبتدأ اسم إن “الشجرة” في أمرين هما: النوع والعدد، وبتطبيق هذه القاعدة على الآيتين الكريمتين قد يتصور بالنظرة العجلى أن بالآيتين مخالفة للقاعدة اللغوية المشروحة؛ حيث يظن أن الخبر فيهما – وهو كلمة قريب – قد خالف المبتدأ – اسم إن “رحمة” في الآية الأولى، واسم لعل “الساعة” في الآية الثانية – في النوع، والأولى في زعمهم أن يقال: “إن رحمت الله قريبة”، و “لعل الساعة قريبة”؛ حتى يتم الاتفاق في النوع، ومن هنا توهم بعض المغالطين أن القرآن الكريم به أخطاء لغوية، ومثلوا بهاتين الآيتين, وللغويين والبلاغيين وجوه في توجيه هذه المخالفة وإزالة هذا اللبس؛ منها:
1) أن لفظة “قريب” تأتي للدلالة على قرابة النسب، أو قرب المسافة. فـإن وردت بمعنى قرابة النسب تؤنث بلاخلاف، أما إن دلت على قرب المسافة – كما في الآيتين – فيجوز فيها التذكير والتأنيث.
2) أن “قريب” صيغة مبالغة على وزن “فعيل” وهي تأتي على ضربين:
أحدهما: بمعنى فاعل؛ كقدير، وسميع، وعليم.
والآخر: بمعنى مفعول؛ كقتيل، وجريح، وكحيل.
فإذا أتت بمعنى “فاعل”، فحقها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكر؛ كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة.. ونحو ذلك.
وإذا أتت بمعنى “مفعول” فلا تخرج عن حالين:
إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنها؛ فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف استوى فيها المذكر والمؤنث؛ تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريح.
وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف فإنها تؤنث إذا جرت على المؤنث؛ نحو قتيلة بني فلان. وهذا المسلك هو أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية.
3) أننا لو تتبعنا المبتدأ وخبره في الآيتين لوجدنا أن كلا منهما يجوز فيه التذكير والتأنيث:
فالمبتدأ اسم إن “رحمة”، واسم لعل “الساعة” من قبيل المؤنث المجازي لا الحقيقي، ومعلوم في الاستعمال اللغوي أن المؤنث المجازي يجوز تأنيث خبره وصفته على حد سواء.
أما الخبر “قريب” فهو من الألفاظ التي يستوي فيها التذكير والتأنيث، ومهما يكن فالمطابقة بين المبتدأ وخبره في الآيتين جائزة.
4) أننا لو أمعنا النظر في تأويل المبتدأ وخبره، لتبين لنا مطابقة أحدهما للآخر بما ينفي توهم المخالفة بينهما:
فقد يكون المبتدأ في الآية الأولى “رحمة”: على تأويل الترحم، وفي الآية الثانية “الساعة”: على تأويل البعث؛ وكلاهما يصح الإخبار عنه بالمذكر “قريب”.
وقد يكون خبر المبتدأ مذكرا محذوفا تقديره “شيء” أو “أمر”، و “قريب” صفته، والتقدير: “إن رحمة الله شيء أو أمر قريب”، و “لعل الساعة أمر أو شيء قريب”.
5) أن من الوجوه التي أثبتها أهل العلم: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر؛ لكونه تبعا له، ومعنى من معانيه؛ فإذا ذكر أغنى عن ذكره، لأنه يفهم منه. والاستغناء عادة عربية.
وقريب من هذا ما ذكره ابن القيم، قال: “إن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين، ورحمته قريبة منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة. ولو قال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين، لم يدل على قربه تعالى منهم؛ لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يستلزم الأخص. فلا تستهن بهذا المسلك، فإن له شأنا، وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب”.
التفصيل:
قبل أن نجيب عن هذه الشبهة، من المفيد أن نقول في البداية: إن كلمة “رحمت” في الآية التي بين أيدينا، قد كتبت بالتاء المفتوحة في المصحف الشريف، لا بالتاء المربوطة، كما هي في الكتابة الإملائية المعتادة؛ وتعليل ذلك: أنها هكذا رسمت في المصحف العثماني.
إذا تبين هذا، نشرع في الإجابة عن هذه الشبهة، فنقول: إن للعلماء توجيهات عديدة في الإجابة عن هذه الشبهة، بيد أننا نقتصر هنا على أقوى التوجيهات، وأقومها رشدا، وأقصدها سبيلا، فمن تلك التوجيهات قولهم:
أولا. تأتي لفظة “قريب” للدلالة على قرابة النسب، أو قرب المسافة. فإن وردت بمعنى قرابة النسب تؤنث بلا خلاف، أما إن دلت على قرب المسافة ماديا أو معنويا – كما في الآيتين – فيجوز فيها التذكير والتأنيث.
فالعرب تفرق بين كلمة “قريب” إذا كان المراد بها قرابة النسب، أو المراد بها قرب المسافة، فتؤنث إذا كانت تدل على قرابة النسب أو أخبرت عن مؤنث حقيقي التأنيث. أما إذا كانت بمعنى المسافة المكانية أو الزمانية، فإنه يجوز فيها الوجهان: التذكير والتأنيث؛ لأنها قائمة مقام المكان والزمان، فنقول: فلانة قريبة وقريب، والتقدير هي في مكان قريب، ودليل ذلك من لغة العرب قول الشاعر عروة بن حزام:
عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فقد جمع الشاعر بين الوجهين؛ التأنيث والتذكير، مع أن الموصوف مؤنث؛ لأن قريب و بعيد أريد بهما قرب المكان وبعده[1].
ولو نظرنا للآيتين الكريمتين: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف: ٥٦)، )وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى)، نجد أن المراد قرب الزمان، والعرب – كما أسلفنا – تجيز فيه الوجهين: التأنيث والتذكير. ولامرئ القيس – وهو من شعراء الجاهلية، وشعره حجة في إثبات اللغة – بيت نحا فيه هذا المنحى، يقول:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
والشاهد من البيت تذكير “قريب” مع جريانه على مؤنث هو: أم هاشم وهو نظير قريب[2]، في الآيتين؛ وعليه فليس ثمة مخالفة بين المبتدأ وخبره في التذكير والتأنيث كما يتوهمون.
ثانيا. إن “قريب” على وزن “فعيل” وهي تأتي على ضربين:
أحدهما: أن تأتي بمعنى فاعل؛ كقدير، وسميع، وعليم.
والآخر: أن تأتي بمعنى مفعول؛ كقتيل، وجريح، وكحيل.
فإذا أتت بمعنى “فاعل” فحقها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكر؛ كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة.. ونحو ذلك.
وإذا أتت بمعنى “مفعول” فلا تخرج عن حالين: إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنها؛ فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف، استوى فيها المذكر والمؤنث؛ تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريح؛ وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف، فإنها تؤنث إذا جرت على المؤنث؛ نحو قتيلة بني فلان. وهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية. وقد تكون على وزن “فعيل”: بمعنى المصدر، والمصدر على هذا الوزن يلتزم فيه التذكير، وإن جاء خبرا لمؤنث.
وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير؛ كقوله: )فمن جاءه موعظة( (البقرة: ٢٧٥). وهذا قريب من قول الزجاج؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ.
ومن ثم فإن كلمة “قريب” في الآيتين، مصدر استعمل استعمال الأسماء مثل: النقيق، وهو صوت الضفدع، والضغيب، وهو صوت الأرنب، لهذا جاز أن يأتي مذكرا بالرغم من أنه خبر لمؤنث[3]، وأيا ما كان معنى صيغة اللفظة فقد ثبت فيها لزوم التذكير: إن كانت بمعنى المصدر أو كانت بمعنى المفعول، وعليه فكلمة “قريب” التي في سورة الأعراف ليس المراد منها أن رحمة الله هي التي تقرب من المحسنين؛ فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو الذي يقرب إليها”[4].
ثالثا. إننا لو تتبعنا حكم المبتدأ وخبره في الآيتين لوجدنا أنه مما يجوز فيه التذكير والتأنيث: فالمبتدأ أو اسم إن “رحمة”، واسم لعل “الساعة” من قبيل المؤنث المجازي لا الحقيقي، ومعلوم في الاستعمال اللغوي أن المؤنث المجازي يجوز تأنيث خبره وصفته على حد سواء.
ويرى بعض العلماء أن السر في تذكير كلمة “قريب” في الآيتين، أنها تخبر عن مؤنث مجازي لا حقيقي، فكلمة “رحمة” في سورة الأعراف، وكذلك كلمة “الساعة ” في سورة الشورى مؤنثتان تأنيثا مجازيا لا حقيقيا؛ وعليه فهما مما يجيز فيهما الاستعمال اللغوي تأنيث الخبر والصفة، وتذكيرهما على حد سواء، وهذا – كما يقول الحلبي تلميذ أبي حيان، وهما من الأئمة الأعلام في النحو – يجيء على مذهب ابن كيسان في الشعر، وفي النثر كذلك[5].
أما الخبر “قريب” فهو من الألفاظ التي يستوي فيها التذكير والتأنيث.
ولقد نزل القرآن بلغة العرب، وعند العرب ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث؛ فقد جاء استخدام القرآن للألفاظ على غرار استخدام العرب لها، ومن الألفاظ التي تستخدم للمذكر والمؤنث: صبور، معطاء، فنقول: رجل صبور، وامرأة صبور، ولا نقول: صبورة، ونقول: رجل معطار؛ أي يكثر من استخدام العطر، وكذلك امرأة معطار؛ للدلالة على المعنى ذاته، ولا نقول: امرأة معطارة.
وقد سمحت اللغة بذلك لحكم وعلة؛ فنحن حين نقول: رجل صبور، أو امرأة صبور: نذكرها لأن الصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة، فالتذكير أبلغ وأقوى في الدلالة؛ لذلك لا نقول: امرأة صبورة.
وكذلك حينما نتأمل كلمة “قريب” في الآيتين نجدها جاءت على صيغة “فعيل” التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، ومنها قوله تعالى: )والملائكة بعد ذلك ظهير (4)( (التحريم)، فالملائكة لفظها: مؤنث، ولم يقل الحق عز وجل: ظهيرة؛ لأن ظهير يعني: معين، والمعونة تتطلب القوة، والعزم، والمدد[6].
رابعا. هناك احتمالات وتأويلات قائمة في الآيتين تنفي عنهما توهم المخالفة، منها:
أنه يجوز تذكير كلمة “قريب” في قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، على تأويل الرحمة بالرحم، أو الترحم كما ذكر الزمخشري، وأولها آخرون على الإحسان أو الغفران، وقال الأخفش: الرحمة هنا المطر.
أمـا في سـورة الشـورى: )وما يدريـك لعـل الساعـة قريـب (17)( (الشورى) فقد أولوا الساعة بالبعث أو الحشر، وكلاهما مذكر؛ ومن ثم فلا وجه للخطأ في تذكير كلمة “قريب” في الآيتين.
وقد ذكر بعض العلماء أن كلمة “قريب” في الآيتين صفة لخبر مذكر محذوف، تقديره في آية الأعراف: “إن رحمة الله شيء – أو أمر – قريب”، وفي سورة الشورى تقديره: “لعل الساعة أمر – أو وقت أو واقع – قريب”، ودليل تقدير هذا المحذوف في الآيتين هو تذكير “قريب”[7].
خامسا. ثمة توجيه آخر للآية حاصله: أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر لكونه تبعا له، ومعنى من معانيه؛ فإذا ذكر أغنى عن ذكره؛ لأنه يفهم منه. ومنه على أحد الوجوه قوله تعالى: )إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)( (الشعراء)، فاستغنى عن خبر “الأعناق” بالخبر عن أصحابها. ومنه أيضا قوله تعالى: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( (التوبة: ٦٢)، فالمعنى عليه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله؛ إذ إرضاؤه هو إرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل: يرضوهما. فعلى هذا يكون الأصل في الآية: “إن الله قريب من المحسنين”، و “إن رحمة الله قريبة من المحسنين”، فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوغ ذلك ظهور المعنى.
وقريب من هذا ما ذكره ابن القيم – رحمه الله – في “بدائع الفوائد” بعد كلام نقله عن بعض العلماء في قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)؛ فعلى هذا يكون الأصل في الآية: “إن الله قريب من المحسنين”، “وإن رحمة الله قريبة من المحسنين”، قلت: ففي الآية ما يشبه الاحتباك [8]، فاستغني بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.
والذي ينبغي أن يعبر عنه به: أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت”قريبة” من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه، بل قرب رحمته تبع لقربه – هو تبارك وتعالى – من المحسنين.
فالرب عز وجل “قريب” من المحسنين ورحمته “قريبة” منهم، وقربه يستلزم قرب رحمته؛ ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة، وأن الله تعالى قريب من المحسنين، وذلك يستلزم القربين؛ قربه وقرب رحمته، ولو قال: إن رحمة الله “قريبة” من المحسنين؛ لم يدل على قربه تعالى منهم؛ لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته، والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربه، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم، وهو قرب رحمته.
قال ابن القيم: فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب.
وإذا كان المعنيان متلازمين صح إيراد كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان، واستدعائه من النفوس، وترغيبها فيه غاية حظ.
فكان في العدول عن “قريبة” إلى “قريب” من استدعاء الإحسان، وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته، ولا قوة إلا بالله تعالى.
وبعد هذه المطارحة، فلا وجه لما توهم في الآيتين من خطأ.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
في قولـه ـ عز وجل ـ: )ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها( (الأعراف: ٥6) مجاز مرسل علاقته الكلية؛ حيث ذكر الكل – الأرض – وأراد الجزء الذي هو مكان إفسادهم، والسر في ذلك تفظيع الفساد؛ لأنه وإن كان في جزء معين من الأرض، إلا أنه بمنزلة الإفساد في الأرض كلها؛ لأنه تشويه لمجموعها[9].
قوله عز وجل: )بعد إصلاحها( دليل على أن الله – عز وجل – قد خلق الأرض من أول أمرها على صلاح، وهذا يبين إكرام الله للإنسان، فقد أصلح له الأرض، ثم استخلفه فيها، وكذلك التصريح بالبعدية هنا )بعد إصلاحها( تسجيل لفظاعة الإفساد؛ لأنه إفساد لما هو نافع، فلا معذرة لفاعله، ولا مسوغ لفعله عند أهل الأرض.
وقوله )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف): جملة واقعة موقع التفريع عن جملة “وادعوه”؛ فلذلك قرنت بـ “إن” الدالة على التوكيد؛ وهو لمجرد الاهتمام بالخبر، إذ ليس المخاطبون بمترددين في مضمون الخبر، ومن شأن “إن” إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التعليل، وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها؛ فتغني عن فاء التفريع؛ ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها، فلم تعطف؛ لإغناء “إن” عن العاطف.
دل قوله عز وجل: )قريب من المحسنين( على مقدر في الكلام، أي: وأحسنوا؛ لأنهم إذا دعوا خوفا وطمعا، فقد تهيئوا لنبذ ما يوجب الخوف، واكتساب ما يوجب الطمع، ويتحقق ذلك بالإحسان في العمل، ويلزم من الإحسان ترك السيئات، فلا جرم أن تكون رحمة الله قريبا منهم، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين، وتعريضا بأنهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرحمة عنهم[10].
أما قوله – عز وجل – في سورة الشورى: )الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17)( (الشورى) ففيه الكثير من الوجوه والأسرار البيانية، منها:
قوله عز وجل: )الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان(: تمهيد لقوله: )وما يدريك لعل الساعة قريب(، وهو يؤذن بمقدر يقتضيه المعنى، تقديره: فجعل الجزاء للسائرين على الحق، والناكبين عنه في يوم الساعة، فلا محيص للعباد عن لقاء الجزاء )وما يدريك لعل الساعة قريب(، وهذه الجملة موقعها من الآية السابقة لها: )والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيـب لـه حجتهـم داحضـة عنـد ربهـم وعليهـم غضـب ولهـم عـذاب شديـد (16)( (الشورى)، موقع الدليل، والدليل من ضروب البيان؛ ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها؛ لشدة اتصال معناها بمعنى الأخرى.
“الميزان” هنا مستعار للعدل والهدى، بقرينة قوله: “أنزل”، فإن الدين هو المنزل، والدين يدعو إلى العدل والإنصاف، فشبه الدين بالميزان في تساوي رجحان كفتيه.
كلمة “وما يدريك” جارية مجري المثل، والكاف منها خطاب لغير معين بمعنى: قد تدري، أي: قد يدري الداري، وسر استعمال “ما” الاستفهامية: التنبيه والتهيئة، و “يدريك” من الدراية بمعني العلم، وقد علق الفعل “يدري” عن العمل بحرف الترجي “لعل”.
فإن قيل: لكن لـم قال تعالي: “وما يدريك” ولم يقل: “وما أدراك”؟! كان الجواب كما قال ابن عباس: لأن كل ما يأتي من الكلام بعد الفعل “ما أدراك” فقد أعلمه الله به، أي: بينه له نحو: )وما أدراك ما هيه (10) نار حامية (11)( (القارعة)، وكل ما جاء فيه وما يدريك لم يعلمه به، أي: لم يعقبه بما يبين إبهامه، نحو: )وما يدريك لعل الساعة قريب(، ولعل معنى هذا الكلام: أن الاستعمال خص كل صيغة من هاتين الصيغتين بهذا الاستعمال[11].
وبعد هذا البيان الشافي، وهذا العرض لبعض الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين، يتبين لنا مدى دقة القرآن الكريم في استخدام التراكيب والألفاظ، مما يبطل حجة من يتوهم أي خطأ في لغة القرآن الكريم.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م. رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م. www.ebnmareyam.com. www.islameyat.com
[1]. معاني القرآن، الفراء، تحقيق: أحمد يوسف نجاتي، محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1980م، ج1، ص380.
[2]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص188.
[3]. انظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، ج4، ص313. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج2، ص83.
[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج7، ص4182.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص187. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص371.
[6]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج7، ص4181.
[7]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص187 بتصرف يسير.
[8]. الاحتباك لغة: من الحبك، ومعناه: الشد والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب. واصطلاحا: أن يؤتى بكلامين في النص، في كل منهما متضادان، أو متشابهان، أو متناظران، أو منفيان، أو يشترك نوع منهما في نص واحد، فيحذف من أحد الكلامين كلمة أو جملة؛ إيجازا، ثم يأتي ما يدل على المحذوف الثاني، ويحذف من الثاني كلمة أو جملة أيضا قد أتى ما يدل عليها في الأول، فيكون باقي كل منهما دليلا على ما حذف من الآخر، فيكمل كل جزء الجزء الآخر ويتممه، ويفيده من غير إخلال في النظم ولا تكلف.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج9، ص174 بتصرف يسير.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص176، 177.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص68.
ادعاء أن القرآن الكريم أقر أزلية المسيح
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم أقر أزلية المسيح – عليه السلام – ويستدلون خطأ على زعمهم بقوله سبحانه وتعالى: )إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم( (آل عمران: 45)، قائلين: إن القرآن شهد للمسيح بأنه كلمة الله، وبما أن الله له صفة القدم، فإن كلمة الله قديمة، ونتيجة لذلك يكون عيسى – عليه السلام – أزليا.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأزلي هو الذي لا أول لوجوده، ولا يكون إلا ذاتا وهو الله – سبحانه وتعالى – وما عداه فهو حادث له أول، وبهذا يتضح مفهوم الأزلية، وأنه لا ينطبق على أحد من الخلق.
2) إن المراد بلفظ )بكلمة( يقع على خمسة أوجه هي:
المراد بالكلمة كلمة التكوين، لا كلمة الوحي.
لفظ “الكلمة” أطلق على المسيح – عليه السلام – لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرفه اليهود حتى أخرجوه عن وجهه.
لفظ “الكلمة” أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به.
المراد “بالكلمة” كلمة البشارة.
المراد “بالكلمة” الآية.
التفصيل:
أولا. الأزلي هو الذي لا أول لوجوده ولا يكون إلا ذاتا وهو الله – سبحانه وتعالى – وما عداه حادث له أول:
إن كل موجود يسأل عمن أوجده، فهو حادث، ومن أوجده إما أن يكون أزليا أو حادثا، فإن كان حادثا فهو يسأل أيضا عمن أوجده، وهكذا تنتهي سلسلة المحدثات بنا إلى موجود واحد ليس قبله موجود وهو الله – عز وجل – فالأزلي هو الله وحده، وصفاته أزلية؛ لأنه لا يكون إلها حقا إلا بتحققه بصفاته، والصفات لا تتحول إلى ذوات، كما زعموا تحول الكلمة إلى المسيح، وزاد بعضهم الأمر جهلا على جهل حينما زعموا أن عيسى – عليه السلام – كلام الله، وليس فقط كلمته، فخالفوا كتابهم المحرف، ومن على دينهم، وأضافوا إلى باطلهم باطلا! كيف يكون عيسى كلام الله؟ هل يقصدون أن الإنجيل هو عيسى – عليه السلام – مثلا؟!
ثانيا. المراد بلفظ ” كلمة ” يقع على خمسة أوجه هي:
أن الكلمة هي كلمة التكوين لا كلمة الوحي؛ ذلك أنه لما كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري – عز وجل – مما يعلو على عقول البشر، فقد عبر عنه – سبحانه وتعالى – بقوله: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)( (يس)، فكلمة “كن” هي كلمة التكوين وهنا يقال: إن كل شيء قد خلق بكلمة التكوين، وخص المسيح – عليه السلام – بإطلاق الكلمة عليه؛ لأن الأشياء تنسب في العادة والعرف عند البشر إلى أسبابها، ولما فقد في تكوين المسيح تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البويضات التي يتكون منها الجنين، أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله؛ لأن الله أكمل هذه الحلقة المفقودة في عملية خلق المسيح – عليه السلام – بقوله: )كن( فكان.
لفظ “الكلمة” أطلق على المسيح – عليه السلام – لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرفه اليهود حتى أخرجوه عن وجهه، وجعلوا الدين ماديا محضا، قاله الرازي، وجعل من قبيل ذلك وصف الناس للسلطان العادل بظل الله ونوره؛ لأنه سبب لظهور ظل العدل، ونور الإحسان، قال: فكذلك كان عيسى سببا لظهور كلام الله – عز وجل – بسبب كثرة بياناته له، وإزالة الشبهات والتحريفات عنه.
لفظ “الكلمة” أطلق على المسيح – عليه السلام – للإشارة إلى بشارة الأنبياء به. فقد عرف بكلمة الله، أي: بوحيه إلى أنبيائه، والكلمة تطلق على الكلام، كقوله سبحانه وتعالى: )ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171)( (الصافات).
المراد بالكلمة “كلمة البشارة” فقوله: )بكلمة منه( أي: بخبر عنده أو بشارة، وهو كقول القائل: ألقى إلى فلان بكلمة سرني بها، أي: أخبرني خبرا فرحت به، قاله ابن جرير، واستشهد له بقوله سبحانه وتعالى: )وكلمته ألقاها إلى مريم( (النساء: ١٧١) أي: بشرى إلى مريم بعيسى – عليه السلام – ألقاها إليها[1]، قال القرطبي: وقيل: “كلمته” إشارة الله تعالى لمريم – عليها السلام – ورسالته إليها على لسان جبريل – عليه السلام – وذلك قوله: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه( (آل عمران: 45).
قيل: الكلمة هاهنا بمعنى الآية، قال الله سبحانه وتعالى: )وصدقت بكلمات ربها( (التحريم:١٢) و )ما نفدت كلمات الله( (لقمان: ٢٧)، وكان لعيسى – عليه السلام – أربعة أسماء: المسيح، وعيسى، وكلمة، وروح، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن، ومعنى: )ألقاها إلى مريم( أمر بها مريم[2].
وذهب بعضهم إلى أن “عيسى” سمي كلمة الله – عز وجل – من حيث إنه صار نبيا، كما سمي النبي – صلى الله عليه وسلم – رسولا، وعلى كل فليس إطلاق “كلمة” على المسيح يعد إطلاقا حقيقيا، فالكلمة لا تتجسد لتكون كائنا حيا، وهذا الكائن يكون إلها – كما يزعمون – حل في بطن مخلوق، فكيف تكون الكلمة الأزلية متصفة بصفات الحوادث؛ من حلوله في بطن مخلوق، وكونها محاطة بجدران الرحم، ودخول وخروج من الرحم، وغير ذلك من الصفات الخاصة بالحوادث، والتي لا تصلح صفات للقديم ولا للأزلي.
الخلاصة:
الأزلي لا أول لوجوده ولا يكون إلا ذاتا غير محدثة، وعيسى – عليه السلام – لا يصح أن نقول: إنه ذات أزلية؛ لأنه كلمة الله فهو محدث من جهة، ومن جهة أخرى الكلمة صفة، والصفات لا تتحول إلى ذوات.
مجيء الضمير في الآية )اسمه المسيح عيسى ابن مريم(في “اسمه” مذكرا لا مؤنثا “اسمها”؛ لأنه يدل على مسمى الكلمة – وهو عيسى – لا لفظ الكلمة.
المراد بـ “الكلمة” كلمة التكوين لا كلمة الوحي، وخص المسيح بإطلاق الكلمة عليه لما فقد في حلقة تكوينه من تلقيح ماء الرجل لما في الرحم، فأضيف هذا التكوين إلى كلمة الله؛ لأن الله – سبحانه وتعالى – أكمل بكلمة منه الحلقة المفقودة في مراحل خلق عيسى عليه السلام.
(*) موقع الكلمة. مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، مصر، 1426 هـ/ 2005م. نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، د. أحمد علي عجيبة، دار الآفاق العربية، القاهرة، د. ت.
[1]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج3، ص250.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص222.
ادعاء أن القرآن الكريم يقرر ألوهية المسيح عليه السلام
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم يقرر أن المسيح إله، ويستدلون على ذلك بقوله – سبحانه وتعالى – عن المسيح: )وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171)، وقوله – سبحانه وتعالى – حكاية عن عيسى عليه السلام: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم( (آل عمران: 49)، فيستدلون بالآية الأولى على أن المسيح ابن الله، والآية الثانية على أنه يشارك الله – سبحانه وتعالى – بصفات منها: صفة الخلق وإحياء الموتى وعلم الغيب، كما يزعم هؤلاء أن المسيح – عليه السلام – قال عن نفسه: أنا ابن الله، وأن الإسلام لا ينكر عقيدة المسيحيين في ألوهية المسيح، مستدلين على ذلك بما جاء في تفسير أبي السعود من قول السدي: إن أم يحيى قابلت أم عيسى، ثم قالت لها: إن ما في بطني – يحيى عليه السلام – يسجد لما في بطنك – عيسى عليه السلام – والسجود لا يكون إلا لإله. وهم بهذا التقول على القرآن الكريم وعلى علماء المسلمين يهدفون إلى إثبات الألوهية للمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الكلمة في هذه الآية: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه( (النساء: 171) هي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وليست شيئا خارجا عن ذاته، أو قد تكون هي أمر التكوين أي قوله: )كن(، ومن هنا صح إطلاق الكلمة على عيسى – عليه السلام – من باب إطلاق المصدر على المفعول في اللغة العربية.
2) الله – سبحانه وتعالى – هو الذي أوجد المعجزات وأظهرها على يد عيسى – عليه السلام – تأييدا وتصديقا له في نبوته ورسالته.
3) لم يثبت عن المسيح – عليه السلام – أنه قال عن نفسه: إنه ابن الله، بل إن فريقا من النصارى هم الذين زعموا ذلك، ولا يوجد عند النصارى شهادة صريحة على لسان المسيح تؤيد ألوهيته، بل على النقيض من ذلك يوجد الكثير من الدلائل على بشريته.
4) حوار النبي – صلى الله عليه وسلم – مع نصارى نجران، حول طبيعة المسيح أثبت عقلا، ونقلا بشرية المسيح وعدم ألوهيته.
5) ما نسب إلى السدي – على فرض صحة نسبته إليه – ليس حجة على الإسلام؛ لأنه لم يرد في القرآن الكريم، أو السنة المطهرة ما يؤيده، والسجود هنا بمعنى التقدير والاحترام، وليس سجود العبادة كما فهم المتوهمون.
التفصيل:
أولا. الفهم الصحيح لمعنى الكلمة في الآية:
لتفنيد هذه الشبهة لا بد من تفصيل القول في جزأين رئيسين في الآية التي معنا، الجزء الأول قوله سبحانه وتعالى: )وكلمته ألقاها إلى مريم(، والجزء الثاني قوله سبحانه وتعالى: )وروح منه(، ولنبدأ بالجزء الأول، فنقول:
إن “كلمة الله” مركبة من جزأين: مضاف “كلمة”، ومضاف إليه “الله”، وإذا كان الأمر كذلك، فإما أن نقول: إن كل مضاف لله – عز وجل – هو صفة من صفاته، أو نقول: إن كل مضاف لله – عز وجل – ليس صفة من صفاته، وبعبارة أخرى، إما أن نقول: إن كل مضاف لله مخلوق، أو إن كل مضاف لله غير مخلوق، وإذا قلنا: إن كل مضاف لله صفة من صفاته وهو غير مخلوق؛ فإنا سنصطدم بآيات في القرآن، وكذلك بنصوص في الإنجيل، يضاف فيها الشيء إلى الله، وهو ليس صفة من صفاته، بل هو مخلوق من مخلوقاته.
كما في قوله سبحانه وتعالى: )ناقة الله( (الأعراف: ٧٣) وكما نقول: بيت الله، وأرض الله وغير ذلك، وإذا عكسنا القضية، وقلنا: إن كل مضاف لله مخلوق؛ فإننا كذلك سنصطدم بآيات ونصوص أخرى، كما نقول: علم الله، وحياة الله، وقدرة الله. إذن لا بد من التفريق بين ما يضاف إلى الله؛ فإذا كان ما يضاف إلى الله شيئا منفصلا قائما بنفسه، كالناقة، والبيت، والأرض فهو مخلوق، وإذا كان ما يضاف إلى الله شيئا غير منفصل، أي: صفة من صفاته، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومن البدهي أن يكون هذا غير مخلوق، إذ الصفة تابعة للموصوف ولا تقوم إلا به، فلا تستقل بنفسها بحال.
أما الجزء الثاني، فهو “كلمة الله”، وهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فـ”الكلمة” هي صفة الله تعالى، وليست شيئا خارجا عن ذاته حتى يقال: إن المسيح هو الكلمة، أو يقال: إنه جوهر خلق بنفسه كما يزعم النصارى.
فخلاصة هذا الوجه أن “كلمة الله” صفة من صفاته وكلامه كذلك، وإذا كان الكلام صفة من صفاته فليس شيئا منفصلا عنه، لما تقرر آنفا من أن الصفة لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من موصوف تقوم به، وأيضا فإن “كلمة الله” ليست – بداهة – جوهرا مستقلا، فضلا عن أن تتجسد في صورة المسيح كما يزعم النصارى.
إن أبي المغرضون ما سبق، وقالوا: بل المسيح هو “الكلمة” وهو الرب، وهو خالق وليس بمخلوق، إذ كيف تكون الكلمة مخلوقة؟ فالجواب: إذا سلمنا بأن المسيح هو “الكلمة” وهو الخالق، فكيف يليق بالخالق أن يلقي إلى مخلوق (السيدة مريم)، إن الخالق حقيقة لا يلقيه شيء، بل هو يلقي غيره.
فلو كان خالقا ما ألقي، ولما قال الله: )وكلمته ألقاها( (النساء: ١٧١) أي: المسيح عيسى، ومن ثم كان لزاما علينا أن نبين المراد بكلمة الله الواردة في الآية موضوع النقاش: )وكلمته ألقاها إلى مريم(، والجواب على ذلك أن نقول: إن المراد من “كلمة الله” يشتمل على معنيين كلاهما صحيح، ولا يعارض أحدهما الآخر:
المعنى الأول: أن قوله: “وكلمته” الكلمة هنا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ومعنى الآية على هذا: أن كلمة الله – التي هي صفته – ألقاها إلى مريم – عليها السلام – لتحمل بعيسى – عليه السلام – وهذه الكلمة هي الأمر الكوني الذي يخلق الله به مخلوقاته وهي كلمة “كن”؛ ولهذا قال تعالى في خلق آدم عليه السلام: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران) فكما أن آدم خلق بكلمة “كن”، فكذلك خلق عيسى، فـ “الكلمة” التي ألقاها الله إلى مريم هي كلمة “كن”، وعيسى خلق بهذه “الكلمة” وليس هو “الكلمة” نفسها. 0
المعنى الثاني: أن قوله “كلمته” هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فـ”الكلمة” هنا عيسى – عليه السلام – وهو مخلوق؛ لأنه منفصل، وقد بينا سابقا أن إضافة الشيء القائم بذاته إلى الله، هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فيكون المراد بـ “الكلمة” هنا عيسى وأضافه الله إلى نفسه تشريفا له وتكريما. فإن قلتم: كيف يسمي الله – عز وجل – عيسى “كلمة”، والكلمة صفة الله؟ فالجواب: أنه ليس المراد هنا الصفة، بل هذا من باب إطلاق المصدر، وإرادة المفعول نفسه، كما نقول: هذا خلق الله، ونعني: هذا مخلوق الله؛ لأن خلق الله نفسه فعل من أفعاله، لكن المراد هنا المفعول، أي المخلوق، ومثل قولنا: أتى أمر الله، يعني المأمور به، أي ما أمر الله به، وليس نفس الأمر، فإن الأمر فعل من الله تعالى.
والمعنى الثاني للآية راجع عند التحقيق إلى المعنى الأول؛ فإننا إذا قلنا: إن عيسى “كلمة الله” بمعنى أنه نتيجة “الكلمة”، ومخلوق بـ “الكلمة”، فهذا يدل على “الكلمة” أساسا، وهو فعل الله، ويدل على عيسى – عليه السلام – وهو الذي خلق بـ “الكلمة”.
فحاصل هذا الجزء من الآية أن “كلمة الله” تعالى التي ألقاها إلى مريم هي أمر التكوين، أي قوله )كن(، فكان عيسى – عليه السلام – ومن هنا صح إطلاق الكلمة على عيسى – عليه السلام – من باب إطلاق المصدر على المفعول، وكما يسمى المعلوم علما، والمقدور قدرة والمأمور أمرا، فكذلك يسمى المخلوق بالكلمة كلمة.
هذا جواب ما يتعلق بالجزء الأول من الآية، أما الجزء الثاني، وهو قوله سبحانه وتعالى: )وروح منه( فليس فيه أيضا دلالة على ألوهية المسيح أو بنوته لله، فضلا عن أن يكون فيه أي دليل لما يدعيه النصارى عن طبيعة عيسى – عليه السلام – وبيان ذلك فيما يلي:
أن قول الله سبحانه وتعالى: )وروح منه( ليس فيه ما يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى، أو أن جزءا من الله تعالى قد حل في عيسى، وغاية ما في الأمر هنا أننا أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن نقول: إن هذه “الروح” مخلوقة، وإما أن نقول: إنها غير مخلوقة؛ فإذا كانت الروح مخلوقة، فإما أن يكون خلقها الله في ذاته، ثم انفصلت عنه، ولهذا قال عنها: “منه”، أو خلقها الله في الخارج؛ فإذا كانت هذه الروح غير مخلوقة فكيف يصح عقلا أن تنفصل عن الله تعالى لتتجسد في شخص بشري؟ وهل هذا إلا طعن في الربوبية نفسها، لتجويز التجزؤ والتبعض على الخالق – عز وجل – وإذا كانت الروح مخلوقة، وخلقها الله في ذاته، ثم انفصلت عنه، فهذا معناه تجويز إحداث الحوادث المخلوقة المربوبة في ذات الإله سبحانه، وهذا عين الإلحاد والزندقة، أما إذا كانت الروح مخلوقة، وخلقها الله في الخارج، فهذا يدل على أن الله – عز وجل – خلق الروح ونفخها في مريم، ليكون بعد ذلك تمام خلق عيسى – عليه السلام – ومولده.
هذا هو عيسى في التصور الصحيح، أما ما سوى ذلك فهو مجرد ترهات تأباها الفطر السليمة، فضلا عن العقول المستقيمة.
ما دمتم تقرون أنه ليس ثمة أحد يحمل صفات الألوهية، أو البنوة لله – عز وجل – إلا المسيح – عليه السلام – وتستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وروح منه(، فحينئذ يلزمكم أن تقولوا: إن آدم – عليه السلام – أحق بالبنوة من عيسى، حيث قال الله في آدم: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي( (الحجر: ٢٩)، ولا شك أن القول بهذا حجة عليكم لا لكم، فإذا كان قوله سبحانه وتعالى: )من روحي(في حق آدم معناه الروح المخلوقة، وأن هذه الروح ليست صفة لله – عز وجل – فهي كذلك في حق عيسى؛ إذ اللفظ واحد، بل إن الإعجاز في خلق آدم بلا أب ولا أم أعظم من الإعجاز في خلق عيسى بأم بلا أب، وحسب قولكم يكون آدم حينئذ أحق بالبنوة والألوهية من عيسى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولو سلمنا بأن الروح في الآية هو جزء من الإله، فهذا يقتضي أن يكون في الإله أقنومان – حسب اعتقاد النصارى – أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح، وفي هذا تناقض في موقف النصارى؛ إذ إنهم لا يقولون إلا بأقنوم “الكلمة”، ولا يقولون بأقنوم “الروح”.
لو كان معنى “منه” أي: جزء من الله، لكانت السماوات والأرض وكل مخلوق من مخلوقات الله جزءا من الله، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه( (الجاثية: ١٣)، وقال عن آدم: )ونفخت فيه من روحي(، وقال سبحانه وتعالى: )وما بكم من نعمة فمن الله( (النحل: ٥٣)، إن معنى “منه” وفق السياق القرآني، أي: منه إيجادا وخلقا، فـ “من” في الآية لابتداء الغاية، وليس المعنى أن تلك الروح جزء من الله تعالى.
وبعد ما تقدم نقول: إن القرآن الكريم في هذا الموضع وفي غيره، يقرر بشرية المسيح – عليه السلام – وأنه عبد الله ورسوله، وأنه ليس له من صفة الألوهية شيء، وقد قال الله – عز وجل – في نفس الآية نفسها: )إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله( (النساء: 171)، فهو ابن مريم وليس ابن الله، وهو رسول الله وليس هو الله، وقال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم( (المائدة: 72)، وقال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( (المائدة: 73)[1].
فهل بعد هذا الاستدلال العقلي؛ والبيان القرآني يبقى متمسك بشبهات أوهى من بيت العنكبوت؟ أو يلصق بالقرآن ما ليس منه؟
ثانيا. إن الله – سبحانه وتعالى – هو الذي أوجد المعجزات وأظهرها على يد عيسى – عليه السلام – تأييدا وتصديقا له في نبوته ورسالته:
إن الاستدلال على ألوهية المسيح بالمعجزات التي جسدت على يديه باطل؛ فعيسى – عليه السلام – لم يوجد هذه المعجزات، وإنما الله – عز وجل – هو الذي أوجدها وأظهرها على يديه، وعيسى – عليه السلام – لما نفخ في الأموات، أو ناداهم كما أمره الله، فكان عقب هذا أن أحياهم الله – عز وجل – فنسب الإحياء إلى عيسى على اعتبار أنه باشر أسبابه بأمر الله، وهذه معجزة دلت على صدقه في نبوته ورسالته؛ ولذلك صدر الحديث عن هذه المعجزات بقوله – سبحانه وتعالى – على لسانه: )أني قد جئتكم بآية من ربكم( (آل عمران: ٤٩).
وإننا إذ نتحدث عن معجزات عيسى – عليه السلام – يجب أن نلاحظ شيئا مهما، هو أن الله – سبحانه وتعالى – أكد على نسبة الإرادة لله تعالى – بإذن الله – رغم أن عيسى – عليه السلام – رسول مؤيد من الله، فقال الله سبحانه وتعالى – على لسان عيسى عليه السلام: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)( (آل عمران).
ذلك أن الله – سبحانه وتعالى – قد احتفظ بسر خلقه لنفسه، ولم يعطه لعبد من عباده، ومن هنا كان لزاما أن تأتي كلمة “بإذن الله” بمعنى أن الخلق يتم لا بمعجزة ذاتية ولكن بإذن الله – سبحانه وتعالى – ثم تمضي السورة: )وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله( ذلك أن الشافي هو الله – سبحانه وتعالى – وهو الذي يحيي ويميت، وهكذا كانت هذه المعجزات إعلانا من الله وهو الفاعل لا يشرك أحدا معه في ذلك، وإذا كانت هذه المعجزات قد تمت على يد رسول؛ فإنها تتم بإذن الله، فإنه هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يشفي من المرض.
فعيسى – عليه السلام – من أنبياء الله ورسله الذين أيدهم الله بالمعجزات وإحياء الموتى، والله لم يجر المعجزات على يد عيسى – عليه السلام – وحده، ولكنه أجراها على يد غيره من الأنبياء كذلك، فلو كان ذلك دليلا على ألوهية عيسى؛ لكان – كذلك – دليلا على ألوهية كل من ظهر على يديه إحياء الموتى.
ولقد ظهر إحياء الموتى على يد موسى – عليه السلام – عندما احتكم إليه المختصمون من قومه في شأن القتيل؛ قال سبحانه وتعالى: )وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها( (البقرة: ٧٢)، وأحيا الله – عز وجل – على يد إبراهيم – عليه السلام – الطير بعد أن ذبحها وقطعها، وخلطها، وجعل على كل جبل منهن جزءا، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة).
فإن قالوا: استدللنا على كون المسيح إلها؛ لأنه أحيا الموتى، ولا يحيي الموتى إلا الله، قلنا لهم: فاجعلوا موسى إلها آخر؛ فقد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وأتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره، ولا ما يقاربه، فقد جعل العصا حيوانا عظيما – ثعبانا – فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا.
فإن قلتم – أيها النصارى -: جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، قلنا: إن عجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيلياء النبي بارك على دقيق العجوز، ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق، وما في قارورتها من الدهن سبع سنين.
وإن جعلتموه إلها؛ لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى، وهذا محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملئوا، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملئوا كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر، فهل قال المسلمون بأنه إله؟!
وإن قلتم: جعلناه إلها؛ لأنه كان يعلم الغيب؛ إذ كان ينبئ أصحابه بطعامهم وشرابهم الذي يأكلونه أو يدخرونه في بيوتهم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: )وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم( (آل عمران: ٤٩).
فإننا نقول لكم: إن مصدر علمه بذلك هو الوحي، وقد جرت مثل هذه المعجزة على يدي نبي الله يوسف – عليه السلام – حيث أخبر صاحبه في السجن: )قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي( (يوسف: ٣٧)[2].
كما أن علم عيسى – عليه السلام – لبعض الأمور ليس من ذاته، وليس علما مطلقا بكل غيب، ولكنه بإعلام الله له، وإيحائه إليه، وهو بعض الغيب، وليس كله، فالغيب كله لا يعلمه إلا الله: )قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله( (النمل: ٦٥)، والعلم الذاتي لأي معلوم ليس إلا لله سبحانه وتعالى: )ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء( (الأعراف:١٨٨)، فالله يعلم رسله من الغيب ما يجعله آية لهم على صدقهم، كما قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27)( (الجن).
ولو كان عيسى – عليه السلام – إلها لعلم الغيب – كل الغيب – بذاته من غير إعلام الله له، ولعلم يوم القيامة، متى يكون؟ وقد أعلن في الإنجيل أنه لا يعلمها، وأن الله وحده هو الذي يعلمها.
جاء في إنجيل مرقس: “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلم بها أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن إلا الآب، انظروا، اسهروا وصلوا؛ لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت”. (مرقس 13: 32)[3].
فلو كان عيسى – عليه السلام – إلها لعلم الغيب علما ذاتيا، ولعلم موعد الساعة، فما علم بالذات لا يتخلف، لكنه اعترف بعدم علمها، وأنه لا يعلمها إلا الله عز وجل.
إن معجزات عيسى – عليه السلام – مثلها كمثل معجزات غيره من الأنبياء والرسل كناقة صالح، وعدم إحراق النار لإبراهيم، وكونها بردا وسلاما عليه، وعصا موسى، ومعجزة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخالدة، التي ما زالت تتحدى العالمين، وكل يوم يثبت للعقلاء صدقها وصدق من نقلها، وهي القرآن الكريم.
وخلاصة القول أن غرابة الخوارق التي جرت على يد المسيح لا تجعل منه إلها، بل تجعله آية على قدرة خالقه، كما في قوله سبحانه وتعالى: )ولنجعله آية للناس( (مريم: ٢١).
ثالثا. لم يثبت عن المسيح أنه قال عن نفسه: إنه ابن الله، بل إن فريقا من النصارى هم الذين زعموا ذلك:
إن عقيدة المسلمين في المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام – أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقد أمر المسيح – عليه السلام – أتباعه بعبادة الله وحده، وحذرهم من عاقبة الشرك بالله، قال سبحانه وتعالى: )وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)( (المائدة: ٧٢)، فالمسيح – عليه السلام – لم يقل عن نفسه: إنه ابن الله، بل إن فريقا من النصارى الذين غالوا فيه، ورفعوه عن درجة البشرية إلى درجة الألوهية هم الذين زعموا ذلك، يقول سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)( (التوبة).
وقد جاء في إنجيل يوحنا على لسان عيسى: “الحق أقول لكم، من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان”. (يوحنا 1: 51)، وكذلك ورد أن عيسى – عليه السلام – يخاطب ربه على أنه الإله الواحد، وأنه رسوله وليس ابن إله ولا إله: “وهذه هي الحياة الأبدية أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا: 17: 3).
فإن جعلتموه إلها؛ لأنه ادعى ذلك كما تقولون، فإما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن ولا صادق، فضلا عن أن يكون نبيا كريما، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال سبحانه وتعالى: )ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم( (الأنبياء: ٢٩)، وكل من ادعى الألوهية من دون الله، فهو من أعظم أعداء الله كفرعون، والنمرود، وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله، ونبوته، ورسالته، وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال!
ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال، أنه يدعي الألوهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم فيقتله، ويظهر للخلائق أنه كان كاذبا، هذا فضلا عن أنه لو كان إلها لم يقتل، فضلا عن أن يصلب، ويسمر ويبصق في وجهه كما زعمتم!
ولو كان المسيح قد أقر بأنه عبد، ونبي، ورسول، كما شهدت بهذا الأناجيل كلها ودل عليه العقل، والفطرة، وشهدتم أنتم له بالألوهية – وهذا هو الواقع – فلم لم تأتوا على ألوهيته ببينة؟ وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته، وأنه مربوب مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يزد عن كونه نبيا رسولا، وكنتم بهذا مكذبين له ولكتابكم، وصدقتم من كذب على الله وعليه وحرف في كتابكم!
وها هي نقول من الكتاب المقدس تؤكد على لسان المسيح نفي الألوهية عنه منها:
“أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا كما أسمع أدين، ودينونتي عادلة؛ لأني لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني”. (يوحنا 5: 30).
“قال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي، والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي؛ لأني في كل حين أفعل ما يرضيه”. (يوحنا 8: 28).
“فأخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه”. (لوقا 7: 16).
“فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم”. (يوحنا 6: 14).
“قال لها يسوع:«لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم:إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”. (يوحنا 20: 17).
“يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم”. (أعمال الرسل 2: 22).
“ولا تدعوا لكم أبا على الأرض؛ لأن أباكم واحد، الذي في السماوات، ولا تدعوا معلمين؛ لأن معلمكم واحد المسيح”. (متى 23: 9، 10).
“تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال:«أيها الآب، قد أتت الساعة. مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضا، إذ أعطيته سلطانا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته. وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 17: 1 – 3).
” إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى”. (مرقس 12: 29، 30).
“ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا. فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل”. (متى 21: 10، 11).
“الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله”. (يوحنا 13: 16).
“ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله”. (يوحنا 8: 40).
“الله لم يره أحد قط”. (يوحنا 1: 18).
“أبي أعظم مني”. (يوحنا 14: 28).
ومن الواضح أن المقصود بالابن: العبد؛ إذ لو كان المسيح ابن الله، لصار النصارى كلهم أبناء الله، إذ يقول الكتاب المقدس: “إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم”، أو آلهة كما يزعمون، وهذا ما لم يدعه أحد منهم. وهذه النصوص كما أسلفنا صريحة في نفي الألوهية عن المسيح، وتوقع النصارى في التناقض[4].
رابعا. حوار النبي – صلى الله عليه وسلم – مع نصارى نجران، حول طبيعة المسيح أثبت عقلا ونقلا بشرية المسيح وعدم ألوهيته:
لقد رد القرآن على أهل التثليث، وأوضح في رده عليهم أن عيسى – عليه السلام – إنما أتى بعقيدة التوحيد، كما أنكر عيسى نفسه أن يكون إلها، أو أن توصف أمه بالألوهية، ولكن عبد الله ورسوله، وقد حذر قومه من الشرك بالله – عز وجل – ودعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويدل على ذلك آيات كثيرة من القرآن، منها قوله سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)( (المائدة). وذكر القرآن أن تأليه عيسى – عليه السلام – ليس إلا نوعا من الغلو، والقول على الله بغير حق، ولذلك يجب العدول عنه: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله( (النساء: 171).
ولم يكتف القرآن بالحديث عن بشرية عيسى – عليه السلام – ورسالته، وعبادته لربه، وتنزيهه لله – عز وجل – عن أن يكون له شريك في الألوهية، بل وصفه بصفات هي من صفات البشر، والله يتنزه عن هذه الحاجة وعما يرتبط بها، من جوع وضعف وهزال، وعما يترتب عليها من هضم وتخلص من بقايا الطعام، فالله – عز وجل – يطعم ولا يطعم، وهو الرازق للعباد وهم لا يرزقونه، ويطعمهم من خيره وهم لا يطعمونه، وهو الغني عن العالمين وهم مفتقرون إليه: )ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)( (الذاريات).
فإذا كان المسيح – عليه السلام – يأكل الطعام، فإن ذلك دليل حاسم على أنه بشر وليس بإله، وقد جاء في السنة النبوية ما يؤيد حجة القرآن ويفصلها، وذلك في جدال الرسول – صلى الله عليه وسلم – لنصارى نجران حول طبيعة المسيح – عليه السلام – فقد أثبتوا له الألوهية؛ لأنه ولد من غير أب، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: من أبوه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ فقالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيوم على كل شيء يكلؤه، ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب الشراب ويحدث الحديث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودا، فأنزل الله عز وجل: )الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2)( (آل عمران)[5].
وقد كان مما جاء في هذه الآيات وصف الله تعالى بأنه الحي القيوم “الحي الذي لا يموت”، وقد مات عيسى وصلب – في قولهم – والقيوم: القائم على مكانه، من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى – في قولهم – عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره.
وكان مما وصف الله – عز وجل – به نفسه قوله: )هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء( (آل عمران: ٦)، أي: قد كان عيسى ممن صورهم الله في الأرحام، ومثيرو هذه الشبهة لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، فكيف يكون عيسى إلها، وهو بذلك المنزل[6]؟!
خامسا. ما نسب إلى السدي – على فرض صحة نسبته إليه – ليس حجة على الإسلام؛ لأنه لم يرد في القرآن أو السنة المطهرة ما يؤيده، والسجود بمعنى الاحترام والتقدير لا العبادة:
استدل فريق من النصارى على ألوهية المسيح بما جاء في تفسير أبي السعود من قول السدي: إن أم يحيى قابلت أم عيسى ثم قالت لها: إن ما في بطني – يحيى عليه السلام – يسجد لما في بطنك – عيسى عليه السلام – قالوا: السجود لا يكون إلا لإله؟ والحق أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة نسبة هذا القول للسدي، ولو صحت نسبته إليه فلا تصح نسبته إلى أم يحيى؛ لأنه من كلام القصاصين.
وعلى فرض صحته، فالمراد بالسجود هنا التقدير والاعتراف بالفضل والنبوة، وليس سجود العبادة. وعلى كل فهذا القول ليس حجة على الإسلام، ما دام لم يرد في القرآن الكريم، ولا في السنة المطهرة، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء – عليهم السلام – وهذا الكلام لا ينهض أمام النصوص القاطعة بأن عيسى – عليه السلام – عبد الله ورسوله، وأن الإله هو الله – عز وجل – وحده دون سواه.
أما الانتقال من هذا الدليل الضعيف إلى الزعم أن علماء المسلمين، ونصوص القرآن تقر بأن المسيح هو الله، فهذا عبث، وكلام مرسل يصطدم بواقع الإسلام وإجماع النصوص من القرآن والسنة. تلك النصوص التي تؤكد دون أدنى شك، أو مواربة أن السيد المسيح إن هو إلا عبد الله ورسوله، وأنه يتبرأ من دعوى تأليه الناس، قال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا( (المائدة: ١٧). وقال سبحانه وتعالى: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)( (المائدة)[7].
الخلاصة:
لم يفهم النصارى القرآن الكريم، وما عرفوا أن الكلمة في قوله سبحانه وتعالى: )وكلمته ألقاها إلى مريم( هي )كن( أي: بكلمة الله كان عيسى – عليه السلام – وهذا واضح في قوله سبحانه وتعالى: )إن الله يبشرك بكلمة منه(.
إن قوله سبحانه وتعالى: )وروح منه( ليس فيه أيضا دلالة على ألوهية المسيح – عليه السلام – أو بنوته لله؛ لأن هذا يؤدي إلى ألوهية آدم وبنوته لله، فقد قال الله في آدم: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي(، وهذا ما لم يقل به أحد.
المعجزة هي الأمر الخارق للعادة، الذي يجريه الله على يد الأنبياء تصديقا لهم، وما حدث لعيسى – عليه السلام – من معجزات إنما كان بإذن الله ومشيئته، وقد حدث مثلها مع أنبياء الله مثل: إبراهيم، وموسى، ويوسف – عليهم السلام – ولم يزعم أحد أنهم آلهة أو أبناء لله.
إن الباحث في الكتاب المقدس لا يجد مثل هذا النص الذي يحتج به أهل التثليث على أن المسيح – عليه السلام – قال لهم: إنني أنا الله، فاعبدوني وصلوا لي وصوموا لأجلي؟ بل إن كتابهم المقدس يدل على أنه جاء ليدعوهم إلى عبادة الله، والإيمان برسالته، أي: إنه رسول وليس إله.
إن ما نسبه أبو السعود في تفسيره للسدي، لا يصح أن يكون دليلا على ألوهية المسيح – عليه السلام – لأننا لا نستطيع أن نجزم بصحة هذا القول للسدي، وإن ثبتت صحته، فلا يعد حجة على الإسلام، ما دام لم يرد في قرآن ولا سنة.
(*) مناظرة بين الإسلام والنصرانية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، دار الحديث، القاهرة. ط2، 1412هـ. مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، مصر، 1426هـ/ 2005م.
[1]. هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن القيم، دار ابن القيم، القاهرة، 1979م، ص25 وما بعدها.
[2]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص327 بتصرف.
[3]. رسالة للرد على رسالة تنصيرية شهيرة تزعم ألوهية المسيح من القرآن، إعداد وترتيب: محمود مهران، د. م، د. ن، د. ت.
[4]. انظر: البهريز في الكلام اللي يغيظ، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2006م.
[5]. أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 154) برقم (6544).
[6]. أصول العقيدة الإسلامية، د. محمد أبو خليفة، دار الهاني، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص180.
[7]. الشبكة الإسلامية، الخميس 8/ 9/ 2004م (شبهات حول القرآن وشبهات أخرى).
ادعاء أن القرآن أخطأ في إخباره أن من عثر على موسى- عليه السلام – هي امرأة فرعون
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم أخطأ في إخباره أن من عثر على موسى – عليه السلام – بعد أن وضعته أمه في التابوت وألقته في اليم هي امرأة فرعون ويستدلون على ذلك بقوله: )وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)( (القصص). ويزعمون أن التي عثرت عليه – عليه السلام – هي ابنة فرعون، كما ورد في التوراة.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم ينص القرآن الكريم على أن من عثر على موسى – عليه السلام – هي امرأة فرعون، ولكنه نص على أن من التقطه هم آل فرعون بصفة عامة.
2) نحن لا نحتكم إلى ما ورد في الكتاب المقدس للحكم بصدق ما جاء به القرآن، فالكتاب المقدس تناولته الأيدي البشرية وهو بصورته الحالية محل لانتقادات وتناقضات كثيرة.
التفصيل:
أولا. لم ينص القرآن الكريم على أن من عثر على موسى – عليه السلام – هي امرأة فرعون، ولكنه نص على أن من التقطه آل فرعون بصفة عامة:
اختلف المفسرون في أول من عثر على التابوت الذي وضع فيه موسى – عليه السلام – صغيرا، فمنهم من ذهب إلى “أن الجواري التقطته من البحر في تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرن[1]على فتحه، حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه وقالت: )قرت عين لي ولك( (القصص: 9) [2]، فقال لها: أمالك فنعم، وأما لي فلا”[3].
“ويروى أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في البحر، فأمرت بسوقه إليها وفتحه، فرأت فيه صبيا صغيرا فرحمته وأحبته، فقالت لفرعون: )قرت عين لي ولك( [4] وذهب فريق ثالث إلى أن حرس القصر الفرعوني رأوا صندوقا يمر على سطح النيل من جهة القصر، فحملوه إلى فرعون، ولما فتح الصندوق رأى فرعون بداخله غلاما فأمر بقتله، واعترضت امرأة، عندما رأت وجهه يتلألأ نورا، وألقى الله عليه محبة منه”[5].
وكل هذه آراء اجتهادية لا تستند إلى دليل واضح، أما الحقيقة الواضحة فإن القرآن لم يذكر اسم أول من عثر على تابوت موسى عليه السلام، حيث إن قوله:)آل فرعون( قابل لأن يفسر بامرأة فرعون، أو ابنة فرعون أو جواريه أو غيرهن من “آل فرعون” أو اشترك في التقاطه وتداوله أكثر من واحد، فهذا يأخذه من “اليم” وآخر يحمله منه، وثالث يتلهف على هذه المفاجأة فيحمله ناظرا إليه، وهذا ما يفهم من الآية الكريمة، ويصور هذا الحدث المفاجئ أصدق تصوير)فالتقطه آل فرعون( (القصص:8)وليس واحدا منهم بعينه.
ثانيا. نحن لا نحتكم إلى ما ورد في الكتاب المقدس للحكم بصدق ما جاء به القرآن، فالكتاب المقدس بصورته الحالية محل لانتقادات وتناقضات كثيرة:
لقد صدق القرآن الكريم في كل ما أخبر به؛ لأنه تنزيل رب العالمين، ومن الأمثلة الدالة على صدق القرآن فيما يخبر، إخباره بغلبة الروم على الفرس يقول: )الم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهـم مـن بعـد غلبهـم سيغلبــون (3) فـي بضـع سنيـن( (الروم) يقول القرطبي: “وكان في هذا الإخبار دليل على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – لأن الروم غلبتها فارس، فأخبر الله – عز وجل – نبيه محمدا – صلى الله عليه وسلم – أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين… فكان هذا من علم الغيب الذي أخبر الله – عز وجل – مما لم يكن علموه”[6].
والأمثلة على ذلك كثيرة مما أخبر به القرآن ووقع بالفعل كإخباره بحفظ القرآن من التحريف وظهور الإسلام على سائر الأديان، وموت أبي لهب والوليد بن المغيرة على الكفر، وغيرها مما حدث بالفعل.
وكذلك أخبر القرآن عن إثبات حركة الشمس بقوله تعالى: )والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)( (يس) تدل الآية على أن الشمس متحركة وليست ثابتة، وهي تجري لمستقر لها وفق ناموس[7] إلهي ثابت، وهذا ما انتهى إليه البحث العلمي مؤخرا، مع العلم بأن العلماء إلى وقت قريب كانوا يعتقدون أنها ثابته[8].
وأمثلة الاكتشافات العلمية الحديثة التي أشار إليها القرآن الكريم كثيرة ومتعددة مثل حركة الشمس وشكلها، وعملية تكون السحب، وحفظ توازن الأرض بالجبال، وانتشار الزوجية من كل شيء.
أما إذا ذهبنا إلى التوراة فإننا نجد كلماتها مشكوكا فيها، والدليل على ذلك: أن اسم الرجل في موضع يأتي من موضع آخر باسم آخر، وكذلك المرأة وهذا يتكرر كثيرا، فإسماعيل – عليه السلام – كانت له ابنة اسمها محلث وتزوجت العيس بن إسحاق – عليه السلام – كما جاء في سفر التكوين: “فذهب عيسو إلى إسماعيل وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم، أخت نبايوت، زوجة له على نسائه”. (التكوين28: 9)، وفي ترجمة لبنان “محلة”، وفي ترجمة البروتستانت “بسمة” كما جاء في سفر التكوين أيضا: “وبسمة بنت إسماعيل أخت نبايوت”. (التكوين 3: 36)، والشيخ الكبير في أرض مدين مختلف في اسمه، ففي الخروج “رعوئيل”: “فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم”. (الخروج2: 18)، وفي موضع آخر من سفر الخروج “يثرون”: “فمضى موسى ورجع إلى يثرون حميه وقال له: أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين في مصر لأرى هل هم بعد أحياء. فقال يثرون لموسى: اذهب بسلام”. (الخروج18: 4) [9]. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى مما تناقضت فيه التوراة.
وبناء على هذا فإن القرآن الكريم حجة فيما يذكر؛ لأنه كلام الله – عز وجل – الذي لم ولن تمتد إليه يد البشر، قديما ولا حديثا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122)( (النساء)، )ومــن أصــدق مــن الله حديثــا (87)( (النساء).
أما ما ورد في الكتاب المقدس فهو محل انتقادات كثيرة لما فيه من تناقضات وأباطيل مخالفة للتاريخ والعلم والعقل، فلا يصح أن نحكم الكتاب المقدس الظني المحرف في القرآن الكريم القطعي المعصوم من التحريف.
الخلاصة:
لم ينص القرآن الكريم على أن من عثر على موسى – عليه السلام – هي امرأة فرعون، ولكنه نص على أن من التقطه آل فرعون بصفة عامة، وهنا يمكن أن يفسر بامرأة فرعون، أو ابنته، أو جواريه، أو غيرهن.
ما ورد في الكتاب المقدس محل انتقادات كثيرة، وذلك لما ورد فيه من أباطيل وتناقضات مع التاريخ والعقل والعلم، فلا يصح أن نحكم الظني – الكتاب المقدس – في القطعي – القرآن الكريم – الذي هو الصدق كل الصدق، فهو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(*) موقع المتنصرين. www.mutenessrin.com
[1]. يتجاسرن: يتجرأن.
[2]. قرة عين: سببا للسرور والسعادة.
[3]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص224، 255 بتصرف يسير.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص253.
[5]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص185 بتصرف يسير.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص5.
[7]. الناموس: القانون الثابت.
[8]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية ورد الشبهات عنها، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/ 1991، ص216.
[9]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص497 بتصرف.
ادعاء أن القدامى انتحلوا الشعر الجاهلي لإثبات الأصالة العربية للقرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن المفسرين والمحدثين لما أرادوا أن يدللوا على عروبة القرآن الكريم، والحديث الشريف لجئوا إلى نظم الشعر، ونحلوه لشعراء جاهليين، بل اختلقوا أسماء لشعراء ادعوا أنهم جاهليون، بينما لم يكن لأي منهم وجود حقيقي**.
وجوه إبطال الشبهة:
إن الأصل الذي قرره علماء اللغة وأخذوا به مصدرا للأدب العربي رواية الرواة الحفظة لهذا الأدب، أولئك الذين ينحدرون من قبائل عربية أصيلة.
وقد زعم بعض المعاصرين أن بعض المتأخرين في العصرين الأموي والعباسي قد نحلوا الشعر وصاغوه هم بأسلوبهم، ونسبوه إلى العصور السابقة عليهم؛ ليدللوا بذلك – أي الرواة – على عروبة القرآن الكريم، وأن له مستندا من لغة العرب، ويؤكدون زعمهم هذا بقولهم: إن كثيرا ممن نسب إليهم الشعر القديم لا وجود لهم حقيقة، بل أسماؤهم وهمية مزعومة.
ولنا في الرد على هذه الشبهة وجوه منها:
1) أن تزوير أدب أمة بكامله يعد من المستحيلات التي يرفضها العقل.
2) القرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس في حاجة إلى أن تتوقف عروبته على شعر جاهلي، أو غير جاهلي.
3) ما استعمله المفسرون والمحدثون من الشعر الجاهلي قليل جدا إذا قورن بما للشعراء الجاهليين من تراث شعري.
التفصيل:
أولا. إنه من المستحيل تزوير أدب أمة بكامله، فتلك قضية يرفضها العقل، ولا وجه لاحتمال قبولها أبدا، فشعر امرئ القيس – مثلا – موزع على مراحل عمره، ولشعر كل مرحلة منها خصائص فريدة. فمن – يا ترى – ذلك العبقري الذي يحسن أن يقول شعرا متفاوت السمات ثم يدعي أنه شعر امرئ القيس؟! وهكذا يقال في جميع الشعراء الجاهليين.
ثم إن شعراء الجاهلية كانوا أحرص الناس على ضبط مروياتهم؛ فاتخذ كل منهم له رواية شاعرا يأخذ عنه شعره ويبلغه الناس؛ ليضمن ضبط النقل عنه وصحة الرواية.
كما كان الشعراء يتناشدون قصائدهم في الأسواق والمواسم فتذيع عنهم وتروى، فلم يكن ثمة مجال للتزيد والكذب على أحد منهم في هذا المناخ الأدبي المحتدم.
وجاء الإسلام، وبدأ نشاط الرواية يزداد في ظل دولة بني أمية، لكنه كان محوطا بدائرة محكمة من الرقابة النقدية الصارمة التي اضطلع بها طائفة من الرواد أمثال أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق والمفضل الضبي والقاسم بن سلام، وخلق سواهم، وقد وضع هؤلاء أطرا زمانية ومكانية صارمة لقبول الرواية.
إنها حلقة نقدية قوية أدارت الحركة العلمية الفتية في ذلك الوقت المبكر، وعملت على التمحيص والفحص لكل رواية؛ لتمييز الأصيل من المصنوع.
كيف إذن لمتوهم أن يعتقد أن أحدا كان يمكنه اختراق هذه الأسيجة الحصينة؛ ليزور على الأمة أدبها وثقافتها؟!
ثانيا. القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وهو ليس في حاجة إلى أن تتوقف عروبته على شعر جاهلي أو غير جاهلي، فهذا خطأ شنيع وقع فيه هؤلاء، وافتراء وجهل ليس لهما مثيل، ومفسرو القرآن وشارحو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يستشهدون بشيء من الشعر على تفسير آية أو حديث، أو كلمة في آية أو في حديث، لم يكن هدفهم التدليل على عروبة القرآن أو الحديث، بل كان هدفهم الشرح والإيضاح، أو أن العرب كانوا يقولون ذلك، وهذا على سبيل الاستئناس لا على سبيل الوجوب.
ثالثا. ما استعمله المفسرون والمحدثون من الشعر الجاهلي قليل جدا إذا قورن بما للشعراء الجاهليين من تراث شعري، ومما يدحض النتيجة التي توصل إليها مثيرو هذه الشبهة – وهي أن تزوير الشعر الجاهلي كان بهدف الاستشهاد على عروبة القرآن الكريم الأمور الآتية:
أن الشعر الجاهلي واستعمالاته للغة – إفرادا وتركيبا – أوفر بكثير مما جاء في القرآن الكريم.
أن في القرآن الكريم ألفاظا وتراكيب ليس لها نظير في الشعر الجاهلي.
أن استشهاد المفسرين والمحدثين لم يكن مقصورا على الشعر الجاهلي بل استشهدوا – كذلك – بشعر الإسلاميين في عهدي الأمويين والعباسيين.
وكما استشهد المفسرون والمحدثون بالشعر الجاهلي في التفسير وشرح الحديث، استشهد علماء اللغة والبلاغة وغيرهم على القواعد اللغوية بالآيات القرآنية، وبالأحاديث النبوية.
أن جامعي اللغة ومستنبطي أصولها وقواعدها كانوا يتحرون الدقة في الرواية، فلم يأخذوا اللغة عن كل أحد،، بل كانوا يقبلون روايات العرب الأقحاح، والبدو الخلص الذين لم تلن ألسنتهم رخاوة الحضارة، ولم تفسد لهجاتهم مخالطة الشعوب غير العربية.
أن جمع اللغة – وبخاصة الشعر – بدأ مبكرا قبل تصدي العلماء لتفسير كتاب الله، وجمع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونشير هنا – مجرد إشارة – إلى كتاب “جمهرة أشعار العرب” لأبي زيد القرشي، وكان من رجال القرن الثاني الهجري في بعض الروايات، وكتاب “طبقات فحول الشعراء” لابن سلام الجمحي المتوفى في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وهذان الكتابان من أسبق الكتب في جمع أشعار العرب الجاهليين ومن جاء بعدهم في صدر الإسلام، فهل المسبب يتقدم على السبب؟! إنهم يقولون: إن سبب تزوير الشعر الجاهلي هو حاجة المفسرين والمحدثين لإثبات عروبة القرآن والحديث، ووجود الشعر الجاهلي مزورا هو المسبب؛ وها نحن قد رأينا وجود الشعر الجاهلي قبل بدء تدوين كتب التفسير والحديث؛ وعلى هذا يلزم عن منطق هؤلاء المعوج أن: المسبب يتقدم على السبب، وهذا باطل في حكم العقل والعلم والواقع والنقل؟!
(*) قصة الحضارة، وول ديورانت، ترجمة: محمد بدارن، دار الجيل، بيروت، 1418 هـ/ 1998م. اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، إدوار جيبون، ترجمة: محمد سليم سالم، دار الكتب المصرية، القاهرة، د. ت. دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شبهة، مكتبة السنة، القاهرة، 1409 هـ/ 1989م. المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410 هـ/ 1990م. افتراء المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 1992م.
ادعاء أن القرآن أخطأ في ذكر عقيدة ذي القرنين
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم أخطأ في ذكر عقيدة ذي القرنين، ويستدلون على زعمهم بقوله سبحانه وتعالى: )وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88)( (الكهف). فيزعمون أن القرآن قد مدح الإسكندر الأكبر – ذا القرنين – باعتباره عبدا صالحا يؤمن بالله، في حين أن جميع مؤرخي الإغريق يجمعون على أنه كان من عبدة الأوثان!
وجها إبطال الشبهة:
1) لقد كان ذو القرنين ملكا عادلا صالحا، بلغ ملكه المشارق والمغارب، وقد أعطاه الله – عز وجل – القدرة على السير في الأرض شرقا وغربا لنشر الإسلام في ربوعها، ومن ثم فالقرآن لم يخطئ في ذكر عقيدته حين أخبر أنه كان مؤمنا بالله موحدا.
2) جمهور المؤرخين وكبار المفسرين على أن ذا القرنين الذي ذكر في القرآن الكريم، ليس هو الإسكندر الأكبر المقدوني، الذي لقب بذي القرنين تشبيها له بالأول بعدما قضى على مملكة فارس ودانت له الممالك شرقا وغربا، ومن هنا حدث الخلط بينهما عند بعض الباحثين.
التفصيل:
أولا. ذو القرنين ملك من الملوك العادلين بلغ ملكه المشارق والمغارب على نحو ما جاء في القرآن:
لقد ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالعدل التام، والسلطان المؤيد المظفر المنصور القاهر المقسط، والصحيح أنه كان ملكا من الملوك العادلين، قال إسحاق بن بشر عن عثمان بن الساج، عن خفيف، عن عكرمة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا – رضي الله عنه – عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان وزيره الخضر، وذكر أن الخضر – عليه السلام – كان على مقدمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المشاور الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم، وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليهما السلام.
وروي عن عبد الله بن عمير وابنه عبد الله وغيرهما أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم الخضر – عليه السلام – لما سمع بقدومه تلقاه ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد[1].
وقد اختلف في كونه نبيا أم ملكا أم عبدا صالحا، فقد جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا أدري ذو القرنين كان نبيا أو لا»[2]، وذكر وهب في “المبتدأ” أنه كان عبدا صالحا، وأن الله بعثه إلى أربع أمم: أمتين بينهما طول الأرض، وأمتين بينهما عرض الأرض وهي ناسك ومنسك وتأويل وهاويل، وعن أبي الطفيل قال: «سمعت ابن الكوا يقول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخبرني ما كان ذو القرنين؟ قال: كان رجلا أحب الله فأحبه، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه ضربة مات منها، ثم بعثه الله إليهم فضربوه على قرنه ضربة مات منها، ثم بعثه الله فسمي ذا القرنين». ورغم ضعف عبد العزيز أحد رواة الحديث إلا أنه توبع على أبي الطفيل، أخرجه سفيان بن عيينه في جامعه عن ابن أبي حسين عن أبي الطفيل نحوه وزاد: «وناصح الله فناصحه»، وفيه: لم يكن نبيا ولا ملكا، وقيل: كان ملكا من الملائكة حكاه الثعلبي، وهذا مروي عن عمر – رضي الله عنه – أنه سمع رجلا يقول يا ذا القرنين فقال: تسميه بأسماء الملائكة، وقيل: كان من الملوك وعليه الأكثر[3].
واختلف العلماء والمفسرون في اسمه، فقيل هو الصعب ابن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير، وبه جزم كعب الأحبار، وذكره ابن هشام في التيجان عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أيضا، وقال أبو جعفر بن حبيب في كتاب “المحبر”: هو المنذر أحد ملوك الحيرة، وأمه ماء السماء ماوية بنت عوف بن جشم، قال: وقيل الصعب بن القرن بن حمال من ملوك حمير، وأما قول ابن إسحاق الذي حكاه ابن هشام عنه من أن اسم ذي القرنين مرزبان بن مرديه، فقد صرح بأنه الإسكندر، لذلك اشتهر على الألسنة لشهرة السيرة لابن إسحاق.
قال السهيلي: والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم الخضر عليه السلام، ويقال إن إبراهيم الخضر – عليه السلام – تحاكم إليه في بئر السبع بالشام فقضى لإبراهيم، والآخر كان قريبا من عهد عيسى الخضرعليه السلام. ثم يقول ابن حجر: “لكن الأشبه أن المذكور في القرآن هو الأول بدليل ما ذكر من ترجمة الخضر، حيث جرى ذكره في قصة موسى قريبا أنه كان على مقدمة ذي القرنين، وقد ثبتت قصة الخضر مع موسي، وموسى كان قبل زمن عيسى قطعا”[4].
واختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين، فقيل: لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها، رواه الزبير بن بكار عن الزهري، وقيل لأنه ملكهما، وقيل لأنه رأى في منامه أنه أخذ بقرني الشمس، وقيل لأنه كان له ضفيرتان تواريهما ثيابه، وقيل لأنه عمر حتى فني في زمانه قرنان من الناس، وقيل غير ذلك[5].
وقد أخبر الله تعالى عنه أنه مكن له في الأرض فقال: )إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا (84)( (الكهف)؛ أي وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة، قال قتيبة، عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماز، قال: كنت عند على بن أبي طالب – رضي الله عنه – وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال له: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له في النور، وقال: أزيدك؟ فسكت الرجل وسكت علي رضي الله عنه.
وعن أبي إسحاق السبيعي، عن عمرو بن عبد الله الوادعي سمعت معاوية – رضي الله عنه – يقول: ملك الأرض أربعة: سليمان بن داود النبي – عليهما السلام – وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان، ورجل آخر، فقيل له الخضر؟ قال: لا. وقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران: سليمان النبي وذو القرنين ونمرود وبختنصر، وهكذا قال سعيد بن بشير: سواء، وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا، أتى المشرق والمغرب، مد الله له في الأجل ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الأموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجاب[6] في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب، فذلك قوله تعالى: )إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا (84)([7].
فهل يعطي الله كل هذه الأسباب لرجل مشرك، ثم يمدحه بعد ذلك في القرآن؟!! ولقد رأينا كيف أن الله – سبحانه وتعالى – يتوعد الملوك الذين يخالفون أوامره ويصدون العباد عن عبادته وحده كفرعون والنمرود وغيرهم.
وبهذا يتبين لنا أن ذا القرنين هو ذاك الملك المسلم، الذي كان في زمن سيدنا إبراهيم، وأنه – عليه السلام – حقق العدالة ورفع الظلم، ودعا إلى عبادة الله – عز وجل – في كل البلاد التي فتحها. فكيف يدعون أن القرآن أخطأ في ذكر عقيدته؟!!
وما كان هذا الخطأ إلا نتيجة خلطهم بين ذي القرنين الملك الصالح، وبين الإسكندر الأكبر المقدوني الذي تؤرخ به الروم، وهذا ما سنوضحه في الوجه الآتي:
ثانيا. ليس الإسكندر الأكبر – المقدوني – هو ذا القرنين المذكور في القرآن:
لقد فرق العلماء وأصحاب السير بين ذي القرنين المذكور في القرآن، وبين الإسكندر الأكبر المقدوني اليوناني، يقول ابن كثير:
فأما ذو القرنين الثاني – أي الإسكندر الأكبر المقدوني – فهو إسكندر بن فيلبس بن مضريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن نونة بن سرحون بن رومة بن ثرنظ بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، كذا نسبه ابن عساكر في تاريخه، المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان أرسطوطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس وأوطأ[8] أرضهم. وإنما نبهنا عليه؛ لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيره، فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقيل إنه كان نبيا على اختلاف في ذلك.
وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانيهما أزيد من ألفي سنة. فأين هذا من هذا؟ لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور[9].
ويؤكد ما ذهب إليه ابن كثير ما قاله ابن القيم في “إغاثة اللهفان”:
ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس، وليس بالإسكندر ذي القرنين، الذي قص الله – عز وجل – نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين، فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها.
وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وأما هذا المقدوني، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له وكان أرسطاطاليس وزيره، وكان مشركا يعبد الأصنام[10].
ومما يؤكد ذلك ما قاله الفخر الرازي في تفسيره: إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويا، وهو أنه كان تلميذ أرسطا طاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق، وذلك مما لاسبيل إليه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – عدة قرون بين ذي القرنين العبد الصالح الذي ذكر في القرآن، وبين الإسكندر الأكبر المقدوني اليوناني فقال: الأكثر على أنه، أي ذا القرنين الصالح الأول – كان من الملوك الصالحين، وفي إيراد المصنف ترجمة ذي القرنين قبل إبراهيم – عليه السلام – إشارة إلى توهين قول من زعم أنه الإسكندر اليوناني؛ لأن الإسكندر كان قريبا من زمن عيسى – عليه السلام – وبين زمن إبراهيم وعيسى – عليهما السلام – أكثر من ألفي سنة، والذي يظهر أن الإسكندر المتأخر لقب بذي القرنين تشبيها بالمتقدم لسعة ملكه وغلبته على البلاد الكثيرة، أو لأنه لما غلب على الفرس وقتل ملكهم انتظم له ملك المملكتين الواسعتين الروم والفرس فلقب ذا القرنين لذلك، والحق أن الذي قص الله نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من أوجه: أحدها ما ذكرته وثانيا: قول الفخر الرازي في تفسيره: كان ذو القرنين نبيا على اختلاف في ذلك، وكان الإسكندر كافرا، وكان معلمه أرسطاطاليس، وكان يأتمر بأمره وهو من الكفار بلا شك. وثالثا: كان ذو القرنين من العرب، وأما الإسكندر فهو من اليونان، والعرب كلها من ولد سام بن نوح باتفاق، واليونان من ولد يافث بن نوح على الراجح فافترقا[11].
ثم يدلل ابن حجر على عروبته بذكر بعض الأبيات من كلام العرب، قيل: والذي يقوي أن ذا القرنين من العرب كثرة ما ذكروه في أشعارهم، قال أعشى بن ثعلبة:
والصعب ذو القرنين أمس ثاويا
بالحنو في حدث هناك مقيم
قال الربيع بن ضبيع:
والصعب ذو القرنين عمر ملكه
ألفين أمسى بعد ذاك رميما
ويقول قس بن ساعدة:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا
باللحد بين ملاعب الأرياح
وقال تبع الحميري:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكا تدين له الملوك وتحشد
من بعده بلقيس كانت عمتي
ملكتهم حتى أتاها الهدهد
ويؤخذ من أكثر هذه الشواهد أن الراجح في اسمه الصعب، ووقع ذكر ذي القرنين أيضا في شعر امرئ القيس وأوس بن حجر وطرفة بن العبد وغيرهم[12].
ويؤكد كلام ابن حجر ما قاله الشيخ تقي الدين المقريزي في “الخطط”: اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره الله – عز وجل – في القرآن اسمه الصعب بن الحارث، وساق نسبه إلى قحطان بن هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح – عليه السلام – وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب العاربة، ويقال لهم أيضا العرب العرباء، وكان ذو القرنين تبعا متوجا، ولما تولى الملك تجبر، ثم تواضع لله تعالى، وقد غلط من ظن أن الإسكندر هو ذو القرنين الذي بنى السد، فإن لفظة “ذو” عربية، وذو القرنين من ألقاب ملوك اليمن، وذلك يوناني رومي[13].
ومن خلال تتبعنا لأقوال علماء المسلمين، سواء أكانوا مؤرخين أم مفسرين أم محدثين، فإننا نجد أن ما قرروه من ضرورة التفرقة بين ذي القرنين الذي ذكر في القرآن، وذي القرنين الذي هو الإسكندر المقدوني اليوناني – يؤكده ما ذكره المؤرخون في سيرة هذا المقدوني اليوناني؛ فقد ذكروا أنه كان قائدا عظيما، وذا قدرة كبيرة على التخطيط والبراعة في الأداء والقيادة، ولكنه كان قاسيا وبلا رحمة في أوقات أخرى. ومن المعروف أنه كان سكيرا لدرجة أنه في إحدى المرات قتل صديقه كليتوس في نوبة غضب، وقد ندم كثيرا على ذلك الأمر، وقبل موته بفترة وجيزة، جعل اليونان تعبده بوصفه إلها؛ وذلك بسبب طبيعته كإله كما كان يقول عن نفسه… وقد انتهى هذا الأمر بموته، وقد استطاع أن يؤسس عام 332 مدينة الإسكندرية عند نهاية نهر النيل، والتي أصبحت بعد ذلك المركز الثقافي والعلمي والتجاري للعالم اليوناني. وكان أرسطو هو معلم الإسكندر، وقد أعطاه تدريبا كبيرا في علم البلاغة والخطابة والأدب، وحث اهتمامه بالعلوم والطب والفلسفة.
ومما يدل على أن هذا الملك اليوناني كان سييء الخلق، ولا يصح أن يطلق عليه وصف القرآن الكريم، ومدحه بالعدل والقسط والإيمان بالله – سبحانه وتعالى – أنه مات بعد أن سقط مريضا بحوالي أسبوعين، وكان قد سلم الخاتم الخاص به لقائد جيشه، وهو على فراش الموت، وطلب من الجنود زيارته في فراشه، ويبدو أن المحيطين به في تلك الفترة كانوا متآمرين عليه نظرا لتصرفاته وسلوكياته الغريبة، حيث إنه في أواخر أيامه طلب من الإغريق تأليهه في الوقت الذي كان فيه عنيفا مع الكثيرين، بالإضافة إلى إكثاره في شرب الخمر، كل هذه العوامل جعلت البعض يتربصون به ويحاولون الفتك به. وقد مات مسموما كما ذكرت بعض المصادر التاريخية.
وهذا ما أكده د. جواد علي حيث قال: وأورد أريان في كتابه قصة أخرى، خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: أورانوس، وديونيوس وجميع الكواكب وخاصة الشمس، فلما سمع الإسكندر بذلك أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب[14].
فهل يعقل أن من يريد أن يجعل نفسه إلها من دون الله يذكره الله في كتابه ويثني عليه خيرا؟!!
إن هذه الحياة التي يصورها لنا المؤرخون والمفسرون عن هذا الرجل – الإسكندر المقدوني – من كفر وسكر ومكر في معاملة قواده – لتؤكد الفرق الكبير والبون الشاشع بين هذا الذي ذكره القرآن، وبين المقدوني اليوناني.
الخلاصة:
ذو القرنين ملك من الملوك الصالحين العادلين، الذين رفع الله بهم الظلم عن العباد، وقد أعطاه الله القدرة على السير في الأرض لنشر دينه – سبحانه وتعالى – في ربوع الأرض، وقد زوده الله بالعلم والمعرفة والتقوى.
لم يخطئ القرآن في ذكر عقيدة ذي القرنين، لأنه كلام الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه )ومن أصدق من الله قيلا( (النساء: ١٢٢).
سمي الإسكندر الأكبرالمقدوني بذي القرنين تشبيها بالأول الذي ذكر في القرآن، لأن ممالك المشرق والمغرب دانت له بعد أن قضى على الفرس، وذلك سنة (336 ق. م)، ومن هنا جاء الخلط بينهما.
فرق العلماء والمؤرخون بين ذي القرنين الذي ذكره الله في القرآن وبين الإسكندر الأكبر المقدوني، فالأول كان ملكا صالحا مؤمنا يدعو إلى الله ويعمل على نشر دينه والثاني كان كافرا مشركا بالله يعبد الأصنام هو وقومه. والأول كان في زمن إبراهيم – عليه السلام – وحج معه والثاني كان قبل بعثة عيسى – عليه السلام – بثلاثمائة وست وثلاثين سنة، أي أن بينهما ما يزيد على ألفي عام، والأول على أصح الأقوال كان عربيا ويبدو هذا من ذكر بعض الشعراء العرب له في أشعارهم، والثاني كان يونانيا مقدونيا انحدر إلى الشرق بعدما استولى على أملاك الدولة الفارسية؛ فكيف يتشابهان أو يتقاربان كما قال ابن كثير وابن حجر؟!!
كان الإسكندر الأكبر المقدوني قائدا عظيما، فتح البلاد شرقا وغربا، إلا إنه كان سكيرا يشرب الخمر، وكان أحيانا يبطش بقواده، وهذا كان سببا في حقدهم عليه ومحاولتهم للتآمر عليه، على خلاف ذي القرنين المذكور في القرآن، الذي كان عادلا صالحا يخدم الناس ويقوم على مصلحتهم، وقد بنى السد بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
(*) شبكة بلدي لمقاومة التنصير. www.balady.net
[1]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، ج1، ص451، 450 بتصرف.
[2]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الدخان (3682)، ووافقه الذهبي في التلخيص.
[3]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ج6، ص442، 441 بتصرف.
[4]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ج6، ص442، 443 بتصرف.
[5]. سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1986م، ج22، ص464 بتصرف.
[6]. جاب: طاف.
[7]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، ج1، ص453، 452 بتصرف.
[8]. أوطأ: دخل.
[9]. البداية والنهاية، ابن كثير، دار التقوى، القاهرة، 2004م، ج1، ص452 بتصرف يسير.
[10]. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1395هـ/ 1975م، ج2، ص263.
[11]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، ج21، ص172.
[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ج6، ص440، 441 بتصرف.
[13]. سبل الهدى والرشاد في هدي خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1986م، ج2، ص465.
[14]. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، جامعة بغداد، العراق، ط2، 1413هـ/ 1993م، ج2، ص6 بتصرف.
ادعاء أن القرآن يأتي بأحداث لا وجود لها في الحقائق التاريخية
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم يأتي بأحداث مبهمة لا وجود لها في الحقيقة، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38)( (الفرقان). ويتساءلون: من هم أصحاب الرس؟ وفي أي البلاد كانوا؟ وفي أي الأزمان عاشوا؟ ولماذا لم يوضح لنا القرآن ذلك إن كان لهم وجود؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) القرآن الكريم آخر الكتب السماوية وأشملها وأكملها؛ حيث جمع الله فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، كما أن عدم العلم بالشيء ليس دليلا على عدم وجوده.
2) من قصص الأمم ما ذكرها القرآن مفصلا وكررها، وفيها ما يختصر ذكرها، ومنها ما يشير إليها إشارة عابرة، ومنها ما يطوى ذكره؛ ليحتفظ علام الغيوب به عنده.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم آخر الكتب السماوية وأشملها وأكملها:
القرآن الكريم هو كلام الله – عز وجل – الذي لم تمتد إليه يد البشر بالتحريف أو التبديل أو التغيير، فهو آخر الكتب السماوية وخاتمها، وأشملها، وأكملها؛ حيث جمع الله فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، ولهذا جعله الله تعالى مهيمنا، أي: شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها، فما وافق القرآن من الكتب السماوية فهو حق، وما خالفه فهو باطل. [1]
كما أن عدم العلم بقصة أصحاب الرس ليس حكما بعدم وجودها، فلم يذكر التاريخ كل شيء حتى ينكر ما لم يرد فيه، وعلى هذا فإن هؤلاء المشككين فيما ورد من حقائق في القرآن لم يعلموها، كان ينبغي عليهم أن يسألوا إذ جهلوا ويطلبوا العلم من أهله، أما أن يكون الإنسان جاهلا بالشيء ثم يدعي عدم وجوده، لا لدليل قائم لديه يقوي زعمه أو بينة تدعم قوله، فهذا هو الجهل المركب.
ثم إننا نسألهم عن مقدار علمهم وما الذي قد علموه من أحداث البداية والنهاية في الخلق وشئون الحياة منذ أن أوجدها بارئها عز وجل.. «إن موسى لما التقى بالخضر – عليهما السلام – فسلم عليه، فرد الخضر عليه السلام وقال: “هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم؛ قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدا. قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك؟! يا موسى، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله، إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر»[2] [3].
فإذا كان ذلك علم الأنبياء والأولياء الذين وهبهم الله علما لم يعطه أحدا غيرهم، فما بالنا بغيرهم من البشر العاديين، ماذا يساوي علمهم في جنب علم الله؟!
ثانيا. من قصص الأمم ما ذكرها القرآن مفصلا وكررها، وفيها ما يختصر ذكرها، ومنها ما يشير إليها إشارة عابرة، ومنها ما يطوى ذكره ليحتفظ علام الغيوب بعلمه:
الرس في كلام العرب: البئر غير المطوية، والجمع رساس[4]، قال النابغة الجعدي: تنابلة يحفرون الرساسا، يعني: آبار المعادن. وأصحاب الرس: قوم من بقايا ثمود؛ لذلك لم يذكر الله – عز وجل – قصتهم إلا عرضا، فهم كقوم تبع الذين كانوا من قبائل سبأ، أغنى عن ذكرهم تفصيلا ما ذكره الله عن سبأ[5].
إن أصحاب الرس من بين الهالكين الذين لم تبق من بعدهم ذرية، ولم تبق لهم آثار تدل عليهم والله – عز وجل – ينوع في ذكر الأمم الخوالي؛ ليبين لنا أن قدرته تناولت كل مقدور، فمن هذه الأمم من بقي من بعدها ذرية لا تزال موجودة، وهم قوم موسى، ومنهم من استؤصلوا ولم يترك من بعدهم نسل وهم عاد، وثمود، وأصحاب الرس، وهناك أمم كثيرة عاشوا في قرون متطاولة، على مدى التاريخ الإنساني طوي ذكرهم، فما أكثر الهالكين! كما قال سبحانه وتعالى: )وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38)( (الفرقان) (الفرقان)، وهناك من الأمم من أهلكوا وبقيت آثارهم تدل عليهم، كقوم لوط: )ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40)( (الفرقان). وهذا التنوع في ذكر قصص السابقين مقصود ملحوظ، وهل كل ما لم يعرفه الإنسان لا وجود له؟ وهل سجل في التاريخ كل شيء حتى ينكر ما لم يرد فيه؟
ثم إن القرآن يطلب من أتباعه، بل من البشرية جمعاء أن تسير في الأرض وتبحث لتعرف ما خفي عنها، وإشارات القرآن مقصودة في ذاتها للبحث والتقصي، وما زال العلم يطلع علينا بما يكشف عن بعض الأمور التي تركها القرآن للإنسان؛ ليصل إليها بجهده وبحثه.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القصة في القرآن أنواع، فهناك القصة المطولة التي يسردها القرآن ويفصلها كقصة يوسف – عليه السلام – وهناك القصة المطولة التي يفصلها القرآن كقصة موسى – عليه السلام – وهناك القصص القصيرة التي يختصر القرآن ذكرها كقصة ذي القرنين، وهناك القصة تتنزل بطلب من الناس كقصة أصحاب الكهف، وهناك القصة التي يشير إليها القرآن إشارة عابرة كقصة أصحاب الرس، وقوم تبع، وهناك القصة التي يطوى ذكرها ليحتفظ علام الغيوب بعلمها[6].
الخلاصة:
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي لم تمتد إليه يد بالتحريف والتبديل، فهو خاتم الكتب السماوية وأشملها وأكملها، وهو الحاكم عليها كلها، فما وافق القرآن من الكتب السماوية والتاريخ فهو حق، وما خالفه فهو باطل، كما أن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدم وجود هذا الشيء.
أصحاب الرس هم قوم من بقايا ثمود؛ لذلك لم يذكر الله تعالى قصتهم إلا عرضا.
قصة أصحاب الرس هي من القصص التي أشار إليها القرآن إشارة عابرة، وهذا نوع من أنواع القصص القرآني، فهناك القصة المطولة كقصة يوسف – عليه السلام – وهناك القصة القصيرة كقصة ذي القرنين، وهناك القصة التي يشار إليها إشارة عابرة، وغيرها.
(*) موقع ابن مريم.
[1]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ج1، ص434 بتصرف.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الكهف (4449).
[3]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص216.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج13، ص32.
[5]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص406 بتصرف.
[6]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ج1، ص831.
ادعاء أن طوفان نوح أسطورة وليس حقيقة كما ورد في القرآن
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين حادثة الطوفان الواردة في قصة نوح – عليه السلام – في القرآن الكريم ويدعون أنه أسطورة وردت في الكتب القديمة. مستدلين على ذلك بأنه لا يمكن حدوث مثل هذا السيل الذي يغطي الكرة الأرضية كلها بجبالها الشامخة، كما أن سفينة نوح – عليه السلام – لا يمكن أن تسع كل أصناف الحيوانات و مهما تكن فهي أضيق من أن تضم كل حيوانات الأرض[1].
وجوه إبطال الشبهة:
1) أثبتت البحوث التاريخية والأركيولوجية [2] أن الطوفان العظيم غمر بلاد الرافدين القديم مما يؤكد صحة وجود الطوفان.
2) توصل علماء المناخ والجيولوجيا [3] إلى أن الجزيرة العربية مرت بعصور مطيرة تسببت في فيضانات غامرة[4].
3) الأدلة العلمية ترجح ما ورد في القرآن وأقوال المفسرين على ما ورد في التوراة بخصوص الطوفان.
4) تجمعت عدة أدلة عقلية تثبت أن أحداث الطوفان كانت حدثا واقعيا وحقيقيا. وأنه لم يكن ضربا من الأساطير.
5) الطوفان معجزة إلهية، والمعجزات لا مدخل للعقل في النظر إليها، وكذلك صنع السفينة كان بوحي من الله وتعليم من الملائكة.
6) إن السياق القرآني لقصة الطوفان العظيم سياق وعظي، رام إلى اتخاذ العبرة والعظة من قوم أشركوا بالله وعصوا الرسول نوحا عليه السلام؛ فحل بهم العقاب – الطوفان العظيم – فلم يكن حديث خرافة وإنما كان حديث حق.
التفصيل:
أولا. تاريخ بلاد الرافدين القديم والكشف عن آثار الطوفان:
أثبتت البحوث التاريخية والأركيولوجية أن الطوفان العظيم غمر بلاد الرافدين القديم مما يؤكد صحة وجود الطوفان، فلقد مر التاريخ القديم لبلاد الرافدين بالعصور الآتية[5]:
العصر الحجري القديم: اكتشف العالم سويلي آثار هذا العصر سنة 1954م في كهف شانيدار شمالي شرقي الموصل، حيث عثر على بقايا هياكل عظمية تعود إلى هذا العصر.
العصر الحجري الحديث: ويتضمن ما يأتي:
حضارة جرمو: عثر الأستاذ بريد وود سنة 1948م على مركز هام من مراكز هذا العصر في قرية جرمو الواقعة في غربي مدينة السليمانية، وأرجع العلماء تاريخ هذا المركز إلى نحو 6500 ق. م، أي إلى ما بعد ظهور المجتمعات القروية الزراعية بقليل.
حضارة عصر تل حسونة: ويقع جنوبي الموصل، ويرجع عهد هذا العصر إلى حوالي سنة 5750 ق. م. وكانت بعثة مديرية الآثار العراقية قد نقبت في هذا التل سنة 1943م، ومن أغرب ما عثرت عليه البعثة تماثيل فخار صغيرة الحجم، تمثل أشكالا مصنوعة من الطين الفخارى، مما يدل على ظهور نوع من العبادات الوثنية. ووجد العالم مالوان سنة 1931م نماذج مماثلة لـ “حضارة تل حسونة” في نينوي بالقرب من الموصل، واكتشف نماذج أخرى من هذه الحضارة في أماكن متعددة في شمالي العراق.
حضارة تل حلف: عثر عليها العالم الألماني البارون فون أوبنهايم في قرية تل حلف، بالقرب من ناحية رأس العين في سورية[6].
العصر النحاسي الحجري في وادي الرافدين: تمثل حضارة هذا العصر في ثلاثة مواقع هامة وهي:
o تل العبيد: قرب مدينة أور القديمة جنوبي بلاد الرافدين، وقد اكتشفته بعثة المتحفة البريطانية برئاسة د. هول، وتابع التنقيب[7] المؤرخ ليونانرد وولي، وعثر في أور على دمى[8] من الطين ذات مغزى ديني.
o حضارة عصر أوروك (الوركاء): عثرت عليها بعثة ألمانية.
o حضارة عصر جمدة نصر: اكتشف آثار هذا العصر العالم الأثري لانكدون Langdon سنة 1920م في تل صغير يقع بالقرب من مدينة كيش القديمة يدعى جمدة نصر.
وفي نهاية هذا العصر – كما تقول كتب التاريخ – حصل الطوفان العظيم الذي غمر بلاد ما بين الرافدين فقضى على معظم السكان، ولم يبق منهم إلا عدد ضئيل[9]، وقد أثبتت الحفريات التي حفرت في أور وأورك وكيش وشوروباك، حدوث فيضان عظيم بين عصر العبيد وعصر السلالات الأولي، فيضان عظيم حصل في آخر عصر جمدة نصر. وقد وجد العالم الأثري وولي طبقات كثيفة من الغرين في مدينة أور بعمق مترين ونصف. ووجد وولي آثار السكنى البشرية فوق هذه الطبقات وتحتها، واستنتج من ذلك أن هذا الغرين قد أتت به مياه فيضانات دجلة والفرات، وقد قدر مساحة الأرض التي غمرها الفيضان بأربعمائة ميل طولا، وألف ميل عرضا.
ثانيا. نظرة مناخية وتضاريسية:
مرت الجزيرة العربية بعصور مطيرة (البلايستوسيين) وهي اليوم جافة تجري فيها سيول عند سقوط المطر، فالظروف المناخية الحالية تختلف عن تلك التي كانت موجودة في المنطقة قديما، فبينما كانت أوربا تمر بالعصر الجليدي في بدء الدور الجيولوجي الرابع، كان الشرق الأدنى يمر بالعصر المطير (البلايستوسين)، وكانت المناطق الصحراوية الممتدة في وسط إفريقية وجزيرة العرب وإيران ذات مناخ معتدل يشبه مناخ أوربا الغربية الآن.
وقرر العلماء نتيجة لما سبق، أن الإنسان لم يكن في ذلك العصر المطير يعيش في الشرق الأدنى القديم على ضفاف الأنهار؛ لكثرة الفيضانات والمستنقعات، بل كان يعيش فوق المناطق الجبلية، وفوق الهضاب التي كانت أمطارها ومياهها ونباتاتها كثيرة، ولكنها أصبحت بعد ذلك من المناطق الصحراوية بانتهاء عصر (البلايستوسين) المطير، وما تزال كذلك حتى اليوم، ذلك أن الدفء والجفاف أخذا ينتشران فيها شيئا فشيئا، بينما كانت الثلوج تذوب في أوربا ويعتدل مناخها[10].
هذا من ناحية المناخ.. أما من الناحية التضاريسية.. فبلاد الرافدين كانت رقعتها أصغر، حتى إن دجلة والفرات اللذين يصبان اليوم معا كانا في التاريخ القديم يبعدان عن بعضهما حوالي 80 كيلو مترا، وتشكل السهل الجنوبي في العراق من رواسب هذين النهرين؛ إذ كانت مياه الخليج العربي تغمر جزءا كبيرا من هذا السهل، ويقدر العلماء أن الساحل الحالي يبعد ما يقرب من 190 كيلو مترا عن الساحل القديم، وأن الأرض اليابسة كانت تكسب من البحر ما يزيد عن أربع كيلو مترات كل مائة سنة[11].
ثالثا. الأدلة العلمية ترجح ما جاء في القرآن وأقوال المفسرين على ما ورد في التوراة بخصوص الطوفان:
ويؤكد جمهور العلماء على أن الطوفان كان في الظاهر عاما مهلكا لكل الكافرين، وحفظ الله تعالى منه نوحا – عليه السلام – ومن آمن معه، وقال بعض المفسرين: إن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح – عليه السلام – إلا قومه، وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان، ولم يبق فيها بعده غير ذريته، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبالها لا في الأرض كلها، فالطوفان كان خاصا؛ لأن النوع الإنساني لم يكن في جميع الكرة الأرضية، بل كان منحصرا في بلاد الرافدين حيث نوحـ عليه السلام – وقومه.
وإذا ذكرت التوراة أن الأرض قد علاها الماء خمسة عشر ذراعا، وأباد الله كل ذي حياة من إنسان ووحش وطير على وجه الأرض، وذكرت أبعاد السفينة كما ذكرها أصحاب هذا الادعاء، كل ذلك لا يؤخذ به؛ لثبوت أن التوراة كتبت بعد موسى – عليه السلام – بزمن بعيد، فاعتراها التحريف زيادة ونقصا حسب آخر الأبحاث العلمية.
أما القرآن الكريم الذي ثبتت علميا صحته، وأن كل ما فيه حقائق ثابتة، فقد وصف السفينة بأنها:)الفلك المشحون (119)( (الشعراء)، وبأنها: )ذات ألواح ودسر (13)( (القمر).
رابعا. الأدلة العقلية على حدوث الطوفان:
تجمعت عدة أدلة عقلية تثبت أن حدث الطوفان كان حدثا واقعيا وحقيقيا وأنه لم يكن ضربا من الأساطير:
الرقم التي اكتشفت في مكتبة آشور بانيبعل، والتي ذكرت صراحة قصة الطوفان، وذكرت أنه بانتهاء الطوفان عادت الحياة إلى الأرض فابتدأت بذلك العصور التاريخية، وهذه الرقم تعود إلى 3000 سنة ق. م.
اكتشاف العالم الأثري وولي طبقات كثيفة من الغرين في مدينة أور بعمق مترين ونصف، وفيها آثار السكنى البشرية فوق هذه الطبقات وتحتها.
وجود الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، وهذه الأشياء لا تتكون إلا في البحار، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الطوفان بلغ ذراها[12]، وصعود الماء إلى الجبال لمدة أيام معدودة يكفي لوجود الأصداف والأسماك المتحجرة في قمم الجبال.
حدوث الطوفان في أواخر العصر المطير (البلايستوسين)، أي: في ظروف مناخية وتغيرات جغرافية غير الظروف والتغيرات الحالية.
وجود قصة الطوفان في كتب الأقدمين من هنود وفرس وآشوريين.. يجعل الحدث حدثا معروفا عالميا.
في بعض أرجاء الكرة الأرضية اليوم مناطق جافة، بل معدل أمطارها صفر ملم في السنة، ومع ذلك فقد يحدث فيها فيضانات أحيانا، كما هو الحال في أسوان وسواحل البحر الأحمر الإفريقية؛ حيث معدل المطر المعروف صفر ملم، وقد حصلت عام 1979م سيول جارفة وفيضانات رهيبة تركت عشرات الضحايا وآلاف المشردين، مع أن مدة هطول الأمطار في هذه المناطق الجافة لم يستمر إلا لبضع ساعات فقط[13].
هذا، ونشرت مجلة (السفير) مقالة في عددها يوم الأحد 26/8/1984م على الصفحة الرابعة تحت عنوان (البعثة الأمريكية إلى جبل أرارات تعلن اكتشاف بقايا سفينة نوح)، نظم الرحلة رائد الفضاء السابق جيمس أروين، الذي أصبح متدينا بعدما سار على القمر عام 1971م أثناء رحلة أبولو 15، وطالبت البعثة الأمريكية الحكومة التركية أن تأذن لها بإغلاق المنطقة التي عثر فيها على الاكتشاف على ارتفاع 1585 مترا[14].
خامسا. الطوفان معجزة إلهية فلا يقاس بالعقل وكذلك السفينة كانت بوحي من الله وتعليم الملائكة:
وبعد هذا بالإمكان أن نقول: إن هؤلاء المدعين أخطئوا في أمور ثلاثة في مقدماتهم، فجاءت نتائجهم واستنتاجاتهم خطأ، وهذه الأمور الثلاثة هي:
أن الطوفان عم الكرة الأرضية كلها، وهذا خطأ قطعا برأي جمهور العلماء. وعليه فالسفينة حملت زوجين من كل الحيوانات الموجودة في هذه البقعة التي شملها الطوفان فقط وهذا ممكن. وحتى لو افترضنا أن الطوفان عم جميع الأرض على رأي بعضهم – وهم قلة – فإن السفينة كانت عظيمة جدا بحيث تسع أن تحمل زوجين من كل المخلوقات ولذلك ورد في بعض كتب التفسير أن طولها ألف زراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة فيها للوحوش والدواب وطبقة فيها للأنس وطبقة فيها للطير[15].
الظروف المناخية الحالية التي اعتمد عليها هؤلاء في قياساتهم وحساباتهم، تختلف عن الظروف المناخية قبل آلاف السنين، ومن الخطأ الفادح أن تعتمد في حسابات هؤلاء، فكمية الأمطار في أواخر العصر المطير (البلايستوسين) غير كمية الأمطار اليوم، وهذه حقيقة علمية أضحت بدهية عند الباحثين، فكيف تناساها هؤلاء المدعون؟!
وطوفان نوح معجزة إلهية لنوح عليه السلام، والمعجزة خرق[16] للقوانين المألوفة لدى البشر، أما الله – عزوجل – فلا تعجزه هذه القوانين فهو الذي أبدعها و هو القادر على تغييرها فتكون معجزة خارقة، فالموضوع إذن موضوع إيمان أو لا إيمان.
والطوفان ذكر في القرآن العظيم – كما مر معنا – ولمحات القرآن الكريم العلمية أثبتها العلم الحديث، بل جاء العلم الحديث مطابقا لها تماما؛ مما جعل العلماء من غير العرب يقولون بالسبق العلمي للقرآن في كل لمحاته الكونية والطبية والطبيعية.
يقول د. موريس بوكاي: “صحة القرآن التي لا تقبل الجدل تعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد”[17].
ويقول عن “رواية الطوفان في القرآن”: “يقدم القرآن رواية شاملة مختلفة ولا تثير أي نقد من وجهة النظر التاريخية، فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقابا نزل بشكل خاص على شعب نوح عليه السلام، وهذا يشكل الفرق الأساسي الأول بين الروايتين – رواية التوراة ورواية القرآن الكريم – وهذا يجعلنا نقول بضرورة – بل بحتمية – دراسة الأمور العلمية والتاريخية الواردة في الكتب المقدسة [18] على ضوء القرآن الكريم فقط، دون سواه، فهو وحده لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث”[19].
وربما كانت قصة الطوفان المذكورة في الكتب المقدسة أقدم من هذا الطوفان بعصور كثيرة، فقد أرجعها العالم الأثري كونتنو نقلا عن العالم دي مورغان إلى العصر المطير الذي تبع عصر الجليد في نهاية الدور الرابع؛ حيث هلك عدد كبير من الناس، وقد خلدت الرقم التي اكتشفت في مكتبة آشور بانيبعل هذا الطوفان، وبعد انتهاء الطوفان تذكر هذه الرقم أن الملكية عادت إلى الأرض، فابتدأت بذلك العصور التاريخية، وفي بدء هذه العصور اشتدت قوة السومريين، فسيطرت بعض السلالات على بعض المدن، وسمي أول عصر تاريخي بـ “عصر فجر السلالات” أو “عصر السلالات الأولى القديمة”[20].
عصر السلالات الأولى: أهم الكتابات عن هذا العصر كتبها المؤرخ البابلي بوحوشا أو بيروسوس، فقد ترك سجلا تاريخيا بأسماء ملوك سومر وأكاد، وينقسم هذا السجل التاريخي إلى قسمين، الأول منهما لملوك ما قبل الطوفان، وهو ينتهي بالجملة الآتية: “وبعد ذلك جاء الفيضان، وبعد الطوفان هبطت الملكية مرة أخرى من السماء”.
سادسا. الطوفان في القرآن الكريم:
إن السياق القرآني لقصة الطوفان العظيم، سياق وعظي رام إلى اتخاذ العبرة والعظة من قوم أشركوا بالله وعصوا الرسول نوحا عليه السلام؛ فحل بهم العقاب الذي هو الطوفان العظيم فلم يكن حديث خرافة، وإنما كان حديث حق، ولقد ورد ذكر نوح – عليه السلام – في ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم، وذكرت قصته مفصلة في السور التالية: الأعراف، وهود، والمؤمنون، والشعراء، والقمر، ونوح.
وأوضحت القصة أن قوم نوحـ عليه السلام – عكفوا على عبادة غير الله تعالى، واتخذوا لهم أصناما يعبدونها من دونه، فأرسل الله نوحا إليهم، واجتهد غاية الجهد في دعوتهم، وبذل منتهى وسعه[21] لكي يتبعه قومه في الإيمان بالله، ويقلعوا عن عبادة تلك الأصنام، وطال الزمن، وهو يقدم النصح والموعظة سرا وعلانية، وهم لا يزدادون إلا إعراضا وتأبيا[22] عن طريقته، حتى تبرموا به [23]، فأنالوه الأذى، فيئس نوح – عليه السلام – من هداية قومه، فأمره الله – عزوجل – بعمل الفلك؛ لتكون أداة لنجاته ومن معه من الغرق فسخر قومه منه، استبعادا منهم لوقوعه، فكان هو أيضا يسخر منهم، ومن غفلتهم عن الحق، وبلادتهم عن أخذ الحيطة لأنفسهم باتباعه بإحسان وتنجية أنفسهم، وصار نوح – عليه السلام – يتهددهم بذلك العذاب[24].
فلما استووا على ظهر السفينة هطلت[25] الأمطار، وانفجرت عيون الأرض، وحملت المياه السفينة ومن فيها، ومكثت ما شاء الله أن تمكث، إلى أن غرق كل ما على الأرض من إنسان وحيوان، ثم استقرت السفينة على الجودي من جبال أرارات من ديار بكر، وخرج من في السفينة، وبارك الله – عزوجل – فيهم فكثروا.
وصفوة القول: أن قوم نوح – عليه السلام – كفروا وعصوا الرسول فأغرقهم الله بالطوفان، ونجى نوحا ومن معه في الفلك، وجعل ذريته هم الباقين، قال عزوجل:)وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (39) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40) وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم (41) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44) ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47) قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48)( (هود)[26]، وقال عزوجل: )كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16)( (القمر) [27].
الخلاصة:
كان للاكتشافات الأثرية الحديثة في بلاد الرافدين أثر كبير في الكشف عن آثار وجود طوفان عظيم حدث في العصور القديمة، مما يؤيد إمكانية حدوث مثل هذه الكارثة الأرضية.
النظرة المناخية التضاريسية للجزيرة العربية تبين أن الإنسان في الشرق الأدنى القديم كان لا يعيش على ضفاف الأنهار لكثرة الفيضانات، بل كان يعيش فوق المناطق الجبلية والهضاب خوفا من المياه.
ورود قصة الطوفان في الكتب المقدسة – وإن كانت متباينة في تفصيلاتها والمعلومات التي أوردتها – يؤكد وقوعها من الناحية التاريخية.
الطوفان معجزة [28] خارقة للعادة وبالتالي فليس من الصواب أن يكون العقل – ومجال عمله القوانين المطرده – هو المرجع في الحكم عليها بالنفي أو الإثبات وكذلك السفينة كانت بوحي من الله تعالى وتعليم الملائكة. فالمسألة مسألة إيمان قبل أي شيء لأن القرآن لم يذكر تفصيلاتها وإن كان العلم الحديث جاء مطابقا لما في القرآن تماما.
حديث القرآن الكريم عن الطوفان وقصة السفينة وهلاك الناس حديث صحيح، وقد أكدت الاكتشافات الحديثة العثور على بقايا سفينة نوح – عليه السلام – عند جبل أرارات من ديار بكر.
(*) آراء يهدمها الإسلام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، بيروت، ط5، 1406هـ/ 1986م.
[1]. جاء في كتاب “الرياضيات المسلية” لـ “ياكوف بيريلمان”، فصل: الرياضيات وأسطورة الطوفان حرفيا ما يلي: نجد من بين الأساطير البالية الواردة في الكتب القديمة أسطورة تقول: إن العالم كله قد غرق في غابر الأزمان بفعل أمطار كانت أعلى من أعلى الجبال، وحسب ما يرد فإن الرب كان قد ندم مرة على أن خلق الإنسان على الأرض، وقال: سأهلك البشر الذين خلقتهم على سطح الأرض. وكان الإنسان الوحيد الذي أراد الله أن يرحمه عندئذ هو التقي نوح، لذلك فقد حذره الرب مما يجري من تحضيرات لهلاك العالم، فأمره ببناء سفينة كبيرة سميت “الفلك” بالمقاييس الآتية: “طول الفلك 300 ذراع، وعرضه 50 ذراعا، وارتفاعه 30 ذراعا، ويتألف من ثلاثة طوابق، وكان يجب أن ينجو على هذه السفينة نوح وأسرته وأسر أبنائه وأصناف الحيوانات على الأرض، وأصدر الرب أمره إلى نوح أن يأخذ في الفلك زوجا واحدا من كل أصناف الحيوانات، واختار الرب الفيضان الناجم عن الأمطار لإهلاك كل ما هو حي. ويذكر في الكتب القديمة أنه بعد سبعة أيام جاءت مياه الفيضان وهطلت الأمطار مدة 40 يوما و40 ليلة، وارتفع الفلك فوق الماء وغطت المياه كل الجبال العالية تحت السماء وارتفعت فوقها بمقدار 15 ذراعا، فهلك كل موجود على سطح الأرض وبقى نوح فقط وفلكه، وتروي الأسطورة أن المياه بقيت فوق الأرض مدة 110 أيام أخرى ثم اختفت، وغادر نوح الفلك ومعه كل الأحياء التي أنقذت لكي يعمر الأرض الخالية مرة أخرى. ثم يتساءل هؤلاء:
هل كان ممكنا حدوث مثل هذا السيل الذي غطى الكرة الأرضية كلها؟
هل كان يستطيع فلك نوح أن يتسع لكل أصناف حيوانات الأرض؟
ثم أجابوا عن الأول بأنه غير ممكن؛ لأن مياه الجو لا تكفي لإحداث الفيضان، و أجابوا عن الثاني بأن السفينة كانت ضيقة، فلا يمكن أن تتسع لكل الحيوانات.
وانتهى هؤلاء إلى ما يأتي: إن الأسطورة القديمة عن الطوفان العظيم لا تتفق مع الحسابات الرياضية اليسيرة، لدرجة أنه من الصعب أن نجد في ها ولو جزءا صغيرا يطابق الواقع، وأغلب الظن أنها استوحيت من فيضان جزئي استغرق جزءا من الكرة الأرضية، أما الباقي فهو من ابتداع الخيال الشرقي الفني. (الرياضيات المسلية، بيريلمان، ترجمة د. إبراهيم محمود شوشة طباعة دار أمير للطباعة والنشر، موسكو، 1977م. فصل الرياضيات وأسطورة الطوفان، ص236).
[2]. الأركيولوجيا: Archaeology ــ Archeology علم الآثار القديمة، أو آثار حضارة أو شعب ما.
[3]. الجولوجيا: علم طبقات الأرض Geology، وتطلق أيضا على دراسة المادة الصلبة من جرم سماوي؛ كالقمر.
[4]. الغامرة: المغرقة المغطية لمعالم الأرض.
[5]. تاريخ الشرق الأدنى القديم، عبد العزيز عثمان، كلية الآداب، جامعة دمشق، سوريا، 1962م.
[6]. رأس العين: مدينة سورية إلى الغرب من القامشلي، وهي نبع نهر الخابور.
[7]. التنقيب: البحث عن الشيء والكشف عنه.
[8]. الدمى: جمع دمية، وهي الصورة المتمثلة من العاج وغيره، ويضرب بها المثل في الحسن.
[9]. الضئيل: القليل.
[10]. تاريخ الشرق الأدنى القديم، عبد العزيز عثمان، كلية الآداب، جامعة دمشق، سوريا، 1962م، ص11.
[11]. آراء يهدمها الإسلام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، بيروت، ط5، 1406هـ/ 1986م، ص92.
[12]. ذراها: أعلاها.
[13]. هذا ما حدث بتاريخ 23 ـ 12 ـ 1985م في منطقة تبوك والعلا في المملكة العربية السعودية؛ حيث جرفت السيول والفيضانات ما اعترضها، تاركة وراءها أكثر من ثلاثين قتيلا.
[14]. آراء يهدمها الإسلام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، بيروت، ط5، 1406هـ/ 1986م، ص95.
[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص32.
[16]. الخرق: المخالفة.
[17]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دار المعارف الأمريكية، مصر، د. ت، ص15.
[18]. الكتاب المقدس: العهد القديم عند اليهود، ومجموع العهدين عند النصارى.
[19]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دار المعارف الأمريكية، د. ت، ص246، 347.
[20]. تاريخ الشرق الأدنى القديم، عبد العزيز عثمان، كلية الآداب، جامعة دمشق، سوريا، 1962م، ص213.
[21]. وسعه: جهده.
[22]. تأبيا: رفضا.
[23]. تبرموا: سئموا منه وتضايقوا.
[24]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص48 بتصرف.
[25]. هطلت: سقطت وأمطرت بغزارة.
[26]. يخزيه: يذله. فار التنور: وجه الأرض؛ أي: نبع الماء منه. معزل: مكان منعزل. حال: فرق, وقف عائقا. غيض الماء: نقص وغار في الأرض.
[27]. آراء يهدمها الإسلام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، بيروت، ط5، 1406هـ/ 1986م، ص91 وما بعدها.
[28]. المعجزة: الأمر الخارق للعادة يظهره الله على يد نبي؛ تأييدا لنبوته، وتكون من جنس ما نبغ فيه قومه. وقيل: هي أمر نادر الحدوث يعجز الإنسان العادي عن الإتيان بمثله. أو ما يخرج عن المألوف ويبعث على الإعجاب.
ادعاء أن وقوع الكلام الأعجمي والغريب في القرآن الكريم ينافي كونه بلسان عربي مبين
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن في وجود كلمات أعجمية وأخرى غريبة في القرآن الكريم يتنافى مع قوله عز وجل: )نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195)( (الشعراء) **.
ويمثل بعضهم للأعجمي بكلمات مثل: “القرآن”؛ فهي من أصل سرياني، و “الفرقان”؛ فهي من أصل عبري، وللغريب بمثل كلمة: “أبا”.
وجوه إبطال الشبهة:
إن ما في القرآن من ألفاظ أعجمية أو غريبة لا ينافي كونه بلسان عربي مبين، بل يعضده ويثبته، أما ما توهمه بعضهم خلاف ذلك، فهو باطل من وجوه:
1) المقصود باللسان العربي: ما نطقت به العرب؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربيا، حتى وإن كان من لغات أخرى.
2) إذا تأملنا مفهوم الغريب بالمعنى الذي أراده علماء اللغة والنقاد؛ فإنا لا نجد في القرآن الكريم لفظة واحدة من الغريب.
3) كلمتا “القرآن والفرقان” اللتان ادعى بعضهم عجمتهما ذواتا أصل عربي، وليستا من كلام العجم.
4) القرآن نزل بلسان عربي مبين، وورود بعض الكلمات ذات الأصل غير العربي فيه إنما هو من باب تداخل اللغات وتقارضها، وقد تم في اللغة قبل نزول القرآن.
التفصيل:
أولا. المقصود باللسان العربي: ما نطق به العرب، ودار على ألسنتهم؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربيا، وإن كان من لغات أخرى، والمراد: أنه لم يأت بكلام جديد لا تعرفه العرب، فقبل أن ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي، ووجود مفردات غير عربية الأصل في القرآن أمر أقر به علماء المسلمين قديما وحديثا، ومن اليسير علينا أن نذكر كلمات أخرى وردت في القرآن غير عربية الأصل، مثل: “منسأة” بمعنى: “عصا” في سورة سبأ، و “اليم” بمعنى: “النهر” في سورة القصص وغيرهما.
إن كل ما في القرآن من كلمات غير عربية الأصل إنما هو ألفاظ مفردة: أسماء أعلام مثل: “إبراهيم، يعقوب، إسحاق، فرعون”، أو صفات مثل: “طاغوت، حبر”، وذلك إذا سلمنا بأن كلمة “طاغوت” أعجمية، والقرآن يخلو تماما من تراكيب غير عربية، فليس فيه جملة واحدة من غير اللغة العربية.
ووجود مفردات أجنبية في أية لغة؛ سواء أكانت اللغة العربية، أم غير العربية لا يخرج تلك اللغة عن أصالتها، ومن المعروف أن أسماء الأعلام لا تترجم إلى اللغة التي تستعملها حتى الآن؛ فالمتحدث بالإنجليزية إذا احتاج لذكر اسم من لغة غير لغته، يذكره برسمه ونطقه في لغته الأصلية – التي استعاره منها – ومن هذا ما نسمعه الآن في نشرات الأخبار باللغات الأجنبية في مصر، فإنها تنطق الأسماء العربية نطقا عربيا، ولا يقال: إن نشرة الأخبار ليست باللغة الفرنسية أو الإنجليزية مثلا؛ لمجرد أن بعض المفردات فيها نطقت بلغة أخرى.
وكذلك المؤلفات العلمية والأدبية الحديثة التي تكتب باللغة العربية، ويكثر فيها مؤلفوها من ذكر الأسماء الأجنبية، والمصادر التي نقلوا عنها، ويرسمونها بالأحرف الأجنبية والنطق الأجنبي، لا يقال: إنها مؤلفات غير عربية؛ لمجرد أن بعض الكلمات الأجنبية وردت فيها، والعكس صحيح.
وقد أسرف هؤلاء في نسبة بعض هذه المفردات التي ذكروها، وعزوها إلى غير العربية مثل: “الله، الزكاة، السكينة، آدم، الحور، السبت، السورة، مقاليد، عدن”… كل هذه مفردات عربية أصيلة لها جذور لغوية عريقة في اللغة العربية، وقد ورد في المعاجم العربية، وكتب فقه اللغة وغيرها تأصيل عربي لهذه الكلمات، فمثلا: “الزكاة” من زكا يزكو فهو زاك، وأصل هذه المادة بمعنى: الطهر والنماء[1].
وكذلك “السكينة” بمعنى: الثبات والقرار ضد الاضطراب لها جذر لغوي عميق في اللغة العربية، يقال: سكن بمعنى أقام، ويتفرع عنه: يسكن، ساكن، مسكن، أسكن[2].
إن بعض المفردات التي وردت في القرآن وظنها بعضهم أعجمية ليست كما ظنوا، بل إنها وإن لم تكن عربية في أصل الوضع اللغوي، فهي عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن، وكانت سائغة ومستعملة بكثرة في اللسان العربي قبيل نزول القرآن، وبهذا الاستعمال فارقت أصلها غير العربي، وغدت عربية: نطقا واستعمالا وخطا.
قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها؛ فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة – التي نزل القرآن بلسانها – بعض مخالطة لسائر الألسنة الأخرى؛ وذلك عن طريق التجارة، فمن المعروف أنه كان للعرب رحلتان في كل عام؛ رحلة إلى الشام صيفا ورحلة إلى اليمن شتاء، وأيضا السفر، كسفر ابن أبي عمرو إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى الحبشة.. وهكذا.
وقد ذهب الطبري إلى أنه قد تتفق لغتان في لفظة.
إذن فورود مثل هذه الألفاظ في القرآن مع قلتها وندرتها إذا ما قيست بعدد كلمات القرآن لا يخرج القرآن عن كونه )بلسان عربي مبين(.
ومن أكذب الادعاءات أن يقال: إن لفظ الجلالة “الله” عبري أو سرياني، وإن القرآن أخذه عن هاتين اللغتين؛ إذ ليس لهذا اللفظ الجليل “الله” وجود في غير العربية؛ فالعبرية مثلا: تطلق على “الله” عدة إطلاقات؛ مثل: “إيل، الوهيم، أدوناي، يهوا، يهوفا”، فأين هذه الألفاظ من لفظ “الله” في اللغة العربية؟ وفي اللغة اليونانية التي ترجمت منها الأناجيل إلى اللغة العربية نجد لفظ الجلالة “الله” فيه” إلوي”، وقد وردت في بعض الأناجيل على لسان عيسى – عليه السلام – مستغيثا بربه هكذا: “إلوي إلوي” وترجمتها: “إلهي إلهي”.
ثانيا. لا وجود في القرآن لكلمة واحدة من الغريب حسب تعريف اللغويين والنقاد للغريب، فالغريب – الذي يعد عيبا في الكلام ينافي فصاحته وبلاغته – هو ما ليس له معنى يفهم منه على جهة الاحتمال أو القطع، وما ليس له وجود في المعاجم اللغوية، ولا أصل له في جذورها.
والغريب بهذا المعنى ليس له وجود في القرآن الكريم، ولا يحتج علينا بوجود الألفاظ التي استعملت في القرآن من غير اللغة العربية مثل: “إستبرق، سندس، اليم”؛ لأن هذه الألفاظ كانت مألوفة الاستعمال عند العرب حتى قبل نزول القرآن، وشائعة شيوعا ظاهرا في محادثاتهم اليومية وكتاباتهم الدورية[3].
ثم إن قيل إنها لم تكن عربية الأصل، فهي – بالإجماع – عربية الاستعمال، ومعانيها كانت – وما تزال – معروفة في القرآن، وفي الاستعمال العام، واللغة – كما هو معروف – بنت الاستعمال.
ومنها الكلمات التي ذكروها مما ليس عربيا؛ مثل: “غسلين”، ومعناها: الصديد، أي: صديد أهل النار، وما يسيل من أجسادهم من أثر الحريق، ولما كان يسيل من كل أجسامهم شبه بالماء الذي تغسل به الأدران، أما بناؤه على وزن “فعلين”، وظاهر أنه للمبالغة، ومثل: “قمطرير”، ومعناها: طويلا، أو شديدا، ومثل: “إستبرق”، ومعناها: الديباج، وهكذا كل ما في القرآن من ألفاظ غير عربية الأصل؛ فهي عربية الاستعمال بألفاظها ومعانيها، وكانت العرب تتداولها قبل نزول القرآن.
واستعارة اللغات من بعضها من سنن الاجتماع البشري، ودليل على حيويـة اللغـة، وهـذه الظاهـرة فاشيـة جـدا في اللغــات – حتى في العصر الحديث -، ويعرفها اللغويون بـ “التقارض بين اللغات”، سواء أكانت لغات سامية أم غيرها كالإنجليزية، والفرنسية… إلخ، وفي اللغة الإسبانية كلمات مستعملة حتى الآن من اللغة العربية.
أما ما اقترضته اللغة العربية من غيرها من اللغات القديمة، أو ما له وجود حتى الآن فقد اهتم به العلماء المسلمون ونصوا عليه كلمة كلمة، وأسموه بـ “المعرب” مثل كتاب العلامة الجواليقي، وقد يسمونه “الدخيل”.
وحتى لو جارينا هؤلاء الحاقدين، وسلمنا لهم جدلا بأن هذه الكلمات غريبة؛ لأنها غير عربية الأصل، فإنها كلمات من “المعرب” الذي عربه العرب واستعملوه بكثرة؛ فصار عربيا بالاستعمال، ومعانيه معروفة عند العرب قبل نزول القرآن، وما أكثر الكلمات التي دخلت اللغة العربية، وهجرت أصلها وصارت عربية، فهي – إذن – ليست غريبة؛ لأن الغريب هو ما لا يفهم معناه في اللغة المعنية، ولا وجود له في المعاجم اللغوية التي دونت فيها ألفاظ اللغة.
وقد يقال: كيف تنكرون “الغريب” في القرآن، وهو موجود باعتراف العلماء، مثل الإمام محمد بن مسلم بن قتيبة، العالم السني؛ فقد وضع كتابا في “غريب القرآن” وأورده على وفق ما جاء في سور القرآن سورة سورة؟ وكذلك صنع السجستاني وتفسيره لغريب القرآن مشهور، ومثله الراغب الأصفهاني في كتابه “المفردات في شرح غريب القرآن”. ثم الإمام جلال الدين السيوطي، فله كتاب يحمل اسم “مبهمات القرآن”!!
ألا يعد ذلك اعترافا صريحا من هؤلاء الأئمة الأفذاذ بورود الغريب في القرآن الكريم؟! ومن العلماء المحدثين الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، وكتابه “كلمات القرآن” لا يجهله أحد.
كما أن جميع مفسري القرآن قاموا بشرح ما رأوه غريبا في القرآن، فكيف يسوغ القول الآن بإنكار وجود الغريب في القرآن أمام هذه الحقائق التي لا تغيب عن أحد؟!
ونجيب فنقول: “إن الغريب الذي نسب في كتب العلماء رضي الله عنهم إلى القرآن، إنما هو غريب نسبي، وليس غريبا مطلقا؛ فالقرآن في عصر الرسالة، وعصر الخلفاء الراشدين كان مفهوما لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في رواية صحيحة أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غاب عنهم فهم ألفاظ القرآن من حيث الدلالة اللغوية البحتة، وكل ما وردت به الرواية أن بعضهم سأل عن واحد من بضعة ألفاظ لا غير، وهي روايات مفتقرة إلى توثيق، وقرائن الأحوال ترجح عدم وقوعها، والألفاظ المسئول عنها هي: “غسلين، قسورة، أبا، فاطر، أواه، حنان”، وقد نسبوا الجهل بمعاني هذه الكلمات إما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإما إلى ابن عباس – رضي الله عنهما – وكلا الرجلين أكبر من هذه الاتهامات.
ومما يضعف إسناد الجهل بمعنى كلمة “أبا” إلى عمر رضي الله عنه: أن عمر – كما تقول الرواية – سأل عن معناها في خلافته، مع أن سورة “عبس” التي وردت فيها هذه الكلمة من أوائل ما نزل بمكة قبل الهجرة، فهل يعقل أن يظل عمر جاهلا بمعنى “أبا” طوال هذه المدة؟!
أما ابن عباس – رضي الله عنه – فإن صحت الرواية عنه أنه سأل عن معاني “غسلين”، و “فاطر”، فإنه يحتمل أنه سأل عنها في حداثة سنه، ومشهور أن ابن عباس كان معروفا بـ “ترجمان القرآن”، ومعنى هذا أنه كان متمكنا من الفقه بمعاني القرآن، وقد ورد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعا له قائلا: “اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل”.[4] هذا فيما يتعلق بشأن الروايات الواردة في هذا الصدد.
أما فيما يتعلق بالمؤلفات قديما وحديثا حول ما سمي بـ “غريب القرآن”، فنقول:
إن أول مؤلف وضع في بيان غريب القرآن هو كتاب “غريب القرآن” لابن قتيبة في القرن الثالث الهجري، وهذا يرجح أن ابن قتيبة لم يكتب هذا الكتاب للمسلمين العرب، بل كان القصد منه هو أبناء الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وكانوا يتحدثون لغات غير اللغة العربية، أو للعرب الذين بعد عهدهم بالقرون الأولى للفصاحة والسلامة اللغوية، أو لاختلاطهم بغيرهم من أصحاب اللغات الأخرى؛ حيث دب اللحن وانتشر بينهم.
أما القرنان الأول والثاني الهجريان والنصف الأول من القرن الثالث، فلم يكن فيها – فيما نعلم – كتب حول بيان غريب القرآن، سوى تفسير عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – وكتاب “مجازات القرآن” لأبي عبيدة معمر بن المثنى، وهما ليسا من كتب الغريب، بل هما: محاولتان لتفسير القرآن الكريم: مفردات وتراكيب[5].
ولما تقادم الزمن على نزول القرآن، وضعف المحصول اللغوي عند الأجيال اللاحقة، قام بعض العلماء المتأخرين؛ مثل: الراغب الأصفهاني صاحب كتاب “مفردات القرآن”، و جلال الدين السيوطي صاحب كتاب “مبهمات القرآن” بوضع كتب تقرب كتاب الله إلى الفهم، وتقدم بيان بعض المفردات التي غابت معانيها واستعمالاتها عن الأجيال المتأخرة.
وعليه فإن ما يطلق عليه “غريب القرآن” في بعض المؤلفات التراثية – ومنها كتب علوم القرآن، وما تناوله مفسرو القرآن الكريم في تفاسيرهم – غريب نسبي لا مطلق؛ باعتبار أنه مستعار من لغات أخرى غير اللغة العربية، أو من لهجات عربية غير لهجة قريش التي بها نزل القرآن، وهو غريب نسبي باعتبار البيئات التي دخلها الإسلام، وأبناؤها دخلاء على اللغة العربية؛ لأن لهم لغات يتحدثون بها قبل دخولهم في الإسلام، وظلت تلك اللغات سائدة فيهم بعد دخولهم في الإسلام، وغريب نسبي باعتبار الأزمان، حتى في البيئات العربية؛ لأن الأجيال المتأخرة زمنا ضعفت صلتهم باللغة العربية الفصحى: مفردات وتراكيب، وكل هذه الطوائف – كانت وما تزال – في أمس الحاجة إلى ما يعينهم على فهم القرآن، وتذوق معانيه، والمدخل الرئيس لتذوق معاني القرآن هو فهم مفرداته وأساليبه.
والغريب النسبي بكل الاعتبارات المتقدمة غريب فصيح سائغ، وليس غريبا عديم المعني، أو لا وجود له في معاجم اللغة ومصادرها، وهذا موضع إجماع بين علماء اللغة والبيان في كل عصر ومصر، ولا وزن لقول من يزعم غير هذا من الكارهين لما أنزل الله على خاتم أنبيائه ورسله.
ومن أوائل من تكلم عن الغريب في القرآن ابن الأزرق، ونوجز القول عن قصته هنا إيجازا يكشف عن دورها في الانتصار للحق في مواجهة مثيري هذه الشبهات، و “مسائل ابن الأزرق” مسطورة في كثير من كتب التراث؛ مثل: ابن الأنباري في كتابه “الوقف”، والطبراني في كتابه “المعجم الكبير”، والمبرد في كتابه “الكامل”، والزركشي في كتابه “البرهان في علوم القرآن”، وجلال الدين السيوطي في كتابه “الإتقان في علوم القرآن”… وغيرهم.
ولهذه المسائل قصة ملخصها: أن عبد الله بن عباس كان جالسا بجوار الكعبة يفسر القرآن الكريم، فأبصره رجلان هما: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، فقال نافع لنجدة: “قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على القرآن ويفسره بما لا علم له به؛ فقاما إليه، فقالا له: إنا نريد أن نسألك عن أشياء في كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بما يصادقه من كلام العرب، فإن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، ثم أخذا يسألانه وهو يجيب بلا توقف، مستشهدا في إجاباته على كل كلمة قرآنية سألاه عنها بما يحفظه من الشعر العربي المأثور عن شعراء الجاهلية؛ ليبين للسائلين أن القرآن بلسان عربي مبين.
وقد جمع الإمام جلال الدين السيوطي هذه المسائل، وذكر منها مائة وثمان وثمانين كلمة، وقد حرص على ذكر إجابات ابن عباس – رضي الله عنه – عليها، وقال: إنه “أهمل نحو أربع عشرة كلمة من مجموع ما سئل عنه ابن عباس”.
وها نحن نورد بعض هذه النماذج:
عزين:
قال نافع بن الأزرق لابن عباس – رضي الله عنهما -: أخبرني عن قوله ـ عز وجل ـ: )عن اليميـن وعن الشمـال عزيـن (37)( (المعارج). فقال ابن عباس: عزين: الحلق من الرفاق. فسأله نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
فجاءوا يهرعون إليه حتى
يكونوا حول منبـره عزينا
يعني: جماعات يلتفون حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشتق من الاعتزاء، أي: ينضم بعضهم إلى بعض. قال الراغب في “المفردات”: العزين: الجماعة المنتسب بعضها إلى بعض[6].
الوسيلة:
قال نافع: أخبرني عن قوله عز وجل: )وابتغوا إليه الوسيلة( (المائدة: ٣٥). قال ابن عباس: الوسيلة: الحاجة، قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
فالآية تعني: اطلبوا من الله حاجاتكم، واستعمال الوسيلة في معنى الحاجة كما فسرها ابن عباس فيها إلماح أن طريق قضاء الحوائج يكون إلى الله؛ لأن معنى الوسيلة: الطريق الموصل إلى الغايات.
شرعة ومنهاجا:
وسأله نافع عن “الشرعة” و “المنهاج” في قوله عز وجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48)، فقال ابن عباس: “الشرعة”: الدين، و “المنهاج”: الطريق، واستشهد بقول أبى سفيان الحارث بن عبد المطلب:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى
وبين للإسلام دينا ومنهجا
ريشا:
وسأله نافع عن كلمة “ريشا” في قوله عز وجل: )يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (26)( (الأعراف). ففسره ابن عباس بالمال، واستشهد بقول الشاعر:
فرشني بخير طالما قد بريتني
وخير الموالي من يريش ولا يبري
كبد:
وسأله نافع عن كلمة “كبد” في قوله عز وجل: )لقد خلقنا الإنسان في كبد (4)( (البلد). قال ابن عباس: في اعتدال واستقامة، ثم استشهد بقول لبيد بن ربيعة:
يا عين هلا بكيت أربد إذ
قمنا وقام الخصوم في كبد
وهكذا نهج ابن عباس في المسائل التي وجهت إليه كلها؛ يجيب عنها بسرعة مذهلة، وذاكرة حافظة لأشعار العرب، وسرعة بديهة في استحضار الشواهد الموافقة لفظا ومعنى للكلمات القرآنية التي سئل عنها[7].
وهذا يؤكد لنا حقيقتين أمام هذه الشبهات التي أثارها هؤلاء حول القرآن:
الأولى: كذب الادعاءات التي نسبت لابن عباس – رضي الله عنهما – من الجهل ببعض معاني كلمات القرآن، بل إنه كان على درجة عالية من الفهم والحفظ والفصاحة تدرأ عنه مظنة الجهل، وهو ترجمان القرآن.
الثانية: القرآن كله لا غريب فيه بمعنى الغريب الذي يعاب الكلام من أجله، وأن نسبة الغريب إليه في كتابات السلف تعني الغريب النسبي لا الغريب المطلق، وقد تقدم توضيح المراد من الغريب النسبي في هذا المبحث، باعتبار الزمان، وباعتبار البيئة والمكان، وأن ما وضعه القدماء من مؤلفات تشرح غريب القرآن إنما كان المقصود به إما أبناء الشعوب التي دخلت الإسلام من غير العرب. وإما للأجيال الإسلامية المتأخرة زمنا، والتي غابت عنها معاني بعض الألفاظ.
وقد يضاف إلى هذا كله الألفاظ المشتركة المعنى والمترادفة والمتضادة والاحتمالية. أما أن يكون في القرآن غريب لا معنى له فهذا محال[8].
ثالثا. “القرآن” و “الفرقان” كلمتان ذواتا أصل عربي، وليستا من كلام العجم؛ لأن الزعم بأن كلمة “الفرقان” ذات أصل عبري، وأنها تعني: المخلص والمنجي، وأن كلمة القرآن مشتقة من كلمة “قريانا” السريانية والتي معناها: القرأة المقدسة، وأنها عدلت إلى وزن “فعلان”، حتى تناسب الذوق العربي – كلام باطل إذا علمنا أن كلمتي “فرقان”، و “قرآن” أصولهما عربية؛ فأما كلمة “فرقان” فتدور معانيها حول التفرقة والتمييز عن طرق معرفة ما يميز كل عنصر؛ وغالبا ما تستخدم في مقامات التفرقة[9] بين الحق والباطل؛ فتكون حجة وبرهانا؛ ولذلك هي عربية معرقة في أصالتها.
أما كلمة “القرآن”[10]: فهي في الأصل مصدر على وزن “فعلان” بالضم؛ كالغفران والشكران والتكلان، تقول: قرأته قراءة وقرآنا بمعنى واحد أي: تلوته تلاوة، وقد جاء استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله عز وجل: )إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأنـاه فاتبـع قرآنــه (18) ثـم إن علينـا بيانـه (19)( (القيامة)، ثم صار علما شخصيا لذلك الكتاب الكريم. وهذا هو الاستعمال الأغلب، ومنه قوله عز وجل: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم( (الإسراء: ٩)، ويطلق الاشتراك اللفظي على مجموع الكتاب، وعلى قطعة منه، فإذا سمعت من يتلو آية من القرآن صح أن تقول: إنه يقرأ القرآن.
ولو سلمنا – جدلا – بأن الكلمتين “القرآن، الفرقان” عبريتان أو سريانيتان كما يزعمون، فلنا أن نتساءل: أليست العبرية والسريانية منبثقتين من اللغة السامية التي تعد العربية إحدى فصائلها، وعلماء الساميات يقرون كلمات كثيرة مشتركة بين اللغات السامية حتى عصرنا الحاضر أو هي الأصل على ما قد قيل[11]؛ ولذلك فرد الكلمة إلى أصلها السامي واشتراك أكثر من لغة سامية في كلمة من الكلمات لا ينفي أصالة الكلمة في هذه اللغة.
ولا شك أن الهدف من وراء هذا التشكيك في أصالة المصطلحات الرئيسة في القرآن الكريم، وردها إلى أصول عبرية أو فارسية، أو سامية، أو آرامية، إنما هو استدراج للقارئ، وتمهيد لإقناعه بأن القرآن هو من اختراع محمد – صلى الله عليه وسلم – وتأليفه، وأنه قد تعلم هذه الألفاظ من اليهود والنصارى.
ويناقش د. عبد الرحمن بدوي مزاعم المستشرقين – في هذا الصدد – فيقول: ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلا بد أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان يعرف العبرية والسريانية واليونانية، ولا بد أنه كان لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الأدب التلمودي، والأناجيل المسيحية، ومختلف كتب الصلوات، وقرارات المجامع الكنيسية، وكذلك بعض أعمال الآباء اليونانيين وكتب مختلف الكنائس والملل والنحل المسيحية، ثم يعلق على ذلك فيقول: هل يمكن أن يعقل هذا الكلام الشاذ لهؤلاء الكتاب؟ إنه كلام لا برهان عليه.
إن حياة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع، ولا أحد – قديما أو حديثا – يمكنه أن يثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعرف غير العربية؛ إذن كيف يمكن أن يستفيد من هذه المصادر كما يدعون؟!
والكل يتفق على أن اللغات: العربية والعبرية والسريانية تنتمي إلى سلالة لغوية واحدة هي سلالة اللغات السامية، ولا بد من أجل هذا أن يكون بينها الكثير من التشابه والتماثل؛ ومن ثم فإن القول: بأن إحدى اللغات قد استعارت ألفاظا بعينها من أخواتها هو ضرب من التعسف، لا دليل عليه.
ويمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وجدت في العربية قبل زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – بوقت طويل، واستقرت في اللغة العربية حتى أصبحت جزءا منها، وصارت من مفرداتها التي يروج استخدامها بين العرب.
رابعا. القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ووجود بعض الكلمات التي تستعمل في لغات أخرى فيه؛ إنما هو من باب تداخل اللغات، ولا يقدح ذلك في أصالة اللغة إطلاقا، وذلك يتضح من خلال النقاط الآتية:
إن التوافق والتداخل والاشتراك بين اللغات في بعض الكلمات أمر شائع ومعروف ومألوف، وهو أمر قد قرره دارسو علم اللغات أنفسهم – قديما وحديثا ـ؛ فاللغة العبرية تشتمل على عدد غير قليل من الكلمات ذات الأصل العربي، ومع ذلك لا يقال عن الناطق بتلك الكلمات: إنه لا يتكلم العبرية.
وكذلك الشأن في اللغة التركية، واللغة السريانية أيضا تعد عند علماء اللسانيات شقيقة اللغة العربية في مجموعة اللغات السامية، وهي تشترك مع العربية في كلمات وعبارات وقواعد واشتقاقات كثيرة، ومثل هذه الكلمات المشتركة والمتداخلة يوجد الكثير منها في لغات العالم، وخصوصا بين الشعوب المتجاورة وذات الأصل الواحد القريب، ومنها: اللغات الكردية، والتركية، والفارسية، فلديها كلمات مشتركة كثيرة، وكذلك بالنسبة للغات ذات الأصل اللاتيني؛ كاللغة الفرنسية، والإسبانية، واللغات التي أصلها جرماني؛ كاللغة الإنجليزية، والألمانية، وعلى الرغم من ذلك فلا يقال في الكلمات المشتركة والمتداخلة بين اللغات: إن لغة ما أخذتها من الأخرى.
والتلاقح بين اللغات والتفاعل بينها عبر العصور والأزمان أمر واقع ومقرر، ومسألة التلاقح والتفاعل بين اللغة العربية واللغات الأخرى ليست وليدة اليوم، وإنما ترجع جذورها إلى العصور الزمنية التي سبقت دعوة الإسلام، وهو أمر مألوف ومشاهد بين لغات الناس اليوم؛ إذ إن ظاهرة التفاعل بين اللغات – كما يقرر علماء اللغات – سنة ثابتة من سنن الاجتماع البشري التي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الأحوال والأزمان، وإذا تقرر هذا كان دليلا وشاهدا على ضعف هذه الشبهة وركاكتها، إذا وزنت بميزان العلم، أو قيست بمقياس الواقع.
إن ظاهرة التعريب في كلام العرب مقررة عند أهل العربية، والتعريب ليس أخذا للكلمة من اللغات الأخرى كما هي ووضعها في اللغة العربية، بل التعريب: أن تصاغ اللفظة الأعجمية بالوزن العربي؛ فتصبح عربية بعد وضعها على أوزان الألفاظ العربية كما أسلفنا، وإذا لم تكن على أوزان تفعيلاتها، أو لم توافق أي وزن من أوزان العرب عدلوا فيها بزيادة حرف أو بنقصان حرف أو حروف وصاغوها على الوزن العربي؛ فتصبح على وزن تفعيلاتهم، وحينئذ يأخذونها. يقول سيبويه في هذا الصدد: “كل ما أرادوا أن يعربـوه ألحقوه ببناء كلامهم، كما يلحقون الحروف بالحروف العربية”[12].
وإذا كانت ظاهرة التعريب أمرا ثابتا، وضرورة من ضروريات حياة اللغة نفسها، فلا يعول بعد هذا على من ينكر هذه الظاهرة، أو يقول بقول مخالف لما تقرر.
ومما يدفع هذه الشبهة من أساسها: واقع الشعر العربي في الجاهلية الذي نزل القرآن بلغته؛ فقد اشتمل هذا الشعر على ألفاظ معربة من قبل أن ينزل القرآن؛ مثل: كلمة “السجنجل”، وهي لغة رومية، ومعناها: المرآة، وقد وردت هذه الكلمة في شعر امرئ القيس في قوله:
مهفهفة[13] بيضاء غير مفاضة[14]
ترائبها[15] مصقولة كالسجنجل
وكذلك كلمة “الجمان” وهي: الدرة المصوغة من الفضة، وأصل هذا اللفظ فارسي، ثم عرب، وقد جاء في قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
وتضيء في وجه الظلام[16] منيرة
كجمانة البحري سل نظامها
العرب الذين عاصروا نزول القرآن، وعارضوا دعوة الإسلام، لم يعرف عنهم أنهم نفوا عن تلك الألفاظ أن تكون ألفاظا عربية، وهم كانوا أولى من غيرهم في نفي ذلك لو كان، وهم أجدر أن يعلموا ما فيه من كلمات أعجمية لا يفهمونها، أو ليست من نسيج لسانهم العربي المبين، ولو كان شيء من ذلك القبيل موجودا لوجدوا ضالتهم في الرد على دعوة الإسلام، ومدافعة ما جاء به القرآن، أما وأنهم لم يفعلوا ذلك فقد دل هذا على تهافت هذه الدعوى، وسقوطها من أساسها جملة وتفصيلا.
(*) قناة الحياة الفضائية. عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410 هـ/ 1990م.
www.Ladeenin.net. www.islameat.com. www.alkalema.com.
ويقصدون بالكلام الأعجمي: ما كان له أصول من لغات أخرى؛ كالفارسية والهندية.. إلخ. ومن أمثلتهم: إستبرق، صراط، هاروت، أباريق.. إلخ. والكلام الغريب: الكلام الذي لم تألفه أسماع العرب؛ مثل كلمة “أبا” التي استغلقت على فهم سيدنا عمر رضي الله عنه.
[1]. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: زكا.
[2]. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: سكن.
[3]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص57، 58.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2397)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند مناقب الصحابة (7055)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2589).
[5]. هذا وقد ظهرت مؤلفات أخرى في هذا الموضوع مثل “معاني القرآن” للفراء، وغيره من الأقدمين، وهي ليست من كتب الغريب، بل لها مجالات بحث أخرى؛ كالقراءات.
[6]. ومنه قول العامة “عزوة”، أي: جماعة. انظر حرفي العين والزاي في: المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
[7]. انظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص430 وما بعدها.
[8]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص131: 138.
[9]. فرق بين القوم: أحدث بينهم فرقة، وبين المتشابهين: ميز بعضهما من بعض، وفرق القاضي بين الزوجين: حكم بالطلاق بينهما، وافترق القوم: فارق بعضهم بعضا، وتفرق الشيء تفرقا: تبدد، وتفرق الرجلان: ذهب كل منهما في طريق. والفارق: ما يميز أمرا من أمر. والفاروق: من يفرق بين الحق والباطل، وهو نعت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والفرقان: هو القرآن، كما في القرآن: ) تبارك الذي نزل الفرقان ( (الفرقان: ١)، والفرقان: يوم بدر، والفرقان: كل ما فرق به بين الحق والباطل.
[10]. روعي في تسميته “قرآنا” كونه متلوا بالألسن، كما روعي في تسميته “كتابا” كونه مدونا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى حقه من العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، نعني: أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا.
[11]. للمزيد راجع: الحلقة المفقودة في امتداد اللهجات السامية، عبد الرحمن الرفاعي، تقديم: د. كمال بشر، دار الطائف، القاهرة، 2007م.
[12]. الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، ج4، ص304.
[13]. المهفهفة: لطيفة الخصر، ضامرة البطن.
[14]. المفاضة: المرأة العظيمة البطن المسترخية اللحم.
[15]. الترائب: جمع تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر.
[16]. وجه الظلام: أوله.
ادعاء تناقض القرآن حول تفضيل بعض الرسل على بعض(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن في القرآن الكريم تناقضا حول مسألة تفضيل بعض الرسل على بعض، مستدلين على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات( (البقرة: 253). وقوله سبحانه وتعالى: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله( (البقرة: 285). كما يزعمون أن المسلمين يتعصبون لنبيهم، ويفرقون بينه وبين سائر الأنبياء، ويستدلون على ذلك بقول المسلمين عن أي نبي غير نبيهم: عليه السلام، ويقولون عن نبيهم: صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا تناقض بين آيات القرآن الكريم؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين التفضيل بين الأنبياء والتفريق بينهم، فالتفاضل بين الأنبياء جائز؛ لأنهم متفاوتون في درجاتهم وقربهم من الله، أما التفريق فيعني الإيمان ببعضهم دون بعض.
2) لقد جعل الله الأنبياء درجات، وفضل بعضهم على بعض، وحق التفضيل هذا له وحده لا للمسلمين ولا لغيرهم.
3) المسلمون لا يتعصبون لنبيهم – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم يفضلون من فضله الله تعالى، وصيغة الصلاة والسلام على النبي إنما هي امتثال لأمر الله تعالى، ولم يبتدعها المسلمون من عند أنفسهم.
التفصيل:
أولا. لا تناقض بين آيات القرآن الكريم؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين التفضيل بين الأنبياء والتفريق بينهم:
إن المتأمل قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( (البقرة: ٢٥٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥) لا يجد هذا التناقض الذي يدعيه هؤلاء، فقوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( إخبار أن الله – عز وجل – فضل بعض النبيين على بعض، فالتفضيل من الله وليس من غيره، فقوله: )تلك الرسل( استئناف مشعر بالترقي: )فضلنا بعضهم على بعض( بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست لبعضهم الآخر.
وقيل: المراد التفضيل بالشرائع، فمنهم من شرع ومنهم من لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية، )منهم من كلم الله( تفصيل للتفضيل المذكور وهذا التفضيل كان لموسى عليه السلام: )ورفع بعضهم درجات( أي: ومنهم من رفعه الله – سبحانه وتعالى – على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لترتيب ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف.
إذن فهناك تفاوت بين الرسل كتفاوتهم في قدمهم في الجهاد، والصبر على المحن والبلاء، ومتفاوتون في أعمارهم التي أفنوها في سبيل الله، فالتفضيل حسب جهد كل واحد منهم، وجهاده في الدعوة إلى دين الله، وتحمل المشاق والبلاء في سبيلها، كأولي العزم من الرسل، وليس التفضيل محاباة من الله – عز وجل – لأحد.
إذن فقد شاء الله – عز وجل – أن يكون الرسل والأنبياء الذين بعثهم على مر العصور متفاوتين في درجاتهم وقربهم من الله عز وجل.. والجامع المشترك بينهم أنهم جميعا مؤيدون بالوحي من الله – عز وجل – وأن على الناس أن يؤمنوا بهم جميعا، أي: أن يؤمنوا بأنهم رسل أرسلوا إلى أقوامهم، وأنهم جميعا بعثوا بعقيدة واحدة[1].
أما قوله سبحانه وتعالى: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥) فإن المراد بالتفريق بين الرسل هنا هو أن يؤمن الإنسان ببعض الرسل ويكفر ببعض، كما فعل أهل الكتاب – اليهود والنصارى – حيث آمنوا برسالة بعض الأنبياء، وكفروا برسالة آخرين، ففرقوا بين الرسل، وقد وضح الله – سبحانه وتعالى – هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)( (النساء). [2]
إذن فليس المراد من النهي عن التفريق بين الرسل في القرآن الكريم هو النهي عن التفضيل بينهم؛ لأنه – كما رأينا – هناك فرق كبير بين التفريق بين الرسل والتفضيل بينهم؛ وعليه فيجوز التفضيل بين الأنبياء، ولكن لا يجوز بحال من الأحوال التفريق بينهم في الإسلام.
ثانيا. لقد جعل الله الأنبياء درجات، وفضل بعضهم على بعض، وحق التفضيل هذا لله وحده:
إن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله، وليست بمعلومة عند البشر والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا، وهذا مفضولا، لا العلم ببعضها، أو بأكثرها، أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له، وهو ممنوع منه، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا في القرآن إخبارنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفاضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوا بين أنبياء الله».[3]
وجاء أن عفريتا تفلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقطع عليه الصلاة، وبعد زجره عدة مرات أمكنه الله منه، وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى ينظر إليه جميع الصحابة، فقال: «ثم ذكرت قول أخي سليمان: )قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي( (ص:٣٥)».[4] وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى»[5]. والقرآن يخبر أن الله فضل بعض الأنبياء على بعض، ويبين أن الإيمان بهم يكون بلا تفضيل؛ لأنهم جميعا أنبياء الله سبحانه وتعالى.
على أننا ننبه أن نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه والمسلمين من بعدهم عن التفضيل بين الأنبياء في هذه الأحاديث، إنما هو التفضيل القائم على الحمية والعصبية والانتقاص، أو التفضيل الذي يمكن أن يؤدي إلى خصومة أو فتنة بين المسلمين وأهل الكتاب، وعليه فهذا النهي ليس مطلقا ولا يتعارض مع آيات القرآن التي جاء فيها ذكر لتفضيل بعض الأنبياء على بعض، فمن الثابت أن هؤلاء الأنبياء الأطهار ليسوا بدرجة واحدة من الفضل والمكانة، بل بعضهم أفضل من بعض، وقد جعلهم الله – عز وجل – درجات، فأفضل الرسل هم أولو العزم، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد – عليهم الصلاة والسلام – فمنهم من فضل بتكليم الله مباشرة؛ مثل موسى – عليه السلام – على جبل الطور، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – في ليلة المعراج، قال سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات( (البقرة: 253).
قال المفسرون: أراد بقوله: )ورفع بعضهم درجات( محمدا – صلى الله عليه وسلم – لأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: العرب والعجم، وظهرت على يديه المعجزات الكثيرة، وأحلت له الغنائم، ولم تحل لأحد قبله، وليس أحد من الأنبياء أعطي فضيلة أو كرامة إلا وقد أعطي محمد – صلى الله عليه وسلم – مثلها. ومن فضائله: أن الله – عز وجل – خاطب الأنبياء بأسمائهم مثل: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم، ويا موسى، ويا عيسى، وخاطب نبينا بالنبوة والرسالة في كلامه القديم، فقال: )يا أيها النبي( و )يا أيها الرسول( وأمر الله المؤمنين بمخاطبته بوصف الرسالة في قوله: )لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا( (النور: ٦٣)[6].
وورد في القرآن الكريم جملة أخبار تبين عظم قدر النبي – صلى الله عليه وسلم – وشريف منزلته وتفضيله على بقية الأنبياء، منها قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81)( (آل عمران).
قال أبو الحسن القابسي: اختص الله تعالى محمدا – صلى الله عليه وسلم – بفضل لم يؤته غيره، أبانه به وهو ما ذكره في هذه الآية. قال المفسرون: أخذ الله الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا – صلى الله عليه وسلم – ونعته، وأخذ عليه ميثاقه: إن أدركه ليؤمنن به.
إن آيات كثيرة تضمنت فضل النبي – صلى الله عليه وسلم – وفضائله من وجوه متعددة، منها قوله سبحانه وتعالى: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب). ومنها قوله سبحانه وتعالى: )إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165) لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)( (النساء).
قال عمر – رضي الله عنه – في كلام أبكى به النبي صلى الله عليه وسلم: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم، فقال: )وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)( (الأحزاب).
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك، وهم بين أطباقها يعذبون: )يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66)( (الأحزاب)، أي: فلم يصبنا هذا العذاب. تمنوا حيث لا ينفعهم التمني من جميع الأبواب.[7] قال أبو الليث السمرقندي: في هذا تفضيل نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – لتخصيصه بالذكر قبلهم، وهو آخرهم بعثا.
والمعنى: أخذ الله – عز وجل – عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم كالذر [8] بأن يؤمنوا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – ويتبعوه.
دلت هذه النصوص القرآنية على تفضيل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – على جميع الأنبياء، وإن كان متأخرا عنهم في الزمان، ويؤكدها أحاديث؛ منها: ما جاء عن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله – عز وجل – فضلني على الأنبياء»[9].
ثالثا. المسلمون لا يتعصبون لنبيهم، ولكنهم يفضلون من فضله الله:
المسلمون ينقلون بأمانة عن الله – عز وجل – فهم شهداء على الأمم، وحينما يذكرون أحدا بالفضل، فليس ذلك راجعا لأنفسهم وأهوائهم، ولكنهم يفضلون من فضله الله.
فالمسلمون لا يتعصبون لمحمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم ينقلون ما خصه الله تعالى به، وعندما يذكرونه بالفضل فما ذلك إلا لأن الله تعالى هو الذي فضله وخصه بما لم يخص به أحدا من خلقه: لا من الرسل ولا من الملائكة ولا غيرهم، والله سبحانه وتعالى – يقول عن أنبيائه: )قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (59)( (النمل)، وقال سبحانه وتعالى: )سلام على نوح في العالمين (79)( (الصافات)، وقال سبحانه وتعالى: )فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79)( (النمل)، وقال سبحانه وتعالى: )وسلام على المرسلين (181)( (الصافات). فاكتفى سبحانه بالسلام على المرسلين فقط.
أما عن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد قال الله – سبحانه وتعالى – في حقه: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)( (الأحزاب)، والمسلمون لم يغيروا ولم يعدلوا، ولم يزيدوا ولم ينقصوا عما شرعه الله عز وجل.
وعليه فهم حينما يقولون عن أي نبي غير محمد: عليه السلام، وحينما يقولون عنه: صلى الله عليه وسلم، إنما يمتثلون لأمر الله تعالى لهم. والنبي – صلى الله عليه وسلم – جدير بكل تكريم، وأهل لكل تفضيل، فمن مثله جاهد؟ ومن تحمل من الأعباء مثلما تحمل؟ ومن خاطب الأمم كلها كما خاطب؟ ومن عم خيره ونفعه العالمين مثله؟ ومن أحدث تحولا في البشرية كلها كما فعل؟
فإذا نال النبي – صلى الله عليه وسلم – من ربه من الفضل ما لم ينله غيره؛ فلأنه كلف بما لم يكلف به غيره، أو تجمل بالأخلاق الجامعة بما تفرق في غيره، ثم إن الله – عز وجل – وضعه أمام مسئولياته، وسأله عن كل ما كلفه به، وهكذا فما من تشريف، إلا وهو مصحوب بتكليف.
الخلاصة:
الإيمان بالرسل جميعا واجب على المسلم؛ إذ لا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بهم جميعا بدون تفرقة، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم، فقد كفر بالله – عز وجل – ومن آمن بهم جميعا إلا عيسى، أو موسى، أو محمد – صلى الله عليه وسلم – فهو كافر أيضا، وأما التفضيل في قوله سبحانه وتعالى: )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض( فهذا التفضيل خاص بالله – سبحانه وتعالى – وليس لنا – نحن البشر – أن نفرق بينهم، إنما الواجب علينا أن نؤمن بهم جميعا، لا نفرق بين أحد منهم.
المسلمون لا يتعصبون لمحمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم ينقلون ما خصه الله – عز وجل – به، وعندما يذكرونه بالفضل، فما ذلك إلا لأن الله – عز وجل – هو الذي فضله وخصه، بما لم يخص به أحدا من خلقه، لا من الرسل ولا من الملائكة ولا غيرهم، والله – سبحانه وتعالى – قال عن أنبيائه: )قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى( (النمل: ٥٩)، وقال عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: )إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)( (الأحزاب).
(*) بين الدين والحياة في رحلة قطار، د. عبد الحليم حفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
[1]. لا يأتيه الباطل، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1428 هـ/ 2007م، ص122.
[2]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص18 بتصرف.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) وإن يونس لمن المرسلين (139) ( (الصافات) (3233)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام (6300).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد (449)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1237).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) وهل أتاك حديث موسى (9) ( (طه) (3215)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر يونس عليه السلام (6310).
[6]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006م، ص48.
[7]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2006م، ص49، 50.
[8]. الذر: هو صغار النمل.
[9]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 257) برقم (8001)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1780).
ادعاء خطأ القرآن في عدم ذكر سبب انتباذ مريم العذراء (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن أخطأ؛ لأنه لم يذكر السبب في انتباذ مريم مكانا شرقيا، واتخاذها حجابا من دون أهلها. ويتساءلون: هل تشاجرت مريم مع أهلها، وهم المشهورون بالتقوى؟ كما أن القرآن يقول: إنها كانت في المحراب في كفالة زكريا في حين يقول الإنجيل: إن مريم كانت في الناصرة.
وجها إبطال الشبهة:
1) هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة؛ لأن المتأمل في القرآن الكريم، يجد أن هذه القصة سيقت لبيان سبب انتباذ مريم عليها السلام.
وكان هذا الانتباذ مرتين:
الأولى: مكانا شرقيا للعبادة والتنسك.
الثانية: مكانا قصيا أي بعيدا، وذلك بعدما أحست بحملها خوفا من رميها بالمنكر، أو أن تمس بسوء.
2) قول الأناجيل: إن مريم كانت في الناصرة – إن صح ذلك – فقد يكون في بعض تنقلاتها، فقد ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
التفصيل:
أولا. كيف يدعي هؤلاء أن القرآن لم يذكر سبب انتباذ مريم عليها السلام، والقصة كلها مسوقة من أجل هذا الغرض:
إن هذا يدل على أن القوم حينما قرءوا القصة في القرآن لم يعقلوا منها شيئا؛ حيث إنهم لم يفهموا الغرض الواضح الذي من أجله سيقت القصة.
لقد انتبذت مريم من أهلها مرتين:
الأولى: انتبذت مكانا شرقيا للعبادة والتنسك.
الثانية: انتبذت مكانا قصيا بعيدا، وذلك بعدما أحست بحملها؛ خوفا من رميها بالمنكر، أو أن تـمس بسوء.
والمقصود بالانتباذ هنا التنحي والتباعد، وانتبذت: أي تنحت وتباعدت، والانتباذ هو الاعتزال والانفراد[1].
أما عن المرة الأولى وهي الواردة في بداية القصة في سورة مريم: )واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)( (مريم). والسبب في هذا الانتباذ إذا لم يكن مفهوما هنا، هو عبادة الله والخلوة بمناجاته، فإنه قد ذكر صراحة في: )إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35)( (آل عمران).
وبذلك يتبين لنا أن مريم – عليها السلام – كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت عن الناس لذلك ودخلت المسجد إلى جانب المحراب من جهته الشرقية لتخلو للعبادة فيه، فدخل عليها جبريل – عليه السلام – فقوله: “مكانا شرقيا” أي: مكانا من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، والشرق بفتح الراء: الشمس، وإنما خص المكان بالشرق؛ لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق من حيث تطلع الأنوار، وكانت الجهات الشرقية من كل شيء أفضل من سواها[2].
إذن لم يكن اعتزال السيدة مريم بسبب مشاجرة مع أهلها، كما يفترض هؤلاء هذا الافتراض السخيف الذي لا يخطر ببال عاقل يتابع ويفهم ما جاء في القرآن الكريم عن مريم – عليها السلام – ونشأتها وأبويها، وقد تعودنا ونحن نقرأ قصص القرآن أن نلاحظ أن كثيرا من التفاصيل تطوى ولا تذكر، خاصة إذا كانت تفهم من سياق القصة ولا حاجة لذكرها ولا جدوى منه.
والذي يفهم من حال مريم أنها اتخذت مكانا شرقي بيت المقدس بمعزل عن الناس؛ إمعانا في عبادة الله والأنس به وحده، وحتى لا يشغلها شاغل من البشر عن عبادة ربها[3].
وليس بلازم أن يكون المكان الذي “انتبذته” مكانا بعيدا جدا يخشى عليها فيه الخطر بسبب بعده، ولكنه يكفي لأن يكون بعيدا عن الاختلاط بالناس.
جاء في رسالة يعقوب: أن مريم وهي في سن الثالثة ذهبت بها أمها بصحبة أبيها إلى أورشليم، وسلماها إلى كهنة هيكل سليمان، وكانت علامات السرور تبدو عليها، ثم تركاها ورجعا إلى أورشليم، وعاشت مع الراهبات المنذورات إلى أن حبلت.
وإن نظرنا في خريطة فلسطين، نجد حبرون أسفل أورشليم، وقريبة منها، ونجد الناصرة على الخط نفسه وبعيدة عن أورشليم؛ فتكون أورشليم غرب الناصرة، وشرق حبرون.
أما المرة الثانية التي ذكرها القرآن بشأن انتباذ مريم فكانت بعدما أحست بحملها فخافت أن يرميها قومها بالمنكر: )فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23)( (مريم).
إذن كان خروج مريم – عليها السلام – في هذه المرة خوفا من القيل والقال، وحتى لا تمس بسوء، وقيل: “انتبذت مكانا قصيا” أي: اعتزلت بحملها وتنحت به عن الناس مكانا نائيا.[4]وقيل في “زوائد الزهد” عن نوفل: إن جبريل نفخ في جيبها فحملت حتى أثقلت وآلمها ما يؤلم النساء، وكانت في بيت نبوة فاستحيت وهربت؛ حياء من قومها، فأخذت نحو المشرق.[5] [6] وكان من فيض كرم الله عليها أنه هيأ لها الطعام والشراب والمأوى.
ولما حملت مريم – عليها السلام – ضاقت بحملها ذرعا، وعلمت أن كثيرا من الناس سيتكلمون في حقها، وهذا ما حدث، حيث تعجب “يوسف بن يعقوب النجار” وكان ابن خالها، فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا؛ وذلك لما يعلم من ديانتها، ونزاهتها وعبادتها.
بل وصل الأمر إلى أكبر من ذلك حيث اتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكانا قصيا، وألجأها المخاض واضطرها إلى جذع النخلة الذي كان يابسا، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لبى حاجتها إلى الطعام والشــراب، حيـث قـال سبحانـه وتعالـى: )وهـزي إليك بجــذع النخلة تساقـط عليـك رطبـا جنيــا (25)( (مريم)، وقوله سبحانه وتعالى: )فكلي واشربي وقري عينا( (مريم: ٢٦)[7].
ثانيا. إن صح قول الأناجيل بأن مريم كانت في الناصرة، فإنما كان ذلك في بعض تنقلاتها:
لما كبرت السيدة مريم – عليها السلام – تفرغت للعبادة، وأوغلت فيها باعتزالها، فكانت البشرى بعيسى في قمة عبادتها لربها وأنسها به، وأما قول الإنجيل: إن مريم كانت في الناصرة، فعلى فرض صحته فإن ذلك يكون في بعض تنقلاتها، فقد ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
وقد تبين أن الناصرة من نصيب سبط زبولون – وهو من أسباط السامريين – وهي من سبط يهوذا – على حد زعمهم – فكيف تكون من سكان الناصرة؟! وإذا كانت من سكان الناصرة، فلماذا أتت إلى أورشليم لتعد مع سكانها، وسكان أورشليم من سبطي يهوذا وبنيامين؟ فالحق ما قاله القرآن إنها كانت هارونية، ومعلوم أن زكريا وامرأته، ويوحنا المعمدان كانوا من التابعين لأهل أورشليم[8].
الخلاصة:
لم يكن اعتزال السيدة مريم – عليها السلام – بسبب مشاجرة مع أهلها كما يفترض بعض المتوهمين، بل كان اعتزالا للناس، وخلوة لعبادة الله، كما أن هناك كثيرا من التفاصيل لا تذكر في القرآن؛ لأنها تفهم من سياق الكلام، ولا حاجة لذكرها.
الانتباذ لا يدل على مشاجرة، أو كراهية، ولكنه هنا بمعنى الابتعاد والاعتزال، كما حدث مع موسى وهو طفل، ثم إن خروج مريم – عليها السلام – كان خوفا من القيل والقال، وحتى لا تمس بسوء، وقد حفظها الله سبحانه وتعالى – ورزقها المأوى والطعام والشراب.
الإعجاز في ولادة مريم هو الذي أثار تعجب اليهود، وظنوا بها أسوأ الظنون بعد أن غابت عنهم لبعض الوقت.
إذا سلمنا جدلا بقول الأناجيل: إن مريم كانت في الناصرة، فإن ذلك يكون في بعض تنقلاتها، حيث ذكروا أيضا أنها جاءت إلى مصر.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islamiyat.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص90.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص90.
[3]. انظر: تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ج7، ص94 وما بعدها.
[4]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، عند تفسير الآية.
[5]. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 51).
[6]. روح المعاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[7]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد بن الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، 1421هـ/ 2001م، ص422: 424.
[8]. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص475. أضواء على المسيحية، أحمد ديدات، ترجمة: عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425 هـ/ 2004م. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد بن الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، 1421هـ/ 2001م، ط1، 2001م.
ادعاء تناقض القرآن في مادة خلق آدم عليه السلام، ومخالفته لما ورد في السنة النبوية
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن مضطرب في حديثه عن مادة خلق آدم عليه السلام، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون( (59) (آل عمران)، وقوله عز وجل: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)( (المؤمنون)، وقوله عز وجل: )فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)( (الصافات)، وقوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)( (الحجر). وقوله عز وجل: )والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)( (النور). ففي الموضع الأول يذكر أن مادة خلق آدم هي التراب، وفي الثاني أن مادة الخلق هي الطين، وفي الثالث أن مادة الخلق هي الطين اللازب[1]، وفي الرابع أن مادة الخلق هي الحمأ[2] المسنون[3]، وفي الخامس أن مادة الخلق هي الماء، في حين أن السنة ذكرت أن الله خلق آدم علي صورته.
وهم بذلك يشككون في اتساق آيات القرآن من جهة، ويزعمون مخالفتها لأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – من جهة أخرى.
وجها إبطال الشبهة:
1) الفهم السليم لمراحل خلق آدم من: التراب اليابس والطين، والطين المتماسك، والحمأ والصلصال، وطبيعة كل مرحلة ـ يزيل هذا الادعاء الباطل بوقوع الاضطراب في القرآن.
2) سبب ورود حديث خلق آدم وتأويلات العلماء له يثبتان عدم التشبيه بين آدم – عليه السلام – والله – عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – والحديث خبر آحاد من المتشابه الذي يرد إلى المحكم قطعي الثبوت، وهو القرآن الكريم، وعليه فلا تعارض بين القرآن والسنة.
التفصيل:
أولا. الفهم الصحيح لمراحل خلق آدم يزيل هذا الادعاء:
إن حديث القرآن الكريم عن خلق آدم موزع في سور القرآن: (آل عمران، والنور، والحجر، والصافات، وغيرها)، وهذا لا يعني تعارضا أو اضطرابا، فالآيات على تعددها تذكر مراحل تكون آدم، وعناصر تكوينه، فحين يذكر القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب فهذا حق؛ لأن التراب عنصر تكوينه الأول، قال سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران)، وعندما يذكر أن آدم خلق من طين فهو حق أيضا، قال تعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)( (المؤمنون) ولا تناقض بين هذا النص وسابقه؛ فإن الماء إذا صب على التراب صار طينا، وقال الله – سبحانه وتعالى – أيضا: )والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)( (النور)، وعندما نقرأ قوله عز وجل: )فاستفتهـم أهـم أشـد خلقـا أم مـن خلقنـا إنـا خلقناهـم مـن طيـــن لازب (11)( (الصافات)، فهذا حق أيضا؛ لأن الطين إذا مكث فترة فإنه يصير لازبا؛ إذ إن لازبا بمعنى لاصقا، وإذا قال الله سبحانه وتعالى: )ولقـد خلقنـا الإنسـان مـن صلصـال مـن حمـإ مسنـون (26)( (الحجر)، فهذا حق، فإن الطين إذا مكث فترة صار يابسا، فكان صلصالا، والطين إذا مكث فترة صار أسود متغيرا، وذلك هو الحمأ، ثم كان مسنونا، قال الإمام النسفي: “وفي الأول كان ترابا، فعجن بالماء فصار طينا، فمكث فصار حمأ، فصار سلالة، فصور، ويبس فصار صلصالا”؛ ومن ثم فلا تناقض بين هذه المراحل.
ولقد أخبرنا الله – عز وجل – في كتابه العزيز أنه خلق آدم من تراب شأنه شأن عيسى عليه السلام، وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق إلا أن آدم قد خلق من تراب، أي: من غير أم ولا أب، فهو في الإبداع أقوى وأعظم. وقد قال عز وجل: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران).
ثم كونه تكوينا آخر، ذكر أطواره جملة في آيات أخر، طين ثم صلصال من حمأ مسنون، فقال: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)( (الحجر)، وقال عز وجل: )الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7)( (السجدة).
والصلصال: هو الطين اليابس، والحمأ: هو الطين الأسود، والمسنون: هو المتغير بسبب التفاعل الكيميائي، وقد شبهت طينة آدم في يبسها وصلصلتها بالفخار؛ لأن الفخار – كما يقول د. محمد وصفي – لا يصنع ولا يتكون إلا من طين غني بالعناصر التي يتركب منها الإنسان، وينشأ منها النبات.
إذن فعدد الأطوار التي مر بها آدم – عليه السلام – قبل نفخ الروح فيه خمسة على الجملة لا على التفصيل هي:
طور التراب اليابس الذي لا حراك فيه، ولا حياة.
طور الطين الذي لم تتفاعل عناصره بعد.
طور الطين المتماسك الذي أشار إليه سبحانه: )فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)( (الصافات).
وما لبث هذا الطين حتى اسود وتفاعلت عناصره، فكأنه حمأ.
طور الصلصال، فقد يبس هذا الطين – بعد أن تفاعلت عناصره – يبوسة تامة، حتى صار له رنين كرنين الفخار.
وبين كل طور من هذه الأطوار أطوار لا يعلمها إلا الله. ثم سواه الله ونفخ فيه من روحه؛ أي من سره المكنون، فصار إنسانا سويا مزودا بالعقل والعلم، وبكل المؤهلات التي تجعله قادرا بإذنه – سبحانه وتعالى – على تأدية وظيفته، التي خلقه من أجلها.
وقصة خلق آدم هي قصة خلق البشرية كلها، فهو مخلوق من طين وذريته مخلوقون من طين أيضا؛ إذ إن النطفة التي خلقوا منها هي من الطين على الحقيقة، فمن الطين كان النبات، ومن النبات كان المني، ومن المني كانت النطفة.
قال عز وجل: )هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2)( (الأنعام)، أي: ابتدأ خلقكم وخلق أبيكم من طين، وقد عرف العلماء في هذا العصر أن الطين يحمل عناصر كثيرة تبلغ في جملتها تسعين عنصرا يحمل النبات منها جملة، فإذا أكله الإنسان تحولت بعض العناصر إلى منويات، ومن هذه المنويات تتكون النطف، فتكون هذه النطف حاملة لخلاصة صالحة من هذه العناصر، يسميها الله عز وجل “سلالة” في قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)( (المؤمنون) [4].
تلك هي مراحل خلق الإنسان الأول عبر بعض سور القرآن الكريم، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معاني المصطلحات: التراب، الماء، الطين، الحمأ المسنون، الصلصال، دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض، إذن فالمراحل السابقة لآدم – عليه السلام – بالأصالة، ولذريته بالتبعية.
ثانيا. سبب ورود الحديث و تأويلات العلماء له يثبتان عدم التشبيه والتجسيم:
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم على صورته»[5] له سبب لم يذكره الراوي اختصارا، ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مر برجل يضرب ابنه أو عبده، في وجهه لطما، ويقول: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته»[6]. وإنما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك له؛ لأنه سمعه يقول: “قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك”. بدليل أنه نهى عن ذلك بقوله: «ولا تقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك»[7]. وذلك سب للأنبياء، والمؤمنين، فزجره عن ذلك، وخص آدم بالذكر؛ لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على الحد الذي يحتذى عليها من بعده، كأنه ينبهه على أنك قد سببت آدم، ومن ولد، مبالغة في الردع له عن مثله[8].
وللعلماء في تأويل الحديث وجوه أخرى أشهرها وأرجحها ما تقدم، وفهم الحديث على أن الضمير يعود على لفظ الجلالة فهم ضعيف إذا الضمير في “صورته” يعود إلى أقرب مذكور وهو آدم، وإن كان للعلماء مخارج وتأويلات في ذلك بما يدفع التشبيه، والتجسيم الذي لا تقره النصوص الصريحة القاطعة في القرآن الكريم، كقوله عز وجل: )ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وقوله سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى: ١1) وهما من الآيات المحكمات قطعية الثبوت والدلالة، والحديث السابق، وإن كان صحيحا فهو خبر آحاد، وهو من المتشابه، والمتشابه يرد إلى المحكم ويفهم على ضوئه[9].
ويعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا الحديث فيقول: “أما من يزعمون تناقض هذا الحديث مع قوله عز وجل) فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجـا ومـن الأنعـام أزواجـا يذرؤكـم فيه ليـس كمثلـــه شـيء وهـو السميـع البصيـر (11) ((الشورى:11)، فإن يسر الله لهم الجمع، فليجمعوا، وإن لم يتيسر؛ فليقولوا كما قال الراسخون في العلم: )آمنا به كل من عند ربنا( (آل عمران: 7)، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له؛ فبهذا تسلم من الزيغ والضلال.
هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضا؛ لأنه كله خبر وليس حكما كي ينسخ، فأقول: هذا نفي المماثلة وهذا إثبات الصورة؛ لأن من قال: «إن الله خلق آدم على صورته»[10] رسول الذي قال: )ليس كمثله شيء(. والرسول لا يمكن أن ينطق بما يكذب القرآن، والذي قال: «خلق آدم على صورته» هو الذي قال: «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر»[11].
فهل يعتقد هؤلاء أن الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه، أم أنهم على صورة البشر، لكن في الوضاءة والحسن، والجمال، واستدارة الوجه، وما أشبه ذلك مما هو على صورة القمر، لا من كل وجه؟!
فإن قلنا بالأول؛ فمقتضاه أنهم دخلوا، وليس لهم أعين، وليس لهم أنوف وليس لهم أفواه، وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار.
وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلا له من كل وجه.
وإن أبى هؤلاء المدعون إلا المماثلة، فهناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فقوله: “على صورته”؛ مثل قوله – عز وجل – في آدم)ونفخت فيه من روحي( (ص: 72)، ولا يمكن أن يكون الله ـ عز وجل – قد أعطى آدم جزءا من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف؛ كما نقول: عباد الله؛ فيشمل الكافر، والمسلم، والمؤمن، والشهيد، والصديق والنبي، لكننا لو قلنا: محمد عبد الله؛ فهذه إضافة خاصة، ليست كالعبودية السابقة.
فقوله: “خلق آدم على صورته”؛ يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها؛ كما قال عز وجل: )ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)( (الأعراف:11)، والمصور آدم، إذن فآدم على صورة الله؛ يعني: أن الله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، )لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)( (التين:4)، فإضافة الصورة إلى الله من باب التشريف، كأنه – عز وجل – اعتنى بهذه الصورة، ومن أجل ذلك لا تضرب الوجه؛ فتعيبه حسا، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك؛ فتعيبه معنى؛ من أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ أي: لا تقبحها بعيب حسي، ولا بعيب معنوي، وهذا التأول: إضافة الصورة إلى الله تعالى إضافة تشريف له وله نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله؛ لأن هذه الصورة – أي صورة آدم – منفصلة بائنة من الله، وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه؛ فهو من المخلوقات؛ فحينئذ يزول الإشكال.
ولكن إذا قال قائل: أيهما أسلم للمعنى الأول أم الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، مادمنا نجد أن لظاهر اللفظ مستساغا في اللغة العربية وإمكانا في العقل؛ فالواجب حمل الكلام عليه، ونحن نجد أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.
وإذا قالوا: ما الصورة التي تكون لله ويكون آدم عليها؟
قلنا: إن الله – عز وجل – له وجه، وله عين، وله يد، وله رجل – عز وجل – لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان؛ فهناك شيء من الشبه، لكنه ليس على سبيل المماثلة؛ كما أن الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر، لكن بدون مماثلة.
وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة؛ من أن جميع صفات الله – سبحانه وتعالى – ليست مماثلة لصفات المخلوقين؛ من غير تحريف ولا تعطيل[12]، ومن غير تكييف[13] ولا تمثيل[14].
الخلاصة:
الفهم الخاطئ لمراحل تكون آدم، وتعدد صور خلقه أدى إلى هذا الزعم، فالمراحل التي ذكرها القرآن هي: طور التراب اليابس الذي لا حراك فيه ولا حياة، ثم طور الطين الذي لم تتفاعل عناصره بعد، ثم طور الطين اللازب، ثم طور الحمأ المسنون، ثم مرحلة التسوية، ثم نفخ الروح… هذه هي مراحل تكون الخلق كما اقتضتها حكمة الله وقدرته، وإن تحدث القرآن عن تلك المراحل في سور القرآن المختلفة فلا يعني هذا تعارضا أو اضطرابا، إنما هي عملية مرحلية حتى وصلت إلى الصورة النهائية.
بالرجوع إلى سبب ورود الحديث – الذي أغفله الراوي اختصارا – يتضح لنا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد زجر الرجل؛ إذ إن سب الغلام وتقبيح وجهه إنما هو سب للأنبياء والصالحين، وقد خص النبي – صلى الله عليه وسلم – آدم – عليه السلام – اعتبارا بالأصل الأول.
الحديث خبر آحاد ورد في المتشابه، والمتشابه من خبر الآحاد يرد إلى قطعي الثبوت؛ أي القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، والرد إلى الآية يثبت عدم التعارض ومن ثم فلا إشكال.
(*) البيان في تحليل وتوجيه الإشكالات التي تثار حول قصص القرآن، د. عاطف قاسم المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، 2004م.
[1]. اللازب: اللاصق.
[2]. الحمأ: الطين الأسود المنتن.
[3]. المسنون: المتغير.
[4]. انظر: أطوار الخلق وحواس الإنسان، موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2003م، ص29: 32.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام (5873)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (7342).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنـه (7319)، وابــن حبــان في صحيحــه، كتـاب الحظــر والإباحــة (5605)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (862).
[7]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7414)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب الخدم والمماليك، باب لا تقل قبح الله وجهه (173)، وحسنه الألباني في ظلال الجنة (519).
[8]. مشكل الحديث وبيانه، ابن فورك، تحقيق: د. موسى محمد علي، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص48، 49 بتصرف يسير.
[9]. مشكل الحديث وبيانه، ابن فورك، تحقيق: د. موسى محمد علي، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1405هـ/ 1985م، ص55 بتصرف.
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، النهي عن ضرب الوجه (6821).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3074)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفــة نعيمها وأهلهـا، بـاب أول زمــرة تدخـل الجنـة على صـورة القمـر ليلـة البــدر (7329).
[12]. التعطيل: مذهب ينكر صفات الله عز وجل.
[13]. التكييف: هو تعيين كنه الصفة؛ يقال: كيف الشيء؛ أي: جعل له كيفية معلومة.
[14]. شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية، ابن العثيمين، دار ابن الجوزي، الرياض، ط3، 1416هـ، ج1، ص109 وما بعدها.
ادعاء تباين القرآن المدني عن المكي بشأن إبراهيم – عليه السلام – استمالة لليهود
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن إبراهيم – عليه السلام – ورد ذكره في القرآن المكي على أنه رسول أنذر قومه، ولم تذكر له أي علاقة بإسماعيل، ووضع قواعد البيت الحرام إلا في القرآن المدني، الذي ذكر أنه كان أول المسلمين حنيفا قانتا؛ وذلك من أجل استمالة اليهود في المدينة – بعدما ناصبوا القرآن ونبيه العداء في مكة – عن طريق الاتصال بيهودية إبراهيم – عليه السلام – واعتباره أبا للعرب وبانيا للبيت الحرام. ويستدلون على أنه لا علاقة للعرب بإبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وأنهما لم يرسلا إلى العرب بقوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( (السجدة: 3).
وجوه إبطال الشبهة:
1) آيات القرآن يكمل بعضها بعضا حسب المقام ومقتضى الحال والأغراض التي تساق من أجلها، وليس معنى ذلك أن القرآن يتباين أو يختلف في اتخاذ المواقف والإخبار عن الأمور.
2) القرآن المكي ذكر – في سورة إبراهيم – صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام – وقصة مجيئه إلى مكة وبناء البيت الحرام، فكيف يفترى كذبا ويقال: إن هذه الأحداث لم تذكر بالقرآن المكي؟! وادعاء قطع صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام – يهدم التوراة قبل أن يسييء إلى القرآن؛ لأنها ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام -.
3) لم يكن بمكة تجمعات يهودية حتى يقال: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد الاعتماد عليهم ولكنهم عادوه، ثم هل يعقل أن يلتمس التقرب إليهم في المدينة بعدما اتخذوا حياله خطة عداء بمكة؟! حسب زعمهم!!
4) إن إبراهيم – عليه السلام – ما كان يهوديا ولا نصرانيا حتى يتمسحوا به أو يكون الحديث عنه أو الانتساب إليه تقربا إليهم ولكنه كان حنيفا مسلما والنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بعث بالحنيفية السمحاء.
5) قوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( (السجدة: 3)، أي: بعد أن تميزوا وتحققت قوميتهم وانتهت رسالة إسماعيل – عليه السلام – الخاصة بأهله وأصهاره من جرهم[1] فلم تكن عامة ولا دائمة
التفصيل:
أولا. آيات القرآن يكمل بعضها بعضا حسب المقام ومقتضى الحال وإنما التفاوت والتباين في عقول المشككين:
لقد جاء ذكر نبي الله إبراهيم – عليه السلام – في كثير من آيات القرآن الكريم، وكل الآيات التي جاءت في قصته يكمل بعضها بعضا، حسب سياق الآيات وما يتطلبه الحال؛ ففي سورة العنكبوت مثلا يخبر عن دعوة إبراهيم – عليه السلام – لقومه وأبيه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام مبينا لهم بالدليل العقلي بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام وداعيا إياهم إلى النظر في الكون وما فيه من أسرار القدرة الإلهية ودلائل الربوبية والألوهية بالبرهان والمنطق السليم: )وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (25)( (العنكبوت).
وفي سورة مريم يدعو أباه إلى عبادة الله بكل أدب يتناسب مع مقام الوالد حتى ولو كان كافرا بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى إنه عندما يقسو عليه ويهدده بالرجم يتركه إبراهيم – عليه السلام – قائلا له: )قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47)( (مريم) [2].
وفي سورة الأنعام يحاج قومه ويبطل لهم بالدليل والبرهان عبادة غير الله تعالى من الكواكب والنجوم والشمس والقمر وبالأحرى عبادة الأصنام: )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79) وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون (80)( (الأنعام).
وفي سورة البقرة وسورة إبراهيم يحكي قصة بناء البيت ودعاءه إلى الله سبحانه وتعالى هو وإسماعيل ولده عليهما السلام.. وهكذا تتكرر قصة إبراهيم – عليه السلام – في كثير من سور القرآن وفي كل مرة يحكي القرآن جانبا من حياته ومواقفه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى وطاعته لأمر الله سبحانه وتعالى.
ومن اللافت للنظر أن السور التي تحدثت عن الخليل إبراهيم – عليه السلام – في القرآن المكي يغلب عليها جانب التركيز على جهاده في الدعوة إلى الله تعالى وتوحيده ومقاومة الشرك بكل صوره بالحكمة والموعظة الحسنة والبرهان القوي، من ذلك نقرأ قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74)( (الأنعام).
ونلاحظ ذلك أيضا في قوله سبحانه وتعالى: )واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)( (مريم)، وفي قوله سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52)( (الأنبياء)، وغير ذلك من السور التي تحدثت عن ترسيخ[3] جانب التوحيد في نفوس الناس في بداية الدعوة الإسلامية.
أما القرآن في مرحلة ازدهار الدعوة الإسلامية، فنجد فيه التشريعات والقوانين الإلهية التي بلغها رسول الله للناس لكي يسيروا على هداها، وكان من بين هذه التشريعات فريضة الحج، التي تعود بالمسلمين إلى عمارة المسجد الحرام والتي بدأت في عهد إبراهيم – عليه السلام – بعد بناء البيت الحرام على يد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، ومن المناسب في هذا المقام أن يذكر بناء إبراهيم – عليه السلام – للكعبة وتكليفه بأن يؤذن في الناس بالحج إلى بيته الحرام، وأن يذكر أمة الإسلام بأنها امتداد للحنيفية التي جاء بها إبراهيم – عليه السلام – وإن كانت قصة بناء البيت وترك إسماعيل – عليه السلام – وأمه عنده وحدهما ذكرت من قبل في القرآن المكي بسورة إبراهيم، ولكن ليس بهذا التفصيل لأنها كانت مسوقة لغرض آخر هناك، وهذا يؤكد ما سبق أن قررناه من أن حديث القرآن عن قصة إبراهيم – عليه السلام – جاء مناسبا للمقام الذي نزلت فيه تلك السور، ومن هنا يظهر مدى التوافق الذي بين آيات السور دون أدنى اختلاف أو تباين، كما يدعي هؤلاء المغرضون.
ثانيا. قصة بناء البيت الحرام، وصلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام – مذكورة في القرآن المكي:
إن الزعم القائل أن القرآن المكي لم يذكر صلة لإسماعيل بإبراهيم – عليهما السلام – هو محض افتراء على كتاب الله تعالى ويعد كذبا وزورا؛ وذلك لأن الذي أصدر مثل هذا الحكم يفترض فيه أنه استقصى كل المواضع التي تحدثت في القرآن عن علاقة إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام – مكية كانت أو مدنية – فمثل هذا الحكم لا يكون إلا بعد استقصاء وحصر؛ وإلا عد هذا افتراء ناتجا عن خطأ أو عن جهل، وإذا كان الحكم بدون علم وعن جهل جريمة لا تغتفر فإن الافتراء عن عمد وسابق علم هو أشد شناعة وأفظع جرما.
والذي افترى تلك الفرية إنما يروج لفكرة يراد الوصول إليها – وهي أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – ظل بعيدا عن صلة العرب بإبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – إلى أن هاجر إلى المدينة فبدت له فكرة هي أن يصل حبل العرب الذين هو منهم باليهود عن طريق إسماعيل وإبراهيم، مع أنه لا صلة للعرب بإبراهيم وإسماعيل حسب افترائهم.
وهذه الفكرة تهدم التوراة قبل أن تسئ إلى القرآن؛ لأن التوراة ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام – وأنه جد عدة قبائل في بلاد العرب، وحين عد المفترون السور المكية عمدوا إلى التي يذكر فيها إبراهيم مجردا عن الصلة بإسماعيل والعرب؛ لذلك تخطواسورة إبراهيم وهي مكية، وقد شهدت بعكس ما يقولون، وآياتها شاهدة بأن إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت، وأنهما كان يدعوان الله – سبحانه وتعالى – بالهداية وأن إبراهيم – عليه السلام ـكان يدعو الله – عز وجل – أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام – ويذكر أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام، ويدعو الله أن يرزقهم من الثمرات ويحمد الله – عز وجل – أن وهب له إسماعيل وإسحاق[4].
ولذا يقول القرآن على لسان إبراهيم عليه السلام: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (40) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)( (إبراهيم) [5].
أما زعمهم أن إبراهيم – عليه السلام – لم يذكر بأنه حنيف إلا في السور المدنية فهذا أيضا كذب مفترى، فقد ذكر بأنه كان حنيفا في سورة الأنعام مرتين، وفي سورة النحل كذلك وهما مكيتان:
أما سورة الأنعام فقد ورد قوله سبحانه وتعالى: )إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)( (الأنعام)، وقوله سبحانه وتعالى: )قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)( (الأنعام)[6].
وأما سورة النحل فقوله سبحانه وتعالى: )إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)( (النحل).
وبهذا يتبين فساد تلك الدعوى المضللة لبطلان أدلتها؛ بل يتضح مدى الحقد الذي يكنه[7] أصحاب تلك الدعوات على الإسلام والمسلمين، فيزيفون الحقائق ويكذبون على القرآن افتراء على الحق من أجل تشويهه: )يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32)( (التوبة).
ثالثا. لم يكن بمكة تجمعات يهودية:
لم يذكر التاريخ أن مكة كان بها يهود، ولقد ذكرت كل مصادر السير أحداث الدعوة المحمدية في مكة وأتت عليها تفصيلا لكل الجزئيات وتحليلا لكل المواقف ولم نجد من بين تلك الأحداث شيئا يتعلق باليهود؛ إذ لم يكن لهم ذكر بمكة يترتب عليه حدث تاريخي أو أثر في الأحكام، بل إن المشركين في مكة لما عجزوا عن تكذيب النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وأرادوا أن يستعينوا في حربهم ضده بأهل الكتاب ربما يجدون عندهم شيئا يطعنون به في نبوته ورسالته لعلمهم بالكتاب الأول بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة – يثرب – يسألونهم رأيهم في دعوته – صلى الله عليه وسلم – وهم يطمعون أن يجد لهم الأحبار ما لم يهتدوا إليه مما يواجهون به تكذيبهم إياه، قالوا: فإن اليهود أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء – أي صفاتهم وعلاماتهم – علم ليس عندنا، فقدم النضر وعقبة ووصفا لليهود دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأخبراهم ببعض قوله، فقال لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث؟ فإن أخبركم بهن فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقول[8]، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وسلوه عن الروح ما هي، فرجع النضر وعقبة فأخبرا قريشا بما قاله أحبار اليهود[9].
فأنزل الله سورة الكهف وشطرا من سورة الإسراء على رسوله – صلى الله عليه وسلم – فيهما إجابة على أسئلة المشركين وإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من هذه القصة أنه لو كان بمكة يهود لما احتاج المشركون أن يسافروا إلى المدينة ليسألوهم عما سألوهم عنه، فكيف يفتري هؤلاء المغرضون ويقولون: إن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم “أراد أن يعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء – فلم يكن له بد من أن يلتمس غيرهم ناصرا – هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم – عليه السلام – وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم – عليه السلام – تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام – ولما أخذت مكة تشغل جل تفكير الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصبح إبراهيم – عليه السلام – أيضا المشيد لبيت هذه المدينة المقدس”[10].
هذه هي عبارة بعض الذين نصبوا أنفسهم لحرب الإسلام وإلصاق النقص به والعيب على القرآن وستر محاسنه ليظهروه في صورة لا تكاد تختلف عن كتبهم المحرفة فهم كما قال سبحانه وتعالى: )ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء( (النساء: 89) [11].
إن العبارة السابقة تشير إلى ما تكنه نفوسهم من حقد على الإسلام والمسلمين، هذا الحقد الذي جعل صاحبه غير متزن الفكر بعيدا عن الالتزام بمعطيات المنهج العلمي من النزاهة والدقة والبحث من أجل إبراز الحقائق لا من أجل طمسها[12] إشباعا لأهواء النفس الجامحة؛ فيدعي كذبا أن القرآن المكي لم يذكر صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام – وقصة بناء البيت وذلك مذكور فيه ولكن تجاوزه عمدا كان لغرض التدليل على أحكام مسبقة اعتقدها هؤلاء، وليست ناتجة عن بحث علمي نزيه.
وأكثر من ذلك – اضطرابا في الفكر وتزويرا للتاريخ – أن يكذب عليه ويدعي أحداثا لم يسجلها مثل ادعائه أن اليهود كان لهم كيان[13]بمكة وأراد محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يعتمد على هذا الكيان وذلك على عكس حقائق التاريخ التي لم يرد فيها أي أثر للتجمعات اليهودية بمكة.
والأغرب من ذلك أن يدعي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فشل في أن يجذب اليهود إليه في مكة واتخذوا ضده خطة عداء راح يستميلهم في المدينة عندما ذكر إبراهيم – عليه السلام – وصلته بالعرب وقصة بناء البيت. هذه أفكار مشوهة ونتائج مضطربة لا يمكن أن ينسجم بعضها مع بعض ولا يمكن أن يقبلها العقل السليم أو تسير مع قواعد المنطق؛ إذ كيف يعقل أن يلتمس النبي – صلى الله عليه وسلم – التقرب إلى اليهود بالمدينة بعدما ناصبوه العداء بمكة – حسب زعمهم – بل إن الذي يفهمه العقل الرشيد والذي تبرزه نتائج المنطق السديد أن من يناصبني العداء فلا بد من أن أعاديه لاأن ألتمس التقرب إليه.
نعم لم يكن بمكة يهود – كما أسلفنا – ولكن كان بالمدينة طوائف منهم، ولما ذهب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة وعلموا أنه نبي آخر الزمان الموصوف عندهم في كتبهم وكانوا يستفتحون[14] به من قبل على العرب ويبشرون بقرب بعثته، كان المنتظر منهم أن يؤمنوا به ويصدقوه وخاصة أنهم كانوا أهل توحيد ويجانبون عبادة الأصنام ويعادون أهلها، فلما جحدوا وكفروا عن علم، استكبارا أو حسدا، صاروا كغيرهم لا فضل لهم على بقية الناس ولا ميزة؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، لذلك ما أمل النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعتز بهم يوما، ومع ذلك لم يظلمهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بل عقد معهم وثيقة المدينة وكانت معاهدة عادلة بين المسلمين واليهود فلما خانوا ونكثوا العهد وناصبوه العداء لم يكن بد من حربهم والقضاء عليهم.
وإننا لنتساءل كيف يلتمس النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – التقرب من اليهود في المدينة والقرآن المدني يقول: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا( (المائدة: 82)، وكيف يكون الانتساب إلى إبراهيم – عليه السلام – تقربا إلى اليهود، وإبراهيم – عليه السلام – ما كان يهوديا ولا نصرانيا؟!
رابعا. إبراهيم – عليه السلام – ما كان يهوديا ولا نصرانيا، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين:
إبراهيم – عليه السلام – لم يكن يهوديا كما يدعي أصحاب هذه الشبهة؛ لأن اليهودية ديانة موسى وهو من نسل إسحاق بن إبراهيم، ولم تأت التوراة إلا من بعده، فكيف تنسب إلى إبراهيم؟! وهل يعقل أن ينسب الأصل إلى الفرع أم العكس؟! قال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66)( (آل عمران).
واليهودية، والنصرانية [15] – لم تتفقا مع الإسلام في الأصول والعقيدة – فضلا عن الفروع – فكيف يذكر أن رسول الله يستميل اليهود، ولو حاول الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يفعل ذلك لكان أولى الناس بذلك أهله وعشيرته وقومه من مشركي مكة، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رفض كل صور الاستمالة التي عرضت عليه من قبل قومه ومن قبل غيرهم.
وإبراهيم – عليه السلام – لم يكن أبا العرب بل هو جدهم ويشترك معهم في ذلك بنو إسرائيل، وجاء وصفه في القرآن بأنه أبو المسلمين في قوله سبحانه وتعالى: )وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78)( (الحج)، والأبوة في الآية ليست أبوة نسب فقط بل يضاف إليها أبوة انتماء كالأخوة في الإسلام، أما إسماعيل – عليه السلام – فهو أبو العرب العدنانيين.
ولم يلفق النبي – صلى الله عليه وسلم – قصة بناء الكعبة وينسبها إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، بل هي حادثة ثابتة تاريخيا بالتواتر عن العرب وغيرهم من الأمم.
يقول الشيخ الغزالي عن هؤلاء المشككين من المستشرقين: وقد استبد بهم الحماس[16] في هذا الوهم حتى أفقدهم كل اتزان علمي، فالمستشرق مرجيلوث يري أن الآيات القرآنية التي تحكي مجيء إبراهيم – عليه السلام – إلى مكة واستيطان ذريته بجوار البيت بعدما بناه هو وابنه إسماعيل آيات مفتعلة دعت إلى افتعالها رغبة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تألف اليهود وإثبات صلة قرابة بينهم وبين العرب؛ لذلك جاء في سورة البقرة وهي مدنية: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127)( (البقرة) والمستشرق الذي يوجه هذا الاتهام إلى القرآن ينسى في غمرة حماسه أمرين:
الأول: أن الحديث عن إبراهيم – عليه السلام – وزيارة مكة واتصاله بالعرب لم يبدأ في المدينة تأليفا لقلوب اليهود، وإنما بدأ في مكة حيث لا يهود فيها، وفي القرآن سورة اسمها “إبراهيم” جاء فيها قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35)( (إبراهيم).
الثاني: أن العهد القديم الذي يرى هذا المستشرق أنه مقدس أثبت قدوم إبراهيم – عليه السلام – وابنه إلى بلاد العرب، فكيف يقول مستشرق متزن الفكر أن آيات سورة البقرة غير صحيحة، وأنها قيلت استرضاء لليهود، وأنها تخالف القرآن المكي[17]؟
وتأسيسـا على ما سبق؛ فإن ادعاء اليهود أن إبراهيم – عليه السلام – كان يهوديا أو أنهم على شريعة إبراهيم – عليه السلام – وملته، ومثله ادعاء النصارى ومشركي مكة أنهم على شريعة إبراهيم – عليه السلام – وملته ادعاء باطل ينقضه التاريخ والواقع والعقل، بل ينقضه جهلهم بالحنيفية السمحاء فإنهم لا قبل لهم بالمعرفة بدين إبراهيم – عليه السلام – ومن أين يعلمونه ولا مستند لهم في علمهم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل؟ وقد نزلا من بعد إبراهيم – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66)( (آل عمران).
وقوله: )والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66)( (آل عمران) يدل على أن الله أخبر في القرآن بأنه أرسل محمدا – صلى الله عليه وسلم – بالإسلام دين إبراهيم – عليه السلام – وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل، فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة، فنهضت الحجة عليكم[18].
ويذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور في قوله تعالى: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران) نتيجة للاستدلال إذ قد تحصحص من الحجة الماضية أن اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، إذ لم يؤثر ذلك عن موسى وعيسى – عليهما السلام – لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أن إبراهيم – عليه السلام – لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية، إذ لم يؤثر ذلك عن موسى ولا عيسى – عليهما السلام -، فهذا سنده خلو كتبهم عن ادعاء ذلك، وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحينفية مع خلوها من فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تكمن منه.
ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: )لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)( (البقرة) عن عكرمة قال: لما نزلت الآية قال أهل الملل: قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون، فقال الله له: فحجهم يا محمد وأنزل الله: )ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا( (آل عمران: 97) فحج المسلمون وقعد الكفار ثم تمم الله ذلك بقوله: )وما كان من المشركين (67)((آل عمران) فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث.
وقوله: )ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران) أما الاستدراك بعد نفي الضد حصرا لحال إبراهيم – عليه السلام – فيما يوافق أصول الإسلام؛ لذلك بين “حنيفا “بقوله: )مسلما(؛ لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أن الإسلام هو الحنيفية، وقال: فنفي عن إبراهيم – عليه السلام – موافقة اليهودية، وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين وأنه كان مسلما فثبتت موافقته الإسلام[19].
وبذلك يتبين أن الانتساب إلى إبراهيم – عليه السلام – لم يكن تقربا من اليهود؛ لأن إبراهيم – عليه السلام – لم يكن يهوديا كما ادعى هؤلاء المغرضون بقولهم “يهودية إبراهيم “، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
خامسا. العرب لم يرسل إليهم رسول منذ أن تحققت قوميتهم:
أما استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( (السجدة: 3) وغيرها من الآيات – على إنكار صلة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – بالعرب؛ فباطل إذ لو كانا رسولين إلى العرب لتناقض ذلك مع هذه الآية التي تخبر بأن العرب لم يأتهم نذير من قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – حسب توهمهم.
والحقيقة أن هذه الآية ونظائرها مثل قوله تعالى في سورة يس: )لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6)( (يس) واضحة في أن هؤلاء العرب المعاصرين لرسالة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – وآباءهم إلى جدهم الأعلى لم يأتهم نذير، أما رسالة إسماعيل – عليه السلام – فكانت خاصة في أهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى من بعده فتوقفت رسالته بموته، وكذلك أسلاف هؤلاء العرب مثل قوم هود وصالح الذين أتتهم الرسل، فقد كان ذلك قبل أن تتحقق قومية خاصة بهم، وبذلك يسقط استدلالهم بهذه الآية على نفي رسالة إسماعيل وإبراهيم – عليهما السلام – وصلتهما بالعرب، بل الدليل قائم على رسالة إبراهيم وإسماعيل وبنائهما البيت في القرآن والتوراة، فمعنى الآية: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( منذ أن تحققت قوميتهم بعد انقضاء رسالتي إسماعيل وإبراهيم – عليهما السلام -.
يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير آية سورة يس: )لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6)( (يس): والقوم الموصوفون بأنهم لم تنذر آباؤهم: إما العرب العدنانيون [20] فإنهم مضت قرون لم يأتهم فيها نذير، ومضى آباؤهم لم يسمعوا نذيرا، وإنما يبتدأ عد آبائهم من جدهم الأعلى في عمود نسبهم الذي تميزوا به جذما وهو عدنان، لأنه جد العرب المستعربة، أو أريد أهل مكة، وإنما باشر النبي – صلى الله عليه وسلم – في ابتداء بعثته دعوة أهل مكة وما حولها فكانوا هم الذين أراد الله أن يتلقوا الدين وأن تتأصل منهم جامعة الإسلام.
ثم كانوا هم حملة الشريعة وأعوان الرسول – صلى الله عليه وسلم – في تبليغ دعوته وتأييده فانضم إليهم أهل يثرب وهم قحطانيون فكانوا أنصارا ثم تتابع إيمان قبائل العرب[21].
ثم يوضح الشيخ ابن عاشور هذه المسألة ويفصلها ويبين المراد منها أو الغرض الذي سيقت له، وذلك عندما يفسر قوله تعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)( (السجدة) إذ يقول: ووصف القوم بأنهم: )ما أتاهم من نذير( قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – والنبي حينئذ يدعو أهل مكة ومن حولها إلى الإسلام وربما كانت الدعوة شملت أهل يثرب وكلهم من العرب، فظهر أن المراد بالقوم العرب الذين لم يأتهم رسول قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – فإما أن يكون المراد قريشا خاصة، أو عرب الحجاز أهل مكة والمدينة وقبائل الحجاز، وعرب الحجاز جذمان عدنانيون وقحطانيون؛ فأما العدنانيون فهم أبناء عدنان وهم من ذرية إسماعيل – عليه السلام – وإنما تقومت قوميتهم في أبناء عدنان: وهم مضر، وربيعة، وأنمار، وأياد، وهؤلاء لم يأتهم رسول منذ تقومت قوميتهم.
وأما جدهم إسماعيل بن إبراهيم – عليهما السلام – فإنه وإن كان رسولا نبيا كما وصفه الله – سبحانه وتعالى – في سورة مريم، فإنما كانت رسالته خاصة بأهله وأصهاره من جرهم ولم يكن مرسلا إلى الذين وجدوا بعده؛ لأن رسالته لم تكن دائمة ولا منتشرة، قال سبحانه وتعالى: )وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة( (مريم: 55).
وأما القحطانيون[22] القاطنون[23] بالحجاز مثل الأوس والخزرج وطيء، فإنهم قد تغيرت فرقهم ومواطنهم بعد سيل العرم وانقسموا أقواما جددا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن، وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافهم مثل هود وصالح وتبع، فذلك كان قبل تقوم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرب كلهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلهم لا يعدون أن يرجعوا إلى ذينك الجذمين[24]، وقد كان انقسامهم أقواما ومواطن بعد سيل العرم، ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانيين من أهل الحجاز، وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صفوان صاحب أهل الرس، وخالد بن سنان صاحب بني عبس فلم يثبت أنهما رسولان واختلف في نبوتهما، وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي عجوز وأنه قال لها: «مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه»، وليس لذلك سند صحيح، وذكره الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (8/221) وقال: لا يصح هذا، ويرد عليه الحديث الصحيح:«أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبي»[25].
وأيا ما كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف)ما أتاهم من نذير( من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير، إذ لم يكونوا على بقية من هدى وإثارة هممهم، لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنزل إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتباعه فيكون للمؤمنين منه السبق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق[26].
وهناك رأي آخر في توجيه هذه المسألة وهو أن قوله تعالى: )ما أتاهم من نذير من قبلك( أي ما أرسلنا نذيرا أو رسولا شرع لهم هذه الشرائع الشركية التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة أخرى؛ يقول عبد الوهاب النجار: كان دين كثير من العرب عبادة الأوثان، وكان لهم قرابين يقدمونها إليها وقد سيبوا السوائب[27] وبحروا البحائر [28]ووصلوا الوصيلة[29] وسنوا لهم قواعد ما أنزل الله بها من سلطان؛ فجاء محمد – صلى الله عليه وسلم – لينذر هؤلاء القوم الذين يدعون أنهم على دين وأن الله قد أمرهم بما هم عليه مع أن الله ما أرسل إليهم نذيرا شرع لهم هذه الشرائع الباطلة؛ لأنهم كانوا إذا ظلموا أنفسهم بشرائعهم الباطلة، قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها – وقد ناقشهم الله في ذلك ورد عليهم في غير موضع من القرآن كقوله: )إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)( (الأعراف).
وفي سورة الصافات بعد أن ذكر دعاوى الوثنيين [30] بقوله: )فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) ما لكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155)( (الصافات) ففي هذه الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والتضعيف لعقولهم واتهامهم مع الاستهزاء بهم، وفي قوله: )فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157)( (الصافات) أي الناطق بصحة دعواكم والأمر فيه للتعجيز وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي قوله: )أم لكم سلطان مبين (156)( (الصافات) إضراب انتقالي من توبيخهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا، أي: بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة، فإن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي وهو لا يوجد عندهم.
فالمعنى في هذه الآيات مثله في قوله تعالى: )قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين (4)( (الأحقاف: 4) تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فهو من جملة القول؛ أي: ائتوني بكتاب إلهي كان من قبل هذا الكتاب – أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك – دال على صحة دينكم، أو أثارة من علم – أي: بقية علم بقيت عندكم من علوم الأولين – شاهدة باستحقاقهم العبادة؟! وهكذا كل آية وردت في هذا المعنى[31].
وبهذا يتبين بطلان الاستدلال بقوله تعالى: )ما أتاهم من نذير من قبلك( على قطع الصلة بين العرب وأبيهم إسماعيل وجدهم إبراهيم – عليهما السلام – لأنه لا ينفي رسالتهما بل معناه: ما أتاهم من نذير من قبلك بعد أن تحققت قوميتهم من بعد انقضاء رسالة إسماعيل – عليه السلام – الخاصة بأهله وأصهاره، أو ما أتاهم من نذير أي رسول شرع لهم تلك الشرائع الباطلة قبلك يا محمد بل اخترعوها من أنفسهم وبوحي من شياطينهم.
الخلاصة:
الادعاء أن قصة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وصلتهما بالعرب وبناء البيت لم تذكر إلا في القرآن المدني تقربا لليهود واستمالة لهم بعد فشل الاعتماد عليهم في مكة والاستناد إلى قوله سبحانه وتعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( في قطع صلة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – بالعرب وأنهما لم يرسلا إليهم…. هذا الادعاء باطل ومردود من وجوه:
أن هذه القصة واردة في القرآن المكي بسورة إبراهيم المكية في الآيات من (35 إلى 41) فكيف يفترى كذبا خلو القرآن المكي من ذلك؟!
قطع صلة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – بالعرب يكذبه التاريخ وسلسلة نسب العرب المحفوظة في التاريخ أيضا، وهذا القطع فكرة شيطانية تهدم التوراة قبل أن تسييء إلى القرآن؛ لأن التوراة ذكرت صلة إبراهيم بإسماعيل – عليهما السلام -، وأن إبراهيم هو جد قبائل عربية عدة.
لم يكن بمكة يهود حتى يحاول النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعتمد عليهم، وهل يعقل أن يحاول النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يتقرب إلى اليهود في المدينة بعدما خذلوه واتخذوا حياله خطة عداء بمكة حسبما يزعمون.
كيف يحاول النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يتقرب إلى اليهود بالمدينة والقرآن المدني يحذره خطرهم وغدرهم وخيانتهم؟ بل جاء في سورة المائدة المدنية: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا( (المائدة: 82).
ما كان إبراهيم – عليه السلام – يهوديا ولا نصرانيا حتى يتمسحوا به أو يكون الحديث عنه والانتساب إليه تقربا إليهم، بل كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين والأدلة على ذلك كثيرة منها:
o أن كتبهم لم تذكر أن إبراهيم – عليه السلام – كان يهوديا أو نصرانيا ولم تأمرهم باتباع ملته.
o أنهم لا يمارسون كثيرا من شعائره كالحج، ولا توجد في كتبهم مثل هذه الشعائر فكيف يدعون موافقته؟!
أن اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم – عليه السلام – فالتوارة أنزلت على موسى – عليه السلام – وهو من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم – عليهم السلام -، فكيف ينسب إبراهيم – عليه السلام – إليها وهل يعقل أن ينسب الأصل إلى الفرع؟!
أن القرآن الكريم ذكر أن إبراهيم – عليه السلام – كان حنيفا مسلما بل هو أول المسلمين وأمر المسلمين باتباع ملته وقرر عليهم معظم شرائعه، ومنها الحج.
قوله تعالى: )لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك( لا ينفي رسالة إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وبالتالي نفي علاقتهما بالعرب كما يدعي هؤلاء وإنما معناه: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك بعد أن تحققت قوميتهم وذلك بعد انقضاء رسالة إسماعيل الخاصة بأهله وأصهاره.
أو معناه لتنذر قوما ما أتاهم من نذير أي رسول قبلك شرع لهم تلك الشرائع الشركية وإنما اخترعوها من تلقاء أنفسهم وبوحي من شياطينهم.
(*) موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق بحث من المستشرقين، ترجمة نخبة من الأساتذة، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، 1418هـ/ 1998م. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2002م.
[1]. جرهم: اسم القبيلة التي تزوج منها سيدنا إسماعيل عليه السلام.
[2]. حفيا: بليغا بي في البر واللطف.
[3]. ترسيخ: تثبيت.
[4]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص98.
[5]. اجنبني: ابعدني عن, واحفظني من.
[6]. قيما: مستقيما.
[7]. يكن: يخفي.
[8]. المتقول: الذي يفتري ويختلق القول كذبا.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج15، ص242، 243 بتصرف.
[10]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص97.
[11]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص97.
[12]. طمسها: إخفائها أو تشويهها.
[13]. الكيان: الوجود.
[14]. سيتفتحون: يستنصرون على الكفار بقولهم: إن نبيا يبعث فيهم.
انظر: قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م.
[16]. استبد بهم الحماس: غلبهم فلم يقدروا على ضبطه.
[17]. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2002م، ص30.
[18]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص271 وما بعدها.
[19]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص274، 275 بتصرف.
[20]. العدنانيون: هم العرب المنحدرة من صلب إسماعيل ـ عليه السلام ـ ويسمون بالعرب المستعربة، وهم عرب الشمال.
[21]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج22، ص348.
[22]. القحطانيون: هم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشحب ابن قحان، وتسمى “بالعرب العادية”، وهم عرب الجنوب، مهدها بلاد اليمن.
[23]. القاطنون: الساكنون.
[24]. ذينك الجذمين: هذين الفرعين لعدنان.
[25]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6280).
[26]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج10، ج21، ص209، 210 بتصرف.
[27]. سيبوا السوائب: تركوها دون ركون، لا يحلب لبنها إلا لضيف، وتركوها للأصنام، والسوائب: الناقة التي تنتج عشرة أبطن من الإناث.
[28]. بحروا البحائر: الناقة التي تلد خمسة أبطن آخرها ذكر كانوا يبحرون ـ يشقون ـ أذنها، ويخلون سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، ولا يحمل عليها شيء.
[29]. وصلوا الوصيلة: وهي الشاة التي إن ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكر وأنثى معا قالوا: وصلت الأنثى أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
[30]. الوثنيون: هم الذين يعبدون الأوثان؛ أي: التماثيل من خشب أو حجر أو نحاس أو فضة أو غير ذلك.
[31]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص99، 100.
ادعاء خطأ القرآن في ذكر قصة وفاة سليمان عليه السلام
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين خطأ القرآن في ذكر قصة وفاة سليمان – عليه السلام – ويتساءلون: كيف يموت سليمان الملك ولا يعلم أحد من رعيته – أو حتى نسائه – لمدة سنة، وهو قائم على عصاه دون صلاة أو طعام أو نوم؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) القرآن لم يحدد مدة مكث سليمان – عليه السلام – ميتا، بل هي نقول المفسرين عن أهل الكتاب.
2) صحة هذه الروايات أو عدم صحتها أمر لا علاقة للقرآن به، وجل هذه الروايات منقول عن أهل الكتاب والمشكوك في صحتها.
التفصيل:
أولا. القرآن لم يحدد مدة مكث سليمان ميتا، بل هي نقول المفسرين عن أهل الكتاب:
عرض القرآن الكريم قصة سليمان – عليه السلام – في أكثر من موضع، بيد أنه في عرضه للقصة لم يذكر تفاصيل قصة الوفاة، فقط أشار إلى أشياء فيها؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)( (سبأ). فلم يذكر في الآية القرآنية مدة مكث سليمان ميتا متكئا على عصاه، وكل ما ورد في هذا الشأن إنما هي نقول للمفسرين استندوا فيها إلى الإسرائيليات وأخبار أهل الكتاب، دون التثبت من صحتها.
والآية تكتفي بالحديث عن عدم علم الجن الغيب؛ بدليل أنهم مكثوا في العمل الشاق: )العذاب المهين( وهم لا يدرون أن سليمان – عليه السلام – قد مات لولا رؤيتهم دابة الأرض قد أكلت العصا، وتكتفي الآية بذلك دون تحديد تفاصيل عن المدة التي مكثها وهو ميت.
وقد استبعد الشيخ عبد الوهاب النجار هذه الأقوال، ورجح أن يكون سليمان – عليه السلام – قد مات ميتة معتادة وأن الجن قد وجدوا عصاه قد أكلتها الأرضة، فعرفوا من خلال ذلك أنه قد مات. وعليه فأنت تجد أن هذه الأقوال التي دفعت المشككين إلى الاعتراض على القرآن الكريم، ليست حجة على القرآن الكريم. فالمقصود والظاهر من الآية هو تكذيب دعوى الجن التي كانوا يدعونها للناس من أنهم يعلمون الغيب.
ويعلق الصابوني على الآية قائلا: “وهنا إشارة لطيفة، وهي أن الجن كانت توهم الناس بمعرفة الغيب، فلما مات سليمان ولم يعلموا بموته، وهم في أعمالهم الشاقة التي كلفهم بها سليمان؛ اتضح الأمر بكذب دعواهم”[1].
ثانيا. صحة هذه الروايات أو عدم صحتها أمر لا علاقة للقرآن به:
ذكرنا أن القرآن لم يتعرض للتفاصيل الواردة في قصة وفاة سليمان – عليه السلام – وإنما كان مقصود القرآن التنبيه على عدم معرفة الجن للغيب وكشف كذبهم وافتضاح أمرهم للناس، ولكن هل هذه الروايات تستساغ عقلا أو لا؟
يستبعد بعض المفسرين أن يمكث سليمان ميتا متكئا على عصاه سنة كاملة قائلا: إنه من غير المعقول أن يمكث مدة طويلة تمر فيها الأعياد ولا يقوم بالطقوس الدينية، كما أنه من غير المعقول أن يمكث هذه المدة الطويلة ولا يعلم أحد به، خاصة أنه كان ملكا، فعليه مسئولية إقامة العدل بين الناس، ومقابلة الوفود من الملوك، ومطالعة العرفاء والرؤساء في مشكلاتهم[2].
في حين يرى بعضهم أنه لا مانع من أن يموت سليمان – عليه السلام – ويظل متكئا على عصاه سنة كاملة على هيئة المصلي والجن تعمل بين يديه خوفا منه؛ لأن القرآن قال: )فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)( (سبأ: 14)، فلا بد أنهم مكثوا في العذاب مدة طويلة، ويرون أنه لا مانع من أن تمر الأعياد والطقوس الدينية وتأتي سليمان زوجته في العيد فتراه واقفا على عصاه بهيئة المصلي فترجع، ولم لا يجوز أن تكون عادة سليمان أن يتعبد وحده عبادة خاصة به، وفي حال قيامه بها لا يستطيع أحد من الإنس والجن أن يقرب من مكانه؟ وكذلك ما المانع أن يكون له عرفاء ورؤساء ينوبون عنه في مقابلة الوفود، وفي أداء هذه المهمات، وأن يكون هناك قضاة من قبله يفصلون في الخصومات كما هو الحاصل اليوم[3].
وبالنظر إلى وجهتي النظر يتضح لنا أن الوجه الأول هو المقبول، والذي يرجحه العقل والمنطق؛ إذ إنه يتطابق مع الهدف الأساسي من الآية، وهو تكذيب دعوى الجن التي كانوا يدعونها للناس من حيث إنهم يعلمون الغيب، وما حدث من موت سليمان – عليه السلام – بالكيفية التي وقع عليها حسبما أراد الله وعدم معرفتهم بذلك – خير دليل على كذب دعواهم.
الخلاصة:
القرآن الكريم لم يحدد مدة مكث سليمان – عليه السلام – ميتا، والروايات التي تحدد مدة موته – سواء قبلها البعض أم لم يقبلها – ليست حجة على القرآن الكريم.
ما ذهب إليه بعض المفسرين من كلام أهل الكتاب تحريف بين، لكن القرآن الكريم صريح في الإتيان بما يوافق العقل والمنطق.
(*) موقع الكلمة. Alkaleme
[1]. انظر: قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص399: 414. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص395، 396.
[2]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص411.
[3]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص401: 408. وانظر: موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ج1، ص1061 وما بعدها.
ادعاء خطأ القرآن في ذكر أسماء لا وجود لها؛ مثل: عزير
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المتوهمين وجود رجل يدعى “عزير”؛ لعدم وروده في الكتاب المقدس، ويدعون أن القرآن أخطأ في قوله سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود عزير ابن الله( (التوبة: 30).
وجها إبطال الشبهة:
1) إن كلمة “عزير” الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس بلفظ “عزرا” دون تصغير في سفر كامل، ومن ثم فلا وجه لوصم القرآن بالخطأ.
2) الأحداث التاريخية وشهادات المؤرخين يثبتان وجود “عزير” أو “عزرا”، واليهود يقدسونه ويطلقون عليه لقب “ابن الله”.
التفصيل:
أولا. كلمة “عزير” الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس بلفظ “عزرا” في سفر كامل:
إن الذي سماه القرآن الكريم “عزيرا” والذي قال في حقه اليهود: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)( (التوبة) هو الذي يسميه أهل الكتاب “عزرا”، وله سفر في العهد القديم باسمه، مكون من عشرة إصحاحات، والظاهر أن يهود العرب صغروه بالصيغة العربية للتحبيب، وصرفوه، واستخدم القرآن هذه الصيغة؛ والتصرف في أسماء الأعلام المنقولة من لغة إلى لغة أخرى معروف عند جميع الأمم[1].
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور: وعزير: اسم حبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية عزرا – بكسر العين المهملة – بن سرايا من سبط اللاويين، كان حافظا للتوراة وقد تفضل عليه كورش ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل.. فأعاد شريعة التوراة من حفظه، فكان اليهود يعظمونه إلى حد أن ادعى عامتهم أن عزرا ابن الله غلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم عامتهم، وأحسب أن الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى… كما قال متقدموهم: )اجعل لنا إلها كما لهم آلهة( (الأعراف: 138)[2].
ثانيا. الأحداث التاريخية وشهادات المؤرخين يثبتان وجود عزرا:
ذكر الشيخ سيد قطب أن الشيخ رشيد رضا قد أورد في الجزء العاشر من “تفسير المنار” أخبارا مفيدة عن مكانة عزرا عند اليهود، وعلق عليها كذلك تعليقا مفيدا ننقل منه هنا فقرات تفيدنا في بيان حقيقة ما عليه اليهود إجمالا. قال: جاء في “دائرة المعارف اليهودية” أن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذا ورده، وأنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة لو لم يكن جاء بها موسى فقد كانت نسيت، ولكن عزرا أعادها أو أحياها، ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات – المعجزات – كما رأوها في عهد موسى.. وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الآشورية – وكان يضع علامة على الكلمات التي يشك فيها – وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده.
وقال د. جورج بوست في “قاموس الكتاب المقدس”: عزرا – عون – كاهن يهودي وكاتب شهير سكن بابل مدة ارتحسثتا الطويل الباع؛ وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عددا وافرا من الشعب إلى أورشليم نحو سنة 457 ق. م، وكانت مدة السفر أربعة أشهر… وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعا يقابل بموضع موسى وإيليا؛ ويقولون: إنه أسس المجمع الكبير، وإنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة، وأنه ألف أسفار ” الأيام” و ” عزرا” و” نحميا”.
ويعلق الشيخ سيد قطب ذلك فيقول: إن المشهور عند مؤرخي الأمم – حتى أهل الكتاب منهم – أن التوراة التي كتبها موسى – عليه السلام – ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه، قد فقدت قبل عهد سليمان – عليه السلام – فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر[3]، كما تراه في سفر الملوك الأول، وأن عزرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها.
ويقول أهل الكتاب: إن عزرا كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله.. وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن، حتى من تآليفهم، كـ “ذخيرة الألباب” للكاثوليك، وقد عقد الفصلين الحادي عشر والثاني عشر لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى. ومنها قوله: جاء في سفر عزرا – 4ف 14 عدد 21 – أن جميع الأسفار المقدسة حرقت بالنار في عهد نبوخذ نصر، حيث قال: “إن النار أبطلت شريعتك فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت!”[4] ويزيد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون، هم القديس ثرثوليانوس، والقديس إيريناوس، والقديس إبرونيموس، والقديس يوحنا الذهبي، والقديس باسيليوس، وغيرهم يدعون عزرا: مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود.
نكتفي بهذا البيان هنا، ولنا فيه غرضان:
أحدهما: أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم.
وثانيهما: أن هذا المستند واهي البنيان متداعي الأركان. وهذا هو الذي حققه علماء أوربا.
فقد جاء في ترجمة عزرا من “دائرة المعارف البريطانية” بعد ذكر ما في سفره، وسفر نحميا من كتابته للشريعة: أنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت قد أتلفت، وأعاد سبعين سفرا غير قانونية، ثم قال كاتب الترجمة فيها: وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلاقا.
وجملة القول: أن اليهود كانوا – وما يزالون – يقدسون عزيرا هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب “ابن الله”، ولا ندري أكان إطلاقه عليه بمعنى التكريم الذي أطلق على إسرائيل وداود وغيرهما، أم بمعنى قريب من فلسفة وثنيي الهند التي هي أصل عقيدة النصارى؟! وقد اتفق المفسرون على أن إسناد هذا القول إليهم يراد به بعضهم لا كلهم[5] [6].
الخلاصة:
ليس هناك خطأ في القرآن كما يدعي بعض المغرضين؛ فالذي سماه القرآن الكريم “عزيرا”، هو الذي يسميه أهل الكتاب “عزرا”، وهذا أمر طبيعي؛ لاختلاف اللغات واللهجات.
أسفار التوراة وما نسب إلى عزرا تثبت وجود هذا الرجل، وكذلك تثبت الشهادات التاريخية من قبل المؤرخين اليهود والنصارى وجوده.
إن بعض اليهود ما زالوا يقدسون عزيرا ويطلقون عليه لقب “ابن الله”، فلماذا ينكرون هذه التسمية إذن، ولا سيما أن له في كتابهم المقدس سفرا باسمه؟!
(*) قناة الحياة الفضائية، زكريا بطرس، برنامج “أسئلة الإيمان”، الحلقة 82.
[1]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج10، ص283.
[2]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص168.
[3]. جاء في القرآن الكريم عن هذه الواقعة: ) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التـابـوت فيـه سكينـة مـن ربكـم وبقيـة ممـا تـرك آل موسـى وآل هـارون تحملـه الملائكة ( (البقرة: 248).
[4]. ونحن نقول: إن قول القرآن أصدق، وقد قرر أنه كان هناك بقية.
[5]. ونحن نرى أنه لا مجال لهذا التردد، فإن النص القرآني يلهم أن قول اليهود: “عزير ابن الله” هو كقول النصارى: “المسيح ابن الله”، كلاهما مقصود به ما يضاهي قول الذين كفروا من قبل! فهو من إسناد البنوة التي تخرج قائلها من دين الحق، وتلحقه بالكافرين والمشركين.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج3، ص1636، 1637 بتصرف.
ادعاء خطأ القرآن في ذكر قصة هود عليه السلام، التي لا وجود لها في التوراة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن يخالف التاريخ في إيراده قصة هود عليه السلام، ويستدلون على ذلك بالآيات (50 – 59) من سورة هود[1]، وبما ذكره أحد المفسرين من أن قبيلة عاد عاقبها الله تعالى بإهلاكهم بالريح العقيم[2] بعد إمساك المطر عنهم ثلاث سنوات. ويتساءلون: من أين أتى القرآن بهذه القصة التي لا وجود لها في التوراة؟! ألا يعد هذا مخالفا لوقائع التاريخ وحقائق التوراة؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) التوراة ليست مرجعا معتمدا لمعرفة التاريخ حتى نحاكم بها القرآن ونتخذها معيارا للحكم على القرآن.
2) كشفت البحوث الحديثة عن وجود قوم عاد، وعن ديارهم، وهذا دليل على أن القرآن الكريم لا يخالف حقائق التاريخ.
التفصيل:
أولا. التوراة ليست حجة، ولا معيارا للحق:
القرآن الكريم جاء بما لم تأت به التوراة والكتب السابقة؛ ليثبت للعقلاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يتلق القرآن من أحد من البشر، كما أن القرآن الكريم ذكر الكثير والكثير من قصص السابقين التي تؤكد أن ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الحق والصدق قال سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم). وهذه القصة لم ترد في التوراة؛ لأن القرآن لم يتابع التوراة – المحرفة بأيدهم – في قصصه وأخباره، بل إنه صحح أخطاءها وأكمل ناقصها، ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – ناقلا من التوراة لأخذ كل ما فيها دون تمييز بين حق وباطل، ولو حاول التخلص من باطلها مرة لوقع فيه مرات، فالقرآن كتاب مستقل بذاته، كما أنه مهيمن[3] على الكتب السماوية كلها، وكذلك فإن التوراة لم تجمع وتستوعب التاريخ كله، حتى نجعلها حكما على ما ذكره القرآن من قصص التاريخ.
كما أن التاريخ نفسه ليس حجة على القرآن الكريم؛ إذ هو من صنع البشر الذين لا يتخلصون من العاطفة في أحسن الأحوال عندما يدونون التاريخ فضلا عن النزوات والأغراض والأهواء التي تسيطر على كتاب التاريخ وهم يسجلون وقائعه، أضف إلى ذلك عدم إحاطتهم بكل جوانب الأحداث ومختلف الظواهر التي يرصدونها فإنهم لا يرصدون إلا ما يتراءى لهم، وأعظم من ذلك كله أن أيدي البشر لا تنفك عن العبث في أحداث التاريخ ووقائعه وتغييره بما يوافق مصالحهم وأغراضهم حتى في التاريخ المعاصر والحديث، وكم من أحداث تزيف حقائقها وكم من وقائع تغير معالمها. وإذا كان البشر قد امتدت أيديهم إلى الكتب المقدسة فحرفوها فهل سيتورعون[4] عن العبث بحقائق التاريخ الذي لا قداسة له وهذا لا يعني أن كل أحداث التاريخ أو التوراة مزيفة غير أن هذا يؤكد أن القرآن الكريم هو الحق، وما عداه يؤخذ منه ويرد، وكم من آثار وأحداث ماضية ذكرها القرآن الكريم؛ ليبين بها صدق النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما جاء به؛ لأن القصص القرآني ليس تأريخا للبشرية على النمط الذي يسلكه علماء التاريخ والسير في تتابع الأحداث وتسلسلها، وتحليلها وتعليلها في أزمانها وأماكنها المختلفة، ولكنه قصص مختار من التاريخ بالقدر الذي يخدم الدعوة إلى الله عزوجل، ويفتح للناس أبوابا واسعة للتأمل والنظر، والعظة والاعتبار. قال سبحانه وتعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت).
ثانيا. البحوث الحديثة كشفت عن وجود قوم عاد عليه السلام:
كشفت البحوث الحديثة اليوم عن وجود قوم عادعليه السلام، وعن ديارهم التي وصفها الله – عزوجل – بقوله: )إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8)( (الفجر) [5]، ويقول د. زغلول النجار: كان علماء التاريخ يشككون في حقيقة قوم عاد؛ لأنهم لم يجدوا لها أثرا على الإطلاق وفي رحلة من رحلات الفضاء زودوا المكوك بجهاز رادار له قدرة اختراق كبيرة، فصور مجرى نهرين، وأنهما يصبان في بحيرة قطرها يزيد على أربعين كيلو مترا في جنوب شرق الربع الخالي، وصور المكوك بين مصبي النهرين وعلى ضفاف البحيرة عمرانا لا تعرف البشرية له نظيرا في ضخامته، فجمعوا علماء التاريخ، وعلماء الآثار، وعلماء الأديان، وقالوا: ماذا يمكن أن يكون هذا العمران، فأجمعوا على أنه قصور إرم التي وصفها القرآن الكريم، يقول الحق تبارك وتعالى: )إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8)( (الفجر) فقالوا في تقريرهم:
إن البشرية لم تعرف في تاريخها الطويل عمرانا في ضخامة هذا العمران، واكتشفوا – حينما بدأوا في إزالة الرمال عن هذه المدينة – قلعة ثمانية الأضلاع على أسوار المدينة، مقامة على أعمدة ضخمة عديدة، وذكر التقرير أن هذه الحضارة التي لم يكن ينافسها في زمانها حضارة أخرى طمرتها([6]) عاصفة رملية غير عادية، وقد سبق القرآن هذه الاكتشافات بأكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، فقال سبحانه وتعالى: )وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41)( (الذاريات). )فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15)( (فصلت).
)كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18)( (القمر)، فما ذكرته الأبحاث ما هو إلا تحصيل حاصل في تصديق كتاب الله – عز وجل – في كل ما جاء به، وكذلك فإنه أسطع برهان لهؤلاء المنكرين حتي يرجعوا عن أفكارهم وكذبهم، وسيبقى القرآن كتاب الله المعجز في الكون، وصدق الله العظيم حيث يقول: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت).
الخلاصة:
إن القرآن الكريم كلام الله المعجز، ومن إعجازه أنه يتحدث عن الأخبار السالفة ويبينها للناس، فهو منهج تربوي حكيم ليس له نظير؛ فلا يستطيع أحد أن يشكك في شيء مما جاء به؛ لأن الله تبارك وتعالى تولى حفظه، قال سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).
أما التوراة فقد حرفها أصحابها، حتى توافق أهواءهم وشهواتهم، ثم بعد ذلك يريدون أن يجعلوها حكما على ما جاء في القرآن الكريم.
أثبتت الدراسات الحديثة ما جاء به القرآن؛ حيث أثبتت البحوث الحديثة وجود قوم عاد، وظهرت ديارهم لتصدق القرآن فظهر الحق جليا، وبطل ما يدعون قال سبحانه وتعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت).
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الآيات هي قوله تعالى: ) وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (56) فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ (57) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ (58) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) ( (هود).
[2]. الريح العقيم: التي لا تسوم سحابا ولا تلقح شجرا.
[3]. المهيمن: القائم عليها والشاهد على ما أحدث بها من تحريف.
[4]. سيتورعون: سيتحرجون.
[5]. إرم: لقب القبيلة. العماد: صاحبة القوة.
[6]. طمر: ستر.
ادعاء خطأ القرآن في اتهام يوسف – عليه السلام – بالهم بالفاحشة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين اضطراب القرآن الكريم في ذكر قصة يوسف – عليه السلام – فتارة يثبت الهم [1] بالفاحشة ليوسف – عليه السلام – كما في قوله: )ولقد همت به وهم بها( (يوسف: 24)، وتارة يقر بعصمته وخوفه من الله باعتراف امرأة العزيز وصويحباتها كما في قوله: )قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف). [2] ويعتبرون أن إثبات القرآن الكريم الهم بالفاحشة ليوسف – عليه السلام – متناقض مع ما جاء في الكتاب المقدس من تبرئته ليوسف – عليه السلام – إذ إن امرأة العزيز لما طلبت إليه الشر استنكر طلبها وقال: “كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها. ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت. فأمسكته بثوبه قائلة: “اضطجع معي!”. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج”. (التكوين 39: 9 – 12).
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن أخلاق يوسف – عليه السلام – وعصمته باعتباره نبيا، تتنافى مع الهم بالخيانة، أو التفكير فيها، كما أن سياق الآيات التي ورد فيها قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها( يؤكد استحالة وقوع يوسف – عليه السلام – في هذه المعصية.
2) للهم معان عديدة في اللغة منها: خطور الشيء بالبال، وميل الطبع، والعزم على الفعل، وهذه المعاني العديدة للهم هي التي أدت إلى الفهم الخاطيء لقوله: )وهم بها( في منظور هؤلاء المدعين.
3) لقد شهد ببراءة يوسف – عليه السلام – كل من له صلة بقصة يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز من: زوج وشاهد ونسوة المدينة؛ حتى امرأة العزيز نفسها، ومن قبل هؤلاء جميعا المولى وكفى بالله شهيدا.
4) لا اضطراب في آيات القرآن الكريم، فلقد استعصم يوسف – عليه السلام – بالله من البداية إلى النهاية، وقد أنجاه الله من المعصية، أما ما جاء في الكتاب المقدس فهو يدين يوسف – عليه السلام – ولا يبرئه.
التفصيل:
أولا. سياق الآيات التي جاء فيها قوله سبحانه وتعالى: )وهم بها( يؤكد استحالة وقوع يوسف – عليه السلام – في المعصية:
في البداية نود أن نشير إلى أن أخلاق يوسف – عليه السلام – وعصمته باعتباره نبيا تتنافى تماما مع الهم بالخيانة، أو مجرد التفكير فيها، ويؤكد هذا ثناء الله – عز وجل – على يوسف – عليه السلام – في كثير من آيات القرآن الكريم، وكذلك ثناء نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن ثناء الله – عز وجل – على يوسف – عليه السلام – قوله سبحانه وتعالى: )وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل( (يوسف: 6)، وقوله سبحانه وتعالى: )ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22)( (يوسف)، وقوله سبحانه وتعالى: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، وغير ذلك من الآيات التي تحدثت عن يوسف – عليه السلام – وعن كريم خلقه وحميد خصاله، هذا المدح من الله تعالى لنبيه لا يكون إلا عن استحقاق له، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يمدح إنسانا عاصيا بأعظم المدائح[3].
وكذلك أثنى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أخلاق يوسف – عليه السلام – وذلك في قوله: «عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه، والله يغفر له، حيث أرسل ليستفتي في الرؤيا، ولو كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، وعجبت لصبره وكرمه والله يغفر له، أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولولا الكلمة لما لبث في السجن»[4]. وسئل النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أكرم الناس، فقال في إحدى إجاباته: «يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله»[5].
كما أن التهمة التي وجهت إلى يوسف – عليه السلام – وهي اتهامه بالتحرش والهم بالوقوع بامرأة العزيز، كبيرة من أكبر الكبائر، والخيانة من أقبح الذنوب، ومقابلة الإحسان بالإساءة من المنكرات، فكيف يخون يوسف – عليه السلام – عزيز مصر الذي آواه في بيته، وشمله وأحاطه برعايته، منذ أن كان صغيرا إلى أن شب وكبر في بيته، وأكرمه أيما إكرام؟ وكيف يقابل إحسانه إليه بمثل هذه الفعلة التي يترفع[6] عنها غير الأنبياء؟ فكيف – في حكم العقلاء من البشر – يقع فيها أحد المصطفين الأخيار[7]؟!
أما ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها( من الإشارة إلى هم يوسف – عليه السلام – فإنه لا يفيد أنه عزم على ارتكاب الفاحشة، وحتى نفهم عبارة “وهم بها” على الوجه اللائق بما ذكره الله تعالى عن يوسف – عليه السلام – ينبغي أن نستعرض سياق الآيات السابقة لها حتى نتبين الخطوات التي دبرتها امرأة العزيز للإيقاع بيوسف – عليه السلام – في الفحشاء، قال سبحانه وتعالى: )وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك( (يوسف: 23)، فهي إذن ثلاث خطوات:
الأولى: )وراودته(. قال القرطبي: وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين، ويقول الطبري في تفسيره: وراودته امرأة العزيز – وهي التي كان يوسف في بيتها – عن نفسه أن يواقعها[8].
الثانية: )وغلقت الأبواب(. يقول الطبري: وغلقت المرأة أبواب البيوت عليها، وعلى يوسف – عليه السلام – لما أرادت منه وراودته، بابا بعد باب، وهذا يدل على إدراكها تمام الإدراك أنها مقبلة على فعل قبيح؛ ولذلك فهي حريصة على أن تخفي ما ستفعل.
الثالثة: )وقالت هيت لك(. قال القرطبي: )وقالت هيت لك( أي: هلم وأقبل وتعال، أي انتقلت من الاحتيال والمراوغة إلى الوضوح في الطلب. وفي مقابل خطوات امرأة العزيز هذه، ورغم تمكنها حينئذ إذ هي سيدته وهو في بيتها، وذكائها فيما فعلت، فإن يوسف – عليه السلام – قد قابلها برفضه التام لما تريده منه، وكان من وراء رفضه اعتبارات ثلاثة، كل واحد منها كفيل بأن يجعله لا يفكر مجرد تفكير في الاستجابة لها، فضلا عن الهم بالفاحشة، فكيف بها مجتمعة؟! قال تعالى في رفض يوسف عليه السلام: )قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)( (يوسف).
فأول هذه الاعتبارات قوله: )قال معاذ(. يقول الطبري في تفسيره: وقوله: )قال معاذ الله( يقول جل ثناؤه: قال يوسف إذ دعته المرأة إلى نفسها وقالت له هلم إلي: أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه وأستجير به منه.
وهو إلى جانب استجارته واستغاثته بالله تعالى يذكر امرأة العزيز بالله تعالى، وأنه تعالى لم يأمر بهذا الفعل الفاحش، وهنا نذكر حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في “السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”:«الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه»[9].
وثاني هذه الاعتبارات يتجلى في قوله عليه السلام: )إنه ربي أحسن مثواي(. قال الطبري: يقول: إن صاحبك وزوجك سيدي، أحسن منزلتي، أكرمني، وائتمنني، فلا أخونه.
وعن ابن إسحاق: قال: )أحسن مثواي( أمنني على بيته وأهله، وقال ابن كثير: )قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي( وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير، أي أن بعلك أحسن مثواي، أي منزلي، وأحسن إلى فلا أقابله بالفاحشة في أهله.
والاعتبار الثالث: )إنه لا يفلح الظالمون (23)(، فقد تنبه يوسف – عليه السلام – لعواقب الخطيئة: )إنه لا يفلح الظالمون (23)( قال الطبري: إنه لا يدرك البقاء، ولا ينجح من ظلم، ففعل ما ليس له فعله، وهذا الذي تدعوني إليه من الفجور ظلم وخيانة لسيدي الذي ائتمنني على منزله.
وكل هذه الاعتبارات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك على عفة يوسف – عليه السلام – وعصمته من أن يهم بالفاحشة، وهذا ما أكده القرآن الكريم في أكثر من موضع كما ذكرنا.
ثانيا. تعدد تأويلات معنى “الهم” لدى المفسرين هو الذي أدى لهذا الفهم الخاطئ:
لتوضيح معنى الهم الذي نسبه القرآن الكريم ليوسف – عليه السلام – في قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها( لا بد أن نوضح معنى الهم في اللغة، ثم بعد ذلك نحكم هل أثبت القرآن الهم بالفاحشة ليوسف – عليه السلام – أم لا؟
الهم في اللغة له معان متعددة:
الأول: خطور الشيء بالبال قال سبحانه وتعالى: )إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما( (آل عمران: 122)، فهاتان الطائفتان قد خطر الفشل ببالهما، ولو كان المراد هنا العزم لما كان الله وليا لهما؛ لأن العزم على المعصية معصية.
الثاني: ميل الطباع، قال الزمخشري، في معنى “وهم بها”: مالت نفسه إلى المخالطة، ونازعت إليها.
الثالث: العزم على الفعل، يقال: يقال: هم بالشيء: إذا نواه وأراده وعزم عليه، قال سبحانه وتعالى: )إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم( (المائدة: 11) أي: أرادوا ذلك وعزموا عليه[10].
وقبل الحديث عن نوع الهم الذي نسب ليوسف – عليه السلام – في القرآن الكريم نؤكد أن كثيرا من العلماء قد اتفقوا على أن هم امرأة العزيز كان لفعل الفاحشة، وقد استعمل القرآن الكريم لامرأة العزيز وليوسف – عليه السلام – نفس الكلمة “همت به” و “هم بها”، ولكن يجدر بنا أن نشير إلى ضرورة اختلاف معنى الهم باختلاف من قيلت في حقه؛ وذلك لاختلاف هدف كل منهما وغايته، فيوسف – عليه السلام – يسرع نحو العفة والطهارة، وامرأة العزيز نحو الشهوة والإثم، وهو يهرب في حين أنها تلاحقه، ولو كان لدى يوسف – عليه السلام – أي ميل للإثم لما كانت هذه المطاردة؛ إذن كان هدف يوسف – عليه السلام – وغايته شيئا آخر[11].
والسؤال الذي يفرض الآن نفسه: أي نوع من الهم هم به يوسف عليه السلام؟
ونجيب على ذلك قائلين:
إذا كان معنى “الهم” الواقع من يوسف، هو الخاطر بالبال وحديث النفس: فلا يعاب عليه يوسف – عليه السلام – ولا يطعن به في حقه؛ لأنه لا صنع للعبد فيه، ولا يدخل تحت اختياره، ونقل النسفي في تفسيره عن أبي منصور قوله: وهم بها هم خاطره، ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب، ولا مؤاخذة عليه.
ويرى بعض العلماء أن الخاطر المعفو عنه هو الذي لم يستقر في النفس، وهم يوسف منه، ويدل على عدم المؤاخذة بالعقاب على حديث النفس ما جاء في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة»[12]. فاتضح أن لا شبهة على عصمة يوسف – عليه السلام – في ذلك؛ لأن الأنبياء غير معصومين من حديث النفس، ولكنهم معصومون من طاعة النفس والانقياد لها.
أما إذا كان الهم بالمعنى الثاني وهو ميل الطبع: فلا يطعن به أيضا في حق يوسف – عليه السلام – لأنه غير اختياري، ثم هو قاوم اتباعه، وكف عن رغبته، ومن يكن بهذه المثابة لم يتوجه إليه ذم، بل يؤجر ويمدح عليه.
ومعنى “الهم” هذا هو ما قاله الإمام الرازي: من أنه “ميل الطبع، كالصائم في الصيف، يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه، وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة، فـ “الهم” هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل”[13].
بيد أننا نتساءل: إذا كان هم يوسف – عليه السلام – من هذا النوع وهو الميل الطبعي، فهل وقع هذا الهم له أم لا؟
الثابت أنه لم يقع، ودليل ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به( وتم الكلام به: )وهم بها لولا أن رأى برهان ربه( (يوسف: 24) وجواب “لولا” ههنا مقدم، والتقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف – عليه السلام – لم يهم بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف – عليه السلام – لولا رؤيته برهان ربه لهم بها، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها، كما قال عز وجل: )و لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83)( (النساء).
وقال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: )ولقد همت به وهم بها( قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط، كأنه قال: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها[14].
وقال القرطبي: والاختلاف أن همها كان لمعصية، وأما يوسف فهم بها: )لولا أن رأى برهان ربه( ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء، قال الله سبحانه وتعالى: )كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، إذن ففي الكلام تقديم وتأخير، أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
والناظر لهذه الآيات بما فيها من أحداث نظرة سطحية يقول: إن هناك مساواة في هم كل من يوسف – عليه السلام – وامرأة العزيز، فهي حدثتها نفسها بفعل الفحشاء، وهو حدثته نفسه كذلك، ولكن النص لم يقف عند هذه العبارة، فقد قال بالنسبة لامرأة العزيز: )ولقد همت به( أي: حدثتها نفسها أنها تريده، وعندما تكلم القرآن عن يوسف قال: )وهم بها لولا أن رأى برهان ربه(.
أي أن المعنى: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، “ولولا” حرف امتناع لوجود، وهذا هو الصحيح الذي نرجحه ونقول به؛ لاتفاقه مع عصمة الأنبياء.
وهنا يتساءل بعض الجاهلين: إذا كان يوسف – عليه السلام – لم يهم بالفحشاء، فلماذا قال الله: إنه “هم بها”، ولم يقل: لقد همت به ولم يهم بها؟
والجواب عن ذلك أن الله تعالى لو قال: لقد همت به، ولم يهم بها؛ لأوهم ذلك أن عدم استجابته نقص في رجولته أو لعدم رغبته في النساء، ولكن الله تعالى أراد أن يبين أنه لولا إيمان يوسف ورعاية ربه له لهم بها، فعدم الهم ليس راجعا إلى عيب في يوسف – عليه السلام – وإنما هو برهان ربه الذي أراه له.
فالله – سبحانه وتعالى – يريد أن يثبت رجولة يوسف، وأنه لم يمتنع عنها؛ لأنه لا يقدر أو لأنه ضعيف، ولذلك قال: )ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه( أي أن الذي جعله لا يهم بها أن برهان ربه في داخله، أظهره الله له، ولذا لم يهم بها[15].
ثم قال سبحانه وتعالى: )لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)( فما البرهان الذي رآه يوسف – عليه السلام – فصرف عنه همه؟
إن البرهان الذي أراه الله ليوسف – عليه السلام – فصرف عنه همه، هو حجة الله الباهرة، الدالة على قبح الزنا، وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين، وكأنه – عليه السلام – قد شاهد الزنا بموجب ذلك البرهان النير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه[16]. وعليه فلا ذنب ولا معصية من يوسف – عليه السلام – تتنافى مع عصمته.
وإذا كان الهم بالمعنى الثالث وهو العزم على الفعل: فهو كذلك لا يطعن في يوسف – عليه السلام ـ؛ لأن الفعل الذي عزم عليه هو: زجر امرأة العزيز عن الفاحشة، وقصده دفعها عن نفسه، وضربها إن لم تندفع؛ لأن الهم بهذا المعنى هو اللائق بالرسول المبعوث إلى قومه لهدايتهم إلى الخير، وكفهم عن الشر[17].
ومعنى الهم على هذا القول في قوله: )ولقد همت به وهم بها( أي: وتالله لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها، فهو في نظرها عبدها وهي سيدته، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه، فرأت أن هذا الاحتقار لا يطاق، ولا علاج لهذا الفاتن المتمرد إلا إذلاله بالانتقام، هذا ما ثار في نفس هذه المرأة المفتونه بطبيعة الحال، وشرعت في تنفيذه أو كادت، بأن همت بالبطش به في ثورة غضبها، وهو انتقام معهود من مثلها، وممن دونها في كل زمان ومكان، وقد كاد – عليه السلام – أن يرد حيالها ويدفعه بمثله، وهمه – عليه السلام – لدفع حيالها أمر مشروع لكن وجد مقتضاه مقترنا بالمانع منه وهو رؤيته برهان ربه فلم ينفذه، فكان الفرق بين همها وهمه أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها من خيبتها وإهانته لها، فلما رأى أمارة وثوبها عليه استعد للدفاع عن نفسه وهم به، فكان موقفهما موقف المواثبة[18]، والاستعداد للمضاربة[19]، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر هي مثله، فألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي تتم به حكمته – سبحانه وتعالى – فيما أعده له، فامتناعها عن تنفيذ ما همت به كان بسبب هروب يوسف – عليه السلام – واستباقه إلى الباب، وكان سبب امتناعه هو إرادته – عليه السلام – وما رآه من برهان ربه[20].
ويعلق د. الحديدي بقوله: الهم بهذا المعنى هو الذي نميل إليه لأمرين:
الأول: أن اللين يقدم عادة على العنف، وقد تقدم اللين في نصحها وتذكيرها بحق صاحب الفضل عليها، وسوء عاقبة هذا المنكر قائلا: )قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)( (يوسف) فلما لم يجد معها كل هذا، وقصدت إليه تجذبه لنفسها، أو تلقي بنفسها عليه، لم يكن بد من دفعها بالعنف، وضربها إن لم تندفع.
الآخر: أنه قد جرت عادة الإنسان أيضا أن يلجأ إلى الهرب إن وجد العنف لا يجدي، ويوسف – عليه السلام – لما رأى برهان ربه، تحقق أن استخدام العنف ليس في صالحه – كما سبق أن قلنا – وأنه سيجعله مدينا، فلجأ إلى الهرب: )واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر( (يوسف: 25). وهذا أرجح الأقوال وأصحها في “هم” يوسف عليه السلام [21].
وخلاصة هذه الحقائق التي ذكرناها أن قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها( لا يقدح في عصمة يوسف – عليه السلام – كما يدعي هؤلاء المتوهمون.
ثالثا. شهادة كل من له تعلق بقصة يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز تنفي عنه خطأه وتثبت له البراءة:
لقد شهد ببراءة يوسف – عليه السلام – كل من له علاقة بقصته مع امرأة العزيز؛ فقد نقل الفخر الرازي عن القاضي أبي طاهر الطوسي قوله: شهد ببراءة يوسف – عليه السلام – براءة الذئب من دمه كل من له تعلق بتلك الواقعة من: زوج وحاكم ونسوة وملك، وقد أعلن يوسف ذلك، واعترف له خصمه بصدق ما قاله مرتين، وشهد بذلك رب العالمين الذي هو أصدق القائلين[22] وتفصيل ذلك:
إعلان يوسف – عليه السلام – لبراءته في تحد وصمود:
وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )قال هي راودتني عن نفسي( (يوسف: 26)، وقوله: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف: 33)، فقد أعلن يوسف – عليه السلام – براءته مما نسب إليه، مرة عندما وجد العزيز أمام الباب، وأخرى عندما استعان بربه بعدما رأته النسوة وتوعدت له امرأة العزيز، وصدقه في هذين الادعاءين يؤكده كل من حوله.
شهادة الحاكم:
فبعد ادعاء يوسف: )قال هي راودتني عن نفسي( شهد شاهد من أهل امرأة العزيز، بما يؤيد كلام يوسف – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27)( (يوسف).
ومن حكمة الله تعالى أنه جعل ذلك الشاهد من أهل امرأة العزيز حتى لا يقال: إنه منحاز له؛ ولأن هذا الشاهد من أهلها فقد بدأ أولا بما في صالحها، وهو حالة أن يكون قميصه قد تمزق من الأمام، هذا التمزق الذي يكون نتيجة دفاعها عن نفسها وإقباله عليها، ثم ذكر الاحتمال الثاني، وهو أن يكون قميصه قد تمزق من الخلف، هذا التمزق يعني أنها هي التي راودته عن نفسه وجذبته إليها عندما حاول الهروب منها.
وعلى هذين الاحتمالين اللذين ساقهما الشاهد ثبتت براءة يوسف – عليه السلام – وأدينت امرأة العزيز.
شهادة الزوج:
بعد الاحتمالين اللذين أوردهما الشاهد، وبعد معاينة الحال الذي أمامهم، ثبتت براءة يوسف وإدانة امرأة العزيز من العزيز نفسه، قال سبحانه وتعالى: )فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف). وبعد أن تيقن العزيز من براءة يوسف – عليه السلام – طلب منه أن يعرض عن الحديث في هذا الأمر وذلك حفاظا على سمعته، قال سبحانه وتعالى: )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف).
شهادة النسوة:
قال سبحانه وتعالى: )قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء( (يوسف: 51) فعندما طلب الملك لقاء يوسف – عليه السلام – رفض أن يخرج من السجن إلا إذا برئت ساحته، براءة يعرفها كل أهل المدينة، وذلك بسؤال النسوة عن مراودتهن ليوسف – عليه السلام – وعندما سأل الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن عن مراودتهن له، شهدوا له بالبراءة والعفة، بل شهدوا بتنزيهه عن أن يفعل ذلك: )قلن حاش لله(.
اعتراف الخصم:
وقد أقرت امرأة العزيز ببراءة يوسف – عليه السلام – في موقفين: الأول: عندما هيأت لبعض نساء المدينة مجلسا وآتت كلا واحدة منهن سكينا وأدخلت عليهن يوسف – عليه السلام – ولما دهش النسوة لجمال يوسف، وشهدن بذلك اعترفت امرأة العزيز بأنها راودته عن نفسه، وأنه كان مستعصما متمنعا عنها، قال سبحانه وتعالى: )قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم( (يوسف: 32).
والموقف الثاني عندما سأل الملك النسوة عن مراودتهن ليوسف – عليه السلام – شهد النسوة ببراءته، واعترفت امرأة العزيز بحقيقة الأمر، قال سبحانه وتعالى: )قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف)، فشهد الملك بأمانته وجعله في منزلة عالية.
شهادة رب العالمين وكفى بالله شهيدا:
والله – عز وجل – أعظم وأصدق من شهد ليوسف – عليه السلام – بالعفة والبراءة مما نسب إليه، قال سبحانه وتعالى: )كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، فشهد الله تعالى بأنه صرف عنه السوء والفحشاء، وأنه من عباده الذين أخلصهم – أي الله – لعبادته وطاعته، فلا يقع منهم مكروه ولا يميلون إلى سوء.
فأية شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة يوسف عن الذنوب؟! قال القاضي: وهؤلاء الطاعنون في يوسف إن كانوا من حزب الله فليقبلوا قوله، وإن كانوا من حزب الشيطان فيجب ألا يتركوا قوله: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص) [23].
وبناء على هذه الأدلة تثبت براءة يوسف – عليه السلام – من كل ما رمي به من الهم بالفاحشة، وقد ذكر القرآن كل هذه الشهادات، مما ينفي تماما أن يكون القرآن قد طعن في عصمة يوسف عليه السلام.
رابعا. القرآن يثبت الهم ليوسف، ويثبت براءته ولا اضطراب في ذلك:
وأما ما ادعاه بعضهم من وجود تعارض بين قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها(، وقوله سبحانه وتعالى، على لسان امرأة العزيز وصويحباتها: )حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف) فلا أساس لهذا التعارض من الصحة؛ وذلك بناء على ما سبق بيانه من معنى الهم، واختلافه لدى كل من يوسف – عليه السلام – وامرأة العزيز، وبيان موقف كل منهما من الآخر، يثبت عدم تعارض القرآن الكريم، بين قوله سبحانه وتعالى: )ولقد همت به وهم بها( وقوله سبحانه وتعالى: )قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف)؛ بل الآيتان الكريمتان تؤيد كل منهما الأخرى، وتثبت عصمة يوسف – عليه السلام – وبراءته مما نسب إليه.
هل صحيح أن الكتاب المقدس لا يدين يوسف و يبرئه؟
جاء في الكتاب المقدس: “إنها لما طلبت إليه الشر استنكر طلبها، وقال: كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها. ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت. فأمسكته بثوبه قائلة: “اضطجع معي!”. فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج”. (التكوين39: 9 – 12).
وقد استدل بعض المدعين بهذا الجزء من الكتاب المقدس على خطأ القرآن فيما أورده بشأن يوسف – عليه السلام – إذ يقولون: إن القرآن أثبت الهم ليوسفـ عليه السلام – في قوله: )وهم بها( بينما نفى ذلك الكتاب المقدس. وقد بينا معنى الهم المراد في الآية، وأما حديث الكتاب المقدس عن تبرئة يوسف – عليه السلام – فما هو إلا إدانة له، حيث يذكرون أنه ترك ثوبه مع امرأة العزيز، وخرج وهذا – منطقيا – أمر ينال من قدرات يوسف العقلية.
فكيف يخرج عاريا ويترك ثوبه في يدها ليثبت الجريمة على نفسه، وهو الذي حاول التخلص منها بكل وسيلة؟! وعليه فلا تناقض في القرآن، وهو أكبر شاهد على براءة يوسف وعفته وطهارته – عليه السلام – ولا عبرة لشطحات الكتاب المقدس.
الخلاصة:
أخلاق يوسف – عليه السلام – وعصمته باعتباره نبيا تتنافى مع ما نسب إليه من اتهامه بالهم بالفحشاء، ويشهد لهذا القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، كما أن ما وجه إليه من اتهام بالفحشاء ينأى عنه[24] كل عاقل من غير الأنبياء، فكيف به في حق الأنبياء؟!
لما وقعت من امرأة العزيز المراودة، ودعته إلى نفسها؛ أجابها بقوله: )قال معاذ الله( (يوسف: 23) فكيف يهم بموافقتها مع قوله هذا؟!
إن الله – عز وجل – شهد ليوسف – عليه السلام – بمقام (المخلصين) فقال: )إنه من عبادنا المخلصين (24)(، وهذا المقام عصم الله أصحابه من سيطرة الهوى واتباع الشيطان، فقد قال الله لإبليس )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان( (الحجر: 42)، وجاء على لسان إبليس اعترافه بعجزه عن إغوائهم قال: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص) فهل ينسجم هذا المقام مع الهم بفعل الحرام؟
لقد قال الله عن يوسفـ عليه السلام -: )كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء(وهذا يعني أن الهم بالمعصية لم يقع منه، فلو وقع منه ذلك لما قال الله: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
أعلنت امرأة العزيز براءة يوسف – عليه السلام – من الهم والمعصية، وأنه لم يجبها إلى طلبها إذ قالت: )ولقد راودته عن نفسه فاستعصم( (يوسف: 32) وشهدت بعفته وصدقه إذ قالت: )أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)(، وكذلك فإن النسوة قد شهدن بعفته وطهارته إذ )قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء(.
أظهرت نتائج التحقيق براءته من الهم بالسوء، إذ إن امرأة العزيز لما وجهت له اتهامها بإرادة السوء، طلب العزيز فتح محضر للتحقيق وعين العزيز شاهدا من أهلها ليحقق في الادعاء.
المدعي: امرأة العزيز، تدعي أن يوسف – عليه السلام – أراد بها سوءا!
المدعي عليه: يوسف – عليه السلام – ينفي التهمة عن نفسه ويقول: )قال هي راودتني عن نفسي( (يوسف: 26)، المحقق: كشف ملابسات القضية بقوله: )إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27)( (يوسف).
وقد تبين بعد فحص القميص أن المذنبة المدانة هي امرأة العزيز، وبالتالي ظهرت براءة يوسف – عليه السلام – من الهم بالسوء والفحشاء: )فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف) وطلب العزيز من يوسف – عليه السلام – أن يكتم الحدث احتراما لهيبة القصر: )يوسف أعرض عن هذا( (يوسف: 29)، وطلب من امرأة العزيز أن تتبرأ من خطيئتها، وتستغفر لذنبها: )واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف).
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجموعة علماء، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 2003م. هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. islameyat.com
[1]. الهم: قصد الجماع.
[2]. حصحص الحق: ظهر.
[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص313.
[4]. صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 249)، باب العين: أحاديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (11475).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ( (البقرة:١٣٣) (3194)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف ـ عليه السلام ـ (6311).
[6]. يترفع: يتنزه.
[7]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص313 بتصرف.
[8]. يواقعها: يجامعها.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (629)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2427).
[10]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص309.
[11]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص68، 69.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126)، وفي موضع أخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة (355).
[13]. محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص172.
[14]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 6، ج12، ص253.
[15]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص183.
[16]. محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، 1424هـ/ 2003م، مج6، ج12، ص172، 173.
[17]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص310، 311.
[18]. المواثبة: أن يثب أحدهما على الآخر.
[19]. المضاربة: أن يضرب أحدهما الآخر.
[20]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج12، ص277: 280 بتصرف.
[21]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص313.
[22]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص314.
[23]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص85، 86 بتصرف.
[24]. ينأى عنه: يبعد عنه.
ادعاء عدم مطابقة القرآن الكريم بين الفعل والفاعل في النوع
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يطابق في النوع (التذكير والتأنيث) بين الفعل وفاعله، واستدلوا على ذلك بقوله عز وجل: )فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله( (البقرة: ٢٧٥)، والصواب في ظنهم أن يقال: جاءته موعظة” بتأنيث الفعل جاء ليوافق فاعله المؤنث**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يطابق الفعل فاعله في النوع: التذكير والتأنيث، فيأتي مذكرا مع الفاعل المذكر، ومؤنثا مع الفاعل المؤنث.
وغير المتدبر لقوله تعالى: )فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله( يظن أن في الآية مخالفة لقاعدة مطابقة الفعل للفاعل في التذكير والتأنيث، وكان الصواب في زعم هؤلاء المشككين أن يقال: “فمن جاءته موعظة”.
ويمكن الرد على هذه الشبهة بأن نقول: إن كلمة “موعظة” مؤنث مجازي[1]، وما كان مؤنثا مجازيا في اللغة العربية جاز تأنيث فعله أوتذكيره على حد سواء، ومن ثم فلا إشكال في الآية.
التفصيل:
إن كلمة “موعظة” مؤنث مجازي، وما كان مؤنثا مجازيا في اللغة العربية، جاز تأنيث فعله أوتذكيره على حد سواء.
فمن المسلم به في اللغة العربية جواز تذكير الفعل، أوتأنيثه مع فاعله المؤنث في حالات ثلاث:
أن يكون الفاعل مجازي التأنيث ظاهرا، مثل: طلعت الشمس، ويجوز طلع الشمس.
أن يكون الفاعل جمع تكسير، مثل: حضر جيوش الإسلام إلى ميدان المعركة، ويجوز حضرت جيوش.
إذا فصل بين الفعل وفاعله بفاصل، مثل: ذهبت إلى المدرسة هند، ويجوز ذهب إلى المدرسة هند؛ وعلى هذا فلا إشكال في قوله تعالى: )فمن جاءه موعظة(.
هذا وقد أوجب النحاة مطابقة الفعل لفاعله في التأنيث في حالتين هما:
الأولى: إذا كان الفاعل ضميرا مستترا منفصلا، سواء أكان عائدا على مؤنث حقيقي[2]، مثل: هند قامت، أم على مؤنث مجازي التأنيث، مثل: الشمس طلعت.
الثانية: إذا كان الفاعل اسما ظاهرا، حقيقي التأنيث، متصلا بالفعل، مثل: قامت امرأة[3].
فإن فقد أحد هذه الشروط جاز في الفعل التأنيث والتذكير، كما هو الحال في الآية )فمن جاءه موعظة من ربه(، وبهذا يتضح موافقة ما ذكره القرآن الكريم لقواعد اللغة؛ حيث جاء الفاعل مؤنثا مجازيا، وأيضا فصل بينه وبين الفعل بالضمير “الهاء”، ومن ثم فإنه يجوز فيه الأمران؛ التأنيث وعدمه ومن ثم فلا إشكال في الآية.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
التشبيه التمثيلي[4] في تشبيه آكلي الربا عند خروجهم من أجداثهم بمن أصابه مس فاختل طبعه، وانتكست حاله، وصار يتهافت في مشيته ويتكاوس في خطواته، ويترنح ترنح الشارب السكران، ثم يهوي مكبا على وجهه من سوء الطالع، وقبح المنقلب، وشناعة المصير، والجزاء – عادة وعقلا – من جنس العمل[5]، وذلك في قوله: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس( (البقرة: ٢٧٥).
والتشبيه المقلوب [6] في قوله: )إنما البيع مثل الربا( غرضه عكس الكلام للمبالغة، وهم يريدون القول بأن الربا مثل البيع – الذي هو الأصل – ليصلوا إلى غرضهم وهو تحليل ما حرمه الله، فعكسوا الكلام للمبالغة، وهو في البلاغة مرتبة عليا يصبح فيها المشبه به قائما بالمشبه وتابعا له، ومنه في الشعر قول البحتري:
كأنها حين لجت في تدفقها
يد الخليفة لما سال واديها
والأصل تشبيه يد الخليفة بالبركة، فقلب الكلام للمبالغة[7].
ومن هنا فقد عدلوا عن الأصل للمبالغة “فقلبوا التشبيه – مبالغة فيه – زعما أن الربا أولى بالحل من البيع، قال الفخر الرازي في تفسيره: إنه لما تساوى عندهم البيع والربا، كان البيع مثل الربا، وعكسه سواء[8].
(*) www.alkalema.us
[1]. المؤنث المجازي: هو الذي لا يلد ولا يبيض.
[2]. المؤنث الحقيقي: هو الذي يلد أو يبيض.
[3]. انظر: النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، القاهرة، ط9، ج2، ص78.
[4]. التشبيه التمثيلي: هو ما يكون وجه الشبه فيه وصفا مركبا منتزعا من أمرين أو أكثر.
[5]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص429.
[6]. التشبيه المقلوب: جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في المشبه والمشبه به.
[7]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص429.
[8]. انظر: القرآن والصور البيانية، د. عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م.
ادعاء خلط القرآن الكريم بين مريم أخت موسى، ومريم أم المسيح
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم خلط بين “مريم أخت موسـى”، و “مريـم أم المسيـح”؛ حيـث قــال: )يا أخت هارون( (مريم:٢٨)، قاصدا أم المسيح – عليها السلام -، ولم يكن لمريم أم المسيح أخ اسمه هارون، وإنمـا كـان هـارون أخـا لموسـى – عليهما السلام – ولهما أخت اسمها مريم**.
وجها إبطال الشبهة:
نصت المعاجم العربية على أن الأخ من جمعك وإياه صلب، أو بطن، أو هما معا، أو رضاع. كما يكون الأخ بمعنى: القرين والشبيه في الخلال والصفات؛ لذلك فمعنى: يا أخت هارون، أي: يا شبيهة هارون في التقوى والورع، وقد يعني أنها من نسل هارون؛ لأن العرب اعتادوا أن ينسبوا الناس إلى قبائلهم بقولهم: يا أخا تميم، يا أخا هذيل.
وزعم بعض المشككين أن في قول القرآن عن مريم أم المسيح “يا أخت هارون”خلطا بين “مريم أخت موسى”، و “مريم أم عيسى”؛ ذلك أن هذه الأخيرة ليس لها أخ اسمه هارون، والصواب في زعمهم ألا يقول عن مريم أم عيسى “يا أخت هارون”؛ لأنه يوقع في الخلط واللبس.
وهذا الزعم مردود من وجهين:
1) أن تسمية القرآن لمريم بـ “أخت هارون” ليست خبرا من القرآن، بل حكاية لما قاله قومها عندما وجدوها تحمل ولدها. ونسبتها إلى هارون إما أن المراد منها أخوة النسب، بأن كان لها أخ اسمه هارون، وإما أنهم أرادوا هارون أخا موسى؛ لأنها كانت من نسله، من باب قول العرب للتميمي يا أخا تميم.
2) أن القرآن الكريم لم يخلط بين “مريم أخت موسى”، و “مريم أم المسيح”؛ وذلك للفارق الزمنى بينهما الحائل بين هذا الخلط.
التفصيل:
أولا. إن تسمية القرآن لمريم “أخت هارون” ليست خبرا من القرآن، بل حكاية لما قاله قومها عندما وجدوها تحمل ولدها، فاتهموها في عرضها وشرفها وعفافها.
واختلف المفسرون في نسبة مريم – عليها السلام – إلى هارون؛ فذهب بعضهم إلى أن المراد من الأخوة هنا أخوة النسب. فقوله تعالى: )يا أخت هارون( يحتمل أن يكون على حقيقته، فيكون لمريم أخ اسمه هارون كان صالحا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي: ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك[1]، وكذلك قال الزمخشري في “الكشاف” وهو يسوق الوجوه الواردة في معنى قوله تعالى: )يا أخت هارون( فقال: “كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل، وإذا كان كذلك فلا شبهة إذن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن هارون كان رجلا في ذلك الزمان مشهورا بالصلاح والعفة، فنسبها قومها إليه سخرية منها، وتهكما عليها، وتعريضا بما فعلت، واستهزاء بادعائها الصلاح والتقوى، والتبتل في العبادة، بينما هي في ظنهم قد حملت سفاحا. وقيل: هو رجل صالح أو طالح في زمانها شبهوها به؛ أي: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو شتموها به، وذكر أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون؛ تبركا به وباسمه، فقالوا: كنا نشبهك بهارون هذا”[2].
وقال قتادة: كان في ذلك الزمان في بنى إسرائيل عابد منقطع إلى الله – عز وجل – يسمى هارون، فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته قبل[3].
وقد ورد في المعاجم العربية أن الأخت قد يقصد بها: المثيلة، ويقال: أخو القبيلة؛ أي: أحد رجالها[4].
ثانيا. لم يخلط القرآن الكريم بين مريم أخت موسى، ومريم أم المسيح؛ وذلك للفارق الزمني بينهما الذي يحول بين هذا الخلط، فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قال: «لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرءون )يا أخت هارون(، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ فلما قدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سألته عن ذلك. فقال: إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»[5]. ففي هذا تجهيل لأهل نجران – وكذلك لهؤلاء المدعين – بسبب طعنهم في القرآن أن ليس في القوم من اسمه هارون إلا هارون أخا موسى[6].
والمعنى أنه اسم وافق اسما. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء، وقد دل الحديث الصحيح أنه كان بين موسى وعيسى زمان مديد، وقال الزمخشري: كان بينهما – أي موسى وهارون – وبينه – أي المسيح – ألف سنة، أو أكثر، فلا يتخيل أن مريم كانت أخت موسى وهارون، وإن صح فكما قال السدي؛ لأنها كانت من نسله، وهذا كما تقول للرجل من قبيلة: يا أخا فلان[7]. فيكون نسبة مريم لـ “هارون” من قبيل التقريع والمبالغة منهم في تعييرها، فنسبوها إلى هارون على اسم النبي، فأنت من بيت صلاح ونشأت في طاعة الله، فكيف يصدر منك هذا الفعل؟ كما تقول لسيدة محجبة: أنت يصدر منك مثل هذا العمل الذي لا يتناسب ومظهرك، فتلومها على هذا السلوك الذي لا يتصور من مثلها[8].
ويحتمل أيضا أن يكون معنى “أخت هارون” أنها إحدى النساء من ذرية هارون أخى موسى؛ كقول أبي بكر: يا أخت بنى فراس، وقد كانت مريم من ذرية هارون أخي موسى من سبط لاوي، ففي إنجيل لوقا: “كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا، وامرأته من بنات هارون واسمها أليصابات.. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله. وهوذا أليصابات نسيبتك[9] هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها”. (لوقا 1: 5 – 36)،[10] والعرب تستخدم هذا الأسلوب فتقول للتميمي: يا أخا تميم.
وبهذا الإيضاح يتبين عدم خلط القرآن بين “مريم أخت موسى”، و “مريم أم المسيح”.
(*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.
. www.saaid.net
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص95.
[2]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج2، ص508.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص100.
[4]. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997م، مادة: أخا.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (5721).
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص95، 96.
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص101.
[8]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج15، ص9073، 9074.
[9]. النسيبة: القريبة.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص96.
ادعاء خلط القرآن بين هاجر أم إسماعيل، ومريم أم عيسى
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم خلط بين هاجر أم إسماعيل، ومريم أم عيسى، ويستدلون على دعواهم بقوله سبحانه وتعالى: )واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16)( (مريم)، وقوله سبحانه وتعالى: )فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22)( (مريم)، فيزعمون أن هاجر هربت إلى البرية بإسماعيل، ولما عطشت هيأ الله لها عين ماء فشربت منها، أما مريم العذراء فلم تهرب إلى برية، ولا احتاجت إلى الماء، ولا كانت تحت نخلة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) ليس في القرآن خلط بين هاجر أم إسماعيل ومريم أم عيسى، إنما الخلط في عقول هؤلاء المدعين وأفهامهم المنحرفة.
2) كان خروج هاجر وولدها بأمر من الله – عز وجل – لإبراهيم – عليه السلام – بأخذهما إلى تلك الأرض، ليعمر بهما ذلك الوادي.
3) هناك العديد من أوجه الاختلاف بين قصة خروج هاجر ومريم التي تنفي وقوع خلط أو تشابه، يؤدي إلى الخلط بين القصتين.
التفصيل:
أولا. ليس في القرآن خلط بين هاجر أم إسماعيل ومريم أم عيسى عليهم السلام:
للمسيح عيسى – عليه السلام – ولأمه البتول مريم ابنة عمران مكانة سامية في قلوب المسلمين وفي كتابهم، يؤكد ذلك وجود سورة كاملة في القرآن الكريم باسم مريم، على حين لا تجد في الإنجيل سفرا واحدا باسمها.
إن القرآن الكريم تناول قصة المسيح عيسى – عليه السلام – وأمه في أكثر من موضع، تناول القرآن ميلاد أمه، وكفالة زكريا – عليه السلام – لها، كما تناول عبادتها في بيت المقدس، وتناول أيضا قصة حملها بعيسى – عليه السلام – وقصة وضعه، ومعجزاته، وعرض القرآن دعوته إلى التوحيد وعبوديته لله، كما أفرد أيضا مشهد محاكمة المسيح عيسى – عليه السلام – وهو واقف بين يدي الله يوم القيامة وعرضه بدقة، وتحدث القرآن عن نبوته، وعن موته – عليه السلام – وتناول عقيدة النصارى فيه.
إن عقيدة المسلمين في عيسى – عليه السلام – وأمه – شأن سائر جوانب اعتقادهم – منضبطة ودقيقة وخالية من التخبط والخلط، على عكس ما هو موجود عند غيرهم كالنصارى واليهود، ولم لا والقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الخاتم المهيمن، المصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، لايستطيع أحد أن يشكك في حفظه ونقله ودقته، فلا يوجد فيه خطأ واحد على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان، ولم لا والله سبحانه وتعالى حفظه فقال: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، ونفى أن يدخله أو يداخله باطل فقال: )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( (فصلت: 42)، وهو بذلك لا يقارن بكتاب سماوي آخر قد حرف، وتدخلت فيه أيدي البشر؛ فالكتاب المقدس مثلا بشهادة طائفة من علماء الغرب المنصفين يشمل على نحو خمسن ألف خطأ[1].
إن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم المهيمن على ما سبق من كتب وهو الذي ارتضاه الله كتابا خاتما تستنير منه وبه الأجيال المتتابعة من لدن بعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى يوم القيامة، ومن الغريب أن يأتي بعد ذلك جاهل متخبط ليقول: إن القرآن به خطأ وتخبط؛ لأنه ذكر أن مريم )إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16)( (مريم)، وهي لم تخرج إلى الصحراء ولم تلد تحت نخلة ولم تأكل وتشرب؛ لأنها لم تكن في حاجة إلى الماء، وإننا سنلخص ردنا عليه بما يلي:
مريم قبل حملها بعيسى عليه السلام:
إن مريم جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس، وإن زوج أختها أو خالتها – نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام – كفلها، واتخذ لها محرابا، وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه[2].
إذن كانت مريم تقطن بيت المقدس، فأين ولدت المسيح إذن؟ هل ولدته ببيت المقدس؟!
قصة ميلاد المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام – كما وردت في سورة مريم:
يقول الطبري في تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: )فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22)( (مريم): فاعتزلت بالذي حملته – وهو عيسى – وتنحت به عن الناس مكانا قصيا. يقول: مكانا نائيا قاصيا عن الناس، يقال: هو بمكان قاص وقصي بمعنى واحد، كما قال الراجز:
لتقعدن مقعد القصي
مني ذي القاذورة المقلي
يقال منه: قصا المكان يقصو قصوا، وإذا تباعد. وأقصيت الشيء: إذا أبعدته وأخرته[3].
وعن السدي قال: لما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقي منه فأتت أقصاه. وقال ابن عباس في قوله سبحانه وتعالى: )فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة( (مريم: ٢٣): ألجأها المخاض إلى جذع النخلة[4].
هذه هي قصة ميلاد المسيح كما رواها الإمام الطبري – رحمه الله – وجميع المفسرين من بعده، والعجيب أن أحدا منهم لم يقل: إن هذه الآيات هي قصة هاجر أم إسماعيل وليست مريم أم عيسى!
قال الحافظ ابن كثير: “قال محمد بن اسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل – يعني مريم – فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم، وانتبذت مكانا قصيا”.
وقوله سبحانه وتعالى: )فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة(: فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو – بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعا، والبيهقي بإسناده عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا – ببيت لحم[5].
هذا هو ابن إسحاق، وهو رأس علماء المسلمين في السيرة يروي قصة ميلاد المسيح – عليه السلام – كما رواها الإمام الطبري صاحب التفسير، والعجيب أنه لم يأت أحد من علماء السيرة بقول جديد يخالف قول ابن إسحاق، أو يدعي أن هذه القصة ليست قصة ميلاد المسيح عليه السلام.
رواية العلماء عن أهل الكتاب لقصة ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام:
روي عن الحبر الذي أسلم وهب بن منبه – كان أحد أعلم الناس بأخبار أهل الكتاب في زمانه – أنه قال: لما حضر ولادها – يعني مريم – ووجدت ما تجد المرأة من الطلق خرجت من المدينة مغربة من إيلياء حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها “بيت لحم”، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة[6] تحتها ربيع من الماء فوضعته عندها[7].
سبب انتباذ مريم بالمسيح عيسى – عليه السلام – مكانا قصيا:
وربما سأل سائل فقال: إذا كان الانتباذ هو الاعتزال فلماذا انتبذت به الناس واعتزلتهم؟
يقول الإمام الزمخشري: لعل ذلك يرجع إلى ما لحقها من فرط الحياء والتستر من الناس على حكم العادة البشرية، ولا كراهة لحكم الله، أو لشدة التكليف عليها؛ إذ بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام؛ لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح، وتستوجب التعظيم ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به، ويعنف بسببه[8].
ويقول المراغي: إنما اتخذت المكان البعيد حياء من قومها، وهي من سلائل بيت النبوة؛ ولأنها استشعرت منهم اتهامها بالريبة، فرأت ألا تراهم وألا يروها[9].
المكان الذي ولدت فيه مريم المسيح عليه السلام:
يقول د. عبد الوهاب النجار: ولما حان انفصال جنين مريم ألجأها المخاض إلى جذع نخلة هناك في الموضع الذي فيه مدينة بيت لحم وهي على بضعة من الكيلو مترات من بيت المقدس[10].
موقع بيت لحم مهد المسيح عليه السلام:
يقول ياقوت الحموي: بيت لحم: بالفتح وسكون الحاء المهملة. بليدة قرب بيت المقدس… مكان مهد عيسى ابن مريم.[11] وبيت لحم مدينة فلسطينية تقع جنوب الضفة الغربية تقع على بعد حوالي 10 كم جنوب القدس الشرقية[12].
وهكذا يتبين لنا أن السيدة مريم هربت من قومها – ببيت المقدس – حتى أتت بيت لحم – مكانـا قصيـا – وهنـاك عنـد النخلـة التي يجـري بالقرب منها نهر صغيـر )قد جعل ربك تحتك سريا (24)( (مريم) ولدت مريم ابنة عمران المسيح عيسى – عليه السلام – عبد الله ورسوله.
هذه هي القصة كما وردت في القرآن وكتب التفسير والسيرة، وقصص الأنبياء، وكلها تقرر أن الآيات الواردة في سورة مريم تتكلم عن قصة ولادة مريم المسيح – عليه السلام – وأنها ليست هاجر أم إسماعيل – عليه السلام – لأن هاجر خرجت بولدها إلى مكة وليس إلى بيت لحم، ولأنها خرجت بعد أن ولدت إسماعيل، في حين تتكلم آيات سورة مريم عن قصة مريم حين ولادة المسيح )فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة( (مريم: 23).
ومن المعروف أن المخاض هو ألم الولادة أو ما يعرف بـ “الطلق”، ومن حقنا الآن أن نتوجه إلى هذا المتوهم والمغالط بعدد من الأسئلة قائلين له: إذا كنــت تنكــر أن مريـم هربت إلى البريـة – لأسبـاب عـدة – وأنهـا حملتــه: )فانتبذت به مكانا قصيا (22)( (مريم) ألم تكن مريم تقيم مع قومها وأهلها في بيت المقدس، فلماذا إذن ولدت المسيح في بيت لحم التي تبعد عن بيت المقدس بــ 10 كم؟
ليس أمام المدعي إلا أن يجيب بإحدى إجابتين، إما أن ينفي ميلاد المسيح – عليه السلام – ببيت لحم، وفي هذه الحالة يقع في الطعن في نصوص الإنجيل، ويكذب بما ورد فيه، ففي إنجيل متى: “ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له”. (متى 2: 1، 2)، وإما أن يجيب بأن مريم انتبذت به مكانا قصيا على نحو ما أخبر القرآن فولدته في بيت لحم، وبهذا الجواب يكون قد أقام الحجة على نفسه[13].
أما الطعن في قوله سبحانه وتعالى: )فكلي واشربي وقري عينا( (مريم: ٢٦) بحجة أن مريم لم تكن في حاجة إلى الماء؛ لأنها لم تكن عطشى فهو طعن مردود على صاحبه، يدفعه ما سقناه وأثبتناه سلفا – بلا خلاف بين أهل العلم من المسلمين وأهل الكتاب، وبلا خلاف بين القرآن والإنجيل في شأن مكان ميلاد المسيح – عليه السلام – حيث أثبتنا أنه ولد ببيت لحم في حين كان مقام أمه مريم ابنة عمران ببيت المقدس، وعليه فهل من المعقول أن تسير امرأة حامل بها آلام المخاض مسافة 10 كم دون أن تأكل أو تشرب ثم تكون بعد ذلك في غير حاجة للطعام أو للماء؟!
يبقى أن نسأل المدعي في النهاية: ما سند دعواه وما أدلته على ذلك؟ ومن قال بقوله طوال أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان هي مدة وجود القرآن في الأرض أيا كانت ديانة القائل وأيا كان اتجاهه؟ ولماذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم، مع العلم أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس في زمن عيسى – عليه السلام – وما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السلام[14] ولم يكن استقبالهم للشرق بنص من الكتاب المقدس أو تشريع من الله؟
يجيب عن هذا السؤال الإمام الزمخشري فيقول: “إن النصارى اتخذت الشرق قبلة؛ لانتباذ مريم مكانا شرقيا”[15].
ثانيا. كان خروج هاجر وولدها بأمر من الله – عز وجل – لإبراهيم – عليه السلام – بأخذهما إلى تلك الأرض ليعمر بهما ذلك الوادي:
لم يأت في القرآن الكريم تفصيل لقصة هاجر وإسماعيل – عليه السلام – وإنما جاء ذلك في السنة النبوية المطهرة، وإغفال هذه التفاصيل حجة للقرآن، وليست حجة عليه.
وقد ورد في السنة – التي ما هي إلا وحي يوحى – أن الله – عز وجل – أمر إبراهيم – عليه السلام – أن يخرج بهاجر وولدها إلى مكة ويتركهما هناك؛ وذلك ليعمر الله بهما هذا الوادي المبارك، فقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم – عليه السلام – وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء.
ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم.. أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: )ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)( (إبراهيم).
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف ذراعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه – تريد نفسها -، ثم تسمعت فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه – أو قال بجناحه – حتى ظهر الماء، فجعلت تـحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل! لو تركت زمزم – أو قال: لو لم تغرف من الماء – لكانت زمزم عينا معينا، قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة؛ فإن ها هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله»[16] [17].
ثالثا. هناك العديد من أوجه الاختلاف بين قصة هاجر ومريم:
إن كان هناك وجه تشابه بين قصة هاجر ومريم وهو خروج كلتيهما من بلديهما إلى مكان آخر، فإن هناك أوجه اختلاف بين القصتين محصلتها استحالة وقوع خلط أو لبس بينهما.
أوجه الاختلاف والتباين بين قصة هاجر ومريم:
إن في القرآن سورة تسمى سورة مريم، تعرض قصة حمل مريم وخروجها ووضعها المسيح عيسى – عليه السلام – بكل تفاصيلها، في حين لا توجد سورة في القرآن باسم هاجر، ولم يتعرض القرآن لقصة خروجها إلى مكة إجمالا ولا تفصيلا، اللهم إلا آية في سورة إبراهيم، ولم يرد فيها ذكر هاجر ولا قصتها، وإنما وردت قصة هاجر في السنة النبوية المطهرة.
إن مريم حملت بلا زوج، في حين حملت هاجر بإسماعيل – عليه السلام – من إبراهيم عليه السلام.
إن مريم خرجت إلى بيت لحم، في حين خرجت هاجر إلى مكة.
إن مريم عندما خرجت كانت حاملا بعيسى – عليه السلام – في حين خرجت هاجر بإسماعيل – عليه السلام – وهو رضيع.
إن مريم نزلت بمكان فيه نخلة – أي زرع – وماء، في حين نزلت هاجر بواد غير ذي زرع ولا ماء.
إن هاجر خرجت بأمر زوجها – وبوحي من الله – وكان برفقتها، في حين أخرج مريم خوفها من أهلها وآلام المخاض، ولم يكن برفقتها أحد.
إن مريم اتجهت للشرق، في حين اتجهت هاجر إلى الجنوب.
بهذه الأوجه يتبين لنا أن الخلط بين القصتين ضرب من الوهم وطمس للحقيقة.
الخلاصة:
لم يخلط القرآن بين هاجر ومريم، بل أفرد القرآن لمريم سورة كاملة تحدث فيها عن قصة حملها وولادتها.
لا يوجد من أهل العلم طوال أربعة عشر قرنا من ينكر على القرآن إقراره بانتباذ مريم مكانا قصيا عن بيت المقدس، بل أكد العلماء من أهل الكتاب ما قرره القرآن.
خرجت مريم بحملها؛ خوفا من القيل والقال، وحتى لا تمس بسوء، ولبى الله حاجتها إلى الطعام والشراب وهي في حاجة إليهما.
إن عدم ذكر القرآن لتفاصيل قصة هاجر وعدم وجود اسمها به حجة له وليس حجة عليه.
هناك من أوجه الاختلاف بين هاجر ومريم ما يدفع وقوع خلط، أو تشابه يؤدي إلى الخلط بينهما.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islamiyat.com
[1]. انظر: مؤلفات أحمد ديدات: المجموعة الثالثة، أحمد ديدات، ترجمة: محمد مختار، رمضان الصفناوي، علي عثمان، كتاب المختار، القاهرة. الحوار دائما، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، بيروت، ط2، 1421 هـ/ 2000م، ص70.
[2]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد بن الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، 1421هـ/ 2001م، ص420 بتصرف يسير.
[3]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج18، ص166، 167.
[4]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج18، ص168.
[5]. انظر: قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد بن الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، 1421هـ/ 2001م، ج2، ص390.
[6]. المذود: المكان الذي يوضع فيه العلف للدابة.
[7]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج18، ص170.
[8]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، بيروت، د. ت، ج2، ص506.
[9]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، بيروت، د. ت، ص458.
[10]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص452. انظر: قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص423 وما بعدها.
[11]. انظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، ط2، 1995م.
[12]. موقع ويكيبيدبا، الموسوعة الحرة.
[13]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 8، ج16، ص84.
[14]. عيسى ومريم في القرآن والتفاسير، مجموعة مؤلفين، ترجمة: يوسف قزما خوري، دار الشروق، الأردن، ط1، 1996م، ص447.
[15]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، بيروت، د. ت، ج2، ص505.
[16]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الأنبيـاء، بـاب قولـه تعالــى: ) يزفون (94) ( (الصافات) (3184).
[17]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد بن الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، 1421هـ/ 2001م، ص120.
استنكار التكرار في القرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يستنكر بعض المشككين من التكرار في القرآن الكريم؛ كما في سورة الرحمن، وسورة التكاثر، وكذلك قصص الأنبياء في كثير من السور: مثل: قصة آدم،وقصة موسى، وقصة عيسى عليهم السلام ويزعم هؤلاء أنه لو تخفف من التكرار في القرآن، فلن يتبقى منه الكثير، وأن ثروة القرآن المعجمية ضئيلة؛ مما أدى إلى ضعف بناء الجملة، واللجوء إلى الحشو، ومزج الخيال بالواقع خاصة في قصة موسى عليه السلام، وهذا مخالف للعقل والمنطق.
وجها إبطال الشبهة:
القرآن الكريم هو كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته، وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول، وقد تحدى محمد – صلى الله عليه وسلم – رسول الله النبي العربي الأمي – العرب بإعجازه، وحكى لهم عن ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله، فظهر عجزهم على شدة حرص بلغائهم على إبطال دعوته، واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى جميع الأمم فظهر عجزها أيضا، وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدروا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في الفصاحة دون هدايته، ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
وقد زعم المشككون في القرآن الكريم أن فيه تكرارا وحشوا، واستدلوا على ذلك ببعض سور القرآن وآياته؛ ظنا منهم أن ذلك يدعم شبهتهم.
وهذا الزعم مردود بما يلي:
1) التكرار في القرآن جاء ليؤدي وظيفتين: دينية، وأدبية.
2) التكرار في القرآن أتى بصور متعددة، وكل صورة منها تؤدي وظيفة في المعنى من ناحية محددة، ومن هذه الصور:
تكرار أداة تؤدي وظيفة في الجملة بعد أن تستوفي الجملة ركنيها.
تكرار كلمة مع أختها لداع؛ بحيث تفيد معنى لا يمكن حصوله بدونها.
تكرار فاصلة في سورة واحدة على نمط واحد.
تكرار قصة في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة وعرض الفكرة.
التفصيل:
إن الذي دفع هؤلاء المشككين إلى إثارة هذا الزعم هو جهلهم باللغة العربية وأسرار البيان، فهو السبب الحق الذي أضلهم وجعلهم يرون القرآن كلاما من الكلام يجرون عليه الحكم الذي يجري على غيره؛ كما يظن الجاهل الذي ليس في نظره معان عقلية كل صورة ككل صورة وكل حصاة ككل جوهرة، ويذهب يقيم البرهان على صحة نظره من الخطوط والتقاسيم والألوان والأوصاف.
أما علم هؤلاء أن أرباب الفصاحة وعلماء البلاغة قد حاروا في كشف البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبت عندهم بالوجدان والبرهان… فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد، والأثير في المادة، والكهرباء في الكون: تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها، وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يستغنى عنها، كذلك ما عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في الهداية والأسلوب، أو حسن البيان، فيه لذات عقلية وروحية، وطمأنينة ذوقية وجدانية، تتضاءل دونها شبهات الملحدين، وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين.
ويذكر الشيخ محمد عبده أن لكلام الله أسلوبا خاصا يعرفه أهله ومن امتزج بلحمه ودمه، أما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون.. ويقول أيضا: فهم كتاب الله – عز وجل – يأتي بمعرفة ذوق اللغة، وذلك بممارسة الكلام البليغ[1].
أما ما ادعاه بعض هؤلاء عن ظاهرة التكرار في القرآن فمردود عليه من الوجوه التالية:
أولا. التكرار في القرآن جاء ليؤدي وظيفتين:
دينية: فإن من أهم ما يؤديه التكرار هو تقرير المكرر وتوكيده، وإظهار العناية به؛ ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
أدبية: فإن الهدف من التكرار في جميع مواضعه هو تأكيد المعنى، وإبرازه في معرض الموضوع وبيانه.
ثانيا. التكرار في القرآن أتى بصور سياقية متعددة؛ منها:
الموضع الأول: تكرار الأداة:
ونضرب لذلك مثالا بقوله عز وجل: )ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110)( (النحل).
وقد تكررت “إن” في الآية، وكان يمكن – في الظاهر – أن يستغنى عنها في نهاية الآية فيقال: “لغفور رحيم” وهو خبر “إن” الأولى، فما سبب التكرار؟!
السبب هو طول الفصل بين “إن” الأولى وخبرها، وهذا أمر يشعر بتنافيه مع الغرض الذي سيقت من أجله “إن” وهو التوكيد؛ لهذا اقتضت البلاغة إعادتها، لنلحظ النسبة بين الركنين على نحو ما ينبغي أن تكون عليه من التوكيد، هذا علاوة على أن حذفها سيؤدي إلي الاضطراب وعدم التناسق، ومثال ذلك من الشعر:
وإن امرأ طالت مواثيق عهده
على مثل هذا إنه لكريم
الموضع الثاني: تكرار الكلمة مع أختها:
ومثاله قوله عز وجل: )أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5)( (الرعد)؛ حيث تكررت كلمة “أولئك” في الآية ثلاث مرات، فما السر وراء هذا التكرار؟
في هذا التكرار نجد حسنا وروعة؛ “فالأولي والثانية” تسجلان حكما عاما على منكري البعث وهو: كفرهم بربهم وكون الأغلال في أعناقهم، و “الثالثة” بيان لمصيرهم المهين ودخولهم النار ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذي لا يعقبه خروج منها، ولو أسقطت “أولئك” في الموضعين الثاني والثالث لاضطرب المعنى، فتصبح “الواو” الداخلة على )الأغلال في أعناقهم( واو حال، وتصبح الداخلة على )أصحاب النار هم فيها خالدون( عاطفة عطفا يضطرب معه المعنى؛ لذا حسن التكرار في الآية لما فيه من صحة المعنى وتقويته.
الموضع الثالث: تكرار الفاصلة:
وسنكتفي هنا بإيراد موضع واحد تكررت فيه الفاصلة؛ لنرى ماذا يمثله ذلك التكرار، وهل هو غير مقيد – كما زعموا – أم هو على العكس من ذلك؟!
التكرار في سورة الرحمن:
لقد تكررت فيها عبارة )فبأي آلاء ربكما تكذبان(13)( (الرحمن) إحدى وثلاثين مرة، ويمكن أن نسجل عدة ملاحظات حول هذا التكرار منها:
أن هذا التكرار هو أكثر صور التكرار الواردة في القرآن على الإطلاق.
أنه قد مهد له تمهيدا رائعا، حيث جاء بعد اثنتي عشرة آية متحدة الفواصل، وقد تكررت في هذا التمهيد كلمة “الميزان” ثلاث مرات متتابعة دون نبو أو ملل، وهذا التمهيد قد أتاح مساحة كبيرة حتى كان بمثابة مقدمة طبيعية؛ لتألف النفس التكرار الذي سيرد بعد ذلك.
إن الطابع الغالب على هذه السورة هو طابع تعداد النعم على الثقلين: “الإنس والجن”، وبعد كل نعمة يعددها تأتي عبارة: )فبأي آلاء ربكما تكذبان(، وعلى هذا يمكن فهم التكرار في هذه السورة: على أنه تذكير وتقرير للنعمة، وأنها بمكان فلا يمكن إنكارها.
الموضع الرابع: التكرار في القصص القرآني:
ومن الملاحظ أن القصص القرآني يغلب عليه التكرار إلا في قصة واحدة، وهي قصة يوسف عليه السلام؛ وذلك لأنها تتحدث عن جريمة خلقية، وهي محاولة امرأة العزيز إغراءه، وفي سبيل صيانة الأعراض اكتفى القرآن بسوقها مرة واحدة، والقصص القرآني في جملته مسوق لغرضين:
أولهما: تسلية الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتثبيت فؤاده، وأنه لم يكن بدعا من الرسل، فهم خولفوا مثلما خولف، وحق على المخالفين العذاب ونصر الله رسله وجنده.
ثانيهما: تهديد المخالفين وزجرهم، وبيان مصير أمثالهم؛ لعلهم يقلعون عن غيهم.
وهذه الدواعي محققة في كل مرة ورد فيها التكرار، على أنه يمكن أن يلاحظ على تكرار القصص القرآني ما يلي:
عدم توحد الصياغة في كل موضع كررت فيه القصة؛ وفي هذا إيحاء بأنها جديدة متجددة دائما، وليس فيها سآمة أو ملل، بل ترويح وطرافة.
كذلك فإن المعاني التي تتحدث عنها القصة القرآنية لم تكن لمجرد التهديد أو التسلية، بل إن التكرار يحول المكرر إلى معتقد.
ومن عادة العرب إذا اهتمت بشيء أرادت تحقيقه: كررته، وكأنها تقيم التكرار مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء بحيث تقصد الدعاء.
إن في التكرار تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور، ألا ترى أنه لا سبيل لحفظ العلوم إلا بترداد ما يراد حفظه منها، وكلما زاد ترداده كان أمكن له في القلوب، وأوسع له في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان.
وهناك حقيقة مهمة، وهي أن الإشادة بجمال التكرار في القرآن لم يقتصر على العلماء العرب؛ بل إن كثيرا من المستشرقين قد شهدوا بذلك منهم: جردنبيادم كما نقل عنه عبد الكريم الخطيب في كتاب “الإعجاز القرآني”، ولا شك أن الفضل ما شهدت به الأعداء.
ولنأخذ مثالا على ذلك، ولتكن قصة آدم – عليه السلام – لنلحظ فوائد التكرار فيها:
هذه القصة وردت في سبع سور، في سبع مرات، وترتيب السور التي وردت فيها القصة حسب نزولها هي “في المكي”: (ص، الأعراف، طه، الإسراء، الحجر، الكهف). و “في المدني”: (البقرة).
ومن الواضح أن نصيب العهد المكي من القصة كان وفيرا بالقياس إلى العهد المدني، ولنأخذ موضعا واحدا لنلحظ أثر التكرار فيه: قال عز وجل: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)( (البقرة). وفي موضع آخر يقول: )فكلا( (الأعراف: 19).
لقد جاءت الآيتان بنسق واحد إلا في:
قوله – عز وجل – في البقرة: )وكلا( وفي الأعراف: )فكلا(.
قوله – عز وجل – في البقرة: )حيث شئتما(، وعدم وجودها في الأعراف.
ويمكن توجيه الاختلاف أن “السكن” في البقرة للإقامة، وفي الأعراف لاتخاذ المسكن، فلما نسب القول إليه عز وجل: )وقلنا يا آدم(؛ ناسب زيادة الإكرام بـ “الواو” الدالة على الجمع بين السكنـى والأكـل؛ ولذلك قـال فيـه: )رغـدا(، وقــال: )حيث شئتما(؛ لأنه أعم، أما في الأعراف فقد قال عز وجل: )يا آدم(؛ فأتى بـ “الفاء” الدالة على الترتيب، فالأكل يأتي بعد المسكن الذي أمر باتخاذه، وقوله: )حيث(، لا يعطي عموم “فكلا من حيث شئتما”.
ونلاحظ من خلال الشاهد الذي أوردناه:
أن المواضع التي كررت فيها القصة لا تكون غالبا بنسق واحد في الصياغة.
أن كل موضع منها يفيد معنى جديدا لا يستفاد من غيره من المواضع.
ولو ذهبنا نتتبع كل المواضع التي ورد فيها التكرار في القرآن الكريم، لوجدنا أنه يأتي لإفادة معان عظيمة في كل مرة، فضلا عما فيه من التوكيد، فأين موضع التشكيك الذي يتوهمه المتوهمون؟!
ومن البلاغة التي وردت في هذه الآية الكريمة: قوله عز وجل: )ولا تقربا هذه الشجرة(، فالمنهي عنه هو الأكل من ثمار الشجرة، وتعليق النهي بالقرب منها “ولا تقربا” القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل؛ إذ النهي عن القرب نهي عن الفعل بطريق أبلغ؛ كقوله تعالى: )ولا تقربوا الزنا( (الإسراء: ٣٢)؛ فنهى عن القرب من الزنا؛ ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه1.
وتكرار القصص في القرآن له حكم عديدة؛ منها:
بيان بلاغة القرآن في أعلى مراتبها: فمن خصائص البلاغة إبراز المعنى الواحد في صور مختلفة، والقصة المتكررة ترد في كل موضع بأسلوب يتمايز عن الآخر، وتصاغ في قالب غير القالب التي وردت فيه في موضع آخر، ولا يمل الإنسان من تكرارها، بل تتجدد في نفسه معان لا تحصل له بقراءتها في المواضع الأخرى.
قوة الإعجاز: فإيراد المعنى الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة منها أبلغ في التحدي.
الاهتمام بشأن القصة لتمكين عبرها في النفس: إذ التكرار من طرق التأكيد وأمارات الاهتمام؛ كما هو الحال في قصة موسى مع فرعون؛ لأنها تمثل الصراع بين الحق والباطل أتم تمثيل، فضلا عن أن القصة لا تكرر في السورة الواحدة مهما كثر تكرارها.
اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة: فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معاني أخرى في سائر المقامات، حسب اختلاف مقتضيات الأحوال.
(*) الاستشراق والقرآن العظيم، د. محمد خليفة، دار الاعتصام، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1994م. مناقشات وردود، محمد فريد وجدي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1415 هـ/ 1995م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م. www.islamyat.com .www.ebnmaraym.com
[1]. إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1928م، ص20 بتصرف يسير.
الادعاء أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة فنصب الفاعل
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة ونصب الفاعل في قولـــه ـ عز وجل ـ: )لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة) **، والصواب في ظنهم أن يقال: “الظالمون” بالرفع.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل أن يأتي الفاعل مرفوعا وعلامة رفعه قد تكون أصلية أو فرعية، وهذا ما نلحظه في لغة القرآن الكريم، أما ما يتوهمه بعضهم من أن القرآن نصب الفاعل، فوهم باطل من وجهين:
1) أن الفعل )ينال( فعل متعد، بمعنى: يشمل أو يعم أو ينفع، كما في الآية، أي: لا يشمل عهدي الظالمين، فـ “عهدي” هنا فاعل، والظالمين مفعول، به مثال ذلك: أن يقول الوالد لأبنائه: لا ينال رضاي العاقين، والفعل: )ينال( يأتي أيضا بمعنى “يصل لـ”، فيكون معنى الآية: لا يصل عهدي للظالمين؛ وعليه فلفظة “الظالمين” منصوبة على نزع الخافض، أو: لا يصل الظالمين عهدي، إذا قدمنا المفعول وأخرنا الفاعل.
2) أن الفعل: )ينال( يسند في اللغة إلى من يعقل وإلى ما لا يعقل، وكلا الاستعمالين صحيح فصيح.
التفصيل:
أولا. الفعل “نال” فعل متعد لمفعول واحد، قال الله عز وجل: )ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا( (الأحزاب: ٢٥)، فالفاعل “واو الجماعة” والمفعول “خيرا”.
أما في هذه الآية )لا ينال عهدي الظالمين( (البقرة)، فالفاعل “عهدي” مرفوع بضمة مقدرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لـ “ياء المتكلم”، والمفعول به هو “الظالمين”، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والمعنى: لا ينفع عهدي الظالمين، وليس في مجيء “الظالمين” منصوبا على المفعولية خلاف بين العلماء.
وقد جاء قوله عز وجل: )لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم( (الحج: ٣٧). على خلاف نسق آية البقرة التي نحن بصدد الحديث عنها؛ حيث جاءت على الترتيب الطبيعي: الفعل “ينال” ثم الفاعل “عهدي” ثم المفعول “الظالمين”. أما في آية الحج: )لن ينال الله لحومها(، فإن الذي تلا الفعل هو المفعول “لفظ الجلالة”، وما بعده “لحومها” هو الفاعل، والمعنى: لن يصل الله لحومها ولا دماؤها، وكذلك قوله: )ولكن يناله التقوى منكم( فالضمير في “يناله” هو المفعول به، أما “التقوى” فهي الفاعل[1].
ثانيا. ربما التبس الأمر على هؤلاء المتوهمين حين زعموا هذا الزعم؛ لأنهم توهموا أن الفعل “ينال” لا يسند إلا لمن يعقل، وأنه إذا اجتمع عاقل وغير عاقل، فلا بد من إسناد الفعل “ينال” إلى العاقل؛ فيكون هو الفاعل، وهذا توهم خاطئ؛ لأن الفعل “ينال” له استعمالان صحيحان في اللغة العربية:
أن يسند إلى من يعقل! فيكون بمعنى إدراك الشيء، والحصول عليه كما في قوله عز وجل: )لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون( (آل عمران: ٩٢).
أن يسند إلى غير العاقل، أو إلى معنى من المعاني؛ فيكون بمعنى وصوله إلى المفعول به، كما في قوله عز وجل: )لن ينال الله لحومها ولا دماؤها( (الحج: ٣٧)، وقوله عز وجل: )أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب( (الأعراف: ٣٧). والملاحظ أن الاستعمالين معناهما واحد؛ ولذا قال العلماء: إن كل ما نالك فقد نلته، والعكس صحيح.
وبهـذا يتضـح أن الآيــة الكريمـة: )لا ينــال عهــدي الظالميــن (124)( (البقرة) تخلو من الخطأ النحوي ومن غيره من الأخطاء، و قد يكون هذا معروفا لخصوم القرآن، ولكن الحقد الدفين هو الذي أعماهم وطبع على قلوبهم؛ فلم يروا الحق إلا باطلا، ولم يروا الصواب إلا خطأ، وهكذا سولت لهم أنفسهم، وما دروا أنهم هم المخطئون[2].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
العلة البلاغية في تقديم المفعول على الفاعل في قوله: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه( (البقرة: ١٢٤) العناية والاهتمام، فقد علل الموجهون ذلك بقاعدة نحوية تقرر وجوب تقدم المفعول على الفاعل إذا اتصل به ضمير يرجع إلى المفعول؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة، ويبين ابن عطية بلاغة ذلك فيقول: إن المفعول ههنا قد قدم على الفاعل للاهتمام؛ إذ كون الرب مبتليا معلوم، وإنما يهتم السامع بمن وقع عليه البلاء، وكون ضمير المفعول متصلا بالفاعل هو موجب تقديم المفعول متصلا بالفاعل، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام. ومعلوم أن القاعدة توظف في السياق تقديما وتأخيرا، فيختار لها الموضع المناسب والمعرض الحسن[3].
مبلغ الفصاحة وقوة البيان في هذه العبارة الموجزة )قال ومن ذريتي(، أي قال: واجعل من ذريتي أئمة للناس، وهو إيجاز في الحكاية عنه لا يعهد مثله إلا في القرآن.
ثم قال عز وجل: )لا ينال عهدي الظالمين(، أي: إنني أعطيك ما طلبت وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن عهدي بالإمامة لا ينال الظالمين؛ لأنهم ليسوا بأهل لأن يقتدى بهم؛ ففي العبارة من الإيجاز ما يناسب ما قبلها، وإنما اكتفى في الجواب بذكر المانع من منصب الإمامة مطلقا وهو الظلم لتنفير ذرية إبراهيم منه؛ لكيلا يقعوا فيه فيحرموا هذا المنصب العظيم،[4] “فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين، فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل”[5].
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م .www.ebnmaryam.com www.islameyat.com.
[1]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه، د. عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1423هـ/ 2002م، القسم الثالث، ص20.
[2]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه، د. عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1423هـ/ 2002م، القسم الثالث، ص20.
[3]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص204، 205.
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج1، ص456، 457.
[5]. التفسير الكبير المعروف بـ “مفاتيح الغيب”، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
الادعاء بأن القرآن الكريم يقضي بدخول الناس جميعا النار حتى المؤمنين
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم نص على دخول الناس جميعا النار حتى المؤمنين؛ وذلك في قوله عز وجل: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( (مريم)**، والمقصود من هذه الآية في زعمهم هو: “ما من أحد من الناس إلا داخل في جهنم”، حتى الذين آمنوا يدخلون، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم داخل في هذا العموم، فإن هذا الحكم منطبق عليه كذلك.
وجوه إبطال الشبهة:
فى المعاجم العربية: ورد فلان على المكان، وورد المكان: أشرف عليه، ومر به، دخله أم لم يدخله، وقد حمل المتوهمون المعنى على “الدخول”، وقطعوا بذلك، ولم ينتبهوا إلى أن الإشراف على المكان والمرور به لا يعنى دخوله.
والدليل على هذا المعنى قوله تعالى: )ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون( (القصص: ٢٣)، وهذا الوهم الذي توهموه وليد فهم واه، وجهل عميق بأبسط قواعد اللغة العربية وأساليبها، وكذلك المعلوم من الدين بالضرورة؛ لذلك فهو مردود من وجوه:
1) أن “الورود على جهنم” قضاء لازم، ومعناه: الجثو حواليها[1]، ولا يعني ذلك دخول الناس جميعا فيها.
2) أن “الورود” أمر ثابت، ويشمل الأتقياء وغيرهم؛ لأن الصراط – الذي يمر عليه الجميع – مضروب على متن جهنم، فـ “الورود” يعني المرور السريع، وليس البقاء فيها[2].
3) وقيل: إن “الورود” ليس لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وإنما هو خاص بالمشركين فقط[3].
التفصيل:
أولا. إن قوله تعالى: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( خطاب عام لجميع الخلق دون استثناء؛ بدليل قوله – عز وجل – بعدها: )ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)( (مريم)، يعنى الجثو هنا حواليها والاقتراب منها،[4] والدليل ما جاء في آية أخرى، والذي يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع حسيسها، قوله تعالى: )إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (102)( (الأنبياء).
فمعنى قوله: “مبعدون” أي: عن عذاب النار وألمها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبين منها؛ فيكون الورود بمعنى القرب ومثله قوله تعالى: )ولما ورد ماء مدين(، فـ “الورود” يعني القرب[5]، وقال زهير:
فلما وردن الماء زرقا جمامه
وضعن عصي الحاضر المتخيم [6]
وذكر الراغب الأصفهاني أن “الورود” أصله قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، يقال: وردت الماء، أرد، ورودا، وقوله: )وإن منكم إلا واردها(، فقد قيل: منه وردت ماء كذا: إذا حضرته، وإن لم تشرع فيه، وقيل: بل يقتضي ذلك الشروع، ولكن من كان من أولياء الله الصالحين لا يؤثر فيهم؛ بل يكون حاله فيها كحال إبراهيم عليه السلام؛ حيث قال تعالى: )قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69)( (الأنبياء)[7].
و “الورود على جهنم” أمر ثابت بالكتاب والسنة، فمعنى قوله: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71)( أي: إنكم جميعا – متقين ومجرمين – ستردون النار وترونها؛ لأن الصراط الذي يمر عليه الجميع مضروب على متن جهنم.
وقد ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «يوضع الصراط بين ظهراني جهنم، عليه حسك كحسك السعدان[8]، ثم يستجيز الناس، فناج مسلم، ومخدوش به ثم ناج، ومحتبس به، ومنكوس[9]، ومكدوس فيها»،[10] [11] ولعل الحكمة في ورود المؤمن جهنم معرفته نعمة الله عليه، فإذا رأى المؤمن النار التي نجاه الله منها يحمد الله، ويعلم نعمته ورحمته به.
وتعقيبا على ما سبق يقول القرطبي: اختلف الناس في “الورود”، فقيل: “الورود”؛ أي: الدخول، وقيل: “الورود”: الممر على الصراط المستقيم، وإنما نقول: وردت البصرة، ولم أدخلها، فالورود أن يمروا على الصراط، وفي الحديث: «ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، فيقولون: اللهم سلم سلم، وقيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: “دحض مزلة [12] فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد، فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، والطير، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم»،[13] وبه احتج من قال: إن الجواز على الصراط هو “الورود” الذي تضمنته هذه الآية لا الدخول فيها، وقالت فرقة: “بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب، وهو بقرب جهنم، فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه”[14].
ثانيا. وقيل: إن معنى “الورود” في قوله سبحانه وتعالى: )وإن منكم إلا واردها( هو الجواز على الصراط، أو الرؤية، أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من المسيس[15]؛ لأن النار ستكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم عليه السلام، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم[16].
وقوله تعالى: )كان على ربك حتما مقضيا (71)( الحتم: إيجاب القضاء، أي: “كان ذلك حتما مقضيا”؛ أي: قضاه الله تعالى عليكم، وقال ابن مسعود: أي: “قسما واجبا”[17]؛ وعلى هذا فإن معنى هذه الآية: أنه ما من أحد إلا وارد جهنم، أي: بالغ إياها مار بها، أما النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون فيجاوزونها إلى الجنة، وأما العصاة والكافرون فيسقطون فيها جزاء وفاقا لأعمالهم.
ثالثا. وقيل: إن المقصود بـ “الورود” في الآية الكريمة ليس جميع الناس؛ بل هو خاص بالمشركين فقط؛ فالخطاب في “وإن منكم” التفات عن الغيبة في قوله: “لنحشرنهم” و “لنحضرنهم”؛ فعدل عن”الغيبة” إلى “الخطاب” ارتقاء في المواجهة بالتهديد؛ حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة؛ فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة، ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها[18].
وعن ابن عباس أنه قال في قوله: “وإن منكم إلا واردها”: هذا خطاب للكفار، وروي عنه أنه كان يقرأ: “وإن منهم” ردا على الآيات التي قبلها في الكفار، في قوله: )فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68)( (مريم)، وكذلك قرأ عكرمة – رضي الله عنه – وجماعة، وعلى هذا فإن المراد بـ “منكم”: الكفرة فقط دون المؤمنين؛ لأن الكاف في “منكم” راجعة إلى “الهاء” في “لنحشرنهم”، وهذا نظير قوله تعالى: “وإن جهنم لموعدهم أجمعين”، فالمقصود الكافرون دون المؤمنين.
ومن ثم فليس الخطاب في قوله: )وإن منكم إلا واردها( لجميع الناس، مؤمنهم وكافرهم؛ لأن فضل الله على المؤمنين بالجنة وتشريفهم بالمنازل الرفيعة ينافى أن يسوقهم مع المشركين مساقا واحدا، كيف وقد قال الله عن المتقين: )يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85)( (مريم)، بينما أخبر عن الكافرين بقوله: )ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86)( (مريم)؟ وعلى هذا فقد زالت هذه الشبهة واتضح وجه الحق فيها[19].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
استخدام حرف “إن” دلالة على النفي، وعدم استخدام الفعل “ليس”؛ لأن الحرف يفيد الثبات والديمومة بخلاف الفعل المؤقت بزمن معين.
الالتفات في الخطاب في “وإن منكم” التفات عن الغيبة في قوله: “لنحشرنهم” و “لنحضرنهم”؛ وقد عدل عن “الغيبة” إلى “الخطاب” ارتقاء في المواجهة بالتهديد؛ حتى لا يبقى مجال للالتباس المراد من ضمير الغيبة، فإن ضمير الخطاب أعرف من ضمير الغيبة، ومقتضى الظاهر أن يقال: وإن منهم إلا واردها[20].
استخدام طائفة من المؤكدات: “كان”، “على ربك”، “حتما” في قوله تعالى: )كان على ربك حتما مقضيا (71)(؛ حيث استخدم الفعل الماضي “كان” الذي يدل على تمكن الحدث، وكذلك استخدام “على ربك” وهي متعلقة بالفعل “كان”، أضف إلى ذلك أن “على” تفيد الإلزام، وحاشا لله أن يلزمه أحد بشيء، وإنما يدل هذا على تأكيد تنفيذ ما توعد به، وانتهاء الآية بـ “حتما مقضيا” يفيد لزوم ما قضى الله به.
وبذا يتضح بجلاء مدى دقة القرآن الكريم ونزاهته عما تجرأ هؤلاء من الافتراء عليه.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج2، ص808، 509.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، مج15، ص9155.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص150.
[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج15، ص9154.
[5]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج1، ص150.
[6]. قال الزوزني في شرحه للمعلقات السبع: “فلما وردت هذه الظعائن الماء ـ وقد اشتد صفاء ما جمع منه في الآبار والحياض ـ عزمن على الإقامة كالحاضر المبتني الخيمة، ومعنى الجمام: هو ما اجتمع من الماء في البئر والحوض وغيرهما. (انظر: شرح المعلقات السبع، الزوزني، تعليق: محمد فوزي حمزة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 1427 هـ/ 2006م، ص63).
[7]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص519، 520.
[8]. حسك السعدان: هي عشبة تضرب إلى الصفرة، ولها شوك يسمى الحسك، لا يكاد أحد يمشي عليه إذا يبس إلا من في رجليه خف أو نعل.
[9]. مكدوس في النار: مدفوع فيها، وتكدس الإنسان: إذا دفع من ورائه فسقط.
[10]. المنكوس: المطأطئ رأسه من الذل والهوان.
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، (11096)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر البعث (4280)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8189).
[12]. دحض مزلة: بمعنى واحد، وهو الموضع الذي تزل فيه القدم.
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ) وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ( (القيامة)، (7001)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (472).
[14]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص137 بتصرف.
[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص139.
[16]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج1، ص150.
[17]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص141.
[18]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص149.
[19]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص149.
[20]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص150.
التشكيك في صحة قصة نوح – عليه السلام – في القرآن
مضمون الشبهة:
يشكك بعض المتوهمين في قصة نوح – عليه السلام – التي جاء ذكرها في القرآن الكريم؛ إذ يصفونها بالاضطراب، لأنه يذكر مرة أنه نجى نوحا وأهله في قوله سبحانه وتعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء)، ثم يذكر القرآن أن أحد أبناء نوح كان مصيره الغرق؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود).
وجه إبطال الشبهة:
ذكر القرآن الكريم أن الله تعالى نجى نوحا – عليه السلام – ومن آمن معه من أهله وقومه استجابة لدعوته عليه السلام، وأما الكافرون فالهلاك والغرق كان مصيرهم، وإن كانوا من أهله، ولا اضطراب ولا تناقض فيما أخبر به القرآن بشأن نوح – عليه السلام – وقصته.
التفصيل:
لم يقل القرآن الكريم إن أهل نوح – عليه السلام – نجوا جميعا، وذكره في بعض الآيات أن أهله نجوا لا يتنافى مع ذكره أن بعض أهله لم ينج، قال سبحانه وتعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء)، قال سبحانه وتعالى: )ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الصافات)، وقال سبحانه وتعالى: )ثم أغرقنا الآخرين (82)( (الصافات)، قال سبحانه وتعالى: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40)( (هود).
وذكر القرآن أن من الذين لم يؤمنوا به ولم يتبعوه، ابنه وزوجته قال سبحانه وتعالى: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود)، قال سبحانه وتعالى: )قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود).
فالقرآن يفسر بعضه بعضا. والمطلق فيه يحمل على المقيد فلا تناقض إذن، فأهل نوح هم المتقون الذين آمنوا به، ومن لم يؤمن به – ولو كان ابنه – لم يستحق أن ينسب إليه قال سبحانه وتعالى: )قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)( (هود). ونسبة الإيمان تجعل من صاحبها أهلا للنبي، وإن لم يكن بينه وبين النبي نسب.
استجاب الله – عزوجل – لدعوة نبيه نوح – عليه السلام – ونجاته وأهله من الكرب العظيم:
قال سبحانه وتعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء). يخبر الله تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح – عليه السلام – حين دعا من قبل إبراهيم ولوط ومحمد – عليهم أفضل الصلاة والسلام – أن يهلك الله قومه الذين كذبوا الله فيما توعدهم به من وعيد، وكذبوه فيما أتاهم به من الحق من عند ربه قال سبحانه وتعالى: )وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26)( (نوح). (فاستجبنا له) دعاءه (ونجيناه وأهله) يعني بأهله أهل الإيمان من ولده وحلائلهم: )من الكرب العظيم (76)( أي العذاب الذي حل[1] بالمكذبين من الطوفان والغرق، وقال سبحانه وتعالى: )ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)( (الأنبياء) أي ونصرنا نوحا – عليه السلام – على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فأنجيناه منهم فأغرقناهم أجمعين إنهم كانوا قوم سوء، أي: يسيئون الأعمال فيعصون الله ويخالفون أمره[2].
الخلاصة:
ذكر القرآن الكريم أهل نوح – عليه السلام – الحقيقيين وهم من آمن به، أما من انقطعت صلة الإيمان عنهم؛ فلا يستحقون أن ينسبوا إليه، أو أن يكونوا من أهله، قال سبحانه وتعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء). وقال سبحانه وتعالى: )قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46)( (هود). فنسبة الإيمان تجعل من صاحبها أهلا للنبي وإن لم يكن بينه وبين النبي نسب.
استجاب الله – عزوجل – لدعوة نبيه نوح – عليه السلام – ونجاه وأهله من الكرب العظيم، )ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الصافات)، وقال سبحانه وتعالى: )ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)( (الأنبياء)، أي: ونصرنا نوحا – عليه السلام – على القوم الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فأنجيناه منهم وأغرقناهم أجمعين إنهم كانوا قوم سوء فاسقين.
(*) Ebnmaryam.com.
[1]. حل: نزل بهم.
[2]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص258. وانظر: قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م ، ص26: 36. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص133: 144.
الزعم أن اختلاف القراءات القرآنية يؤدي إلى اختلاف في ألفاظ القرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن اختلاف القراءات القرآنية[1] يغير ألفاظ القرآن، ويتناقض مع ما في اللوح المحفوظ، ويعارض ما يرويه المسلمون من تأكيد الله – عز وجل – على عدم وجود اختلاف فيه.
وجوه إبطال الشبهة:
القراءات القرآنية توقيفية من عند الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منها»[2]، وقد وضع العلماء للقرءات شروطا وقواعد، بحيث تصب جميعا في معين واحد.
وقد زعم بعض أصحاب الشبهات أن اختلاف القراءات في بعض المواطن في القرآن الكريم يغير المعنى، ويناقض ما في اللوح المحفوظ، ويتعارض مع تأكيد الله – عز وجل – أن القرآن لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يتساءلون: كيف يتحقق اتفاق المعنى مع وجود اختلاف في بعض الألفاظ باختلاف القراءات؟!
وهذا الزعم مردود عليه بما يلي:
1) القراءات القرآنية وحي من عند الله عز وجل، والآية التي تنفي الاختلاف هي كذلك من عند الله عز وجل، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، فكيف يرد التناقض من عنده عز وجل؟ ثم إن اختلاف القراءات لا يشمل كل كلمات القرآن، بل يرد في كلمات محددة، بالإضافة إلى أن التغير أكثره صوتي؛ ومن ثم فلا أثر على المعنى، إذ لا يوجد تدافع بين المعاني الناشئة عن ذلك الاختلاف. ولا على الأحكام في عمومها وجملتها.
2) إن الكلمة التي تقرأ على وجهين أو أكثر، يكون لكل قراءة فيها معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه، فقراءة الكلمة القرآنية على أكثر من وجه نحوي أو صرفي، مما يساعد على أداء المعنى، ولا يعني تضاد المعاني أو تناقض المدلولات.
3) للتعدد حكم عديدة منها: التيسير على الأمة ذات اللهجات المتعددة والألسنة المتباينة؛ حتى لا يشق عليها التزام وجه واحد في القراءة.
4) الاختلاف في القراءات يعني: التنويع في طرق أداء القرآن، كما أنه لا يمس أصلا، ولا فرعا من التشريع؛ فالقراءات لم تحرم حلالا، ولم تحل حراما، أما الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه فهو الذي ينفيه القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. القراءات القرآنية وحي من الله – عز وجل – وسنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة على ذلك كثيرة، حيث تواترت نصوص السنة المطهرة بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، ومن ذلك:
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرآني جبريل – عليه السلام – على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»[3].
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان عند أضاة[4] بني غفار، قال: “أتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا»[5].
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقرآني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام”، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها في الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هكذا أنزلت”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اقرأ يا عمر”، فقرأت القراءة التي أقرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها»[6].
والمراد بالأحرف السبعة – على أرجح الأقوال – أنها سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد[7].
كما أن تعدد القراءات لا يشمل آيات القرآن الكريم كاملا، بل يختص ببعض الكلمات في بعض الآيات، وقد أحصاها العلماء، وبينوا وجوه القراءات فيها.
وعلى سبيل المثال قوله تعالى: )مالك يوم الدين (4)( (الفاتحة)، والشاهد في الآية كلمة: )مالك( وفيها قراءتان:
مالك: اسم فاعل من ملك، وهي قراءة حفص وآخرين.
ملك: صفة لا اسم فاعل، وهي قراءة: نافع وآخرين.
ومعنى الأولى )مالك(: القاضي المتصرف في شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة، أما معنى “ملك”: فهو أعم من معنى )مالك(، أي: من بيده الأمر والنهي، ومقاليد كل شيء، ما ظهر منها وما خفي، وكلا المعنيين لائق بالله تعالى، وهما مدح لله عز وجل[8].
ثانيا. تعدد القراءات يثري المعنى؛ حيث إن القراءات القرآنية لا تؤدي إلى خلل في آيات القرآن الكريم، أو في تغير المعنى كما يزعمون، ونضرب مثالا على ذلك، قوله تعالى: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)( (يونس)، وقوله تعالى في قراءة أخرى: “نفصل الآيات”.
وفاعل الفصل في القراءتين واحد هو “الله”، وقد اختلف التعبير عن الفاعل في القراءتين، فهو في القراءة الأولى “يفصل”: ضمير مستتر عائد على “الله” في قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق(، أي: يفصل هو الآيات، فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد لفظ الجلالة “الله”.
وفي القراءة الثانية عبر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم “نفصل”؛ أي: نفصل نحن، والله واحد أحد، ولكن النون في “نفصل” لها معنى في اللغة العربية، وهو التعظيم إذ كان المراد منهما فردا لا جماعة، ووجه التعظيم بلاغة تنزيل الفرد منزلة الجماعة؛ تعظيما لشأنه، وإجلالا لقدره.
وفي هاتين الآيتين تكثير للمعنى، وهو وصف ملازم لكل القراءات[9].
ثالثا. الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف كثيرة ومتنوعة؛ منها:
تيسير القراءة والحفظ على أقوام أميين، لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلا عن أن يكون ذلك مما ألفوه، وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث النبوية، ومن ذلك: عن أبي – رضي الله عنه – قال: «لقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جبريل عليه السلام، فقال: “يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام،، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط”، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف»[10].
المبالغة في إعجاز القرآن بإيجازه؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، وتنوع اللفظ بكلمة يقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها، لم يخف ما كان في ذلك من التطويل.
سهولة حفظه وتيسير نقله؛ إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه، وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، ولا سيما فيما كان خطه واحدا؛ فإن ذلك أسهل حفظا وأيسر لفظا.
الدلالة على اختلاف الأحكام أو على الجمع بينها، مثال ذلك قراءتا “يطهرن” بالتخفيف والتشديد[11]، من قوله تعالى: )فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢)، فإنه ينبغي الجمع بين حكميهما؛ لأن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر بانقطاع الحيض على قراءة التخفيف، وحتى تغتسل على قراءة التشديد، فلا بد من الطهرين معا.
ونضيف إلى الفوائد السابقة فائدة أخرى، وهي: أن اختلاف القراءات صار حجة لأهل اللغة؛ فالكوفيون – على سبيل المثال – يستدلون على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة “والأرحام” بكسر الميم من قوله سبحانه وتعالى: )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( (النساء:١) [12].
رابعا. إن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث – نعني أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف – غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن؛ نقول ذلك لأن أعداء الإسلام يقولون: إن أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تثبت الاختلاف في القرآن، مع أن القرآن نفسه يرفع الاختلاف عن نفسه، إذ يقول: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، ويقولون: إن ذلك تناقض، ولا ندري أيهما يكون الصادق؟!
ونجيب عن هذا: أن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن، وهذا كاف في دفع التناقض، فكلاهما صادق، وبيان ذلك: أن الأحاديث الشريفة تثبت الاختلاف بمعنى التنويع في طرق أداء القرآن، والنطق بألفاظه في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف، وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما القرآن، فينفي الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه، مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ وطرق الأداء. ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض ولا تخاذل، ولا تضاد ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه، وتعاليمه ومراميه بعضها مع بعض، بل القرآن كله سلسلة واحدة متصلة الحلقات، محكمة السور والآيات، متآخذة المبادئ والغايات، مهما تعددت طرق قراءاته، ومهما تنوعت فنون أدائه[13].
كما أن الاختلاف في القراءات لا يمس أصلا من أصول الدين، ولا فرعا من فروعه؛ حيث إنها لم تحل حراما، ولا حرمت حلالا، ولا تتعلق بالعقائد ولا العبادات، ولا المعاملات، ولم تثر بين المسلمين حربا، ولا عدها أحد شبهة على الكتاب الإلهي، فكل كلام في هذا الموضوع من قبيل العبث، أو الفهم الخاطئ لطبيعة هذه القراءات والحكمة من تعددها؛ فلا يقام له وزن عند المسلمين أو عند غيرهم.
ونستدل على أن المسلمين يعتبرون اختلاف القراءات أمرا مشروعا بأن قراء القرآن يرتلون آياته مع مراعاة هذه الاختلافات؛ فيكررون بعض الآيات على ضروب شتى، مما يدل على تمكنهم من فنهم، والمسلمون يقابلون ذلك بالتقدير والإعجاب.
فمثلا: الإمالة: تجد القارئ يستسيغها هنا، ولا يستسيغها هناك، وإذا سألته قال: هناك وردت، وهنا لم ترد، فيدل على أنه متبع مقلد، وهذا ينبئ أن يد التحريف لم تنل من هذا الكتاب.
نعم إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لم تنل منه أيدي المحرفين، وهذا ليس بشهادة جموع المسلمين فحسب، بل بشهادة المستشرقين المنصفين، قال المستشرق لوبلوا: “إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير”.
وصفوة القول: إن تعدد القراءات وحي من عند الله – عز وجل – ما كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولا أمته من بعده أن يخترعوه من تلقاء أنفسهم، بل هو تيسير ورحمة من الله لعباده، وهي كلها مسموعة من جبريل – عليه السلام – ومنه لعامة المؤمنين، ثم شيوخ القرآن في الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أن تعدد القراءات لا يشمل إلا كلمات محصورة في بعض الآيات التي يعلمها أهل هذا الفن.
كما أن هناك حكما جليلة لتعدد القراءات؛ من أهمها: التيسير على الأمة ذات اللهجات المتعددة. ونضيف إلى ما سبق أن تعدد القراءات لا يعني اختلاف القرآن ولا تحريفه، إنما هو نطق ألفاظ القرآن كما نطقها النبي – صلى الله عليه وسلم – على وجوه من التصريف، والإعراب، والكيفية الصوتية من تشديد وتخفيض، وفتح وإمالة.
وتعدد القراءات لم يترتب عليه أي اختلاف لا في أصول الدين ولا في فروعه، وإنما هي طرق أداء صوتية، أكثر منها نحوية وصرفية، لم ينتج عنها أي اختلاف في المعاني والألفاظ.
وبهذا البيان يتضح لنا أن مثيري الشبهة جهلوا معنى تعدد القراءات، وجهلوا فوائدها، فجاء زعمهم ينم عن جهلهم.
الإعجاز البلاغي في تعدد القراءات القرآنية:
لو كان هناك إنصاف لكانت الكلمات القرآنية التي تقرأ على وجهين أو أكثر مما يحمد للقرآن؛ حيث إن ذلك التعدد يعد من قبيل ثراء النص القرآني وإعجازه.
وندلل على ذلك من خلال بعض الآيات القرآنية التي قرئت بأكثر من قراءة:
قوله سبحانه وتعالى: )وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين( (المائدة: ٦) بالنصب والخفض في “أرجلكم”، وهذا من إعجاز القرآن في إيجازه؛ ففي قراءة النصب بيان لحكم غسل الرجل؛ حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل: )فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق( (المائدة: ٦). وقراءة الجر بيان لحكم المسح على الخفين عند وجود ما يقتضيه؛ حيث يكون العطف على معمول فعل المسح: )وامسحوا برءوسكم وأرجلكم(، فنستفيد الحكمين من غير تطويل، وهذا من معاني الإعجاز في الإيجاز بالقرآن؛ حيث تدل كل قراءة على حكم شرعي دون تكرار اللفظ[14].
قوله تعالى: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)( (يونس)، )ونفصل الآيات( (التوبة: ١١)، وفاعل الفصل في القراءتين واحد، هو “الله” عز وجل، وقد اختلف التعبير عن الفاعل في القراءتين، فهو في القراءة الأولى “يفصل”: ضمير مستتر عائد على الله – عز وجل – في قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق( فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد، هو لفظ الجلالة “الله”. وفي القراءة الثانية عبر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم “نفصل”؛ أي: نفصل نحن.
والله واحد أحد، ولكن النون في “نفصل” لها معنى في اللغة العربية، هو التعظيم إذا كان المراد منها فردا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغة تنزيل الفرد منزلة “الجماعة”؛ تعظيما لشأنه، وإجلالا لقدره.
وللبلاغيين إضافة حسنة في قراءة “نفصل” بعد قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق( وهو ما يسمى: التفاتا، والالتفات هو الانتقال من الغيبة في )ما خلق الله( إلى المتكلم في “نفصل”؛ للإشعار بعظمة التفصيل وروعته[15].
قوله تعالى: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم( (التوبة: ١٢٨)، بضم الفاء وفتحها في )أنفسكم(، فبضم الفاء: يدل على أنه من العرب، والعرب قومه، وذوو رحمه القريبة أو البعيدة، وبفتح الفاء: يدل على أنه من أواسط القوم وأعلاهم، فالقراءتان – والكلمة واحدة – تدلان بالنص على معنيين غير متضادين، وكلاهما صحيح صادق، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان من العرب، وكان من أنفسهم، ترتبط مشاعره بمشاعرهم، ويحس بما يحسون، وهو مندمج فيهم، وقريب منهم، ثم كان مع هذا القرب النفسي من أعلى العرب منزلة، وأكرمهم. [16] فبلاغة القرآن في هذه الآية هي أن مجموع القراءتين دال على معنيين في لفظ واحد، متلاقيين غير متضادين.
قوله تعالى: )وبرزت الجحيم لمن يرى (36)( (النازعات)، حيث قرئت “ترى” بالتاء المفتوحة، وقد احتملت القراءة عند ابن جني تقديرين، قال: إن شئت كانت التاء في “ترى” للجحيم، أي: لمن تراه النار، وإن شئت كانت خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: لمن ترى يا محمد؛ أي: للناس، فأشار إلى بعضه، وغرضه جنسه وجميعه، كما قال لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
فأشار إلى جنس الناس في هذا المعنى، ونحن نعلم أنه ليس جميعه مشاهدا حاضر الزمان.
قوله تعالى: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين( (الأحزاب: ٤٠) بفتح التاء وكسرها في “خاتم”؛ فالقراءة بكسر التاء: جاءت على معنى أنه – صلى الله عليه وسلم – قد ختمهم، أي: جاء آخرهم. أما القراءة بفتح التاء: فمعناها أن الأنبياء والرسل به – صلى الله عليه وسلم – قد ختموا كالخاتم والطابع، فهي على ذلك تشبيه[17].
قوله تعالى: )يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)( (آل عمران)، بفتح همزة أن وكسرها؛ فقراءة فتح الهمزة تجعل “الواو” عاطفة، تربط ما بعدها بما قبلها في الحكم والإعراب، وتكون الجملة حينئذ داخلة في حيز ما يستبشر به الشهداء والمؤمنون. أما قراءة كسر الهمزة فتجعل “الواو” استئنافية، مما يرشح الجملة بعدها لإنشاء معنى جديد[18].
قوله تعالى: )إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40)( (الأعراف)، حيث قرئت “الجمل”؛ وعلى القراءة العامة “الجمل” يكون التركيب تشبيها في غاية الحسن؛ وذلك أن الجمل أعظم حيوان عند العرب، وأكبر جثة. وسم الإبرة في غاية الضيق، فلما كان المثل يضرب بعظم هذا وكبره، وبضيق ذلك، قيل: لا يدخلون الجنة حتى يتقحم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأشياء وأصغرها؛ فكأنه: حتى يوجد هذا المستحيل. ومثله في المعنى قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: “الجمل” وكلها لغات في “القلس”[19].
فإذا ما أردنا أن نتبين الفرق بين المدلولين على كلتا القراءتين، وجدنا ثم مدلولا يراعي المناسبة، ومدلولا آخر لا يراعي تلك المناسبة، وإنما تتأتى بلاغته من تلك المفارقة العجيبة التي صور بها استحالة دخول هؤلاء الجنة باستحالة ولوج الجمل في سم الخياط، ولذلك كانت أوقع تأثيرا في نفوس المتلقين؛ كما نجد أن التشبيه في الآية على كلتا القراءتين لم يأت على صورته المعهودة، فلا نرى تصريحا لركنيه، ولكنهما يلمحان من السياق، ويفهمان من المعنى، وذلك ما اصطلح البلاغيون على تسميته بالتشبيه الضمني[20].
ولعله يحسن أن نختم القول في هذا الموضوع بقول المستشرق د. موير: “إن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه، قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى عهد الخليفة عثمان – رضي الله عنه – الذي مات مقتولا”[21].
وصدق الله العظيم إذ يقول: )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، فتبارك من هذا كلامه.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي.
[1]. القراءات: جمع قراءة، وهي مصدر قرأ؛ أي: نطق باللفظ، وتعريفها: صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة والمنسوبة إلى أئمة معينين ناقلين لها؛ كقراءة نافع وأبي عمرو.. إلخ
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4706)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3047)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1939).
[4]. الأضاة: المستنقع أو الغدير.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1943).
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4706)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936)، واللفظ للبخاري.
[7]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص148.
[8]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص42.
[9]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص49.
[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21242)، والترمذي في سننه، كتاب القراءات، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (2944)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[11]. قرأها الجمهور بالتخفيف، وقرأ بالتشديد حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل.
[12]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص21.
[13]. مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، ص157.
[14]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص170 بتصرف يسير.
[15]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص49.
[16]. المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص49 بتصرف يسير.
[17]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص392 بتصرف يسير.
[18]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص379.
[19]. القلس: حبل غليظ يجمع من حبال كثيرة، فيفتل، وهو حبل السفينة، وقيل: الحبل الذي يصعد به النخل.
[20]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص396 بتصرف يسير.
[21]. مدخل إلى القرآن الكريم، محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط5، 1424 هـ/ 2003.
الزعم أن القرآن الكريم به ألفاظ تجرح الحياء
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم به ألفاظ تجرح الحياء؛ وذلك كلفظ “مني” في قوله عز وجل: )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36) ألم يك نطفة من مني يمنى (37)( (القيامة)، ولفظ “الفروج” في قوله عز وجل: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور: 31)، ولفظ “الحور العين” في قوله عز وجل: )وزوجناهم بحور عين (20)( (الطور)، ولفظ “الترائب” في قوله عز وجل: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، إلى غير ذلك من الألفاظ**.
وجها إبطال الشبهة:
العربية الفصحى لغة مهذبة، ولقد نزل القرآن بها؛ فحافظ على نقائها، واستخدم من الأساليب أحسنها، ومن الألفاظ أعذبها، ومن التراكيب أفضلها.
وقد زعم بعض المغالطين أن بالقرآن الكريم ألفاظا تجرح الحياء؛ مثل: “المني” في قوله تعالى: )ألم يك نطفة من مني يمنى (37)( (القيامة)، ومثل: “الفروج” و “الفرج” في مثل قوله تعالى: )وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن( (النور)، وقوله تعالى: )التي أحصنت فرجها( (التحريم:12)، ومثل: “الحور العين” في قوله تعالى: )وزوجناهم بحور عين (20)( (الطور)، ومثل: “الترائب” في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق).
وهذا الزعم باطل مردود عليه من وجهين هما:
1) استعراض معاني الكلمات التي استدلوا بها ينفي هذه الشبهة؛ إذ إن:
“المني”: النطفة، وهي سائل مبيضي غليظ تسبح فيه الحيوانات المنوية وهو ماء الرجل الذي يكون منه الولد، فهل في التعبير به ما يخدش الحياء؟
“الفرج”: هو الشق بين الشيئين، وكني به عن السوءة، والتعبير بالكناية أهذب من التصريح، فأي خدش للحياء في هذه الكناية؟
“الحور العين”: هن نساء أهل الجنة وأطلق عليهن ذلك لحسنهن وجمال عيونهن الزائد، فهل في هذا ما يخدش الحياء؟
“الترائب”: هي عظام الصدر مما يلي الترقوتين وموضع القلادة، وهذه تسمية شائعة عند العرب ولا حرج فيها.
2) هل هذه المفردات هي ما يخدش الحياء؟ أم تلك النصوص الكاملة في الكتب المحرفة التي تمتلئ بما يهيج الشهوات ويصف الفواحش.
التفصيل:
إن هذه الكلمات التي ادعى بعضهم أنها تجرح الحياء: “المني”، “الفرج”، “الحور العين”، “الترائب” إنما هي في الحقيقة ألفاظ مهذبة تعبر عن معانيها في صراحة ووضوح مع الأدب الرفيع والحياء الجم، في أسلوب يربي الحياء وينشئه في النفوس، وتعبير جميل يزرع الفضيلة ويقيمها في المجتمعات، وهذا النبع الصافي هو الذي تربى عليه أصحاب الفضائل، والهمم العالية الذين ضربوا أروع الأمثلة في فضائل الأخلاق ومحاسن الأعمال، وإن الخاطر ليتساءل: كيف جرحت هذه الكلمات القرآنية حياء هؤلاء المجروحين في عدالتهم؟! ولماذا هم – من دون خلق الله كلهم – الذين أثرت في حيائهم وخدشته؟! وهم يتفوهون، بل ويفعلون ما هو أشد شناعة، وأعظم قبحا من ذلك، ويشيع في كتاباتهم وموروثاتهم الثقافية، ومروياتهم الدينية ما يندى له الجبين من الألفاظ التي تشمئز منها النفوس الطيبة وتقشعر منها القلوب الطاهرة.
إن هذه الكلمات لا يوجد أدق ولا أشد تهذيبا منها في مواضعها وسياقاتها، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها ليضعوها في أماكنها لما أدت نفس المعنى بنفس البلاغة والبيان والذوق المؤدب الرفيع؛ فاللغة مليئة بالألفاظ والكلمات التي تعبر عن نفس المعاني المرادة، ولكنها كلمات سوقية بعيدة عن الحياء؛ فابتعد التعبير القرآني عنها، وآثر اللفظ المهذب الذي يدل على المعنى ولا يثير الشهوة الجنسية، بل يسمو بالمشاعر ويوجهها نحو الكمال، ويضبط العواطف والغرائز إلى الصواب والرشاد.
ونحن ندعو الذين يزعمون هذا الزعم أن يتأملوا دقة القرآن وبلاغته في اختيار هذه الألفاظ للتعبير عن الدلالات المقصودة منها، كما ندعوهم أيضا إلى أن يأتوا لنا ببديل لهذه الألفاظ للتعبير عن هذه الدلالات بهذه الدقة القرآنية، إذا كانت الألفاظ التي استخدمها القرآن لا تعجبهم.
وهنا يجدر بنا أن نستعرض معنى كل لفظ من هذه الألفاظ ودلالته بتفصيل أكثر؛ ليتبين بطلان ما زعموا:
أولا. معاني الكلمات التي استدلوا بها تنفي هذه الشبهة:
المني:
من خلال مطالعة المعاجم نجد أن هذا اللفظ يعني: النطفة، وهو سائل أبيض غليظ تسبح فيه الحيوانات المنوية، ومنشؤه إفراز الخصيتين، ونجد أن كل موضع أو سياق ورد فيه هذا اللفظ في القرآن الكريم، إنما كان حكاية لخلق الإنسان بأسلوب مهذب، وليس فيه ما يخدش الحياء.
فالقرآن الذي يصور لنا العلاقة بين المرأة والرجل في قوله عز وجل: )هن لباس لكم وأنتم لباس لهن( (البقرة: ١٨٧) يصورها بكناية بديعة؛ حيث شبه الزوجين وهما في مخدعهما باللباس المشتمل على لابسه، والمراد: قرب أحدهما من الآخر، واشتماله عليه كما تشتمل الملابس على الأجسام، أين هذا من الكلام الفاضح الذي ينشر صباح مساء في الروايات الفاضحة، وأغلفة المجلات والصحف، وما يشاهد في القنوات الفضائية من ممارسة الفاحشة بدون تستر كالحيوانات؟!
ولنتساءل: ما البديل إذا أردنا أن نتحدث عن قضية خلق الإنسان غير هذا اللفظ إن كنتم ترون أنه خادش للحياء؟
الفرج:
تذكر المعاجم العربية أن “الفرج” هو: الثغر، والشق بين شيئين[1]، وما بين الرجلين، وكني به عن السوءة وغلب عليها وكثر حتى صار كالصريح، وهو قبل الإنسان أو دبره، ولعل هذا أرقى لفظ يمكن أن يطلق على العورة، وإلا فما البديل الأكثر تهذيبا، أو مراعاة للحياء إذا كان لفظ الفرج يجرح الحياء؟!
الحور العين:
كان الأولى بمن ظن أن هذا اللفظ لفظ فاضح أن يرجع إلى أي تفسير أو معجم عربي؛ ليجد نفسه يجهل معنى من أبسط كلمات القرآن، ومنها الحور العين.
فالحور: جمع حوراء، وهي شديدة بياض العين، شديدة سوادها[2].
والعين: جمع عيناء، وهي واسعة العين التي استدارت حدقتها، ورقت جفونها، وابيض ما حواليها.
وهذا الوصف كما قال اللغويون والمفسرون: لا يكون في بني آدم، وإنما قيل للنساء: “حور العيون”؛ تشبيها لهن بالظباء والبقر في جمال عيونها.
وهذا الوصف ورد في القرآن الكريم لإحدى النعم التي يتنعم بها المؤمنون في الجنة جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا.
إن اللفظ الذي يجرح الحياء، أو اللفظ القبيح، هو ذلك الذي يستحي المرء أن يتلفظ به أمام الناس. والسؤال: هل يستحيي أحد من التلفظ بـ “الحور العين” أمام أحد؟!
الترائب:
ومن هذه الكلمات لفظ “الترائب” في قوله عز وجل: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، وكان الأولى بالمعترض – ما دام يريد أن يثبت ذكاءه – أن يطالع كتب التفسير، أو حتى المعاجم؛ ليتعلم أولا، ثم ليزداد إعجابه وإيمانه بالقرآن الكريم، ولا يزال هكذا، يطالع ويتدبر ويتأمل، فيتعلم ويتبصر حتى يجد نفسه أشد المحبين للقرآن وأصدق الموقنين به، وأول من يصحح خطأ المتوهمين ويزيل لبس من أساء الفهم. إن كلمة الترائب جمع تريبة، وهي: أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة من يسرته. وقيل: هي موضع القلادة، أي ما بين الثديين. وقيل: هي عظام النحر والصدر، وقيل: هي عصارة القلب، ومنه يكون الولد.
وهذه الكلمة وردت في القرآن الكريم للتعبير عن المكان الذي ينشأ فيه الماء الذي يكون منه الولد؛ فهو في الرجل يخرج من بين “الصلب”، وفي المرأة يخرج من بين “الترائب”، وفي هذا ما فيه من الإعجاز العلمي الذي نحيل الجميع إلى مطالعته[3].
والسؤال التقليدي: ما الذي يجرح الحياء في هذا اللفظ؟ وإن كان يجرح الحياء فما البديل؟ ولماذا سكت عنه العرب؟
ثانيا. هل هذه المفرادات المهذبة هي ما يخدش الحياء؟ أم تلك النصوص الطويلة في الكتب المحرفة – المقدسة عند أصحابها – التي تمتلئ بما يهيج الشهوات ويصف الفواحش والمنكرات، فإذا كان المعترض يستنكر الألفاظ المذكورة في القرآن، فماذا عساه يقول عن تلك النصوص في العهدين القديم والجديد، ولننظر مثلا إلى “نشيد الإنشاد” الذي بلغ الغاية في وصف الفاحشة وفجاجة التعبير عن لقاء الرجل والمرأة الجنسي، فجاء فيه:
“نشيد الأنشاد الذي لسليمان: ليقبلني بقبلات فمه، لأن حبك أطيب من الخمر. لرائحة أدهانك الطيبة. اسمك دهن مهراق، لذلك أحبتك العذارى. اجذبني وراءك فنجري. أدخلني الملك إلى حجاله. نبتهج ونفرح بك. نذكر حبك أكثر من الخمر. بالحق يحبونك.. لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون. ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد! نصنع لك سلاسل من ذهب مع جمان من فضة. ما دام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته. صرة المر حبيبي لي. بين ثديي يبيت.. ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة. عيناك حمامتان. ها أنت جميل يا حبيبي وحلو، وسريرنا أخضر”. (نشيد الإنشاد 1: 1 – 16).
“شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء”. (نشيد الإنشاد 2: 6، 7).
“ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم! دوائر فخذيك مثل الحلي، صنعة يدي صناع. سرتك كأس مدورة، لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن. ثدياك كخشفتين، توأمي ظبية. عنقك كبرج من عاج. عيناك كالبرك في حشبون عند باب بث ربيم. أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق. رأسك عليك مثل الكرمل، وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل. ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات! قامتك هذه شبيهة بالنخلة، وثدياك بالعناقيد. قلت: «إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها». وتكون ثدياك كعناقيد الكرم، ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر. لحبيبي السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين. أنا لحبيبي، وإلي اشتياقه. تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل، ولنبت في القرى. لنبكرن إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل نور الرمان؟ هنالك أعطيك حبي. اللفاح يفوح رائحة، وعند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة، ذخرتها لك يا حبيبي”. (نشيد الإنشاد 7: 1 – 13).
وهذه قطوف يسيرة من النص الكامل، ولو أردنا الاستقصاء لنقلنا نشيد الإنشاد بنصه كاملا هنا.
وإذا كان المعترض يعتبر (المني، الفروج، الحور العين، الترائب) ألفاظا جارحة، فماذا يمكن أن يقول عما جاء في الكتاب المقدس – علاوة على ما ذكرنا – من تصوير نبي الله إبراهيم – عليه السلام – في سفر التكوين بأنه ديوث يتاجر بعرض امرأته، ويلقنها الكذب وينكر فحولته، وهي توافقه على ذلك وتسلم قيادها لفرعون: “وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته: «إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر. فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته. فيقتلونني ويستبقونك. قولي إنك أختي، ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك». فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا. ورآها رءوساء فرعون ومدحوها لدى فرعون، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع إلى أبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال”. (سفر التكوين 12: 11 – 16).
أو ما اتهم به داود – عليه السلام – من أنه يضاجع النساء زنا: “وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: «إني حبلى».. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت».. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب”. (صموئيل الثاني 11: 2 – 27).
ثم تتوالى المشاهد الجنسية الفاضحة لتصل إلى ذروتها مع سيدنا لوط عليه السلام، والذي اتهم بأنه يمارس الجنس مع بناته فيحبلن منه، يقول الكتاب المقدس: “وقالت البكر للصغيرة: «أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: «إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما”. (التكوين 19: 31 – 36).
والسؤال: هل يمكن تعليم الأطفال مثل هذا الكلام؟! إننا نحفظ القرآن الكريم للأطفال، وليس فيه كلمة واحدة نخجل منها، وماذا يمكن أن يقولوه للأطفال إذا سألوهم عن معنى: “وسكبوا عليهما زناهم”؟!
ثم ماذا يمكن أن يقولوه أيضا لو أن فتاة سألت عن معنى: “فحبلت ابنتا لوط من أبيهما”؟!
ونكتفي بهذا القدر الذي يظهر الفرق الواسع، والبون الشاسع بين التزام النص القرآني، وبين انحطاط المؤلفات البشرية وسقوطها على مدى آلاف السنين.
الأسرار البلاغية والإعجاز العلمي في هذه الآيات:
قوله عز وجل: )من مني يمنى (37)( (القيامة) أي يصب في الرحم، فإن قيل: ما الفائدة في قوله: )من مني يمنى(، قلنا: فيه إشارة إلى حقارة حاله؛ كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة؛ فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد على طاعة الله عز وجل، إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمـز؛ كمـا في قولـه تعالـى في عيسـى ومريــم: )كانا يأكلان الطعام( (المائدة: 75)، والمراد منه قضاء الحاجة[4].
وهنا يعلق الأستاذ سيد قطب بقوله: وهذه اللمسة )أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36)( (القيامة: 36) هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات والأهداف والغايات والعلل والأسباب التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.
وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.. إنها دلائل نشأته الأولى: )ألـم يـك نطفـة من منـي يمنـى (37) ثـم كــان علقــة فخلــق فســوى (38) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى (39)( (القيامة)، فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟
ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذه النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟! ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟! ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟!
ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟! مؤلفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟! والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي، وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته، والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر، وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خلية صغيرة ضعيفة لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟!
وفي النهاية.. من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة “الذكر والأنثى”؟ أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكرا؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ بل من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟!
إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير قال ـ عز وجل ـ: )فجعـل منـه الزوجيـن الذكــر والأنثــى (39)( (القيامة).
وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا على الجنس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة: )أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40)( (القيامة).
بلى! سبحانه! فإنه لقادر على أن يحيي الموتي! بلى! سبحانه! فإنه لقادر على النشأة الأخرى! بلى! سبحانه! وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضا.
وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم، القوي العميق، الذي يملأ الحس ويفيض بحقيقة الوجود الإنساني، وما وراءها من تدبير وتقدير[5].
في قوله تعالى: )خلق من ماء دافق (6)( (الطارق)، والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة، وأريد بالماء الدافق المني، ودافق قيل: بمعنى مدفوق، على تأويل اسم الفاعل بالمفعول، وقيل من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلا من ماءين؛ ماء الرجل وماء المرأة؛ ولذا كان خلق عيسى – عليه السلام – خارقا للعادة؛ لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم، وبالامتزاج صارا ماء واحدا، ووصفه “بالدفق” قيل: باعتبار أحد جزئية، وهو مني الرجل، وقيل: باعتبار كليهما، ومني المرأة دافق أيضا إلي الرحم، ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق)، أي: من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره والترائب، أي: ومن بين ترائب كل امرأة أي: عظام صدره، جمع تربية، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدور، وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قول امرئ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل[6]
ولكي تتضح وجوه الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)( لا بد من عرض السياق الذي وردتا فيه، وهو: قوله تعالى: )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10)( (الطارق). الماء الدافق: تعبير وصفي للمني؛ لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء، إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط، ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل “دافق”؛ لدلالته علي الحركة الذاتية، وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان؛ لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس، وهو المستدل به على إمكان الإرجاع حيا. وضمير “له” في قوله تعالى: )فما له من قوة ولا ناصر( لا يستقيم عوده إلى الماء، وإنما إلى الإنسان، والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع يوم تبلى السرائر.
ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6)( و “رجعه” في )إنه على رجعه لقادر (8» و )(فما له من قوة ولا ناصر (10)(، ولذا الأولى عود ضمير “يخرج” في )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( إلى الإنسان كذلك مثلها، خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك، وإنما من الخصية، والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان وبيان القدرة المبدعة وسبق التقدير، ومكان الإعادة أظهر في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف، والتلازم قائم بين إخراج الإنسان للدنيا وليدا وإرجاعه حيا، بينما لا تلازم بين إخراج المني وإرجاع الإنسان، وخروج ذرية الإنسان من الظهر مبين في قوله: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم( (الأعراف:١٧٢)، وقوله: )وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم( (النساء: ٢٣)، ولم يرد في القرآن فعل “الإخراج” متعلقا بالمني، بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان؛ لبيان خروجه للدنيا وليدا وخروجه حيا للحساب، وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهر، وموضع خروجها علي طريق هجرتها، قطاع عرضي بين نشأة الغدة التناسلية في المنطقة الظهرية للجنين (الأسبوع 5 – 6) وهجرة أصولها الخلوية بين بدايات العمود الفقري والضلوع قبل انفصالها وتميزها.
والحقيقة العملية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهم الجنينية، ثم تخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري، وبدايات الضلوع؛ ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم، وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن؛ حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية، وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني، إذا لم تكمل رحلتها[7].
والتعبير )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق) يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية، ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن ابتداء من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر، وحتى يولد الأبوان ويبلغا ويتزاوجا وتخلق الذرية، مما يماثل نطفة ماء التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية، تتدفق ذاتيا لتندمج مع نطفة نظير؛ فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين، ويستمر فعل الإخراج ساري المفعول؛ ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق؛ ليخرج للدنيا وليدا، وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه، وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان، قد عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالتها كل الأحداث “يخرج”، فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير، ومع كل تلك المشاهد المتجددة، هل يرد مجرد هاجس علي الخاطر: أنبعث حقا ونحاسب؟!
من دلائل الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )يخرج من بين الصلب والترائب (7)( أنه احتوى على تفاصيل الخلق الإنساني المشروحة في علم الأحياء، وقد عرفت أن بعض علماء الغرب الخبراء في علم الأجنة أعلنوا إسلامهم عندما رأوا الدقة التي تحدث بها القرآن عن أطوار الخلق ومراحله، ولا يعرف هذا في كتاب سابق، وإن العامة والخاصة يدركون أن بداية الخلق من ماء يمر بمجاري البول، تشرف عليه غدد معقدة متصلة بالجهاز البولي[8].
وهذا يتحقق في قوله تعالي: )فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)( (الطارق) فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار.. إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل، وهو عظام ظهره الفقارية، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية.. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر. حتى كان نصف القرن الأخير؛ حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة، حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان!
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير.. بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي.. هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يدا خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة. وتشي بأن هنالك حافظا من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل، ومن الإرادة والقدرة في رحلتها الطويلة العجيبة. وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته!
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر؛ إذ إن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة.. هذه الخلية التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة، تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء؛ حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية تحول بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة: عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا.. وتعرف هذه الخلية الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة.. تعرف ماذا هي فاعلة وماذا تريد.. حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة.. عمارة الجسم الإنساني[9].
وقال المراغي: )فلينظر الإنسان مم خلق (5)( أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه؛ ليتضح له قدرة واهبه وأنه علي إعادته أقدر: )خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7)(، حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا، بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري “سلسلة ظهره”، وترائبه هي عظام صدره، وإذا رجعنا إلي علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب، فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينه يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع، فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما، وفي إمدادهما بالدم الشرياني، وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم، وجاء به رب العالمين، ولم يكشف العلم هذا إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب، هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف؛ فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم، وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه؛ فتقف الخصية في طريقها، ولا تنزل إلى الصفن، فتحتاج إلى عملية جراحية، وإذا هدى الفكر إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان فهذا يسهل علينا أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث في اليوم الآخر، قال ـ عز وجل ـ: )إنــه على رجعــه لقــادر (8)( (الطارق) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء، قادر أن يرده حيا بعد أن يموت.
واقتدار الخالق شاخص في كل العرض، بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تعريه من الخيلاء، وتفاجئه بأصله ومصيره طاوية حياته ومماته، وكأنه لم يكن في مقابل مشهد استكباره في تبجح صارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف الفاء؛ ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه: )فلينظر الإنسان مم خلق(؛ كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟ وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضور باهت داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة، بينما تشخص عيانا أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول: )أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى (40)( (القيامة) وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال مشهد يوم عظيم )يوم تبلى السرائر (9)(، فتأمل الاتساق في عرض المشاهد تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار، وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب، وتؤز في المسامع نيرانا تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخلاق سبحانه! أسلوب مذهل جامع فريد لا يبلغه اليوم أي كتاب ينسب للوحي قد بلغ الذورة في التصوير وثراء المعنى، مع الغاية في إيجاز اللفظ، وأما التفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل، فهي بعض دلائل النبوة التي تسطع اليوم أمام النابهين[10].
(*) موقع زكريا بطرس.
[1]. لسان العرب، ابن منظور،مادة: فرج.
[2]. لسان العرب، ابن منظور، مادة: حور.
[3]. من آيات الإعجاز العلمي: خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1429 هـ/ 2008م، ص359.
[4]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[5]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج6، ص3878: 3881 بتصرف.
[6]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[7]. مع الطب في القرآن، د. عبد الحميد دياب، د. أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، د. ت.
[8]. نحو تفسير موضوعي لسور القرآن، محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط8، 1426هـ/ 2005م، ص511.
.[9] في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م.، ج6، ص3879.
[10]. مع الطب في القرآن، د. عبد الحميد دياب، د. أحمد قرقوز، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، د. ت.
الزعم أن الاختلاف اللفظي بين الآيات المتشابهة لا دلالة له
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أنه لا قيمة للاختلاف اللفظي بين الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، ويمثلون لذلك بقوله عز وجل: )فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)( (التوبة)، وقوله عز وجل: )ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)( (التوبة) **.
وجوه إبطال الشبهة:
في القرآن الكريم آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، والمحكم ما لا تعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، والمتشابه منه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى.
ويزعم بعض مثيري الشبهات حول القرآن الكريم أن الخلاف في اللفظ بين المتشابه في القرآن الكريم لا فائدة منه، وهو خلاف ظاهري، ومثلوا لهذا بقوله عز وجل: )فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)( (التوبة)، وقوله تعالى: )ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم( (التوبة: ٨٥)، ويزعمون أن الاختلاف بين الآيتين اختلاف يسير بين بعض الألفاظ، ولا يغير في المعنى قليلا ولا كثيرا. وفات هؤلاء إدراك ما بين الآيتين من اختلاف واضح في المدلول والسياق.
وزعمهم هذا مردود من وجوه:
1) أن الآيتين وإن تشابهتا في الألفاظ، فقد اختلفتا في السياق؛ إذ أراد بالأولى: قوما من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها، وأراد بالثانية: أقواما آخرين، والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة، لم يكن ذكره مع بعضهم مغنيا عن ذكره مع الآخرين.
2) أن التفاوت اللفظي بين الآيتين ناشئ عن تفاوت في المدلول، والمعنى المراد التعبير عنه، وهذا حاصل في أربعة وجوه، وهي:
قوله عز وجل: )فلا تعجبك(: “الفاء” لمناسبة التعقيب والترتيب، وقوله: )ولا تعجبك( “الواو” لمناسبة عطف نهي على نهي قبله، ولا تفريع فيها، والمعني: “لا تصل ولا تقم ولا تعجبك”.
قوله )أموالهم ولا أولادهم( مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد علي انفراد، وقوله: )أموالهم وأولادهم( نهي عن إعجاب المجموع، ويتضمن النهي عن الإعجاب بكل واحد.
قوله عز وجل: )ليعذبهم( وقوله: )أن يعذبهم( بالتناوب بين “اللام” و “أن”، تنبيها على أن التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما وردت، فمعناه: “أن”، ومثله في القرآن كثير.
قوله عز وجل: )في الحياة الدنيا( ورد على الأصل، لأنه في سياق الحديث عن أموالهم في حياتهم، أما قوله: )الدنيا( فورد بعد ذكر موت المنافقين في الآية التي قبلها، فهم بمنزلة الأموات، وحياتهم لا حياة فيها.
3) أن في تكرار[1] المعنى وتعدد النزول – لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين – قوة في تقرير ما نزل وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال المخاطب، خصوصا والمنهي عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوي بمحبته، والإعجاب به، مما يوجب التحذير منه مرة بعد مرة.
التفصيل:
أولا. لا يوجد في القرآن ما يعد من قبيل تكرار النصوص بما يغني أحدها عن الباقي، بل إن النص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، فإن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات الأحوال ومقتضياتها، يعلم أن هذا تأسيس، وليس تكرارا، فقد تحمل آيتان معنى عاما واحدا، ولكن كل آية تمس خصوصية ما.
قال أبو علي في تعليقه على آيتى سورة التوبة: ظاهره أنه تكرير، وليس بتكرير؛ لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريرا، لكان – مع تباعد – لفائدة التذكير، وقيل: أراد بالأولى: لا تعظمهم في حال حياتهم؛ بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية: لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق[2].
ثانيا. ثمة تفاوت بين الألفاظ المستخدمة في الآيتين، كل وما يتناسب مع طبيعة السياق الوارد فيه، وهذا التفاوت حاصل بين هاتين الآيتين من وجوه أربعة؛ هي:
قوله تعالى في الآية الأولى: )فلا تعجبك( بـ “الفاء”، وقوله: ولا تعجبك( بـ “الواو” في الآية الثانية، وذلك أن الآية الأولى وردت بعد قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون (5)( (التوبة)، فوصفهم بأنهم كارهون للإنفاق، وإنما كرهوا ذلك الإنفاق؛ لأنهم معجبون بكثرة تلك الأموال؛ فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بـ “فاء التعقيب”، وفي الثانية: لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف “الواو”[3].
وخلاصة القول: أنه جيء بـ “الفاء” هنا لمناسبة التعقيب، والمعنى: لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق، معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهى عن الإعجاب المتعقب له، وجيء بـ “الواو” لمناسبة عطف نهي على نهي قبله[4]؛ أي: ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك.
أثبت “لا” في قوله: )أموالهم ولا أولادهم(، وأسقطها في الآية الثانية: )وأولادهم(، ولهذا التفاوت مدلولان هما:
الأول: أن ذكر “لا” في الآية مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد على انفراد، ويتضمن ذلك النهي عن المجموع. وإسقاط “لا” في الثانية نهي عن إعجاب المجموع، ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد؛ فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين”[5].
الثاني: في إسقاط “لا” في الآية الثانية دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين، وإنما هي في الأولى؛ لزيادة التأكيد، أي: أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد، وكان إعجابهم بأولادهم أكثر[6].
قوله في الآية الأولى: )إنما يريد الله ليعذبهم(، وفي الثانية: )إنما يريد الله أن يعذبهم(، فيه تنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال، وأنه أينما ورد حرف “اللام”، فمعناه كقوله: )وما أمروا إلا ليعبدوا الله( (البينة: ٥) أي: وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله.
و “اللام” هنا في “ليعذبهم” لام تدخل على الفعل، واسمها “لام العاقبة”، وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف معين، ولكن قد تكون عاقبته شيئا آخر غير الذي قصدناه، بل تكون عكس الذي قصدناه، ومثاله قول الحق عز وجل: )فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا( (القصص: ٨) [7]، وهكذا الحال هنا؛ فالمال والأولاد نعم لم يقصد الله من ورائها عذاب هؤلاء، لكنهم بعملهم غير الشرعي استحقوا العذاب بعد أن فتنوا بنعم الله عليهم؛ إذن هي “لام العاقبة”[8].
قوله تعالى في الآية الأولى: )في الحياة الدنيا(، وفي الثانية: )في الدنيا(، فذكر “الحياة” في الأولى على الأصل وحذفها في الثانية؛ تنبهيا على خسة الدنيا”[9]، فهي لا تسمى “حياة”، بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على تمام دناءتها.
ولما تقدمها ذكر موت المنافقين ناسب أن لا تسمى “حياة “[10]؛ فقد صاروا إلى حياة أخرى، وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثا[11].
ثالثا. الآيتان تتلاقيان في المعنى العام مع احتفاظ كل آية بنظمها المتسق مع سياقها، ولو اعتبرنا أن تكرار النهي حاصل بين الآيتين، فالمنهي عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوى بمحبته والإعجاب به[12].
وتجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين.
وإن أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه فلا حرج في ذلك؛ ذاك أن أشد الأشياء جذبا للقلوب واستهواء لها، هو الاشتغال بالأموال والأولاد، وما كان بهذه المنزلة من التغرير والإغواء يجب التحذير منه مرة بعد مرة[13].
وما دام النهي في الآيتين على هذه الدرجة من الأهمية؛ فلا ضير إن كرره القرآن مع احتفاظ كل نهي بنظمه؛ بما لا يغني أحدهما عن الآخر، ويبقى مجمل النهي عالقا في الذهن ماثلا للأعين؛ علها تمتثل.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
في الآيتين اتصال من جهة الدلالة، وانفصال من جهة الألفاظ، وهذا الوجه الأخير هو ما أغفله هؤلاء، وقالوا بعموم الاتصال بين الآيتين، ولعل هذا الخلاف بين الألفاظ في الآيتين موطن البلاغة فيهما، ولعل القارئ يقف على هذا الرأي إن أدرك الفرق أولا، ثم التمس وجه اتساقه في سياقه الذي ذكر فيه ثانيا، ومن أسرار هذه المخالفة:
العطف بـ “الفاء” في قوله تعالى: )فلا تعجبك(؛ لمناسبة التفريع قبلها على مذمة حالهم في أموالهم[14]؛ ولذلك عطف بـ “الواو” في الثانية، فقال: )ولا تعجبك(؛ لعدم التعلق؛ ولمجيئها من قبيل عطف نهي على نهي[15].
في قوله تعالى: )أموالهم ولا أولادهم(، أثبت “لا” مراعاة للترتيب، فأراد أن يبتدئ بالأدنى، ثم يترقى إلى الأشرف[16]. وفي الآية الأخرى ذكر )أموالهم وأولادهم( بالعطف بـ “الواو”؛ للتساوي بينهما في التحقير في نظر المسلمين، فناسبه إسقاط “لا”؛ ليدل على عدم التفاوت بينهما؛ فكلاهما مقصود، ومضرته لا تقل عن الآخر.
قوله تعالى: )أن يعذبهم( وفي الأخرى )ليعذبهم( فقد قدرت “أن ” بعد “اللام”، وهو كثير في الاستعمال، ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ، وهو تفنن[17].
وقوله تعالى: )في الدنيا( ذكر الصفة، وحذف الموصوف، وفيه تنبيه على كمال ذمها، فلقد بلغت في الخسة والمهانة، إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة، بل يجب عند ذكرها الاقتصار على لفظ الدنيا[18]، فلقد أصبحت الصفة علما على الموصوف، فإن قيل الدنيا فقط علمت أن هذه الصفة إن أطلقت أريد بها “الحياة”، وفي هذا الأسلوب من التزهيد فيها، والتحقير من شأنها ما تغني الإشارة إليه عن ذكره.
هذا وإن التقت الآيتان في المعنى العام فليس فيه تكرار للمعنى، خصوصا والمنهى عنه حقيق بذلك؛ لعموم البلوى بمحبته والإعجاب به، مما يوجب التحذير منه مرة بعد مرة.
(*). www.saaid.com
[1]. التكرار: هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ، والمعنى المراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو لغرض من الأغراض.
[2]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[3]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[4]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[5]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[6]. تفسير الخازن، علاء الدين علي البغدادي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1955م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[7]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5191، 5192.
[8]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[9]. تفسير الخازن، علاء الدين علي البغدادي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1955م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[10]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج6، ص287.
[12]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م ، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[13]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[14]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص286.
[15]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[16]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية 85 من سورة التوبة.
[17]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص278 بتصرف.
[18]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج4، ص147.
الزعم أن القرآن أخطأ في ذكر اسم إدريس – عليه السلام – وقصة رفعه حيا إلى السماء
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم أخطأ في قصة إدريس عليه السلام، ويستدلون على زعمهم هذا بأن اسمه في التوارة ليس إدريس ولكنه أخنوخ، كما يزعمون أن قوله تعالى في إدريس عليه السلام: )ورفعناه مكانا عليا (57)( (مريم) مستوحى من بعض الأساطير التي ذكرت أنه شخص كتب له الخلود وأدخل الجنة حيا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) وردت أسماء مختلفة لنبي الله إدريس – عليه السلام – في ثقافات مختلفة (المصرية – السامرية – اليونانية)، وهذا جائز لاختلاف طبيعة اللغات، فلماذا ينكر ذلك على القرآن الكريم وهو مقدم على غيره لثبوت صحته؟! ولا ينكر على غيره من الثقافات والديانات المحرفة؟!!
2) من أساسيات عقيدة الإسلام أن البقاء والخلود لله وحده وأن الفناء والموت من صفات المخلوقين ولا يستثنى من ذلك أحد.
3) لم ينص القرآن ولا السنة على خلود إدريس – عليه السلام – أو أنه رفع إلى السماء حيا.
4) اتفقت أقوال المفسرين على أن إدريس – عليه السلام – قبض ومات شأنه شأن المخلوقات جميعا، وما ورد بخلاف ذلك، هو محض روايات أسطورية لا تتفق مع حقائق الإسلام بشأن قبض الأرواح.
التفصيل:
أولا. ورود أسماء مختلفة للشخص الواحد في اللغات المتعددة أمر طبيعي:
الاسم الواحد لمعين سواء كان علما على شخص أو مكان أو غير ذلك، قد يرد مختلفا من لغة أو ثقافة إلى أخرى. وهذا لا يعني خطأ في لغة وصوابا في أخرى، بل إن ذلك الاختلاف ناشئ من اختلاف النطق والهجاء والتركيب وكذلك قواعد النحو والنظام الصوتي.
ولقد ورد اسم إدريس – عليه السلام – في التوراة السامرية “أخنوخ”، وذلك في سفر التكوين “وسار أخنوخ مع الله, ولم يوجد لأن الله أخذه”. (التكوين 5: 24). وهو في اليونانية أرميس، وعرب بهرمس، ومعنى أرميس عطارد، وهو عند المصريين هرمس الهرامسة، وفي القرآن الكريم إدريس، وقيل: سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عزوجل، إذ روي أن الله تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، قال عزوجل: )واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56)( (مريم)، علما بأن التوراة اليونانية تضيف حرف السين في آخر الاسم ليعلم أنه اسم مثل: يوسيفوس وإدريس في آخره السين، وكذلك يونس – عليه السلام – وهو في العبرية “يونان”، وعيسى – عليه السلام – في اليونانية “إيسوس” وفي العبرية “يهوشوع”، وينطق أحيانا “أيشوع” و “يسوع”. [1]
وهكذا نجد أن اسم سيدنا إدريس – عليه السلام – قد اختلف من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى، فلماذا ينكر على القرآن الكريم مع العلم بأنه الكتاب الوحيد الذي ثبت عدم تحريفه أو تغييره؛ بل هو محفوظ كما نزل من عند الله وذلك بشهادة الدارسين المحايدين من المسلمين وغير المسلمين من أهل الاختصاص في هذا المجال.
وعلى النقيض تماما فقد أثبتت الدراسة المحايدة من أهل الاختصاص تحريف وتبديل ما عدا القرآن الكريم من الكتب السماوية فضلا عن الثقافات البشرية التي ليس لها ما لتلك الكتب من العصمة والقداسة.
ومعلوم أن ما ثبتت حجته مقدم على ما لم تثبت حجته، ومع هذا فإننا لا ننكر الأسماء السابق ذكرها لسيدنا إدريس – عليه السلام – في الثقافات والديانات الأخرى، وذلك أن الخلاف في الاسم خلاف شكلي لا يعني بالضرورة خطأ الاسم عندنا أو عند غيرنا.
ثانيا. الدوام والخلود لله وحده في عقيدة التوحيد الإسلامية:
يجب أن نثبت قواعد الإسلام العقائدية قبل مناقشة أي مجادل، فمن أوائل القواعد العقدية في الإسلام: قاعدة مبدأ الفصل بين صفات الله وصفات الخلق، فأول صفات الله – عزوجل – صفة الوحدانية، وهي تفرد الله تعالى بصفات الألوهية وحده، ومنها البقاء بلا نهاية، أي: دوام البقاء والخلود، فالله باق بذاته ولا شريك له في هذه الصفة، فلا يوصف نبي ولا رسول بهذه الصفة عند المسلمين.
أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإنهم اعتادوا الخلط بين صفة الخالق سبحانه وصفة الخلق، لذلك نسبوا إلى الله الزوجة والولد، وعندهم اختلط اللاهوت والناسوت [2]، فلا عجب أن يقول اليهود: عزير ابن الله ويعطونه صفات الألوهية ومنها الخلود، ويقول النصارى: المسيح ابن الله ويعطونه صفات الألوهية ومنها الخلود، أما المسلمون فلا خلط عندهم بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فلا يعطون الخلود لمخلوق قط، قال عزوجل: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34)( (الأنبياء).
والخلود قسمان: خلود الذات، وخلود الزمان، فأما خلود الذات فهو وصف لله وحده لا يشاركه فيه أحد من خلقه، وأما خلود الزمان فهي صفة الخلق في الجنة والنار، والصفتان مستحيلتان في الدنيا، فليس في الدنيا خلود ذاتي ولا مكاني ولا زماني: )كل من عليها فان (26)( (الرحمن)، ونقصد دنيا الخلق ولا يدخل فيها الخالق عزوجل.
ونحن نسأل هؤلاء: هل كتب الله سبحانه الخلود لأحد من خلقه في دنيا الناس من حولنا؟ عقيدتنا – والواقع يؤكدها – أن أحدا لا يمكن أن يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب؛ لأن الفناء شأن المخلوقات جميعا، ولا خلود في اعتقادنا – نحن المسلمين – لبشر مهما عظمت منزلته وارتفعت درجته، وقد كتب الله الموت على رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو أفضل الرسل وأحبهم إلى الله، وإذا كان الله – عزوجل – قد كتب الموت على محمد – عزوجل – فلماذا يكتب الخلود لإدريسعليه السلام؟!
فلا خلود في اعتقادنا – نحن المسلمين – لبشر وإنما البقاء لله وحده، ولا يعنينا ما فهمه بعضهم من بعض الروايات من معنى الخلود أو البطولة الأسطورية مما يوافق روايات يهودية أو نصوص توراتية، فالثابت أن هذه الكتب السماوية السابقة على القرآن قد حرفت عن أصولها السماوية الصحيحة، خصوصا ما توجه لبني إسرائيل الذين حكم القرآن بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
وهذا – كما هو معروف – ديدن [3] المغالطين من المستشرقين ممن يقعون على الروايات الضعيفة، والأخبار المنقطعة والآراء المرجوحة، فيبرزونها ويجعلونها أصلا، لا سيما إذا توافقت مع مقولة في التوراة أو الإنجيل المحرفين، ليؤيدوا القول بأن القرآن مشتق منهما، وأن محمدا – صلى الله عليه وسلم – قد لفقه من كتب الأقدمين؛ وذلك لإنكارهم نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – وسماوية القرآن، ويسلكون لإثبات ذلك كل سبيل.
ثالثا. لم ينص القرآن الكريم ولا السنة النبوية على خلود إدريس – عليه السلام – أو أنه رفع إلى السماء:
إن الذي يحسب على الإسلام هو ما صرح به القرآن الكريم، وما جاء في صحيح السنة، وأما ما جاء في غيرهما على ألسنة المفسرين فيؤخذ منهم ويرد عليهم، وما نقلوه عن أهل الكتاب إن وافق ما في الكتاب والسنة قبلناه، وإن خالفهما رددناه، وإن لم يوافقه، ولم يخالفه لا نصدقه، ولا نكذبه، بل هو قول يحتمل الصدق والكذب.
والذي جاء في القرآن عن إدريسـ عليه السلام – قولهعزوجل: )وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86)( (الأنبياء). فهو – عليه السلام – نبي مرسل صابر صالح له مكانة عالية رفيعة عند الله عزوجل، وهو ممن أدخلهم الله سبحانه في رحمته.
وأما أهل التوراة فليس عندهم من العلم بشأن إدريس – عليه السلام – إلا أن أخنوخ ولد له ولد، وهو ابن خمس وستين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثمائة سنة، ولم يوجد بعد، لأن الله أخذه، فالله تعالى أعلم بشأنه.
وأما قوله عزوجل:)) ورفعناه مكانا عليا (57) (مريم). لم تنص على أن إدريس – عليه السلام – رفع حيا إلى السماء، إن معنى الآية: ورفعنا ذكره وأعلينا قدره بشرف النبوة والزلفى عند الله[4].
وما جاء في حديث المعراج[5] من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقيه – عليه السلام – في السماء الرابعة ليس دليلا على رفعه حيا؛ فقد لقي صلى الله عليه وسلم في السماوات موسى وهارون ويوسف ويحيى وإبراهيم – عليهم السلام – ولم يرفعوا أحياء؛ أما ما ورد في كتاب “تاريخ الحكماء” للقفطي من أن إدريس أول من أنذر بالطوفان، فخاف من ذهاب العلم، فبنى الأهرام والبرابي المسلات في صعيد مصر وصور فيها الصناعات ورسم فيها العلوم حرصا منه على تخليدها لمن بعده[6]؛ فهي أخبار لم تؤيد بنقل صحيح، ولم يعضدها [7] نص قاطع نشهد به على الله تعالى أنه صنعه لعبده ونبيه إدريس عليه السلام، وكلها أقوال مما جمعها حطاب الليل من المفسرين الذين لا هم لهم إلا جمع كل شاردة وواردة، دون النظر إلى صحتها، ومعظمها أشبه ما تكون بالخرافات.
لذلك فإن الباحثين في هذه الأمور وأهل التاريخ القديم لا يجدون في بحوثهم ما يؤيد هذه الأخبار، بل يجدون ما يناقضها من العلم بأسماء بناة الأهرام والملوك الأولين الذين قاموا بالدولة في مصر مثل مينا، وخوفو، وخفرع وغيرهم، من الذين شيدوا المعابد، ونقشوا عليها ما هو ماثل اليوم، وذلك كله بخطوط خاصة يقرءونها ويفسرونها[8].
رابعا. اتفقت أقوال المفسرين على أن إدريس – عليه السلام – قبض ومات، شأنه شأن المخلوقات جميعا، وما ورد بخلاف ذلك هو محض روايات لا تتفق مع حقائق الإسلام بشأن قبض الأرواح:
لقد أوضحنا أنه ليس هناك ثمة نص يدل على خلود إدريس – عليه السلام – ورفعه حيا إلى السماء، أما قوله عزوجل: )ورفعناه مكانا عليا (57)( (مريم)، فهذا لا يدل على رفعه إلى السماء حيا، بل قد لا يكون المراد منه الرفع الحقيقي، ولهذا قال جماعة من المفسرين: هو رفع مجازي، وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه أنه رفع إلى السماء حيا قبل موته؛ لأنه ذكر فيه عدة أنبياء وجدوا في السماوات[9].
هذا وقد ذكر كثير من المفسرين في معنى قوله عزوجل: )ورفعناه مكانا عليا (57)( (مريم) في حق إدريس – عليه السلام – أن الله أوحى إليه: أني أرفع لك في كل يوم مثل جميع عمل بني آدم، فأحب أن يزداد عملا، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا، فكلم ملك الموت حتى أزداد عملا، فحمله بين جناحيه وصعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: يا للعجب! بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة. فجعلت أقول له: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك.
وفي رواية أخرى: أنه رفع ولم يمت، قيل: أريد بها أنه رفع حيا إلى السماء، ثم قبض هناك؛ فهذا لا ينافي ما تقدم، وأما إن أريد بها أنه لم يمت حتى الآن ففيه نظر؛ إذ يتصادم مع قوله تعالى: )إنك ميت وإنهم ميتون (30)( (الزمر)، فإدريس وعيسى – عليهما السلام – وغيرهما بشر، والبشر من شأنهم الفناء جميعا بالموت، لا يبقى إلا الحي الذي لا يموت عزوجل، فهذا من ثوابت العقيدة الإسلامية. وقيل: قبض في السادسة، والمتفق عليه أنه في السماء الرابعة، وقيل: عليا؛ أي: إلى الجنة.
أما ما ورد بخلاف ذلك من روايات فلا تقوم بها حجة؛ إذ هي روايات موضوعة ومنحولة[10]؛ فقد روي أن ملك الموت سأل الله أن يزور إدريس، فجاءه على صورة إنسان، ودعاه في الليل إلى مائدته، ولكن إدريس – عليه السلام – أبى، فكرر ملك الموت دعوته تلك مرتين متتاليتين، وفي المرة الثالثة سأله إدريس عن شخصه، فلما أجابه طلب منه إدريس أن يقبض روحه ساعة من الزمن، ثم طلب منه بعد أن يرد روحه أن يرفعه إلى السماء، ليراها ويرى الجنة فلما دخل الجنة أبى أن يخرج منها، واعتصم بآيتين من القرآن هما: )كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35)( (الأنبياء). والثانية: )لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48)( (الحجر)، ولذلك أبقاه الله فيها.
وقيل: إنه بينما إدريس في رحلة، إذ اشتد عليه الحر؛ فطلب من الله أن يخفف وطأتها عليه ملك الشمس، مقابل أن يؤخر ملك الموت أجله، فحمله هذا الملك إلى مطلع الشمس، وأبلغ في سؤاله ملك الموت، ولم يستطع ملك الموت إجابة سؤاله، فأطلعه ملك الشمس على يوم موته، ولما فتح ملك الموت ديوانه لم يجد فيه وفاة إدريس، وقد وجده ملك الشمس ميتا بالفعل.
هاتان الأسطورتان لا تتفقان مع حقائق الإسلام التي تنص على أن ملك الموت مكلف من قبل الله تعالى بقبض الأرواح، وأنه لا يستشار أحد من الخلق في وفاته، ولا تتفقان مع الأدب في الحديث عن الأنبياء – عليهم السلام – وذلك لأنهم – صلوات الله عليهم – يعلمون أن لكل أجل كتابا، ولا يطلبون إلا ما يقره الشرع والعقل، كما أن العلم يكذب ويفند[11] تلك الخرافات.
الخلاصة:
إن عدم ذكر اسم إدريس – عليه السلام – في التوراة لا يعني إنكار وجوده في التاريخ؛ لأن التوراة المحرفة ليست حجة فيما تذكر، فضلا عن أنها ليست حجة فيما لم تذكره، لكن الحجة فيما تفرد القرآن الكريم بذكره؛ فهو كلام رب العالمين أنزله على النبي الأمي – صلى الله عليه وسلم – الذي قال تعالى فيه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، أما الكتاب المقدس فقد ثبت تناقضه ومخالفته للعقل السليم، فما ورد به غير موثوق فيه، وما لم يرد به لا حجة على بطلاته أو عدم وقوعه.
من قواعد الإسلام العقائدية ضرورة الفصل بين صفات الله تعالى وصفات الخلق، فمن صفات الله البقاء، ومن صفات الخلق جميعا – بلا استثناء – الفناء والموت. والخلود لا يكون إلا لله وحده، فهو صفة له وحده لا يشاركه فيها أحد من خلقه مهما بلغ من المنزلة والمكانة.
لم نر حولنا في دنيا الناس من كتب الله له الخلود، بل كتب الله الموت على جميع خلقه، ومنهم محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو أفضل الرسل وأحبهم إلى الله تعالى.
ما ورد من الأساطير حول رفع إدريس – عليه السلام – حيا وعدم استطاعة ملك الموت قبض روحه لا يتفق مع حقائق الإسلام التي تنص على أن ملك الموت مكلف من قبل الله تعالى بقبض الأرواح، وأنه لا يستشار أحد في وفاته، وكذلك لا تتفق مع الأدب في الحديث عن الأنبياء، الذين يعلمون أن لكل أجل كتابا، وأنهم لا يطلبون ما لا يقره الشرع أو العقل، كما بيناه.
إن الذي يحسب على الإسلام هو ما صرح به القرآن الكريم، وما جاءت به السنة النبوية الشريفة الصحيحة، وأما أقوال المفسرين فيؤخذ منها ما وافق الكتاب والسنة ويطرح ما عداه، والذي جاء في القرآن عن إدريس – عليه السلام – أنه كان صديقا نبيا، ذا مكانة عالية رفيعة عند الله – عزوجل – وهو صابر صالح، وأدخله الله تعالى في رحمته، وما جاء في السنة من حديث المعراج أنه – صلى الله عليه وسلم – قد لقي إدريس – عليه السلام – ليس دليلا على أنه – عليه السلام – رفع حيا، فقد لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – العديد من الأنبياء – عليهم السلام – ولم يرفعوا أحياء.
(*) موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق بحث من المستشرقين، ترجمة نخبة من الأساتذة، مركز الشارقة للإبداع الفكري، الشارقة، 1418هـ/ 1998م.
حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص484.
[2]. اللاهوت والناسوت: اللاهوت: الألوهية في مقابل الناسوت لطبيعة الإنسان، وعلم اللاهوت علم يبحث عن العقائد المتعلقة بالله، وربما أطلق الأول على الروح، والثاني على البدن، أو أطلق الأول على العالم العلوي، والثاني على العالم السفلي.
[3]. ديدن: شأن.
[4]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص38، 39.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3035)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات وفرض الصلوات (429).
[6]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص44.
[7]. يعضدها: يقويها.
[8]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص44 بتصرف.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص131 بتصرف.
[10]. المنحولة: المدعاة.
[11]. يفند: يضعف ويخطأ.
الزعم أن القرآن الكريم استعمل “سينين” بدلا من “سيناء” لتكلف السجع
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتقولين أن القرآن الكريم قد جانب الصواب؛ فاستعمل “سينين” بدلا من “سيناء” في قوله عز وجل: )والتين والزيتون (1) وطور سينين (2)( (التين)، وتوهموا أن كلمة “سينين” اسم جمع، ومنهم من توهم أنها جمع مذكر سالم، ويذكرون أن القرآن حرفها من أجل السجع فقط**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الاسم العلم أن يدل على المسمى به، فيحدد المقصود منه، ولا يتبدل الاسم العلم ولا المسمى به. وقد زعم بعض المشككين أن القرآن الكريم جانب الصواب في استخدام كلمة “سينين” بدلا من كلمة “سيناء”؛ ليتحقق السجع في فواصل الآيات، والصواب في زعمهم أن يقال: “وطور سيناء”.
وهذا الزعم باطل من وجوه:
1) إن في نسق القرآن ونظمه من الإحكام ما ينفي تكلفه لمحسن لفظي كالسجع، ثم إن في القضايا التي يعالجها من الدقة ما يمنع أن يتبع فيه المعنى اللفظ، بل الألفاظ فيه تابعة للمعاني، وتكلف السجع يقتضي أن يتبع المتكلم المعنى للفظ، أضف إلى هذا وذاك أن العرب تستهجن أن يتكلف المتكلم السجع، وتستحسن ما أتى بعفوية مما تسمح به القرائح والمعاني، فهل يعقل أن يتكلف القرآن السجع، ثم يأتي متحديا العرب بنظمه زاعما لنفسه الإعجاز؟!
2) كلمة “سينين” في الآية الكريمة صفة عند بعض المفسرين، وهم مختلفون في تحديد معناها؛ فمنهم من يرى أنها بمعنى: الحسن. ومنهم من يرى أنها بمعنى: المبارك. ومنهم من جمع بين القولين فقال: سينين: الحسن المبارك، أو المبارك الحسن. وأيا ما كان المعنى؛ فالكلام من قبيل إضافة الصفة للموصوف.
3) قيل: إن كلمة “سينين” علم على كل جبل فيه شجر مثمر، وسمي بهذا لحسنه، وكل جبل بهذه الصفة فهو “سينين وسيناء”، وفي قراءة عمر بن الخطاب ما يعضد أنها جميعا لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تصرفها في الأسماء الأعجمية.
التفصيل:
أولا. في القرآن الكريم من وجوه البديع والبيان والموسيقى الداخلية والخارجية ما يذهب به عن مظنة العدول من لفظة “سيناء” إلى “سينين” بهدف السجع؛ فلا حاجة به لتلك المحسنات اللفظية، وهو الحسن بذاته، المعجز بطبيعته، وهو كلام رب العالمين، الذي نزهه الله – عز وجل – عن أن يكون شعرا، فقال: )وما هو بقول شاعر( (الحاقة: ٤١)، فهو غني عن تكلف محسنات كلام العرب شعرا ونثرا، أضف إلى هذا وذاك أنه بتلاوته يزداد حسنا إلى حسنه، ومعلوم أن من آداب التلاوة المتفق عليها: “تحسين الصوت بالقراءة، فالقرآن – بلا ريب – حسن، بل هو في غاية الحسن في ذاته، ولكن الصوت الحسن يزيده حسنا، فيأخذ بشغاف القلوب ويهز المشاعر هزا.
قال السيوطي: يسن تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها؛ لحديث «زينوا القرآن بأصواتكم»[1]. وفي لفظ: «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا»[2]. ولحديث: «حسن الصوت زينة القرآن»[3] [4].
والمتأمل لمحسنات القرآن المعنوية واللفظية، ومنها السجع، يلحظ نوعا من التنويع حسب ما يقتضيه المعنى القرآني، ولم يلتزم القرآن السجع لزوما يصل به لدرجة القبح والتكلف، وليس بمعقول أن القرآن – وهو المتحدي لبلغاء العرب وفصحائهم – يتكلف السجع ويعدل من لفظة لأخرى جريا وراءه، ومعلوم أن من أوصاف البلاغة كما يقول ابن وهب: “السجع في موضعه وعند سماح القريحة به، وأن يكون في بعض الكلام لا جميعه”.
ويقول أبو هلال العسكري: “ولو استغنى كلام عن الازدواج لكان القرآن؛ لأن نظمه خارج عن كلام الخلق، فكل هذا يؤذن بفضيلة السجع على شرط البراءة من التكلف، والخلو من التعسف”.
ويقول عبد القاهر الجرجاني: “وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا، ولا سجعا حسنا، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه، وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بدلا، ولا تجد عنه حولا”[5].
وبعد استقراء كلام البلاغيين في السجع وما يستحسن منه وما يستهجن، نعلم أن كتابا تحدى بنظمه ونسقه بلاغيي العرب، منزه أن يتحداهم بكلام يستهجنه عامتهم فضلا عن فصحائهم، ومعلوم أن وراء السجع مطلبا يقتضيه المعنى، يقول عنه ابن الأثير: “وهو أن يكون اللفظ فيه تابعا للمعنى، لا أن يكون المعنى فيه تابعا للفظ، فإنه يجيء عند ذلك كظاهر مموه، على باطن مشوه، ويكون مثله كغمد من ذهب على نصل من خشب”.
“ولا حرج علينا بعد هذا أن نطلق على فواصل القرآن أسجاعا، وإذا تتبعنا مثلا سورة القمر نجد سجعاتها قد بنيت على حرف الراء، لا تجد حرفا مستكرها، ولا فاصلة قلقة، ولا تضحية بالمعنى في سبيل السجع، مما جعله يفيض سحرا، ويقطر عذوبة”[6]، وهذا ما لا يكاد ينكره منصف بعد قليل تأمل لكتاب الله المعجز بنسقه المحكم ونظمه المتسق.
ثانيا. كلمة “سينين” في الآية الكريمة صفة، وإنما أضيفت لـ “طور” على سبيل “إضافة الموصوف إلى الصفة، ويجوز أن تعرب إعراب جمع المذكر السالم، ويجوز أن تلزمه الياء في جميع الأحوال، وتحرك النون بحركات الإعراب”[7].
بيد أن المفسرين في تحديد تلك الصفة على خلاف وإن كانت المعاني في جملتها تحمل معنى الحسن والبركة؛ فمنهم من يرى كما يقول مجاهد أن “طور” جبل، و “سينين” مبارك، وعن ابن عباس قال: “سينين المبارك الحسن”[8].
وعلى هذا القول يكون “طور” جبلا و “سينين” وصفا له، قد يكون بمعنى الحسن أو المبارك، أو المبارك الحسن، وعلى كل فهي من باب إضافة الموصوف للصفة.
ثالثا. قيل: إن “سينين” كل جبل فيه شجر مثمر وواحدته: سينينية[9]، فقوله تعالى: )وطور سينين (2)( (التين) قسم بالجبل المبارك الذي كلم الله عليه موسى وهو طور سيناء ذو الشجر الكثير، الحسن المبارك. قال الخازن: سمي “سينين” و “سيناء” لحسنه، ولكونه مباركا، وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى “سينين” و “سيناء”[10].
ومما يعضد ما ذهبنا إليه قراءة عمر بن الخطاب، وعبيد الله، والحسن، وطلحة: و”طور سيناء” بالكسر والمد، وقراءة عمر أيضا وزيد بن علي: و”طور سيناء” بالفتح والمد، وكلها لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية[11]. فالمعنى مأخوذ عن “النبط”، وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع، فجاز في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة، أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة، وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب، مثل: صفين، وغيرها[12].
قال الواحدي: والأولى أن يكون “سينين” اسما للمكان الذي به الجبل؛ لذلك سمي “سينين” أو “سيناء” لحسنه أو لكونه مباركا”[13].
وفي ضوء ما سبق فقد تبين أنه لا يوجد في هذه الآية إقحام للألفاظ غير الضرورية رغبة في إيجاد السجع، والقرآن كله بريء من تلك الفرية.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
وأول ما يطالعنا في الآية: ابتداء الكلام بالقسم المؤكد وهو ما يؤذن بأهمية الغرض المسوق له الكلام[14].
حذف الفعل – فعل القسم – على سبيل الاختصار، وكان من المفترض أن يقول: “أقسم بالتين”، لكن لما كان القسم في الكلام كثيرا، اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء، ثم عوض عن الباء بالواو في الأسماء الظاهرة، مثل قوله تعالى: )والليل( (الليل: 1)، )والفجر (1)( (الفجر)، )والتين( وغيرها[15].
بيد أن “أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتى معها بالفعل، ولا يجتمعان إلا قليلا، مع إقرارنا بأن الواو فرع الباء، كما يقول النحاة، لكن قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل”[16].
في الآيات عدة أساليب للتوكيد؛ فإذا كان من المعلوم أن “القسم من المؤكدات المشهورة التي تمكن الشيء في النفس وتقويه، وقد نزل القرآن الكريم للناس كافة، ووقف الناس منه مواقف متباينة؛ فمنهم الشاك، ومنهم المنكر، ومنهم الخصم الألد، فالقسم في كلام الله يزيل الشكوك، ويحبط الشبهات، ويقيم الحجة، ويؤكد الأخبار، ويقرر الحكم في أكمل صورة”.
ولو نظرنا لأحوال المقسم عليه لوجدناه فعلا ماضيا، وفي هذا زيادة تأكيد للمقسم عليه؛ ذلك أن “الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابا للقسم تلزمه اللام وقد”؛ وذلك قوله: )لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)([17].
هذا بالإضافة إلى عنصر التشويق؛ وذلك بإطالة القسم قبل المقسم عليه وتعدده، وفيه بيان لأهمية المقسم عليه.
وفي ضوء ما سبق نعلم أن الآية الكريمة تخلو من تكلف السجع ومن الخطأ في الاستعمالات اللفظية، ولا حجة لمن ادعى هذا الزعم.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث البراء بن عازب الله رضي الله عنه (18517)، وأبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة (1470)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (771).
[2]. صحيح: أخرجه الدارمي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب التغني بالقرآن (3501)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في تعظيم القرآن، فصل في تحسين الصوت بالقراءة والقرآن (2141)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3145).
[3]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب العين، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (10023)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 236)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3411).
[4]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج1، ص302، 303. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/ 2000م، ص160، 161 بتصرف.
[5]. أسرار البلاغة في علم البيان، عبد القاهر الجرجاني، مطبعة الترقي، القاهرة، 1320 هـ، ج1، ص7. البديع في ضوء أساليب القرآن الكريم، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 1422هـ/ 2001م، ص144.
[6]. البديع في ضوء أساليب القرآن الكريم، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 1422هـ/ 2001م، ص145.
[7]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج10، ص523.
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج20، ص112.
[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص112، 113.
[10]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1743.
[11]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج10، ص524.
[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج15، ص421.
[13]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآيتين.
[14]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج15، ص420.
[15]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص284، 285.
[16]. البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المكتبة العصرية، بيروت، د. ت، ج3، ص43، 44.
[17]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص285: 288 بتصرف. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج15، ص240.
الزعم أن القرآن الكريم يقوم بتوضيح ما لا يحتاج إلى توضيح
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم يأتي بكلمات لا فائدة منها، ومن ذلك قوله عز وجل: )فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة( (البقرة: 196)**، فكلمة “كاملة” لا لزوم لها؛ لأنها في زعمهم توضيح ما لا يحتاج إلى توضيح.
وجوه إبطال الشبهة:
من البلاغة في أساليب اللغة العربية إيثار الإيجاز، والبعد عن الحشو الذي لا يفيد؛ ولذلك كان الإطناب بلا فائدة ترجى أمرا غير مستحب، كما كان الحشو لغوا ممقوتا، وقد زعم بعض المتوهمين أن قوله عز وجل: )فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة(، فيه حشو باستخدام كلمة “كاملة”، حيث جاءت لتوضيح شيء لا يحتاج إلى توضيح، والصواب في زعمهم أن لا يؤتى بالوصف “كاملة” بعد كلمة “عشرة” التي تم بها المعنى.
وهذا زعم باطل من وجوه:
1) أن العدد “عشرة” من الأعداد التي يجوز وصفها بالكمال، فهو ليس بمركب ولا مكسور[1].
2) أن المراد بكلمة “كاملة” التأكيد على عدم إفادة التخيير بين “ثلاثة” و “سبعة” بل إفادة مجموعهما معا وهو “عشرة كاملة” [2].
3) قيل: معنى “كاملة”: الأمر بإكمالها وإتمامها، فهي خبر في معنى الأمر[3].
4) وقيل: المراد من “كاملة”: الدلالة على كمال هذه العبادة، وأنها لن تنقص بترك الهدي والاستعاضة عنه بالصيام[4].
5) وقيل: “كاملة” ذكرت على وجه التوكيد، والتوكيد أسلوب عربي يفيد تقرير الحكم في الذهن مرتين[5].
التفصيل:
أولا. إن العدد “عشرة” من الأعداد الموصوفة بالكمال، فمراتب الأعداد أربعة: آحاد، وعشرات، ومئات، وألوف، وما وراء ذلك فإما أن يكون مركبا أو مكسورا.
وكون “العشرة” عددا موصوفا بالكمال أمر يحتاج إلى التوضيح، الذي مفاده أن العدد “عشرة” من الأعداد الكاملة، التي تخلو من الكسر والتركيب. ومن ثم فإن إضافة “كاملة” في السياق ليست إضافة لا لزوم لها كما يدعى؛ بل تزيد في موضعها المعنى توكيدا.
ثانيا. إن المراد بكلمة “كاملة” التأكيد على عدم إفادة التخيير؛ فمعروف أن “ثلاثة” و “سبعة” تساوي “عشرة”؛ وذلك حتى لا يظن الناس أن المقصود: إما صوم ثلاثة أيام، وإما سبعة أيام، لذلك قال: “عشرة كاملة” حتى لا يلتبس الفهم[6]فأزال احتمال التخيير؛ لأن الواو قد تقوم مقام أو، ومنه )فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع( (النساء: ٣).
وقال الزمخشري: “الواو قد تجيء للإباحة في قولك: “جالس الحسن وابن سيرين”، ألا ترى أنه لو جالسهما معا، أو أحدهما كان ممتثلا، فجمع نفيا لتوهم الإباحة”[7].
قال الزجاج: لما جاز أن يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج، أو سبعة إذا رجع بدلا منها؛ لأنه لم يقل وسبعة أخرى – أزيل ذلك بالجملة من قوله “تلك عشرة” ثم قال “كاملة”؛ [8] لئلا يتوهم أن السبعة تتضمن الثلاثة، مثل قوله تعالى: )وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10)( (فصلت)، أي: مع اليومين اللذين بعدها في قوله: )خلق الأرض في يومين( (فصلت: ٩)[9].
ومن هنا يتبين أن “كاملة” أفادت تأكيدا على كون العدد المراد هو مجموع العددين “ثلاثة” و “سبعة”، وهو “عشرة”؛ ومن ثم فقد أفادت معنى جديدا، وأزالت شبهة إفراد أحدهما عن الآخر.
ثالثا. قيل في معنى “كاملة”: إن المقصود الأمر بإكمالها وإتمامها، فاللفظ وإن كان خبرا، فإن المعنى أمر. والتقدير: فليكن صيام تلك الأيام في مجموعها كاملة؛ لأن الحج المأمور به الحج التام على ما قال عز وجل: )وأتموا الحج والعمرة(. وهذا جبر للخلل الواقع في ذلك الحج، فليكن هذا الصوم صياما كاملا؛ حتى يكون جابرا للخلل الواقع في ذلك الحج، الذي يجب أن يكون تاما كاملا[10]، ومن ثم فإن وجود “كاملة” في الجملة له غرض مستقل هو الأمر بإكمالها، مما ينفي تماما وجود كلمة غير مرادة في القرآن.
رابعا. قيل: “كاملة” وردت للدلالة على كمال هذه العبادة؛ حيث إن الله تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة بعد الرجوع، فليس فيه بيان أنه طاعة عظيمة كاملة، فلما قال بعده: )تلك عشرة كاملة(، دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال، فلما أوجب الله صيام هذه الأيام العشرة، شهد سبحانه على أنها عبادة كاملة في غاية الكمال، فقال تعالى: )تلك عشرة كاملة(؛ أي: وإنها كاملة[11].
فذكر “كاملة” يزيل اللبس في الفهم، فلا يظن فاقد الهدي[12] المتحمل لكلفة الصوم أن صيامه أقل شأنا من الهدي، وليطمئن أن حجه كمل، ولا ينقص ذلك من أجره شيئا. [13]قيل: إنها”كاملة” في الثواب كمن أهدى. وقيل أيضا: “كاملة” في البدل عن الهدي. وقيل “كاملة” في الثواب كمن لم يتمتع[14].
ونخلص مما سبق أن كلمة “كاملة” في الآية الكريمة لم تأت زيادة أو حشوا؛ إنما جاءت لتضيف معنى جديدا هو كمال العبادة، وكمال الثواب الحاصل منها، والأجر الراجع على صاحبها.
خامسا. قيل: إن قوله تعالى: )تلك عشرة كاملة( جاءت فيه “كاملة”على وجه التأكيد بشكل مطلق.
حيث إن الحاجة إليها شديدة لإبراز معنى التمام في العدد، والتأكيد عليه وعلى أهمية مراعاته وعدم الانتقاص منه، ومن ثم لا نستطيع القول بأنها لا لزوم لها.
وقال ابن عرفة: مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما. وقال الزمخشري: فائدة الفذلكة[15] في كل حساب: أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا؛ ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وقد قالت العرب: علمان خير من علم.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قوله تعالى: )كاملة( قيل: بمعنى الأمر بإكمالها وإتمامها، فورد الكلام بصيغة الأسلوب الخبري، والمراد منه الأسلوب الإنشائي، والتقدير: فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة؛ لأن الحج المأمور به تام على ما قال )وأتموا الحج والعمرة لله(، وهذه الصيامات جبر للخلل الواقع في ذلك الحج.
وقيل: جاءت كلمة “كاملة” للتوكيد، والتوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب؛ كقوله عز وجل: )ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)، وقوله عز وجل: )ولا طائر يطير بجناحيه( (الأنعام: ٣٨).
والفائدة فيه: أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة، ويعرف بالصفات الكثيرة، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة، فالتعبير بالعبارات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملا على مصالح كثيرة، ولا يجوز الإخلال بها.
وجاء ذكر “كاملة” في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
[1]. انظر: التفسير الكبير المعروف بـ “مفاتيح الغيب”، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص842.
[3]. انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج1، ص234.
[4]. انظر: لباب النقول، السيوطي، دار إحياء التراث، بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص228.
[6]. مغني اللبيب، ابن هشام، دار الفكر، بيروت، ط6، 1985م، ص468.
[7]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص34.
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص402.
[9]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير هذه الآية.
[10]. التفسير الكبير المعروف بـ “مفاتيح الغيب”، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت ، عند تفسير الآية.
[11]. لباب النقول، أبو الفضل السيوطي، دار إحياء التراث، بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[12]. الهدي: ما يهدى إلى الحرم من النعم.
[13]. التفسير الكبير المعروف بـ “مفاتيح الغيب”، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت ، عند تفسير الآية.
[14]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص402، 403.
[15]. الفذلكة: الجمع، مأخوذة من: فذلك كذا وكذا، فأضيفت لهذا القول صيغة نحت مثل: بسمل إذا قال: بسم الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحروف “فذلكة” مجتمعة من حروف “فذلك كذا وكذا”.
الزعم أن القرآن الكريم به ألفاظ لا تعرفها لغة العرب
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم أتى بألفاظ لا تعرفها العرب، وذلك في قوله عز وجل: )سنسمه على الخرطوم (16)( (القلم)؛ حيث يقولون: إنه لم يرد أي ذكر – ولو على سبيل الفكاهة – على أن أنف الإنسان كان يسمى “الخرطوم” عند العرب**.
وجه إبطال الشبهة:
نزل القرآن الكريم بلغة العرب؛ ليفهمه أهل هذه اللغة على اختلاف لهجاتهم، وقد قال سبحانه وتعالى: )إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2)( (يوسف) (يوسف).
ويدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم يأتي بألفاظ كثيرة لم ترد في لغة العرب؛ مثل: كلمة “الخرطوم” في قوله سبحانه وتعالى: )سنسمه على الخرطوم (16)( (القلم)، ويزعمون أن العرب لم تطلق كلمة “الخرطوم” على أنف الإنسان، حتى ولو كان ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء، وهذا يدل في زعمهم على أن القرآن يستخدم ألفاظا لم يعرفها العرب.
ويرد على هذا الزعم ببيان هذه الحقيقة: لقد عرف العرب كلمة “الخرطوم”، وأطلقوها على كل أنف مستطيل كأنف الفيل والخنزير، ونحوهما، وإطلاقه على أنف الإنسان في هذه الآية استعارة؛ للاستخفاف، والاستهانة بهذا المشرك، وللدلالة على أنه لا يستحق أن يوصف بالصفات الإنسانية.
التفصيل:
قبل الحديث عن معرفة العرب لكلمة “الخرطوم” واستعمالهم لها، لا بد أن نوضح حقيقة هامة، ألا وهي: أن القرآن الكريم قد نزل على النبي – صلى الله عليه وسلم – بلسان عربي مبين؛ ليفهمه العرب؛ لهذا نجد كثيرا من آيات القرآن الكريم تبين أن الله قد يسره للذكر، ولا يمكن أن يكون ميسرا للذكر إلا إذا كانت ألفاظه معروفة وشائعة بين العرب؛ يقول سبحانه وتعالى: )قرآنا عربيا غير ذي عوج( (الزمر: ٢٨) [1]، ويقول: )فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)( (الدخان) [2].
وتصديقا لهذا فإن المتأمل لكلمة “الخرطوم” في قوله: )سنسمه على الخرطوم (16)( (القلم) يجد أنها كلمة عربية قد عرفها العرب، وأطلقوها على كل أنف مستطيل[3]، كأنف الفيل والخنزير ونحوهما، أما إطلاقه في هذه الآية الكريمة على أنف الإنسان؛ فهو من باب الاستعارة، وقد كانت العرب تتهاجى بنبذ الخصوم بصفات الحيوان كإطلاق المشفر – وهو شفة البعير – على شفة الإنسان؛ كما في قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجىا غليظ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإنسان، وهي للخيل، والبغال، والحمير[4] في قول النابغة يهجو لبيد بن ربيعة:
ألا من مبلغ عني لبيدا
أبا الورداء جحفلة الأتان
وهذه الاستعارة في الآية الكريمة من باب الاستخفاف والاستهانة بهذا المشرك – الوليد بن المغيرة – الذي سبق وصفه في الآيات السابقة علـى هـذه الآيـة بتسـع خصــال ذميمـة، لا نعلــم – كما يقول القرطبي – أن الله بلغ من ذكرعيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة، وهذه الخصال الذميمة هي: “حلاف، مهين، هماز، مشاء بنميم، مناع للخير، معتد، أثيم، عتل، زنيم”.
فأراد الله بعد ذكر مساوئه تلك، والتي تدل على أنه ليس إنسانا مستحقا للتفضيل والتكريم؛ لأن هذه الصفات تنافي الإنسانية، أراد سبحانه – عز وجل – بهذا الوصف “الخرطوم” الـذي يجمـع بيـن التشويـه والإهانــة أن يبيـن لنـا أن هـذا المشــرك – وقد جمع كل تلك الصفات الخلقية الذميمة التي تنافي الإنسانية – لا يستحق أن يوصف بدنه بصفات الإنسان، فلم يقل: “أنفه”، بل جاء بلفظ يدل على وصفه بالحيوانية، فمثله مثل الكلب، أو الخنزير، بل هو أدنى وأحط، وإمعانا في إذلاله وتحقيره توعده الله أن يجعل على خرطومه علامة تميزه في الدنيا، وتشير إلى ما تورط فيه من جرم ومنقصة، وقد حدث بعد نزول هذه الآية بسنين، في موقعة بدر، حيث عثر على الوليد بن المغيرة، وقد خطم خرطومه بالسيف، وسوف يبعث يوم القيامة وهذه العلامة على خرطومه إهانة له في الدنيا والآخرة[5].
إذن فإطلاق لفظ “الخرطوم” على أنف الإنسان في هذه الآية الكريمة من باب الاستعارة؛ – وهي من أساليب العرب في الكلام – ومن ثم فلا مجال لأحد أن يزعم أن هذه اللفظة لم يعرفها العرب؛ لأن في هذا الزعم تجنيا واضحا على الحقيقة، وعلى لغة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
إن المتأمل في قوله تعالى: )سنسمه على الخرطوم( يجد أن هذه الآية تحتوي على ثلاث كلمات فحسب، وعلى الرغم من هذا فقد حوت الكثير من الملامح البلاغية، وكذلك أشارت إلى شيء من وجوه إعجاز القرآن، ومنها:
في قوله سبحانه وتعالى: )سنسمه على الخرطوم( مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ لأن اللفظ المذكور جزء من المعنى، فالخرطوم معناه: الأنف، وأراد به الوجه، فعبر بالجزء وهو الخرطوم، وأراد به الكل وهو الوجه[6].
إن موقع هذه الآية بالنسبة للآيات التي سبقتها – الآيات التي تتحدث عن الصفات الذميمة للوليد بن المغيرة – بمثابة استئناف بياني؛ جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصف بها، فيسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح، والاجتراء على ربهم؟ وفي هذا تحريك لذهن السامع ولفت لانتباهه.
أما قوله: سنسمه، فمعروف أن الوسم يكون للإبل ونحوها، بجعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة، أو المالك المعين، وهذا كناية عن تحقيره، فالمعنى: سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا، وأنه لا يغني ماله وولده عنه شيئا، وهذا يظهر تمكن الله منه وإظهار عجزه.
أما وصف الأنف بالخرطوم، فكما سبق أن قلنا، هو استعارة للدلالة على غاية الإذلال والإهانة؛ إذ إنه صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذا كان الوسم في الوجه شينا، فكيف به على أكرم عضو فيه؟
فالوسم يقتضي التمكن، وكونه في الوجه يعتبر إذلالا ومهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالا، والتعبير عن الأنف بالخرطوم فيه جمع بين التشويه والإهانة، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة[7].
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله عبر عن هذا الوعيد بصيغة تدل على الاستقبال “سنسمه”، وفي هذا إعجاز غيبي للقرآن الكريم؛ حيث إنه أخبر بشيء لم يحدث بعد، وقد حدث بالفعل بعد هذا الإخبار في غزوة بدر، حيث خطم أنفه بالسيف كعلامة مميزة له، ويزداد إعجابنا بهذا الإعجاز الغيبي، إذا علمنا أن هذا الإعجاز الغيبي الذي ينبئ عن أمر في المستقبل قد سبق بإعجاز غيبي آخر، ولكن في الزمن المنصرم، وهو وصف هذا المشرك بصفة زنيم وهو: ولد الزنى، ولم يكن أهل مكة أو غيرهم يعرفون أن الوليد بن المغيرة كان ولد زنا حتى أخبر القرآن بهذا، وقد ذهب هو بنفسه إلى أمه، وما زال يهددها حتى اعترفت له بذلك.
هذه بعض من الأسرار البلاغية في هذه الآية الكريمة، والتي تدل بما لايدع مجالا للشك على إعجاز هذا الكتاب الحكيم، سواء الإعجاز في جمله وتراكيبه، أم الإعجاز في مفرادته، بما يوصد الباب أمام كل متصيد للأخطاء؛ لأن هذا الكتاب منزه عن الخطأ؛ فهو كلام رب العالمين.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. فقول الله سبحانه وتعالى: ) قرآنا عربيا غير ذي عوج ( أي: حال كونه قرآنا عربيا لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تعارض ولا تناقض.
[2]. وقول الله سبحانه وتعالى: ) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ( أي: يا محمد، فإنما سهلنا القرآن بلغتك ـ وهو لسان العرب ـ لعلهم يتعظون وينزجرون (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1241، 1342).
[3]. القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1407 هـ/ 1987م، مادة: خرطم.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج14، ج29، ص77.
[5]. الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م، ص126 بتصرف.
[6]. القرآن والصور البيانية، عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص173.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج14، ج29، ص76: 78 بتصرف.
الزعم أن القرآن لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء والرسل
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم لا يراعي الفوارق الزمنية بين الأنبياء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84)( (الأنعام)، فأيوب بن أموص بن أسباط عيص بن إسحاق، ويتساءلون: أين أيوب من عصر إبراهيم وإسحاق والد إسرائيل – عليهم السلام – في أرض فلسطين؟ وأين أموص والد النبي أشعياء من أيوب؟
وجوه إبطال الشبهة:
1) القرآن الكريم كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ، فهو يركز على مواطن العبرة ليؤدي رسالته.
2) كلام المفسرين والمؤرخين ليس حجة؛ لأنه كلام بشر، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
3) الترتيب لا يكون في كل الأحوال ترتيبا زمنيا فقط، فإذا دعت دواعي العبرة نظم بين بعض الوقائع المتفرقة والأسماء التي عاشت على مراحل متباعدة في سلك واحد، فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم كتاب هداية، وليس كتاب تاريخ:
فلا ينتظر منه أن يسرد تاريخا ووقائع متتابعة، فهو يركز على مواطن العبرة ليؤدي رسالته، وهي هداية الناس؛ ولذلك حينما يلقي القرآن الضوء على الأنبياء، فإنه لا يلزم أن يذكرهم في تسلسل زمني، بقدر ما يلزم أن يصل إلى هدفه، وهو هداية الناس: )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9)( (الإسراء). وبناء على ذلك فإذا دعت دواعي العبرة نظم بعض الوقائع المتفرقة، والأسماء التي عاشت على فترات متباعدة في سلك واحد فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
ثانيا. كلام المفسرين والمؤرخين ليس حجة؛ لأنه كلام بشر، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم:
كيف يذكر القرآن الأنبياء والرسل مرتبين ترتيبا زمنيا وتاريخيا، وبعثتهم كانت متفرقة الزمان والمكان؟! فكان لكل نبي زمان معين، ومكان معين حسب مقتضى كل زمان ومكان وما يحتاجه، فالله – عز وجل – لم يبعثهم عبثا، بل كان لكل نبي زمان، ولكل نبي مكان ابتعثه الله إلى أهل هذا المكان، فكيف يغفل القوم عن هذه النقطة ويطالبون القرآن بأن يذكرهم مراعيا الفوارق الزمنية أو المكانية؟!
ولذلك فإن كلام البيضاوي لا يكون حجة على القرآن، وكذلك فإن القرآن حينما ذكر أيوب في جملة هؤلاء الأنبياء، لم يكن ذكره من أجل الإشارة إلى الناحية التاريخية أو الزمنية، بقدر ما كان يفيد المقصد والهدف القرآني من خلال ذكر هؤلاء الأنبياء، لبيان فضلهم للناس، وشرف أصلهم كما ورد في تفسير قوله تعالى: )ومن ذريته( أنه حال. وفائدة الحال التنويه بهؤلاء المعدودين بشرف أصلهم وبأصل فضلهم، والتنويه بإبراهيم أو بنوح بفضائل ذريته، والضمير المضاف إليه عائد إلى نوح لا إلى إبراهيم؛ لأن نوحا أقرب مذكور[1]. وفي هذا إشارة إلى أن القرآن الكريم كان يقصد ذكرهم من جملة من شرفهم؛ لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع، ثنى بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل، فإن شرف الوالد سار إلى الولد[2]. ولا يلزم ذلك أن ذكرهم مرتبين ترتيبا زمنيا وتاريخيا، بل يذكر ما يفيد المقام.
ثالثا. الله – عز وجل – لم يبعث الأنبياء عبثا، بل كان لكل نبي زمان ومكان، فكيف يغفل القوم عن هذه النقطة ليطالبوا القرآن بأن يذكرهم بدون فوارق زمنية أو مكانية؟!
العطف في الآية موطن الشاهد عند المتوهمين بالواو، وهي لا تفيد الترتيب، كما أن الترتيب لا يكون في كل الأحوال ترتيبا زمنيا فقط، ولكنه قد يكون ترتيبا في الفضل، وقد يكون ترتيبا في الخصائص، والمزايا التي أكرم الله بها أنبياءه ورسله، وقد لمس هذا المعنى الإمام الرازي في تفسيره فقال: عندي فيه وجه من وجوه الترتيب؛ وذلك لأنه – عز وجل – خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل.
فأول المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق: الملك، والسلطان، والقدرة، والله – عز وجل – قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما.
المرتبة الثانية: البلاء الشديد والمحنة العظيمة، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية.
المرتبة الثالثة: من كان مستجمعا لهاتين الحالتين، وهو يوسف – عليه السلام – فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر.
المرتبة الرابعة: من فضائل الأنبياء – عليهم السلام – وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين، والمهابة العظيمة… وتخصيص الله – عز وجل – إياهم بالتقريب العظيم، والتكريم التام، وذلك كان في حق موسى وهارون عليهما السلام.
المرتبة الخامسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس – عليهما السلام -، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين.
المرتبة السادسة: الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع، وهم: إسماعيل واليسع ويونس ولوط عليهم السلام.
فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء – عليهم السلام – بحسب هذا الوجه الذي شرحناه[3].
الخلاصة:
إن ما جاء في القرآن الكريم من قصص ووقائع حق لا ريب فيه، ومطابقة أخبار القرآن الكريم للواقع – أيا كان هذا الواقع – ماضيا أو مستقبلا حق لاريب فيه، ولقد توصل العقلاء والعلماء عن طريق مناهج البحث العلمي الصحيحة إلى أن ما جاء في القرآن الكريم من تاريخ وأخبار؛ مطابق للواقع وذلك خير دليل على صدقه.
إن القرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاب تاريخ، وبناء على ذلك، فإذا دعت دواعي العبرة نظم بعض الوقائع المتفرقة والأسماء التي عاشت في فترات متباعدة في سلك واحد، فإن هذا يحقق الهدف القرآني.
(*) موقع المعرفة.
[1]. التفسير الوسيط، د. سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط4، 1408 هـ/ 1987م، ج5، ص163.
[2]. روح المعاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[3]. انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسير الآية.
الزعم أن القرآن خالف التوراة في عدد ألواح موسى عليه السلام
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن خالف التوراة في ألواح موسى – عليه السلام – فيقولون: إن موسى – عليه السلام – كتب الشريعة على لوحين لا على ألواح، وعلى اللوحين كتب الوصايا العشر فقط وليس تفصيلا لكل شيء، وهذا يتناقض مع قوله سبحانه وتعالى: )وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145)( (الأعراف).
وجها إبطال الشبهة:
1) لفظ “الألواح” يستعمل في اللغة العربية للدلالة على الاثنين فأكثر من باب أن أقل الجمع اثنان، ومن ثم اختلف المفسرون في عدد هذه الألواح وهيئتها.
2) نصوص التوراة – المحرفة – التي بين أيدينا الآن تثبت أن الأحكام والشرائع والوصايا التي تلقاها موسى – عليه السلام – من ربه، كتبت على أكثر من لوحين، فضلا عن أنها أشارت إلى كل شيء في شريعة موسى – عليه السلام – جملة، وما يحتاج لتفصيل فصلته.
التفصيل:
أولا. تستخدم لفظة الألواح في اللغة العربية للدلالة على الاثنين فأكثر من باب أن أقل الجمع اثنان، ومن ثم اختلف المفسرون في عددها وهيئتها:
الألواح جمع لوح، وهو قطعة مربعة من الخشب، وتسمية الألواح التي أعطاها الله موسى ألواحا من بابا المجاز؛ لأن الألواح التي أعطيها موسى – عليه السلام – كانت من الحجارة، كما في التوراة: “قال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل، وكن هناك، فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم”. (الخروج 24: 12)، فتسميتها بالألواح، لأنها على صورة الألواح، والذي بالإصحاح الرابع والثلاثين أن اللوحين كتبت فيهما الوصايا العشر التي ابتدأت بها شريعة موسى، وكانا لوحين، كما في التوراة، أما إطلاق الجمع عليها في سورة الأعراف فهو: إما من باب إطلاق صيغة الجمع على المثنى؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان، وإما لأنهما كانا مكتوبين على كلا وجهيهما، كما يقصه سفر الخروج: “لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هنا كانا مكتوبين”. (الخروج 32: 15)، فكانا بمنزلة أربعة ألواح، وأسندت الكتابة إلى الله تعالى؛ لأنها كانت مكتوبة نقشا في الحجر من غير فعل إنسان، بل بمحض قدرة الله تعالى كما يفهم من سفر الخروج: “واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين”. (الخروج 32: 16) ([1]).
وللمفسرين آراء في عدد وهيئة هذه الألواح، قال بعضهم: إنها كانت عشرة ألواح. وقيل: سبعة، وقيل: تسعة وإنها كانت من زمرد([2]) جاء بها جبريلعليه السلام، وقيل: من زبرجدة خضراء وياقوته حمراء، وقال الحسن: كانت من خشب نزلت من السماء، وقال وهب: كانت من صخرة صماء لينها الله لموسىعليه السلام، وأما كيفية الكتابة، فقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور. ذكر ابن كثير: “وكانت الألواح من جوهر نفيس ففي الصحيح: أن الله كتب له التوراة بيده وفيها مواعظ من الآثام وتفصيل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام، وأمره أن يأخذها بعزم ونية صادقة وقوية، وأن يأمر قومه أن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها والخارج عنها له عاقبة سيئة قال سبحانه وتعالى: )وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145)( (الأعراف) ([3]).
ثانيا. نصوص التوراة التي بين أيدينا تثبت أن الشرائع والوصايا التي تلقاها موسى من ربه كتبت على أكثر من لوح وكانت متضمنة لكل شيء يخص رسالة موسى عليه السلام:
يذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن ما كتب لموسى – عليه السلام – في الألواح هو أصول وكليات هامة للشريعة التي أوحى الله بها إلى موسى – عليه السلام – ومن ذلك خطاب الله لموسى – عليه السلام – قائلا: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي، لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا، اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه. أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشته بيت قريبك”. (الخروج 20: 3 – 17).
واشتهرت عند بني إسرائيل بالوصايا العشر، وبالكلمات العشر أي الجمل العشر، وقد فصلت في الإصحاح العشرين إلى نهاية الحادي والثلاثين من سفر الخروج، ومن جملتها الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى في جبل سيناء، وجاء في الإصحاح الرابع والثلاثين أن الألواح لم تكتب فيها إلا الكلمات العشر التي بالفقرات السبع عشرة منه([4]).
يتضح لنا مما سبق أن التوراة تنص في الإصحاح الرابع والثلاثين على أنه لم يكتب في الألواح سوى الوصايا العشر، بيد أننا ونحن نتصفح كتابهم اتضحت لنا عدة أمور منها:
الأمر الأول: في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الخروج جاء ما نصه: “وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل، وكن هناك. فأعطيك لوحي الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم”. (الخروج 24: 13)، أخبرني بربك أيها العاقل، ماذا تفهم من صريح هذا الكلام، ألست تفهم معي – ويشاركنا فيه كل العقلاء المنصفين – أن موسى – عليه السلام – تلقى من ربه ألواحا مكونة من:
لوحين للعهد “لوحي الحجارة” للعمل بالتوراة.
عدة ألواح مكتوب عليها كل أحكام التوراة.
إن المنطق والعقل يقضيان بأن أحكام التوارة – الشريعة والوصية – لا يمكن كتابتهما على لوح أو لوحين، بل عدة ألواح، يؤيد ذلك قول التوراة: “فجاء موسى وحدث الشعب بجميع أقوال الرب وجميع الأحكام، فأجاب جميع الشعب بصوت واحد وقالوا: كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل”. (الخروج 24: 3).
الأمر الثاني: أن الله – سبحانه وتعالى – أخبر موسى – عليه السلام – بعبادة قومه للعجل، فنزل موسى – عليه السلام – من الجبل وكسر لوحي العهد: “فقال الرب لموسى: “اذهب انزل؛ لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر، زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به، صنعوا لهم عجلا مسبوكا، وسجدوا له وذبحوا له وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر” وقال الرب لموسى: “رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبا عظيما” فتضرع موسى أمام الرب إلهه، وقال: “لماذا يا رب يحمى غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال، ويفنيهم عن وجه الأرض؟ ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك، اذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك وقلت لهم: أكثر نسلكم كنجوم السماء، وأعطى نسلكم كل هذه الأرض التي تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد” فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه، فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده: لوحان مكتوبان على جانبيهما من هنا ومن هنا كانا مكتوبين واللوحان هما صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحي وسمع يشوع صوت الشعب في هتافه فقال لموسى: “صوت قتال في المحلة”. فقال: “ليس صوت صياح النصرة ولا صوت صياح الكسرة، بل صوت غناء أنا سامع” وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى، وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل”. (الخروج 32: 7 – 19).
ويتبين لنا من النص السابق أن الألواح لم تكن كما يدعي هؤلاء لوحين فقط، بل أربعة.
الأمر الثالث: أن الله أمر موسى – عليه السلام – بإنشاء لوحين جديدين: “ثم قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين، فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما”. (الخروج 34: 1).
وجاء في سفر التثنية أن موسى كسر لوحين كان عليهما كل أحكام الشريعة: “وأعطاني الرب لوحي الحجر المكتوبين بأصبع الله، وعليهما مثل جميع الكلمات التي كلمكم بها الرب في الجبل من وسط النار في يوم الاجتماع”. (التثنية 9: 10).
ومن خلال النصين نستنتج أن لوحي العهد لا يمكن أن يحملا كل أحكام الشريعة التي نزلت يوم الاجتماع، بل المناسب لها ألواح بالجمع ومنها لوحي العهد.
وتأسيسا على ما سبق فإنه من السخف والجهل القول بأن شريعة موسى – عليه السلام – اقتصرت كتابتها على لوحين فقط، وليس هذا حكما خاليا من الأدلة، بل الأدلة من كلام القوم وبلسان القوم.
يبقى بعد ذلك شيء أخير وهو ادعاء القوم أن ما كتب هو الوصايا العشر فقط – وقد ألمحنا لذلك في الوجه الأول – وباقي الأحكام والشرائع لم تكتب، وفي سبيل توضيح هذا الأمر والرد عليه نقول: من خلال قراءة النصوص السابقة التي أوردناها في الوجه الثاني يتضح أن الألواح كتب فيها كل شيء من أحكام الشريعة.
ومن ثم فلا مجال للحكم بخطأ القرآن حين قال: )وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء( (الأعراف: 145)، ويعلق صاحب “المنار” على هذه الآية قائلا: أي إننا أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها من كل نوع من أنواع الهداية موعظة من شأنها أن تؤثر في القلوب ترغيبا وترهيبا وتفصيلا لكل نوع من أصول التشريع، وهي أصول العقائد والآداب وأحكام الحلال والحرام، وتفصيلها، ذكرها معدودة مفصولا بعضها عن بعض([5]).
غير أن صاحب “التحرير والتنوير” يلفت النظر إلي شيء جميل ولمحة رائعة عند تفسيره لهذه الآية، فيذكر أن التفصيل هنا التبيين للمجملات، ولعل الموعظة هي الكلمات العشر، والتفصيل ما ذكر بعدها من الأحكام في الإصحاحات([6]).
بناء على ما سبق نستطيع القول بأن القرآن الحكيم جاء صادقا في حديثه عن ألواح موسى – عليه السلام – وما سجل عليها، غير أن الخلط في عقول هؤلاء وفي كتاباتهم جعلهم يتصورون الخطأ فيه، تعالى الله أن يكون في كلامه خلط أو خطأ.
الخلاصة:
لفظ الألواح يستعمل في لغة العرب للدلالة على اثنين من باب أن أقل الجمع اثنان؛ ومن ثم فلا خطأ ولا إشكال فيما أورده القرآن عنها، فضلا عن اعتراف التوراة بأن لوحي العهد كانا ذا وجهين. وهذا اعتراف بصحة القرآن.
أشارت نصوص التوراة التي بين أيدينا أن موسى – عليه السلام – تلقى من ربه نوعين من الألواح هما: لوحى العهد، وعدة ألواح كتب عليها أحكام الشريعة والوصية.
كما أشارت التوراة أيضا أن موسى – عليه السلام – كسر لوحين كانا عليهما جميع كلام الرب، وأمره الرب بكتابة لوحين آخرين بدلا منهما وهذا يفسر بأن ما كتب على الألواح ليس فقط كما زعم القوم بما يسمونه بالوصايا العشر، بل كل شيء وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: )وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين (145)( (الأعراف).
(*) موقع الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة www.kjee.net
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 5، ج9، ص96.
[2]. الزمرد: حجر كريم أخضر اللون شفاف.
[3]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص281.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج9، ص97، 98.
[5]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج9، ص188.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج9، ص98.
الزعم أن القرآن ينص على أن المسيح ابن الله
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم يقرر أن المسيح هو روح الله، وروح الله غير مخلوقة، وإذا كانت روح الله مخلوقة وكلمته مخلوقة، فإن الله كان قبل خلقهن بلا روح ولا عقل، وهذا لا يمكن تصوره، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17)( (مريم)، وقوله سبحانه وتعالى: )والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91)( (الأنبياء). مستدلين بذلك على أن عيسى – عليه السلام – ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وجها إبطال الشبهة:
1) نسب المسيح عند النصارى يقرر بشريته، وأنه ليس ابن الله، ونصوص كتابهم المقدس تثبت ذلك، وقد ذكر القرآن ذلك صراحة.
2) أصل الإشكال عند النصارى في هذه القضية، هو عدم فهمهم وإدراكهم للنص القرآني، أو فهمهم النص القرآني وفق ما يروق لهم، واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بآيات القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. نسب المسيح عند النصارى يقرر بشرية المسيح، وأنه ليس ابن الله.
إن زعم النصارى أن المسيح ابن الله، في نفس الوقت الذي ينسب فيه الكتاب المقدس عيسى – عليه السلام – إلى يوسف النجار، يدل على فساد هذا القول وعدم صحته؛ حيث ورد في إنجيل لوقا في نسب المسيح: ” ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن ابن يوسف، بن هالي، بن متثات، بن لاوي، بن ملكي، بن ينا، بن يوسف، بن متاثيا، بن عاموص، بن ناحوم، بن حسلي، بن نجاي، بن مآث، بن متاثيا، بن شمعي، بن يوسف، بن يهوذا، بن يوحنا، بن ريسا، بن زربابل، بن شألتيئيل، بن نيري، بن ملكي، بن أدي، بن قصم، بن ألمودام، بن عير، بن يوسي، بن أليعازر، بن يوريم، بن متثات، بن لاوي، بن شمعون، بن يهوذا، بن يوسف، بن يونان، بن ألياقيم، بن مليا، بن مينان، بن متاثا، بن ناثان، بن داود، بن يسى، بن عوبيد، بن بوعز، بن سلمون، بن نحشون، بن عميناداب، بن أرام، بن حصرون، بن فارص، بن يهوذا، بن يعقوب، بن إسحاق، بن إبراهيم، بن تارح، بن ناحور، بن سروج، بن رعو، بن فالج، بن عابر، بن شالح، بن قينان، بن أرفكشاد، بن سام، بن نوح، بن لامك، بن متوشالح، بن أخنوخ، بن يارد، بن مهللئيل، بن قينان، بن أنوش، بن شيت، بن آدم، ابن الله”. (لوقا 3: 23 – 38).
فالمسيح كما هو واضح من النص – على فرض صحته – لم ينسب لله، بل الذي نسب لله هو آدم، ويعني ذلك أن الكتاب المقدس نفسه يضع آدم في مكانة أعلى من المسيح.
ويذكر إنجيل متى نسب المسيح فيقول: “كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم، إبراهيم ولد إسحق… ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح”. (متى 1 – 16). وورد فيه أيضا: “فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع؛ لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكى يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل. هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب، وأخذ امرأته ولم يعرفها، حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع”. (متى 1: 21 – 25).
إذن فآدم – في زعمهم – هو ابن الله، وأما المسيح فهو أحد أبناء آدم كما في كتبهم. وأما نحن – المسلمين – فعقيدتنا واضحة فهو ابن مريم، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم.
ومن الجدير بالذكر أن المسيح – عليه السلام – لم يدع “عمانوئيل” رغم أن هذا الاسم يطلق على من ليسوا بأبناء الله، كما أن النص يقول: إنها ستسميه “يسوع”؛ لكي تتحقق النبوءة القديمة التي تقول: إنه سيسمى “عمانوئيل”، ومن فمهم وبلسانهم أنفسهم يدانون! فقد كان الناس جميعا يقولون بأن أبا عيسى هو يوسف النجار، لا نقول افتراء عليهم ذلك، بل إن أناجيلهم هي التي تقول، ومن ذلك: “وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة”. (يوحنا 1: 45). “ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعي المسيح”. (متى 1: 55). “وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: أليس هذا ابن يوسف”؟ (لوقا: 4: 22)، وكان عيسى – عليه السلام – يسمع ذلك منهم فلا ينكره عليهم، بل إن لوقا نفسه قال عن مريم ويوسف: إنهما “أبواه” أو “أبوه وأمه”. ونص ذلك: “وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه، ليصنعا له حسب عادة الناموس، أخذه على ذراعيه”. (لوقا 2: 27). “وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما. وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف. ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالسا في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه اندهشا. وقالت له أمه:«يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين!» فقال لهما:«لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي”؟ (لوقا 2:41 – 49)[1].
نصوص الكتاب المقدس أكبر دليل على أن المسيح ليس ابن الله:
إن الكتاب المقدس لم يقل: إن عيسى – عليه السلام – وحده هو ابن الله، بل لقد أطلقت هذه اللفظة على بشر كثيرين منذ أول الخليقة؛ حيث سمى آدم كما رأينا “ابن الله”. وهذه شواهد على ما نقول، وهي أكبر برهان على أن كل ما يزعمه القوم كلام باطل بأدلة من كتابهم المقدس نفسه، لا من العقل والمنطق فحسب، ناهيك عن أدلة القرآن الكريم:
“وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. فقال الرب: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه، هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة». كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم”. (تكوين 6: 1 – 4)، “قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجدا وعزا”. (المزامير 29: 1)، “من في السماء يعادل الرب، من يشبه الرب بين أبناء الله”. (المزامير89: 6)، “طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء الله يدعون”. (متى 5: 9).
فلماذا يخصون عيسى – عليه السلام – وحده بهذه الصفة، فضلا عن أن المسيح قد أخذه الشيطان ليجربه فوق الجبل ويدفعه إلى السجود، وليس من المعقول أن يجرب الشيطان الله، ليرى أيمكن أن يسجد له الله أم لا، كما أنه ليس من المعقول أن يكون رد الله على الشيطان هنا هو “اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد”. (لوقا 4: 8)، وهو ما يعني بكل جلاء أن عيسى كان ينظر لله على أنه “ربه” ومن الواجب عليه أن يسجد له لا على أنه هو نفسه ولا على أنه “أبوه”، كما أنه – عليه السلام – قد سمى نفسه أيضا: “ابن الإنسان”. (متى 11: 19).
فهذا كتابهم المقدس يدلل على أن المسيح ليس ابن الله، وإلا لكان كل هؤلاء أيضا أبناء الله – تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا – قال سبحانه وتعالى: )لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وهناك دليل آخر من أفواههم، حيث يقول د. شارل جنيبر – الذي نشأ مسيحيا من أب مسيحي، وأم مسيحية في بيئة مسيحية صحيحة – في كتاب “المسيحية: نشأتها وتطورها”: والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين هي أن عيسى لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه: إنه “ابن الله”، وذلك تعبير لم يكن في الواقع ليمثل بالنسبة إلى اليهود سوى خطأ لغوي فاحش، وضرب من ضروب السفه في الدين، كذلك لا يسمح لنا أي نص من نصوص الأناجيل بإطلاق تعبير “ابن الله” على عيسى، فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين المتأثرين بالثقافة اليونانية، إنها اللغة التي استخدمها القديس بولس منشئ الديانة المزعومة، والذي وقف وراء زعم ألوهية المسيح[2].
إن القرآن الكريم لم يذكر أن عيسى ابن الله، بل إن القرآن بين أنه بشر:
لقد دعا القرآن إلى التوحيد وإلى عبادة الله وحده؛ مما يدل على جهل الكافرين الفاضح بحقيقة الأمور، حيث إنهم تركوا كل هذه الآيات التي تقرر بشرية المسيح، وما هذا إلا لجهلهم واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بآيات القرآن الكريم.
ومن الآيات التي تبين بشرية المسيح، وتدعو إلى التوحيد قوله – سبحانه وتعالى – في سورة المائدة: )لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75)( (المائدة). وقال سبحانه وتعالى: )وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة).
وردا على ما يقول النصارى من أن المسيح ابن الله، فقد قال الله سبحانه وتعالى: )وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)( (التوبة).
فهذا هو القرآن الكريم – الذي تستدلون بكلامه – يدعو إلى التوحيد، بل إنه يصف من يقول: إن المسيح ابن الله بالكفر، ولكن إذا احتاج ضوء النهار إلى دليل فلا يثبت في الأذهان شيء: )فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)[3].
ثانيا. أصل الإشكال عند النصارى في هذه الآية هو عدم فهمهم وإدراكهم للنص القرآني، واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بآيات القرآن:
يحاول النصارى الاستدلال بالقرآن الكريم على أن المسيح جزء من الإله، انفصل عن الكل، ولهم أن يعتقدوا من العقائد الباطلة ما يشاءون، أما أن يستدلوا على عقيدتهم الباطلة في أن عيسى ابن الله – تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا – بآيات القرآن الكريم التي تدعو إلى توحيد الله، وتحارب الوثنية بكل وسيلة، فهذا لا سبيل لهم إليه.
حيث إن الإشكال عند النصارى في هذه الآية هو عدم فهمهم، وإدراكهم للنص القرآني، أو فهمهم للنص القرآني وفق ما يروق لهم؛ واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بآيات القرآن الكريم.
ولو كان هذا الاستدلال بالآية الكريمة: )فنفخنا فيها من روحنا( (الأنبياء: 91) صحيحا، لكان هذا دليلا على بنوة آدم – عليه السلام – لله – سبحانه وتعالى – من باب أولى وليس عيسى وحده، فالله – سبحانه وتعالى – يقول: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي( (الحجر: ٢٩)، تماما مثلما جاء في الحديث عن عيسى وأمه.
بل ليس آدم وعيسى – عليهما السلام – وحدهما فقط يصيران ابني الله – عز وجل – إن صحت الآية دليلا، بل كل أبناء آدم يصبحون أبناء الله – سبحانه وتعالى – فالله – عز وجل – يقول عن النوع الإنساني كله: )الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)( (السجدة).
وأما استدلالهم هذا فغير صحيح، بل هو استدلال فاسد، فلو أننا تأملنا القرآن الكريم حيث يقول عن آدم: )ونفخت فيه من روحي( مثلما يقول عن مريم: )فنفخنا فيها من روحنا( لوجدنا أن النفخ حسبما يقول، لم يتم في آدم وعيسى، بل في آدم ومريم.
إن الذي يترتب على ذلك أن يكون الخارج من آدم ومريم متشابها، أي: إن البشر جميعا، وهم الذين خرجوا من صلب آدم، يشبهون عيسى الذي خرج من رحم مريم، وعلى هذا فإما أن نقول: إن الطرفين جميعا – البشر من ناحية، وعيسى من الناحية الأخرى – آلهة إذا قلنا إن “الروح” تعني “الألوهية”، أو أن نقول: إنهم جميعا بشر على أساس أن “الروح” تعني “الحياة، والوعي، والإرادة، وما إلى ذلك”، وعلى النصارى والزاعمين أن عيسى ابن الله أن يختاروا الطريق للتمييز بين عيسى – عليه السلام – وأبناء آدم، وليعلموا أن الطريق أمامهم مسدود، إذ هما شيء واحد، على حد زعمهم.
فلو كان إلها لكان البشر جميعا آلهة، فأنت إله، وأنا إله، فإذا حكموا بذلك فلن تستقيم الحياة، ولن يكون لإرسال الرسل فائدة، وستكون الدنيا بأسرها عبثا، ولن تكون هناك خطيئة، فلا بد إذن أن يكونوا بشرا، فمن هنا نقول بأن عيسى – عليه السلام – بشر.
الخلاصة:
المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وليس هو الله ولا ابن لله، ولا ثالث ثلاثة كما زعمت طوائف النصارى وبشريته ثابتة في كتبهم، وعدم بنوته لله ثابتة في نسبه في كتبهم كما في (لوقا: 3/ 23 – 38)، ذلك إن صح السند في هذه النسبة، مع استبعاد أنه ابن يوسف النجار بالطبع.
ومما يدحض قولهم ببنوة عيسى لله – عز وجل – نصوص الكتاب المقدس التي تذكر أن عيسى – عليه السلام – ليس وحده ابن الله، بل أطلقت على كثير من البشر تلك الصفة، وهذا على فرض صحة هذه النصوص.
الذي يستدل بالقرآن على بنوة المسيح لله – عز وجل – كيف غفل عن الآيات الواضحة – وهي كثيرة – في الدعوة إلى توحيد الله تعالى، والإيمان به وحده، ودعوة الله تعالى على لسان المسيح نفسه: )أن اعبدوا الله ربي وربكم( (المائدة: 117)، بل وإنكار دعوى النصارى في التثليث وتكفيرهم بها؟! )لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة( (المائدة: ٧٣).
إن الإشكال عند النصارى في قوله سبحانه وتعالى: )فنفخنا فيها من روحنا( هو عدم فهمهم وإدراكهم للنص القرآني، أو فهمهم للنص على وفق أهوائهم، واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بالقرآن.
(*) الرسول النكاح والقمص المنكوح، إبراهيم عوض، مقال على شبكة الإنترنت.
[1]. انظر: النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1992م، ص65 وما بعدها. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م ، ص78 وما بعدها.
[2]. أساقفة كنيسة إنجلترا وألوهية المسيح، أحمد ديدات، ترجمة: محمد مختار، رمضان الصفناوي، علي عثمان، كتاب المختار، القاهرة، 1991م، ص202، 203.
[3]. الرسول النكاح، والقمص المنكوح، د. إبراهيم عوض، مقال من شبكة الإنترنت.
الزعم أن وجود المتشابه في القرآن الكريم ينافي إعجازه وبلاغته، ولا فائدة منه
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن المتشابهات في القرآن الكريم تنافي بلاغته، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( (آل عمران: ٧).
ويتساءلون: ألا يعد وجود هذه المتشابهات نقصا في البلاغة والإحكام**؟!
وجوه إبطال الشبهة:
من أصول البلاغة أن يكون الكلام محكما موجزا بعيدا عن التكرير والإعادة؛ حتى يصيب معانيه في قوة ورصانة.
ويتوهم بعض أصحاب الشبهات أن المتشابهات من آيات القرآن تقلل من بلاغته وإحكامه، وتبعد به عن القوة والرصانة، ويدعون بأن قوله تعالى: )فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه( دليل على أن المتشابهات لا فائدة منها، ولا تحقق فهما دقيقا محكما لمعاني القرآن كما يتوهمون.
وقد رد اللغويون وعلماء البلاغة على هذه الشبهة بالوجوه الآتية:
1) أن آيات القرآن، إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.
2) أن الحكمة من إنزال المتشابه في القرآن أن القرآن نزل بلغة العرب، وتبعا لمعانيها ومذاهبها، وهي لغة فيها الإيجاز والإطناب، والاختصار والإطالة، والتوكيد والتجريد، والتلميح والتصريح، والخفي والجلي.
3) أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادها وطلبها، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء).
التفصيل:
أولا. آيات القرآن: إما محكمة للعمل بها، وبيان الأحكام المطلوبة من الخلق، وإما متشابهة، يجب الإيمان بها وردها إلى المحكمات.
المحكم والمتشابه في القرآن:
يوصف القرآن كله بأنه محكم؛ كما في قوله تعالى: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود) والمراد بالإحكام هنا: اتفاقه وعدم تطرق النقص والخلل إليه.
ويوصف كذلك بأنه كله متشابه، كما في قوله تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم( (الزمر: ٢٣). ومعنى متشابه: أنه يشبه بعضه بعضا في صدق أخباره، وعدالة أحكامه، وسمو بلاغته، وروعة نظمه، ونصوع حقائقه، وتصديق بعضه بعضا؛ فلا تناقض فيه ولا تضارب.
ويوصف القرآن أيضا بأن بعضه محكم، وبعضه متشابه، وهو ما جاء في قوله عز وجل: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)؛ فقسمت الآية الكريمة آيات الكتاب قسمين: محكمات هن أم الكتاب وأساسه ومعظمه، وأخر متشابهات، والمراد بالمحكم هنا: البين بنفسه، الدال على معناه بوضوح، فلا يعرض له شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى؛ كما قال الراغب في “مفرداته”[1].
معنى المتشابه ومظاهر تشابهه وأسبابه:
والمراد بالمتشابه هنا: ما أشكل تفسيره؛ لمشابهته غيره، إما من حيث اللفظ وإما من حيث المعنى؛ فلذا قيل: المتشابه ما لا ينبئ ظاهره عن مراده، أو ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
قال الراغب: وحقيقة ذلك أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:
محكم على الإطلاق.
متشابه على الإطلاق.
محكم من وجه ومتشابه من وجه آخر[2].
والمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط.
متشابه من جهة المعنى فقط.
متشابه من جهتيهما.
وبين الراغب أن المتشابه من جهة اللفظ ضربان: منه ما يرجع إلى غرابة اللفظ أو اشتراكه، ومنه ما يرجع إلى جملة الكلام المركب.. إلخ.
والمتشابه من جهة المعنى: ما يتعلق بأوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا؛ إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما نحسه.
ثم ذكر الإمام الراغب المتشابه من جهة اللفظ والمعنى جميعا بأضربه الخمسة، ومثل لها من جهة الكمية؛ كالعموم والخصوص، أو من جهة الكيفية؛ كالوجوب والندب، أو من جهة الزمان؛ كالناسخ والمنسوخ، أو من جهة المكان؛ كالأمور المتصلة بعادات الجاهلية، وما كان عليه العرب، أو من جهة الشروط التي يصلح بها العمل أو يفسد. ثم جمع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل للوقوف عليه؛ كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته؛ كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة.
وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم. ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه في قوله – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس رضي الله عنهما: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.
قال: وإذا عرفت هذه الجملة علم أن الوقف على قوله: )وما يعلم تأويله إلا الله( ووصله بقوله: )والراسخون في العلم( جائز، وأن لكل واحد منهم وجها، حسبما دل عليه التفصيل المتقدم.
وخلاصة هذا الكلام: أن في القرآن آيات محكمات واضحات الدلالة، بينات المعنى، لا تحتاج إلى غيرها لبيان مفهومها ومضمونها، وهذه هي أم الكتاب، وأصله الذي يجب أن يرد إليه ما سواه؛ ليفهم في ضوئه.
وهناك آيات متشابهات تشابها كليا حقيقيا فلا يمكن أن يعلمها إلا الله – ولا يحاول أن يعرف حقيقتها إلا الذين في قلوبهم زيغ وانحراف – أو تشابها جزئيا إضافيا وهذا هو أكثر المتشابه، وهو الذي يعلمه الراسخون برده إلى المحكمات التي هي الأصل[3].
يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في “الإتقان”: “قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب؛ لأنه إليها ترد المتشابهات، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله في كل ما تعبدهم به من معرفته، وتصديق رسله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وبهذا الاعتبار كانت “أمهات”. ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.
ومعنى ذلك: أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة، كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات. ومراد الشارع منها التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين ورسخ العلم، لم تبال بما أشكل عليك.
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ: التقدم إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والمشروع.
وهذا كما يوجد في كتاب الله، يوجد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من لوازم الكلام، ومقتضيات الخطاب، فإذا وجد في كلام الله المعجز؛ فلأن يوجد في كلام رسوله من باب أولى[4].
ثانيا. ربما يسأل أحدهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن من أراد لعباده الهدى والتبيان؟
والجواب: أن القرآن نزل بلغة العرب ومعانيها ومذاهبها، فلا حرج من وجود المتشابه في القرآن.
فالقرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز، والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء وإغماض بعض المعاني؛ حتى لا يظهر عليها إلا اللقن[5] وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي.
ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا؛ حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس.
وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، منه ما يجل ومنه ما يدق؛ ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه؛ ولتكون للعالم فضيلة النظر وحسن الاستخراج؛ ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا لم يكن عالم ومتعلم، ولا خفي ولا جلي؛ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها؛ فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر.
وعلى هذا المثال كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء، ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف، الذي يتحير فيه العالم المتقدم، ويقر بالقصور عنه النقاب المبرز[6].
وأصل التشابه: أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان؛ قال الله – عز وجل – في وصف ثمر الجنة: )وأتوا به متشابها( (البقرة: ٢٥)؛ أي: متفق المناظر، مختلف الطعوم، وقال: )تشابهت قلوبهم( (البقرة: ١١٨)؛ أي: يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة.
ومنه يقال: اشتبه علي الأمر، إذا أشبه غيره؛ وشبهت علي: إذا لبست الحق بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه؛ لأنهم يشبهون الحق بالباطل.
ثم قد يقال لكل ما غمض ودق: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها والتباسها بها[7].
ثالثا. القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإعجازه ظاهر في محكمه ومتشابهـه، وفيـه الهدايـة لمـن أرادهـا وطلبهـا، )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) ( (النساء).
ففي قوله تعالى: )منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران:٧)، دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: )كتاب أحكمت آياته( (هود: ١)، وقال: )تلك آيات الكتاب الحكيم (1)( (يونس: ١)، والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣)، والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى:،)ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء: ٨٢)، فلا تعارض بين هذه الآيات؛ لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.
وسبب وقوع المتشابه في القرآن: هو كونه دعوة وموعظة، وتعليما، وتشريعا باقيا، ومعجزة. وقد خوطب به قوم لم يسبق لهم عهد بالتعليم والتشريع؛ فجاء على أسلوب مناسب لجميع هذه الأمور، بحسب حال المخاطبين الذين لم يعتادوا الأساليب التدريسية، أو الأمالي العلمية، وإنما كانت هجيراهم[8] الخطابة والمقالة؛ فأسلوب المواعظ والدعوة قريب من أسلوب الخطابة. وإعجاز القرآن منه إعجاز نظمي، ومنه إعجاز علمي، وهو فن جليل من الإعجاز؛ فلما تعرض القرآن إلى بعض دلائل الأكوان وخصائصها – فيما تعرض إليه – جاء به محكيا بعبارة تصلح لحكاية حالته على ما هو عليه في نفس الأمر، وربما كان إدراك كنه حالته في نفس الأمر مجهولا لأقوام، فيعدون تلك الآي الدالة عليه من المتشابه، فإذا جاء من بعدهم علموا أن ما عده الذين قبلهم متشابها ما هو إلا محكم[9].
على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:
أحدهما: كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين؛ حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.
والآخر: تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة بالتنقيب والبحث واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة؛ حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة – في كل زمان – لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة؛ من أجل هذا كانت الشريعة صالحة لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلفين في تدوين كتب العلوم، تبعا لاختلاف مراتب العصور.
فإذا أدركت هذا علمت أصل السبب في وجود ما يسمى بـ “المتشابه” في القرآن[10].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله تعالى: )هن أم الكتاب(، قال الشريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأن سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها؛ كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إليها في همه[11].
قوله تعالى: )الراسخون في العلم( استعارة، والمراد به: المتمكنون في العلم تشبيها لهم برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوارة، وهو أبلغ من أن يقال: والثابتون في العلم.
في قوله تعالى: )كل من عند ربنا( زيدت كلمة “عند” للدلالة على أن “من” هنا للابتداء الحقيقي دون المجازي؛ أي: هو منزل من وحي الله تعالى وكلامه، وليس كقوله تعالى:)ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك( (النساء: ٧٩).
)وما يذكر إلا أولو الألباب( (آل عمران: ٧) تذييل – ليس من كلام الراسخين – مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم[12].
(*) www.islameyat.com.
[1]. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص254.
[2]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص267، 268.
[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/2000م، ص268: 270 بتصرف.
[4]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج3، ص682.
[5]. اللقن: سريع الفهم.
[6]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص87.
[7]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص100: 103 بتصرف.
[8]. هجيراهم: أي عادتهم ودأبهم.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج3، ص156، 157.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص158.
[11]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص169، 170 بتصرف يسير.
[12]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ص168.
الزعم بأن المجاز في القرآن الكريم من قبيل الكذب
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن المجاز في القرآن الكريم من قبيل الكذب، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )واسأل القرية التي كنا فيها( (يوسف: ٨٢) **، وقوله عز وجل أيضا: )فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض( (الكهف: ٧٧)؛ حيث يرون أن “القرية” لا تسأل، و “الجدار” لا يريد.
وجوه إبطال الشبهة:
المجاز أحد ألوان البيان والجمال، وهو بعلاقاته المختلفة من صور الإيجاز والقوة في التعبير.
ويزعم المشككون في بلاغة القرآن وبيانه أن المجاز فيه كذب واختلاق، ويدعون أن في قوله تعالى: )واسأل القرية التي كنا فيها( (يوسف: ٨٢)، وكذلك في قوله تعالى: )فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض( (الكهف: ٧٧) كذبا وبهتانا، فـ “القرية” لا تسأل و “الجدار” لا يمتلك إرادة، والصواب في زعمهم أن يبتعد القرآن الكريم عن مثل هذه التعبيرات، وقد أوقعهم في هذه الشبهة أنهم لا يعرفون قدرات اللغة العربية وإمكاناتها في التعبير، ويمكن الرد على هذا الزعم بما يلى:
1) قد يكون المعنى المراد من آية سورة يوسف: )واسأل القرية(، وإن كانت جمادا، فأنت نبى الله، وهو ينطق الجماد لك، والقول في العير كالقول في القرية سواء، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار،[1] وكذلك “الجدار” في آية سورة الكهف: )يريد أن ينقض(، فلا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة، لأن الله يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها؛ كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: )وإن مـن شيء إلا يسبـح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( (الإسراء: 44).
2) فى قوله عز وجل: )يريد أن ينقض( أي: أشرف على الانقضاض وهو السقوط، وعبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية[2] [3]، فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير العزم والهم لذلك، قال الراعى:
في مهمه[4] فلقت بها هاماتها
فلق الفئوس إذا أردن نصولا[5]
وإذا كان القول والنطق، والشكاية، والصدق، والكذب، والسكوت، والتمرد، والإباء، والعزة، والطواعية، وغير ذلك مستعارة للجماد ولما لا يعقل، فما بال الإرادة[6]؟!
3) إن المجاز ليس كذبا كما حكى عن مانعيه، وإنما هو فن من فنون البيان عرفه العرب وأداروا بيانهم عليه[7].
لذا فلا مانع تماما من وجود المجاز في القرآن، ولا يتهم ذلك بالكذب على الإطلاق.
4) إن ما يشتمل على حال ومحل من الألفاظ إذا عاد الحديث عنه بمراعاة الحال، أو بمراعاة المحل فالمعنى واحد في الحالتين؛ لأنه حقيقة فيها لا مجاز[8]، وعلى هذا فإنه لا كذب في آية )واسأل القرية التي كنا فيها(؛ لأن سؤال القرية روعي فيه الحال.
التفصيل:
أولا. قد يكون المعنى المراد من الآية: )واسأل القرية( وإن كانت جمادا، فأنت نبى الله، وهو ينطق الجماد لك، والقول في “العير” كالقول في “القرية” سواء، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار. كما قال أبو بكر بن الأنباري: المعنى: اسأل القرية، والعير، والجدار، والحيطان، فإنها تجيبك، وتذكر لك صحة ما ذكرناه؛ لأنك من أكابر أنبياء الله، فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه[9].
وكذلك الجدار في قوله: )يريد أن ينقض( لا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة؛ لأن الله يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها؛ كما قال تعالى: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم( (الإسراء: ٤٤)، وقد ثبت في السنة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم [10]، وثبت أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «وإني لأعرف حجرا كان يسلم على في مكة»[11]، فلا مانع أن يعلم الله من ذلك الجدار إرادة الانقضاض[12].
وعلى هذا الكلام فالزعم بوجود الكذب في القرآن باطل من أساسه؛ فالآيتان المشار إلى وجود الكذب فيهما إنما هما على حقيقتهما، وليستا على سبيل المجاز.
ثانيا. في قوله تعالى: )يريد أن ينقض(؛ أي: أشرف على الانقضاض – وهو السقوط – عبر عن إشرافه على الانقضاض بإرادة الانقضاض على طريقة الاستعارة المصرحة التبعية؛ فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك، قال الراعي:
في مهمه فلقت به هاماتها
فلق الفئوس إذا أردن نصولا[13]
وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير، ومنه قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
فأضاف النهي إلى الطعن. وقال آخر:
إن دهرا يلف شملى بجمل[14]
لزمان يهم بالإحسان
وقال عنترة:
فازور[15] من وقع القنا بلبانه[16]
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وهذا في المعنى كثير جدا. منه قول الناس: إن دارى تنظر إلى دار فلان، وفي الحديث: «اشتكت النار إلى ربها»[17][18].
يقول الزمخشري: “وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وطلب أن يطفأ، وإذا كان القول والشكاية، والنطق والسكوت، والصدق والكذب، والتمرد والطواعية، والإباء والعزة، وغير ذلك، مستعارة للجماد، ولما لا يعقل فما بال الإرادة؟
كما قيل:
يأبي على أجفانه إغفاءة
هم إذا انقاد الهموم تمردا
ومنه قوله تعالى: )ولما سكت عن موسى الغضب( (الأعراف: ١٥٤)”[19].
كما أنه لا مانع من كون العرب تستعمل الإرادة عند الإطلاق في معناها المشهور، وتستعملها في الميل عند دلالة القرينة على ذلك، وكلا الاستعمالين حقيقة في محله[20].
كما أن تشبيه قرب انقضاضه بإرادة من يعقل فعل شيء، فهو يوشك أن يفعله حيث أراده؛ لأن الإرادة طلب النفس حصول شيء وميل القلب إليه، وإقامة الجدار تسوية ميله[21]، والمراد من إرادة السقوط قربه، أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيها من الميل، وكما قلنا: إنه كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم، كقوله:
يريد الرمح صدر أبي براء
ويعدل عن دماء بني عقيل[22]
وعلى هذا، فإن استعارة الإرادة للجماد ليس شاذا في اللغة، وليس بكذب على الإطلاق، ولو كان كذلك لكان أول من تصيد هذا الخطأ بلغاء العرب آنذاك، فما كان أحراهم بهذا، وهم يهاجمون دينا هذا الكتاب معجزته وشريعته في آن واحد، ولكنهم لم يفعلوا حيث إنهم تثبتوا من إعجاز هذا الكتاب وصدقه.
ثالثا. المجاز ليس كذبا، كما يزعم الزاعمون، وإنما هو فن من فنون البيان عرفه العرب، وأداروا بيانهم عليه[23]، والمجاز كما عرفه الرماني: هو “تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى”[24]، و “الإيجاز إنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة”[25].
أما الكذب فيبينه ابن حزم بقوله: “وإنما يكون كاذبا من نقل اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان، فهذا هو الكاذب الأفاك الأثيم”[26].
وقد تعرض ابن قتيبة لمن يزعم أن القرآن فيه ألوان من الكذب؛ لأنهم ظنوا أن المجاز والكذب صنوان، والقرآن لا يخلو من المجاز، فهو بالتالي لا يخلو من الكذب، مستدلين على ذلك بقوله تعالى: )جدارا يريد أن ينقض(، وقوله: )واسأل القرية(، و “الجدار” لا يريد، و “القرية” لا تسأل، وينعي عليهم ابن قتيبة هذا الفهم الخاطئ فيقول: “فهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم، وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكل فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا كان أكثر كلامنا فاسدا؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة..”.
ولو قلنا للمنكر لقوله تعالى: )جدارا يريد أن ينقض( ما تقول في: جدار رأيته قد أوشك على الانهيار؟ لم يجد بدا من أن يقول: جدارا يهم أن ينقض، أو يقارب أن ينقض، وأيا ما قال فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم إلا بمثل هذه الألفاظ[27].
إذن فلا مناص من القول: إنه حتى ولو كانت الآية مشتملة على المجاز، فإن الآية خالية تماما من الكذب؛ لأن المجاز ليس بكذب على الإطلاق، وما سمعنا بأحد من العرب اتهم بالكذب لما استعمل المجاز في تعبيراته.
كما أننا سبق وأن أوضحنا أن الله عز وجل”إنما خاطب العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان ما تعرف من معانيها اتساع لسانها؛ ومنها: أن تخاطب بالشيء منه ظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره”[28] إذا دلت القرينة عليه.
رابعا. إن ما يشتمل على حال ومحل من الألفاظ إذا عاد الحديث عنه بمراعاة الحال، وبمراعاة المحل فالمعنى واحد في الحالتين أنه حقيقة فيهما لا مجاز.
فلفظ القرية، والمدينة، والنهر، والميزان، وأمثال هذه الأمور التي فيها الحال والمحل – وكلاهما داخل في الاسم – قد يعود الحكم على الحال تارة، وهو السكان، وتارة على المحل، وهو المكان.
وكذلك في القرآن يرد مرة مراعيا للحال، ومرة مراعيا للمحل، وذلك مثل قوله تعالى: )وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم (13)( (محمد)؛ لأن قوله “أخرجتك” جاء على لفظ “القرية” بمعنى المحل، وقوله “أهلكناهم” جاء على لفظ “القرية” بمعنى الحال، وهم السكان[29].
وعلى هذا فإن آية: )واسأل القرية( إذا روعى فيها الحال وهم “أهلها”، أو المحل وهي “القرية”؛ فإنه لا خطأ في ذلك على الإطلاق، وليس في ذلك كذب أبدا.
ومما سبق يتبين أن الآيتين الكريمتين خاليتان من الكذب، ومن يتهمهما بذلك إنما يفعل ذلك لقصر فهمه وسقامته، وأن القرآن بعيد عن كل خطأ، ولا يفهم ذلك إلا ذو القلب الذكى والبصر المستنير.
الأسرار البلاغية في الآيتين:
في قوله تعالى: )واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها( (يوسف:82)، مجاز مرسل علاقته المحلية، فالمعنى المراد أهل القرية، ففي الآية حذف وإضمار، وكأن إخوة يوسف – عليه السلام – مبالغة في إثبات براءتهم – طلبوا أن تسأل القرية؛ إذ الواقعة مشهورة يعرفها العاقل وغيره، وقد ينطق الله تعالى غير العاقل؛ ليشهد لهم ويعلن براءتهم، وليس من عجب أن تنطق القرية؛ إذ إن يعقوب نبى قد ينطق الله له الجماد، ويكون المراد على الحقيقة لا على المجاز كما قال البلاغيون.
قوله تعالى: )وإنا لصادقون (82)( (يوسف) مبالغة منهم في التأكيد والتقرير؛ يعنى سواء نسبتنا إلى التهمة أم لم تنسبنا إليها فنحن صادقون[30]، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم؛ لأن هذا يجرى مجرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده: وأنا صادق في ذلك، يعنى فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات؛ لتزول عنك الشبهة.
في الآية الكريمة: قرينة عقلية مع المجاز، فالقرية والعير لا يخبران بصدق إخوة يوسف، وإنما الذي يخبرهم أهل القرية وأهل العير.
في قوله تعالى: )فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض( استعيرت الإرادة للمشارفة والمداناة، ويجوز أن يكون مجازا عقليا، وهذا الخلاف مطرد في كل نسبة إلى ما لا يعقل. [31]
قوله تعالى: )أن ينقض( جاء على صيغة “انفعل”، والتي تأتي لمعنى واحد وهو المطاوعة، ويختص بما كان فيه علاج وتأثير، والمطاوعة عند علماء التصريف هي قبول الأثر، وذلك فيما يظهر للعيون؛ كالكسر والقطع والجذب.
(*) تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص245.
[2]. الاستعارة المصرحة التبعية: هي الاستعارة المبنية على ادعاء أن المشبه فرد من المشبه به، ولا بد أن يكون المشبه به كليا ذا أفراد، ويدخل في ذلك الفعل والاسم المشتق والحرف، وسميت “تبعية”؛ لأنها تابعة لاستعارة أخرى تجري في المصدر.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج8، ص8، 7.
[4]. المهمه: الصحراء المقفرة ليس بها ماء ولا أنيس.
[5]. النصل: كل حديدة من حدائد السهام، والجمع أنصل ونصول ونصال.
[6]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج2، ص494.
[7]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج1، ص533، 534.
[8]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص814، 815.
[9]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير هذه الآية.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3392).
[11]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتسيلم الحجر عليه قبل النبوة (6078).
[12]. انظر: المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص1020 وما بعدها.
[13]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج2، ص494.
[14]. جمل: اسم محبوبته.
[15]. الازورار: الميل.
[16]. اللبان: الصدر، أو ما بين الثديين، وأكثر استعماله لصدر ذوات حوافر والفرس. أو هو موضع القلادة من الصدر. والمراد: فمال فرسي مما أصابت رماح الأعداء صدره.
[17]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص26 بتصرف.
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة (3087)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر (1432).
[19]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ص494.
[20]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص1018.
[21]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص8.
[22]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير هذه الآية.
[23]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج1، ص533، 534.
[24]. الإعجاز البياني للقرآن الكريم، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1984م، ص105.
[25]. إعجاز القرآن، الباقلاني، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص268.
[26]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج1، ص533، 534.
[27]. القرآن والصور البيانية، د. عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص151.
[28]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص666.
[29]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ص814، 815 بتصرف.
[30]. انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[31]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج6، ص16.
الطعن في رسم المصحف لمخالفته قواعد الإملاء
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في رسم القرآن الكريم لمخالفته قواعد الإملاء، ومن ذلك قوله عز وجل: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط( (التحريم: 10) **؛ حيث جاءت كلمة “امرأت” بالتاء المفتوحة، والصواب في ظنهم أن تكون بالتاء المربوطة “امرأة”.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في التاء التي تأتي لتأنيث الاسم أن تكتب تاء مربوطة؛ للتفريق بينها وبين تاء التأنيث في الفعل، والتاء في جمع المؤنث السالم. مثل: كتب التلميذ الدرس، كتبت التلميذة الدرس، كتبت التلميذات الدرس.
ومن لا يعرف طريقة الكتابة للمصحف بالخط العثماني، ولا يدرك أسرارها يظن أن القرآن الكريم قد اشتمل على بعض الأخطاء الإملائية في كتابته، ومن ذلك ما في قوله عز وجل: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط( (التحريم: 10)؛ حيث كتبت كلمة “امرأت” بالتاء المفتوحة مرتين، مما توهمه بعضهم مخالفة لقواعد الإملاء، والصواب في زعمهم أن تكتب الكلمة بالتاء المربوطة “امرأة”؛ لتوافق قواعد الكتابة والإملاء.
وهذا التوهم مردود من وجهين:
1) لقد وردت كلمة “امرأت” بالتاء المفتوحة في هذه الآية وفي مواضع أخرى في القرآن الكريم؛ إيذانا بجواز الوقوف عليها بالتاء على لغة طيء؛ ولا شك أن في هذا حفاظا على لغات العرب الفصيحة.
2) إن القرآن الكريم كتاب معجز في نظمه، وفي رسمه؛ لهذا فإن للرسم العثماني الذي كتب به القرآن الكريم طبيعة خاصة تختلف عما تعارف عليه الناس في الكتابة العادية، ومن ثم فلا وجود للخطأ الإملائي في القرآن؛ لأن هذا الرسم خاص بالقرآن ولا يقاس عليه.
التفصيل:
أولا. لقد رسمت كلمة “امرأة” في الآية الكريمة – وفي كثير من المواضع الأخرى التي وردت فيها – بالتاء المفتوحة “امرأت”؛ وذلك للإيذان بجواز الوقف عليها بالتاء، دلالة على لغة طيء، وهي لغة عربية فصيحة، ولا شك أنا لو أهملنا هذا الرسم لضاع، وبضياعه نضيع كثير من اللغات الفصحى التي لا يمكن الاستدلال عليها إلا بالقرآن الكريم الذي هو أصدق الحديث[1].
ولعل سائلا يسأل: إذا كان رسم كلمة “امرأة” في هذه الآية بالتاء المفتوحة حفاظا على لغة طيء، فلم لم يلتزم النساخ برسم واحد لهذا الحرف في القرآن الكريم؛ حيث رسمت في بعض المواضع الأخرى بالتاء المربوطة، مثل قوله عز وجل: )إني وجدت امرأة تملكهم( (النمل: ٢٣).
وللإجابة عن هذا نقول: إن في فعلهم هذا كل الصواب؛ فهم لم يسيروا في القرآن كله برسم واحد للحرف، ورسموه في بعض المواضع بالرسم الذي يوافق لغة من لغات العرب، وفي المواضع الأخرى بالرسم الذي يوافق باقي اللغات، ولو أنهم لم يفعلوا ذلك وساروا في رسمه على نمط واحد لفهم من ذلك أن ليس هناك من اللغات غير هذه اللغة التي يشهد لها هذا الرسم، ففي فعلهم هذا صيانة لهذه اللغة الفصيحة، وفي هذا من الذكاء والفطنة وبعد النظر ما فيه.
وليس معنى ذلك أن هذا التعدد والتنوع في رسم المصحف الشريف قائم على المصادفة، فرسمت بعض الكلمات بالتاء المفتوحة، وبعضها الآخر بالتاء المربوطة كيفما اتفق، فالمتأمل في آيات القرآن الكريم التي وردت فيها كلمة “امرأة” يجد أنها لا تكتب بالتاء المفتوحة إلا إذا كانت مخصصة بالإضافة؛ وذلك مثل قوله تعالى: )إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا( (آل عمران: ٣٥)، وقوله عز وجل: )قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق( (يوسف: ٥١)، وقوله: )امرأت نوح وامرأت لوط( (التحريم:١٠)، بينما تكتب بالتاء المربوطة إذ جاءت غير مضافة؛ مثل قوله عز وجل: )وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا( (النساء: ١٢٨)، وقوله عز وجل: )إني وجدت امرأة تملكهم( (النمل: ٢٣)، وقوله: )وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي( (الأحزاب: 50).
أي: إن الآيات التي وردت بها كلمة “امرأت” بالتاء المفتوحة هي الآيات التي تشير إلى امرأة معينة، تكون معروفة ومقصودة بعينها، حيث عرفت بالإضافة، كما سبق أن ذكرنا: “امرأت نوح، وامرأت لوط، وامرأت فرعون، وامرأت العزيز”.
وإذا كان المعنى يشير إلى أية امرأة، أو جنس المرأة عامة: رسمت فيه كلمة “امرأة” بالتاء المربوطة؛ كما ذكر في الجزء الثاني من الآيات السابقة.
وعلى هذا فليس في الأمر أية مخالفة لقواعد الإملاء، كما يتوهم بعضهم، ولكنه نوع من الحفاظ على بعض اللغات الفصحى لدى قبائل العرب، وهذا الحفاظ قد تم بطريقة منظمة، فلم يكن عشوائيا كما يظنون.
ثانيا. إن للرسم العثماني الذي كتب به القرآن الكريم طبيعة خاصة تختلف عما تعارف عليه الناس في الكتابة العادية، وهذه الخصوصية ترجع بلا شك إلى خصوصية هذا الكتاب الكريم المعجز، فكما أن نظم القرآن معجز، فرسمه أيضا معجز، لهذا كان من الأمور التوقيفية التي لا يجوز تغييرها بحال من الأحوال، فقد كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – كتاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وأقرهم الرسول على كتابتهم، وانتقل الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الرفيق الأعلى، وقد كتب القرآن كله على هذه الكيفية المخصوصة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل.
ثم تولى الخلافة بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأمر بكتابة القرآن كله في المصحف على هذه الهيئة، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فنسخت المصاحف العثمانية بأمره من صحف أبي بكر على هذا الرسم أيضا، ووزع عثمان هذه المصاحف على المسلمين؛ لتكون إماما للمسلمين، وأقر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عمل أبي بكر وعثمان في المصاحف، ولم ينكر أحد منهم عليهما شيئا، بل ظفر كل منهما بإقرار جميع الصحابة لعمله، واستمر المصحف مكتوبا بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، والأئمة المجتهدين في عصورهم المختلفة، ولم يثبت أن أحدا من هؤلاء حدثته نفسه بتغيير هجاء المصاحف ورسمها الذي كتبت عليه، بل ظل الرسم القديم قائما بنفسه بعيدا عن التأثر بالرسم الحادث، نعم.. ظل الرسم القديم منظورا إليه بعين التقديس والإكبار في سائر العصور المختلفة، والأزمنة المتفاوتة مع أنه قد وجد في هذه العصور المختلفة أناس يقرءون القرآن ولا يحفظونه، وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا هذا الرسم المحدث الذي وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين، وشاع استعمال هذه القواعد بين الناس في كتابة غير القرآن[2].
ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له: ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنما هو توقيف من النبي، وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها؛ لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز! وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في “مائة” دون “فئة”، وإلى سر زيادة الياء في “بأييد” و “بأييكم”؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في “سعوا” بالحج، ونقصانها من “سعو” في سبأ، وإلى سر زيادتها في “عتوا” حيث كان، ونقصانها من “عتو” في الفرقان، وإلى سر زيادتها في “آمنوا” وإسقاطها من “باءو، جاءو، تبوءو، فاءو” بالبقرة؟ وإلى سر زيادتها في “يعفوا الذي” بالبقرة ونقصانها من “يعفو عنهم” في النساء؟ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض؛ كحذف الألف من “قرءانا” “قرءنا” بيوسف والزخرف، وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو “سموات” في فصلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في “الميعاد” مطلقا، وحذفها من الموضع الذي في الأنفال، وإثبات الألف في “سراجا” حيثما وقع، وحذفه من موضع سورة الفرقان؟ وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟ وغير ذلك[3]. ومن ثم فإن مخالفة رسم القرآن الكريم لبعض القواعد الإملائية لا يعد خطأ في رسم القرآن الكريم؛ لأن هذا الرسم خاص بالقرآن الكريم فقط، ولا يقاس عليه، يقول ابن درستويه: خطان لا يقاس عليهما: خط المصحف، وخط تقطيع العروض” ومن ثم فإن الخط على ثلاثة أنواع:
خط يقتدى به ولا يغير، وهو رسم المصاحف العثمانية.
وخط جرى على إثبات ما تلفظ به وإسقاط غيره، وهو خط العروض.
وخط جرى على العادة المعروفة في الإملاء[4].
وهذه الخصوصية التي يتميز بها رسم القرآن الكريم، هي في الحقيقة ميزة عظيمة، وليست عيبا أو خطأ؛ لأن للاحتفاظ بهذا الرسم أهمية كبرى، وهي:
إن قواعد الهجاء والإملاء الحديثة عرضة للتغيير والتنقيح في كل عصر وجيل، فلو أخضعنا رسم المصحف لهذه القواعد لأصبح القرآن عرضة للتبديل والتغيير، وحيطتنا للكتاب العزيز وتقديسنا له يضطرنا إلى أن نجعله بمنأى عن هذه التغييرات في رسمه وكتابته.
إن تغيير الرسم العثماني ربما يكون مدعاة – من قريب أو بعيد – إلى التغيير في جوهر الألفاظ والكلمات القرآنية، ولا شك أن في ذلك القضاء على أصل الدين، وأساس الشريعة، وسد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية[5].
ونستطيع أن نقول بعد هذه الحقائق التي ذكرناها، وبعد إيضاحنا للطبيعة الخاصة التي تميز بها الرسم العثماني للمصحف الشريف، إنه لا يوجد أي خطأ إملائي في القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط( (التحريم: ١٠) ولا في غيرها من آيات الكتاب الحكيم المعجز نظما ورسما.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
إن المتأمل في قوله: )ضرب الله مثلا للذين كفروا ( يجد أن ضرب المثل هنا منزع جليل بديع من منازع البلغاء، لا يبلغ محاسنه إلا الخاصة؛ لأنه بمثابة التشبيه، والمقارنة بين حال السابق واللاحق؛ وذلك لتزداد الموعظة وضوحا، ويزداد التنويه استنارة، أما تعدية “ضرب” باللام الدالة على العلة فتفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخول اللام “الذين كفروا” أي: من أجل تنبيههم وقياس حالهم على حال الممثل به.
أما قوله: ) كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما( (التحريم:١٠) فلفظة “تحت” هنا مجاز في معنى الصيانة والعصمة.
أما السر في وصف هذين النبيين بوصف “عبدين صالحين” مع أن وصف النبوة أخص من الصلاح، فهو التنويه بوصف الصلاح، وإيماء إلى أن النبوة صلاح ليعظم بذلك شأن الصالحين، ولتكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن لأزواجهن، فإن وصف النبوة قد انتهى بالنسبة للأمة الإسلامية، ومع ما في ذلك من تهويل الأذى لعباد الله الصالحين، وعناية ربهم بهم، ومدافعته عنهم.
والمتأمل في قوله: )فلم يغنيا عنهما من الله شيئا( (التحريم: ١٠) يجد أن كلمة “شيئا” قد جاءت نكرة وذلك للتحقير، للدلالة على أن هذين النبيين لم يغنيا عن زوجيهما أقل غنى وأجحفه، أو ما يمكن أن يطلق عليه غنى.
أما قوله: )مع الداخلين( فقد أفاد مساواتهما في العذاب لغيرهما من الكفرة الخونة، وهذا تأكيد على أنهما لم ينتفعا بشيء من حظوة زوجيهما[6].
(*) .www.ebnmaryam.com
[1]. رسم المصحف بين المؤيدين والمعارضين، د. عبد الحي الفرماوي، مكتبة الأزهر، القاهرة، ط1، 1977م، ص97.
[2]. الأحرف السبعة وأصول القراءات، محمد محمود عبدالله، مطبعة الوراق، الأردن، ط1، 2003م، ص121: 123.
[3]. مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، ج1، ص311 بتصرف يسير.
[4]. البرهان على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، د. أحمد بن منصور آل سبالك، معهد علوم القرآن والحديث، القاهرة، ط1، 2006م، ص131.
[5]. الأحرف السبعة وأصول القراءات، محمد محمود عبدالله، مطبعة الوراق، الأردن، ط1، 2003م، ص123، 124.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص373: 376 بتصرف.
الزعم بأن القرآن الكريم تحدى الضعفاء فقط
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم قد تحدى الجاهلين والضعفاء، ومن لا قدرة لهم على التحدي فقط، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فأتوا بعشر سور مثله مفتريات( (هود: ١٣) **، والتحدي لا يكون للضعيف المغلوب، بل للأقران الأكفاء، ويشككون بذلك في كون القرآن الكريم كلام الله تعالى، وكونه معجزا.
وجوه إبطال الشبهة:
إن الأصل في الإعجاز – كما بينه علماء المعاني والبلاغة – أن يكون فيما يجيده الخصم ويتمكن منه – ويكون بذلك نيرا لمن يتحداه ويعجزه.
وقد زعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم في قوله تعالى: )فأتوا بعشر سور مثله مفتريات( قد تحدى الضعفاء والجاهلين، ومن هنا فإنه كما في زعمهم لا قيمة للتحدي، ولا أساس للإعجاز؛ إذ يجب أن يكون التحدي للنظير الكفء، وقد أبطل العلماء هذه الشبهة من وجوه هي:
1) أن القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، معجز في نظمه ولفظه محتو على كل صنوف الإعجاز، فهو معجز في لغته وبيانه، كما أنه معجز في تشريعاته وحقائقه العلمية.
2) أن القرآن الكريم تحدى أهل الفصاحة والبيان من العرب مجتمعين ومفترقين، بل وتحداهم مع قرنائهم من الجن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو حتى بسورة من مثله فعجزوا، وما يزال التحدي قائما إلى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، ولن يستطيعوا.
3) أن كل المحاولات التي أرادوا بها معارضة القرآن باءت بالفشل، بل وقد اعترف فصحاء العرب برفعة بيان لغة القرآن وبلاغته، وأنه ليس بكلام بشر.
التفصيل:
أولا. القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم معجز في نظمه ولفظه، محتو على كل صنوف الإعجاز، فهو معجز في لغته وبيانه، كما أنه معجز في تشريعاته وحقائقه العلمية، والحق الذي لا مرية فيه أن القرآن كتاب الله )كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود)، وقد تأكد ذلك المعنى كثيرا في مواجهة الماديين المشركين، سواء في رد افتراءاتهم أم في تحديه لهم، وإعجازه إياهم1.
أما رد افتراءاتهم؛ فمنها في سورة الطور المكية قوله تعالى: )فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنـون (30) قـل تربصـوا فإنـي معكـم مـن المتربصيــن (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34)( (الطور).
وفى سورة الحاقة – وهي مكية أيضا – قوله تعالى: )فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون (39) إنه لقول رسول كريم (40) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42) تنزيل من رب العالمين (43) ولو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا منه الوتين (46) فما منكم من أحد عنه حاجزين (47) وإنه لتذكرة للمتقين (48) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين (49) وإنه لحسرة على الكافرين (50) وإنه لحق اليقين (51) فسبح باسم ربك العظيم (52)( (الحاقة).
وهكذا يمضى القرآن في كثير من سوره ليؤكد تلك الحقيقة، وعلى الأخص في سوره المكية.
ومما يلفت النظر في افتتاح الكثير من السور المكية والمدنية إقرار تلك الحقيقة ابتداء؛ لأنها الحق، والحق ثابت لا شك فيه مهما عارض المعارضون، وأنكر الملحدون.
ولا يكون الإعجاز إعجازا صحيحا، إلا إذا توفرت للمتحدي أسباب القدرة التي تمكنه من محاولة التصدي والتحدي. والمعروف أن العرب كانوا – وقت نزول القرآن – أهل فصاحة وبلاغة، وقد فشلوا فشلا ذريعا، وعجزوا عجزا تاما عن معارضة القرآن.
أما الزعم أن الإعجاز القرآني كان بالصرفة فهو زعم خاطئ، وقد قال بهذا الرأي المعتزلة، وخاصة النظام، الذي ذكر أن الله – عز وجل – صرفهم عن تلك المعارضة، وسلبهم القدرة عليها ومن هنا كان الإعجاز.
إن هذا الفهم يجعل القرآن كمثل من أوثق غريمه المريض، ثم انهال عليه ضربا، ثم قال: إنه أعجزه وانتصر عليه، أيعد هذا إعجازا؟!
أما إذا ما رغبنا في الكشف عن الوجوه الحقيقية لإعجاز القرآن، فقد تعددت الوجوه بتعدد تخصصات العلماء: من العقيدة، إلى علوم القرآن، إلى البلاغة، إلى العلم التجريبي، ولكل وجهة هو موليها وفق ميوله وحسب تخصصه، ومن ثم قالوا بالإعجاز اللغوي والبياني، كما قالوا: بالإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي[1].
والرأي عندنا، أن هذا التنوع في الوجوه يعضد بعضه بعضا، وليس ثمة تعارض بين بعضها وبعضها الآخر؛ ولهذا يصح لنا القول: بأن الإعجاز القرآني إعجاز مطلق، بكل ما تحتمل كلمة الإعجاز من معنى دقيق وعميق. يقول المرحوم مصطفى صادق الرافعي في كتابه “إعجاز القرآن”: “إن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، وحين ينفى الإمكان بالعجز عن غير الممكن فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغا، وليس إلى ذلك مأتى ولا وجهة.
وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة، وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغا من ذوب تلك المواد كلها، وما تظنه إلا الصورة الروحية للإنسان إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله، فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنسانى، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء”[2].
وإذا كان الإعجاز القرآني مطلقا فإن جهود العلماء قد توافرت في الكشف عن وجوه ذلك الإعجاز في مختلف الأنحاء. وقد كتب في ذلك الشيخ الزرقاني بحثا خاصا[3] ممتعا في كتابه “مناهل العرفان”، ضمنه أربعة عشر وجها من وجوه الإعجاز في القرآن.
وتلك الوجوه تدور حول: لغة القرآن وأسلوبه، وطرق تأليفه، وعلومه، ومعارفه، ووفائه بحاجات البشر، وموقف القرآن من العلوم الكونية، وسياسته في الإصلاح، وأنباء الغيب فيه، وآيات العتاب فيه، وما نزل بعد طول انتظاره، ومظهر النبي عند نزول الوحي عليه، وآية المباهلة، وعجز الرسول عن الإتيان بمثله، والآيات التي تجرد الرسول من نسبة القرآن إليه، وتأثير القرآن ونجاحه.
هذا ما يراه الشيخ الزرقاني وهو حق كله؛ لأن القرآن معجز من أي وجه نظرت إليه فيه.
تلك الخصائص التي جعلته يتوجه إلى كل إنسان على وجه الأرض منذ اللحظة الأولى لنزوله إلى أن تقوم الساعة، رغم اختلاف العقول، وتباين المدارك، وتضارب الثقافات، واختلاف الزمان والمكان.
إنه لم يتوجه إلى الناس في عقولهم فحسب، ولا إلى عواطفهم فقط، وإنما هو يخاطب فيهم العقل والقلب والوجدان، ومن هنا أصبح ميسورا على كل إنسان أن يجد فيه حظه، ويأخذ منه طلبته، طالما هو ينشد الحق، ويستهدف الخير. )ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17)( (القمر).
إن القرآن ليس معجزة فحسب، بل هو معجزة المعجزات. ذلك أنه الوعاء الكامل للرسالات الإلهية في تمامها وكمالها.
ويقول الشيخ الزرقاني: “إن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات، لا معجزة واحدة، كما يبدو لبعض السذج والسطحيين، وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز تراءت لنا معجزات متنوعة تجل عن الإحصاء، والتعداد، وسبحان من يجعل من الواحدة كثرة؛ ومن الفرد أمة”1.
إننا حينما نرصد الآيات القرآنية الكريمة في هذه القضية يتضح لنا أن القرآن قد تحدى الله به المشركين ومن على شاكلتهم أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، وهذا التدرج في التحدي يدل على أمرين:
الأمر الأول: منتهى التحدي والإعجاز.
والأمر الثاني: أن أقل قدر ممكن في الإعجاز القرآني، يصدق بسورة منه وهذه الأخيرة منها الطويلة ومنها القصيرة؛ وبمقتضى منهج القرآن في التدرج بالتحدي يتضح أن أصغر سورة قرآنية هي أقل قدر معجز من القرآن.
ويصدق ذلك على قوله عز وجل: )إنا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر)، وقوله عز وجل: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنـا فأتـوا بسـورة من مثلـه وادعـوا شهداءكـم مـن دون الله إن كنتـم صادقيـن (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
ويتضح من هذه الآية الكريمة ومثيلاتها في كتاب الله تعالى أن القرآن لا يتحدى فردا، أو جماعة محددة من الناس، وإنما يتحدى أمة بل يتحدى العالم كله.
ثانيا. القرآن الكريم تحدى أهل الفصاحة والبيان من العرب مجتمعين ومفترقين، بل وتحداهم مع قرنائهم أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وما يزال التحدي قائما إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة ولن يستطيعوا؛ ذلك أن القرآن الكريم يتحدث إلى المشركين من العرب – وهم أهل فصاحة وبلاغة مشهودة – ويتحداهم بل يتحدى جمع الخطباء والشعراء أن يأتوا بمثل ما أتى به من نص معجز معصوم من الخطأ.
وفي هذا التحدي ينهج القرآن نهجا تدريجيا مع الملحدين. حيث يتنزل معهم إلى أقل مستوى ممكن من التحدي؛ حتى لا تكون لهم حجة، وتثبت عليهم الحجة.
ومن هذا المنطلق يتحدى القرآن كل من تسول له نفسه بالتطاول عليه بأن يأتي بمثله، وليستعن على ذلك بمن يستطيع معاونته من البشر.
تؤكد سورة الإسراء تلك الحقيقة الناصعة في الإعجاز القرآني، وهي أن الإنس والجن معا لو اجتمعوا على قلب رجل واحد منهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلن يأتوا بمثله، وفي ذلك تقول السورة الكريمة: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء).
ولما عجز المشركون عن الإتيان بمثل القرآن تراه يتدرج معهم في التحدي إلى مستويات أقل خطورة من التحدي الأول، فيتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، وسورة هود تعرض لهذا التحدي في سخرية ومشاكلة عجيبة؛ إذ تقول: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون (14)( (هود).
ومن البدهي أن يعجز الماديون المشركون عن مواجهة ذلك التحدي الأدنى، ورغم ذلك يدفعهم العناد والإصرار إلى المكابرة بتوالي افتراءاتهم وأكاذيبهم على الله، وهنا يتدرج معهم القرآن في التحدي إلى أقل قدر ممكن يتحقق معه الإعجاز، ومن ثم يطلب إليهم بأن يأتوا بأية سورة، ولو كانت قصيرة. وفي ذلك يقول الله عز وجل: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (38)( (يونس)، ويقول عز وجل: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)( (البقرة).
وواضح من كل ما سبق أن القرآن يتحدى المشركين وأشباههم في:
أن يأتوا بمثله.
أو بعشر سور من مثله.
أو بسورة على الأقل من مثله.
وعلى الرغم من كل هذا التدرج في التحدي لم يفلح المشركون في الإتيان بمثله.
ثالثا. كل المحاولات التي أرادوا بها معارضة القرآن باءت بالفشل، بل واعترف المكذبون للقرآن ببلاغته، وأنه ليس بكلام مخلوق من المخلوقات.
لقد حاول بعض المشركين معارضة القرآن بكلام مسجوع موزون، وظنوا أنهم بذلك التطاول على القرآن ينالون منه، أو يصرفون الناس عنه. ومن هؤلاء من ادعى النبوة، وزعم أن وحيا يأتيه من السماء، وأن له قرآنا مثل قرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
ومسيلمة الكذاب واحد من هؤلاء الأدعياء؛ فقد ادعى النبوة باليمامة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عنه الرافعي: “قد زعم مسيلمة أن له قرآنا نزل عليه من السماء، ويأتيه به ملك يسمى “رحمن”، بيد أن قرآنه إنما كان فصولا وجملا، بعضها مما يرسله، وبعضها مما يترسل به في أمر إن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأى إذا سئل فيه، وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان”.
وقد اتهم ابن المقفع بمعارضة القرآن، ولكن الرافعي يدفع تلك التهمة ويقول: “وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة، لا لشيء من الأشياء، إلا لأنه من أبلغ الناس… وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس؛ لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده، وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه؛ ثم كان ابن المقفع متهما عند الناس في دينه؛ فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة”[4].
وقد نسب إلى الشاعر المتنبي أنه عارض القرآن، لا سيما وأنه ادعى النبوة في حدثان أمره، على حد عبارة الرافعي. كما نسبت المعارضة أيضا إلى أبي العلاء المعري.. والنتيجة الحتمية لكل ذلك من قبل ومن بعد أنه )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، إن هؤلاء يعرفون تلك الحقيقة، ولكن يدفعهم إلى عنادهم وإصرارهم ذلك الحقد الدفين في قلوبهم.
تلك هي الحقيقة التي سجلها القرآن الكريم في واقعة الوليد بن المغيرة وموقفه من القرآن حين استمع إليه. فقال القرآن في ذلك: )ذرني ومـن خلقـت وحيـــدا (11) وجعلـت لـه مـالا ممــدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17) إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24) إن هذا إلا قول البشر (25) سأصليه سقر (26) وما أدراك ما سقر (27) لا تبقي ولا تذر (28) لواحة للبشر (29) عليها تسعة عشر (30)( (المدثر).
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن أبي جرير عن عكرمة – رضي الله عنه – أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لـم؟ قال: يعطونكه. فإنك أتيت محمدا تعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال أبو جهل: فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال الوليد: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال فدعني حتى أتفكر فيه، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر عن غيره، فنزلت: )ذرني ومن خلقـت وحيـــدا (11)( (المدثر)، حتى بلــغ: )عليها تسعة عشر (30)( (المدثر)1.
وقد حكى الرافعي شيئا من هذا القبيل فقال: “قد رووا أن طلحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه! رسول الله. فقال: لا حتى أراه. فلما جاءه مسيلمة، قال: أنت مسيلمة. قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفى نور أم في ظلمة؟ قال: في ظلمة. قال طلحة: أشهد أنك كذاب، وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر”.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
“أم” هذه منقطعة بمعنى “بل” التي للإضراب؛ للانتقال من غرض إلى آخر، إلا أن “أم” مختصة بالاستفهام، فتقدر بعدها همزة الاستفهام، والتقدير: بل يقولون افتراه، والإضراب الانتقالي في قوة الاستئناف الابتدائي، فللجملة حكم الاستئناف، والمناسبة ظاهرة؛ لأن الكلام في إبطال مزاعم المشركين، فإنهم قالوا: هذا كلام مفترى، وقرعهم بالحجة[5].
الاستفهام في قوله تعالى: )أم يقولون افتراه( استفهام استنكاري، فالله سبحانه وتعالى ينكر عليهم قولهم، وجملة )قل فأتوا( جواب لكلامهم؛ فلذلك فصلت على ما هو مستعمل في المحاورة، سواء أكانت حكاية المحاورة بصيغة حكاية القول، أم كانت أمرا بالقول.
المماثلة في قوله: )مثله( هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته لا في سداد معانيه، قال علماؤنا: وهذا دليل على إعجازه وفصاحته بقطع النظر عن علو معانيه، وتصديق بعضه بعضا.
الدعاء في قوله تعالى: )وادعوا من استطعتم( بمعنى: النداء لعمل. وهو مستعمل في الطلب مجازا ولو بدون نداء. وحذف المتعلق لدلالة المقام؛ أي: وادعوا لذلك، والأمر فيه للإجابة، أي: إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سور من تلقاء أنفسكم فلكم أن تدعوا من تتوسمون فيه المقدرة على ذلك، ومن ترجون أن ينفعكم بتأييده من آلهتكم وبتيسير الناس ليعاونوكم؛ كقوله: )وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)( (البقرة).
ومن خلال ما سبق يتضح أن القرآن لم يتحد الضعفاء، بل تحدى من تحدوه، من فصحاء العرب وبلغائهم والذين نزل القرآن بحضرتهم، ولا يزال هذا التحدي قائما، وسيظل إلى قيام الساعة، ولن يستطيع أحد أن يصمد أمام هذا التحدي مهما أوتي من فصاحة وبيان؛ وذلك يبطل زعم الزاعمين.
(*) اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420 هـ/ 2000م.
[1]. يراجع في ذلك: إعجاز القرآن، الباقلاني، إعداد: ممدوح حسني محمد، دار الأمين، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م. دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، مكتبة القاهرة، مصر، 1980م. إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1928م. مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م.
[2]. إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1928م، ص157.
[3]. انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص331: 435.
[4]. إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1928م، ص179.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص19، 20 بتصرف.
المُبهمات في القرآن
المطلب الأول : – المبهمات في اللغة والاصطلاح :
أ – : المبهمات في اللغة :
قال ابن فارس ( تـ 395هـ) : الباء والهاء والميم : أن يبقى الشيء لا يُعرَفُ المأتى إليه ، ومنه : الأمر البهيم ، االذي لا تَأَتِّي له . ومنه : البُهمة : الصخرة التي لا خروق فيها . وبها شُبِّهَ الرجلُ الشجاع الذي لا يُقَدُر عليه من أي ناحية طُلِب . أو الفارس الذي لا يُدرَى من أين يؤتى من شِدَّةِ بأسه . والبُهمَةُ : جماعة الفرسان ، والجيش يقال له : بُهمَة . والبهيم : اللون الذي لا يُخالطه غيره . سواداً كان أو غيره . ومنه : هذا فرس بهيم ، وهذه فرس بهيم ، أي : مُصمَت : وأبهمتُ الباب : أغلقته .
والبهيمة : ما لا نُطقَ له ، وذلك لما في صوته من الإبهام . ([i])
وقال محمد بن أبي بكر الرازي( تـ 666هـ ) : المبهم : اسم مفعول مشتق من الإبهام وهو الخفاء , يُقال : ليل بَهِيم ، لخفاء ما فيه من الرؤية , وأَبْهم الكلام إبهاماً أي لم يبينه , واستبهم عليه الكلام إذا استغلق .كما يُقال : أمر مُبْهم : إذا كان ملتبساً لا يُعرف معناه ([ii]).
والتحقيق : أن الأصل الواحد في هذه المادة : هو الكيفية التي لا يُعرَفُ لها وَجه ، ولا يَستبينُ أمرها ، ولا مَأتى لها . وهذه الحيثية توجد في موارد مختلفة : كالحجر الصُلب الذي لا يُستكشَف ما فيه ، ولا يُتَصرف فيه . والرجلُ الشجاع الصعب الذي لا يُقدر عليه . والخبرُ أو الأمر الذي لم يَتبين ([iii]).
ب- : المبهمات في الاصطلاح : عرفها السُّهـيلي (ت518هـ) بقوله : ( ما تضمنه كتاب الله العزيز من ذِكرِ من لم يُسَمِّه الله فيه باسمه العَلَم , من نبي ، أو وليّ ، أو غيرهما ، آدمي ، أو مَلَك , أو بلد ، أو كوكب ، أو شجر , أو حيوان له اسم عَلَم , قد عُرف عند نقلة الأخبار , وغيرهم من العلماء الأخيار ) ([iv]) .
وزاد ابن جماعة (ت 733هـ) على تعريف السهيلي : ( أوعَدَدٍ لم يُحدد , أو زمنٍ لم يُبين , أو مكانٍ لم يُعرف ، وغيرها )([v]) إذ نفوس طلاب العلم إلى معرفة مثل هذا متشوقة .
وإذا كان أهل الأدب يفرحون بمعرفة شاعرٍ أُبهم اسمه في كتاب ، وكذلك أهل كل صناعة يفرحون بأسماء أهل صناعتهم ، فيرونه من نفيس بضاعتهم ، – على حد قول كل من : البلنسي (ت636هـ) ، والإمام السهيلي (581هـ) من قبله ، فالقارئون لكتاب الله العزيز ، والذكر الحكيم ، أولى أن يتنافسوا في معرفة ما أبهم فيه ، ويَتَحلوا بعلم ذلك . ([vi])
وعليه يمكن القول بأن المبهم هو: ما لم يُنصَّ على ذكره باسمه العَلَم ، أو عدده ، أو زمنه ، أو مكانه.
فمثال العَلَم المبهم : قوله تعالى : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) )( 5 : النجم ) فالضمير في ” عَلَمَّه ” المراد به : جبريل عليه السلام ([vii]).
ومثال العدد المبهم :قوله تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)}( 79: الكهف.) قيل : كان عددهم سبعة ، وفي الكشاف : عشرة ([viii]) .
ومثال الزمن المبهم :قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)) ( 3 :الدخان) المراد بهذه الليلة : هي ليلة القدر ([ix]).
ومثال المكان المبهم :قوله تعالى : ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98))( 98: يونس) والمراد : قرية نينوى ([x]) .
المطلب الثاني :
نشأة هذا العلم :
علم المبهمات علم شريف ، اعتنى به السلف كثيراً , فقد اهتم بالبحث فيه الصحابة والتابعون – رضوان الله عليهم – ، واعتبروا أن الاعتناء به حَسَنٌ لفضلِهِ وشرفِهِ ، وذلك أن هذا العلم من أخص علوم القرآن بالقرآن ، ولم يمنعهم عن ذلك مانع زماني ، أو مكاني .
ولا أدل على اهتمامهم بهذا العلم من سؤال ابن عباس لعمر – رضي الله عنهم – وبحثه سنة كاملة عن فرصة يسأل بها عمر- رضي الله عنه – وذلك لمهابته عنده .
أخرج الإمام البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ( لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فلبثتُ سنة ما أجد له موضعاً حتى صحبته إلى مكة ، فلما كان ( بمر الظهران) ([xi]) ذهب يقضي حاجته ، فقال أَدرِكني بأداوةٍ من ماء ، فأتيته بها ، فلما قضى حاجته ورجع ، ذهبتُ أصُبُّ عليه، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم –اللتنان قال الله فيهما :
(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)) (4 : التحريم).
فقال عمر : واعجباً يا ابن عباس ، قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ، ولم يكتمه ..
قال : عائشة وحفصة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث . ([xii])
وروي عن عكرمة ،مولى ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال : طلبتُ اسمَ الذي خرج من بيته مُهاجراً إلى الله ورسوله ، ثم أدركه الموت ، أربع عشرة سنة حتى وجدته ) ([xiii])
وفي هذه الأقوال دليلٌ على شرف هذا العلم قديماً .
قال السهيلي بعد أن ذكر حديث ابن عباس: (فهذا أوضح دليل على اعتنائهم بهذا العلم ، ونفاسته عندهم) ([xiv]).
من هنا يتبين حِرصَ السلف والعلماء على هذا العلم , وحرصهم على معرفته وجَمعه ، ثم أتى مَن بعدهم من العلماء ، وانتقل أمر العناية بهذا العلم إليهم , لكنه أخذ مَنحىً آخر ، وهو التأليف فيه كنوعٍ من أنواع علوم القرآن ، وأفردوه بتصانيف خاصة به ، مما يدل على حِرصِهم عليه .
المطلب الثالث :
أنواع المبهمات :
تنقسم المبهماتُ في القرآن الكريم إلى أنواع ، منها :
أ – مبهمات الأشخاص : منها :
1- قوله تعالى : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129))( 129 : البقرة ) . والمراد به : سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – . ([xv]) وهي دعوة إبراهيـم وإسماعيـل لنبـينا مـحمد – صلى الله عليه وسلم – خاصة، قال خالد بن معدان الكلاعي ([xvi]) : إن نفراً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال : ( نعم، أنا دَعْوَةُ أبـي إبْرَاهِيـمَ، وبُشْرَى عِيسَى – صلى الله عليه وسلم – ) ([xvii]).
وقوله تعالى : (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)) ( 193 :آل عمران) . قيل : المنادي محمد – صلى الله عليه وسلم – ، عن ابن عباس وابن مسعود وابن جريج ، وقيل : إنه القرآن . عن محمد بن كعب القَرظي ، وقتادة ، واختاره الطبري قال : لأنه ليس يسمع كل أحد قول النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يراه ، والقرآن سمعه من رآه ومن لم يره.
قال الإمام الطبري : اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل الـمنادي الذي ذكره الله تعالـى فـي هذه الآية، فقال مـحمد بن كعب القرظي : الـمنادي فـي هذا الموضع القرآن .لـيس كلهم لقـي النبـي – صلى الله عليه وسلم- .وقال آخرون منهم : ابن جريج ، وابن زيد : بل هو مـحمد – صلى الله عليه وسلم- .
قال الإمام الطبري : وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب ، قول مـحمد بن كعب، وهو أن يكون الـمُنادي القرآن؛ لأن كثـيراً مـمن وصفهم الله بهذه الصفة فـي هذه الآيات ، لـيسوا مـمن رأى النبـي – صلى الله عليه وسلم – ولا عاينه، فسمعوا دعاءه إلـى الله تبـارك وتعالـى ونداءه، ولكنه القرآن. وهو نظير قوله – جلّ ثناؤه – مخبراً عن الـجن إذ سمعوا كلام الله يتلـى علـيهم ، أنهم قالوا: ( إنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَبَاً . يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ ) ( 1، 2 : الجن )
وبنـحو ذلك عن قتادة، قوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ) إلـى قوله:( وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلاْبْرَارِ ) سمعوا دعوة من الله فأجابوها، فأحسنوا الإجابة فـيها، وصبروا علـيها……..
فتأويـل الآية إذاً: ربنا سمعنا داعياً يدعو إلـى الإيـمان ، وإلـى التصديق بك، والإقرار بوحدانـيتك، واتبـاع رسولك وطاعته، فـيـما أمرنا به، ونهانا عنه، مـما جاء به من عندك ، فآمنا ربنا، وصدقنا بذلك يا ربنا، فـاغفر لنا ذنوبنا، واستر علـينا خطايانا، ولا تفضحنا بها فـي القـيامة علـى رؤوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا علـيها، ولكن كَفِّرها عنا، وسيئات أعمالنا، فـامـحها بفضلك ، ورحمتك إيانا، وتَوفنا مع الأبرار، يعنـي بذلك: واقبضنا إلـيك إذا قبضتنا إلـيك فـي عداد الأبرار، واحشرنا مَـحشرهم ومعهم؛ والأبرار جمع برّ، وهم الذين بروا الله تبـارك وتعالـى بطاعتهم إياه ، وخدمتهم له، حتـى أرضوه فرضيَ عنهم.([xviii])
مبهمات الجموع : منها :
1 – قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) ) ( 7 : الفاتحة)
روى ابن أبي حاتم بسنده عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (المغضوب عليهم : اليهود ، والضالين : النصارى ) ([xix])
وقال الماوردي : ( وهو قول جميع المفسرين ) . ([xx]) وقد ذكر الاجماع على هذا التفسير : الشوكاني([xxi]) ، وصديق حسن خان ([xxii]) .
وقد استدلوا على ذلك بجملة من الآيات المبينة أن أخص أوصاف اليهود الغضب ، كما في قوله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)) ( 90 : البقرة) وقوله : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) ) ( 60 : المائدة ) .
وإن أخص أوصاف النصارى الضلال ، كما في قوله تعالى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)) ( 77 : المائدة )
إلا أن بعض المفسرين كابن كثير([xxiii]) ، والرازي([xxiv]) ، جعلوا ما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من تفسيرها باليهود والنصارى من قبيل التفسير بالمثال . وعمموا الآية على كل من شابه الفريقين بجامع الاتحاد في العِلَّة ، وقد رد الآلوسي على ذلك مؤيداً الاجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى ، بقوله : ( وهل بعد قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصادق الأمين قول لقائل ، أو قياس لقائس ، هيهات هيهات ، دون ذلك أهوال ..). ([xxv])
2 – قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77))(77 : النساء ) .
قال الرازي في تفسيره : هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين… ؟ فيه قولان:
الأول: أن الآية نزلت في المؤمنين، قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، والمقداد ، وقدامة بن مظعون ، وسعد بن أبي وقاص، كانوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ويلقون من المشركين أذى شديداً ، فيشكون ذلك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -ويقولون: إئذن لنا في قتالهم ، ويقول لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : كفوا أيديكم فاني لم أومر بقتالهم، واشتغلوا باقامة دينكم من الصلاة والزكاة، فلما هاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ، وأمروا بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم، فأنزل الله هذه الآية.
واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم: كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال، والراغبون في القتال هم المؤمنون، فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين. ويمكن الجواب عنه بأن المنافقين كانوا يظهرون من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وأنهم يريدون قتال الكفار ومحاربتهم، فلما أمر الله بقتال الكفار أحجم المنافقون عنه ، وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه.
القول الثاني: أن الآية نازلة في حق المنافقين، واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين.
فالأول: أنه تعالى قال في وصفهم: ( يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) [ 77 :النساء ] ، ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى.
والثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) ، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار والمنافقين.
والثالث: أنه تعالى قال للرسول: ( قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ٱتَّقَىٰ ) وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، وذلك من صفات المنافقين.
وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذه الوجوه : بأن حُبَّ الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع، فالخشية المذكورة في هذه الآية محمولة على هذا المعنى.
وقولهم: ( لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ ) محمول على التمني لتخفيف التكليف ، لا على وجه الانكار لايجاب الله تعالى . وقوله تعالى: ( قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ ) مذكور لا لأن القوم كانوا منكرين لذلك، بل لأجل إسماع الله لهم هذا الكلام ، مما يهون على القلب أمر هذه الحياة، فحينئذ يزول من قلبهم نفرة القتال وحب الحياة ، ويقدمون على الجهاد بقلب قوي، فهذا ما في تقرير هذين القوين والله أعلم.
والأولى : حمل الآية على المنافقين لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِك ) [ 78 :النساء ] ولا شك أن هذا من كلام المنافقين، فاذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ، ثم المعطوف في المنافقين ، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا.([xxvi])
ت – مبهمات الأماكن : منها :
قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) ( 63 : البقرة )
المراد به الجبل الذي كلم الله – عز وجل – عنده موسى – عليه السلام- وهو طور سيناء ،
وقد جاء ذكره في القرآن عشر مرات ([xxvii])، منها : قوله تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)) ( 80 : طه )
وقوله تعالى . (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)) ( 52 : الطور )
2 – قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) ) ( 118 : التوبة ) ( ٱلثَّلَـٰثَةِ )الذين خلفوا هم : كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية.
ومعنى ( خُلّفُواْ ) خلفوا عن الغزو ، ( بِمَا رَحُبَتْ ) برحبها، أي: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه ، قلقاً وجزعاً مما هم فيه . ( وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ) أي : قلوبهم، لا يسعها أُنس ولا سرور؛ لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ . ( وَظَنُّواْ ) وعلموا ( أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ) سخط ( ٱللَّهِ إِلاَّ إليه ) إلى استغفاره ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ) ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا ، وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة.
روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – . منهم من بَدا لَهُ ، وكره مكانه فلحق به. عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم ، فقال: يا حائطاه، ما خلفني إلاّ ظِلُّك ، وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله .
ولم يكن لآخر إلاّ أهله فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلاّ الضَّنّ بك ، لا جرمَ والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فركب ولحق به.
ولم يكن لآخر إلاّ نفسه ، لا أهل ولا مال، فقال: يا نفس ما خلفني إلاّ حبّ الحياة لك ، والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله، فتأبط زاده ولحق به. قال الحسن: كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصرّ عليها.
عن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظلّ، وبسطت له الحصير، وقرّبت إليه الرطب ، والماء البارد، فنظر فقال: ظلّ ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الضِّح والريح ([xxviii]) ، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته ، وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السَّراب ، فقال: ( كن أبا خيثمة ) فكانَهُ . ففرح به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستغفَرَ له. ومنهم من بقي لم يلحق به.
قال كعب: لما قفل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سَلَّمتُ عليه ، فردّ عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال: ( ليت شعري ما خَلَّف كعباً ؟ ) فَقيلَ له: ما خلفه إلاّ حسن بُرديه ، والنَّظَرَ في عطفيه. فقال : معاذ الله ما أعلم إلاّ فضلاً وإسلاماً، ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ، ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة ، أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة ، إذا أنا بنداء من ذِروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررتُ ساجداً ، وكنت كما وصفني ربي ( ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي ، وانطلقت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله حتى صافحني ، وقال: لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يستنير استنارة القمر: (أبشر يا كعب بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك، ثم تلا علينا الآية).([xxix])
ث- مبهمات الأزمنة :
1- ومما أبهمه الله – سبحانه – في كتابه من الأزمنة : ( الحين ) :
أ- في قوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)) (25 : إبراهيم ) ( تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ) الحين في اللغة وقت غير محدود ، وقد تقترن به قرينة تُحَدّدُِه ، وقيل: في كل حين، كل سنة ، لأن النخلة تطعم في كل سنة. وقيل: غير ذلك . ( وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ) هي كلمة الكفر. وقيل: كل كلمة قبيحة ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) هي الحنظلة عند الجمهور.
( ٱجْتُثَّتْ ) أي اقتلعت ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة، وهذا في مقابلة قوله: أصلها ثابت ( بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ ) هو لا إله إلا الله، والإقرار بالنبوة ( فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا ) أي إذا فتنوا لم يَزِّلوا ، ( وَفِي ٱلآخِرَةِ ) هو عند السؤال في القبر عند الجمهور.([xxx])
ب – وفي قوله – جل شأنه – :(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17))( 17 : الروم) يقول تعالـى ذكره: فسبحوا الله أيها الناس: أي صلوا له حين تـُمسون، وذلك صلاة الـمغرب، وحين تصبحون، وذلك صلاة الصبح ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)) ( 18: الروم) يقول: وله الـحمد من جميع خـلقه دون غيره فـي السموات من سكانها من الـملائكة، والأرض من أهلها، من جميع أصناف خـلقه فـيها، ( وَعَشِيًّا ) وسَبِّحوه أيضا عشياً، وذلك صلاة العصر ( وَحِينَ تُظْهِرُونَ) يقول: وحين تَدْخـلون فـي وقت الظهر. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ([xxxi])
المطلب الرابع
المصنفات في المبهمات
كانت الآيات المبهمة وتفاسيرها مبثوثة في كتب التفسير ، ولم يكن لهذا العلم مصنف خاص ، حتى جاء :
1- أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي الأندلسي السهيلي ( ت581هـ) وألف كتابه [ التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ] وهو كتاب مختصر وجيز ، ذكر فيه من لم يُسَمَّ باسمه العَلَم في القرآن الكريم ، ولم يتناول مبهمات جميع سور القرآن ، فلم يذكر مبهمات تسع وعشرين سورة .ويبقى للسهيلي فضل السَّبق في الكتابة في هذا العلم , ولا يُعرف عالم قبله أفرده بمصنف خاص .
وقد ذكر الزركلي في الأعلام : أن للسهيلي كتاباً آخر في المبهمات اسمه [ الإيضاح والتبيين لما أُبهم من تفسير الكتاب المبين ] ([xxxii]) .
2 – ألف محمد بن سليمان الزهري (ت617هـ) كتاباً سماه [ البيان فيما أبهم من الأسماء في القرآن ] ([xxxiii])
3- جاء أبو عبد الله ابن عسكـر : محمد بن علي بن الخضر بن هرون الغسّاني الأندلسي (ت636هـ) وألّف كـتابه : [التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام] وهذا الكتاب تذييل على كتاب السهيلي , واستدراك لما فاته من مبهمات .وقد ذكر أن هدف تأليفه لهذا الكتاب هو إتمام الفائدة بذكر ما لم يذكره السهيلي ([xxxiv]).
4- وفي القرن السابع أيضاً ألّف بن فرتون : أحمد بن يوسف السلمي (ت 660هـ)كتابه [ الاستدراك والإتمام للتعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ] ([xxxv]) .
وقد نسب هذا الكتاب له : ابن القاضي ([xxxvi])، ويتضح من عنوان الكتاب أنه استدراك من المؤلف على كتاب السهيلي أيضاً .
5- ثم جاء بدر الدين ابن جماعة : محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي ( ت 733هـ) وألف كتابين في مبهمات القرآن :
الأول : كتاب [ التبيان لمبهمات القرآن]([xxxvii]) ويذكر المحققون أنهم لم يقفوا عليه لا مخطوطاً ولا مطبوعاً.
الثاني : كتاب [ غرر البيان لمبهمات القرآن ] وقد أشار في مقدمته إلى كتابه الأول , وبين أنه مختصر منه . ([xxxviii]) .
5- ثم جاء أبو عبد الله الشامي ( تـ 715هـ) وهو : محمد بن علي بن يحيى بن علي الغرناطي ، الأندلسي ، المعروف بالشامي ، الإمام ، الفقيه ، المفسر ، النحوي ، من أهل غرناطة ، بها نشأ وتعلم ، ودفن بالمدينة المنورة ، لهكتاب في مبهمات القرآن وهو :
( الاستدراك على التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ) [xxxix]
5- ثم جاء البَلنسي : أبو عبد الله محمد بن علي المغربي (ت782هـ) فصنف كتاب [ صلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي الإعلام والتكميل ] وقد جمع في كتابه بين كتابي السهيلي وابن عسكر , كما ينقل من مبهمات ابن جماعة ، وتفسير الزمخشري , وابن عطية , رامزاً لكل من ينقل عنه برموز اصطلاحية ([xl]).
6- وصنف فيه أيضاً : الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) وقد سمى كتابه [ الإحكام لبيان ما في القرآن من الإبهام ]([xli]) وأغلب الظن أنه لا يزال مخطوطاً .
7- ثم جاء السيوطي : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت911هـ) فألّف كتاباً في مبهمات القرآن سماه [ مفحمات الأقران في مبهمات القرآن ] لكنه لم يبين جميع الآيات المبهمة في القرآن ، رغم أنه ذكر في مقدمته أن كتابه يفوق الكتب السابقة ([xlii]) .
8- وألف الشيخ بُحرَق : محمد بن عمر بن مبارك بن الحضرمي (ت930هـ) كتاباً اختصر فيه كتاب السهيلي :التعريف والإعلام , وسماه [ تلخيص التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام ] والكتاب صغير جداً يقع في ثلاث عشرة ورقة , ولا يزال مخطوطاً ([xliii]).
9- كما ألّف الأدكاوي : عبد الله بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي (ت1184هـ) كتاباً في المبهمات أسماه : [ ترويح أولي الدماثة بمنتقى الكتب الثلاثة ] جمع فيه بين كتاب السهيلي وكتاب ابن عسكر ، وكتاب البلنسي , وانتقى من فوائد هذه الكتب الثلاثة ما رآه مناسباً ، ولم يضف إليها شيئاً ، والكتاب مطبوع مُتداول . ([xliv]).
10- ذكر الدكتور حنيف بن حسن القاسمي أنه عثر أثناء زيارته لتركيا عام (1406هـ) على مخطوط في المبهمات ضمن مجموع لم يقف على مؤلفه ، تحت عنوان : ( أسامي الذين نزل بهم القرآن الكريم ) وهو مرتب على حروف المعجم ، بدأ فيه مؤلفه بذكر أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – ، مُورداً الآيات التي نزلت فيه من مختلف سور القرآن . ([xlv])
ومن الكتب المؤلفة في موضوع المبهمات في العصر الحديث :
كتاب الدكتور عبد الجواد خلف والذي أسماه [ مباحث في مبهمات القرآن الكريم ] جمع فيه كما ذكر في مقدمته ما كتبه جهابذة هذا العلم ، كالسهيلي ، وابن عسكر ، وابن جماعة ، و البلنسي ، والسيوطي , كما اعتنى بشرح المبهم لغوياً , واستنبط لكل مبهم سبب إبهامه ، معتمداً في ذلك على أُمّاتِ كتب التفسير بالمأثور , كما ذكر أنه يقع في ثمانية أجزاء والذي وقفت عليه هو الجزء الأول ، والذي يضم سورة الفاتحة والبقرة فقط , وستصدر السبعة تباعاً كما يقول في مقدمته ([xlvi]).
المطلب الخامس : أسباب ورود الإبهام في القرآن :
يُعتبر الزركشي (ت 794هـ ) أول من بحث في أسباب ورود الإبهام في القرآن في كتابه البرهان , فذكر لذلك سبعة أسباب , مع التمثيل لكل سبب منها , وتبعه في ذلك السيوطي (ت911هـ) .
ومن هذه الأسباب ما يلي ([xlvii]) :-
أن يبهم الأمر في موضعٍ استغناءً ببيانه في موضعٍ آخر ، مثال ذلك :
قوله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)) ( 4 : الفاتحة ) بينه بقوله : (ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)) ( 18-19 : الانفطار )
وكقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ) ( 6-7 : الفاتحة ) أبهم قوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فالمُنعَم عليهم هنا مبهمون في الفاتحة، ولكن بينهم الله تعالى في الآية الأخرى بقوله : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (69 : النساء ) .
أن يبهم الأمر لاشتهاره ، فهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق .
مثال ذلك : قوله تعالى : ( وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)) (35 : البقرة ) الزوج هي حواء – عليها السلام – ، وأبهم اسمها لشهرتها ، ومعرفة الكل لها . ([xlviii])
ومنه قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)) ( 21 : يوسف) والمراد : العزيز .([xlix])
3- أن يبهم لقصد الستر عليه , ليكون أبلغ في استعطافه .
مثال ذلك : قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)) ( 108 : البقرة ) . والمراد : رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد ، قالا للنبي – صلى الله عليه وسلم – أنزل علينا يا محمد كتاباً من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهاراً..([l])
وكقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)) ( 204 : البقرة ).
قال الطبري : ( اختلف أهل التأويـل فـيـمن نزلت فـيه هذه الآية، قال بعضهم: نزلت فـي الأخنس بن شريق، قَدِمَ علـى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالاً من أموال الـمسلـمين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِـي الـحيَاة الدُّنـيا ويُشْهِدُ اللَّهَ علـى ما فِـي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الـخِصامُ ) ، قال: نزلت فـي الأخنس بن شريق الثقـفـي، وهو حلـيف لبنـي زهرة. وأقبل إلـى النبـي – صلى الله عليه وسلم – بـالـمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبـي – صلى الله عليه وسلم – ذلك منه، وقال: إنـما جئت أريد الإسلام، والله يعلـم أنـي صادق. وذلك قوله: ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَـى ما فِـي قَلْبه ) ثم خرج من عند النبـي – صلى الله عليه وسلم- ، فمرّ بزرع لقوم من الـمسلـمين وحُمُر، فأحرقَ الزرع، وعَقَرَ الـحُمر، فأنزل الله عز وجل: ( وَإذَا تَوَلـى سَعَى فِـي الأرْض لِـيُفْسِدَ فِـيها ويُهلِكَ الـحَرْثَ وَالنّسْل ) ( 205 : البقرة ) ([li] ) قال السيوطي : إنه أسلم وحسن إسلامه . لكن قول السهيلي أصح ، فقد قتل يوم بدرٍ كافراً([lii])
أن يبهم الأمر حيث لا يكون في تعيينه كبير فائدة ..
إذ البحث عن اسمه ، أو تعيينه غير مفيد ، وفيه مضيعة للجهد والوقت . وغالب أمثلة الإبهام ناشئة من هذا السبب . مثال ذلك :
قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)) ( 73: البقرة ) أي : بأي جزء منها .
وكقوله تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)) (259 : البقرة.) .
والمراد بالقرية : بيت المقدس ، واسم الذي مر عليها ، اختلفوا في اسمه ، قيل : هو عزير ، وقيل : غيره . ولا حاجة لنا في معرفة اسمه ، إذ لا يتوقف عليه المقصود من الآية ، ولا فائدة كذلك في تعيين اسم القرية ..([liii])
5- أن يبهم الأمر للتنبيه على عمومه , و أنه غير خاص بمن ورد فيه الإبهام . مثال ذلك : قوله تعالى : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)) . (100 : النساء ).
أخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، عن ابت عباس – رضي الله عنهما – ، قال : خرج
– ضمرة بن جندب – ، إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وكان من المستضعفين بمكة ، وكان شيخاً كبيراً ، فمات بالتنعيم([liv]) ، قبل أن يصل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فإبهام الاسم في هذا الموضع ، لإفادة عموم الأجر لكل من نوى الهجرة ، فمات دون أن يبلغ ما هاجر إليه .
6- أن يبهم الأمر لقصد تعظيم المُبهَم بذكر الوصف الكامل له دون اسمه .
مثال ذلك : قوله تعالى : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)) (40 : التوبة )
وقوله : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)) (33 : الزمر ) والمراد بهذه الآيات هو أبو بكر الصديق – رضي الله عنه -, وإنما أُبهم اسمه تعظيماً له .
وكذلك قوله تعالى : ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)) (22 : النور ) هو أبو بكر بن الصد يق – رضي الله عنه – ، كان ينفق على مسطح ابن أثاثة ، فلما خاض في الإفك ، حلف أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – ، أن لاينفق على مسطح ، فلما نزلت الآية ، كَفَّرَ عن يمينه ، وعاد إلى الإنفاق عليه . ([lv])
7- أن يبهم الأمر لقصد تحقيره بذكر الوصف الناقص له دون اسمه .
مثال ذلك : قوله تعالى ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) )( 3 : الكوثر ) والمراد به كما ذكره المفسرون هو:العاص بن وائل السهمي([lvi]).
وكقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6).) ( سورة الحجرات : 6) . المراد به : الوليد بن عقبة بن أبي معيط . ([lvii])
وأما قوله : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ( 1 : المسد ) فعدل عن الاسم ، وكان اسمه : عبد العزى ، إلى الكُنية ، للتنبيه على أن مآله للنار ذات اللهب ([lviii] ) .
المطلب السادس :
أسباب النزول ودورها في تعيين المبهمات .
في القرآن الكريم ألفاظ تتحدث أحيانا عن أفراد معينين ، وأحيانا عن جماعات معروفة ، غير أن تلك الألفاظ فيها من الإبهام والعموم ، ما لا يمكن التعرف على أشخاص هؤلاء وأولئك إلا بالرجوع إلى أسباب النزول . ولهذا كان تعيين المبهمات من أهم فوائد معرفة أسباب النزول . فإن السبب يدل على من نزلت فيه الآية أو الآيات بعينه ، فلا يشتبه بغيره ، فينتج عن ذلك اتهام البريء ، وبراءة الجاني .([lix])
كما حدث من مروان بن الحكم – رضي الله عنه – ، حينما اتهم عبد الرحمن بن أبي بكر
– رضي الله عنهما – ،بأنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى : (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) ) ( 17 : الأحقاف ) فردت عليه أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – نافية ذلك الاتهام ، حيث قالت : ( كذب والله ، ما نزلت فيه ، والله ما نزلت إلا في فلان بن فلان الفلاني ..) ([lx])
وهذه أمثلة لبعض المبهمات التي وردت في القرآن الكريم ، نذكرها مع أسباب نزولها لنرى مدى أهمية معرفة السبب في تعيين هذه الألفاظ وأمثالها ، منها :
1- ( مَن ) في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)) ( 204-206 : البفرة ) نزلت فـي الأخنس بن شريق الثقـفـي، وهو حلـيف لبنـي زهرة ([lxi]) . أقبل إلـى النبـي – صلى الله عليه وسلم – بـالـمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجب النبـي – صلى الله عليه وسلم – ذلك منه، وقال: إنـما جئت أريد الإسلام، والله يعلـم أنـي صادق. وذلك قوله: ( وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَـى ما فِـي قَلْبه ) ، ثم خرج من عند النبـي – صلى الله عليه وسلم – ، فمرّ بزرع لقوم من الـمسلـمين وحُمُر، فأحرق الزرع، وعَقَرَ الـحمرُ، فأنزل الله عز وجل: ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ…..) .
2- ومنها : ( مِن ) في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ) ( 207 : البقرة ) . فإن المراد بها : صُهيب الرُّومي – رضي الله عنه – أقبل مهاجراً نحو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فاتَّبعه نفرٌ من مشركي قريش ، فنزل عن راحلته ، ونثر ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، ثم قال : يامعشر قريش : لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي ما في كِنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم . قالوا : دلنا على بيتك ومَالِكَ بمكة ، ونُخَلِّي عنك . وعاهدوه إن دلهم أن يَدَعُوهُ ، ففعل . فلما قدم على النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : أبا يحيى ، ربح البيع ، ربح البيع ، وأنزل الله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ) ([lxii])
3- ومنها : ( الذين ) في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51)) (51 : النساء ) والمراد بهذا اللفظ اثنان من اليهود ، وهما : حُيَيّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف .. روي أن حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا الى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب الى محمد منكم إلينا ، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا، ففعلوا ذلك. فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت، لأنهم سجدوا للأصنام، فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد..؟ فقال كعب: ماذا يقول محمد..؟ يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن عبادة الأصنام ، وترك دين آبائه، وأوقع الفرقة. قال: وما دينكم..؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلاً. فهذا هو المراد من قولهم: { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـؤُلاء أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: 51]. ([lxiii]) وفي هذه الآيات حكى الله سبحانه عن اليهود نوعاً آخر من مكرهم ، وهو أنهم كانوا يُفَضلون عبدة الأصنام على المؤمنين، ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل، فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب .
4- ومنها : ( مَن ) في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)) ( 49: التوبة ) . والمراد بها : الجَدّ بن قيس ، أحد المنافقين ، وسيد بني سلمة . وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك ، قال للجد بن قيس : يا جد بن قيس ، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر ..؟
فقال : يا رسول الله ، إني امرؤٌ صاحب نساء ، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن ، فائذن لي ولا تفتني ، فأنزل الله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي..الآية) ([lxiv]).
يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج، وذكروا فيه وجوهاً:
الأول: لا تَفتِنّي ، أي لا تُوقعني في الفتنة ، وهي الإثم ، بأن لا تأذن لي، فإنك إن منعتني من القعود ، وقعدتُ بغير إذنك ، وقعت في الإثم..
والثاني: لا تفتني ، أي : لا تلقني في الهلاك ، فإن الزمان زمان شدة الحر، ولا طاقة لي بها.
والثالث: لا تفتني ، فإني إن خرجت معكَ ، هلكَ مالي وعيالي.
والرابع: قال الجدّ بن قيس: قد عَلِمَت الأنصار أنِّي مُغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر، يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني.. ( أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ) والمعنى: إنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة ، وهم في الحال ما وقعوا إلاّ في الفتنة، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف.([lxv])
5- ومنها : ( مَن ) في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) ) (58 : التوبة ) .قال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – : بينا النبي – صلى الله عليه وسلم – يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج ، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ” ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ” فنزلت هذه الآية. قوله: ( يَلْمِزُكَ ) قال الليث: اللَّمز كالهمز في الوجه. يقال: رجل لُمَزَة يعيبك في وجهك، ورجل هُمَزَة يعيبك بالـغيب. وقال ابن عباس: يلمزك يغتابك. وقال قتادة: يطعن عليك.
وقال الكلبي: يعيبك في أمر ما، ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ.
قال أبو علي الفارسي: ههنا محذوف ، والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات. ([lxvi])
6- ومنها : ( الذي ) في قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)) ( 77-80 : مريم ) فقد نزلت في العاص بن وائل السهمي ، قال في جامع البيان : (حدثنا أبو السائب وسعيد بن يحيى، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلـم، عن مسروق، عن خَبّـاب، قال: كنت رجلاً قَـيْنا([lxvii]) ، وكان لـي علـى العاص بن وائل دَين، فأتـيته أتقاضاه، فقال: والله لا أقضيك حتـى تكفر بـمـحمد، فقلت: والله لا أكفر بـمـحمد حتـى تـموت ثم تبعث، قال: فقال: فإذا أنا متّ ثم بُعثت كما تقول، جئتنـي ولـي مال وولد، قال: فأنزل الله تعالـى: { أفَرأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقالَ لاَوتَـينَّ مالاً وَوَلَدا أطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّـخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً..) إلـى قوله:: ( ويَأْتـينا فَرْداً))([lxviii])
ولا بد من التذكير بأن هذه الألفاظ مع كونها نزلت بشأن أُناس معينين ، وبسبب أحوال خاصة ، إلا أنها تتعدى تلك الأسباب إلى غيرها في الحكم ، فتنطبق على كل الأشخاص المتماثلين ، وعلى كل الحالات المشابهة ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ([lxix] )
==========================
[i] – انظر : ابن فارس ،أبو الحسين أحمد بن فارس ( تـ 393هـ ) معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون ، طبع الحلبي بالقاهرة ، 1969م ، ج1: ص311، مادة ( بهم ) . والجوهري ، إسماعيل بن حماد ( تـ393هـ) الصحاح ( تاج اللغة وصحاح العربية ) تحقيق أحمد عبد الغفور عطار ، دار العلم للملايين ، ط1، 1376هـ.: ج5: ص 1875. مادة ( بهم ) ، ابن منظور الإفريقي ،أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ( تـ 711هـ ) لسان العرب ، دار صادر ، بيروت . 1968م. ج1: ص 523 وما بعدها ، مادة ( بهم ) .والراغب الأصفهاني ، أبو القاسم الحسين بن محمد بن الفضل (تـ 502هـ،): المفردات في غريب القرآن تحقيق مص : 149.
[ii] – انظر : محمد بن أبي بكر بن عبد القادرالرازي (تـ666هـ) مختار الصحاح ، المكتبة الأموية ، دمشق ، 1978م. ص : 27 .
[iii] – انظر: حسن المصطفوي : التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ط1، 1371هـ ، إيران . ( 14 جزءاً) ج1: ص 349-350.
[iv] – انظر : السهيلي عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي الأندلسي (581هـ) ، التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام في القرآن الكريم ، تحقيق : عبد الله النقراط , ط1 , ط1401هـ , منشورات كلية الدعوة الإسلامية , طرابلس : ص50 .
[v] – ابن جماعة ، بدر الدين الكناني الحموي الشافعي ، ( ت 733هـ)، غرر البيان لمبهمات القرآن : دراسة وتحقيق عبد الجواد خلف ، دار قتيبة ، باكستان ، كراتشي : ص38 .
[vi] – انظر : التعريف والإعلام للسهيلي : ص50 , والبلنسي ، أبو عبد الله محمد بن علي المغربي (ت782هـ) صلة الجمع وعائد التذييل لموصول كتابي الإعلام والتكميل ، تحقيق : حنيف القاسمي , دار الغرب الإسلامي: ص101 .
[vii] – انظر : أبو عبد الله ابن عسكـر : محمد بن علي الغسّاني الأندلسي (ت636هـ )، التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام ، تحقيق : حسن إسماعيل مروة , ط1 ، 1418هـ , دار الفكر , بيروت : ص 399 .ود. محمد سيد طنطاوي : تفسير الوسيط : ج 26 : ص 72 .
[viii] – انظر : السهيلي ، التعريف والإعلام : ص191 . والزمخشري ، الكشاف : مجلد 2 : ص 495 .
[ix] -انظر : ابن عسكر ، التكميل والإتمام, ص 367 ود . محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط للقرآن الكريم ، ط1، مطبعة السعادة ، القاهرة: ج 25 :ص 144.
[x] -انظر : السهيلي ، التعريف والإعلام : ص135 . ود . محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط للقرآن الكريم ، ط1، مطبعة السعادة ، القاهرة: المجلد السابع ، تفسير سورة يونس : ص 174 .
[xi] – مرّ الظهران : بفتح الميم ، وتشديد الراء المضمومة ، وبينها وبين البيت الحرام ستة عشر ميلا ، وَرَدَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي ترك الطواف لوداع البيت من مر الظهران. انظر : البكري عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي (تـ487هـ) معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع ، حققه وضبطه مصطفى السقا ، ط3، 1983م ، عالم الكتب ، بيروت . ، ج4: ص1212.
[xii] – صحيح البخاري ، محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) تحقيق ، مصطفى ديب البغا ، دار ابن كثير بيروت ، 1987م: كتاب التفسير ، تفسير سورة التحريم ،( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.) ، ج6: 192. وأبو زكريا يحيى بن شرف ( تـ 676هـ) شرح صحيح مسلم ، ط المطبعة المصرية ومكتبتها القاهرة . : كتاب الطلاق ، بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية ، ج10: ص 89 . وانظر : مختصر تفسير ابن كثير ، ج3: ص 520-521.
[xiii] – الزركشي ، بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله ( تـ 794هـ) ، البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، ط1، 1988م.، ج1: ص 206 .
والتعريف والاعلام ، للسهيلي ، ص : 16. والسيوطي ،جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري (تـ 911هـ) مفحمات الأقران في مبهمات القرآن ، تحقيق مصطفى ديب البغا ، مؤسسة علوم القرآن دمشق ، 1983م.: ص 34 . لكن أورده السيوطي عن ابن عباس فقال : هذا الكلام مروي عن ابن عباس نفسه ، أخرج ابن مندة في كتابه معرفة الصحابة من طريق ابن أبي حكيم ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : طلبت اسم رجل في القرآن وهو الذي خرج مهاجراً إلى الله ورسوله ، وهو : ( ضَمرة بن العيص ) ، وهذا الرجل وَرَدَ مُبهَماً في قوله تعالى : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا …الآية ) (سورة النساء : 100.). وما ذكر هنا ليس من كلام عكرمة ، بل من كلام ابن عباس ، فقد صرح في رواية ابن مندة بسماع عكرمة عن ابن عباس .
[xiv] – التعريف والإعلام للسهيلي ص 51 .
[xv] – انظر:السيوطي ، تفسير الجلالين ، يهامش حاشية الجمل ج1:ص 107. .
[xvi] – خالد بن معدان ابن أبي كرب ، الإمام ، شيخ أهل الشام، أبو عبد الله الكلاعي ، الحمصي . حدث عن خلق من الصحابة -وأكثر ذلك مرسل- روى عن ثوبان ، وأبي أمامة الباهلي ، ومعاوية ، وأبي هريرة ، والمقدام بن معدي كرب ، وابن عمر ، وعتبة بن عبد ، وعبد الله بن عمرو ، وطائفة . وأرسل عن معاذ بن جبل ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، وعبادة بن الصامت ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وغيرهم . وهو معدود في أئمة الفقه ، وثَّقَه ابن سعد والعجلي ، ويعقوب بن شيبة ، وابن خراش ، والنسائي قال ابن سعد : أجمعوا على أنه مات سنة ثلاث ومائة . انظر : ابن سعد : الطبقات الكبرى : ج7: ص 100.
[xvii] – انظر : الإمام أحمد ، (تـ241هـ) مسند الإمام أحمد بن حنبل ، المكتب الاسلامي ، دمشق ، ط1، 1993م. ، من حديث ( العرباض بن سارية ) . ج4: ص 126.
[xviii] – انظر : الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( تـ 310هـ): تفسير الطبري ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) : مكتبة دار الجيل ، بيروت ، مجلد: 3 ، ج4 ، ص 142.
[xix] – انظر : الإمام أحمد بن حنبل ،المسند :ج4:ص 384. وحسنه الحافظ ابن حجرالعسقلاني ، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني ( تـ 852هـ) في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، المطبعة السلفية ، 1379هـ : ج8: ص 159.
[xx] – الماوردي ، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب ( تـ 450هـ)، تفسير الماوردي ( النكت والعيون في تفسير القرآن الكريم ) ، تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم ، بيروت . ، ج1: ص 61.
[xxi] – انظر : الشوكاني ، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله (تـ1250هـ) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، ط مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة ، 1383هـ. ، ج1: ص 25.
[xxii] – انظر : صديق حسن خان القنوجي الأنصاري (تـ 1307هـ ) فتح البيان في مقاصد القرآن ، تحقيق عبد الله الأنصاري ، المكتبة العصرية ، ط1، 1412هـ . ج1: ص 53.
[xxiii] – انظر : أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ( تـ 774هـ) ،تفسير القرآن العظيم ، دار الفكر ، بيروت 1971م. : ج1: ص 29.
[xxiv] – انظر : محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين البكري ( تـ 606هـ) ، تفسير الفخر الرازي ( مفاتيح الغيب – التفسير الكبير ) ، دار الكتب العربية ، طهران : ج1: ص 264.
[xxv] – الآلوسي : شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني( تـ 1270هـ) ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت: ج1: ص 96. وانظر: محمد بن عبد العزيز بن أحمد الخضيري : الإجماع في التفسير : ط1، 1999م ، الرياض ، المملكة العربية السعودية . ص 137-141.
[xxvi] – انظر: ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير ، ج5 ص 127- 129 .
[xxvii] – انظر : البقرة : 63. وَ 93. والنساء : 154. ومريم : 52 . وَطه: 80 . والمؤمنون : 20 . والقصص: 29 . وَ 46 . والطور : 1 . والتين : 2 . وانظر : محمد فؤاد عبد الباقي : المعجم المفهرس : ص : 429.
[xxviii] – الضح: يكسر الضاد وتشديد الحاء: الشمس . محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح ، ص : 377.
[xxix] – الزمخشري ، جار الله محمود بن عمر الخوارزمي ( تـ 538 هـ) : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، ط البابي الحلبي ، القاهرة ، 1966م: ج2، ص 219. بتصرف واختصار .
[xxx] – ابن جزي الكلبي ، محمد بن أحمد ، (تـ 741هـ) التسهيل لعلوم التنزيل ، دار الفكر للطباعة والنشر ، ج1 : ص 411.
[xxxi] – انظر : الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن : مجلد 7، ج21 ، ص 20.
[xxxii] – انظر : الزركلي ، الاعلام ، ج3: ص 313.
[xxxiii] – – انظر : الزركلي ، خير الدين ، الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ) ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1979م. ج5:ص320.
[xxxiv] – انظر : ابن عسكر ( تـ 636هـ) ، التكميل والإتمام : ص 35.
[xxxv] – انظر : الزركلي ، الاعلام ، ج2:ص 247.
[xxxvi] – انظر : الشيخ محمد بن محمد بن مخلوف ، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان : ص 200. والزركلي ، الاعلام : ج2، ص 247 . وعادل نويهض : معجم المفسرين من صدر الاسلام حتى العصر الحاضر ، مؤسسة نويهض الثقافية ، بيروت ، 1983م. ، ج2: 756.
[xxxvii] – انظر : حاجي خليفة ، مصطفى بن عبد الله ( تـ 1656م ) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون بيروت ، دار الفكر 1982م. ، ج1ص 341 .
[xxxviii] – انظر : ابن جماعة ( تـ 733هـ) ، غرر البيان : ص : 89.
[xxxix] – انظر : إسماعيل باشا البغدادي : هدية العارفين : ج2: 143. وعادل نويهض : معجم المفسرين : ج2: ص 585.
[xl] – انظر : البلنسي ، صلة الجمع … ج 1: ص 56. :
[xli] – انظر : حاجي خليفة ، كشف الظنون : ج1: ص21.
[xlii] – انظر : السيوطي، مفحمات الأقران ص: 17.
[xliii] – انظر : البلنسي ، صلة الجمع … ،تحقيق الدكتور : حنيف بن حسن القاسمي : ج1: ص: 52-53.
[xliv] – انظر الأدكاوي ، عبد الله بن عبدالله الأدكاوي الشافعي ( تـ1184هـ) ،: موسوعة الأسماء والأعلام المبهمة في القرآن الكريم ، المسمى (ترويح أولي الدماثة بمنتقى الكتب الثلاثة ) ، تحقيق وشرح مروان العطية وزميله ، ط1، 2001م ، مكتبة العبيكان ، الرياض ، المملكة العربيةالسعودية .
[xlv] – انظر : البلنسي ، صلة الجمع … ،تحقيق الدكتور : حنيف بن حسن القاسمي : ج1: ص: 53.
[xlvi] – انظر : عبد الجواد خلف ، مباحث في مبهمات القرآن , ص 8 .وانظر :مقال الدكتور طه عفان الحمداني : (الإبهام في الكتاب والسنة) ومقال : (المبهمات ) ( لم يُذكَر اسم كاتبه ) على الشبكة العنكبوتية : google ) ).
[xlvii] – انظر : الزركشي ، البرهان: ج 1 : ص156 . والسيوطي : مفحمات الأقران : ص 20 وَ 21 . والسيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر الخضيري ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ، القاهرة ، 1387هـ ، الاتقان في علوم القرآن ، الإتقان : ج4 : ص 79 .
[xlviii] – الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله : البرهان ، ج1: ص 203.
[xlix] – د. محمد سيد طنظاوي : التفسير الوسيط للقرآن الكريم ، ط1، مطبعة السعادة ، القاهرة ، المجلد السابع ، تفسير سورة يوسف ، ص50 .
[l] – انظر : السهيلي : التعريف والإعلام : ص : 63. والزركشي ، بدر الدين محمد بن عبد اللة ، البرهان في علوم القرآن : ج1:ص 205.
[li] – الطبري : جامع البيان : ج2 : ص 316.
[lii] – انظر : السيوطي : مفحمات الأقران : ص 37. والسهيلي : التعريف والإعلام : ص 27.
[liii] – انظر : ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير ،ج 3 ص 21 .
[liv] – مكان بينه وبين مكة المكرمة فرسخان ،يُحرِم منه من أراد العُمرة . انظر : عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي ( تـ 487هـ) معجم ما استعجم، تحقيق مصطفى السقا ، ط3، عالم الكتب ، بيروت ، 1983م . ج1: ص 321.
[lv] – انظر : د. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : ج18 :ص42 .
[lvi] – انظر : الطبري، جامع البيان , : 30: 329 .
[lvii] – انظر : مسند الإمام أحمد ، ج4: ص 279. والزركشي : البرهان :ج1: ص 156-160. والسيوطي : مفحمات الأقران :ص3، والإتقان : ج2: ص 185.
[lviii] – الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله : البرهان الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله : البرهان: ج1، ص207، 209.
[lix] – انظر ” أسباب النزول ، أسانيدها وأثرها في تفسير القرآن الكريم . رسالة دكتوراة غير مطبوعة نوقشت في جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1982م. ، للشيخ بن جمعة سهل . ص : 5- 6 . ومعرفة أسباب النزول ، وأثرها في اختلاف المفسرين : للطالب : عبد الله طاهر محمود ، رسالة ماجستير غير مطبوعة نوقشت بجامعة النجاح عام : 2006م ، ص 6.
[lx] – انظر : ابن حجر العسقلاني ، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن حجر الكناني ( 852هـ) : فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وآخرون ، المطبعة السلفية ، 1379هـ ، ج8: ص 577.
[lxi] – انظر : السيوطي ، لباب النقول : ص :28. ود. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : المجلد الأول :ص582 .
[lxii] – انظر : الواحدي النيسابوري ،أبو الحسن علي بن أحمد( 468هـ) ، أسباب النزول ، تحقيق السيد أحمد صقر، القاهرة ، 1389هـ. ص:34. ود. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : المجلد الأول : ص 585 .
[lxiii] – انظر : الفخر الرازي ، تفسير مفاتيح الغيب: مجلد: 10، ص 115. وانظر : الواحدي ، أسباب النزول ، ص :88.
[lxiv] – السيوطي : لباب النقول : ص 95. ود. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : ج 9 ، تفسير سورة التوبة : ص 183 .
[lxv] – انظر : الفخر الرازي ، مفاتيح الغيب : ج16: ص73.
[lxvi] – انظر : الفخر الرازي ، مفاتيح الغيب : ج16: ص85. وانظر : السيوطي ، لباب النقول : ص 95
[lxvii] – القين : الحداد . والقين أيضا : العبد . انظر : محمد بن أبي بكر الرازي : مختار الصحاح : ص 560.
[lxviii] – الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي الفرآن_ تـ 310هـ) ، مجلد 8 ، ج: 16 ص : 91 . وانظر الواحدي : أسباب النزول ، ص 173.
[lxix] – انظر : د. جمعة بن سهل : أسباب النزول ، أسانيدها وأثرها في تفسير الفرآن ، ص 140.
توهم اشتمال القرآن الكريم على كلمات زائدة لا فائدة منها
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم به بعض الكلمات التي ليس لها فائدة؛ مثل قوله عز وجل: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25)( (الكهف)، ويتساءلون: ألم يكن مناسبا للعبارة أن يقال: “ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة وتسع سنين”؟ ولماذا لم يوضح التقويم الذي قاس به: هل هو التقويم الميلادي الشمسي (300) أم العربي القمري (309) سنة**؟
وجها إبطال الشبهة:
إن الأصل أن يكون لكل مفردة في الكلام دورها في المعنى، ولا قيمة لكلمة تأتي حشوا زائدا، ومن الأولى أن يحذف الحشو؛ لأنه لا قيمة له في التعبير.
ومن هنا زعم بعض المتوهمين أن قوله عز وجل: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا( حشو يمكن الاستغناء عنه؛ لأنه قول لا يزيد المعنى شيئا. وهذا الزعم مردود من وجهين:
1) أن هذه الآية الكريمة نزلت على مرحلتين: حيث نزل قوله عز وجل: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة( فقالوا: سنين أم شهورا أم جمعا أم أياما؟! فأنزل الله تعالى: )سنين(؛ لتحدد نوعية المدة التي قضاها أصحاب الكهف في كهفهم.
2) أنه مـن المعلـوم أن القـرآن الكريـم نـزل علـى سيـدنـا محمد – العربي – صلى الله عليه وسلم، فلما كان الإخبار عن أهل الكهف ذكرت الآية التقويم القمري الذي يعرفه العرب، والذي يختلف عن التقويم الشمسي الميلادي الذي يعرفه الأقباط؛ إذ إن التقويم الشمسـي تبلـغ السنـة فيـه (365) يومـا، وتبلـغ في التقويــم القمــري (354) يوما، فالاختلاف بينهما في أحد عشر يوما تقريبا، وهذا التفاوت على مدار المدة المذكورة في الآية ينتج تسع سنوات.
التفصيل:
أولا. إن هذه الآية نزلت على مرحلتين؛ حيث نزل أولا قوله عز وجل: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين( وكانت على هذا مبهمة، لم تحدد للناس: أهى ساعات، أم أيام، أم شهور أم سنون، فأنزل الله عز وجل: )سنين(.
جاء في تفسير القرطبي: لما نزلت )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة(، قالوا: سنين، أم شهورا، أم جمعا، أم أياما، فنزلت )سنين(، ولما نزل قوله تعالى: )وازدادوا تسعا( لم يدر الناس أهي ساعات، أم أيام، أم جمع، أم شهور، أم أعوام، واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في الـ “تسع”، فهي على هذا مبهمة، وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها “سنين”؛ ذلك لأن الـ “تسع” مسبوقة بـ “السنين”؛ كما تقول: عندي مائة درهم وخمسة، والمفهوم منه خمسة دراهم، قال بذلك القشيري. وقال أبو علي: )وازدادوا تسعا(، أي: ازدادوا لبث “تسع”، فحذف “سنين”[1].
ثانيا. قال عز وجل: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا( (الكهف:٢٥) هذه الآية – كما يقول الشيخ الشعراوي في تفسيره – تحدد عدد السنين التي قضاها الفتية في كهفهم بأنها “ثلاثمائة سنة”، وهذا هو عددها الفعلي بالتقويم الشمسي؛ لذلك لم يقل الحق عز وجل: “ثلاثمائة وتسعا”؛ بل قال: )وازدادوا تسعا(، ولما سمع أهل الكتاب هذا القول اعترضوا وقالوا: نعرف “ثلاثمائة سنة”، ولكن لا نعرف الـ “تسع”؛ ذلك لأن حسابهم لهذه المدة كان حسابا شمسيا.
فلو حسبت الثلاثمائة سنة الشمسية بالحساب القمري لوجدتها ثلاثمائة سنة وتسعا؛ إذن هي في الحساب الشمسي ثلاثمائة سنة، وفي الحساب القمري ثلاثمائة وتسعا، ومعلوم أن السنة الميلادية تزيد عن الهجرية بأحد عشر يوما تقريبا في كل عام[2].
ومما يؤكد ذلك ما جاء في “التحرير والتنوير”؛ حيث عبر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع؛ ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام، مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف، وهم أهل بلاد الروم[3].
وهذا من إعجاز القرآن العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به.
وخلاصة القول: أن التفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة كل ثلاث وثلاثين سنة شمسية؛ ولهذا قال الله عز وجل: )وازدادوا تسعا(، ومن هنا نعلم أن الخطاب القرآني جاء باللغة التي تناسب العربي وغير العربي، ولهذا لو قال: “ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنوات” لسكت بذلك عن إيراد التقويم الشمسي، ولو قال: ” ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة ميلادية” لأغفل بذلك التقويم القمري.. ومن ثم كان القرآن في منتهى البلاغة المتمثلة في دقة التعبير والإيجاز في اللفظ؛ إذ عبر عن التقويمين بما يناسبهما معا.
الإعجاز العلمي في الآية:
هذه الآية الكريمة وردت في ختام قصة أصحاب الكهف الواردة في سورة سميت بسورة الكهف لذكر قصة هؤلاء الفتية بها، فمن أعلم النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – قصة هؤلاء الفتية؟! وهو الأمى الذي لم يقرأ كتابا ولم يطلع على التاريخ؟! وقد سأله المشركون عن قصة هؤلاء الفتية بإيعاز من اليهود؛ ليختبروا صدقه – صلى الله عليه وسلم – فكان ورود هذه القصة في القرآن دليلا على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي من الله تعالى لا من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
والأقوى برهانا على ذلك تحديد هذه المدة التي لبثها أصحاب الكهف في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا، فبأي تاريخ هذا العدد من السنين؟ وهل كان أحد على وجه الأرض يومها من العرب أو غيرهم من روم وفرس، أو حتى أصحاب الديانات السماوية: اليهودية و النصرانية وغيرها… هل كان أحد يومها يعرف الفرق بين التاريخ القمري والتاريخ الشمسي؟! وأنه كل مائة سنة شمسية تزيد ثلاث سنوات قمرية؟! ولهذا استكمل الثلاثمائة بتسع زيادة، وهذا ما يؤكده العلم، ومن هنا يتبين لنا أن ما ورد في القرآن هو “علم”، وهذا الرقم توقيف من الله تعالى، فتبارك علام الغيوب الذي وسع علمه كل شيء: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).
(*) كيف نرد على المنصرين؟! www.saaid.net
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص387.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج14، ص8870 بتصرف يسير.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج15، ص300.
تدوين دعاوى التعارض
سبق علماء الحديث غيرهم إلى تدوين دعاوى التعارض ، فصنفوا في الجمع بين ما ظاهره التعارض بين أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – [1] ، كما امتلأت به كتب التفسير ، ولما دونت علوم القرآن استأثرت بإيضاح هذا العلم ، واستيعاب آياته وحصرها ، والكلام عليها آية آية . وقد كانت بداية التدوين لهذا العلم مرتبطة بطعون أثيرت حول بعض آيات القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، من قبل بعض الملحدين فيه ، لذلك يتردد ذكر هؤلاء ( الملحدين ) و( الطاعنين ) كثيرا في مسائله ، أثناء الرد عليهم ، لتفنيد حججهم أو مطاعنهم ، وبيان أن تلك المطاعن ترجع إلى قصور في الفهم ، أو قلة العلم بالعربية التي هي لسان القرآن الكريم . وتظهر مادة هذا العلم في نوعين من المؤلفات :
أ – مؤلفات تخصصت بجمع الآيات التي توهم التعارض ، وإزالة ما فيها من إشكال ..
ب – مؤلفات موسوعية جمعت أنواع ومباحث علوم القرآن المختلفة ، إضافة إلى ما يوهم التعارض .. مثل : البرهان في علوم القرآن للزركشي ( تـ 794هـ) وأسماع : موهم الاختلاف فقال :”النوع الخامس والثلاثون : معرفة موهم الاختلاف ، وهو ما يوهم التعارض بين آياته [2] و “الإتقان في علوم القرآن ” للسيوطي ( تـ 911هـ) وأشار إليه السيوطي باسم : مشكل القرآن وموهم الاختلاف والتناقض ، حيث قال : ” النوع الثامن والأربعون : في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض ، والمراد به : ما يوهم التعارض بين الآيات ..” [3]
ومن هذه المؤلفات ما هو مطبوع ، ومنها ما هو مخطوط ..
والمطبوع ، منها : –
1- “فوائد في مشكل القرآن “لسلطان العلماء العز بن عبدالسلام ( تـ 660هـ). طبع عام 1387 بتحقيق سيد د. سيد رضوان الندوي.
2- “مشكلات القرآن” لمحمد أنور الكشميري . سلسلة مطبوعات المجلس العلمي ، الهند .
3- “أضواء على متشابهات القرآن”، لخليل ياسين .من منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت. 4- “الإكليل في المتشابه والتأويل “لابن تيمية ( تـ 728هـ ) . طبع في القاهرة ، 1394 .
5- “درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز” ، للخطيب الإسكافي( تـ 420هـ ) .
6- “رد معاني الآيات المتشابهات إلى معاني الآيات المحكمات ” ، لمحمد الأسعردي الدمشقي شمس الدين ابن اللبان ( تـ 749هـ) . انظر معجم المطبوعات :ص 229 . ، وسماه الداوودي : “إزالة الشبهات عن الآيات والأحاديث المتشابهات” كما في طبقات المفسرين للداوودي (ص : 81) .
7-كتاب ” مشكل القرآن ” أو ” تأويل مشكل القرآن ” لابن قتيبة ( تـ 276هـ ) .
8- كتاب “المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير” لابن قتيبة أيضا ، طبعته دار ابن كثير في دمشق ، الطبعة الأولى ، 1990 .
9- “متشابه القرآن” للسيوطي(911هـ) مطبوع في القاهرة ، ولا تاريخ له .
10- “وضح البرهان في مشكلات القرآن” لبيان الحق النيسابوري ، حققه صفوان داوودي ، وطبعته دار القلم في دمشق 1990 ، الطبعة الأولى .
11- “متشابه القرآن” لعبدالجبار الهمذاني(415هـ ) طبع في القاهرة : دار التراث 1969 ، تحقيق عدنان زرزور .
12-“متشابه التنزيل” لمؤلف مجهول . طبع في مكة في المطبعة المنيرية سنة 1311هـ .
13- ( تيجان البيان في مشكلات القرآن ) لمحمد أمين بن خير الله الخطيب العمري (تـ 1203هـ (تحقيق ودراسة : حسن مصطفى الزرو ، 1985م . جامعة الموصل .
14- “تنزيه القرآن عن المطاعن” للقاضي عبد الجبار . طبع في بيروت ، بتحقيق عدنان زرزور .
15- “تفسير المشكل من غريب القرآن” ، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي( تـ 437هـ) طبع سنة 1406هـ ، في الرياض نشر مكتبة المعارف بتحقيق د : على حسين البواب .
16- كتاب “القرطين” لابن مطرف الكناني ( تـ 454هـ ) ، جمع فيه بين كتابي مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة . طبع بمطبعة دار المعرفة في بيروت .
17- “باهر القرآن في معاني مشكلات القرآن” لبيان الحق النيسابوري . طبع بمطابع جامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى ، 1997 ، تحقيق سعاد بنت صالح بابقي .
18- “مدخل تفسير القرآن والرد على الملحدين ” ، للحدادي : أحمد بن محمد بن أحمد السمرقندي ( تـ 420هـ تقريبا ) طبع في دار القلم بدمشق ، بتحقيق صفوان داوودي .
19- “فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن ” ، لشيخ الإسلام أبي يحيي بن زكريا الأنصاري ( تـ926هـ) . طبع عام 1403 بتحقيق محمد الصابوني ، بمطابع دار القرآن الكريم في بيروت .
20- “إيضاح المشكلات “للكشاني . ذكره الزركلي في الأعلام (6/63) ورمز له بأنه مطبوع .
21- “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب” ، محمد الأمين الشنقيطي ( تـ 1393هـ) (صاحب الأضواء) . طبعته مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1997 .
22- “دفاعا عن القرآن ضد منتقديه” ، د . عبدالرحمن بدوي .طبعته الدار العالمية للكتب والنشر.
23- ” ملاك التأويل “لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي ( تـ 708هـ) . دار النهضة العربية ، بيروت ، 1985
24- ” الروض الريان في أسئلة القرآن ” ، شرف الدين ابن ريان . طبع مكتبة دار العلوم والحكم في المدينة المنورة ، الطبعة الأولى ، 1994 .
25-“كتاب ( الدفاع عن القرآن ضد النحويين والمستشرقين ):للدكتور أحمد مكي الأنصاري توزيع دار المعارف ، القاهرة . 1973م. .
26- كتاب ( دفاع عن القرآن الكريم في وجه الملاحدة والمغرضين ) ، للدكتور محمود سعد .دار المعرفة الجامعية ، الاسكندرية ، 1992م.
27 – كتاب ( حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين ) ، ط2، القاهرة 2003م . مجموعة مؤلفين ، بإشراف وتقديم الدكتور محمود حمدي زقزوق .
وهناك كتب مخطوطة ، ذكرها كتاب “الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط” من إصدار المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ، ويطلق عليها اسم “مؤسسة آل البيت” في المملكة الأردنية الهاشمية ، وتم إصدار سبعة وعشرين مجلدا منه ، منها في علوم القرآن “مخطوطات التفسير وعلومه” في مجلدين . وذكر بعضا منها كذلك : ابن النديم في الفهرست، وحاجى خليفة في كشف الظنون ، والداوودي في طبقات المفسرين، وفي إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي، وفي تاريخ التراث العربي” لفؤاد سزكين ، وذكرها الزركلي في الأعلام،وغيرهم . وقد ذكر السيوطي [4] أن أول من ألف فيه هو قطرب ( تـ 206هـ) [5]، واسم كتابه “الرد على الملحدين في متشابه القرآن [6]، ويبدو أن مقاتل بن سليمان ( تـ 150هـ ) [7] في كتابه ” الجوابات في القرآن “، وسفيان بن عيينه
( تـ198هـ ) [8] في كتابه “جوابات القرآن” [9] سبقا قطرب في هذا الشأن ، وهذه الكتب الثلاثة مفقودة .
أما الجواب عن بعض الإشكالات القرآنية في ثنايا الكتب ، من غير إفراد لهذا الموضوع ، فكثير ؛ فقد رد الإمام مالك ( تـ 179هـ ) في موطئه على أهل القدر ، الذين احتجوا ببعض الآيات على مذهبهم [10] ، وخصص الإمام أحمد ( تـ 241هـ) القسم الأول من كتابه “الرد على الزنادقة والجهمية ” [11] في الرد على من زعم أن القرآن متناقض ، وأسماه باب بيان ما ضلت فيه الزنادقة من متشابه القرآن وذكر فيه اثنتين وعشرين مسألة .
وكذلك أبو الحسين محمد بن أحمد الملطي ( تـ 377هـ) [12] صنف كتابه ” التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ” أفرد فيه بابا لمتشابه القرآن ، وما يتوهم أنه من الاختلاف والتناقض ، نقل فيه ما أخذه هو من الثقات عن مقاتل بن سليمان [13] .
وهناك كتب كثيرة- يصعب حصرها – تطرقت لهذا الموضوع ، مثل كتب علوم القرآن،
وكل هذه الكتب والدراسات . تتطلب من العلماء وطلبة العلم دراستها ، والبحث عن المفقود منها ، للإفادة منها في تفنيد شبهات الطاعنين والمشككين …
==========================
[1] – مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين : ص 57 وما بعدها ، إذ أورد أسماء المصنفات التي كتبن في هذا الموضوع .
[2] – البرهان في علوم القرآن : ج2/ 45.
[3] – الإتقان : ج2/ 27 .
[4] -انظر : الإتقان : 3/79 ، وانظر البرهان : 2/53 ، والفهرست لابن النديم : 1/57.
[5] – انظر : تاريخ بغداد : 3/298 . والأعلام : 7: 95.
[6] – انظر : الفهرست : ص : 78 ، وطبقات المفسرين : للداوودي ، 2/256 .
[7] – انظر : سير أعلام النبلاء : 7/201-202 بتصرف .
[8] – انظر : ترجمته في طبقات المفسرين للداوودي : 1/196-198
[9] – ذكره ابن النديم في الفهر ست : ص : 51 ، والداوودي في الطبقات : 1/198 . وانظر : كتاب الجرح والتعديل : 7/198
[10] – انظر : الموطأ : كتاب”الجامع في باب : النهي عن القول في القدر”، وباب : ما جاء في أهل القدر .
[11] – طبعته المطبعة السلفية في القاهرة سنة 1393 بتحقيق محمد حسن راشد .
[12] – انظر : معرفة القراء الكبار : 1/343 .
[13] – انظر : موهم الاختلاف والتناقض في القرآن ، ياسر الشمالي : ص : 17 .
تاريخ دعاوى التعارض ، ودوافعها
لا نشك في أن طلب فهم القرآن واستيضاح المراد من آياته قد بدأ منذ وقت مبكر ، وأن بعض نصوصه وبخاصة تلك التي اصطلح على تسميتها بالمتشابهات [1] قد أثارت نوعا من الجدل في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
ومن أقدم النصوص التي تتضمن طعنا في القرآن ، واتهام له بالتعارض مع الحقائق ، هو حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ :لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ سَأَلُونِي فَقَالُوا :إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ (يَا أُخْتَ هَارُونَ( وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا . فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ _ صلى الله عليه وسلم_ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : « إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ » [2] (53) .وهذا الطعن الذي ذكر في الحديث ، مع أن النبي أجاب عليه ، إلا أنه لا يزال يردد إلى يومنا هذا.
وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين ، وذكر طعوناتهم ، ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما ؛ فبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ..)َ [الأنفال :31] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم تدرج معهم في التحدي إلى أن تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا .
وبعضهم زعم أن هذه القرآن إنما هو من قصص الأولين وأساطير السابقين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ([النحل :24]، فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب ، فكيف ينقلها ؟! ثم هذه الأساطير ليست خاصة بمحمد ، بل هي كتب للجميع ، فلماذا لا تحضرون لنا هذه الكتب التي نقل منها.. ؟
وبعضهم قال : إنه تعلَّمه من غلام نصراني فقال الله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل :103].
وهكذا كلما قالوا شُبْهَةً ، وطعنوا طعنا ، رد الله عليهم بحجة واضحة …
وحصل طعن في القرآن في عصر الصحابة ؛ ففي زمن عمر كان في أجناد عمرو بن العاص ( رجل يقال له صبيغ )[3] ، كان يسأل عن متشابه القرآن ، فكان يقول :[ما المرسلات عرفا ، ما العاصفات عصفا . تشكيكا وتعنتا ، فأرسل به عمرو ( إلى عمر (، فلما علم عمر بقدومه أمر رجلا أن يحضره وقال له : إن فاتك فعلت بك وفعلت . وكان عمر قد جهز له عراجين من نخل ، فلما جاءه سأله عن أشياء ثم قال له :من أنت ؟ فقال : أنا عبد الله صبيغ . فقال : وأنا عبد الله عمر . فضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم ضربه حتى أدماه ، ثم تركه حتى شفي ، ثم أُحضر فقال صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني ، فقد والله برئتُ . فأرسله عمر إلى البصرة ، وأمر واليها أبا موسى الأشعري بمنع الناس من مجالسته ، فاشتد ذلك على الرجل ، فأرسل أبو موسى إلى عمر أن الرجل حسنت توبته ، فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته ، فلما خرجت الحرورية قيل لصبيغ :إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا ، وقد مات عمر . فقال : هيهات قد نفعني الله بموعظة العبد الصالح ، يعني عمر] [4] .
وكان حبر الأمة :عبد الله بن عباس ( ت68هـ)-رضي الله عنهما – من أوائل من تكلم في الآيات الموهمة للتعارض ، وقد رويت عنه عدة روايات منها :
ما رواه البخاري عن سعيد بن جبير قال :[ قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي … إلى أن يقول : فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله . ] [5]
و(أَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق عَلِيّ بْن زَيْد ، عَنْ أَبِي الضُّحَى ، أَنَّ نَافعَ بْنَ الْأَزْرَق ، وَعَطِيَّةَ أَتَيَا اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا : يَا اِبْنَ عَبَّاس ، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ( [ المرسلات : 35 ] وَقَوْله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ( [ الزمر : 31 ] وَقَوْلهِ :(وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [ الانعام : 23 ] وَقَوْلهِ :(وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه َحَدِيثًا) [ النساء : 42 ].
قَالَ : وَيْحَكَ يَا ابْنَ الْأَزْرَقِ ، إِنَّهُ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ مَوَاقِفُ ، تَأْتِي عَلَيْهِمْ سَاعَةُ لَا يَنْطِقُونَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَخْتَصِمُونَ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ وَيَجْحَدُونَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ ، وَتُؤْمَرُ جَوَارِحُهمْ ، فَتَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهْم بِمَا صَنَعُوا ، ثُمَّ تَنْطِقُ أَلْسِنَتُهُمْ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا صَنَعُوا ، وَذَلِكَ قَوْله : (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا([ النساء : 42 ].
وَرَوَى اِبْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ( [ المرسلات : 35 ] ؟ فَقَالَ : إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ حَالَاتٌ وَتَارَاتٌ ، فِي حَال لَا يَنْطِقُونَ وَفِي حَال يَنْطِقُونَ) [6] . وغير ذلك من الآثار .
وكانت مسألة القول بالقدر . [7] من أولى المسائل التي ظهر فيها الخلاف بين المسلمين على أشده ، قال ابن سعد في الطبقات الكبرى : [ أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا : ما جلسنا مجلسا في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكنا أشد اغتباطا من مجلس جلسناه يوما ، جئنا فإذا ناس عند حجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتراجعون في القرآن ، فلما رأيناهم اعتزلناهم ، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – خلف الحجر يسمع كلامهم ، فخرج علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مغضبا يعرف الغضب في وجهه حتى وقف عليهم ، فقال : أي قوم ..! بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، إن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه عليكم فآمنوا به ، ثم التفت إلي وإلى أخي ، فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم ..][8] وهذه الرواية تتضمن تحذيرا ونهيا عن ضرب القرآن بعضه ببعض ، لأن القرآن يصدق بعضه بعضا ، وينفي التوجيه النبوي أن يكون هناك تعارض أو تضارب بين نصوصه ، وينبئ أن ما حصل إنما كان بسبب سوء الفهم وعدم تدقيق النظر .. ولذلك دعاهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى أن يأخذوا بما عرفوه ، ويوكلوا الأمر فيما لم يعرفوه إلى العلماء .. أما كونه – صلى الله عليه وسلم – قد خرج مغضبا فذلك لوقوع الاختلاف بينهم في وقت كانوا أشد حاجة إلى الوحدة وعدم الفرقة .. مع كثرة تحذيره – صلى الله عليه وسلم – لهم من ذلك . بل يمكن القول إن الرواية تشير إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان قد بين لهم الأمر فيما تنازعوا فيه ، ولكن هناك من خالف بدليل تحذيره – صلى الله عليه وسلم – من مخالفة الأنبياء .[9]
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : [ أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – سلام ابن مشكم في عامة من يهود سماهم ، فقالوا : أخبرنا يا محمد بهذا الذي جئتنا به حق من عند الله ..؟ فإنا لا نراه متناسقا كما تناسقت التوراة ، فقال لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله ، تجدونه مكتوبا عندكم ، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . )( 88 : الإسراء ) ] [10] ( تخريج الحديث ..؟)
فهذه الروايات تبين أن اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الإسلام ، أثاروا بعض الشبهات حول القرآن الكريم في عصر النبوة ، ودوافعهم في ذلك معروفة ، وهي التشويش على هذا الدين الجديد بشبهات يثيرونها من غير سند ولا حجة ، فقام الرسول – صلى الله عليه وسلم – ببيانها ، ثم تولى هذه المهمة من بعده علماء الأمة .. من صحابة وتابعين وتابعيهم بإحسان . .. وكلما بعد العهد بعصر النبوة ، كلما زادت الإشكالات والطعون في القرآن .
==================================================
[1] – انظر ما قاله ابن خلدون : في مقدمته ،: ( ص 463) : ( وإنما عرض خلاف في تفاصيل العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة )
[2] – أخرجه مسلم (كتاب الآداب ، باب : النهي عن التكني بأبي القاسم ، وبيان ما يستحب ، رقم : 213).
[3] – قال ابن منظور : (صبِيغٌ : اسم رجل كان يَتَعَنَّتُ الناسَ بسُؤَالات في مُشْكل القرآن ، فأَمر عمر بن الخطاب بضربه ، ونفاه إِلى البَصرة ، ونَهي عن مُجالَسَتِه ) ، لسان العرب (8 /439) .
[4] – أخرجه مالك في الموطأ(2/455) ، والدارمي في سننه (1/66) ، وإسناد القصة صحيح والقصة مشهورة ، وانظر : الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/152) ، فقد جمع أطراف القصة ورواياتها .
[5] – انظر النص كاملا في صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة حم السجدة : ج3/131. والإتقان في علوم القرآن : 2: 27.
[6] – فتح الباري : 8 : 555 .
[7] – المقصود بالقول بالقدر : أن الإنسان يقدر أعمال نفسه بعلمه ، ويتوجه إليها بإرادته ، ثم يوجدها بقدرته . انظر : القرآن والفلسفة : ص 102.
[8] – ابن سعد : 4: 192 . وأخرجه الإمام أحمد في المسند : رقم 6808. وابن ماجة في باب القدر ، رقم : 85 . وإسناده حسن .
[9] – انظر بحث : د. طه اليواني : حول دعوى التناقض بين نصوص القرآن الكريم : مجلة رسالة القرآن . إيران . عدد7 : سنة 1412هـ . ص 15 .
[10] – جامع البيان عن تأويل آي القرآن : ج15/ 158.
توهم اضطراب القرآن الكريم في استخدام أسماء الإشارة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن ثمة تعارضا بين قوله عز وجل: ( الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )وهذا كتاب أنزلناه مبارك( (الأنعام: ٩٢)حيث أشار عز وجل في الآية الأولى إلى القرآن بإشارة البعيد “ذلك”، وفي الثانية بإشارة القريب “هذا” **.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في اسم الإشارة أن يطابق المشار إليه في نوعه: التذكير أو التأنيث، وفي عدده: المفرد أو المثنى أو الجمع، ويوافقه قربا أو بعدا.
وهذا ما نجده في إشارات القرآن الكريم، أما ما يتوهمه بعضهم من أن في القرآن اضطرابا في استخدام أسماء الإشارة فوهم باطل من وجوه:
1) أن الإشارة لـ “الكتاب” بإشارة “القريب”؛ للدلالة على أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع، والألسنة، والقلوب، ووجه الإشارة إليه بإشارة “البعيد”: بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين.
2) أن “ذلك” إشارة إلى ما تضمنه قوله: “الم”، وإنما أشار إليه “إشارة البعيد”؛ لأن الكلام المشار إليه منقض، ومعناه في الحقيقة: “القريب”؛ لقرب انقضائه.
3) أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد، فتكون الآية على أسلوب من أساليب العرب، وتستعمل اسم الإشارة “ذلك” في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب.
التفصيل:
إن توهم بعض هؤلاء أن هناك اضطرابا في استخدام اسم الإشارة في قولــه تعالـى: )الم (1) ذلك الكتـاب لا ريـب فيه هـدى للمتقيـن (2)( غير صحيح؛ وذلك لأن:
أولا. الإشارة إلى القرآن بإشارة “القريب” تفيد أن هذا القرآن قريب حاضر في الأسماع، والألسنة، والقلوب، وفيه ترغيب في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه، ووجه الإشارة إليه بإشارة “البعيد”: بعد مكانته ومنزلته عن مشابهة كلام الخلق، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر، أو شعر، أو كهانة، أو أساطير الأولين.
فإن قال قائل: لـم صحت الإشارة بـ “ذلك” إلى ما ليس ببعيد؟ قلنا: لأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة، وبعد مرتبة المشار إليه عن مرتبة كل كتاب سواه، كما يعطفون بـ “ثم” للإشعار بتراخي المراتب، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه”[1].
ثانيا. “ذلك” إشارة إلى ما تضمنه قوله: )الم(، وإنما أشار إليه “إشارة البعيد”؛ لأن الكلام المشار إليه منقض، ومعناه في الحقيقة: القريب؛ لقرب انقضائه.
ونضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة: والله إن “ذلك” لكما قلت، ومرة يقول: والله إن “هذا” لكما قلت، فإشارة “البعيد”؛ نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى، وإشارة “القريب”؛ نظرا لقرب انقضائه، ونحوه قوله عز وجل: )لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك( (البقرة: ٦٨)، فالإشارة إلى فارض وبكر إنما أشير إليهما بصيغة البعد لتقضي ذكرهما.
ثالثا. العرب ربما أشارت إلى القريب “إشارة البعيد” فتكون الآية على أسلوب من أساليب العرب:
يقول عز وجل: )ذلك الكتاب( والمعنى: هذا الكتاب، وذلك قد يستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب – كما قال عز وجل في الإخبار عن نفسه: )ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6)( (السجدة)، ومنه قول خفاف بن ندبة السلمي:
أقول له، والرمح يأطر [2] متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي: أنا هذا. فـ “ذلك” إشارة إلى القرآن، موضوع موضع “هذا”، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه، وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما رضي الله عنه، ومنه قوله عز وجل: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم( (الأنعام: ٨٣)، أي: هذه؛ لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل: “تلك”، وفي البخاري: وقال معمر: ذلك الكتاب: “هذا القرآن”.
وقد صرح النحاة بجواز استعمال “هذا” و “ذلك” في مثل هذا السياق، قال ابن مالك: “وقد ينوب ذو البعد عن ذي القرب؛ لعظمة المشير أو المشار إليه، وذو القرب عن ذي البعد؛ لحكاية الحال، وقد يتعاقبان مشارا بهما إلى ما ولياه من الكلام”[3].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
السر في استخدام الإشارة بالبعيد مع الكتاب القريب في قوله تعالى:(ذلك الكتاب( الإيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال؛ فنزل بعد المرتبة منزلة البعد الحسي، والإشارة إلى الكتاب كله عند نزول بعضه؛ إشارة إلى أن الله تعالى منجز وعده للنبي – صلى الله عليه وسلم – بإكمال الكتاب كله، والبعد والقرب في الخطاب الإلهي، إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إن شيئا بعيدا عنه – عز وجل – أو قريبا منه في المكان الحسي؛ لأن كل الأشياء بالنسبة إليه – عز وجل – سواء[4].
السر البلاغي في تعريف الكتاب بالألف واللام: التفخيم لأمره، وهو في الأصل مصدر، قال عز وجل: (كتاب الله عليكم( (النساء:٢٤)[5]، وذكر اسم الإشارة مراعاة لتذكير “الكتاب” سواء أكان الكتاب خبرا، أم بدلا، فإن اعتبر خبرا؛ فهذه مراعاة لشيوع اعتبار أحوال الأخبار في التذكير والتأنيث، والإفراد والجمع كقول امرئ القيس:
وبدلت قرحا [6] داميا بعد صحة
فيا لك من نعمى تحولن [7] أبؤسا
فالضمير في “تحولن” عائد على “نعمى”، وإنما جمع مراعاة للخبر وهو “أبؤس”. وإن عد بدلا فالتذكير أوضح؛ لأن الإشارة واقعة على الكتاب.
وإذا كان خبرا: فالتعريف للجنس، ويستفاد من التركيب قصر حقيقة الكتاب على القرآن؛ لما فيه من تعريف المسند والمسند إليه، وهو داخل فيما يسمى “القصر الادعائي”، ويراد أنه الكتاب الجامع للصفات الكمالية في جنس الكتب؛ حتى صار ما عداه بجانبه في حكم العدم، ومثله شائع في الكلام العربي، كقولهم: محمد هو الرجل، ويراد به أنه اجتمعت فيه صفات الرجولة حتى كأن من عداه لم يعد لهم شيء منها، ومن هذا الباب قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج[8] دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وإذا كان بدلا: فالتعريف للعهد، ويراد به الكتاب المنزل على الرسول – صلى الله عليه وسلم – المرموز إليه بفاتحة هذه السورة، ولا يضير كونه لم يكتمل إنزاله عندما نزلت الآية؛ لأن للبعض حكم الكل، وما نزل قبلها جانب عظيم منه؛ فإن أغلبه كان نزوله بمكة، ومع ذلك يمكن أن تكون في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن الله – عز وجل – سينجز وعده لرسوله – صلى الله عليه وسلم – بإنزال جميع الكتاب عليه فيما بعد[9].
السر البلاغي في التعبير بلفظ: الريب، وإيثاره على لفظ الشك، وتقديمه على الجار والمجرور: أن (لا ريب( مجاز بمعنى: أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته، أي: ليس فيه اضطراب ولا اختلاف، فيكون الريب هنا مجازا في سببه. وقدم الريب على الجار والمجرور؛ لأنه أولى بالذكر استعدادا لصورته، حتى تتجسد أمام السامع.
والريب والريبة: الشك والظنة والتهمة، والمعنى: أن ذلك الكتاب مبرأ من وصمات العيب، فلا شك فيه ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا من جهة كونه هاديا مرشدا.
قوله عز وجل: (هدى للمتقين( فيه إسناد الهداية للقرآن، وهو من الإسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله رب العالمين، ففيه مجاز عقلي.[10][11] وهذا المجاز علاقته اعتبار ما يئول إليه: أي الصائرين إلى التقوى، وفي ذكر” المتقين” إيجاز؛ لأن التقوى اسم جامع لكل ما تجب الوقاية منه.
وعليه فقد ثبت لنا بالحجة الدامغة والبرهان الساطع أن الآيتين خاليتان من الاضطراب والتعارض.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، دار الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. ومنه عندهم: ) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ( (الزمر: ٦)، ومعلوم أن هذا الجعل كان قبل خلقنا. انظر: الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم المرادي، تحقيق: د. فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص427.
[2]. يأطر: يثني
[3]. شرح التسهيل، ابن مالك، تحقيق: عبد الرحمن السيد، محمد بدوي المختون، دار هجر، القاهرة، ط1، 1990م، ج1،ص248.
[4]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص16.
[5]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، سوريا، 1408 هـ/ 1988م، ج1، ص25.
[6]. القرح: جرح بطيء الاندمال، يصيب الجلد والأنسجة العميقة، وتطول مدة شفائه.
[7]. تحول: تغير وانقلب، والمعنى: تبدلت حاله وصارت بؤسا بعد النعيم الذي كان يتقلب فيه.
[8]. فلج: موضع بين البصرة وضرية، وقيل: واد بطريق البصرة إلى مكة، ببطنه منازل للحاج.
[9]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج1، ص123، 124 بتصرف.
[10]. المجاز العقلي: إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الحقيقة لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. والمجاز العقلي له عدة علاقات؛ نذكر منها: السببية، الزمانية، المكانية، المصدرية، الفاعلية، المفعولية.
[11]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص16.
توهم اضطراب القرآن الكريم في الإتيان باسم الموصول مكان المصدر
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن في القرآن الكريم اضطرابا؛ حيث جاء بالموصول مكان المصدر وذلك في قوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين( (البقرة: 177)؛ إذ الصواب في ظنهم أن يقال: “ولكن البر أن تؤمنوا بالله”؛ لأن البر هو الإيمان لا المؤمن**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل أنه لا يخبر عن المعنى باسم ذات، وقد زعم المشككون أن القرآن قد خالف ذلك فأتى بخبر يدل على ذات ليخبر به عن معنى، وهذا تحقق في قوله تعالى: )ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين(، فقد أخبر عن اسم المعنى البر باسم ذات وهو اسم الموصول “من”، وهذا في زعمهم مخالف لأصول اللغة، وكان الصواب في زعمهم أن يقال: “ولكن البر أن تؤمنوا”؛ ليكون الإخبار عن اسم المعنى “البر” وهو مصدر باسم معنى مثله وهو المصدر المؤول “أن تؤمنوا”.
وللعلماء توجيهات في وقوع )من آمن( خبرا عن )البر( وهو خلاف الأصل؛ لأن )البر( معنى ذهني، و )من آمن( ذات، والذوات لا يخبر بها عن المعاني الذهنية، ومؤدى هذه التوجيهات وأهمها:
1) أن في الكلام مضافا محذوفا، إما أنه واقع بعد “البر” وتقديره: ولكن البر بر من آمن، أو واقع قبل “البر” وتقديره: ولكن ذا “البر” من آمن.
2) أن المصدر “البر ” موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، والتقدير: ولكن البار.
التفصيل:
في الآية الكريمة وقعت )من آمن( خبرا عن )البر( وهو خلاف الأصل؛ لأن “البر” معنى ذهني “ومن آمن” ذات، والذوات لا يخبر بها عن المعاني الذهنية، وللعلماء في هذه المسألة ستة توجيهات، نذكر منها ثلاثة هي الأقوى والأظهر، وقد أوردها الإمام الزمخشري[1]:
أن في الكلام مضافا محذوفا، والتقدير “ولكن البر بر من آمن”، وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء، وردده كثير منهم وهذا المضاف خبر “لكن”.
تأويل )البر( بـ “ذو البر”، وهذا يعني أن في الكلام حذف مضاف، موضعه قبل “البر”، أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل )من آمن(.
أن يكون المصدر وهو “البر” موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة، كما في قول الخنساء، تصف جزعها لموت أخيها صخر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
فإنما هي إقبال وإدبار[2]
فإقبال وإدبار: مصدران حلا محل اسم الفاعل، والتأويل: هي مقبلة مدبرة، وقد سبق الزمخشري إلى الرأي الأول شيخ النحاة سيبويه.
وقد اختار سيبويه هذا الرأي ورجحه؛ لاعتبار قوي فحواه: أن السابق عليه هو نفي كون البر تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب، ثم قال: “والذي يستدرك ينبغي أن يكون من جنس ما وقع عليه النفي”، وهو هنا يريد أن يقول: إن “لكن” أداة استدراك في المعنى، وإن طرفي الاستدراك ينبغي أن يكونا متجانسين، والاستدراك، إما إثبات بعد نفي، أو نفي بعد إثبات، فمثلا قوله تعالى: )ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)( (الأعراف).
فما قبل أداة الاستدراك “لكن” هو الإيمان والتقوى، وما بعدها هو التكذيب، فبين ما قبلها وما بعدها تجانس ظاهر؛ لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية، وكذلك ما قبل “لكن” في الآية التي معنا هو البر الظاهري المنفي، وما بعدها ينبغي أن يكون هو البر الحقيقي المثبت، وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغي لهذه المسألة[3].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قوله تعالى: )ولكن البر من آمن بالله( فيه إيجاز بحذف المضاف، إذ المعنى: “ولكن البر بر من آمن” والإيجاز بالحذف هنا من البلاغة القرآنية والدقة في أي القرآن الكريم”[4].
قوله تعالى: )ولكن البر( من الآراء التي طرحت فيه أن )البر( هنا مصدر وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على مثال قول العرب “رجل عدل”؛ حيث عدلوا عن “رجل عادل” إلى الإخبار عنه بالمصدر، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه لا فرق بينهما، وهذا رأي نحاة الكوفة[5].
أو لعل المراد تمكن الإيمان من القلوب، فلو قيل: ولكن البر أن تؤمنوا، لكان الإيمان المدعو إليه مجرد فكرة، ولكن لما أخبر عن هذا المعنى – الإيمان – بالذوات التي تحمله – من – التحم الإيمان بالمؤمن والمؤمن بالإيمان، فصار إيمانا عمليا متمكنا من القلوب.
قوله تعالى: )وفي الرقاب( فيه “مجاز مرسل[6]علاقته الجزئية، فذكر الجزء، وأراد الكل” [7].
قوله تعالى: )وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى( فيه من النكت البلاغية ما يسمى بـ “التتميم”، فقوله تعالى: )على حبه( تتميم؛ لأن المعنى قد تم قبلها، ولكن ليس هذا من باب الزيادة التي بلا فائدة، ولكن )على حبه( تفيد التأكيد وزيادة تمام المعنى”[8]، وهذا يدل على أن المال لا بد أن ينفق عن طيب نفس ورضا خاطر، مما يوحي إلى سماحة المؤمن ومسارعته لفعل أوامر ربه طيبة بذلك نفسه.
قوله تعالى: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء( فيه من البلاغة ما يبرزه ما فيه من العدول النحوي، فقد عدل بالصابرين عن نسقه – نصبا على المدح أو الاختصاص ـ؛ تنبيها على فضيلة الصبر في الشدائد ومواضع القتال، وإظهارا لمزيته على سائر الأعمال.
جعل بعض البلاغيين قوله تعالى: )والموفون بعهدهم( ثم قوله: )والصابرين في البأساء والضراء( من الالتفات، وقد عدوه من الالتفات بسبب المخالفة في البناء النحوي للجملة، وهو رأي بعض البلاغيين”[9].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت ، ج1، ص330.
[2]. شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الإستراباذي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج1، ص254.
[3]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص219، 220. وللمزيد انظر: الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، ج1، ص337.
[4]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص251.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص221.
[6]. المجاز المرسل: هو ما كانت العلاقة فيه بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المستعمل فيه غير متشابهة.
[7]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ص251.
[8]. المعاني في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 2002م، ص264.
[9]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1998م، ص24.
توهم اضطراب القرآن الكريم في ذكر اسم مكة
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم مضطرب في ذكر اسم “مكة”؛ حيث يقول عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة( (الفتح: 24)، ويقول أيضا: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96)( (آل عمران)، فهل هي “مكة” أم “بكة” **؟!
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الاسم العلم أن يدل على محدد – شخصا كان أم مكانا، أو ما شابه ذلك – ولا يتغير الاسم العلم؛ لأن مدلوله واحد لا يتغير. والقارئ غير المتأمل لقوله عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة( (الفتح: 24)، وقوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا( (آل عمران: ٩٦) قد يتوهم أن القرآن به اضطراب؛ حيث دل على المكان نفسه مرة بـ “مكة”، وأخرى بـ “بكة”، ولكن هذا التوهم مردود بما يأتي:
1) إن ما جاء في قوله عز وجل: )ببطن مكة( مقصود به “مكة”؛ وذلك لمجيء كلمة “بطن”؛ فالبطن هي وسط البلد، كما يقال: بطن الوادي؛ أي: وسطه، وقيل: هي الحديبية.
2) إن ما جاء في قوله عز وجل: )للذي ببكة( يراد به: هو مكان الطواف. وقيل: إن “مكة ” و “بكة” اسمان لمسمى واحد بقلب الميم باء.
التفصيل:
إن القرآن الكريم نزل بلغة الفصاحة والبيان المليئة بالأساليب التي تحتاج إلى تدبر وتعمق وإعمال فكر، ولكن هؤلاء عاجزون عن التدبر؛ كما قال عز وجل: )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)( (محمد)؛ فالقرآن الكريم جاء بألفاظ العرب ولغتهم، وفيها من الإطناب والإيجاز بنوعيهما، وفي تسمية الشيء بأكثر من اسم ما يبطل هذا الزعم.
وفيما يلي نفصل الأدلة للرد عليهم:
أولا. إن ما جاء في قوله عز وجل: )ببطن مكة( (الفتح: ٢٤) مقصود به “مكة”؛ وذلك لمجيء كلمة )ببطن(، فالبطن: وسط البلد؛ كما يقال: “بطن الوادي”؛ أي: وسطه. وقيل المراد: الحديبية.
قال الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: )ببطن مكة(: حقيقة البطن: جوف الإنسان والحيوان، ويستعمل في معاني المنخفض من الشيء أو المتوسط منه مجازا. قال الراغب: ويقال للجهة السفلى: بطن، وللعليا: ظهر. ويقال: بطن الوادي لوسطه. والمعروف من إطلاق لفظ البطن إذا أضيف إلى المكان أن يراد به: وسط المكان؛ كما في قول كعب بن زهير:
في فتية من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا: زولوا
أي: في وسط البلد الحرام.
لكن ما وقع – مما قد يفضي إلى القتال – إنما وقع يوم الحديبية؛ ولهذا فقد حمل جمهور المفسرين قوله: )ببطن مكة( على الحديبية من إطلاق البطن على المكان، والحديبية قريبة من مكة، وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم، وهي على الطريق بين مكة وجدة، وتعرف اليوم باسم الشميسي[1].
ثانيا. إن ما جاء في قوله عز وجل: )للذي ببكة( المراد منه: مكان الطواف، كما أن كلمتا “مكة” و ” بكة” اسمان لمسمى واحد؛ حيث قلبت الميم باء، ونفصل ذلك الوجه على النحو التالي:
في قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا( (آل عمران: ٩٦) المراد من “بكة”: المكان الذي فيه الطواف والكعبة، أي: هي اسم مكان البيت الحرام، واشتقاق “بكة” مأخوذ من “بك المكان”، أي: ازدحم؛ ومن هنا فالمقصود من قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة( أي: أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس، وكل الوفود ليزوروا بيت الله الحرام.
وقيل: إن “بكة” اسم آخر لـ “مكة”؛ حيث يقول بعض العلماء: إن “الميم” و “الباء” يتعاوران؛ ونلحظ ذلك في الإنسان الأخنف أو المصاب بزكام، فهو ينطق الميم كأنها باء، فهما حرفان قريبان في النطق، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها[2]. فكلاهما حرف شفوي، وبينها علاقة صوتية تظهر بوضوح في أحكام تلاوة القرءان الكريم مثلا.
وبهذا البيان يتضح أنه لا يوجد أي اضطراب في القرآن الكريم حول اسم مكة.
الأسرار البلاغية في الآيتين الكريمتين:
إن قوله عز وجل: )إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96)( (آل عمران) واقع موقع التعليل للأمر في قوله عز وجل: )قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)( (آل عمران)؛ لأن البيت المنوه بشأنه كان مقاما لإبراهيم، ففضائل هذا البيت تحقق فضيلة شرع بانيه في متعارف الناس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضا إخبار بفضيلة الكعبة وحرمتها فيما مضى من الزمان، وقد آذن بكون الكلام تعليلا موقع “إن” في أوله، فإن التأكيد بـ “إن” هنا لمجرد الاهتمام وليس لرد إنكار منكر، ومن خصائص “إن” إذا وردت في الكلام لمجرد الاهتمام، أن تغني غناء “فاء التفريع”، وتفيد التعليل والربط.
لقد عبر القرآن الكريم عن الكعبة بالموصولية: )للذي ببكة(؛ لأن هذه الصلة، صارت أشهر في تعيينه عند السامعين؛ إذ ليس في مكة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة: فقد أطلق اسم “الكعبة” على “القليس” الذي بناه أهل الحبشة في صنعاء لدين النصرانية، ولقبوه بـ “الكعبة اليمانية”.
في قوله: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكـة مـن بعـد أن أظفركـم عليهـم وكـان الله بمـا تعملـون بصيـرا (24)( (الفتح)، أطلق الكف مجازا على الصرف، أي: قدر الله كف أيدي الناس عنكم؛ بأن أوجد أسباب صرفهم عن أن يتناولوكم بضر أو سوء، نووه أو لم ينووه، وهو حاصل مقدر للطرفين.
و “الكف”: مشتق من اسم الكف التي هي اليد؛ لأن أصل المنع أن يكون دفعا باليد، ويقال: كف يده عن كذا: إذا امتنع من تناوله بيده، وفي قوله عز وجل: )كف أيديهم ( مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ حيث عبر بكف اليد وأراد صرفهم كلية لا أيديهم فحسب. وأفاد هنا: أنه لم يترك أحد من الفريقين الاعتداء على الفريق الآخر من تلقاء نفسه، ولكن ذلك كان بأسباب أوجدها الله تعالى لإرادته عدم القتال بينهم.
في قوله عز وجل: )وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24)( (الفتح)، تقدم المسند إليه على الخبر الفعلي؛ لإفادة التخصيص؛ أي: القصر، والمعنى: لم يكفهم عنكم، ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى، مع توفر أسباب الاشتباك للطرفين، إلا أن الله قدر موانع لهم ولكم؛ فكف أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم، وكف أيديكم عنهم حين أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن يعفو عنهم ويطلقهم[3].
ولكن لـم ذكر الله – عز وجل – كف الأيدي ولم يذكر جل شأنه: منع القتال؟! وفي ذلك يقول د. عبد الفتاح لاشين: وكف الأيدي أبلغ من منع القتال؛ لأن كف الأيدي يستلزم منع القتال بالدليل”[4].
إن الآية الكريمة فيها مراعاة الفواصل – كما جاء في جميع آيات السورة الكريمة – وهو من المحسنات البديعية[5]. فقد قال الإمام الطاهر ابن عاشور: وجملة )وكان الله بما تعملون بصيرا( تذييل للتي قبلها، والبصير بمعنى: العليم بالمرئيات، أي: عليم بعملكم حين أحطتم بهم، وسقتموهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – تظنون أنكم قاتلوهم وآسروهم[6].
وبذلك يتضح من خلال ما سردنا من أدلة الرد ومن أسرار بلاغية في كلتا الآيتين أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي لا اضطراب فيها، فهو من لدن حكيم عليم، وعلى هذا يبطل وهم المتوهمين.
(*)www.ebnmaryam.com. www.islamyat.com.
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص184، 185 بتصرف يسير.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج3، ص1632، 1633.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص183، 184 بتصرف.
[4]. البيان في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص259.
[5]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص139 بتصرف يسير.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص186.
توهم اضطراب القرآن الكريم في إسناد المضارع للضمائر
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن بالقرآن الكريم اضطرابا في إسناد المضارع للضمائر، ويستدلون على ذلك بقراءتهم الخاطئة للفعل “اشهد” بهمزة وصل على أنه مضارع وهذا في قوله عز وجل: )وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111)( (المائدة) **؛ إذ قرءوه “أشهد” بهمزة قطع، ومن ثم كان الصواب في ظنهم أن يقال: “ونشهد” بإسناد الفعل المضارع لضمير الجمع، بدلا من “وأشهد” بإسناده للمفرد.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل أن يطابق الفعل المضارع فاعله المسند إليه في نوعه: تذكيرا وتأنيثا، وعدده: إفرادا وتثنية وجمعا، وهذا ما يلتزمه القرآن، أما ما توهمه بعضهم من اضطراب القرآن في إسناد المضارع للضمائر في هذه الآية، فهو زعم باطل من وجوه:
1) أنهم أخطئوا في قراءة الفعل “اشهد” فقالوا: “وأشهد” بهمزة القطع، وعليه اعتبروه فعلا مضارعا مسندا إلى المتكلم، والصواب أنه “واشهد” بهمزة الوصل؛ لأنه فعل طلب – أمر – مسند إلى المخاطب وهو لفظ الجلالة “الله”؛ حيث المقصود من الآية “واشهد يا رب”.
2) أن الفعل “اشهد” فاعله ضمير مستتر تقديره “أنت”، عائد على لفظ الجلالة “الله” عز وجل؛ ولذلك قال: “واشهد”، وليس فاعله “الحواريين” كما توهموا، ولا الضمير العائد عليهم، وإلا قالوا: “واشهدوا”.
التفصيل:
أولا. لقد أخطأ هؤلاء القوم في قراءة الفعل “واشهد”؛ فقرءوه: “وأشهد”، بهمزة القطع؛ وعليه اعتبروه فعلا مضارعا مسندا إلى المتكلم، والصواب أنه: “واشهد ” بهمزة الوصل؛ لأنه فعل أمر – طلب – مسند إلى المخاطب، وهو لفظ الجلالة “الله”، والمقصود من الآية، كما في تفسير القرطبي[1]: “واشهد يا رب – وقيل: يا عيسى – بأننا مسلمون”، وجاء في “صفوة التفاسير” المعنى ذاته: أنهم قالوا: “صدقنا يا رب بما أمرتنا، واشهد بأننا مخلصون في هذا الإيمان، خاضعون لأمر الوحي”[2]، فالفعل “واشهد” مسند إلى مخاطب مفرد، وهو إما “الله” عز وجل، وإما “عيسى” عليه السلام، وعلى كل فهو لمفرد لا لجمع كما توهم هؤلاء.
ثانيا. فاعل الفعل الأمر ليس “الحواريين”، وإلا قالوا: “واشهدوا”، وإنما فاعله ضمير مستتر تقديره “أنت”، عائد على الله عز وجل؛ لذلك قالوا: “واشهد”، وهذه من “النعم التي آتاها الله عيسى ابن مريم؛ لتكون له شهادة وبينة، فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ، وتصوغ حولها الأضاليل، فها هو ذا عيسى يواجه بها قومه؛ ليسمعوا قوله ويروا؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين”[3].
والخطاب في قولهم: “واشهد” لله عز وجل؛ وإنما قالوا ذلك بكلام من لغتهم، فحكى الله معناه بما يؤديه[4].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
السياق مركب من دلالتين:
إعلانهم الإيمان بالله ورسوله.
طلبهم من الله – عز وجل – أن يشهد على إسلامهم الذي أعلنوه.
ونحن متفقون في إدراك معنى النصف الأول من الآية، ولكننا سنوضح دلالة النصف الثاني لمن غفل عنها؛ إذ الآية تتحدث عن إيحاء الله – عز وجل – إلى أصحاب المسيح – عليه السلام – بالإيمان بالله ورسوله، فقالوا: آمنا واشهد يا رب لنا بهذا الإيمان؛ حتى تكون شهادتك هي الدليل على رضاك عنا، والطريق إلى نجاتنا وسلامتنا من أهوال يوم القيامة، وبهذا يستقيم السياق، ويظهر إعجاز القرآن وبيانه، ومن ثم فلا داعي لتكرار القول؛ إذ إن قولهم: “آمنا” شهادة منهم على صدقهم، فلو قال: “نشهد” لكان تكرارا لا فائدة منه؛ وحاشا للقرآن أن يفعل ذلك.
ولو أخذنا بفهم الذين توهموا هذا الخطأ لصار السياق: “قالوا آمنا ونشهد بأنا مسلمون”، وبهذا يفقد السياق النصف الثاني منه؛ لأن المعنى: إعلانهم للإيمان بالله ورسوله، ثم إشهاد الله على إسلامهم هذا.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص363.
[2]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج2، ص359.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج2، ص998.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص104.
توهم اعتراف القرآن الكريم بخبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجنونه
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن القرآن الكريم اعترف بخبل النبي – صلى الله عليه وسلم – وجنونه في قوله عز وجل: )أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض( (الأعراف)**؛ حيث يفسرون هذه الآية بقولهم: هل نسوا ما بصاحبهم من جنة، كما نسوا أن يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض؟!
وجها إبطال الشبهة:
الرسول – صلى الله عليه وسلم – كغيره من الرسل – منزه عن العيب، مبرؤ من النقائص، مخلص من كل ما يسلبه أهليته؛ كالصرع والجنون، وما شابه ذلك. وقد زعم فريق ممن لا يملكون التمكن من فهم اللغة العربية وألفاظها أن القرآن الكريم يقرر جنون الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإصابته بالخبل.
وزعموا أن ذلك ورد دليله في قوله عز وجل: )أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184) أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم( (الأعراف)، ومبعث هذا الوهم الباطل أنهم فهموا أن ما في قوله عز وجل: )ما بصاحبهم من جنة( هي “ما الموصولة”، وهذا مخالف للمعني المراد بها.
ويمكن الرد على هذا الزعم من وجهين:
1) أن تفسير هؤلاء لقوله عز وجل: )أولم يتفكروا( بمعنى: “هل نسوا”، فيه تضليل واقتطاع سيء للسياق؛ إذ إن الآية ختمت بوصف النبي – صلى الله عليه وسلم – بالنذير، ولا يعقل أن يبعث الله نذيرا لعباده ثم يحكم بخبله أو جنونه؟!
2) أن لفظة “ما” في قوله صلى الله عليه وسلم: )ما بصاحبهم من جنة( نافية بمعنى: ليس، وقيل: استفهامية إنكارية، والمعنى على هذا: ليس بصاحبكم من جنة.
التفصيل:
أولا. إن تفسير هؤلاء لقوله عز وجل: )أولم يتفكروا( بمعنى: “هل نسوا” تفسير خاطئ، واقتطاع سيئ للآيات عن سياقاتها، وأصحاب الفهم السليم يقرءون الآية كلها، ويفهمون معناها، ولو فكر هؤلاء قليلا لاستراحوا كثيرا.
فالآية الأولى بها عبارة: )ما بصاحبهم من جنة(، وبها أيضا: )إن هو إلا نذير مبين(، فكيف يجتمع الضدان؟! ومعلوم في الأمور العقلية المنطقية أن الضدين لا يجتمعان.
فقد أرسل الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالحق؛ ليكون للعالمين بشيرا ونذيرا، فهل يعقل أن يبعث الله رسوله، ثم يحكم بجنونه أو بخبله؟! فالمجنون هو من فقد التوازن الفكري في الاختيار بين البدائل، وحين يأخذ الله منه هذه القدرة على التوازن الفكري يصبح غير أهل للتكليف؛ لأن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا، أو لا تفعل كذا، والمجنون لا يملك القدرة على الترجيح، فكيف يكون ذلك صفة نبي أرسله الله لهداية الناس؟!
والله – عز وجل – لا يكلف الإنسان إلا حين يبلغ ويعقل؛ لأنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة عن أهله، وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلاحظ أن الطفل وهو صغير يختار له والداه الملابس والطعام، وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقا، ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده؛ لأنه قد صارت له ذاتية، والذاتية – كما نعلم – توجد في النبات، وفي الحيوان، وفي الإنسان، وذلك بمجرد أن يصير الفرد منها قادرا علي إنجاب مثله، سواء أكان هذا الفرد من النبات، أم الحيوان، أم الإنسان.
أما إذا كان الإنسان قد صارت له ذاتية في الإنجاب والنسل، وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في التفكير، فهنا يسقط عنه التكليف؛ لأنه مكره بفقدان العقل.
وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يبلغ، وعن المجنون، وعن المكره، وهذه عدالة الجزاء من الله تعالى؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»[1].
وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار به بين البدائل، فكيف يقولون ذلك عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقدا لشيء من أهليته؟! بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين، وكانوا يحفظون عنده كل غال نفيس لهم، حتى وهم كافرون به، وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم[2]. فهل يمكن بعد ذلك أن يقولوا عنه: إنه مجنون؟!
لقد كانوا يقولون عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش ليخدعوا بها الجماهير: إن محمدا به جنة، ومن ثم ينطق بهذا الكلام الغريب، غير المعهود في أساليب البشر العاديين!
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون! وقد تضافرت الروايات علي أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن، والتأثر به أعمق التأثر، وقصـة الأخنـس بـن شريـق، وأبي سفيـان بـن حـرب، وعمرو بن هشام – أبي جهل – في الاستماع لهذا القرآن خلسة ليالي ثلاثا، وما وجدوه في أنفسهم من التأثر والانفعال – معروفة.
وكذلك قصة عتبة بن ربيعة، وسماعه سورة فصلت من النبي – صلى الله عليه وسلم – وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة.. ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج، فيما يقولون للناس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وما معه من القرآن، كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين حقيقة هذا الأمر، إنما كانوا يستكبرون عنه، ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله، وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم.
ومن ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ; كمـا يستغلـون الصـورة التـي كانـت معهــودة – فيهم وفيمن قبلهم – عن الصلة بين التنبؤ والجنون والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ; ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور! كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير، ويزعمون بأن الذي يقوله محمد, إنما يقوله عن جنة به ; وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول, لأنه مجنون! وإن كانوا يعلمون في سرائرهم بطلان هذه الدعوي.
ثانيا. لفظة “ما” في قوله عز وجل: )ما بصاحبهم من جنة( تعني: ليس بصاحبكم جنة، فهي نافية، و “ما” في اللغة العربية لها معان كثيرة، منها: أنها نافية عاملة عمل ليس، وهذا المعني هو المتحقق في الآية الكريمة: إذ المعنى: أولم يتدبروا أمر صاحبهم؛ لقد لبث فيهم أربعين سنة قبل هذا الوحي، وقبل هذه الرسالة، فكان فيهم الصادق المصدوق، وما حادثة تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر في حجر الكعبة منهم ببعيد.
وقيل: إن “ما” استفهامية، والاستفهام هنا إنكاري، وعلى ذلك يكون المعنى: ألم تتدبروا أو تتأملوا أمر صاحبكم، هل به جنة؟ وذلك تقرير من المولى – عز وجل – للمشركين، من باب المثل المعروف “الحق ما شهدت به الأعداء”.
وعلى هذا فليس لهذا الزعم أساس من الصحة: فما كان لله عز وجل أن يتهم خير البشر الذي امتلأ كتابه الكريم بالثناء عليه، ما كان له أن يصفه بالجنون، وهو القائل عنه: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، ولو شاع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الجنون لما آمن به أحد، وما اتبعه أحد؛ ولوجد أصحاب القرن الأول من المتصدين للدعوة في ذلك الأمر السلاح الأعظم لهدم بناء الإسلام من أساسه، وتقويض صرحه قبل أن يتم له الأمر.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله عز وجل: )أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184)( (الأعراف) مناسبة بين الفاصلة وما تقدمها؛ حيث استنكر الله – عز وجل – على الكافرين وصفهم للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنون، وهو – صلى الله عليه وسلم – ليس به جنة، ثم يأتي في الفاصلة، وينفي عنه – صلى الله عليه وسلم – كل شيء إلا كونه نذيرا مبينا، وقال عز وجل: نذير مبين، ولم يقل: بشير أو داع؛ لأن الكلام هنا في الآية مع الكافرين، فجاء الإنذار ولم يأت التبشير.
أما قوله: )ما بصاحبهم(، فالصاحب هو الذي يلازم غيره، وقد آثرها لما فيها من دلالة واضحة علي علمهم بحاله صلى الله عليه وسلم تمام العلم، فهم أدرى الناس بكمال عقله صلى الله عليه وسلم.
أما مجيء كلمة “مبين” وصفا للنذير، ففيه تعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه، وذلك يقطع عذرهم[3]، كما أن فيه ردا لدعوى المشركين، فوصفه بالمبين ينفي أن يكون به جنة كما يزعمون.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24694). وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (4400)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (297).
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج7، ص4492، 4493.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج5، ج9، ص197.
توهم اضطراب القرآن الكريم في الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم قد جانب الصواب في قوله عز وجل: )حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف( (يونس: ٢٢) **؛ حيث وقع الالتفات من الخطاب “كنتم” إلى الغيبة “بهم” قبل تمام المعنى، والصواب في ظنهم أن يستمر على الخطاب فيقال: “وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها”.
وجها إبطال الشبهة:
لقد زعم غير المتأمل لقوله تعالى: )حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف( أن في الآية اضطرابا؛ حيث انتقل الكلام فيها من ضمير المخاطبين في “كنتم” إلى ضمير الغائبين في “بهم” و “فرحوا” قبل تمام المعنى؛ مما يخالف في زعمهم أصول البلاغة والبيان، وهذا الزعم مردود من وجهين:
1) أن في العربية ما يسمى “فن الالتفات”، وهو التحول من حال خطاب إلى غيرها؛ كالتحول من الخطاب إلى الغيبة، أو من المخاطب المفرد إلى الجمع، وهكذا، وفي الآية الكريمة التفات، والالتفات فيها يؤدي وظيفة بلاغية لا تتأتى بدونه، وهي إظهار النعمة للمخاطبين، فالخطاب موجه للمسيرين في البحر.. مؤمنين وغير مؤمنين، فلما ذكر الله – عز وجل – حالة آل الأمر في آخرها إلى البغي بغير الحق؛ عدل الخطاب من المخاطب إلى الغائب؛ حتى لا يكون المؤمنون مخاطبين بصدور مثل هذه الحالة – التي آخرها البغي منهم – تكريما لهم، فجميع المخاطبين مشتركون في نعمة التسيير في البر والبحر، ولكن غير المؤمنين وحدهم هم الذين جحدوا النعمة، ونسوا فضل الله عليهم حينما جرت الفلك بهم، وأنجاهم الله عز وجل.
2) أن السـر في إيثــــار الالتفـات مـن الخطـاب إلى الغيبــة – أيضا – هو أن الغيبة تناسب الفعل جرين، فهم كانوا على الشاطئ والفلك ترسو إليه، وأخذ الناس يركبون، حتى إذا تكاملوا على ظهرها، وأبحرت آخذة في الجري غابوا عن الأنظار، فما عادوا حاضرين حتى يخاطبوا، ولكنهم غائبون، فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب.
التفصيل:
أولا. استخدام “فن الالتفات” أسلوب أصيل في اللغة العربية، وهو هنا يخدم المعنى المراد إيصاله من الآية الكريمة، وفي ذلك يقول الزمخشري: “ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر حالهم لغيرهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح”.
والمعنى: أن هؤلاء الذين تحدث الله عنهم في هذه الآية، أنعم الله عليهم بالسير في البر والبحر، وامتحنهم بالريح العاصفة، بعد أن أقلعت بهم الفلك وهي تمخر عباب الماء؛ فتوجهوا إلى الله يطلبون منه الإبحار معاهدين الله إذا أنجاهم أن يشكروه، ويعرفوا فضله، فلما أنجاهم نسوا ما وعدوا الله به، وعادوا إلى معصيته، كما قال ربنا عز وجل: )فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق( (يونس: ٢٣).
وكانت فائدة الالتفات عن خطابهم المباشر “كنتم في الفلك” إلى حكاية حالتهم العجيبة ثم إلى غيرهم؛ لكي يستثير سخطهم عليهم، فيقبحوا سوء صنيعهم مع الله[1]، وهذا الأسلوب غير مخالف للعربية الفصحى في شيء، قال ابن الأنباري: وجائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب، قال الله تعالى: )وسقاهم ربهم شرابا طهورا (21) إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا (22)( (الإنسان)، فأبدل الكاف من الهاء[2].
ثانيا. إن الحديث عنهم بضمير الغيبة يناسب الفعل “جرين”، فهم ليسوا حاضرين حتى يخاطبوا، ولكنهم غائبون؛ حيث أبحرت الفلك بهم في عباب البحر، وغابوا عن الأنظار؛ فجرى الحديث عنهم مجرى الحديث عن الغائب، بينما بدأ الحديث معهم بضمير المخاطب؛ لأنهم كانوا على الشاطئ لم تبحر بهم الفلك بعد.
يقول القرطبي: وقوله: “وجرين بهم” خروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو في القرآن وأشعار العرب كثير، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت [3] وطال عليها سالف الأمد[4]
الأسرار البلاغية في الآية:
قوله تعالى: )هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم( (يونس: ٢٢)، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار لعدم شكرهم النعمة[5]، ومن بديع هذ الأسلوب في الآية، أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء، وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى الغيبة؛ لأن الحديث يخص المشركين دون المؤمنين.
أما إسناد التسيير في قوله: )هو الذي يسيركم( فهو إسناد مجازي باعتبار سببه؛ لأنه – عز وجل – خالق التفكير وقوى الحركة، والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلال المشركين بواجب الشكر.
أما قوله: )حتى إذا(، فـ “حتى” هنا ابتدائية أعقبت بحرف المفاجأة وجوابه، فمجيء الريح العاصف هو غاية التسيير الهنيء المنعم به، حينئذ ينقلب التسيير كارثة ومصيبة، وفي هذا أشد التحذير لهؤلاء المشركين من الاغترار بنعمة الله عليهم.
قوله )أحيط بهم(، فيه استعارة تمثيلية[6] للهلاك؛ لأن الإحاطة تدل على الإحداق والتطويق، وهي بمعنى الهلاك.
أما الإشارة إلى الحالة التي يدعون الله للنجاة منها بـ “هذه” الدالة على القرب، فتدل على إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه مشاهد لهم.
أما قوله )إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق(، فقد بدأ جواب “فلما أنجاهم” بـ “إذا الفجائية”؛ للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة، وقد جعل البغي في الأرض للدلالة على تمكنهم في النجاة، وقوله: “بغير الحق” هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق[7].
وهكذا نلاحظ دقة ألفاظ القرآن، وبلاغة أساليبه، مما ينأى به عن أي توهم لوجود الخطأ فيه.
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
.www.ebnmaryam.com .www.quartos.org.lb .www.islameyat.com
[1]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م، ص134، 135 بتصرف يسير.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص324، 325.
[3]. أقوت: صارت قفرا خالية؛ أي: لا أنيس بها، ولا أهل فيها.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص325.
[5]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج7، ص57.
[6]. الاستعارة التمثيلية: تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص135: 139 بتصرف.
توهم اضطراب القرآن الكريم في صوغ المركب العددي وتمييزه
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم أخطأ في تمييز العدد في قوله عز وجل: )وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما( (الأعراف: ١٦٠)، ويرون أن الصواب تذكير العدد “اثنتي عشر”، وإفراد التمييز “أسباطا”؛ فيقال: “اثني عشر سبطا” بدلا من: “اثنتي عشرة أسباطا”**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في تمييز العدد المركب “اثني عشر” أن يأتي مفردا منصوبا موافقا لمعدوده في نوعه، لكن غير المتأمل في قوله عز وجل: )وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما( (الأعراف: ١٦٠)، يظن أن فيه مخالفة للقاعدة، حيث يتوهم اضطراب القرآن في تأنيث العدد وجمع المعدود، ويظن أن الصواب أن يقال: “اثني عشر سبطا”، ونرد على هذا بالآتي:
1) وجه بعض النحاة تأنيث العدد )اثنتي عشرة( في الآية، بأن السبط كالقبيلة، أو الجماعة، أو الفرقة، أو الطائفة، وكل هذه الأسماء مؤنثة؛ ولذلك أنث جزئي العدد المركب.
2) ومن التوجيهات القوية لتأنيث العدد )اثنتي عشرة(، أن تمييزه جمع تكسير، والتمييز إذا جمع جمع تكسير صار مؤنثا؛ لأنهم يقولون: كل جمع تكسير مؤنث.
3) وقيل: تأنيث العدد هنا نظرا إلي “أمما”، وليس إلى “أسباطا”.
4) وقيل: إن “أسباطا” ليس تمييزا للعدد المؤنث )اثنتي عشرة(، وإنما هو بدل من العدد نوعه “بدل كل من كل”، والتمييز هنا محذوف؛ أي: “اثنتي عشرة فرقة”؛ ولذلك جاء العدد مؤنثا؛ لأن تمييزه مؤنث.
5) وجه بعض النحاة جمع تمييز العدد في قوله تعالي: )اثنتي عشرة أسباطا أمما(، والذي كان حقه الإفراد، بأنه روعي فيه المعني دون اللفظ، وهذا كثير الورود في القرآن الكريم.
التفصيل:
أولا. وجه بعض النحاة تأنيث العدد في الآية الكريمة، بأن السبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب، يعني أنه أراد بالأسباط القبائل؛ ولذلك أنث جزئي العدد المركب )اثنتي عشرة(، وقيل: تأويل السبط: الجماعة، أو الفرقة، أو الطائفة[1]؛ لذلك تحتم تأنيث العدد المركب، ومثله قول الشاعر:
وإن قريشا كلها عشر أبطن
وأنت بريء من قبائلها العشر
فذهب بالبطن إلي القبيلة والفصيلة؛ فلذلك أنثها، والبطن مذكر[2].
ثانيا. يدل لفظ “اثنتي” علي التأنيث، و “عشرة” كذلك؛ لأننا نقول: جاءني رجلان اثنان، وامرأتان اثنتان، أي: اثنان للذكور، واثنتان للإناث، والعدد “اثنتي عشرة” عدد مركب مثل أحد عشر، وتمييزه يكون دائما مفردا؛ ولذلك يقول الحق: )أحد عشر كوكبا( (يوسف: ٤)، وقد أنث العدد “اثنتي عشرة” علي الرغم من أن المذكور هنا “سبط”، وهو مذكر، لكن المفرد المذكر إذا جمع صار مؤنثا؛ لأنهم يقولون: “كل جمع تكسير مؤنث”، هذا فضلا عن أن المراد بالأسباط: القبائل – على قول من قال بذلك – ومفردها قبيلة، وهي مؤنثة[3].
ثالثا. إن السبط في قوله تعالى: )اثنتي عشرة أسباطا أمما( مذكر، لكن بعده أمما، فذهب التأنيث إلى “أمما”، ولو قال: “اثني عشر” لتذكير “السبط”، جاز عند الفراء.
رابعا. إن “أسباطا” ليس تمييزا؛ لأنه جمع، وإنما هو بدل من )اثنتي عشرة(، ونوعه: بدل كل من كل، والتمييز محذوف، أي: “اثنتي عشرة فرقة”، ولو كان “أسباطا” تمييزا عن )اثنتي عشرة( لذكر العددان، ولقيل: “اثني عشر” بتذكيرهما؛ لأن السبط واحد مذكر من الأسباط، كما أنه لو كان تمييزا لكان مفردا. وقد جاء في قول عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية[4] الغراب الأسحم[5][6]
خامسا. وجه بعض النحاة جمع تمييز العدد في قوله تعالي: )اثنتي عشرة أسباطا أمما(، والذي كان حقه الإفراد، بأنه روعي فيه المعنى دون اللفظ، وهو كثير الورود في القرآن الكريم، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين في سلامة القرآن الكريم، يجهلون هذه الأساليب في القرآن الكريم خاصة، وفي اللغة العربية عامة، ويتشبثون بظواهر العبارات؛ حبا في ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
من خلال العرض السابق تبين لنا أن التمييز محذوف، ولهذا الحذف في الآية غرض بلاغي هو “الاستغناء عن التمييز المفهوم من السياق – قبيلة أو فرقة – وإثبات ما ليس مفهوما ولا معهودا للمخاطبين به، وهو الأسباط، فالعرب تعرف القبيلة، ولا تعرف السبط الذي هو مرادف لمعنى القبيلة عند اليهود. كما أن مجيء “أسباط” بصيغة الجمع ليناسب معنى التقطيع والفرقة”[7].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر.
www.saaid.net. www.Islameyat.com. www.answering.islaming.
[1]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص190.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص303.
[3]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج7، ص4392، 4393 بتصرف.
[4]. الخافية: جمع الخوافي، وهي الصغيرات من ريش جناح الطائر.
[5]. الأسحم: الأسود.
[6]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج3، ص476، 477.
[7]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، ج4، ص406.
توهم اضطراب القرآن الكريم في تذكير العدد وتأنيثه
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن الكريم اضطرب في تذكير العدد وتأنيثه، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )تلك عشرة كاملة( (البقرة:١٩٦) **، والصواب في ظنهم أن يقال: “تلك عشر كاملة”.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في العدد أن له أحكاما تختلف باختلاف حالاته؛ فالعدد المفرد (من ثلاثة إلى عشرة) يخالف معدوده في نوعه: التذكير أو التأنيث.
ومن يقرأ قوله عز وجل:)تلك عشرة كاملة( دون تأمل يظن أن فيه مخالفة لأحكام العدد، وليس الأمر كذلك؛ فقد خرج النحويون ذلك بما يلي:
أن العدد “عشرة” جاء مؤنثا؛ لأن تمييزه المحذوف مذكر وهو “أيام”، وليس في هذا مخالفة لقواعد النحو، وعليه فلفظة “كاملة” ليست تمييزا، وإنما هي نعت لعشرة، وأما تمييز “عشرة” فهو محذوف تقديره “أيام” دل عليه أول الآية.
التفصيل:
إن المتأمل في قوله عز وجل: )تلك عشرة كاملة( إن كانت له أدنى صلة بلغة العرب؛ يتبين له من أول وهلة أن الصورة التي جاء عليها العدد في الآية الكريمة هي الموافقة لقواعد النحو العربي، التي استخلصها النحاة من لغة العرب؛ إذ تقول هذه القواعد بوجوب مخالفة العدد “عشرة” المفرد لمعدوده في التذكير والتأنيث، وعلى هذا جاء العدد في هذه الآية الكريمة “مؤنثا”؛ لأن معدوده مذكر؛ إذ إن تقدير الكلام: تلك عشرة أيام كاملة، وقد حذف المعدود “أيام” لدلالة السياق عليه؛ حيث سبق ذكره في الكلام السابق في قوله تعالى: )فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم( هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ لدلالة المعنى عليه؛ حيث لا يصام إلا الأيام، وهذا من بليغ أساليب العرب في الكلام؛ إذ يحذفون من الكلام ما هو معلوم بالضرورة، ومن ثم فلا وجود لهذا الخطأ الذي توهمه بعضهم.
ولعل السبب في توهمهم هذا: أنهم ظنوا أن كلمة “كاملة” هي تمييز العدد “عشرة”، وهذا خطأ كبير منهم؛ لأن كلمة “كاملة” لو كانت تمييزا للعدد عشرة لكان ينبغي أن تأتي جمعا مضافا فتكون: “كاملات”، وليس مفردا مرفوعا: “كاملة”، فمجيئها مفردة مرفوعة؛ دل على أنها نعت لـ “عشرة”، وليس تمييزا لها كما توهموا، وعليه فتمييز “عشرة” هو كلمة “أيام” المحذوفة – كما سبق أن قلنا – وبهذا لا يوجد اضطراب في صوغ العدد في هذه الآية الكريمة، ولا في غيرها من آيات القرآن الكريم، الكتاب المعصوم الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
عبر بقوله عز وجل: )وأتموا(، ولم يعبر بـ “وأكملوا” لما في هذا الفعل من معنى دقيق؛ حيث إن التمام هو إكمال الشيء، والإتيان على بقايا ما بقي منه؛ حتى يستوعب جميعه، وهذا أنسب للحج والعمرة من ألفاظ أخرى مثل: “أدوا”، أو خلافها.
وفي قوله عز وجل: )الحج والعمرة لله( تخصيص للكلام، والسر في جعل الحج والعمرة )لله( دون ذكر ذلك في سائر العبادات؛ لتجديد النية، مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين كانوا يحجون إلى الأصنام التي كانت حول الكعبة.
أما مجيء الشرط بحرف “إن” في قوله: )فإن أحصرتم(؛ فلأن مضمون الشرط كريه لهم، فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة [1]، ويزيد هذا الجمال وضوحا، إذا تأملنا الشرط في قوله: )فإذا أمنتم( حيث جاء بـ “إذا” التي تفيد التحقيق؛ لأن فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف.
وقوله: )استيسر( فيه معنى دقيق؛ حيث جاء بصيغة “استفعل” للدلالة على حثهم على طلب الأيسر لهم، وعدم تكلفهم المشقة.
أما قوله “كاملة” بعد “عشرة”؛ فقد أفادت التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم، وأنه طريق كمال لصائمه، فالكمال هنا مستعمل في حقيقته ومجازه.
كما أن الوصف بها يدفع توهم أن “الواو” في قوله: )وسبعة إذا رجعتم( (البقرة:١٩٦) معنى “أو التخييرية”، وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، وأن يعلم بالسبعة العدد المعين لا الكثرة “إذ السبعة تستعمل في لغة العرب بمعنى: العدد المحدد، كما تستعمل أيضا لإفادة الكثرة دون تعيين”[2].
أما السر في ختم الآية بقوله: )واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)( (البقرة) فهو مناسبة الأمر بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو من مشقة؛ وذلك للتحذير من التهاون بها، أما قوله: )واعلموا( فقد افتتح به الكلام اهتماما بالخبر؛ لأن العلم يحصل من الخبر )أن الله شديد العقاب (196)(، ولكن أراد تحقيق الخبر؛ فافتتح الأمر بالعلم[3].
وبعد هذا العرض المختصر لبعض الأسرار البيانية في هذه الآية الكريمة، فإننا لم نكن نقصد بذلك استقصاء كل الأسرار بها؛ لأن هذا الكتاب الكريم لا يبلى جديده، ولا ينضب معينه، ولا تنتهي عجائبه، ولكننا فقط أردنا التمثيل على دقة ألفاظه وبلاغة تراكيبه، مما ينزهه عن الوقوع في أي خطأ لغوي قد يتوهمه المدعون نتيجة النظرة العجلى والحكم – غير المنصف – على كتاب الله الذي عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
(*). www.ebnmaryam.com
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج2، ص217 وما بعدها.
[2]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، ج2، ص83.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج2، ص225: 230.
توهم اضطراب القرآن في مجيئه باسم إن مرفوعا
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم أخطأ فرفع اسم “إن”، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )إن هذان لساحران( (طه: ٦٣) في قراءة من شدد نون “إن”**، والصواب في ظنهم أن يقال: “إن هذين لساحران”؛ لأن اسم إن حقه النصب.
وجه إبطال الشبهة:
القراءة القرآنية الصحيحة هي ما كانت متواترة وموافقة لرسم المصحف، وكانت على وجه من وجوه الإعراب، فإذا خالفت شرطين من هذه الثلاثة فليست صحيحة ولا معمول بها.
وبعض أصحاب الشبهات يزعمون أن في قوله عز وجل: )إن هذان لساحران( (طه: ٦٣) مخالفة للنحو وقواعده؛ فقد جاء اسم “إن” مرفوعا وكان حقه النصب، والصواب في زعمهم أن يقال: “إن هذين لساحران”.
وهذا الزعم باطل مردود إذا علمنا أن:
هذه الآية قد ورد فيها ست قراءات: منها الأكثر تواترا، ومنها ما يخالف رسم المصحف ويوافق الإعراب، ومنها ما يوافق رسم المصحف ويخالف الإعراب الظاهر المشهور، ومنها الذي يوافق كلا منهما، ولكن المتواتر منها ثلاث قراءات هي:
القراءة الأولى: “إن هذين لساحران” بتشديد نون “إن” ونصب “هذين”، وهذه لا شبهة فيها ولا إشكال حولها.
القراءة الثانية: “إن هذان لساحران” بتخفيف نون “إن” ورفع “هذان”، وهذه أيضا لا إشكال فيها؛ لأن “إن” هنا مخففة من الثقيلة، ولها توجيهان:
أحدهما: أنها بمعنى “ما” و “اللام” في “لساحران” بمعنى “إلا”، فيكون معنى الآية: “ما هذان إلا ساحران”.
الثانية: اسم “إن” المخففة ضمير الشأن محذوفا على المشهور.
القراءة الثالثة: “إن هذان لساحران” بتشديد “إن” ورفع “هذان”، وهذه القراءة هي التي فيها الإشكال، وللمفسرين فيها ستة توجيهات؛ أهمها: أن الآية على لغة بعض العرب ممن يجعلون علامة إعراب المثنى الألف رفعا ونصبا وجرا. ومنهم من جعل “إن” بمعنى: نعم. ومنهم من جعل اسم “إن” ضمير الشأن محذوفا، والجملة بعده خبر “إن”، والتقدير: “إنه هذان لساحران”.
التفصيل:
القراءات القرآنية أربع عشرة قراءة، منها أربع شواذ وعشر متواترة، فأما الشواذ فقد اعتبرها العلماء قراءات تفسيرية فقط ولا يجوز القراءة بها ولا العمل بمقتضاها، فلا تأثير لها على الأحكام.
وأما القراءات المتواترة فهي القراءات المعتبرة لدى العلماء ولكن لا يحكمون بصحتها إذا خالفت رسم المصحف، وعلى هذا فشروط القراءة المقبولة الصحيحة لدى العلماء هي:
التواتر.
موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا.
موافقة وجه من أوجه اللغة العربية[1].
ولقد وردت في هذه الآية ست قراءات: ثلاث منها شواذ؛ لمخالفتها رسم المصحف، وهذه لا إشكال حولها فلا تعويل عليها، وثلاث منها متواترة ونفصل القول فيها على النحو التالى:
القراءة الأولى: “إن هذين لساحران” بتشديد “إن” ونصب “هذين” [2] على أنه اسمها ورفع “لساحران” على أنه خبرها، وهذه القراءة لا إشكال حولها؛ لأنها موافقة للإعراب.
ولكن ما ينبغي التنبيه عليه هنا: أنه إذا وافقت قراءة من القراءات الصحاح المتواترة الإعراب الظاهر المشهور، فهذا لا يعني عدم قبول القراءات الأخرى الصحيحة المتواترة؛ فإنها موافقة وجوها أخرى في الإعراب قد تكون غير مشهورة، ولكنها صحيحة وواردة عن العرب؛ ولهذا نقول لأصحاب هذه الشبهة: إنهم علموا شيئا وغابت عنهم أشياء.
القراءة الثانية: “إن هذان لساحران” بتخفيف نون “إن” ورفع “هذان” [3]، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة للإعراب؛ لأن “إن” هنا بمعنى “ما”، و “اللام” في “لساحران” بمعنى “إلا”، فيكون معنى الآية: “ما هذان إلا ساحران”. وقيل: اسم “إن المخففة” ضمير شأن محذوف، وجملة “هذان لساحران” خبر “إن” في محل رفع، وبهذا فقد سلمت هذه القراءة من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، فلا إشكال حولها ولا شبهة فيها؛ إذ ليست للنصب، بل للنفي بمعنى: ما، وهذه قراءة ابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه، وبها قرأ الزهرى والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن.
يقول الشيخ الشعراوي: والقراءة التي نحن عليها قراءة حفص: )إن هذان لساحران(، و “إن شرطية” إن دخلت على الفعل، كما نقول: إن زارني زيد أكرمته، وتأتي نافية بمعنى: ما، كما في قوله عز وجل: )الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور (2)( (المجادلة).
فالمعنى: ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، كذلك في قوله: )إن هذان لساحران(، فالمعنى: “ما هذان إلا ساحران”، فتكون اللام في )لساحران( بمعنى: إلا، كأنك قلت: “ما هذان إلا ساحران”. وتأتي “اللام” بمعنى “إلا” إذا اختلفنا مثلا على شيء كل واحد منا يدعيه لنفسه، فيأتي الحكم يقول: لزيد أحق به، كأنه قال: ما هذا الشيء إلا لزيد؛ إذن “اللام” تأتي بمعنى: “إلا”[4].
وقد وردت احتمالات إعرابية خاصة بقراءة حفص وابن كثير لهذه الآية وهي:
أن تكون “إن” الساكنة النون مخففة من “إن المؤكدة”، و “اللام” الواقعة بعدها هي “اللام الفارقة” بين “إن المثبتة المؤكدة” و “إن النافية” المشبهة بليس. وعليه: تكون “إن” هنا مهملة، والجملة الواقعة بعدها مبتدأ وخبر.
أن تكون “إن” نافية و “اللام” الواقعة بمعنى: “إلا”، فيكون المعنى: “ما هذان إلا ساحران”، وعليه فإن “إن” نافية، وما بعدها مبتدأ وخبر.
أن يكون هناك ضمير مستتر، وهو اسم “إن”، والجملة بعده في محل رفع خبرها.
القراءة الثالثة: )إن هذان لساحران( بتشديد “إن”، ورفع “هذان”،[5] وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف مخالفة للظاهر المشهور من الإعراب، ومع هذا فهي عند العلماء قراءة صحيحة؛ لأنها موافقة لرسم المصحف ومتواترة عن أئمة القراء المعتبرين وهم المدنيون والكوفيون (نافع، عاصم، حمزة، الكسائى، أبو جعفر، خلف العاشر)، ومعلوم أن هؤلاء القراء – مع ما لهم من العلم الواسع في القراءة وعلوم القرآن – من أشهر أئمة النحو وعلمائه، ولهم مصنفات عظيمة في النحو وقواعده، فهم من الجهابذة الذين جمعوا بين القراءة والنحو… وهذه القراءة هي مثار الشبهة وموطن الإشكال؛ إذ كيف يأتي لفظ “هذان” مرفوعا مع أنه هنا اسم “إن” حسب ظاهر الآية؟! وكيف يحكم العلماء بصحة هذه القراءة لورودها عن الأئمة المعتبرين، ولموافقتها رسم المصحف؟!
وقبل أن نوضح هذا الإشكال ونزيل هذا التوهم، ينبغي أن يعلم هؤلاء أنهم مهما أوتوا من العلم، ومهما بلغوا من الدرجة فيه فلن يدركوا معشار ما كان لهؤلاء القراء من باع واسع في العلم، خاصة في النحو والقراءة.
كما يجب أن يدرك هؤلاء المشككون أن مثل هذه الأمور التي يثيرون حولها الأقاويل، إنما هي من المسائل اليسيرة في علم النحو التي لا تخفى على القاصي والداني، فضلا عن جهابذة هذا العلم ومؤسسيه، كما لم يكن العلماء والذين حكموا بصحة هذه القراءة بعد زمن القراء – ومعظمهم من الراسخين في علم النحو ومنظريه – ليغفلوا عن مثل هذا، حتى يأتي هؤلاء المدعون في آخر الزمان ويستدركوا عليهم مثل هذا.
أما عن التوجيه النحوي لهذه القراءة فلأهل اللغة في توجيهها آراء بلغت الستة نذكر أهمها وهو الذي يستوعبه الفهم العربي المعاصر وينسجم معه، فقد ذكر القرطبي في توجيه قراءة الجمهور – قراءة أهل المدينة والكوفة وهي: )إن هذان لساحران( – أن للعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال، ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الرد له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره؛ وهي:
القول الأول: أنها لغة بني الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد، فيجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، ومنه قوله عز وجل: )ولا أدراكم به( (يونس: ١٦). وأنشد الفراء لرجل من بني أسد، قال: وما رأيت أفصح منه:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى
مساغا لناباه الشجاع لصمما
ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه؛ بمعنى: يديه وعليه؛ قال شاعرهم:
تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال آخر:
طاروا علاهن فطر علاها [6]
أي: “عليهن” و “عليها”.
وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
أي: “إن أبا أبيها وغايتيها”.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى علمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري والكسائي والفراء.
القول الثاني: أن تكون “إن” بمعنى “نعم” [7]؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ “إن ” بمعنى “نعم”. وحكى سيبويه أن “إن” تأتي بمعنى “أجل”.
وقد سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول على منبره: “إن الحمد لله نحمده ونستعينه”، ثم يقول: “أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص”. قال أبو محمد الخفاف: قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو: “إن الحمد لله” بالنصب، إلا أن العرب تجعل “إن” في معنى “نعم”؛ كأنه أراد صلى الله عليه وسلم: نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بـ “نعم”. قال الشاعر:
قالوا: غدرت فقلت إن وربما
نال العلا وشفى الغليل الغادر
الشاهد: فقلت: “إن”، أي: فقلت: “نعم” أو “أجل”.
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
بكر العواذل في الصبو
ح يلمنني وألـومهـنه
ويقلـن شيب قــد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
الشاهد: فقلت: “إنه”، أي: فقلت: “نعم” أو “أجل”، و “الهاء” في البيت للسكت.
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: “إن هذان لساحران” بمعنى “نعم”، ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلب:
ليت شعري هل للمحب شفاء
من جوى حبهن إن اللقاء
والشاهد: “إن اللقاء”، أي: “نعم اللقاء”.
القول الثالث: قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون: “الهاء” ها هنا مضمرة، والمعنى: “إنه هذان لساحران”؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت “الهاء” التي هي منصوب “إن”، و “هذان” خبر “إن”، و “ساحران” يرفعها الضمير “هما ” المضمر، والتقدير: “إنه هذان لهما ساحران”، والأشبه عند أصحاب هذا الجواب: أن “الهاء” اسم “إن”، و “هذان” رفع بالابتداء، وما بعده خبر الابتداء[8].
ونكتفي بهذه التوجيهات النحوية الثلاث حول قراءة الجمهور – المدنيين والكوفيين – على أن هناك وجوها نحوية أخرى ذكرها الإمام القرطبي وغيره، لكن لا حاجة لذكرها ها هنا، فما قدمناه فيه الكفاية، وإنما يجدر بنا أن نضيف تعليق الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور على هذه القراءات؛ إذ يقول: “واعلم أن جميع القراء المعتبرين قرأوا بإثبات الألف في اسم الإشارة من قوله: “هذان”، ما عدا أبا عمرو من العشرة، وما عدا الحسن البصرى من الأربعة عشر، وذلك يوجب اليقين بأن إثبات الألف في لفظ “هذان” أكثر تواترا، بقطع النظر عن كيفية النطق بكلمة “إن” مشددة أو مخففة، وأن أكثر مشهوري القراء قرأوا بتشديد نون “إن”، ما عدا ابن كثير وحفص عن عاصم، فقد قرأا: “إن” – بسكون النون – على أنها مخففة من الثقيلة.
والمصحف الإمام ما رسموه إلا اتباعا لأشهر القراءات المسموعة المروية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقراء من أصحابه، فإن حفظ القرآن في صدور القراء أقدم من كتابته في المصاحف، وما كتب في أصول المصاحف إلا من حفظ الكاتبين، وما كتب المصحف الإمام إلا من مجموع محفوظ الحفاظ، وما كتبه كتاب الوحي في مدة نزول الوحي.
وهنا نتساءل: لماذا نزل القرآن بكل هذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال”؟
ويجيب على هذا السؤال الإمام الطاهر ابن عاشور؛ حيث يقول: “ونزول القرآن بهذه الوجوه الفصيحة في الاستعمال ضرب من ضروب إعجازه؛ لتجري تراكيبه على أفانين مختلفة متحدة المقصود”[9].
وقبل أن نختم حديثنا في درء هذه الشبهة وإزالة الإشكال حول هذه القراءة، يحسن بنا أن نشير إلى أن هناك ادعاء آخر يرتبط بهذه الآية، وإن كان قد سبق الرد عليه في الجزء الخاص بعصمة القرآن إلا أننا نوضحه هنا لتكتمل الفائدة، وهو: ادعاؤهم أن كتابة “إن هذان” – هكذا – خطأ من كاتب المصحف، وروايتهم ذلك عن أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه، وعن عروة بن الزبير عن عائشة، وليس فيها سند صحيح.
ويعقب الطاهر ابن عاشور على هذا الادعاء فيقول: “حسبوا أن المسلمين أخذوا قراءة القرآن من المصاحف وهذا تغفل؛ فإن المصحف ما كتب إلا بعد أن قرأ المسلمون القرآن نيفا وعشرين سنة في أقطار الإسلام، وما كتبت المصاحف إلا من حفظ الحفاظ، وما أخذ المسلمون القرآن إلا من أفواه حفاظه قبل أن تكتب المصاحف وبعد ذلك إلى اليوم، فلو كان في بعضها خطأ في الخط لما تبعه القراء، ولكان بمنزلة ما ترك من الألفات في كلمات كثيرة، وبمنزلة كتابة ألف الصلاة، والزكاة، والحياة، والربا بالواو في موضع الألف، وما قرأوها إلا بألفاتها”[10].
ولو كان هناك خطأ من الكاتب – كما يزعمون – لكان في كل المصاحف بخلاف ما اتفق عليه في كتابة مصحف عثمان وأبي بن كعب رضي الله عنهما.
ولو كان خطأ من جهة الخط المرسوم المكتوب، لم يكن ليمر على ألسنة الصحابة الفصحاء وأئمة التابعين البلغاء، وفي تناقل الصحابة ومن بعدهم، وذلك أعظم دليل على صحة المرسوم الموجود، ولا علاقة للكاتب في شيء من ذلك.
(*) رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م. عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
www.slamyat.com. www.ebnmarayam.com. www.answering.islam.org.
[1]. الأحرف السبعة وأصول القراءات، محمد محمود عبد الله، مطبعة الوراق، الأردن، ط1، 2003م، ص67.
[2]. هي قراءة أبي عمرو، انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، د. ت، ج2، ص321.
[3]. هي قراءة حفص وابن كثير، انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، د. ت ، ج2، ص321.
[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج15، ص9307.
[5]. قرأ بها جميع القراء ما عدا حفص وابن كثير، انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، د. ت، ج2، ص321.
[6]. شرح التسهيل، ابن مالك، تحقيق: عبد الرحمن السيد، محمد بدوي المختون، دار هجر، القاهرة، ط1، 1990م، ج1، ص62، 63.
[7]. شرح التسهيل، ابن مالك، تحقيق: عبد الرحمن السيد، محمد بدوي المختون، دار هجر، القاهرة، ط1، 1990م، ج2، ص33.
[8]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص219.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص251: 254.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص254.
توهم اضطراب القرآن الكريم في استخدام حروف الجر
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن هناك اضطرابا في استخدام حروف الجر في القرآن الكريم، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت( (البقرة: ٢٨٦)، وقوله )ولا تكسب كل نفس إلا عليها( (الأنعام: ١٦٤)، فتارة يستخدم الكسب مع “على “، وتارة مع “اللام”، وعليه فإن الكسب في الآية الأولى للنفس، وفي الثانية عليها، وهذا في ظنهم تناقض**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في حروف المعاني، ومنها حروف الجر، اختلاف معانيها لاختلاف دلالاتها، وقد يأتي بعضها بمعنى بعض فيحل محلها. وغير المتأمل في هاتين الآيتين قد يظن أن القرآن اضطرب في استخدام حرفي الجر “اللام” و “على” في الآيتين، ويمكن إبطال هذا التوهم من وجهين:
1) أن الفعل “كسب” يأتي في سياق الخير، وأما الفعل “اكتسب” فيأتي في سياق الشر، و “اللام” في “لها” تفيد الملكية والاختصاص؛ لأنها تكسب النفس ثوابا؛ ولهذا جاءت “لها” مع كسب، وجاءت “عليها” مع “اكتسبت” في آية البقرة.
2) أن الكسب أمر طبيعي لا يحتاج إلى جهد ومشقة، أما الاكتساب فيحتاج إلى جهد ومشقة؛ لأن “اكتسب” على وزن “افتعل”؛ أي: تكلف فعل الشيء، وكما هو معلوم؛ فالزيادة في المبنى تستتبع زيادة في المعنى، وهكذا كل أفعال الشر تأتي اكتسابا لا كسبا لما فيها من تكلف المشقة.
أما استخدام القرآن للفعل “كسب” مع أفعال الشر – في آية سورة الأنعام – فللدلالة على إلف العصاة للمعاصي وسهولة تحصيلهم لأسبابها واعتيادهم عليها.
التفصيل:
أولا. إن الفعل “كسب” يأتي في سياق الخير والثواب، والفعل “اكتسب” يأتي في سياق الشر، وحرف الجر “اللام” في “لها” يفيد الملكية والاختصاص، أما حرف الجر على في “عليها” فيفيد الوزر[1]؛ وعلى هذا جاء قوله تعالى: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت(. فعبر عن لفظ الحسنة “بكسب”؛ وذلك لاقتناء الحسنة ثوابها؛ لقوله تعالى: )من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها( (الأنعام: ١٦٠)، وجاء الفعل “اكتسبت” في السيئة تنفيرا منها وتهويلا وتشنيعا لارتكابها.
ثانيا. إن “الكسب” أمر طبيعي لا يحتاج إلى افتعال، أما “الاكتساب” فيحتاج إلى افتعال وتكلف وجهد؛ لأن “اكتسب” على وزن “افتعل” أي: تكلف فعل الشيء، وهكذا كل أفعال الشر تأتي اكتسابا لا كسبا، ومن هنا كانت أفعال الشر تحتاج إلى جهد ومشقة؛ ولهذا كان قوله تعالى: )ولا تكسب كل نفس إلا عليها( أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها؛ أي: على النفس، وهذا ما تؤكده بقية الآية: )ولا تزر وازرة وزر أخرى(؛ أي: لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يؤاخذ إنسان بجريرة غيره.
وهنا وقفة في الأسلوب؛ لأن صيغة الفعل “كسب” تعني أن هناك فرقا في المعالجة الفعلية بينه وبين صيغة الفعل “اكتسبت”؛ لأن “اكتسب” على وزن “افتعل”؛ أي: تكلف فعل الشيء، وقام بفعل أخذ منه علاجا، أما “كسب” فهو أمر طبيعي. إذن فـ “كسب” غير “اكتسب” وكل أفعال الخير تأتي كسبا لا اكتسابا[2].
وقد وضح سيبويه[3] هذا المعنى حين اعتبر أن “كسب” بمعنى: أصاب. وأما “اكتسب” فهو التصرف والطلب، والاجتهاد بمنزلة الاضطراب؛ ومن ثم فقد عدلت الآية في التعبير عن الشر إلى الاكتساب؛ للدلالة على التكلف والاجتهاد والاضطراب والتصرف؛ لأجل تحصيل المعصية، ويناسب ذلك ما في المعصية من مخالفة للأعراف والفطر السليمة؛ مما يدعو العاصي إلى الاحتيال فيها.
قال جماعة من العلماء: “افتعل” يدل على شدة الكلفة، وفعل السيئة شديد، لما يؤول إليه. وقال الزمخشري: “فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال؛ أي: تكلف، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه، وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد؛ فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال، وهو “كسب”.
وجاءت العبارة في الحسنات بـ “لها” من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه، ويسر بها، فتضاف إلى ملكه، وجاءت في السيئات بـ “عليها” من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة. وهذا كما تقول: لي مال، وعلي دين، وكما قال المتصدق باللقطة: “اللهم عن فلان، فإن أبى فلي وعلي”.
ويمكن التوفيق بين ما ذكر بحمل الفعل المجرد “كسب” في حق العاصي على معنى إلفه لارتكاب تلك المعاصي، فلم يعد يتكلفها أو يجد مشقة أو عنتا في مواقعتها أو تحصيل أسبابها، وهذا هو سر استخدام القرآن للفعل “كسب” في حق العصاة، في آية سورة الأنعام: )ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤).
أما “اكتسب” فلم تأت في القرآن الكريم بمعنى كسب الحسنات؛ ومن ثم لم يرد في القرآن تعبير عن كسب الطاعة إلا بصيغة “فعل”، أما في المعصية فقد عبر: “بفعل” و “افتعل”؛ ليشمل كل معصية سواء ما كان باعتمال وتكلف، واجتهاد ومبالغة، أم ما كان بلا مبالاة ولا تكلف.
ويؤيد ذلك ورود الفعل “كسب” المجرد؛ فأغلبه يأتي في وصف الكافرين أو الفاسقين الذين تجرءوا على المعصية فصاروا لا يبالون بها. أما الفعل “اكتسب” فلم يأت في القرآن إلا في أربعة مواضع: اثنان منها في آية واحدة يتحدثان عن اكتساب المال، وهما: قوله تعالى: )للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن( (النساء: ٣٢).
وواضح أن اختيار صيغة “افتعل” في هذا الموضع مناسب لاكتساب المال، وما يلزم له من تصرف واجتهاد وكلفة.
أما الموضعان الآخران: فهما آية البقرة: )لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت(، والحديث فيها في حق من يفترض فيه امتثاله للشرع، واستجابته لتكليفه؛ بدليل ما قبلها )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦) فهي في حق المؤمن بهذا التكليف؛ حيث لا يقدم على المعصية إلا بتكلف ومراودة لنفسه التي تتأبى على العصيان، ولا يحملها عليه إلا غلبة الشهوة والهوى؛ فكأن نفس المؤمن لا تقدم على المعصية إلا بنوع تردد وتكلف، بخلاف نفس الكافر والفاجر الذي جرؤ على المعاصي[4].
وأما الموضع الأخير فهو قوله تعالى في جزاء من خاض في عرض عائشة رضي الله عنها: )لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم( (النور: ١١)، وهؤلاء الذين خاضوا في عرضها ليسوا كفارا؛ بل هم من المسلمين بدلالة قوله تعالى: )إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم( (النور: ١١). وإن كان الذي تولى كبره منافقا، فإنه مسلم في الظاهر كذلك، والخطاب إنما يراعى فيه الأغلب وهم جماعة المؤمنين، ومن ثم جاء التعبير عن اكتساب المعصية هنا بصيغة: “افتعل”؛ مناسبة لحال هؤلاء المسلمين الذين ضعف إيمانهم وزلت ألسنتهم، فخاضوا مع ذلك المنافق في عرض أم المؤمنين؛ فهم لم يقدموا على تلك القولة الشنيعة مع ما عندهم من إسلام وتعظيم لبيت النبوة إلا بقدر كبير من التكلف والاعتمال. أما ذلك المنافق فقد أقدم عليها بملء فيه ملتويا في قيلها متصرفا فيها، مبالغا فيها أشد المبالغة، ومن ثم فقد ناسب صيغة “افتعل” بدلالتها على التكلف والاعتمال والمبالغة والاجتهاد حال الفريقين من المسلمين والمنافقين الخائضين في عرض أم المؤمنين أتم المناسبة[5].
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/1981م.
(**) يقول صاحب “صفوة التفاسير” في تفسير قوله تعالى: ) لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (: أي لكل نفس جزاء ما قدمت من خير، وجزاء ما اقترفت من شر. وفي معنى الآية الثانية: ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها (: أي لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها.
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص1244.
[2]. الخصائص، ابن جني، تحقيق: محمد علي النجار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2006م، ج3، ص264: 269.
[3]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص130، 131.
[4]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص132.
[5]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص132.
توهم أن القرآن الكريم أتى بالجمع مكان المثنى
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم قد خالف الصواب؛ حيث أضاف الجمع إلى ضمير المثنى في قوله عز وجل: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما( (التحريم: ٤)، فقد جاء المضاف جمعا، والمضاف إليه مثنى، والصواب في ظنهم أن يقال: “صغى قلباكما”؛ إذ ليس للاثنين أكثر من قلبين**.
وجه إبطال الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة في استخدامه الجمع بدلا من المثنى عند الإضافة في قوله تعالى: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما( (التحريم: ٤)، وكان الصواب في ظنهم أن يقال: “فقد صغا قلباكما”؛ لأن المخاطب في الآية اثنتان من زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – هما حفصة وعائشة.
وهذا التوهم مردود بما يأتي:
ذكر أهل اللغة أن كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى آخر فمستحسن أن يجعل المضاف جمعا لأنه أخف؛ لأن العرب كانوا يستثقلون اجتماع تثنيتين في كلمة واحدة، فيعدلون عن التثنية إلى الجمع؛ لأن أول الجمع عندهم الاثنان. لذا ساغ مجيء “قلوبكما” جمعا؛ لأنها أضيفت إلى مثنى وهو ضميرهما، بل إن الجمع في مثل هذا أكثر استعمالا بخلاف العدول من التثنية إلى المفرد؛ فإنه لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر؛ وعليه فالجمع هو الوحيد الذي يخرج بنا من كراهية اجتماع تثنيتين.
التفصيل:
قال الله عز وجل: )فقد صغت قلوبكما( ولم يقل: “فقد صغى قلباكما”؛ لأن من شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل، وقيل: كل ما ثبتت الإضافة فيه مع التثنية فلفظ الجمع أليق به؛ لأنه أمكن وأخف.
ونجد أيضا أن قوله: )فقد صغت قلوبكما( ليس جزاء للشرط؛ لأن هذا الصغو كان سابقا، فجواب الشرط محذوف للعلم به، أي: وإن تتوبا خيرا لكما؛ إذ قد صغت قلوبكما[1]، وهناك قاعدة تقول: كل ما في الجسد، ومنه واحد؛ كالرأس، والأنف، والظهر، والبطن، والقلب إذا أريد ضمه إلى مثله ففيه ثلاثة أوجه:
الأول: أن يجمع اللفظ مضافا إلى ضمير المثنى؛ فيقال مثلا قلوبكما، ورؤوسكما، وهذا هو القياس عند جمهور النحاة، وهذا ما جاءت عليه الآية الكريمة. وحكي عن العرب: وضعا رحالهما، ويراد به: رحلاهما. قال الخليل والفراء: كل شيء يوجد من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع. تقول: هشمت رؤوسهما وأشبعت بطونهما[2].
الثاني: أن يثنى اللفظ ثم يضاف إليه ضمير المثنى؛ فيقال مثلا: قلباكما، وظهراهما، فؤادهما، قال الشاعر:
بما في فؤادينا من الهم والنوى.
وهذا هو الأصل أن يعبر بالمثنى عن المثنى، ولكنهم كرهوا اجتماع تثنيتين، فعدلوا إلى الجمع.
الثالث: أن يؤتى باللفظ مفردا لم يضف إليه ضمير التثنية؛ فيقال مثلا: بطنهما وقلبهما[3].
وإذا كانت صيغة الجمع في “قلوب” مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين، فإن صيغة التثنية ثقيلة؛ لقلة دورانها في الكلام، فلما أمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.
وأوجه ما قيل في تخريج الآية هو كلام الخليل والفراء المتقدم، فالقلوب جزء من أصحابها؛ لذا جمعت عند إضافتها لضمير المثنى، وقد جمع الشاعر بين لغتي التثنية والجمع في قوله: ـ
ومهمهين قذفين مرتين
ظهراهما مثل ظهور الترسين
وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى؛ لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران[4].
ونجد أن الجمع في “قلوبكما” دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد، وهي في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد[5].
ونجد أن خطاب التثنية عائد إلى المنبئة والمنبأة، فأما المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله إلى بعض أزواجه، وأما المنبأة فمعادها ضمني؛ لأن فعل “نبأت” يقتضيه، فأما المنبئة فأمرها بالتوبة ظاهر، وأما المذاع إليها؛ فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر، ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك، فهاتان موعظتان لمذيع السر ومشاركة المذاع إليه في ذلك، وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعت عنه ضرتها.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
القرآن ملئ بلمحات الإعجاز ولمسات البيان، ومن هذا ما نطالعه في قوله تعالى: )إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما(؛ حيث إن في الآية التفاتا من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما، فهو استئناف خطاب وجهه الله إلى حفصة وعائشة؛ لأن إنباء النبي – صلى الله عليه وسلم – بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير، والإرشاد إلى رأب ما انثلم من واجبها نحو زوجها.
فقوله عز وجل: )إن تتوبا إلى الله( الخطاب لحفصة وعائشة – رضي الله عنهما -، خاطبهما بطريق الالتفات؛ ليكون أبلغ في معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدا منهما من الإيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إن تتوبا كان خيرا لكما من التعاون على النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإيذاء[6].
في قوله: )فإن الله هو مولاه( ضمير الفصل في قوله )هو مولاه( يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي: إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما.
قوله تعالى: )وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4)( (التحريم) الكلام مسوق للمبالغة، وإلا فكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا[7].
في الجمع بين قوله عز وجل: )وأظهره الله عليه( (التحريم: ٣)، وبين قوله عز وجل: )وإن تظاهرا عليه(، وبين قوله تعالى: )ظهير( جناس ناقص، وهو محسن بديعي له جرس داخلي في تضاعيف الكلام”[8].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
www.Islamyat.com. www.quavtos.org.lb.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج18، ص188.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص174، 173.
[3]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص356، 357. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص174.
[5]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص356: 358.
[7]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1572، 1573.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص359 بتصرف.
توهم أن القرآن الكريم أخطأ فجزم الفعل المعطوف على منصوب
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن القرآن الكريم جانب الصواب في عدم المطابقة بين المعطوف والمعطوف عليه في الحالة الإعرابية؛ حيث جزم الفعل المعطوف على المنصوب، ويستدلون بقوله عز وجل: )فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10)( (المنافقون)، ويتساءلون: كيف يجزم الفعل “أكن” وهو معطوف على الفعل المنصوب؟! والأولى في ظنهم أن يقال: “وأكون”؛ لأن الفعل معطوف على منصوب. **
وجها إبطال الشبهة:
بعد الاطلاع على مزاعم المفترين حيال هذه الآية الكريمة، يتبين لنا بطلان زعمهم، من وجهين:
1) لجزم الفعل “أكن” في اللغة تأويلان:
أنه معطوف على محل “فأصدق” فكأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن.
أنه لم يسبق بفاء السببية – التي تعمل النصب في الفعل المضارع، بل هو جواب للطلب مباشرة.
2) إيثار التمني في الآية على الشرط الصريح من أوجه الإعجاز القرآني البلاغي، وهذا يتفق وحالة قائلها ساعة موته، إذ يتمنى أن يؤخر أجله؛ ليتصدق ويكون من الصالحين، فهو إذن من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي؛ ولذا جزم الفعل “أكن” ولم ينصب.
التفصيل:
أولا. لجزم الفعل “أكن” في اللغة تأويلان:
جزم الفعل “أكن”؛ لأنه معطوف على محل “فأصدق”، فكأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن، وذلك لأن “الفاء” في “فأصدق” عاطفة، و “أكن” فعل مضارع مجزوم بالعطف على محل “فأصدق”[1].
وأنشد سيبويه في الحمل على الموضع أبياتا كثيرة؛ منها:
معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب “الحديد” عطفا على محل خبر ليس المنصوب “الجبال”؛ إذ “الباء” في قوله: “بالجبال” للتأكيد، وليست لمعنى مستقل؛ إذ يجوز حذفها[2]. وكذلك جزم الفعل “أكن” في الآية بالعطف على محل “فأصدق”.
جزم الفعل “أكن” على اعتباره جوابا للشرط مباشرة؛ لعدم وجود “فاء السببية” فيه، واعتبار “الواو” عاطفة جملة على جملة، وليست عاطفة مفردا على مفرد؛ وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب، فيغني الجزم عن فعل الشرط، فتقديره: إن تؤخرني إلى أجل قريب؛ أكن من الصالحين، جمعا بين التسبب المفاد بـ “الفاء”، والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل، وإذا كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الواقع أحدهما بعد “فاء السببية”، والآخر بعد “الواو العاطفة” عليه، فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين، وذلك يرجع إلى محسن الاحتباك، فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكون من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين[3].
ثانيا. إيثار التمني على الشرط الصريح في الآية من أوجه الإعجاز القرآني البلاغي، ومسوغ عبارة التمني تفضيل “لولا أخرتني” على الشرط الصريح “إن أخرتني”، ذلك أن قائل هذه العبارة – ساعة قولها عند حضور الموت – تملكه اليأس من التأخير، والتمني – كما نعلم – يستعمل في طلب المحال أو المتعذر، أما الشرط فيستعمل في الأمر الذي لا استحالة فيه ولا تعذر، فهو إذن من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي، وقرينة إرادة الشرط من عبارة التمني هو جزم الفعل “أكن”.
وأفاد التعبير بالتمني معنى زائدا وهو: أن من حضرته الوفاة، وهو مقصر في طاعة الله تدفعه شدة الحاجة التي نزلت به إلى طمع من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع، وعليه فالعبارة القرآنية غاية في الاستقامة، وبعيدة كل البعد عن الخطأ، أو الخلل، وقد أدت المعنى في صحة لغوية وبلاغية عالية، وليس الأمر كما زعم هؤلاء.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في الآية الكريمة “احتباك”؛ فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب، فأصدق وأكون من الصالحين، إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين.
ومن الفوائد البلاغية التي يحققها الاحتباك في الكلام:
إحكام النظم وتحقيق فضيلة الإيجاز بحذف فضول الكلام وما يمكن الاستغناء عنه، مع قلة الألفاظ، وكثرة المعاني التي تدل عليها، وهذه غاية البلاغة المتمثلة في استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ في التعبير عن أكثر ما يمكن من المعاني.
تنبيه المتلقي إلى البحث عن المحذوف: فيجعله يتجاوب مع ما يقرأ، فترسخ المعلومة في نفسه، ويقل نسيانه، وهذا مطلب من مطالب الحذف في القرآن الكريم.
تهذيب العبارة وصيانة الكلام من الثقل والترهل: فالمعنى الذي يدركه الفهم إدراكا قويا بوجود قرينة تمنع اللبس مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون في ذكرها – أي هذه الألفاظ – فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.
ونتساءل: لماذا استعمل القرآن عبارة التمني )لولا أخرتني(، ولم يستعمل الشرط الصريح “إن أخرتني”؟!
والجواب: لأن قائل هذه العبارة يقولها ساعة يأس – ساعة الموت -، والتمني يستعمل في طلب المستحيل، والشرط يستعمل في الأمور التي لا استحالة فيها ولا تعذر. فهو من تبادل الصيغ، وإحلال بعضها محل بعض لداع بلاغي، وسر بلاغته أن من حضرته الوفاة وهو مقصر في طاعة الله؛ تدفعه شدة الحاجة التي نزلت به إلى طمع من نوع ما، مما هو مستحيل أو متعذر الوقوع.
ومما تقدم يظهر لنا استقامة العبارة القرآنية وبعدها عن أي خلل، ووفاؤها بالمعنى المراد نحويا وبيانيا؛ مما يكذب وقوع أي خطأ في هذا الكتاب المعجز، فليس عيبا في الشمس ألا يراها الضرير[4].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م . رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م.
www.islamyat.com. www.ebnmarayam.com.www.answering.islam.org.
[1]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج10، ص103.
[2]. انظر: الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، باب الإضمار في ليس وكان.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج13، ص254.
[4]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص202.
توهم أن القرآن الكريم اضطرب فرفع المعطوف على المنصوب
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة؛ فعطف المرفوع على المنصوب في قوله عز وجل: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)( (المائدة)، فكلمة “الصابئون” مرفوعة وهي معطوفة على “الذين” اسم “إن”، وهو اسم موصول مبني في محل نصب، والصواب في زعمهم أن يقال: و”الصابئين”؛ كما ورد في سورتي البقرة والحج**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في المعطوف أن يوافق المعطوف عليه في إعرابه، لكن الناظر في قوله تعالى: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)( (المائدة) يتوهم مخالفة القرآن للصواب بعطفه المرفوع على المنصوب؛ وذلك في رفع كلمة “الصابئون” المعطوفة على اسم إن المنصوب، وكان الأولى في زعمهم أن تنصب، ويمكن الرد على ذلك بما يلي:
1) أن “الصابئون” مرفوعة بالابتداء وخبرها محذوف تقديره: كذلك، والجملة معطوفة – مع نية التأخير – على موضع جملة إن واسمها وخبرها؛ كأنه قيل: إن الذين آمنوا، والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك.
وقيل: جاز الرفع في )والصابئون( لأن “إن” هنا بمعنى: نعم، وعليه فـ “الصابئون” مرفوعة بالابتداء، وحذف الخبر؛ لدلالة الثاني عليه.
2) أن السر في إيثار لفظة “الصابئون” بالرفع دون ما قبلها وما بعدها، هو الإشعار بمخالفة “الصابئون” لكل المذكورين معها.
3) أن “الواو” عاطفة، و “الصابئون” معطوف على موضع اسم “إن” قبل دخولها على الجملة؛ لأنه قبل دخول إن كان في هذا الموضع موضع رفع، ومن ثم فلا وجود للخطأ اللغوي في الآية الكريمة.
التفصيل:
أولا. ذهب سيبويه وجمهور المفسرين إلى أن “الصابئون” مرفوعة بالابتداء وخبرها محذوف[1]؛ فالرفع في هذه الآية محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك، واستشهد سيبويه بنظير هذا الحذف في قول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم
بغاة [2] ما بقينا في شقاق [3]
وقال ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار [4] بها لغريب
وقيل: إن خبر “إن” محذوف، أي: مأجورون أو آمنون أو فرحون، والصابئون مبتدأ وما بعدها خبر[5].
وقيل: “إن” بمعنى: “نعم”، وعليه فـ “الصابئون” مرفوع بالابتداء، وحذف الخبر لدلالة الثاني عليه، فالعطف يكون على هذا التقدير بعد تمام الكلام وانقضاء الاسم والخبر؛ كقول قيس الرقيات[6]:
بكر العواذل في الصبا
ح يلمنني وألومهنه
ويقلن: شيب قد علا
ك، وقد كبرت فقلت: إنه
قال الأخفش: “إنه” بمعنى: نعم، وهذه “الهاء” أدخلت للسكت[7].
ثانيا. إن من بلاغة القرآن في هذا الموضع أنه هنا آثر رفع لفظة “الصابئون”، مع جواز الأمرين: النصب اتباعا على العطف، أو الرفع قطعا دون ما قبلها وما بعدها؛ إشعارا بمخالفة “الصابئون” لكل المذكورين معها.
وهذا من أساليب استعمال العرب في العطف، وإن كان استعمالا غير شائع لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان؛ وذلك أن من الشائع في الكلام أنهم إذا أتوا بكلام مؤكد بحرف “إن”، وأتوا باسم “إن” وخبرها، وأرادوا أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب في ذلك الحكم، جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا؛ ليدلوا بذلك على أنهم أرادوا عطف الجمل، لا عطف المفردات، فيقدر السامع خبرا بحسب سياق الكلام، ومن ذلك قوله تعالى: )أن الله بريء من المشركين ورسوله( (التوبة: ٣)؛ أي: ورسوله كذلك، وكذلك المعطوف هنا فلما كان الصابئون أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام – لأنهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا – كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك[8].
لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلا بعد أن تستوفي “إن” خبرها، فالغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرا، فأما تقديمه – كما في هذه الآية – فقد يتوهم أنه ينافي المقصد الذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضى حالين، وهما الدلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم، والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر؛ ذلك أن الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم، أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود، فنبه الكل على أن عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التقديم مع الرفع، ولو لم يقدم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم “إن”، فلم يكن عطفه عطف جملة[9]، وإذن فهذه المخالفة في الآية الكريمة ملمح بلاغي وليس خطأ كما توهم بعضهم.
ثالثا. ذهب الكسائي والفراء إلى أن “الواو” هنا عاطفة، و “الصابئون” معطوف على موضع اسم “إن”؛ لأنه قبل دخول “إن” كان في موضع رفع، ومن هنا جاز رفعها[10]، ويؤكد هذا أن اسم “إن” هنا “الذين” لا يتبين فيه الإعراب، فجرى الأمران على جهة واحدة، فجاز رفع “الصابئون” رجوعا إلى أصل الكلام[11].
وهكذا يتبين لنا أن القرآن الكريم كتاب منزه عن أي خطأ لغوي أو غيره.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
إن الحكمة من تقديم “الصابئين” هنا على “النصارى”، بالرغم من تقديم “النصارى” عليهم في آية البقرة، أن الترتيب في آية البقرة قد روعي فيه ترتيب نزول الكتب السماوية، ومن ثم قدم “اليهود” على “النصارى”؛ لأن نزول التوراة سابق على نزول الإنجيل؛ ولهذا أيضا أخر ذكر “الصابئين” – الذين لا كتاب لهم – عن الطائفتين، أما الترتيب في آية المائدة، فهو بحسب ترتيب الأزمنة، ومن ثم قدم “الصابئون” على “النصارى” في تلك الآية؛ لأنهم وإن تأخروا عن “النصارى” في كونهم لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم زمانا؛ لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام.
وبالإضافة إلى هذا فهناك ملمح بلاغي آخر في تقديم “الصابئين” على “النصارى”، هو الإشعار بأن التقدم أو الفوز بالنعيم الأخروي ليس حكرا على طائفة دون أخرى، بل هو لكل من صحت عقيدته، وصلح عمله في الدنيا، تقدم زمانه أو تأخر، كتابيا كان أم غير كتابي[12].
أما تقديم ذكر “الذين آمنوا” في طالعة المعدودين، فهو تنويه بالمسلمين في هذه المناسبة؛ لأن المسلمين هم المثال الصالح في كمال الإيمان والتحرز من الغرور، لم تتسرب مسارب الشرك إلى عقائدهم، فكانوا هم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح؛ الأولون في هذا الفضل.
وقد يتساءل أحدهم: وما السر في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: )من آمن بالله واليوم الآخر( (البقرة: ٦٢)، إذ المؤمنون من جملة المذكورين؟ وهل الإيمان إلا بالله واليوم الآخر؟ والجواب على ذلك: أنه تعالى يريد بمن آمن: من دام على إيمانه ولم يرتد[13].
وأما قوله تعالى: )من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا( بدون ذكر “من آمن منهم”. التي ذكرت في آية البقرة – فإيماء إلى أن الوعد المذكور في الآيتين ليس مقصورا على من آمن وعمل صالحا من تلك الطوائف فحسب، بل هو وعد عام لكل مؤمن صالح في أي زمان أو مكان[14].
وجاء “العمل الصالح” بعد “الإيمان” في الآية الكريمة؛ لأن الإيمان إذا لم يقترن بعمل صالح، يكون عرضة للسلب، ولا فائدة فيه، والله سبحانه يريد أن يسيطر الإيمان على حركة الحياة بالعمل الصالح[15].
عطف سبحانه )ولا هم يحزنون( على )فلا خوف(؛ لأن الخوف هو الذعر ولا يكون إلا من المستقبل، أما الحزن فهو ضد السرور، ولا يكون إلا على ماض، والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا[16].
وهكذا نلاحظ دقة ألفاظ القرآن الكريم ومناسبتها للمعنى، فكيف لهذا النظم المعجز أن يحتوي على خطأ من أي نوع؟!
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. www.saiid.net. www.answering.islam.orgwww.islameyat.com.
[1]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ط1، ص151.
[2]. البغاة: جمع باغ، وهو الساعي بالفساد.
[3]. الشقاق: الخلاف.
[4]. قيار: اسم فرس.
[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص246.
[6]. الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، ج3، ص151.
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص247.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج6، ص270، 271 بتصرف.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص271.
[10]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص527.
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص246.
[12]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص153.
[13]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج6، ص268، 269 بتصرف يسير.
[14]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص153.
[15]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج6، ص3298.
[16]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص229.
توهم أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة فنصب المعطوف على مرفوع
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء( (البقرة: ١٧٧)،مخالفة لقواعد اللغة؛ حيث جاء المعطوف “الصابرين” منصوبا، مع أن المعطوف عليه “الموفون” مرفوع، والصواب في زعمهم أن يقال: “والصابرون” بالرفع عطفا على ما قبلها**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في المعطوف أن يتبع المعطوف عليه في الإعراب، ولكن جاء النظم المعجز على خلاف هذا الظاهر، والمتأمل لكلام ربنا جل وعلا في قوله: )والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين( يجد كلمة “الصابرين” منصوبة، وكان الظاهر أن تكون مرفوعة عطفا على ما قبلها، وللنحاة والمفسرين أقوال في توجيه ذلك، ومنها:
1) أن الظاهر من سياق الكلام أن تكون كلمة “الصابرين” مرفوعة؛ لأنها معطوفة على مرفوع، ولكنها قطعت عن العطف، ونصبت على المدح بفعل محذوف تقديره “أمدح” إشعارا بفضل الصبر، وتنويها بذلك الفضل.
2) أن المخالفة الظاهرة في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد، وهذا أسلوب جار على سنن العربية وطريقة أهلها في الكلام.
التفصيل:
أولا. جاءت كلمة “الصابرين” منصوبة على الاختصاص بالمدح؛ إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال، على سائر الأعمال.
فإن قال قائل: إذا كان السياق القرآني جاء بـ )والموفون بعهدهم( مرفوعة، فلماذا جاء “بالصابرين” منصوبة؟ وماذا يعني اختلاف الإعراب؟ قلنا: إن الأذن العربية اعتادت على النطق السليم الفصيح، فإذا كان الكلام على خلاف قواعد الإعراب، فإن الإعراب لم يختلف إلا لينبهنا إلى أن شيئا يجب أن يفهم.
ومن ثم فكسر الإعراب هنا غرضه تنبيه الآذان إلى أن شيئا جديدا استحق أن يخالف عنده الإعراب؛ لأن الصبر مطية كل هذه الأفعال.
فالذي يستطيع الصبر على نفسه بإقامة الصلاة، وإيتاء المال على حبه، هو الذي فاز وظفر، إذن كل ذلك امتحان للصبر، ومن هنا خص الله “الصابرين” – بما لهم من فضل – بإعراب مخالف حتى نفهم أنه منصوب على المدح، أو على الاختصاص[1][2].
وجاء في تفسير القرطبي أن “الموفون” رفع عطفا على من؛ لأن من في موضع جمع ومحل رفع؛ كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش:و”الصابرين” نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم؛ كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه[3].
فأما المدح فقوله تعالى: )والمقيمين الصلاة( (النساء: ١٦٢)، وأنشد الكسائي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم
إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنــوا أحـدا
والقائلون لـمن دار نخليها
وأنشد أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر[4]
النازلين بكل معتــرك
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر: نحن بني ضبة أصحاب الجمل.
فنصب على المدح كما نصبت العرب على الذم، كما في قوله تعالى: )ملعونين أينما ثقفوا( (الأحزاب: ٦١)، وقال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني
عداة الله من كذب وزور
وهذا مهيع[5] واضح في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب[6].
ثانيا. المخالفة الإعرابية في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد، وهذا أسلوب جار على سنن العربية وطريقة أهلها في الكلام، وبيانه أن العرب تعترض من صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فيرفعون إذا كان الاسم رفعا، وينصبون بعضها على المدح، فكأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدد غير متبع لأول الكلام، ومن ذلك ما ذكرناه، وأنشده أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر
فالمخالفة الإعرابية بمجردها هي التي أوحت بإفراد هذه الصفات بمدح مجدد، فعدل بـ “الصابرين” عن نسقه نصبا على المدح أو الاختصاص؛ تنبيها على فضيلة الصبر في الشدائد ومواضع القتال، وإظهارا لمزيته في سائر الأعمال.
والمخالفة الإعرابية – كذلك – في مثل هذا المقام أبلغ من جريان الكلام على نمط واحد؛ يقول أبو علي الفارسي: “إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أوالذم، فالأحسن أن يخالف في إعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها؛ لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل؛ لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا، وجملة واحدة.
ذلك لأن الموصوف عند تغير سبكه يصير جملة برأسه مما يوحي بتفخيم مقامه، بالإضافة إلى الافتنان في التعبير، وما يشي به تغيير المألوف من دلالة على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه.
ومن هنا يتبين أن دعوى تخطئة نصب “الصابرين” ووجوب رفعه على العطف دعوى لا يصح قبولها؛ لأن الأسلوب ليس عطفا، وإنما هو أسلوب قطع للمدح أو الاختصاص، والتقدير: أمدح الصابرين، أو أخص الصابرين بالمدح، وعليه فكلمة “الصابرين” مفعول به لفعل محذوف تقديره: أمدح أو أخص، وهو ما يسمى “النصب على المدح أو الاختصاص” [7].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قطع التابع عن المتبوع، وضابطه أنه إذا ذكرت صفات المدح، أو الذم خولف في الإعراب تفننا في الكلام واجتلابا للانتباه، بأن ما وصف به الموصوف، أو ما أسند إليه من صفات، جدير بأن يستوجب الاهتمام؛ لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، والآية التي بين أيدينا مثال لقطع التابع عن المتبوع في حال المدح، ومثاله في حال الذم قوله تعالى: )وامرأته حمالة الحطب (4)( (المسد)، فقد نصب “حمالة ” على الذم، وهي في الحقيقة وصف لامرأته”[8].
المخالفة في البناء النحوي للجملة تعد التفاتا، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى:)والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس( (البقرة: ١٧٧) [9]، والالتفات له فائدتان – كما حددهما الزمخشري -: عامة وخاصة، فالعامة: هي إمتاع المتلقي، وجذب انتباهه بتلك النتوءات أو التحولات التي لا يتوقعها في نسق التعبير، أما الخاصة فتتمثل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور – في موقع من السياق الذي ترد فيه – من إيحاءات خاصة.
وقد يتساءل، لماذا خص الله الصابرين بالمدح؟ وجوابه: “أن التكليفات كلها تعقب مشقات على النفس، ولا يستطيع تحمل هذه المشقات إلا من يقدر على الصبر، وما دام قد قدر على الصبر، فكل ذلك يهون، ومن هنا خص الله الصبر بهذه الميزة”[10].
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.
[1]. الاختصاص: نصب المفعول به على تقدير: أخص، والباعث عليه فخر أو تواضع أو زيادة بيان.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص740، 741.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص239.
[4]. الجزر: جمع جزور، وهي الناقة المجزورة، أي: المذبوحة.
[5]. المهيع: الطريق أو المسلك.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص239، 240.
[7]. انظر: التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص110: 112.
[8]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص252.
[9]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص24.
[10]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج2، ص741 بتصرف يسير.
توهم تناقض موقف القرآن الكريم من العرب مدحا وذما
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن يناقض بعضه بعضا؛ حيث مدح العرب في قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: ٢)، وذمهم في قوله عز وجل: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا( (التوبة: ٩٧)، فكيف يكون هذا**؟!
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في بلاغة الكلام ألا يناقض بعضه بعضا، بل يجب أن يكون في إطار فكري واحد؛ ليحقق معنى متسقا وهذا ما نلحظه بوضوح تام في السياق القرآني منسق الأداء معجز النظم، أما ما توهمه بعضهم من اضطراب موقف القرآن من العرب مدحا وذما فوهم باطل من وجوه:
1) اللغة تفرق بين كلمتي: “الأعراب” و “العرب”؛ فكلمة “العرب” تختلف في مدلولها عن كلمة “الأعراب”، فكل الأعراب عرب، ولا عكس، وقد بعث الله النبي – صلى الله عليه وسلم – من العرب، وليس من الأعراب، وعليه فإن الآية الأولى نزلت في “العرب”، والثانية في “الأعراب”.
2) لو لم يكن العرب على الرجس والضلالة ما بعث الله فيهم رسولا ليزكيهم؛ فليس بعث الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيهم بمدح لهم بل هو امتنان عليهم؛ ومن ثم لا يوجد تعارض بين الآيتين.
3) الذم الذي وجه للأعراب لم يوجه إليهم حال إيمانهم، وكذلك لم يوجه إليهم جميعا، ولم ينف عنهم وجود صفات طيبة تؤهلهم لقبول الإيمان والتحسن معه، مما لا يمنع أن يوجه إلى بعضهم الذم، وإلى الباقين المدح.
التفصيل:
أولا. هناك فرق بين “الأعراب” و “العرب” في اللغة، وقد بعث الله النبي – صلى الله عليه وسلم – من العرب غير الأعراب.
فـ “العرب” هم سكان القرى المستقرون في أماكن ثابتة، وبدهي أن الذي يحيا في القرية ويتوطنها له جيران، وله قانون يحكمه، وله إلف بالمكان، وإلف بالمقيمين، ويتعاون مع غيره، ويتطبع بسكان القرية، ويألفهم ويألفونه، ومع الإلف والائتلاف يكون اللين في التعامل، بخلاف من يحيا في البادية؛ فهو يمتلئ بالقسوة، والفظاظة والشراسة؛ لأن بيئته نضحت عليه، والوحدة عزلته[1].
وأما “الأعراب” من سكان البوادي، فليس لهم استقرار في مكان، إنما يتتبعون مواضع الكلأ، وليس لهم توطن، ولا أنس لهم بمقام ولا بمكان، ومعنى ذلك أنه ليس لهم سياسة عامة تحكمهم في تلك البادية، وكل واحد منهم متفرد برأيه، أو متبع لرئيس القبيلة، وما داموا بهذا الشكل، وليس عندهم توطن يوحي بالمعاشرة، التي تقتضي اللين في الجانب وحسن التعامل؛ فإنه لذلك يقال عن كل واحد منهم “مستوحش”، أي: ليس له ألفة بمكان، أو جيران، أو قانون عام.
ولما كان ذلك من شأن الأعراب، ودل على قصورهم عن المرتبة الكاملة؛ فصاروا دون من سواهم، وترتبت على ذلك أحكام ثلاثة:
أنهم لا حق لهم في الفيء ولا الغنيمة.
إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقيق التهمة.
أن إمامتهم لأهل الحاضرة ممنوعة؛ لجهلهم بالسنة، وتركهم الجمعة[2].
لذا فإنهم منفصلون تماما عن العرب في الصفات والأحكام، فإن كان الله – عز وجل – قد امتدح العرب في آية سورة الجمعة، فإنه في آية سورة التوبة لم يذمهم، بل ذم الأعراب الذين تقدم وصفهم؛ إذن فلا وجه للتعارض بين الآيتين.
ثانيا. قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة): ليس بمدح لهم وإنما هو امتنان عليهم، وفيه معنى أنهم كانوا على الرجس والضلالة، وإلا ما بعث فيهم رسول ليزكيهم.
والتزكية مشتقة من: زكا يزكو زكاة، وهي كلمة متضمنة لمعنيين: الطهارة والنماء؛ لذا كانت مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم – مع العرب الأميين ذات شقين:
الأول: تطهير العقول من خرافات الشرك وأباطيله، وتطهير القلوب من قسوة الجاهلية وغلظتها، وتطهير الإرادات من الشهوات البهيمية، وتطهير السلوك من رذائل الجاهلية.
والثاني: تنمية العقول بالمعرفة، والقلوب بالإيمان، والإرادات بالتوجه إلى عمل الصالحات، والسلوك بالتزام العدل والإحسان ومكارم الأخلاق، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد علم العرب الكتاب والحكمة، وزكاهم أعظم تزكية بما هدم فيهم من أفكار الوثنية، وانحرافات الجاهلية، وما بنى فيهم من معارف التوحيد، وفضائل الإيمان، فكانوا – بحق – خير أمة أخرجت للناس؛ كما وصفهم عز وجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)( (آل عمران).[3]
ثم إن معنى الأميين أنهم لا يقرأون ولا يكتبون، كما أن الله عز وجل تحدث عنهم في الآية نفسها وسماهم ضالين قبل النزول، وفي غيرها سمى عصرهم عصر الجاهلية، وسمى تصرفاتهم حمية الجاهلية، وسمى سلوكهم موتا وكفرا، وجهلا وظلاما، ولكنه أرسل رسوله؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور[4].
وإن انتفى المدح عن هؤلاء العرب قبل البعثة، فقد انتفى وجه التعارض المتوهم بين مدحهم مرة، وذمهم أخرى.
ثالثا. الذم الذي وجهه الله إلى الأعراب لم يوجه إليهم جميعا، ولم يوجه إليهم حال إيمانهم، ولم ينف عنهم وجود صفات طيبة تؤهلهم لقبول الإيمان منهم، وهذا يثبت من عدة وجوه:
ورود هذه الآية في فئة محددة من الأعراب هم أسد وغطفان.
مذمة الله – عز وجل – للأعراب كان في حال كفرهم، ولعل في صيغة التفضيل “أشد” مع سياق الآيات ما يدل على أنه عز وجل يقارن كفرا بكفر؛ مما يؤكد أن حديثه عن الكفار منهم فقط، فهم الأشد كفرا من منافقي المدينة، قال تعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا( (التوبة: ٩٧).
أما عندما تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم فإن الأمر يتغير تماما، فالذي يسلم يتغير من الغلظة للرقة، وقد كان حال سيدنا عمر بن الخطاب قبل الإسلام، ثم حاله بعده خير برهان، على الرغم من أنه لم يكن من الأعراب.
الأعراب ليسوا كلهم بنفس الغلظة والجفاء، وإنما هو من باب وصف الجنس بوصف لبعض أفراده[5]، وقد امتدح الله الأعراب المؤمنين بعد ذلك في نفس سورة التوبة بنص قوله تعالى: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)( (التوبة)، وبالنظر في الآيات السابقة نجد الدليل القاطع على امتداح الله لبعض الأعراب على حسن إسلامهم، وكذا في قوله تعالى: )وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90)( (التوبة).
ثم إن اتصافهم بصفات الغلظة والخشونة لم ينف عنهم وجود الصفات الأخرى الحسنة، والتي تحمد فيها الخشونة والغلظة، وهي الشجاعة، والصراحة، والكرم، والإباء، وهي أقرب إلى الخير إذا اعتقدوا وآمنوا به[6].
ثم إن اتصافهم بالغلظة والجفوة يرجع إلى أسباب، هي:
تربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا.
بعدهم عن مشاهدة العلماء، ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أطلق لسانا بالكفر من منافقي المدينة.
وهذا الحال تغير بالطبع بعد الإسلام؛ إذ انضموا تحت لواء واحد بإمام واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا يعتادون الجماعة، التي تجمع أرواح المسلمين في كل شيء من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأعياد، وحقوق الأخوة والجيران، والأضياف، فيتنازلون عن كثير من غلظتهم وجفوة طباعهم، بل وتنسلخ منهم انسلاخا مع انطوائهم تحت هذا اللواء الجديد، ومع الوقت تذوب شخصياتهم في هذه التعاليم، فيصير الواحد منهم مسلما يوجه أمره لله، ينقاد لتعاليمه، وتصير أخلاقه كما يحب الله ورسوله، ويتحول من الطباع الغليظة إلى المشاعر الرهيفة: من عطف على الفقراء والمساكين، وبكاء من خشية الله… إلخ.
ومن كل ما سبق يتبين أن الذم الذي وجهته الآية للأعراب لم يشملهم كلهم، بل إن فيهم من امتدحه القرآن وأثنى عليه، مما ينفي التعارض بين الآيتين، هذا إذا افترضنا أن الآية في سورة الجمعة تكلمت عنهم، وهذا غير صحيح[7].
الأسرار البلاغية في الآيتين:
قال عز وجل: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)( (التوبة)، وقال ـ عز وجل ـ: )هـو الذي بعث في الأميين رسـولا منهـم( (الجمعة: 2).
الآية الأولى استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذرين من الأعراب، والذين كذبوا الله ورسوله منهم، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب، فلما تقضى الكلام على أولئك توجه إلى بقية الأعراب[8].
والمتأمل في قوله تعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو(، أي: كائنا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس؛ فلا تدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر؛ وفي هذه الحالة تدل على أنه أمي، وقد اختار هذا الرأي جمع من المفسرين، فالمعنى: رسولا من جملتهم أميا مثلهم، )يتلو عليهم آياته( مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم[9].
في قوله: )في الأميين( للظرفية: أي ظرفية الجماعة، ولأحد أفرادها، ويفهم من الظرفية معنى الملازمة، أي رسولا لا يفارقهم، فليس مارا بهم كما يمر المرسل بمقالة، أو بمألكة يبلغها إلى القوم ويغادرهم[10]. وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من المقابلة؛ لأن المتعارف أن التعليم والتلاوة مضادة للأمية.
تلك كانت بعض الأسرار البيانية والملامح البلاغية في الآيتين الكريمتين، والتي توضح بما لا يدع مجالا للشك عظمة هذا الكتاب الحكيم، وإعجازه في نظمه ومفرداته، ومعانيه، فهو حقا كما وصفه ربنا عز وجل: )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( (فصلت: ٤٢).
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة للطباعة، مصر، 2003م.
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5435: 5437 بتصرف يسير.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص231: 233 بتصرف.
[3]. كيف نتعامل مع القرآن العظيم، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1421هـ/ 2000م، ص93.
[4]. المجاز في اللغة والقرآن، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1405 هـ/ 1985م، ج2، ص873.
[5]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسيره الآية 97 التوبة.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص12.
[7]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج1، ص546.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ص10.
[9]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[10]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج13، ص207.
توهم أن القرآن الكريم اضطرب فنصب المعطوف على المرفوع
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يوافق اللغة العربية؛ حيث نصب ما حقه الرفع في قوله عز وجل: )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر( (النساء: ١٦٢)؛ حيث يرون أنه يجب رفع “المقيمين”؛ لأنها معطوفة على الأسماء المرفوعة قبلها “الراسخون”، “المؤتون”، “المؤمنون”، ويؤيدون دعواهم هذه بما روي عن عائشة، وأبان بن عثمان رضي الله عنهم أجمعين من أن نصب (المقيمين) كان خطأ من الكتاب، وكذلك ما روي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – من أنه قال: “إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها”**.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل أن يتبع المعطوف المعطوف عليه في إعرابه رفعا ونصبا وجرا، ويزعم بعض أصحاب الشبهات حول القرآن الكريم أن هناك مخالفة لقواعد النحو في قوله تعالى: )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر (162)( (النساء: ١٦٢)؛ حيث كان المعطوف منصوبا، في حين جاء المعطوف عليه مرفوعا، والصواب في زعمهم أن يقال: “والمقيمون الصلاة” حتى يستقيم الأمر، ويتبع المعطوف المعطوف عليه في إعرابه.
وقد رد العلماء على ذلك بما يلي:
1) قال سيبويه وجمهور المفسرين: إن “المقيمين” منصوبة على القطع، والتقدير: “أعني المقيمين”، وقد تبعه الزمخشري[1]، فقال: إنها منصوبة على الاختصاص، المراد منه المدح، وهذا الرأي هو المشهور عند النحاة والمفسرين والقراء.
2) وقيل: إنها وقعت مجرورة لا منصوبة، إما لأنها معطوفة على الضمير المجرور محلا في “منهم” أو على “ما” في قوله: )بما أنزل إليك(.
3) إن الرواية الواردة عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت في هذه الآية: “يا بن أخي، الكتاب أخطئوا” رواية باطلة، وكذلك ما روي عن أبان بن عثمان – رضي الله عنهما – وأما الرواية الواردة عن عثمان – رضي الله عنه – من أنه قال: “إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها” فهي رواية واهية السند، وعليه فليس في الآية خطأ ولا لحن كما زعموا.
التفصيل:
أولا. إن أشهر الآراء في مجيء “المقيمين” بالياء خلافا لنسق ما قبلها وما بعدها، أنها جاءت منصوبة على الاختصاص المراد منه المدح بدلالة المقام؛ لأن المؤدين للصلاة بكامل ما يجب لها من طهارة ومبادرة وخشوع، جديرون بأن يمدحوا من الله عز وجل، ومن الناس.
يقول الإمام الزمخشري: “و “المقيمين” نصب على المدح؛ لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان”[2]، وقد أوردوا عليه شواهد عدة من الشعر العربي المحتج به لغويا ونحويا؛ ومن ذلك ما أورده سيبويه:
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثا مراضيع مثل السعالي[3]
ومنها قول الخرنق بنت هفان:
لا يبعدن قومي الذين هم
سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر
والشاهد في بيت سيبويه: نصب “شعثا” في البيت الأول وهو معطوف على مجرور “عطل”، والشاهد في البيتين: نصب “النازلين”، وهو معطوف على مرفوع، وهو “سم “.
هذا، وقد قلنا من قبل: إن القرآن غير مفتقر إلى شواهد من خارجه على صحة أساليبه؛ إذ من المقرر أنه يستدل بالقرآن على صحة القاعدة، ولا يستدل بالقاعدة على صحة ما جاء في القرآن؛ فالقرآن يحتج به ولا يحتج عليه. ومع هذا فإن ورود هذه الشواهد يعتبر حجة على من لا يؤمن بالقرآن.
ثانيا. جر بعض العلماء “المقيمين” على سبيل العطف على الضمير المجرور محلا في “منهم”، والمعنى على هذا: لكن الراسخون منهم والمقيمين الصلاة. ومنهم من جرها بالعطف على الكاف في “أنزل إليك”، ومنهم من عطف على “ما ” في قوله: “بما أنزل إليك”، وقال بعضهم أو هي مجرورة بالعطف على “الكاف” في قبلك.
والراجح: إن الذي ينبغي الركون إليه – لقوته – هو الرأي الأول، المنسوب إلى سيبويه، والزمخشري، وابن عطية، وأبي البقاء العكبري، أما ما عداه من آراء فلا تخلو من التكلف أو الضعف.
فالنصب على الاختصاص لا مناص من قبوله؛ لأنه أسلوب شائع في الاستعمال اللغوي العربي، وفيه من البلاغة أمر زائد على مجرد التوجيه النحوي، الذي لا يتجاوز بيان عامل النصب أو الجر[4].
وأيا ما كان الأمر، فليس لمثيري هذه الشبهات أية حجة يستندون إليها في مزاعمهم هذه، فهم حاطبو ليل، لا يميزون بين حقائق الأشياء ولا ذواتها؛ لإحاطة الظلام بهم من كل جهة، وهم في طغيانهم وجهلهم يعمهون.
ثالثا. الاستدلال بما روي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها سئلت عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: )إن هذان لساحران( (طه: ٦٣)، وكذلك قوله تعالى: )والصابئون( (المائدة: ٦٩)، فقالت للسائل: يا بن أخي، الكتاب أخطئوا – استدلال باطل، وكذلك استدلالهم بقول أبان بن عثمان: كان الكاتب يملى عليه فيكتب، فكتب )لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك( ثم قال: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب “والمقيمين الصلاة”، فمن ثم وقع هذا.
ومثله في بطلانه ما استدلوا به مما روي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أنه قال: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها.
وبيان بطلان هذه الروايات ما يلي:
قال القشيري: وهذا مسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل[5].
وقال الزمخشري: “والمقيمين” نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، وهو باب واسع قد قصره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا أن وقوعه لحن في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وغاب عنه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة والإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من يلحق بهم[6].
كما أن الرواية الواردة عن عائشة – رضي الله عنها – في ذلك ضعيفة لا تثبت، ففي سندها أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، عن هشام بن عروة، وقد قال أبو داود: “قلت لأحمد: كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة، يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم”.
وقال الإمام أحمد: “أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظا جيدا”، وقال ابن خراش: “صدوق فيه إرجاء، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب”.
هناك علة أخرى وهي أن أبا معاوية الضرير مدلس، وقد وصفه بالتدليس ابن حجر، والمقدسي، والحلبي.
أما عن قول عثمان – رضي الله عنه ـ”إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها”، فكلها آثار لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متصلة، قاله السيوطي، ثم زاد: “وما يشهد عقل بأن عثمان إمام الأمة الذي هو إمام الناس في زمنه وقدوتهم، يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام، فيتبين فيه خللا، ويشاهد في خطه زللا فلا يصلحه.. ولم يكن عثمان ليؤخر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق، ومعلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن متقنا ألفاظه، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي”[7].
قال الألوسي: “وأما ما روي أنه لـما فرغ من المصحف أتي به إلى عثمان – رضي الله عنه – فقال: “قد أحسنتم وأجملتم، وأرى لحنا قليلا ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل، والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا”، فقد قال السخاوي: إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع؛ فإن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى في القرآن لحنا، ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا، إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع – وهم من هم – فكيف يقيمه غيرهم؟
وتأول قوم اللحن في كلامه – على تقدير صحته عنه – بأن المراد: الرمز والإيماء، كما في قول الشاعر:
منطق رائع وتلحن أحيا
نا وخير الكلام ما كان لحنا
أي: المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا، مما يعرفه بعض القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف[8].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله تعالى: )لكن الراسخون في العلم( استدراك من قوله: )وأعتدنا( (النساء: ١٦١)، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا، وقوله تعالى: )سنؤتيهم أجرا عظيما (162)(: السين لتوكيد الوعد، ونكر الأجر للتفخيم، كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك؛ حيث أوعد الأولين بالعذاب الأليم، ووعد الآخرين بالأجر العظيم[9].
السر البياني في قطع و “المقيمين الصلاة” عما قبلها وما بعدها؛ أنها نصبت على المدح بإضمار فعل لبيان فضل الصلاة، على ما قاله سيبويه، والتقدير: أعني أو أخص المقيمين الصلاة، الذين يؤدونها على وجه الكمال، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان. والنصب على المدح هنا لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا هي ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة؛ حيث إن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها، ويهدي التفكير لاستخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة[10].
(*)عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص582.
[2]. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص174: 177.
[3]. انظر: الكتاب، سيبويه، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د. ت، ج1، ص399.
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص14.
[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م،ج6، ص15.
[6]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص582.
[7]. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417هـ/ 1996م، ج1، ص182، 183.
[8]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[9]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[10]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص376، 377.
توهم أن القرآن الكريم أخطأ فأعاد الضمير مفردا على مثنى
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يطابق بين الضمير وما يعود عليه في العدد، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( (التوبة)؛ حيث جعل الضمير في كلمة “يرضوه” مفردا على الرغم من أنه عائد على المثنى، والصواب في ظنهم أن يقال: “يرضوهما” **.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يطابق الضمير الاسم الذي يعود عليه في نوعه: التذكير والتأنيث، وفي عدده: المفرد والمثنى والجمع، وغير المتأمل لقوله عز وجل: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( (التوبة) يظن أن في هذه الآية مخالفة لقواعد اللغة العربية في عود الضمير المفرد في “يرضوه” على المثنى “الله و رسوله”، والصواب في زعمهم أن يقال: “والله ورسوله أحق أن يرضوهما”؛ ليتفق الضمير ويتطابق مع ما يعود عليه، وقد دحض هذا الزعم بوجوه عدة؛ منها:
1) أن هناك شرطا موضوعيا في التثنية والجمع، ألا وهو التجانس بين الأفراد في الواقع، ومن أجل هذا؛ فإن “الله” لا يجمع ولا يثنى، لا في ذاته، ولا مع أحد من خلقه، تعظيما وتنزيها له جل جلاله عن الشرك.
2) أن الضمير جاء مفردا؛ لأن الله ورسوله في حكم مرضي واحد، فلا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإرضاء الله إرضاء لرسوله.
3) أن الضمير جاء مفردا؛ لأن في الكلام حذفا، والتقدير: “والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه”؛ فحذف خبر المبتدأ لفظ الجلالة “الله” لدلالة خبر “رسوله” عليه؛ أو لأن في الكلام تقديما وتأخيرا، وهذا توجيه نحوي.
4) أن الضمير المنصوب في “يرضوه” جاء مفردا؛ لأنه عائد على اسم الجلالة؛ لأنه الأهم في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ومعلوم أن الضمير يجوز أن يعود على أحد الاسمين الظاهرين إما لقربه، وإما لأنه المراد، وإما لكونه الأشرف أو الأسمى أو الأجل.
التفصيل:
أولا. لقد فات هؤلاء أمر عظيم ترتب عليه هذا الجهل؛ ذلك أنهم لم يستحضروا في أذهانهم وهم يسطرون هذه الشبهة، متى يثنى اللفظ، ومتى يجمع، ومتى يظل مفردا؟
ومعلوم أن هناك شرطا موضوعيا في تثنية اللفظ وجمعه هو: التجانس بين الأفراد في الواقع، فقلم يثنى فيقال: قلمان، ويجمع فيقال: أقلام.
لكن السيف – مثلا – لا يثنى مع القلم ولا يجمع؛ لأنك لو ثنيت القلم والسيف، فقلت: قلمان، أو سيفان، وأنت تريد: قلما وسيفا، لم يفهم أحد ما تريد.
وحتى الرجل والمرأة، وهما فردان بينهما تجانس من جهة، واختلاف من جهة أخرى، فإنك لا تستطيع أن تثنيهما فتقول: رجلان، أو تقول: امرأتان، وأنت تريد رجلا وامرأة، فهذا لا يجوز عند العقلاء، ولا يجوز في الواقع الذي يحسه الناس ويحترمونه.
هذا التمهيد ضرورى لبيان لماذا ورد في القرآن “أن يرضوه” دون أن “يرضوهما” كما اقترح مثيرو هذه الشبهة.
وذلك لأنه ليس بين الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بين الله وأي شيء في الوجود تجانس من أي نوع من الأنواع؛ فالله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يلد، ولم يولد، هو الخالق البارئ المصور، وليس كمثله شيء في الوجود.
وعليه فإن الله – عز وجل – لا يجمع ولا يثنى في ذاته، ولا مع أحد من خلقه، وعلى هذا جرى بيان القرآن المعجز!
ثانيا. إن الضمير جاء مفردا؛ لأن الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – في حكم مرضي واحد، فلا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإرضاء الله إرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرأي قد أشار إليه الشيخ الشعراوي في تفسيره؛ فقال: “وهنا نلاحظ أن الحق – عز وجل – قال: )والله ورسوله أحق أن يرضوه(؛ لأن رضا الله ورضا رسوله – صلى الله عليه وسلم – هو رضا واحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عنده، ولكنه وحي من عند الله، وإرضاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – اتباع المنهج الذي فيه رضا الله؛ لذلك يقول عز وجل: )قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)( (النساء)، وقوله عز وجل: )إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10)( (الفتح).
إذن، فلا توجد طاعة لله وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول؛ لأن الرضا منهما رضا واحد، فقول الحق عز وجل: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( دليل على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله، فما يرضي الله يرضي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يغضب الله يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم”[1].
وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب “المنار”؛ فقال: “وكان الظاهر أن يقال: “يرضوهما”، ونكتة العدول عنه إلى “يرضوه”؛ الإعلام بأن إرضاء رسوله، من حيث إنه رسوله، عين إرضائه تعالى؛ لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وهذا من بلاغة القرآن في الإيجاز، ولو قال: يرضوهما لما أفاد هذا المعنى؛ إذ يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر، وهو خلاف المراد هنا.
وكذلك لو قيل: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه لا يفيد هذا المعنى أيضا، وفيه ما فيه من الركاكة و التطويل، وقد خرجه علماء النحو على قواعدهم”[2].
وقد أوجز محيي الدين الدرويش هذا المعنى قائلا: “ووحد الضمير؛ لتلازم الرضاءين، وإفراد الضمير في “يرضوه” تعظيما للجناب الإلهي بإفراده بالذكر؛ ولكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله فإرضاء الله إرضاء لرسوله”[3].
ثالثا. إن الضمير جاء مفردا؛ لأن في الكلام حذفا، والتقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه، فحذف خبر المبتدأ لفظ الجلالة؛ لدلالة خبر رسوله عليه، والآية على هذا الوجه مثل قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض، والرأي مختلف
أي: نحن بما عندنا راضون، فحذف “راضون” لدلالة “راض” عليه.
يقول صاحب “المنار” في هذا: “وأقرب الأقوال إلى قواعدهم – يقصد علماء النحو – قول سيبويه: إن الكلام جملتان حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأى مختلف
فهذا لا تكلف فيه من ناحية التركيب العربي، ولكن تفوت به النكتة التي ذكرناها، وهي من بلاغة القرآن التي يجب على أهل البيان اقتباسها”.
وجاء الضمير مفردا كذلك؛ لأن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله، حيث قدم الخبر “أحق أن يرضوه”، على المبتدأ “رسوله”.
رابعا. إن الضمير المنصوب في “يرضوه” جاء مفردا؛ لأنه عائد على اسم الجلالة؛ لأنه الأهم في الخبر، وكذلك ابتدئ به، ويشير إلى هذا الوجه ابن عاشور في تفسيره فيقول: “وإنما أفرد الضمير في قوله: “أن يرضوه” مع أن المعاد اثنان؛ لأنه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فيكون الكلام جملتين؛ ثانيتهما كالاحتراس، وحذف الخبر للإيجاز، ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين، ومنه قول ضابئ بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار بها لغريب
التقدير: فإني لغريب، وقيار بها غريب أيضا؛ لأن إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما.
والضمير المنصوب في “يرضوه” عائد إلى اسم الجلالة؛ لأنه الأهم في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ألا ترى أن بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق إن الكائنة في الجملة الأولى، دون الجملة الثانية، وهذا الاستعمال هو الغالب”[4]
ويضيف الشيخ الشعراوي إلى هذا الوجه نكتة لطيفة، فيقول: “إن الحق – عز وجل – يريدنا أن نتأدب مع ذاته، في أنه إذا اجتمع أمران لله ولرسوله لا نجعل أحدا مع الله، وإنما نجعله له – عز وجل – وحده”[5].
خامسا. معلوم أن الضمير يكون عائدا على أحد الاسمين الظاهرين؛ إما لقربه، وإما أنه المراد، وإما لكونه الأشرف والأسمى:
فهو لقربه؛ كما في قوله عز وجل: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها( (التوبة: ٣٤)؛ فقد عاد الضمير في “ينفقونها” بالإفراد على المثنى “الذهب والفضة” فهو عائد على الفضة؛ لأنها أقرب مذكور.
وهو لأنه المراد: كما في قوله عز وجل: )وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها( (الجمعة:١١)؛ فقد عاد الضمير في “إليها” إلى “التجارة”؛ لأنها كانت مراد القوم.
وهو لكونه الأشرف أو الأسمى أو الأجل؛ ومنه الآية التي معنا: )والله ورسوله أحق أن يرضوه( (التوبة: ٦٢)؛ فقد عاد الضمير بالإفراد على لفظ الجلالة؛ أو لأن طاعة الرسول هي طاعة لله.
وخلاصة القول: إن اللغة العربية تشترط في تثنية المعدود وجمعه، أن يكون هناك تجانس بين الأفراد في الواقع، أما وقد انتفى شرط التجانس، فيبطل مع انتفائه الزعم القائم، ثم إن لغة العرب ليست قاصرة على المطابقة بين الضمير وبين من يعود عليه؛ فقد يعود على من تقدم ذكره، وقد يعود على متأخر، وعليه فلا يوجد ثمة خطأ في الآية، وإنما الخطأ في عقول هؤلاء وفي فهمهم السقيم.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
إذا دققنا النظر في هذه الآية وتأملناها، نجد فيها فنا من فنون البلاغة العربية ألا وهو “فن الاحتباك”، وهو ذلك الإيجاز القرآني البليغ، وهذا الفن نوعان: الأول منه متعلق بالآية التي معنا وهو أن يحذف كلام من جملة أولى، ويذكر ما يدل عليه في جملة ثانية جاءت بعدها مباشرة، مثل الآية التي بين أيدينا، فالمعنى فيها “والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه”، فحذف “أحق أن يرضوه” من الأولى؛ لدلالة الثاني عليه، وهو “رسوله أحق أن يرضوه”.
يوجد بالآية “أسلوب التفات” [6] في مجال العدد بين الإفراد والتثنية كما يقول د. حسن طبل: لقد اختلف النحاة والمفسرون في تحديد مرجع الضمير في الفعل “يرضوه”؛ فقد قيل: إنه يعود على “الله ورسوله”؛ وإنما أفرد لتلازم الرضاءين. وقيل أيضا: إنه يعود على “الرسول” فحسب؛ لأن الكلام في إيذائه – صلى الله عليه وسلم – وإرضائه. وقيل كذلك: إنه عائد على لفظ الجلالة “الله” فقط، والتقدير: “والله أحق أن يرضوه والرسول كذلك”.
فعلى الرأي الأول: تتضمن الآية الكريمة عدولا عن تثنية الضمير “يرضوهما” إلى إفراده “يرضوه”، أما على الرأيين الأخيرين: فليس فيها عدول أصلا؛ إذ إن ضمير الإفراد بمقتضاهما هو الأصل، أو مقتضى الظاهر كما يقال.
والرأي الأول – فيما نحس – هو أرجح الآراء؛ وذلك لقوة الملاءمة بينه وبين السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة؛ فهؤلاء الذين تخبر الآية عن حلفهم للمؤمنين كي يرضوهم هم فئة من المنافقين الذين كانوا يتعمدون الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالإيذاء ويتقولون عليه الأقاويل، وهذا ما أخبرت عنه الآية السابقة على تلك الآية مباشرة في قوله عز وجل: )ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)( (التوبة).
في ضوء هذا السياق يرجح القول بأن الضمير في “يرضوه” عائد على الله والرسول، وأن في توحيده – عدولا عن تثنيته – دلالة على توحد الرضاءين، وإشعارا بأن إرضاءه صلى الله عليه وسلم هو في الوقت ذاته إرضاء للخالق عز وجل، إذ في ذلك – دون ريب – دعم لموقفه، وسلوان له فيما تحمله من أذى هؤلاء المنافقين، فشأن الإرضاء في توحيده في تلك الآية الكريمة هو شأن الطاعة التي وحدها – عز وجل – في قوله: )من يطـع الرسـول فقـد أطـاع الله ومـن تولـى فمـا أرسلنـاك عليهـم حفيظـا (80)( (النساء).
وشبيه بالآية السابقة في عود الضمير مفردا على الله ورسوله قوله – عز وجل – في شأن المنافقين: )وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48)( (النور)[7].
فالضمير في قوله: “ليحكم” جاء مفردا ولم يأت مثنى مع أنه عائد على الله ورسوله؛ وذلك لإفادة أن حكم الله هو حكم رسوله.
ومثيرو هذه الشبهات قد فاتهم أمر عظيم ترتب عليه جهل شنيع؛ ذلك أنهم لا يعرفون عن حقيقة التوحيد شيئا، وضوابطهم فيه مثل الغربال إذا وضع فيه سائل لا يبقى منه شيء؛ ونحن نرى أن هذه المعاني البديعة التي أشرنا إليها من خلال بيان القرآن المعجز لا ترقى إليها مدارك هؤلاء، ولا تساعدهم أنفسهم على الإقبال عليها[8].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5256.
[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج10، ص523، 524.
[3]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج4، ص122. وانظر: الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج2، ص199.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص245.
[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5256.
[6]. الالتفات: هو التحول من حال خطاب إلى غيرها.
[7]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص94.
[8]. حقائق القرآن وأباطيل خصومه: شبهات وردود، عبد العظيم المطعني، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1423هـ/ 2002م، ص150: 155 بتصرف.
توهم أن القرآن الكريم وضع أدوات ربط في غير موضعها
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المتخرصين خروج القرآن الكريم عن الصواب في وضع أدوات الربط في غير موضعها؛ وذلك في قوله عز وجل: )فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع( (النساء:3)**؛ إذ استخدم القرآن أداة الربط “الواو” بدلا من “أو”، وهي حرف يدل على مطلق الجمع. ويترتب على استخدامه هذا جواز الجمع بين تسع نساء، وهو ما لا يقره الإسلام.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل أن لكل حرف من حروف العطف معنى أساسيا يفيده، ومن معاني الواو: الجمع والمشاركة، إلى غير ذلك من المعاني التي يمكن استنباطها من خلال السياق الذي ترد فيه.
ومن لم يتدبر قوله عز وجل: )وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة( ظن أن القرآن الكريم قد استخدم “الواو” في غير معناها؛ حيث استخدمها بمعنى “أو” التي للتخيير، وهذا يخالف الأصل في معنى “الواو”، وكان الأحرى – على حد وهمهم – أن يقول: مثنى أو ثلاث أو رباع. ودللوا على ذلك بأن الحد الأعلى للجمع بين الزوجات أربع زوجات، و “الواو” تفيد الجمع ليصبح العدد تسع زوجات.
وبعد النظر فيما قاله المدعون يتبين لنا بطلان دعواهم من وجوه:
1) أن الأمر في قوله: )فانكحوا( للجماعة، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، ومعلوم أن الخطاب للجماعة بمنزلة الخطاب لكل فرد على حدة؛ كما في قوله: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (النساء: ٧٧)، وقوله: )فاقتلوا المشركين( (التوبة: ٥)، وعليه فقوله: مثنى: أي اثنين، وثلاث: أي ثلاثة، ورباع: أي أربعة؛ ولما لم يتوفر هذا الجمع، قال: “فواحدة”، ولم يقل: “فأحاد”، أو “فموحد” على نحو ما في “مثنى وثلاث ورباع”.
2) أن من الأعداد ما يأتي على أصله من غير عدل، وتسمى “الأصول”، ولا يفاد منها أكثر من حصر الكمية المعدودة ليس إلا، ويصح فيها أن تجمع ويضم بعضها إلى بعض، بخلاف الأعداد التي تعدل عن هذا الأصل، وتسمى “الأعداد المعدولة”، وتضيف إلى العدد معنى الهيئة وترتيب الحدوث، وتأتي على وزني “مفعل”؛ مثل: مثنى ومثلث ومربع، و”فعال”؛ مثل: ثناء، وثلاث، ورباع. وتلك لا يصح جمعها كما يحدث في الأصول، ولا يستعمل المعدول مكان الأصلي؛ وإلا فقد العدد المعنى الذي يضيفه العدل له.
3) أن “الواو” تخدم المعنى في هذا السياق؛ إذ هي بمعنى “بدل”؛ أي: فانكحوا ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث.. إلخ، ولو جاء بأو؛ لما جاز أن يكون لصاحب المثنى: ثلاث، ولا لصاحب الثلاث: رباع، وليس هذا المراد.
ويخطئ سر العربية من لا يميز بين “مثنى، وثلاث، ورباع” بما تفيد من إباحة التعدد بحسب الظروف والأحوال، وبين “مثنى أو ثلاث أو رباع” بما تفيد من دلالة التخيير التي يقتصر فيها إما على “مثنى، أو ثلاث، أو رباع”.
التفصيل:
أولا. الأمر في قوله: )فانكحوا( للجماعة “فإن قال مدرس لتلاميذه: افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل الكتب؟! إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه؛ وعليه فمقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، فقوله تعالى: )مثنى وثلاث ورباع( خطاب للجمع بالجمع، ومعناه أن واحدا ينكح اثنتين، وآخر ينكح ثلاث نساء، وثالثا ينكح أربع نساء”[1].
فقوله: )مثنى وثلاث ورباع( معناه: ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، فتلك الألفاظ المفردة معدولة عن هذه الأعداد المكررة. ولما كان الخطاب للجمع حسن اختيار الألفاظ المعدولة الدالة على العدد المكرر، وكانت من الإيجاز ليصيب كل من يريد الجمع من أفراد المخاطبين ثنتين فقط، أو ثلاثا فقط، أو أربعا فقط، وليس بعد ذلك غاية في التعدد بشرطه”[2].
ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف، كان المعنى، أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد؛ كما في قوله عز وجل: )فاقتلوا المشركين(، وقولــه ـ عز وجل ـ: )وأقيموا الصلاة( ونحوهما[3].
وليس أدل على ما ذهبنا إليه من أن الله – عز وجل – لما استثنى مظنة الخوف من الحيف – قال: )فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة(، وإنما لم يقل فأحاد أو فموحد؛ لأن وزن مفعل، وفعال في العدد لا يأتي إلا بعد جمع، ولم يجر جمع هنا”[4]، على نحو ما سبق في قوله: )من النساء مثنى وثلاث ورباع( ولا يجوز هذا حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل”[5].
ثانيا. الأعداد في اللغة على نوعين:
الأعداد المعدولة: ما كانت على وزن “مفعل” و “فعال” وهي – كما في الآية: )مثنى وثلاث ورباع( تأتي لتبين هيئة الفاعل أو المفعول به، وهي منصوبة على الحالية، وقد كثر كلام أهل العربية حول العدد المعدول، هل هو من الواحد إلى العشرة؟ أم هو ما نطق به القرآن فقط؟ وقد ورد “عشار” في شعر الكميت بن زيد:
فلم يستريثوك [6] حتى رميـ
ـت فوق الرجال خصالا عشارا
وعلى كل فالأعداد المعدولة “لا تستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة؛ لأن هذا الباب – المعدول – جعل بيانا لترتيب الفعل، فإذا قال: جاءني القوم مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين”.
الأعداد غير المعدولة: “الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدود دون غيره”[7]. تقول: “جاءني ثلاثة؛ لتفيد المستمع علما بعددهم، لا بحال مجيئهم، بخلاف قولك: جاءوني ثلاث؛ فقد بينت كيف كان مجيئهم”[8].
وبعد هذا التعريف الموجز لهذين النوعين، لن يختلف أحد على أن العدد في الآية – التي نحن بصددها – من قبيل “المعدول”، وكونه معدولا معناه: أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة، تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز أن تقول: مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع، مثل: جاءني القوم أحاد، وثناء، ورباع من غير تكرار، وهي في موضع الحال في الآية.
وقد تكون صفة: ومثال كون هذه الأعداد صفة قول ساعدة بن جؤية:
ولكنما أهلي بواد أنيسه
ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد
فوصف ذئابا – وهي نكرة – بمثنى وموحد. وقول الفراء:
قتلنا به من بين مثنى وموحد
بأربعة منكم وآخر خامس
أي: قتلنا به ناسا”[9].
والشواهد في هذا كثيرة، وقليلها يغني عن كثيرها لمن وعى، واللغة دقيقة في استعمالاتها وتراكيبها لمن فطن استعمالاتها وتذوق تراكيبها؛ إذ للمعدول سياق يذكر فيه، ولغير المعدول كذلك شروطه، “كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم، أو هذا المال الذي في البدرة[10]: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وهذا مسلم به إذا كان المقسوم قد ذكر جملته، أو عين مكانه، أما لو كان مطلقا؛ كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه، فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر – لا من الباب الأول – محدد الجملة معين المكان.
على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع؛ فقسموا بعضه بينهم: درهمين درهمين، وبعضه: ثلاثة ثلاثة، وبعضه: أربعة أربعة، كان هذا هو المعنى العربي”[11].
ومن دقة اللغة أيضا أن للعرب “في العدد المعدول زيادة معنى ليست في الأصل غير المعدول؛ لأنك إذا قلت: جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، فقد حصرت عدة القوم بقولك: ثلاثة، أما إن قلت: جاءوني رباع وثناء، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة، أو اثنين اثنين، وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمهم تحكم”[12].
ومعلوم أن الأعداد التي تجمع قسمان:
قسم يؤتى به ليضم بعضه إلى بعض، وهذه هي الأعداد الأصول؛ نحو: )ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة( (البقرة: ١٩٦)، )وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة( (الأعراف: ١٤٢)، ولم يقولوا: ثلاث وخماس، ويريدون ثمانية؛ كما قال عز وجل: )ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم(.
ومنها الأعداد المعدولة كالآية التي نحن بصددها ونستأنس لفهمها بغيرها، يقول – عز وجل – في سورة فاطر: )الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع( (فاطر: ١): فدلالة “الواو” في هذا السياق تفيد بأن الملائكة ليسوا جميعا سواء؛ أولي أجنحة مثنى، أو ثلاث، أو رباع، بل منهم أولو أجنحة: مثنى، ومنهم أولو ثلاث، ومنهم أولو أربع.
وفي سورة سبأ: )قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى( (سبأ:٤٦) فهنا يجوز لهم أن يقوموا لله مثنى، وأن يقوموا فرادى، أي: وحدانا ومجتمعين، ولو كان القول مثنى أو فرادى، للزم أن يقوموا جميعا، إما مثنى وإما فرادى، ويخطئ سر العربية من لا يفرق بين مثنى وثلاث ورباع، وبين اثنين وثلاث وأربع، ومجموعها تسع، فالأعداد لا تجمع إلا إذا جاءت على أصلها غير معدول بها إلى: مثنى، وثلاث، ورباع”[13].
ثالثا. أداة الربط “الواو” تتيح للسياق من المعاني ما تقصر عنه أداة الربط “أو” في هذه الآية، ولا توقع في توهم كما قال متوهمو الجمع؛ إذ “الواو” في هذا الموضع بمعنى: بدل، أي: فانكحوا ثلاث بدلا من مثنى، ورباع بدلا من ثلاث؛ ولذلك عطف بـ “الواو” ولم يعطف بـ “أو”؛ ولو جاء بـ “أو”؛ لما جاز أن يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع[14].
ويخطئ من لا يميز بين “مثنى، وثلاث، ورباع” بما تفيد من إباحة التعدد، بحسب الظروف والأحوال، وبين “مثنى أو ثلاث أو رباع” بما تفيد من دلالة التخيير التي يقتصر فيها إما على “مثنى، أو ثلاث، أو رباع”[15].
وجملة القول هنا: أن “التوزيع باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطول؛ فكما أن لطائفة من الملائكة جناحين، ولطائفة ثلاثة، ولطائفة أربعة – في آية فاطر – فإن هنا – في آية النساء – فريقا يستطيع أن يتزوج اثنتين؛ فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين، وفريقا يستطيع أن يتزوج ثلاثة، فهؤلاء تكون أزواجهم ثلاثا ثلاثا، وهلم جرا”[16].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قوله عز وجل: )تقسطوا( معناه: تعدلوا، وقد يتوهم أن فيها تعارضا مع قوله عز وجل: )وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا (15)( (الجن) يعني: الجائرون، بل لا يقف التعارض معها فحسب، فثمة حديث يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل».[17] يعني: العادلين، لكن هذا التعارض الضدي المتوهم لا يلبث إلا أن ينتفي تماما إذا علمنا أنه يقال: أقسط الرجل، إذا عدل، وقسط، إذا جار وظلم صاحبه، وثمة قراءة لابن وثاب والنخعي “تقسطوا” بفتح التاء من “قسط” على تقدير زيادة “لا”، كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا”[18].
قوله عز وجل:)ما طاب لكم( فيه فن التغليب، فقد قال “ما”، ولم يقل “من” كما هو المتبادر في استعمال “من” للعاقل و “ما” لغير العاقل تغليبا[19].
لكننا نعود فنتساءل: لماذا ذكرت “ما” هذه أصلا؟! بل لماذا ذكرت جملة )ما طاب لكم(، أليس من الممكن أن يكون الكلام على هذا النحو: “فانكحوا من النساء مثنى، وثلاث، ورباع”، ويكون المعنى غير مبتور، بل يمتاز بالاختصار المغني عن الإسهاب؟! والجواب: بالطبع لا!! [20] وذلك لسببين:
أولهما: أن جملة “ما طاب لكم” تعني: ما أحلهن الله لكم؛ أي: غير المحرمات مما ذكر الله – عز وجل -، وقضية الحل والحرمة في مسألة الأعراض من الضرورة بمكان، فليست تلك الجملة مما يستغنى عنه في هذا السياق.
ثانيهما: – وهو الأهم: أن هذا التعبير يكرس حكمة التعدد المنوطة بها الآية الكريمة، وهي تحسين النسل لا تكثيره فحسب.
فالآية تؤكد أن تحسين النسل لا يتأتى لرجل من النوابغ بمجرد تعدد الزوجات؛ فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطا أو منحطين، وإن كان أبوهم راقيا، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات في إصلاح النسل، بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسمى أن يقترن النابغون بالنابغات؛ ليكون أولادهم مثلهم نبوغا أو أنبغ منهم بحكم الجينة الوراثية[21]، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج، فنكحوا ما طاب لهم، والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغا مثل نبوغه؛ فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي، وإن الخير يطلب عند وجوه الحسان، لذلك قال عز وجل: )فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع(، ولم يقل: “فانكحوا من النساء”[22].
قوله تعالى: )مثنى وثلاث ورباع( فيه إحكام مبدع راعى الحكمة من التعدد أصلا؛ إذ فيه إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث؛ فكأنه أراد ألا يتجاوز الذي قل نبوغه الاقتران باثنتين، وألا يتجاوز الذي توسط نبوغه الاقتران بثلاث، وأن يحل للذي نبوغه أعلى من الأولين الاقتران بأربع.
وأما الخائفون ألا يعدلوا – لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم – فيجب ألا يتجاوزوا الواحدة، ويبقى من فاق نبوغه كل نبوغ، وهو محمد – صلى الله عليه وسلم – ليختاره الله؛ لوفور حكمته، ويخصه بالاقتران بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن[23].
قوله عز وجل: )أو ما ملكت أيمانكم( له وجهان تحتملهما الآية، هما:
أن يكون العطف على “واحدة”؛ وعليه فقد خير بينه وبين الزوجة الواحدة باعتبار التعدد.
أن يكون العطف على قوله عز وجل: )فانكحوا ما طاب لكم(؛ وعليه يكون تخييرا بين التزوج، والتسري بحسب أحوال الناس.
بقي أن نشير إلى مدى تناسق الآية كلها مع ما سبقها من آيات، ومدى تناسقها مع نفسها؛ صدرا وعجزا، شرطا وجوابا، لنرى “اشتمال هذه الآية على كلمة “اليتامى” والذي يؤذن بمناسبتها للآية السابقة، بيد أن الأمر بنكاح النساء، وذكر عددهن في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى، مما خفي وجهه على الكثيرين؛ إذ لا تظهر مناسبة – أي ملازمة – بين الشرط وجوابه. واعلم أن في الآية إيجازا بديعا؛ إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط، وقوبل بلفظ النساء في الجزاء؛ فعلم السامع أن اليتامى هنا جمع يتيمة، وهي صنف من اليتامى في قوله السابق: )وآتوا اليتامى أموالهم( (النساء: ٢)، وعلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء وبين الأمر بنكاح النساء ارتباطا لا محالة، وإلا لكان الشرط عبثا”[24].
(*) www.islameyat.com.
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج4، ص2000، 2001.
[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج4، ص340، 341.
[3]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ج3، ص20، 21.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج4، ص226.
[5]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص157.
[6]. يستريث: يمهل، وهو استفعل من الريث؛ أي: الإبطاء.
[7] انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص155: 158.
[8]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م ،ج2، ص155.
[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص16.
[10]. البدرة: كيس فيه مقدار من المال يقدم في العطايا.
[11]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ج3، ص20، 21.
[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص18.
[13]. الإعجاز البياني للقرآن الكريم، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1984م، ص206، 207.
[14]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص17 بتصرف يسير.
[15]. الإعجاز البياني للقرآن الكريم، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1984م، ص207.
[16]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج4، ص225 بتصرف يسير.
[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (4825).
[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص12.
[19]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج2، ص154، 155.
[20]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج4، ص224.
[21]. الجينة الوراثية: جزئيات مادية دقيقة توجد في صبغيات الخلية، وإليها تعزى الصفات المميزة للكائن الحي.
[22]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ج3، ص24: 26.
[23]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ص26.
[24]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج4، ص227 بتصرف يسير.
توهم تناقض القرآن الكريم في المطابقة بين الفعل وفاعله في النوع
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم لم يراع المطابقة بين الفعل وفاعله في النوع، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)( (الأعراف)، وقوله عز وجل: )ومنهم من حقت عليه الضلالة( (النحل: ٣٦). وكذلك قوله عز وجل: )وأخذ الذين ظلموا الصيحة( (هود: ٦٧)، وقوله عز وجل: )وأخذت الذين ظلموا الصيحة( (هود: ٩٤)، والصواب في ظنهم أن يلتزم التأنيث فيقال: “حقت”، و “أخذت” في الموضعين **.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الفعل أن يوافق فاعله، ويطابقه في النوع. ومن لا يحسن قواعد اللغة العربية يتوهم أن في قوله عز وجل: )فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة( وقوله عز وجل: )ومنهم من حقت عليه الضلالة( اضطرابا؛ إذ جاء الفعل في الآية الأولى مذكرا “حق”، وجاء في الآية الثانية مؤنثا “حقت”، مع أن الفاعل فيهما واحد، والصواب في ظنهم أن يقال: “وفريقا حقت عليهم الضلالة”. وكذلك قوله عز وجل: )وأخذ الذين ظلموا الصيحة( (هود:67)، وقوله عز وجل: )وأخذت الذين ظلموا الصيحة( (هود:94)، والصواب في ظنهم أن يقال في الآية الأولى: “وأخذت الذين ظلموا الصيحة”.
وهذا التوهم مدفوع بما يأتي:
1) تقول القاعدة النحوية: إن تأنيث الفعل مع فاعله المؤنث جائز إذا كان الفاعل:
حقيقي التأنيث، مفصولا عن فاعله بفاصل.
اسما ظاهرا مجازي التأنيث.
جمع تكسير.
وقد اجتمع في الآيات المعترض بها وجهان من هذه الوجوه.
2) قيل في قوله عز وجل: )حق عليهم الضلالة( (الأعراف: ٣٠): إن الكلام على تقدير مضاف؛ أي “حق عليهم كلمة الضلالة”. وقيل: إن في الآية حملا على المعنى؛ إذ الضلالة في الآية بمعنى العذاب.
التفصيل:
أولا. إن ترك تأنيث الفعل مع فاعله المؤنث جائز إذا كان الفاعل:
حقيقي التأنيث، مفصولا عن فعله بفاصل، مثل: آمنت بالرسول – صلى الله عليه وسلم – خديجة – رضي الله عنها – ويجوز فيها: آمن بالرسول – صلى الله عليه وسلم – خديجة.
ظاهرا مجازي التأنيث، مثل: وقعت حرب بين تغلب وبكر، وبقيت زمنا طويلا، ويجوز فيها: وقع حرب بين تغلب وبكر، وبقيت زمنا طويلا.
جمع تكسير، مثل: جالت الأبطال في الميدان ويجوز فيها: جال الأبطال في الميدان، فصح مجيء الفعل مذكرا في الآيات لأمرين:
أولهما: أن الفاعل ظاهر، وهو مجازي التأنيث.
ثانيهما: أن الفعل وقع بينه وبين الفاعل فاصل، وهو المفعول به “الذين”، والجار والمجرور “عليه”.
وقد جاء في الشعر العربي ما يؤيد ذلك؛ إذ يقول الشاعر:
إن امرأ غره منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
فقد ذكر الشاعر الفعل “غره” مع الفاعل المؤنث “واحدة”، وكان من المتوقع أن تأتي “غرته”، لكن جاز ذاك للفصل بين الفعل والفاعل بشبه الجملة “منكن”.
وعليه فلا يوجد ثمة تعارض بين الآيتين؛ إذ الفاعل في الآيتين مجازي التأنيث ومفصول عن الفعل بفاصل هو المفعول به، ومن ثم يجوز فيه التذكير والتأنيث طبقا للقاعدة النحوية.
ثانيا. إن ترك تأنيث فعل الفاعل المؤنث – كما في قوله عز وجل: )حق عليهم الضلالة( – له أكثر من سبب في القرآن الكريم، فإذا قصدنا باللفظ المؤنث معنى المذكر جاز تذكير الفعل، وهو ما يعرف بالحمل على المعنى، ففي قوله عز وجل: )فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)( (الأعراف)، وقوله عز وجل: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36)( (النحل)، ونلحظ أنه في كل مرة أتى فيها الفعل “حق” مع الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب؛ لأن الكلام في الآخرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: )كما بدأكم تعودون( (الأعراف)، وليس في الآخرة ضلالة بمعناها؛ لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة. وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا، فلما كانت الضلالة بمعناها الحقيقي، أنث الفعل “حق” مع فاعله “الضلالة” في قوله تعالى: )فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة(.
كما أن اللغة تقول بجواز المخالفة بين الفعل وفاعله تذكيرا وتأنيثا، إذا فصل بينهما بفاصل، وذلك بخلاف ما إذا باشر الفعل فاعله المؤنث الحقيقي بدون فاصل، فالمطابقة هنا لا خلاف عليها، والآية التي نحن بصددها من قبيل الفصل والوصل.
وقد حكى الألوسي في تفسيره أن الفعل “حق” لم تلحق به تاء التأنيث في سورة الأعراف للفصل، والكلام على تقدير مضاف محذوف عند بعضهم: أي حق عليهم كلمة الضلالة، وهي قوله عز وجل: )ضلوا( (الأعراف:37) [1]، وعليه فهل نلتمس العذر لمن توهم هذا الخطأ، وقد خفي عليه أيسر قواعد العربية، وهو جواز تأنيث الفعل وتذكيره إذا كان الفاعل مؤنثا مجازيا، أو فصل بين الفعل وفاعله بفاصل؟!
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
لماذا جاء إسناد “الهدى” إلى الله، ولم يأت مقابله “وفريقا أضل”؟
يرد صاحب “البحر المحيط” على هذا السؤال فيقول: جاء إسناد “الهدى” إلى الله، ولم يأت مقابله “وفريقا أضل”؛ لأن السياق سياق نهي عن أن يفتنه الشيطان، وإخبار أن الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وأن الله لا يأمر بالفحشاء، وأمر بالقسط وإقامة الصلاة، فناسب هذا السياق أن لا يسند إليه – عز وجل – الضلال، وإن كان – عز وجل – هو الهادي وفاعل الضلالة، فكذلك عدل إلى قوله: )حق عليهم الضلالة( (الأعراف:٣٠) [2].
وفي الآية نكتة لطيفة، وهي أن الله – عز وجل – قدم في قوله عز وجل: )كما بدأكم تعودون( (الأعراف)، المشبه به على المشبه؛ لينبه العاقل إلى أن قضاء الشئون لا يخالف القدر والعلم الأزلي مطلقا.
(*) www.quartos.org.lb.
[1]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسيره الآية.
[2]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
توهم أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة فنصب الفاعل ورفع المفعول به
مضمون الشبهة:
زعم بعض المشككين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة فنصب الفاعل ورفع المفعول به في قوله عز وجل: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن( (البقرة: ١٢٤) **، فـ “إبراهيم” في ظنهم يقع فاعلا وقد ذكره القرآن منصوبا، و “ربه” عندهم مفعول به وقد جاء مرفوعا.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في ترتيب مكونات الجملة الفعلية أن يأتي الفعل أولا ثم الفاعل ثم المفعول به.
وغير المتأمل لقوله تعالى: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن( (البقرة:١٢٤) قد يتوهم أن القرآن الكريم قد نصب الفاعل، ورفع المفعول به في الآية؛ بناء على الترتيب الأصلي لعناصر الجملة الفعلية، وبهذا أثيرت هذه الشبهة، وكان الصواب في زعمهم أن يقال: وإذ ابتلى إبراهيم ربه، برفع “إبراهيم” ونصب “ربه”، ولكن التعبير القرآني جاء مخالفا لتوهمهم، فنصب “إبراهيم”، ورفع “ربه”.
والحقيقة أنه لا توجد أي مخالفة للاستعمال اللغوي، ولا للقواعد النحوية في نصب لفظة “إبراهيم” ورفع لفظة “ربه” في الآية الكريمة، بل ذلك هو الواجب الذي توجبه قواعد اللغة والنحو، كما أن المعنى لا يقتضي إلا ذلك؛ إذ:
1) إن “إبراهيم” في الآية منصوب وعلامة نصبه الفتحة؛ لأنه مفعول به مقدم، أما “ربه” مرفوع وعلامة رفعه الضمة؛ لأنه فاعل مؤخر، وهذا الإعراب يؤكده المعنى، بل إن المعنى لا يحتمل غيره؛ لأن الخالق هو الذي يختبر عبده ويبتليه.
2) إن القواعد النحوية توجب تقديم المفعول على الفاعل، إذا كان الفاعل مضافا إلى ضمير يعود على المفعول به، كما في الآية الكريمة؛ لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة؛ مما يعد إخلالا بقواعد اللغة العربية.
التفصيل:
أولا. إن ما جاء في الآية الكريمة من نصب “إبراهيم” ورفع “ربه”، موافق للاستعمال اللغوي، والقواعد النحوية؛ وذلك لأن الإعراب الصحيح هو أن “إبراهيم” مفعول به مقدم، وليس فاعلا كما يظنون؛ لهذا استحق النصب، أما “ربه” ففاعل مؤخر، وليس مفعولا به كما يظنون؛ لهذا استحق الرفع، والهاء ضمير مضاف إلى “رب”؛ ومن ثم فلا يوجد أي خطأ في القرآن الكريم، ويؤكد هذا ويعززه سياق الآية نفسه، فهي تتحدث عن ابتلاء الله لإبراهيم بأوامر ونواه، “والابتلاء هو الامتحان والاختبار، ومعناه أمر وتعبد”[1]، ومعلوم بالضرورة أن الخالق هو الذي يختبر ويأمر عبده وليس العكس؛ ومن ثم يبطل الزعم بخطأ القرآن الكريم ومخالفته للقواعد النحوية.
ثانيا. إن من القواعد النحوية المشهورة والمسلم بها: وجوب تقدم المفعول به على الفاعل إذا اتصل بالفاعل ضمير يرجع على المفعول به؛ وذلك لئلا يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة[2]، وهذا الحتم اللغوي عند جمهور النحاة هو ما راعته الآية الكريمة في تقديم المفعول به “إبراهيم” على الفاعل “رب”؛ إذ إن قول: “إذ ابتلى ربه إبراهيم” غير جائز في العربية. كما أن تقديم المفعول به على الفاعل في هذه الآية فيه سر بياني بديع، وهو أن تقديم المفعول به هنا يفيد الاهتمام بالمقدم؛ وذلك لأن المقصود من ذكر القصة هو تشريف إبراهيم – عليه السلام – بإضافة اسم الرب إلى اسمه، مع مراعاة الإيجاز، فلذلك لم يقل: “وإذ ابتلى الله إبراهيم”[3]؛ لأن القصة مسوقة أساسا لدفع المخاطبين”اليهود ومشركي العرب” إلى اتباع إبراهيم – عليه السلام – في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
من النظرة الإجمالية لهذه الآية الكريمة يتضح لنا فن طريف من الفنون البلاغية لدى العرب يقال له: فن المراجعة، وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرت بينه وبين محاوره، أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة، وأبلغ إشارة، وأرشق محاورة، مع عذوبة اللفظ وجزالته، وسهولة السبك، فانظر إلى هذه الآية كيف جمعت معاني الكلام من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد[4].
إذا نظرنا لقوله تعالى: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه( (البقرة: ١٢٤)نجد أنه حذف متعلق “إذ” الظرفية؛ لأنه معلوم من السياق، والتقدير: اذكر يا محمد لأهل الكتاب ولقومك. والإيجاز بالحذف من الأساليب البلاغية البديعة عند العرب، وكذلك إذا نظرنا للتعبير عن البلاء بـ “الابتلاء” بصيغة الافتعال، وهي صيغة تدل على المبالغة في البلاء والاختبار، وهذا ما يليق بمقام الأنبياء عليهم السلام.
أما تقديم كلمة “إبراهيم” وهي مفعول به، فكما قلنا؛ لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة الاسم “رب” إلى اسمه[5]، ولبيان الاهتمام به – عليه السلام – لأن القصة مسوقة أساسا لدفع الناس للاقتداء به.
أما إيثار لفظة “رب” على ألفاظ أخرى تدل على الذات الإلهية؛ فهذا لأن الرب معناه المربي الذي يأخذ من يربيه بأساليب تؤهله إلى الكمال المطلوب منه[6]. ولا يمكن إيصال هذا المعنى إلا بهذا اللفظ.
أما قوله: )فأتمهن( فقد عبرت “كلمات” عن كل الأوامر والنواهي التي كلف بها إبراهيم – عليه السلام – وهذا أسلوب دقيق؛ إذ ليس الغرض هنا تفصيل شريعة إبراهيم – عليه السلام – وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم عليه السلام[7].
أما قوله: )فأتمهن( فقد جيء فيه بالفاء للدلالة على سرعة الامتثال؛ وذلك من شدة العزم، وكذا إذا نظرنا لقوله تعالى: )قال إني جاعلك للناس إماما( فقد ذكر الله تعالى في وعده لإبراهيم قوله: )جاعلك( اسم الفاعل، ولم يذكر “سأجعلك”؛ لأن هذا الوعد من الله القادر على كل شيء، والعالم بكل شيء، فكأنه قد جعله إماما بالفعل؛ حيث لم يربط هذا الوعد بزمن.
والمراد بـ “الإمام” هنا “الرسول” وإنما عدل إلى استخدام كلمة إمام؛ ليدل على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء، فإن إبراهيم – عليه السلام – رحل إلى آفاق كثيرة، فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق، وإلى الشام، والحجاز، ومصر، وكان في جميع منازله محل التبجيل، ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء، ولعل هذا السبب هو السر في ذكره لفظة “الناس”، ولم يقل أمتك أو ذريتك[8].
أما قوله تعالى: )قال ومن ذريتي( ففيه ملمح إعجازي آخر يضاف إلى غيره من الملامح البلاغية، فقد قال إبراهيم عليه السلام: )ومن ذريتي(، وهذا أدب منه عليه السلام؛ لأنه لم يسأل ما هو مستحيل عادة؛ لأنه يعلم أن حكمة الله في هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل من يصلح أن يقتدى به أئمة وأنبياء.
وأما قوله تعالى: )لا ينال عهدي الظالمين( ففيه سر بياني عجيب؛ حيث ذكر تعالى الصنف الذي لا تتحقق فيه الدعوة “الظالمين”، ولم يذكر الصنف الآخر الذي تتحقق فيه الدعوة، وذلك إيجاز بليغ؛ لأن المقصد من ذكر هذا الصنف هو التعريض بأهل الكتاب، ومشركي العرب، الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم – عليه السلام – وذلك كما قال تعالى: )إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)( (آل عمران) هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ لأن الله تعالى يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح؛ فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين[9]؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
هذه بعض الملامح البلاغية في الآية الكريمة، والتي لم يزل فيها العديد والعديد من الملامح البلاغية والأسرار البيانية، مما لم نذكره، ولم نعطه حقه من البيان؛ لأننا نتحدث عن كتاب لا يبلى جديده، ولا تنتهي عجائبه، والعجب كل العجب ممن يلقون بالشبهات جزافا دون علم أو روية أو استفهام عما يجهلون، فيتهمون القرآن بالخطأ، وهو أبعد ما يكون عن هذا التوهم كما رأينا.
(*) رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص96.
[2]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص204.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص702.
[4]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص179.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص700، 701 بتصرف.
[6]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج1، ص570.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص702 بتصرف يسير.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص704 بتصرف يسير.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص706 بتصرف يسير.
توهم خطأ القرآن الكريم في إسناده فعلا واحدا إلى فاعلين
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم قد أخطأ في قوله عز وجل: )وأسروا النجوى الذين ظلموا( (الأنبياء: ٣)؛ حيث أسند الفعل “أسر” إلى فاعلين: “واو الجماعة” و “الذين”، والصواب في ظنهم حذف “الواو” من “أسروا”؛ فيقال: “وأسر النجوى الذين ظلموا”**.
وجوه إبطال الشبهة:
إن الأصل في الجملة الفعلية أن يكون للفعل فاعل واحد يدل على من قام بالفعل أو من اتصف به.
وغير المتأمل من القارئين لقوله تعالى: )وأسروا النجوى الذين ظلموا( يظن أن للفعل “أسر” في الآية فاعلين؛ الأول الضمير المتصل “واو الجماعة”، والثاني: اسم الموصول “الذين”، ويظن هذا القارئ أن القرآن الكريم قد أتى بفاعلين لفعل واحد، وكان الصواب في ظنهم أن يكون للفعل فاعل واحد.
وهذ الزعم الواهي مردود عليه من وجوه:
1) أن يكون قوله: )الذين ظلموا( بدلا من “الواو” في )وأسروا(.
2) أن يكون قوله: )الذين ظلموا( فاعلا، و “الواو” في )وأسروا( حرف للجمع وليس اسما، وهذا على لغة “أكلوني البراغيث”[1].
3) أن يكون قوله: )الذين ظلموا( منصوبا على الاختصاص، وتقدير الكلام: أعني الذين ظلموا.
التفصيل:
أولا. إن لفظة “الذين” في قوله تعالى: )الذين ظلموا( يجوز أن تعرب بدلا من “الواو” في قوله عز وجل: )وأسروا(، وهو عائد على “الناس” المتقدم ذكرهم في قوله تعالى: )اقترب للناس حسابهم( (الأنبياء: ١)، قال المبرد: وهو كقولك: إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله، فلفظة “بنو” بدل من “الواو” في “انطلقوا”، وإنما أعربت “الذين” بدلا؛ إذ هم المقصودون من النجوى؛ ولما في الموصول من الإيماء إلى أن سبب تناجيهم هو كفرهم وظلمهم أنفسهم؛ وللتنبيه على قبح ما هم متصفون به[2].
ثانيا. أن تكون لفظة “الذين” في قوله تعالى: )الذين ظلموا( فاعلا على لغة “أكلوني البراغيث”، و “الواو” في “أسروا” علامة جمع.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة؛ ملائكة بالليل وملائكة بالنهار»[3].
وحكى البصريون عن “طيء”، وحكى بعضهم عن أزد شنوءة نحو: “ضربوني قومك” و “ضربنني نسوتك” و “ضرباني أخواك”، وفي الحديث: «أومخرجي هم»[4]؟ وقال عمرو بن ملقط الجاهلي:
ألفيتا عيناك عند القفا
أولى فأولى لك ذو واقية
فـ “ألفيتا” بالبناء للمجهول فعل ماض، و “عيناك” نائب الفاعل، فألحق الفعل علامة التثنية مع إسناده إلى الظاهر، ونائب الفاعل “عيناك” كالفاعل[5].
ثالثا. أن يكون قوله تعالى: )الذين ظلموا( منصوبا على الاختصاص، ويكون تقدير الكلام: أعنى”الذين ظلموا” [6].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
أول ما يشرق علينا في هذه الآية من أسرار النظم القرآني ذلك الأسلوب البلاغي الرائع ألا وهو “الاستئناف البلاغي”، وضابط هذا الأسلوب أن تتقدم جملة من الكلام تثير في ذهن السامع تساؤلا لطيفا، يدب في نفسه؛ فتأتي جملة أخرى تجيب على هذا التساؤل الذي ليس له صورة في الكلام، بل يبرق كالشعاع في ذهن السامع، ومن أمثلته في القرآن قولـه عـز وجـل: )وقضينـا إليـه ذلك الأمـر أن دابـر هــؤلاء مقطــوع مصبحين (66)( (الحجر)، فجملة )أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين( جواب على سؤال تقديره: ما ذلك الأمر الذي قضاه الله؟
وهذه الآية جرت على نسق الاستئناف البلاغي؛ لأن جملة )وأسروا النجوى( تثير في النفس التساؤل نفسه: من هم الذين أسروا النجوى؟ فكان الجواب )الذين ظلموا(.
وفى الآية أيضا ما يسمى عند البلاغيين “الإضمار على شريطة التفسير”، وضابط هذا الأسلوب هو أن تأتي بالضمير أولا ثم تفسره بعد ذلك بذكر مرجعه، ومن أمثلته شعرا قول الشاعر:
هي الدنيا تقول بملء فيها
حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام
فقولي مضحك والفعل مــبكي
وتخريج الآية على ذلك سائغ وذائع، فقد أتى بالضمير أولا )وأسروا(، ثم فسره ثانيا هكذا: )الذين ظلموا([7].
ومن ذلك أيضا الاستفهام، وغرضه في قوله تعالى: )هل هذا إلا بشر مثلكم( إنكارى يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتقدير الكلام: كيف تؤمنون بنبوته وهو واحد منكم[8].
ومثله في الغرض الاستفهام في قوله: )أفتأتون السحر( فهو غرض إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم. والمعنى: أنه لما كان بشرا مثلكم فما تصديقكم لنبوءته إلا من أثر سحر سحركم به، فتأتون السحر بتصديقكم بما يدعوكم إليه.
ومن بلاغة السياق إطلاق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز، أو الاستعارة؛ لأن الإتيان لشيء يقتضى الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي – صلى الله عليه وسلم – لسماع دعوته؛ فجعلوه إتيانا؛ لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحرا فنهوا من ناجوهم عن الاستماع إليه، وهذا كقوله تعالى: )وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (26)( (فصلت).
وقوله: )وأنتم تبصرون(3)( (الأنبياء) في موضع الحال، أي: تأتون السحر وبصركم سليم؟ وأرادوا به العلم البدهي؛ فعبروا عنه بالبصر؛ لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير[9].
وبعد هذا البيان لا يحق لمدع أن يتوهم في الآية نقصا أو تجاوزا، وكيف تجانب الصواب، وقد جاءت تنزيلا من لدن حكيم حميد؟!
(*) تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت. رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م. الإعجاز اللغوي في القرآن، زكريا بطرس، موقع الكلمة.
www.ebnmaryam.com. www.alkaema.net. www.saaid.net.
[1]. لغة “أكلوني البراغيث”: هي لغة طيء وأزد شنوءة، وهم يلحقون الفعل علامات التثنية والجمع، مع وجود الفاعل الظاهر المثنى والجمع.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص268، 269.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر (530)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (1464).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة العلق (4670)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (422).
[5]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج6، ص283.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج11، ص269.
[7]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير هذه الآية.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج17، ص13.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص14.
توهم خطأ القرآن الكريم في إعادة ضمير الجمع على مثنى
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم جانب الصواب، فأعاد ضمير الجمع على المثنى، وذلك في قوله عز وجل: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( (الحج: ١٩)، والصواب في زعمهم أن يقال: “هذان خصمان اختصما”**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في الضمير أن يوافق الاسم الذي يعود عليه ويطابقه في نوعه: التذكير والتأنيث، وفي عدده: الإفراد والتثنية والجمع.
ومن لا يتأمل قوله تعالى: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( (الحج: ١٩)، يظن أن في الآية تناقضا واختلافا بين الضمير والاسم الذي يعود عليه؛ فالضمير “واو الجماعة” للجمع، ويعود على المثنى وهو “خصمان”، وهذا مخالف لقواعد اللغة، والصواب في زعمهم أن يقال: “هذان خصمان اختصما”.
ويمكن الرد على ذلك بما يلي:
المثنى الحقيقي لفظا ومعنى في اللغة العربية: ما كان واحده فردا في الوجود، وهذا القسم إذا وصف أو استؤنف الحديث عنه وجب تثنية الضمير العائد عليه.
المثنى لفظا لا معنى، وضابطه ما كان واحده فردا من عدة، وليس فردا واحدا، فهذا القسم إذا وصف أو استؤنف الحديث عنه؛ جاز فيه مراعاة اللفظ أو مراعاة جانب المعنى، وبالنسبة للآية فقد روعي فيها جانب المعنى؛ فأعاد الضمير جمعا على “خصمان” المثنى اللفظي.
التفصيل:
المثنى في اللغة نوعان: مثنى في اللفظ والمعنى، ومثنى في اللفظ فقط.
فالأول. المثنى الحقيقي: وهو ما كان لفظا ومعنى، نحو: رجلان، وهذا لا يجوز أن يستأنف الحديث عنه إلا بصيغة المثنى، وذلك في مثل قوله عز وجل: )قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما( (المائدة: ٢٣)، فلوحظ أن الله تعالى استأنف الكلام على الرجلين بصيغة المثنى، ولم يستأنفه بصيغة الجمـع، وليــس المثنـى في الآيــة الكريمـة: )هـذان خصمان اختصموا( من هذا النوع.
والثاني. المثنى لفظا لا معنى – وهو بيت القصيد في هذه الشبهة – وقد تعلق بكلمة الخصم التي ثنيت؛ ذلك أنها تطلق على الواحد وعلى الجماعة إذا اتحدت الخصومة، كما في قوله تعالى: )وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21)( (ص).
وفي آية سورة الحج: )هذان خصمان اختصموا(؛ لمراعاة تثنية اللفظ أتى باسم الإشارة الموضوع للمثنى “هذان”، ولمراعاة العدد أتى بضمير الجماعة في “اختصموا”[1].
قال الرازي: احتج من قال: أقل الجمع اثنان بقوله تعالى: )هذان خصمان اختصموا(، والجواب: “الخصم” صفة وصف بها الفوج، أو الفريق؛ فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، فقوله: “هذان” إشارة للفظ، و “اختصموا” إشارة للمعنى، كقوله تعالى: )ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا( (محمد: ١٦)[2].
قال الألوسي: وذكر أن لفظ “الخصم” في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد المذكر وغيره، وقال أبو البقاء: أكثر الاستعمال توحيده؛ فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء[3].
وقال الشعراوي: كلمة “خصم” من الألفاظ التي يستوي فيها المفرد، والمثنى، والجمع، وكذلك المذكر والمؤنث، كما في قوله: )وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21)( (ص)، وكذا قوله تعالى: )خصمان بغى بعضنا على بعض( (ص: ٢٢).
والمراد بقوله: )هذان خصمان(، قوله تعالى: )وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب( (الحج: ١٨)، والخصومة تحتاج إلى فصل بين المتخاصمين، والفصل يحتاج إلى شهود، ولكن إذا جاء الفصل من الله تعالى فلن يحتاج إلى شهود )وكفى بالله شهيدا (28)( (الفتح) [4].
هذا فضلا عن أن المثنى الحقيقي واحده فرد في الوجود، كما ألمحنا آنفا.
وعلى هذا فإنه لا يوجد أي تجاوز في الآية السابقة، بل يصح تماما عود ضمير الجمع على المثنى اللفظي، وهذا مما لا تنكره العربية ولا تأباه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في التحول عن التثنية إلى الجمع في قوله: )هذان خصمان اختصموا في ربهم( سر بلاغي؛ حيث أسند فعل الاختصام إلى ضمير الجماعة “اختصموا”، لا إلى ضمير التثنية “اختصما” الملائم لظاهر السياق.
ولكـي نستوضـح سـر هذا العـدول في الآيـة الكريمـة نود أولا أن نلاحظ أن هذه الآية مسوقـة لبيـان مصيـر كـل مـن الخصميـن – المؤمنين والكفار – يوم القيامة: )فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20)( (الحج)، )إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) ( (الحج).
وفي آية سابقة على تلك الآية يخبرنا الله – عز وجل – بأن يوم القيامة هو موعد الفصل بين الأديان، وأصحاب الملل المختلفة: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد (17)( (الحج).
وقد جاء فعل “الاختصام” – الذي تمثل فيه العدول عن التثنية إلى الجمع – بصيغة الماضي “اختصموا”، مما يدل على أن الخصومة بين الخصمين قد حدثت قبل زمن الإشارة إليهما “هذان خصمان”.
إن “الخصمين” المشار إليهما في الآية الكريمة هما في الأصل تلك الفرق أو الملل المختلفة التي حددتها الآية السابقة عليها؛ وعلى ذلك فإن التثنية في “هذان خصمان” هي – والله أعلم – للدلالة على أن تلك الفرق سوف تستحيل يوم القيامة – بعد أن يفصل الله بينها – إلى فريقين؛ مؤمنين وكفار فحسب.
أما الجمع في “اختصموا” فمرده إلى الحال التي كانت عليها تلك الفرق في الدنيا، من تعدد التسميات، واختلاف المذاهب، وتضارب المسالك في قضية العقيدة وتصور الألوهية؛ وعليه فلا يجوز الإخبار عن الخصومة والاختلاف بين تلك الطوائف المتعددة بطريق التثنية “اختصما”[5].
هناك استعارة تمثيلية في قوله عز وجل: )قطعت لهم ثياب من نار(، والإرداف بقوله: )يصب من فوق رءوسهم الحميم(، فلا نكاد نلمح موطنا بلاغيا في إشارة من إشارات النظم الحكيم المعجز إلا ويلاحقنا آخر؛ ففي قوله تعالى: )قطعت لهم ثياب من نار( استعارة تمثيلية؛ حيث جعل تقطيع الثياب وتفصيلها على قدود الكفار بمثابة الإحاطة بهم، مع التهكم الذي ينطوي عليه، أي: أنها تشتملهم وتحتويهم كما تشتمل الثياب لابسها وتحتويه، أما الروعة فهي كامنة في قوله: )يصب من فوق رءوسهم الحميم(، وهو ما يسمى بـ “الإرداف”؛ فإن الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، وأفرد الرءوس بالذكر بقوله: “يصب”[6].
وقوله عز وجل: )فالذين كفروا(، يعنى من الفرق الذين تقدم ذكرهم. )قطعت لهم ثياب من نار(، أي: خيطت وسويت، وشبهت النار بالثياب؛ لأنها لباس لهم كالثياب، وقوله: قطعت، أي: تقطع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي؛ لأن ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق.
وعلى هذا فالخطأ ليس في القرآن، إنما فيمن قصر فهمهم عن إدراك بلاغة القرآن.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
www.saaid.net. . www.islameyat.com. www.ebnmaryam.com
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص229.
[2]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[3]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[4]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج16، ص9756.
[5]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص99، 100.
[6]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج6، ص417.
توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين النعت والمنعوت في العدد
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم جانب الصواب في عدم المطابقة بين النعت والمنعوت في قوله عز وجل: )قال فما بال القرون الأولى (51)( (طه)**؛ حيث جاءت كلمة “الأولى” – مؤنث الأول – وصفا لكلمة “القرون” الجمع، ويتساءلون: ألا يعد ذلك خطأ في المطابقة بين النعت ومنعوته؟!
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة وقواعدها أن يطابق النعت المفرد منعوته في النوع: التذكير والتأنيث، وفي العدد: المفرد أو المثنى أو الجمع، وغير المتدبر للغة القرآن والذي لم يفهم قواعدها النحوية يظن في قوله عز وجل: )قال فما بال القرون الأولى(، عدم تطابق بين النعت ومنعوته؛ حيث إن النعت جاء مفردا مؤنثا، في حين أن المنعوت جاء جمعا لمفرد مذكر، وهذا يخالف قواعد اللغة، والصواب في زعمهم أن يقال: “القرون الأوائل”؛ حتى يطابق النعت منعوته في نوعه وعدده.
وهذا الزعم مردود عليه بما يأتي:
ما يراه أهل اللغة من أن المنعوت إذا جاء جمع تكسير لغير العاقل – كما في الآية الكريمة – جاز في نعته المطابقة في العدد أو عدم المطابقة، فيجوز أن يقال: “القرون الأولى”، أو “القرون الأوليات”، أو “القرون الأوائل” على حد سواء؛ ومن ثم فلا وجود للخطأ في القرآن الكريم.
التفصيل:
يرى أهل اللغة أن المنعوت إذا جاء جمع تكسير لغير العاقل جاز في نعته المطابقة في العدد أو عدم المطابقة[1]، وهذا ما جاء في الآية الكريمة التي معنا؛ حيث جاء المنعوت “القرون” جمع تكسير لغير العاقل، فيجوز أن يجيء نعته مفردا؛ كما ذكر في الآية الكريمة: )القرون الأولى(، وجاز أن يجيء جمعا: “القرون الأوليات”، وهذا من الأمور الشائعة في الاستعمال اللغوي، فيجوز أن نقول: “هذه جبال عاليات”، مطابقين العدد، ويجوز أن نقول: “هذه جبال عالية” بغير مطابقة.
واستخدم القرآن الكريم كلا الأسلوبين في قوله عز وجل: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: ٨٠)؛ حيث جاء النعت مخالفا للمنعوت في العدد، وجاء مطابقا له في قوله: )واذكروا الله في أيام معدودات( (البقرة: ٢٠٣)، ومن ثم فلا يوجد في قوله سبحانه وتعالى: )القرون الأولى( أية مخالفة للقواعد النحوية؛ لأن مجيء النعت مفردا إذا كان المنعوت جمع تكسير لغير العاقل من الأمور الجائزة والشائعة في الاستعمال اللغوي.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
إن أول ما يلاحظ في هذه الآية الكريمة: )قال فما بال القرون الأولى( (طه) هو الإيجاز بالحذف، وهو من الأساليب البلاغية عند العرب، حيث لم يذكر المتكلم والمخاطب في أول الآية، واكتفى بقوله: قال؛ وذلك لدلالة السياق عليهما، فلم يقل مثلا: “قال فرعون لموسى”، ولا شك أن الإيجاز من الأساليب البلاغية البديعة في لغة العرب.
أما كلمة “بال” هنا فهي كلمة دقيقة المعنى، تطلق على الحال المبهم، ومصدره: البالة – بفتح اللام مخففة – وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغية[2]؛ حيث جمعت هذه الكلمة كل ما يخص الأمم السابقة من أعمال وأحوال في الدنيا، وكذلك مصائرهم وما آلوا إليه بعد هلاكهم.
وفي الآية إنشاء طلبي نوعه الاستفهام؛ فقد سأل فرعون عن أمر مغيب، مهما أخبر به يمكنه إنكاره قصدا للمغالطة؛ لذلك لم يجبه موسى عليه إلا بقوله: )قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى (52)( (طه) [3].
“الهاء” في قوله: “علمها” كناية عن يوم القيامة؛ لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك.
وهكذا يتبين لنا مدى دقة القرآن الكريم في تعبيره عن المعنى، ومن ثم فلا وجه لمن يتوهم وجود الخطأ اللغوي في القرآن الكريم.
(*). www.Marefa.org
[1]. دور التوابع في الجملة: فهم وتحليل، د. أحمد كشك، دار الهاني للطباعة، القاهرة، د. ت، ص24.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج16، ص235 بتصرف يسير.
[3]. البديع في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 1422هـ/ 2001م، ص125.
توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين الحال وصاحبها في النوع
مضمون الشبهة:
يزعم بعض الواهمين أن القرآن الكريم جانب الصواب في قوله عز وجل: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( (الأنعام: ٦) **؛ حيث جاءت كلمة “مدرارا” مذكرة – وهي الحال – رغم أن صاحبها مؤنث وهو “السماء”، والصواب في ظنهم أن يقال: “مدرارة”.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الحال المفردة أن تطابق صاحبها، وتوافقه في التذكير أو التأنيث، ومن لا يحسن اللغة وقواعدها إذا قرأ قوله تعالى: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( يظن أن في الآية مخالفة بين الحال وصاحبها في النوع: التذكير أو التأنيث؛ حيث أتى بقوله: “مدرارا” حالا مذكرة لـ “السماء” وهي مؤنث، وكان الصواب في زعمهم أن يأتي بحال مؤنثة للاسم المؤنث؛ فيقال: “وأرسلنا السماء عليهم مدرارة”؛ لتتحقق المطابقة بين الحال وصاحبها في التأنيث.
وهذا الزعم مردود من وجوه:
1) أن كلمة “السماء” اسم من أسماء المطر، أو هي مجاز مرسل أريد به المطر الكثير، وعلاقته المحلية، وعلى هذا فقد جاءت الحال مذكرة؛ مراعاة لمعنى المطر، وهو مذكر.
2) أن كلمة “مدرارا” – على وزن مفعال – صيغة مبالغة تدل على الكثرة يستوي فيها المذكر والمؤنث.
3) أن الآية على حذف مضاف، والتقدير: “وأرسلنا مطر السماء عليهم مدرارا”، وعليه فإن الحال وصفت الاسم المذكر المحذوف.
التفصيل:
أولا. إن المتأمل في قوله تعالى: )وأرسلنا السماء عليهم مدرارا( (الأنعام: ٦) يجد أنه اشتمل على مجاز لغوي، أو مجاز مرسل أريد به المطر الكثير، فقد اشتهر عند علماء البيان أن “السماء” بمعنى المطر مجاز مرسل علاقته المحلية.
فقد قال ابن عاشور: و “السماء” من أسماء المطر، كما في قول زيد بن خالد: «صلى لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على إثر سماء[1]،»، أي: عقب مطر وهو المراد هنا؛ لأنه المناسب لقوله: )وأرسلنا( بخلافه في نحو قوله: )وأنزلنا من السماء ماء( (المؤمنون: ١٨).[2]
فالآية قد احتوت على مجاز مرسل علاقته المحلية، أعطى معنى المطر، وعبر عنه بالسماء؛ لأنه ينزل منها، وقد رمق هذا المجاز الشاعر بقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا [3]
وتقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر[4]. وقد ذكر هذا جل المفسرين، وعليه فالسماء ما دامت بمعنى المطر فقد عبرت عن مذكر، فجاز أن تأتي الحال معها مذكرة، ولا خطأ في ذلك.
ثانيا. إن كلمة “مدرارا” على وزن مفعال، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة ويستوي فيها المذكر والمؤنث. يقول القرطبي في تفسيره: “مدرارا” بناء دال على التكثير؛ كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور، ومئناث للمرأة التي تلد الإناث، يقال: در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة. وانتصب “مدرارا” على الحال[5].
يقول الرازي: “و “المدرار” الكثير الدر، وأصله من قولهم: در اللبن، إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير، فـ “المدرار” يصلح أن يكون من نعت السحاب، ويجوز أن يكون من نعت المطر، يقال: سحاب مدرار: إذا تتابعت أمطاره. ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه. قال مقاتل: “مدرارا”؛ أي: متتابعا مرة بعد أخرى، ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث”[6].
وقد جاء في البحر المحيط: و “مدرارا” على هذا حال من نفس السماء، وقيل: “السماء” هنا السحاب ويوصف بـ “المدرار”، فـ “مدرارا” حال منه. و “مدرارا” يوصف به المذكر والمؤنث، وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامه وقت الحاجة؛ ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان”،[7]وعليه فلا خطأ في وصف السماء بحال مذكرة.
ثالثا. ذكر بعض العلماء أن الآية على حذف مضاف، والتقدير: وأرسلنا مطر السماء عليهم مدرارا، والداعي إلى الحذف هنا هو ما استقر في الأذهان من أن السماء لا ترسل، وعليه فإن الحال وصفت الاسم المذكر المحذوف.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قوله تعالى: )وأرسلنا السماء( أي: المطر، واستعمالها في ذلك مجاز مرسل، وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة، والمجاز في إسناد الإرسال إليها؛ لأن المرسل ماء المطر، وهي مبدأ له، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى؛ لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا.
قوله تعالى: )عليهم مدرارا( أي: غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من “السماء”، والظرف متعلق بـ “أرسلنا”[8].
(*) www.alkalema.us.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (810)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء (240).
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4،ج7،ص139.
[3]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج3، ص67، 68.
[4]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص392.
[6]. مفاتيح الغيب، الرازي، دار الكتب العلمية،بيروت، د. ت، عند تفسير الآية.
[7]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[8]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين الصفة والموصوف في العدد
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( (النور: ٣١) (**) خروجا عن قواعد اللغة العربية؛ حيث استعمل المفرد “طفل” ووصفه باسم موصول للجمع هو “الذين”، والصواب في زعمهم أن يقال: “الأطفال” بصيغة الجمع؛ لأن اسم الموصول الذين يختص بالجمع.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل أن يعرب اسم الموصول صفة لاسم قبله ما لم يكن في أول الكلام، ومتى جاء صفة يجب أن يطابق موصوفه في نوعه: التذكير أو التأنيث، وفي عدده: الإفراد والتثنية والجمع.
ويتوهم بعض من لا يتأمل قواعد اللغة مخالفة بين الاسم الموصول في عدده، والاسم الذي وصف به في قوله عز وجل: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء(؛ وذلك لأنه في ظنهم قد جاء باسم الموصول “الذين” وهو جمع صفة لـ “لطفل” وهو مفرد. والصواب في زعمهم أن يقال: “أو الطفل الذي”، أو أن يقال: “الأطفال الذين”؛ حتى تتحقق المطابقة بين اسم الموصول وموصوفه.
وللغويين والنحويين في الرد على هذه الشبهة كلام فصل نورده فيما يأتي:
أطلق الله كلمة “الطفل” في قوله تعالى عز وجل: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( بصيغة المفرد ووصفه باسم موصول للجمع “الذين”؛ لأنه يريد بهذا الجمع الجنس، أو اشتراك الأطفال في غرائز متعددة، فلا يكاد يلحظ اختلاف بينهم، فكأنهم طفل واحد.
التفصيل:
أطلق الله كلمة “الطفل” في قوله عز وجل: أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( (النور: ٣١) بصيغة المفرد، ووصف باسم موصول للجمع؛ لأنه يريد بهذا الجمع الجنس، أو اشتراك الأطفال في غرائز متعددة، وهذه سمة من سمات اللغة؛ حيث تعبر بالقليل من الألفاظ عن الكثير من المعاني، ومن هذا القبيل أنها تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع، كما نقول هذا قاض عدل، وهذان قاضيان عدل، وهؤلاء قضاة عدل، ولم نقل: عدلان وعدول، فإذا اتحد الوصف في الجميع بدون هوى كان الوصف كالشيء الواحد، فالقضاة لا يحكم أحدهم بمزاجه وهواه بينما يمتنع الآخرون، وإنما الجميع يصدرون عن قانون واحد وميزان واحد. فالعدل واحد، وليس لكل واحد منهم عدل خاص به.
كذلك الحال في )الطفل( مع أن المراد الأطفال، لكن قال “الطفل”؛ لأن غرائزه مشتركة مع الكل، وليس له هوى، فكل الأطفال – إذن – كأنهم طفل واحد حيث لم يتكون لكل منهم فكره الخاص به، الجميع يحب اللهو واللعب، ولا شيء وراء ذلك، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز، وفي الميول.
بدليل أنه إذا كبر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكون لديهم هوى وفكر وميل يقول القرآن عنهم: )وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم( (النور: ٥٩) فنظر هنا إلى الجمع لعدم وجود التوحد في مرحلة الطفولة المبكرة.
ونظير هذا قوله عز وجل: )هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24)( (الذاريات)، فوصف “ضيف” وهي مفرد بالجمع “مكرمين”؛ ذلك لأن ضيف تدل أيضا على الجمع، فالضيف من انضاف على البيت، وله حق والتزامات لا بد أن يقدمها المضيف مما يزيد على حاجة البيت، والضيف في هذه الالتزامات واحد، سواء أكان مفردا أم جماعة؛ لذلك دل بالمفرد على الجمع([1]).
يعضد هذا القول ويدعمه، إذا تأملنا الآيات الأخرى في القرآن الكريم التي ذكرت فيها كلمة “الطفل”، وهي قوله تعالى: )ثم نخرجكم طفلا( (الحج: ٥)، وقوله: )هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا( (غافر: ٦٧)، وكذلك إذا تأملنا الآية التي معنا في قوله: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( (النور: ٣١)؛ حيث إنه استخدم كلمة “الطفل” هنا بدلا من “أطفال” في هذه المواضع؛ لأن لفظة طفل توحي بمعنيين هما “الصغر والقلة”، والملاحظ في سياق هذه الآيات التي ذكرناها آنفا أنها تتحدث عمن هم في مرحلة الطفولة أو الصغر فعلا، ولم يتجاوزوها إلى مرحلة أخرى، كما أن إفراد هذه اللفظة في قوله عز وجل: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( يوحي إلى أن المرأة لا بد ألا تتساهل في إبداء زينتها أمام كل الأطفال؛ ولهذا استخدم “الطفل” التي توحي بالقلة.
ويزيد هذا الرأي وجاهة إذا تأملنا قوله: )وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا( (النور: ٥٩)، فقد استخدم في هذه الآية “الأطفال” التي تدل على الجمع؛ لأن المقصود بها من تجاوزوا تلك المرحلة إلى مرحلة الرجولة أو الكبر، فهؤلاء الذين بلغوا الحلم يجب عليهم الاستئذان([2]).
ومن ثم فمجيء لفظة “الطفل” هنا مفردة قد أجازته قواعد اللغة، وتطلبته أساليب البلاغة العربية، وليس خطأ كما توهم بعضهم.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله تعالى: )ولا يبدين زينتهن( أطلق الحال وأراد المحل، فالمراد بالزينة مواقعها ومواضعها، كالرقبة والصدر وغيرهما، وفي المجاز مبالغة في الأمر بالتستر بإيقاع النهى علي إبداء الزينة، والمراد النهي عن إبداء موضعها، وفي ذلك حث للنساء على أن يحتطن في سترها، ويتقين الله بعدم كشفها.
وفي قوله تعالى: )وليضربن بخمرهن على جيوبهن( إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواضع الزينة، فإن إرسال الخمر على الجيوب فيه ستر للنحور والصدور، واستعمال الضرب في الإرسال والإسدال استعارة تشعر بالقوة والشدة في إرسال الخمر، حتى تستر ما تحتها تمام الستر.
في قوله عز وجل: )غير أولي الإربة( (النور: ٣١) كناية عن عدم الرغبة الجنسية، وعدم الميل إلى الشهوة والتفكير فيها، وفي قوله عز وجل: )الذين لم يظهروا على عورات النساء( كناية عن عدم بلوغ الأطفال سن التمييز، وعدم معرفتهم للعورة والشهوة، ولما يدور بين الرجل والمرأة، وهكذا فإننا نلحظ أن القرآن الكريم يبعد الألفاظ الصريحة التي تخدش الحياء العام، وتشعل الغرائز، ويعبر عن ذلك بألفاظ وكنايات لطيفة لا تتصادم مع الذوق العام.
والمراد بالنهي في قوله عز وجل: )ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن( (النور: ٣١) النهي عن ضرب الأرض بالأرجل، لإظهار صوت الزينة الخفية كالخلخال وغيره، ويكون هذا أبلغ من النهي عن إبداء الزينة؛ لأن سماع صوت الشيء أضعف من رؤيته، فإذا نهي عن الأضعف، فما فوقه يكون منهيا عنه من باب أولى. ثم إن الضرب بالأرجل يدعو إلى لفت الأنظار مما يؤدي إلى كشف الأستار.
وتختم الآية الكريمة بأمر حاسم وملزم للمؤمنين بالتوبة في قوله تعالى: )وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون (31)( (النور)، وفي توجيه هذا الأمر إلى المؤمنين تلوين للخطاب بصرفه عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى كل المؤمنين والمؤمنات بطريق التغليب، وأمر جميع المؤمنين بالتوبة فيه إشعار بأنه لا يخلو مؤمن من بعض الذنوب.
(*) www.marefa.org.
(**) يقول الصابوني في تفسير هذه الآية: قل يا محمد للمؤمنات أن يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، وقال المفسرون: أكد ـ تعالى ـ الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزاد في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء، فقال عز وجل: ) ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ( أي: لا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصد ولا نية سيئة؛ فإن كل بدن المرأة عورة، لا يحل لغير الزوج النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالعلاج، وتحمل الشهادة، ولذلك أمرهم الله ـ عز وجل ـ أن يلقين الخمار ـ وهو غطاء الرأس ـ على صدورهن؛ لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله ) وليضربن بخمرهن على جيوبهن ( شققن مروطهن فاختمرن بها.
قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى صدورهن مكشوفة، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطين صدورهن بها، ويدفعن عنهن شر الأشرار، ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن، وعدد سبحانه من يجوز إظهار العورات أمامهم إلى قوله عز وجل: ) أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ( يعني الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حد الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم، فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم. (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج2، ص920، 921).
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ص10258، 10259 بتصرف.
[2]. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998م، ص93 بتصرف يسير.
توهم مجانبة القرآن الكريم الصواب في إعادة الضمير المفرد على الجمع
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: ٣٦) مخالفة لقواعد اللغة؛ حيث عاد الضمير المفرد في “منها” على الجمع “اثنا عشر”، ويظنون أن الصواب أن يقال: “منهن ” وليس “منها”؛ للتوافق مع قوله عز وجل: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم( (التوبة: ٣٦) **.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل أن يعود الضمير على ما يوافقه تذكيرا وتأنيثا، وإفرادا وتثنية وجمعا، فإذا زاد العدد عن العشرة لم تكن العرب تراعي هذا التطابق، وقد توهم بعضهم مخالفة في عود الضمير في “منها” وهو مفرد مؤنث على “اثنا عشر” وهو جمع لمذكر، وتوهمهم هذا مردود عليه بأن:
العرب يعاملون ما يزيد عن العشرة معاملة المفرد، ومن ثم فلا إشكال في قوله عز وجل: )منها(، فإذا عاد الضمير على ما فوق العشرة جيء به مفردا مؤنثا، وإذا عاد على ما تحت العشرة جيء به جمعا مؤنثا.
التفصيل:
معلوم من قواعد اللغة العربية أن الأعداد من ثلاثة إلى عشرة هي جمع قلة، وتعامل معاملة الجمع المؤنث، فإن زاد العدد عن عشرة كان جمع كثرة، والعرب تعامله معاملة المفرد المؤنث؛ كما في قوله عز وجل: )منها أربعة حرم(، ومن ثم فلا إشكال؛ لأن عود الضمير في “منها” – وهو مفرد – على “اثنا عشر” – وهو جمع – من صميم قواعد العربية، ولزيادة الأمر توضيحا نقول: معي خمسة عشر كتابا، منها ثلاثة مستعارة، ولا نقول: منهن ثلاثة مستعارة؛ لأن العدد المذكور يزيد عن عشرة.
ويجعلون “الهاء والنون” للعشرة فما دونها إلى الثلاثة، فنقول: عندي ثلاث مكتبات، منهن واحدة صوتية، ولا نقول: منها واحدة صوتية؛ لأن العدد المذكور أقل من عشرة، وهذا ما جاء به القرآن في مواضع أخر، ففي سورة يوسف قال عز وجل: )وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف( (يوسف: ٤٣)، فقال: “يأكلهن” ولم يقل “يأكلها”؛ لأن العدد المذكور أقل من عشرة، ومثل ذلك قوله عز وجل: )فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها( (فصلت: ١٢)، فقد قال تعالي: “فقضاهن” ولم يقل: “فقضاها”؛ لأن العدد “سبع” أقل من عشرة.
أما في الشعر: ما هجا به أحد الشعراء جماعة من الجماعات لقلتها، فقال:
لا أبالي فجـ
ـمعهن كل جمع مؤنث
ولما كان عددها قليلا لا يتجاوز العشرة قال: “جمعهن”، ولم يقل: “جمعها”.
وعلي هذا جاءت الآية مطابقة لقواعد العربية وسنن العرب في كلامهم.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
الآية الكريمة بها استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمة علي الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لنظام الأرض، وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه؛ لتتوجه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه[1].
وفي قوله عز وجل: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم( الضمير المجرور بـ “في” عائد إلي الأربعة الحرم؛ لأنها أقرب مذكور، ولأنه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيهن وإلا كان مجرد اقتضاب بلا مناسبة[2].
وقوله عز وجل: )أنفسكم(، أي: أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أن الأمة كالجسد الواحد.
قوله عز وجل: )وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة) وقعت هذه الآية موقع الاحتراس من الظن بأن النهي عن انتهاك الأشهر الحرم، يقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدءوا بقتال المسلمين، وهذا يوضح التشبيه التعليلي في قوله عز وجل: )كما يقاتلونكم كافة(، فيكون المعنى: فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن بادءوكم بالقتال فقاتلوهم.
“الكاف” في قوله عز وجل: )كما يقاتلونكم كافة( أصلها كاف التشبيه، استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلته؛ لأنه يقع على مثالها، ومنه قوله تعالى: )واذكروه كما هداكم( (البقرة: ١٩٨).
ويعلق صاحب “الظلال” تعليقا متأملا حول هذه الآية؛ يوضح فيه ما اشتملت عليه هذه الآية من إعجاز بياني وعلمي تقرره الكشوف والحقائق العلمية الحديثة قائلا: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره الله عليها، وإلى أصل الخلقة، ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة، مقسمة إلى اثني عشر شهرا، يستدل علي ثباتها بثبات عدة الأشهر، فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة، وإن ذلك في كتاب الله، أي: في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون، فهي ثابتة على نظامها، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة لأنها تتم وفق قانون ثابت، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض.
هذه الإشارة إلي ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها؛ ليقول: إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله ثابت كثباتها، لا يجوز تحريفه بالهوى، ولا يجوز تحريكه تقديما وتأخيرا، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت، وفق ناموس لا يتخلف: )ذلك الدين القيم(.
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل الذي تقوم به السماوات والأرض منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة.. يتبع بعضها بعضا. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهدا أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه، ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه؛ ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره، وثبات أسسه، وقدم أصوله.. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها هينة يسيرة، قريبة مألوفة.
)ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم( لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض، ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس، كما أنه هو المشرع للكون.. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام؛ فتخالفوا عن إرادة الله. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض، حين تستحيل كلها جحيما حربيا لا هدنة فيها ولا سلام1.
(*) thegood.way.com.
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج10، ص180.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص185.
توهم عدم مطابقة الحال لصاحبها في العدد في القرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة في قوله عز وجل: )ثم نخرجكم طفلا( (الحج: ٥) **؛ حيث وردت لفظة “طفلا” حالا بصيغة المفرد “طفلا”، لا بصيغة الجمع “أطفالا” المناسبة لضمير الجمع العائد على المخاطبين في “نخرجكم”.
وجها إبطال الشبهة:
إن الأصل في قواعد النحو أن الحال المفردة يجب أن تطابق صاحبها في نوعه: التذكير والتأنيث، وعدده: الإفراد والتثنية والجمع، وهذا ما نلحظه في لغة القرآن الكريم، أما ما يزعمه بعضهم من أن الحال لم تطابق صاحبها في العدد في قوله عز وجل: )ثم نخرجكم طفلا( (الحج: ٥) فزعم باطل، ويمكن الرد على هذا الزعم بما يلي:
1) للعلماء في كلمة “طفلا” ثلاثة آراء:
أنها تدل على الجنس؛ أي: “كل طفل”.
أنها مصدر، والمصادر لا تجمع.
أنها جاءت بمعنى: “نخرج كل واحد منكم طفلا”.
2) في اللغة مفرادات كثيرة تستخدم بهيئتها في المفرد والجمع على سواء. وكلمة “طفل” منها؛ كما تقرر ذلك المعاجم العربية.
التفصيل:
أولا. لعلماء اللغة في توجيه كلمة “طفلا” في هذه الآية آراء؛ وهي:
إن كلمة “طفلا” ليست مفردة، بل إنها تدل على الجنس، أي: “كل طفل”، وقوله “طفلا” حال من ضمير “نخرجكم”، أي: حال كونكم أطفالا، وإنما أفرد “طفلا”؛ لأن المقصود به الجنس؛ وهو بمنزلة الجمع[1].
ومما يؤكد ذلك ما جاء في تفسير القرطبي في قوله عز وجل: )ثم نخرجكم طفلا(. أي: “أطفالا”، فهو اسم جنس[2]؛ واسم الجنس يدل على ما يدل عليه الجمع؛ وعليه فليس ثمة مخالفة بين الحال وصاحبها كما يتوهم هؤلاء.
إن كلمة “طفل” – كما قال المبرد – اسم يستعمل مصدرا؛ كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع؛ كقوله تعالى: )أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء( (النور: 3١).
إن لفظة “طفلا” جاءت بمعنى الجمع؛ أي: نخرج كل واحد منكم طفلا، وذلك في فقوله عز وجل: )ثم نخرجكم طفلا(، وقد نقل هذا عن الزجاج[3].
ومعلوم أنه إذا قال القائل: “جاءني القوم مثنى” – وهم مائة ألف – كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا “جاءني القوم ثلاث ورباع”، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد؛ كما في قوله تعالى: )فاقتلوا المشركين( (التوبة: ٥) [4]، وكما في قوله عز وجل: )ثم نخرجكم طفلا(؛ أي: نخرج كل طفل على حدة، ومما سبق ذكره يتبين أن الكلام مستقيم، ولا خطأ فيه.
ثانيا. في اللغة مفرادات كثيرة تستخدم بهيئتها في المفرد والجمع على سواء، وكلمة “طفل” من هذه المفردات؛ فقد جاء في المعاجم أن كلمة “طفل” تستخدم للمفرد والمثنى والجمع[5].
ويعلق الشيخ الشعراوي على الآية فيقول: “فقال: “نخرجكم” بصيغة الجمع، ولم يقل: “أطفالا”، إنما “طفلا” بصيغة المفرد، لماذا؟ قالوا: في اللغة ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، فـ “طفل” هنا بمعنى: “أطفال”، وقد وردت “أطفال” في موضع آخر في قوله عز وجل: )وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59)( (النور).
وكما تقول: هذا رجل عدل، ورجال عدل، وفي قصة سيدنا إبراهيم – عليه السلام – وهو يتحدث عن الأصنام فيقول: )فإنهم عدو لي( (الشعراء: ٧٧)، ولم يقل: “أعداء”، وحينما تحدث عن ضيفه قال: )هؤلاء ضيفي( (الحجر: ٦٨)، ولم يقل “هؤلاء ضيوفي”؛ إذن: المفرد هنا يؤدي معنى الجمع”[6].
وليس بعد هذا البيان لمدع أن يدعي أن القرآن قد أخطأ، ويتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، وأن الكلام مستقيم لا عوج فيه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
قوله تعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث( (الحج: ٥)، فالظرفية التي أفادتها “في” مجازية، شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف.
كررت “من” أربع مرات للتوكيد.
قدم ذكر “المخلقة” على ذكر “غير المخلقة” على خلاف الترتيب في الوجود؛ لأن المخلقة أدخل في الاستدلال، وذكر بعده غير المخلقة؛ لأنه إكمال للدليل، وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم، فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء، وهو المقصود من الكلام.
حذف مفعول “لنبين”؛ لتذهب النفس في تقديره كل مذهب، مما يرجع إلى بيان ما في التصرفات من القدرة والحكمة.
جملة “ونقر” عطف على جملة “فإنا خلقناكم من تراب”، فعدل عن الفعل الماضي إلى الفعل المضارع؛ للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث، ثم إخراجها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم، مع تفاوت القرار[7].
ومن مجاز ما جاء لفظه لفظ الواحد الذي له جمع منه، ووقع معنى هذا الواحد على الجميع قوله: )نخرجكم طفلا( في موضع “أطفالا”[8]، وفيها التفات أيضا بالعدول بالمفرد عن الجمع.
وعطف جملة: )ثم نخرجكم طفلا( بحرف “ثم”، للدلالة على التراخي الترتيبي، فإن إخراج الجنين هو المقصود.
جيء بقوله: )ومنكم من يتوفى( على وجه الاعتراض، استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية، مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية، كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى: ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار، وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم، وقد صرح بهذا في سورة غافر )ومنكم من يتوفى من قبل( (غافر: ٦٧).
وقوله: )ومنكم من يرد إلى أرذل العمر( هو عديل قوله: )ومنكم من يتوفى( فسكت عن ذكر الموت بعد “أرذل العمر”؛ لأنه معلوم بطريقة لحن الخطاب.
في قوله: )من بعد علم( “من” الداخلة على “بعد” هنا موضوعة للتأكيد.
قوله: )من بعد علم شيئا( واقع في سياق النفي يعم كل معلوم؛ أي: لا يستفيد معلوما جديدا، ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر، تصل إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء، ومرتبة الاختلاط بين المعلومات، وغير ذلك[9].
(*) .www.arabicradio.org
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج8، ص200. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: طفل.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج12، ص11، 12.
[3]. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: طفل.
[4]. محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الحديث، القاهرة، ط1، 2003م، ج3، ص21.
[5]. انظر: لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: طفل.
[6]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج16، ص9708.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج17، ص196: 198.
[8]. الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، د. عبد الحميد أحمد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص153.
[9]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج17، ص202.
توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين النعت والمنعوت في التذكير والتأنيث
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم خرج عن الصواب في اللغة، فلم يطابق بين النعت ومنعوته في النوع: التذكير والتأنيث، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )وأحيينا به بلدة ميتا( (ق: 1١)، وقوله تعالى: )وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6)( (الحاقة: 6)؛ حيث وصف “بلدة” وهي منعوت مؤنث بالنعت “ميتا” وهو مذكر، ووصف “الريح” وهي منعوت مؤنث بالنعت “صرصر” وهو مذكر، والصواب في ظنهم أن يقال: “بلدة ميتة” و “ريح صرصرة”**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الصفة أن تتبع الموصوف في أربعة أمور هي:
النوع: التذكير أو التأنيث.
الإعراب: الرفع أو النصب أو الجر.
العدد: الإفراد أو التثنية أو الجمع.
التعيين: التعريف أو التنكير.
كما في نحو: استغرق في نوم عميق، فقد توافق النعت “عميق” مع منعوته “نوم” في أربعة أمور، هي: التنكير، الإفراد، الجر، التذكير، وبتطبيق هذه القاعدة على الآية الكريمة، قد يتصور بالنظرة العجلى أن الآيتين فيهما مخالفة للقاعدة المشروحة؛ حيث يظن أن النعت في الآية الأولى؛ وهو كلمة “ميتا” قد وافق المنعوت “بلدة” في ثلاثة أمور فقط، لا أربعة كما يقتضيه القياس وهي التعريف والإفراد، والإعراب، وقد خالفه في النوع، وهو التأنيث، وكذلك الحال في الآية الثانية حين يرون الصواب أن يقال: “بريح صرصرة”.
وبين أيدينا وجوه في رد هذا التوهم؛ منها:
1) فيما يتعلق بقوله سبحانه وتعالى: )بريح صرصر( فإن لفظة “صرصر” وصف خاص لكلمة “الريح” المؤنثة، ولا تأتي وصفا لمذكر؛ فلا تحتاج إلى علامة فارقة بين المذكر والمؤنث، مثل: حائض، وحامل، ومرضع، فكلها أوصاف خاصة بالمؤنث.
2) وفيما يتعلق بقوله سبحانه وتعالى: )بلدة ميتا( ففيه وجهان:
لفظة “بلدة” هنا بمعنى البلد والمكان، وهذا يعرف في العربية بالحمل على المعنى؛ ومن هنا نعتت “بلدة” المؤنثة بنعت مذكر، وهو “ميتا”؛ حملا على معناها.
لفظة “بلدة” مؤنث مجازي، يجوز في وصفه والإخبار عنه، التذكير والتأنيث على حد سواء.
التفصيل:
أولا. فيما يتعلق بقوله تعالى: )بريح صرصر(، فإن كلمة “صرصر” من الصفات المختصة بالمؤنث، مثل: حائض، وحامل، ومرضع؛ وذلك أن التاء التي للتأنيث – تأتي للتفريق بين المذكر والمؤنث، إذا كانت الصفة تستعمل لهما معا، كما تقول: طالب وطالبة، أما إذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث، فليس هناك حاجة لهذه التاء. والصرصر: الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي: دوي في هبوبها من شدة تنقلها وسرعتها، وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها؛ كتضعيف كبكب للمبالغة في كب، وأصله: صر، أي: صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه؛ لأنه لا يجري إلا على الريح، وهي مقدرة للتأنيث[2].
ولم يرد في القرآن إلا وصفا للريح بدون التاء في جميع المواضع، وهي:
قوله سبحانه وتعالى: )فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات( (فصلت: ١٦).
وقوله سبحانه وتعالى: )إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19)( (القمر).
وقوله سبحانه وتعالى: )وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (6)( (الحاقة).
والمعنى: وأما عاد – قوم هود – فأهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدبور، وفي الحديث: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور»[3] [4].
ثانيا. أما فيما يتعلق بقوله تعالى: )بلدة ميتا( ففيه وجهان:
جاء النعت “ميتا” مذكرا، مع أن المنعوت “بلدة” مؤنث؛ لأن البلدة في معنى البلد والمكان، والمعنى: وأحيينا به مكانا ميتا، وليس المراد إحياء البشر، وهذا يعرف في العربية بـ “الحمل على المعنى”، وهو كثير جدا في لغة العرب وفي أحاديثهم، بل هو أكثر من أن يحصى، ومن ذلك قول الشاعر:
فإن تعهديني ولي لـمة
فإن الحوادث أودى بها [5]
حيث قال: “أودى”، ولم يقل: “أودت”؛ لأنه حمل الحوادث على معنى الحدثان، وقال آخر:
هنيئا لسعد ما اقتضى بعد وقعتي
بناقة سعد والعشية بارد
فقال: “بارد” ولم يقل: “باردة”؛ لأنه حمل العشية على معنى العشي، ولو قيل فيها: ميتة، لجاز ذلك أيضا؛ لأن المقصود المكان، فقال: “ميتا”[6].
هناك توجيه يرى أن “بلدة” مؤنث تأنيثا مجازيا لا حقيقيا، ومن هنا جاز في الاستعمال اللغوي تأنيث خبرها وصفتها، وجاز تذكيرهما كذلك على حد سواء، سواء كان ذلك في ضرورة الشعر أم في النثر، ومثل ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)( (الأعراف)، فـ “قريب” هنا جاءت مذكرا، وهي خبر لمبتدأ مؤنث، لكنه مؤنث مجازي؛ ولذلك جاز تذكير قريب.
الأسرار البلاغية في الآيات:
في قولـه تعالـى: )وأمـا عـاد فأهلكـوا بريـح صرصـر عاتيــة (6)( (الحاقة) لفظ “عاتية” وصفت به “الريح” على سبيل الاستعارة؛ لشدة عصفها، وأفاد معنى آخر إلى جانب الشدة وهو التمرد، فهي ريح شديدة متمردة.
وفي لفظ “صرصر” أتى اللفظ مطابقا لمقتضى الحال من العذاب والإيلام، فهو يعني: شديدة الصوت، والتي تحدث صرصرة. وقيل: الريح الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق لشدة بردها.
في قوله تعالى: )وأحيينا به بلدة ميتا( (ق: 1١) من النكت البلاغية ما يعرف بـ “المجاز المرسل”؛ حيث ذكر هنا “البلدة” وأراد بها الأرض، والمجاز هنا علاقته المكانية، فالله – عز وجل – أحيا بهذا الماء أراض ميتة جرداء.
وكذلك في الآية “استعارة مكنية” [7]؛ حيث صور الأرض أو البلدة بإنسان يحيا، وفيها تشخيص للبلدة، وهذه الاستعارة غرضها استحضار الصورة، وبيان الفرق بين الحيوية والنشاط من جهة، والخمود والموات من جهة أخرى.
وفي الآية كذلك شبه “الجدب” بـ “الموت”، وذلك في انعدام ظهور الآثار، وتذكير “الميت” وهو وصف للبلدة، وهي مؤنث على تأويله بالبلد؛ لأنه مرادفه، وبالمكان لأنه جنسه[8].
(*) www.godd. way.com
(**) جاء في تفسير هذه الآية ) بريح صرصر عاتية ( أي: باردة تحرق ببردها كإحراق النار؛ مأخوذة من الصر، وهو البرد. قال الضحاك: وقيل: إنها الشديدة الصوت. وقال مجاهد: الشديدة السموم. (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج18، ص259).
وعامة المواضع التي ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها إرسال الريح بلفظ الواحد، فعبارة عن العذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع فعبارة عن الرحمة. (المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص206).
) وأما عاد ( ـ قوم هود ـ فأهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد، وهي الدبور، وفي الحديث: « نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ». أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “نصرت بالصبا” (988)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (2124). و ) عاتية ( أي: متجاوزة الحد في الهبوب والبرودة؛ كأنها عتت على خزانها، فلم يتمكنوا من ضبطها. (صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1600).
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج11، ص259.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “نصرت بالرعب” (988)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (2124).
[4]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المطبعة العربية الحديثة، مصر، ج3، ص1600.
[5]. اللمة: الشعر الكثيف الذي يلم بالمنكب.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص7.
[7]. الاستعارة المكنية: هي التشبيه المضمر في النفس المتروك أركانه سوى المشبه، المدلول عليه بإثبات لازم المشبه به للمشبه.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص294.
توهم خطأ القرآن الكريم في التعبير عن الماضي بالفعل المضارع
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن الكريم قد جانب الصواب حين أتى بلفظ الفعل “أرى” الدال على الاستقبال، وهو يريد الماضي؛ وذلك في قوله عز وجل: )إني أرى في المنام أني أذبحك( (الصافات: ١٠2)، وكان الأولى في ظنهم أن يقول: “رأيت”**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في اللغة أن يختلف نوع الفعل باختلاف زمن حدوثه بين الماضي والمضارع والمستقبل، ومن قرأ قوله تعالى: )إني أرى في المنام أني أذبحك( دون أن يتدبر المعنى، ودون أن يتأمله، يظن أن القرآن الكريم قد جانب الصواب في استخدام الفعل المضارع “أرى”، والذي يفيد المستقبل بدلا من الفعل الماضي “رأيت”، وكذلك “أذبحك”، بدلا من “ذبحتك” مما يعني المخالفة بين الفعل وزمن حدوثه. وكان الصواب في ظنهم أن يقال: “إني رأيت في المنام أني ذبحتك”؛ ليوافق الفعل زمنه. ومن هنا كانت الشبهة. وقد رد علماء اللغة على هذه الشبهة بوجوه منها:
1) استعمال الفعل المضارع أبلغ في الدلالة، وأنسب لمعنى الآية من استعمال الماضي؛ وذلك لأن سيدنا إبراهيم – عليه السلام – رأى هذه الرؤيا أكثر من مرة، وتوقع رؤيتها في المستقبل أمر وارد، وهذا لا يناسبه إلا استعمال المضارع الذي يفيد التجدد والاستمرار.
2) دلالة المضارع – إذا وضع موضع الماضي عند علماء المعاني – فيها بعث للماضي وتصوير له في صورة ما يحدث الآن، وكأن الأبصار تراه.
التفصيل:
أولا. أن استعمال الفعل المضارع أبلغ في الدلالة، وأنسب لمعنى الآية من استعمال الماضي؛ وذلك لأن سيدنا إبراهيم عليه السلام رأى هذه الرؤيا أكثر من مرة، وتوقع رؤيتها في المستقبل أمر وارد، وهذا لا يناسبه إلا استعمال المضارع الذي يفيد التجدد والاستمرار، قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم[1].
ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى في نفسه[2]: أهذا الحلم من الله أم من الشيطان؟ فسمي “التروية”، فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا، وقيل له: الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله؛ فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بالنحر؛ فسمي “يوم النحر”[3].
فتكرار الرؤية لا يناسبه إلا استعمال المضارع؛ لأنه يفيد التجدد والاستمرار، ومثل هذا يقال في الفعل “أذبحك” الذي يعبر به عن المستقبل.
ثانيا. أن دلالة المضارع “أرى” في الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها في الزمن الذي أمر الله فيه إبراهيم عليه السلام، وفائدته نقل أذهان المخاطبين إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم. وهذه هي دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضي عند علماء المعاني، وهي بعث الماضي وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال.
ومن أمثلة ذلك عند العرب قول الشاعر يحكي صراعا حدث بينه وبين الضبع:
فأضربها بلا دهش فخرت
صريعا لليدين وللجران [4]
فالشاعر ضرب الضبع في الماضي، فلما حكى صراعه معها للناس عبر عن الماضي “فضربتها” بالمضارع “فأضربها”، والدلالة البلاغية للعدول عن الماضي إلى المضارع استحضار صورة الحدث الذي وقع في الماضي، كأنه يحدث الآن في زمن المتكلم[5]، ولا شك أن استعمال المضارع – بدلالته على التجدد والاستمرارـ يجعل السامع يستحضر المشهد، ويتفاعل معه أكثر من استعمال الماضي.
وعلى هذا يتأكد لنا تماما أن الآية خالية من الخطأ، وإنما هو سوء فهم لقواعد اللغة العربية أو سوء النية وفساد الطوية.
الأسرار البلاغية والجمالية:
إن هذا التعبير )إني أرى( هو الملائم بلاغة وبيانا وإعجازا ونظما، أما لو قيل: “إني رأيت” لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذي هو فيه؛ وذلك لأن دلالة الماضي الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم. وهذا غير مراد في حكاية الله كيفية أمره لإبراهيم؛ لأنه لو قيل: “إني رأيت” لصدق هذا التعبير عن وجوده مرة واحدة في الزمن[6]. ولكن الرؤيا تكررت أكثر من مرة، ثم صار الأمر بالذبح – بعد الفداء بالكبش – سنة حتى الآن، فالآية على ذلك غاية في البلاغة.
(*). www.ibnmaryam.com. www.islamayat.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج15، ص103.
[2]. روى في نفسه: فكر.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج15، ص102.
[4]. الجران: باطن العنق، وقيل: مقدم العنق من مذبح البعير إلى منخره.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص223 بتصرف.
[6]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م ، ص224 بتصرف يسير.
توهم خطأ القرآن في تسمية مريم “أخت هارون”
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن القرآن خلط بين مريم أم المسيح ومريم أخرى كانت أختا لهارون أخي موسى – عليهما السلام -.. وأنه خلط لم يقع مثله في الكتاب المقدس، مع مخالفة القرآن للأناجيل الأربعة فيما أورده عن مريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأخوة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: )يا أخت هارون( (مريم: ٢٨) هي أخوة الدين والصفة، وليست أخوة النسب.
2) القرآن الكريم هو وحي الله – عز وجل – المنزل، الثابت المحفوظ، بشهادة المخالفين في العقيدة قبل المسلمين، أما الكتاب المقدس فهو كتابات بشرية لم تسلم من التحريف والخطأ بقصد أو بدون قصد، فلا وجه للمفاضلة بينهما.
التفصيل:
أولا. الأخوة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: )يا أخت هارون( هي أخوة الدين والصفة، وليست أخوة النسب:
ويتضح ذلك من السياق الذي وردت فيه هذه التسمية، فقد وردت في موقف تعجب، واستنكار، وتوبيخ ثقيل عوتبت فيه مريم بهذا الأسلوب، كأنما أراد قومها أن يقولوا لها: يا مريم، يا من كنا نراك أختا لهارون في إيمانه، وصفاته وأخلاقه، أيجوز منك أن تصنعي ما صنعت؟!
والمسلمون بوصفهم عربا ورثوا من أعراف لغتهم وبيئتهم ما ينفي وقوع لبس في المعنى، حيث كانوا يؤاخون بين أصحاب الصفات المشتركة، فقد آخى النبي – صلى الله عليه وسلم – بين المهاجرين والأنصار؛ لاشتراكهم في الإيمان، وأيد القرآن الكريم هذا المعنى بإقراره أخوة الدين في قوله سبحانـه وتعالى: )إنمـا المؤمنـون إخـوة فأصلحـوا بيـن أخويكـم واتقـوا الله لعلكـم ترحمـون (10)( (الحجرات).
وبهذا البيان يتضح أن أخوة مريم لهارون بهذا العرف لا تعنى أخوة النسب، وإنما تعنى الاشتراك في الصفات الإيمانية والخلقية، التي يستبعد معها إتيان مريم لما توهموا من الفعلة القبيحة.
ويذكر أن أبا مريم هو: عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يهفا شاط بن إيشاين إيان بن رحبعام ابن سليمان بن داود، وكان أكثر أجدادها من الأحبار، فهي نسل طيب من نسل طيب، قال سبحانه وتعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران). [1] ومعنى آل عمران: مريم وعيسى عليه السلام.
ثانيا. القرآن الكريم هو وحي الله تعالى المنزل الثابت المحفوظ، أما الكتاب المقدس فهو شهادات بشرية لم تسلم من التحريف والخطأ بقصد أو بدون قصد:
ثبت أن القرآن الكريم وحي من الله – عز وجل – وليس بكلام بشر، ولا مقتبس من أي مصدر بشري، ونكتفي هنا بشهادة د. موريس بوكاي عن القرآن الكريم بعد مقارنته بين الكتب المقدسة على ضوء المعارف الحديثة، فهو يقول: “وهناك فرق آخر جوهري بين المسيحية والإسلام، فالإسلام لديه القرآن الذي هو وحي منزل وثابت معا؛ فالقرآن هو الوحي الذي أنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – عن طريق جبريل، وقد كتب فور نزوله، ويحفظه المؤمنون ويتلونه عند الصلاة، وخاصة في شهر رمضان، وقد رتب في سور بأمر من محمد – صلى الله عليه وسلم – نفسه، وجمعت هذه السور فور موت النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي خلافة عثمان – من السنة الثانية عشرة إلى السنة الرابعة والعشرين التالية لوفاة محمد – صلى الله عليه وسلم – ذلك لتصبح النص الذي نعرفه اليوم.
أما الكتاب المقدس، فإنه يختلف بشكل بين عما حدث بالنسبة للقرآن؛ فالإنجيل يعتمد على شهادات بشرية متعددة وغير مباشرة، وإننا لا نملك – مثلا – أي شهادة لشاهد عيان لحياة عيسى، وهذا خلافا لما يتصوره الكثير من المسيحيين”[2].
وبناء على ما تقدم فالقرآن الكريم هو الصدق الذي بقي، وإن من خالف القرآن فإن مخالفته للقرآن كافية في إقامة الحجة على كذبه وتكذيبه، أما محاولة جمع أسماء: عمران، وهارون، ومريم، لإثبات تناقض التاريخ القرآني لأخبار مريم، فهذا هو الباطل والتزييف بعينه، فلم يقل القرآن: إن هارون موسى هو هارون مريم، ولم يقل القرآن: إن عمران والد مريم هو عمران والد موسى، ولا مانع – عقلا – أن تتعدد الأسماء في الأمة الواحدة، خاصة إذا كانت أسماء مشهورة لمشاهير كأنبياء أو صالحين، ولا مانع أن يكون في أمة اليهود أكثر من شخص يسمى هارون، ومريم، وعمران…
ومن الثابت تاريخيا أن أصحاب الأناجيل دونوا أناجيلهم من أفواه الناس، ولم يأخذوها من وحي الله لهم، ولا يجدي – بعد ذلك – أن يقولوا: هي بوحي الله، فكيف يأخذونها من أفواه الناس، ثم يقال: إنها من وحي الله؟!
وبمعرفة هذه الحقيقة التاريخية لا يحق للمتوهمين أن يحتجوا بصحة الأناجيل، أو يدعوا أنها المعيار الذي يقاس عليه صحة أية أخبار وردت في غيرها.[3]
الخلاصة:
- الأخوة التي ذكرها القرآن الكريم في قوله: )يا أخت هارون( عن السيدة مريم هي أخوة الدين والصفة، وليست أخوة النسب، فأخوة مريم لهارون – بما تعارف عليه العرب – أخوة مبنية على الصفات المشتركة بينهما، كما آخى النبي – صلى الله عليه وسلم – بين المهاجرين والأنصار؛ لاشتراكهم في صفة الإيمان تحقيقا لقوله سبحانه وتعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات).
- ثبت أن القرآن الكريم وحي من الله – سبحانه وتعالى – وليس كلام بشر، ولا مقتبسا من أي مصدر بشري بكل وسائل الإثبات، ولم يقل القرآن الكريم إن هارون موسى هو هارون مريم، ولم يذكر أن عمران والد مريم هو عمران والد موسى.
- إن أصحاب الأناجيل دونوا أناجيلهم من أفواه الناس ولم يأخذوها من وحي الله لهم، ولا يجدي بعد ذلك أن يقولوا: هي من وحي الله – عز وجل – فقد وقع الاختلاف فيما بينها بما يتنافى مع صحتها، وبما يمنع جعلها معيارا يقاس عليه صحة أية أخبار وردت في غيرها.
(*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425 هـ/ 2004م.
[1]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص335.
[2]. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، موريس بوكاي، دائرة المعارف الأمريكية، القاهرة، د. ت، ص78، 79، 210.
[3]. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425 هـ/ 2004م، ص466 وما بعدها.
توهم عدم مطابقة القرآن الكريم بين المبتدأ و الخبر في العدد
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المدعين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة ولم يطابق بين المبتدأ والخبر في العدد، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )هؤلاء ضيفي( (الحجر: ٦٨)؛ حيث جاء المبتدأ اسم إشارة “هؤلاء” يدل على الجمع، بينما جاء الخبر “ضيفي” مفردا، والصواب في ظنهم أن يقال: “هؤلاء ضيوفي” بجمع الخبر**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في الخبر المفرد أن يطابق المبتدأ في نوعه تذكيرا وتأنيثا، وفي عدده إفرادا وتثنية وجمعا.
ومن لا يتدبر قوله تعالى: )هؤلاء ضيفي(، يظن أن فيه مخالفة بين الخبر والمبتدأ في العدد؛ إذ جاء الخبر “ضيفي” مفردا، في حين جاء المبتدأ “هؤلاء” جمعا، وهذا ليس بخطأ كما زعموا؛ لأن علماء اللغة قالوا: إن كلمة “ضيفي” جاءت هنا مصدرا، والخبر إذا جاء مصدرا يجب أن يكون مذكرا ومفردا، وهذا هو القياس.
التفصيل:
إن “ضيفي” جاءت هنا مصدرا، والخبر إذا جاء مصدرا يجب أن يكون مفردا مذكرا، وفقا لقواعد اللغة، فقوله تعالى: )هؤلاء ضيفي(، ضيف هنا يقع للمفرد والمثنى والجمع على لفظ الواحد؛ وذلك لأنه في الأصل مصدر الفعل ضاف ضيفا، قال الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر
للضيف، والضيف أحق زائر
كما أنه يجوز فيه التثنية والجمع، ومن ذلك: “رجال صوم، وفطر، وزور”[1].
والقرآن الكريم و الاستعمالات العربية عامرة بالشواهد التي تدل على ذلك، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله عز وجل: )إنا رسول رب العالمين (16)( (الشعراء)، وقوله عز وجل: )نخرجكم طفلا( (الحج: 5)، وقوله عز وجل: )لا نفرق بين أحد من رسله( (البقرة: ٢٨٥)، ومن أمثلة ذلك في الاستعمال العربي: فلان كثير الدرهم والدينار؛ ومن ذلك قول الشاعر:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم
وقد برأت من الإحن الصدور[2]
وعليه، فلا يوجد ثمة خطأ في الآية الكريمة؛ إذ جاءت الآية وفق ما تقتضيه قواعد العربية.
(*) .www.alkalema.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص77.
[2]. تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، شرحه ونشره: السيد أحمد صقر، المكتبة العلمية، بيروت، ط3، 1401هـ/ 1981م، ص285.
توهم عدم المطابقة في القرآن الكريم بين الصفة والموصوف في العدد
مضمون الشبهة:
يظن بعض المتوهمين أن في قوله عز وجل: )وأزواج مطهرة( (آل عمران: ١٥) خطأ؛ حيث جاء الوصف مطهرة مفردا مع أن الموصوف أزواج، وهو جمع، والصواب في ظنهم أن يقال: “مطهرات”؛ حتى تحصل المطابقة بين الصفة والموصوف في العدد**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في الصفة أن تطابق موصوفها في عدده: المفرد أو المثنى أو الجمع، وغيـر المتأمـل لقولــه ـ عز وجل ـ: )وأزواج مطهرة( يظن أن فيه تناقضا واضطرابا؛ حيث جاءت الصفة مفردة مع الموصوف الجمع، وهذا في زعمهم مخالف لقواعد اللغة، وكان الصواب في زعمهم أن يقال: “وأزواج مطهرات”، وهذا الزعم باطل مردود؛ وذلك أن جمع التكسير يجوز وصفه والإخبار عنه بالمفرد والجمع، فتقول: القرون الأولى، والقرون الأوليات، والقرون الأول؛ وعلى أساس هذه القاعدة فإن كلمة “أزواج” جمع تكسير للمؤنث العاقل، فيجوز في وصفه الإفراد والجمع؛ فنقول: “أزواج مطهرة”، و “أزواج مطهرات”[1]، وكلا الاستعمالين صحيح فصيح، ولكن التعبير القرآني آثر لفظ مطهرة؛ لأنه أبلغ.
التفصيل:
جمع التكسير يجوز وصفه والإخبار عنه بالمفرد والجمع؛ فنقول: القرون الأولى، والقرون الأوليات، والقرون الأول؛ وعلى أساس هذه القاعدة فإن لفظ “أزواج” جمع تكسير يجوز وصفه بالمفرد فنقول: أزواج مطهرة، ويجوز وصفه بالجمع فنقول: أزواج مطهرات، ولكن القرآن آثر لفظ “مطهرة”؛ لأنه أبلغ في وصف الجمع وأكمل.
وقد جاء في التحرير والتنوير: وقوله “مطهرة” كان الظاهر أن يقال: “مطهرات” كما قرئ بذلك،[2] ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما؛ لأن التأنيث خلاف المألوف، والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد، وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد[3].
وجمع التكسير الدال على العقلاء يجوز وصفه أيضا بالمفرد المؤنث، ويجوز وصفه بالجمع، كما في الآية: )وأزواج مطهرة(، ويجوز في غير القرآن: “مطهرات”[4]، وقال القرطبي: “مطهرة” نعت لـ “أزواج”، و “مطهرة” في اللغة أصح من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات[5].
ويعلل أبو حيان لتفضيل صيغة الإفراد بقوله: “ما جاءت به الآية هو أفصح الوجهين في هذا السياق؛ لأن جمع التكسير إذا أريد به الكثرة جاء على صيغة الواحدة، وإذا أريد به القلة جاء على صيغة جمع المؤنث السالم، والآية تصف نعيم الجنة، وقد جاء في الحديث ما يدل على كثرة أزواج الجنة؛ فناسبه أن يأتي بالجمع بلفظ الواحدة للدلالة على الكثرة”[6].
إذن: هاتان الطريقتان في جمع وإفراد الصفة، إذا كان الموصوف جمع تكسير، لغتان فصيحتان.
وقد قرأ زيد بن على “مطهرات” بناء على “طهرن” لا “طهرت” كما في الأولى، ولعلها أولى استعمالا، وإن كان الكل فصيحا؛ لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع القلة فالعكس[7].
ووضح ذلك الزمخشري قائلا: فإن قلت فهلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف؟ قلت: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات وفواعل، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنعت
واستعجلت نصب القدور فملت
والمعنى: “وجماعة أزواج مطهرة”، فإن قلت: هلا قيل: “طاهرة”؟ قيل: عبر القرآن بـ “مطهرة” بدلا من “طاهرة”؛ لأن في “مطهرة” فخامة لصفتهن ليست في “طاهرة”، وهي الإشعار بأن مطهرا طهرهن[8].
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في الآية الكريمة استئناف بياني، نشأ عن قوله عز وجل: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14)( (آل عمران)، فالمقتضى أن الكلام مسوق مساق الغض من هذه الشهوات، وقد افتتحت الآية بكلمة: قل للاهتمام بالمقول، والمخاطب بـ “قل” هو النبي صلى الله عليه وسلم، والاستفهام في هذه الآية ليس المراد منه الاستفهام الحقيقي وإنما المقصود به التشويق[9]؛ حيث أراد – عز وجل – تهيئة نفوس المخاطبين إلى تلقي ما سيقص عليهم.
وبعد هذا البيان الشافي يتأكد لنا أن ما توهمه هؤلاء الزاعمون باطل مردود عليهم، وأن استخدام كلمة “مطهرة” نعتا لـ “أزواج” موافق للغة العرب الفصحاء، وليس في ذلك أدنى إشكال؛ فلم تزدد الآية في النفوس إلا رسوخا، ولم تزدد القلوب إلا إيمانا وتصديقا بأن هذا الكلام كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب خير المرسلين؛ ليكون هداية ورحمة ونورا للعالمين.
(*)www.thegodway.com.
[1]. النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، القاهرة، ط9، د. ت، ج3، ص447.
[2]. قرأ بها زيد بن علي، انظر: الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت ، ج1، ص262.
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج1، ص357.
[4]. إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، دار الإرشاد، دمشق، 1408هـ/ 1988م، ج1، ص66.
[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص241.
[6]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، ج1، ص117.
[7]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الأية.
[8]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت ، ج1، ص262.
[9]. المعاني في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 2002م، ص125.
توهم خطأ القرآن الكريم في تسمية والد سيدنا إبراهيم عليه السلام
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن لم يوافق الصواب في ذكر اسم والد إبراهيم عليه السلام؛ حيث قال عز وجل: )وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر( (الأنعام: ٧٤)، والتاريخ يقول: إن والد إبراهيم ليس “آزر”، وإنما اسمه “تارح”، فقد جاء في سفر التكوين: “وعاش تارح سبعين سنة، وولد أبرام وناحور وهاران”. (التكوين 11: 26)**.
وجه إبطال الشبهة:
المعروف من نسب إبراهيم – عليه السلام – أنه: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام، فاسم أبيه تارح، وزعم بعض المشككين أن القرآن قد أخطأ فسماه “آزر”؛ وهذا الزعم مردود؛ لأن للعلماء في توجيه الآية عدة آراء؛ منها:
قيل: إن “آزر” اسم لعم إبراهيم عليه السلام، وليس اسما لوالده.
وقيل: إنه لقب لوالد إبراهيم عليه السلام، وليس اسما له.
وقيل: إنه صفة، وليس اسما على الإطلاق.
وقيل: إن لوالد سيدنا إبراهيم اسمين علمين؛ أحدهما: “آزر”، والآخر: “تارح”، وعليه فلا خطأ في إطلاق أحدهما عليه دون الآخر، وبهذا ينكشف الوهم عن المتوهمين وتتضح الرؤية لهم.
التفصيل:
توجيه العلماء لكلمة “آزر”:
قيل: إن “آزر” اسم لعم إبراهيم عليه السلام، وليس اسما لأبيه؛ فكلمة “الأب” من المشترك اللفظي؛ إذ تستخدم للوالد والعم والجد، فلو أطلق دون تقييد بعده؛ فهو للوالد فقط، ولو قيد بذكر اسم بعده لانصرف إلى الأب أو العم أو الجد، ومما يقوي ذلك ما يسمى بـ “المجاز اللغوي”، والذي يراد به استعمال لفظ مكان لفظ لعلاقة التشابه بينهما، فـ “آزر” يراد به العم على سبيل المجاز؛ لأن له من الفضل عليه ما للأب.
والقرآن صريح في أن الأبوة تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه، وتطلق على أخي الوالد، أي: العم، والدليل على ذلك أن القرآن قال في موضع آخر: )أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق( (البقرة: ١٣٣) [1].
فأطلقت لفظة ” آباء” وهي جمع “أب” على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهو يعلم – أي يعقوب – أن إبراهيم جده، وإسماعيل عمه، وإسحاق أبوه، ومن ثم نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لأن يعقوب ابن إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل، لذلك ذكر الأب وأريد به العم، ويدلنا الرسول – صلى الله عليه وسلم – على ذلك حينما أخذ عمه العباس أسيرا في بدر فقال: “ردوا علي أبي”.[2] وأراد عمه العباس.
فلو ذكر القرآن في كل آياته بالنسبة لإبراهيم كلمة “لأبيه”؛ لانصرف الأمر إلى أبيه الحقيقي، بيد أنه قيد ذكر أبيه بعلم، مما يدل على أنه يقصد به العم[3].
إذن فلا وجه لاتهام القرآن بالخطأ في تسمية والد إبراهيم، إذا كان هذا الاسم وهو “آزر” يطلق على عمه وليس على أبيه المباشر، فالعم كالأب في إمكان إطلاق اسم الأبوة عليه، وكذلك الجد، وليس هذا بغريب في العربية؛ فالعم صنو الأب كما تقول العرب.
قيل: إن “آزر” لقب لوالد إبراهيم، وليس اسما له، فاسم أبي إبراهيم: “تارح”، وهذا لاختلاف بين النسابين فيه، و “آزر” لقب لأبيه، مثل يعقوب الملقب بـ “إسرائيل”[4]، ويذكرالعلماء أن: اسم والد إبراهيم: “تارح بن ناحور بن سروج بن راعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام؛ ولقب تارح: آزر”[5].
ومما يؤكد ذلك ما جاء في تفسير القرطبي: أن “آزر” أبو إبراهيم عليه السلام، وهو “تارح”، مثل “إسرائيل” و “يعقوب”؛ فيكون له اسمان، حيث قال مقاتل: “آزر” لقب، “وتارح” اسم، ويجوز أن يكون العكس[6]، وعلى ذلك فإن الآية إنما ذكرت لقب والد سيدنا إبراهيم.
هذا وقد رجح صاحب “المنار” أن “تارح” لقب، و “آزر” هو الاسم، يقول: والأقوى أن له اسمين: أحدهما علم، والآخر لقب، والظاهر حينئذ أن يكون “تارح” هو اللقب، وقد سوغ وجهة النظر تلك بقوله: “تارح” معناه: المتكاسل، وهو لقب قبيح قلما يطلقه أحد ابتداء على ولده، وإنما يطلق مثله على المرء بعد ظهور معناه فيه[7].
قيل: إن “آزر” صفة وليس اسما على الإطلاق؛ ولهذا أطلقت الصفة على “تارح” والد سيدنا إبراهيم بدلا من اسمه في الآية الكريمة.
وقيل: إن “آزر”: صفة بالفارسية الخوارزمية، بمعنى: الشيخ الهرم؛ كما جاء في “التحرير والتنوير”: أن “آزر” وصف، قيل معناه: الهرم بلغة خوارزم، وهي الفارسية الأصلية، وقيل: “آزر”: الشيخ، وعن الضحاك أن اسم أبي إبراهيم بلغة الفرس “آزر”[8].
كما أن “آزر” صفة بمعنى: الأعوج، كما جاء في تفسير القرطبي: أن “آزر” كلمة سب وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم، كأنه قال يا مخطئ، وجاء عن سليمان التيمي: “الآزر” كلمة سب في لغتهم، بمعنى المعوج، أي: المعوج عن طريق الخير[9].
وقيل: إن “آزر” مشتق من القوة؛ لأن “الأزر” بمعنى: القوة؛ كما قال الجوهري: “آزر” اسم أعجمي، وهو مشتق من “آزر فلان فلانا” إذا عاونه، فهو مؤازر قومه على عبادة الأصنام، وقيل: مشتق من القوة، والأزر: القوة.
ومما سبق نستخلص أن “آزر” إن كانت واردة بمعنى الصفة في القرآن الكريم، فليس في هذا الكلام خطأ في ذكر أبي إبراهيم بها.
حتى وإن قيل: إن “آزر” هو اسم لأبي إبراهيم، فما المانع أن يكون لأبيه اسمان علمان يطلقان عليه، وكلاهما صحيح، فقد جاء في “قصص الأنبياء”: “لعل لوالد إبراهيم – عليه السلام – اسمان علمان: تارح وآزر”[10].
ومما يؤكد ذلك ما جاء في “تفسير المنار”: قال البخاري في “التاريخ الكبير”: إبراهيم بن آزر، وهو في التوراة تارح، والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارح ليعرف بذلك. وعقب صاحب “المنار” على كلام البخاري قائلا: “فقد اعتمد أن آزر هو اسمه عند الله، أي: في كتابه، والقرآن هو المهيمن على ما قبله، نصدق ما صدقه، ونكذب ما كذبه”[11]، وعلى هذا يكون له اسمان علمان هما “تارح” في التوراة وعند النسابين، و “آزر” كما جاء في القرآن.
وإطلاق اسمين علمين على شخص واحد أمر شائع ومعروف حتى في عصرنا هذا، نألفه ونعرفه عند كثير من الناس، ولا يستنكره أحد، فيطلق على الإنسان اسم في شهادة ميلاده، يعرف به رسميا، ويطلق عليه آخر في التعامل المباشر مع الأهل والأصحاب.
وقد قيل كذلك: إن “آزر” اسم الصنم الذي كان يعبده: فقد جاء عن مجاهد أنه قال: “آزر لم يكن بأبيه، ولكنه اسم صنم”. وقيل: اسم أبيه تارح، واسم الصنم آزر، وعن ابن عباس: “آزر الصنم، وأبو إبراهيم: يازر”[12].
وفي “التحرير والتنوير”: “آزر اسم الصنم الذي كان يعبده أبو إبراهيم فلقب به، وأظهر منه أن يقال: إنه الصنم الذي كان أبو إبراهيم سادن[13] بيته. وقيل كذلك: إنه من الممكن أن يكون أهل حاران دعوه آزر حينما خرج مهاجرا إلى هناك؛ لأنه جاء من صقع آزر”.
وهذا هو الذي رجحه صاحب “التحرير والتنوير”؛ إذ قال: “والذي يظهر لي أن “تارح” لقب في بلد غربة بلقب آزر باسم البلد الذي جاء منه، ففي معجم ياقوت: آزر – بفتح الزاي وبالراء – ناحية بين سوق الأهواز ورامهرمز، وفي الفصل الحادي عشر من سفر التكوين من التوراة أن بلد تارح أبي إبراهيم هو “أور الكلدانيين”.
وفي معجم ياقوت ” أور” – بضم الهمزة وسكون الواو – من أصقاع رامهرمز من خوزستان، ولعله هو أور الكلدانيين أو جزء منه أضيف إلى سكانه. ففي سفر التكوين: “وأخذ تارح أبرام ابنه، ولوطا بن هاران، ابن ابنه، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه، فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك. وكانت أيام تارح مئتين وخمس سنين. ومات تارح في حاران”. (التكوين 11: 31، 32)، فلعل أهل حاران دعوه “آزر”؛ لأنه جاء من صقع آزر”[14].
إذن من كل ما سبق نستخلص أن إطلاق “آزر” على أبي إبراهيم ليس بخطأ على الإطلاق، سواء أكان المقصود عمه، أم كان اللفظ يراد به اللقب لأبيه، أو الوصف، أو حتى الاسم العلم الدال على أبيه، فهو اسم مع اسم ثان له، ففي كل الأحوال لم يخطئ القرآن في وصف أبيه بآزر، ولا تناقض في ذلك مع ما ثبت تاريخيا من أن اسم والد إبراهيم – عليه السلام – هو تارح.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله عز وجل: )وإذ قال إبراهيم( إيجاز بالحذف، والتقدير: واذكر جيدا يا محمد الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه آزر: )أتتخذ أصناما آلهة( [15].
الاستفهام في )أتتخذ أصناما آلهة( استفهام إنكار وتوبيخ، والظاهر أن المحكي في هذه الآية موقف من مواقف إبراهيم مع أبيه، وهو موقف غلظة، فتعين أنه كان عندما أظهر أبوه تصلبا في الشرك، وهو ما كان بعد أن قال له أبوه )لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46)( (مريم)، وهو غير الموقف الذي خاطبه فيه بقوله: )إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)( (مريم).
وقد تضمن ما حكي من كلام إبراهيم لأبيه أنه أنكر عليه شيئين:
أحدهما: جعله الصور آلهة مع أنها ظاهرة الانحطاط عن صفة الإلهية.
وثانيهما: تعدد الآلهة؛ ولذلك جعل مفعولي “تتخذ” جمعين، ولم يقل: أتتخذ الصنم إلها. وجملة: )إني أراك وقومك في ضلال مبين (74)( (الأنعام) مبينة للإنكار في جملة: )أتتخذ أصناما آلهة(، وأكد الإخبار بحرف التأكيد، لما يتضمنه ذلك الإخبار من كون ضلالهم بينا[16].
(*) .www.ebnmaryam.com .www.islameyat.com
[1]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج6، ص3733 بتصرف يسير.
[2]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب المغازي، باب حديث فتح مكة (36902)، والطحاوي في شرح معاني الآثار، كتاب الحجة في فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكة عنوة (5035).
[3]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص82.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص311.
[5]. قصص القرآن، محمد بكر إسماعيل، دار المنار للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص57.
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص22 بتصرف.
[7]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج7، ص536 بتصرف.
[8]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص31 بتصرف يسير.
[9]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص22.
[10]. قصص الأنبياء، ابن كثير، تحقيق: محمد عبد الملك الزغبي، دار المنار، القاهرة، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص104.
[11]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج7، ص536 بتصرف.
[12]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ص536.
[13]. السادن: الخادم.
[14]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص311، 312 بتصرف.
[15]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج6، ص3732 بتصرف.
[16]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج4، ج7، ص313 بتصرف.
توهم مخالفة القرآن الكريم بين المبتدأ والخبر في الإفراد والجمع
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن الكريم قد خالف قواعد اللغة العربية بعدم المطابقة بين المبتدأ والخبر في العدد في قوله عز وجل: )هم العدو فاحذرهم( (المنافقون: ٤)؛ حيث جاء الخبر “العدو” مفردا ومبتدؤه “هم” ضمير منفصل للجمع، والصواب في زعمهم أن يقال: “هم الأعداء” **.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل في الخبر المفرد أن يطابق المبتدأ في النوع والعدد، لكن الناظر في قوله تعالى: )هم العدو فاحذرهم(، يظن أنه مخالف للقاعدة المشار إليها؛ حيث جاء الخبر مفردا لضمير الجمع “هم”، ومن هنا جاء توهم اضطراب القرآن الكريم في المخالفة بين المبتدأ والخبر في الإفراد والجمع، وهذا الوهم يبطل من وجوه نجملها على النحو الآتي:
1) التعريف في لفظة “العدو” تعريف الجنس الدال على كمال حقيقة العدو فيهم؛ فهي اسم يقع على الواحد والجمع، وما دامت اللفظة دالة بنفسها على الواحد والجمع، فلا مخالفة إذن بينها وبين المبتدأ إن جاء مفردا أو جمعا.
2) الكلام داخل تحت باب المجاز، فقوله عز وجل: )هم العدو(، مجاز مرسل علاقته الخصوص، فاللفظ المذكور العدو خاص، والمراد هو العموم الأعداء، وما كان من قبيل المجاز لا يصح أن نعامله أو نفهمه بالمنطق اللغوي نفسه الذي نعامل به الحقيقي ونفهمه به؛ حتى يستقيم المعنى في أذهاننا، ونفهم السياق القرآني على الوجه الذي ينبغي أن يفهم عليه.
التفصيل:
أولا. إذا جاء خبر المبتدأ الجمع اسم جنس فلا مخالفة بين المبتدأ وخبره في هذه الحالة، فاسم الجنس لا يدل على المفرد وحده، بل يدل على الجمع كذلك، وهذا ما ينطبق على خبر “هم” في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، إذ التعريف في “العدو” تعريف الجنس الدال على كمال حقيقة العدو فيهم؛ لأن أعدى الأعادي: العدو المتظاهر بالموالاة وهو مداح، وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم، والعدو: اسم يقع على الواحد والجمع”.[1] وما دامت اللفظة دالة بنفسها على الواحد والجمع، فلا مخالفة بينها وبين المبتدأ، واحدا كان أم جمعا.
ثانيا. في الكلام مجاز، ولا يختلف اثنان على أن ما كان في كلامنا من قبيل المجاز لا يصح أن نزنه بنفس ميزان ما كان من قبيل الحقيقة، ولا أن يعامل معاملته، فبينهما بون يدركه أولو النظر في اللغة، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطره من الحسن، ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكرار القصة.
على أن علاقات المجاز المرسل كثيرة يعجز العد عن إحصائها، منها ما علاقته السببية أو المسببية، أو الجزئية أو الكلية، ومنها ما هو باعتبار ما كان أو ما سيكون، أو العموم أو الخصوص، وهذه هي علاقة المجاز الذي نحن بصدده، فالله عز وجل قال: )هم العدو(، أي: هم الأعداء، فعبر بالخاص وأراد العام، ومثله في القرآن كثير منه قوله: )علمت نفس ما أحضرت (14)( (التكوير)، أي: كل نفس، وقوله عز وجل: )يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين( (الأحزاب: 1)، فالخطاب للنبي، والمراد الناس جميعا.
ومثل هذا في القرآن كثير واضح لا يقف عنده أحد، فطالما عبر القرآن بالعام وأراد الخاص، فمعلوم أن الله – عز وجل – حين قال: )والشعراء يتبعهم الغاوون (224)( (الشعراء)، أنه لم يرد كل الشعراء، وإنما أراد بعضهم[2]، وأحرى بهؤلاء أن يتعاملوا مع الألفاظ القرآنية بمنطق الأساليب البلاغية العربية التي راعتها لغة القرآن ألفاظا وتراكيب؛ ليسهل عليهم أن يلتمسوا بلاغته، ويقفوا على إعجازه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
في قوله تعالى: )وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم( (المنافقون: 4) مجاز مرسل علاقته الكلية، إذ هو – صلى الله عليه وسلم – لم ير جملتهم، وإنما رأى وجوههم، وما يبدو منهم غالبا، فعبر بالكل وهو الأجسام، وأراد الجزء وهو ما يبدو منهم[3].
والآية معطوفة على جملة “فهم لا يفقهون” في الآية قبلها، ولو حذف حرف العطف من “إذا رأيتهم” لصح وقوع الجملتين موقع الاستئناف الابتدائي.
فإن قيل: لماذا عطف ولم يستأنف على الابتداء؟! فالجواب: إنه قد آثر العطف للتنبيه على أن هاتين الصفتين تحسبان كمالا وهما نقيصتان؛ لعدم تناسقهما مع ما من شأنه أن يكون كمالا، فإن جمال النفس كجمال الخلقة، إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن، وإلا فربما انقلب الحسن المتوهم موجب نقص”.
قوله عز وجل: )كأنهم خشب مسندة( (المنافقون: 4) تشبيه تمثيلي؛ إذ شبه هؤلاء المنافقين في سوء الرأي وعدم الجدوى بالخشب المسندة، فأفيد به أن أجسامهم المعجب بها، ومقالهم المصغى إليه خاليان من النفع كخلو الخشب المسند من الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لب وشجاعة، وعلم ودراية، وإذا اختبرتموهم وجدتموهم على خلاف ذلك، فلا تحتفلوا بهم”،[4] ووجه الشبه: حسن الصورة مع تلاشي الإدراك، وعدم النفع[5].
فإن تساءل أحدهم: ما وجه الدقة في هذه الصورة البيانية؟ نقول إن: “من عادة القرآن في رسم صورة التشبيه أن يذكر فيها من القيود، وأحوال الصياغة ما يجعلها معبرة تعبيرا دقيقا عن الغرض المسوقة لأجله، ولهذه القيود والأحوال شأن في صورة التشبيه لا ينتبه إليها إلا المعنى بإبراز نواحي الجمال وسر البلاغة في الأسلوب”[6]، وتلك هي دقة التشبيه؛ فقد وصف المشبه به وصفا دقيقا دالا على المعنى، إذ شبهوا بالخشب المسندة إلى الحائط؛ لأنهم أجرام خالية من الإيمان والخير، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع.
قوله عز وجل: )يحسبون كل صيحة عليهم( (المنافقون: 4) فيها إيجاز بالقصر، ومعلوم أن في الإيجاز بالقصر تحميل العبارات القصيرة المعاني الكثيرة من غير حذف؛ إذ تتآزر الدلالات الثانوية والشحنات النفسية مع الألفاظ في بيان المضمون”[7].
وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير مستحسن، وإذا عرفت مراتب الإيجاز، وتأملت ما جاء في القرآن منه عرفت فضيلته على سائر الكلام، وهي علوه على غيره من الكلام، وعلوه على غيره من أنواع البيان”[8]، وظاهر في الآية من المعنى الكثير ما دل عليه اللفظ اليسير.
وأما قوله تعالى: )قاتلهم الله أنى يؤفكون (4)( (المنافقون) فهو تذييل؛ فإنه جمع على الإجمال ما يغني عن تعداد مذامهم؛ كقوله: )أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم( (النساء: ٦٣)، وهو مسوق للتعجب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعدولهم عن الحق، وعليه فليس لمدع أن يتهم القرآن ها هنا بالخطأ في المطابقة بين المبتدأ وخبره في العدد.
(*) .www.alkalema.us
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص241، 242.
[2]. القرآن والصورة البيانية، د. عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص169.
[3]. القرآن والصورة البيانية، د. عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص182.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج13، ج28، ص239، 240.
[5]. القرآن والصورة البيانية، د. عبد القادر حسين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص70.
[6]. البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، د. محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1408هـ/ 1988م، ص486، 487.
[7]. المعاني في ضوء أساليب القرآن، د. عبد الفتاح لاشين، دار الفكر، القاهرة، 2002م، ص245.
[8]. ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: الرماني، والخطابي، والجرجاني، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1971م، ص77:
توهم مخالفة القرآن الكريم قواعد العربية في عود الضمير جمعا على المفرد
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المدعين أن القرآن الكريم لم يراع المطابقة بين الضمير والعائد عليه في العدد؛ فقد أعاد ضمير الجمع على المفرد، وذلك في قوله عز وجل: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)( (البقرة)؛ حيث عاد الضمير في قوله “بنورهم” جمعا على المفرد وهو لفظ “الذي”، والصواب في ظنهم أن يقال: “ذهب الله بنوره”، أو يقال: “مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا” **.
وجوه إبطال الشبهة:
الأصل في الضمير أن يطابق الاسم الذي يعود عليه في نوعه: التذكير أو التأنيث، وعدده: الإفراد أو التثنية أو الجمع.
ومن لا يتأمل قوله عز وجل: عز وجل: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)( (البقرة) يتوهم أن في الآية مخالفة بين الضمير والاسم الموصول الذي يعود عليه؛ وذلك في قوله: “بنورهم” و “تركهم”؛ حيث جاء الضمير جمعا مع عودته على مفرد، والصواب في زعمهم أن يقال: “مثلهم كمثل الذي استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنوره، وتركه في ظلمات لا يبصر”؛ ليطابق الضمير الاسم الذي يعود عليه في عدده، ولكن النظم المعجز في الآية الكريمة جاء على خلاف هذا الظاهر، ويمكن الرد على ذلك التوهم بما يلي:
1) إن لفظ “الذي” هنا جاء مفردا في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى: )ذهب الله بنورهم(، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع؛ لذلك فهو اسم يعبر به عن المفرد والجمع؛ كما يقول أهل اللغة.
2) وقيل: إنما وحد “الذي” وما بعده (أي جاء على لفظ المفرد)؛ لأن المستوقد كان واحدا – من جماعة – تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء، رجع الظلام عليهم جميعا.
3) ووجه آخر ذكره ابن عاشور مؤداه أن جمع الضمير في قوله عز وجل: )بنورهم( إنما كان “مراعاة للحال” المشبهة – وهي حال المنافقين – لا للحال المشبه بها – وهي حال المستوقد للنار – على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي، وهو انطماس نور الإيمان منهم؛ فالضمير في الآية عائد إلى المنافقين، لا إلى اسم الموصول “الذي”[1].
4) ويجوز أن نقول: إن المقصود بـ “بالذي” في الآية ليس شخصا، وإنما المقصود: “الفريق”، ولهذا يقال: الفريق الذي فعل كذا، ولا يقال: الفريق الذين.
5) إن الضمير قد يكون عائدا على محذوف يفهم من سياق الآية، والمعنى: مثل أولئك المنافقين كمثل الذي استوقد نارا لرفاقه، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فيكون الضمير عائدا على محذوف دل عليه سياق الآية، وهم الرفاق، وهو مثل يضرب لإعراض المنافقين عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي جاء بالنور والهداية من الله. وبهذا يتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، سوى الزعم الواهي وهي بيت العنكبوت.
التفصيل:
أولا. إن “الذي” في الآية مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع؛ ولذلك قال تعالى: )ذهب الله بنورهم( فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم.
فلفظة “الذي” ِمفرد، ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم، فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة “الذي”، وجمعه باعتبار معناها، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن “الذي” تأتي بمعنى “الذين”؛ ومن أمثلة ذلك في القرآن هذه الآية الكريمة، فقوله: )كمثل الذي استوقد نارا(؛ أي: كمثل الذين استوقدوا: بدليل قوله: )ذهب الله بنورهم وتركهم( (البقرة: 17)، وقوله:)والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33)( (الزمر)، وقوله: )وخضتم كالذي خاضوا( (التوبة: ٦٩) بناء على الصحيح من أن “الذي” فيها موصولة لا مصدرية، ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز:
يا رب عبس لا تبارك في أحد
في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
يقصد: الذين قاموا بأطراف المسد.
فاسم الموصول “الذي” في الآية )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا( اسم يعبر به عن المفرد والجمع، وهذا الذي أقره أهل اللغة والبيان، ومنه قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد
ووجه الدلالة في البيت، عود ضمير الجمع في قوله: “دماؤهم” على اسم الموصول “الذي”، فدل ذلك على أن اسم الموصول “الذي” يعبر به في الاستعمال اللغوي عن المفرد والجمع.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره[2]: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال تعالى: )رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت( (الأحزاب: ١٩)؛ فمثل حال المنافقين، وما هم فيه من خوف وفزع، بحال الذي يعاني سكرات الموت وشدائده.
جاء في البحر المحيط: ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مـجرى من الموصولة في الوقوع على الواحد والجمع، وقال الأخفش: وهو مفرد ويكون في معنى الجمع[3].
ثانيا. وقيل: إنما وحد “الذي”، وما بعده؛ لأن المستوقد كان واحدا من جماعة، تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء، رجع عليهم جميعا، فقال: “بنورهم” فقد وحد الضمير في “استوقد” ثم حول بعدها؛ نظرا لجانب اللفظ؛ لأن المنافقين كلهم على قول واحد وعلى فعل واحد، وجمع نظرا إلى جانب المعنى وذلك في “بنورهم”، و “تركهم”؛ لكون المقام تقبيحا لأحوالهم، وبيانا لعمههم وضلالهم، فإثبات الحكم لكل فرد منهم واقع، وقد روعي في “استوقد” لفظه، وفي “ذهب الله بنورهم” معناه، والفصيح فيه مراعاة اللفظ أولا ومراعاة المعنى آخرا، كما أن استيقاد النار – أي طلب وقودها – لفعله أو فعل غيره.
ثالثا. جمع الضمير في قوله عز وجل: “بنورهم” إنما كان مراعاة للحال المشبهة، وهي حال المنافقين، لا للحال المشبه بها، وهي حال المستوقد للنار، على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي، وهو انطماس نور الإيمان منهم؛ فالضمير في الآية عائد إلى المنافقين، لا إلى اسم الموصول “الذي”[4].
ويؤيد هذا، ما قاله ابن عباس – رضي الله عنهما – في معنى الآية، قال: “نزلت هذه الآية في المنافقين، يقول: مثلهم في نفاقهم، كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة، فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمة حائرا متخوفا؛ فكذلك حال المنافقين، أظهروا كلمة الإيمان وأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف”.
ويقوي هذا أن التمثيل في الآية جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم بالخيار في مراعاة أي الأمرين شاء؛ لأن الوصف لهما، فيكون ذلك الوضع نوعا واحدا في المشبه والمشبه به.
وبناء على ما تقدم، يكون ما في هذه الآية، موافقا لما في الآية بعدها، من قوله تعالى: )يجعلون أصابعهم في آذانهم( (البقرة: ١٩).
رابعا. ولنا أن نقول: إن لفظة “الذي” في الآية ليس المقصود بها الشخص، وإنما تدل على “الفريق”؛ ولهذا يقال: الفريق الذي فعل كذا، ولا يقال: الفريق الذين.
فالأولى أن يقال: إن لفظة “الذي” وقعت وصفا لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدلالة عليه، والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، أو الجمع الذي استوقد؛ فيكون قد روعي الوصف مرة؛ فعاد الضمير عليه مفردا في قوله: )استوقد نارا( و )حوله(، والموصوف مرة أخرى؛ فعاد الضمير عليه مجموعا في قوله: )بنورهم( و )وتركهم(.
وقيل: إن المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المستوقد، وإنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد، ومثله قوله: )مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار( (الجمعة: ٥) )ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت( (محمد: ٢٠). وقيل المعنى: ومثل كل واحد منهم، كقوله: )يخرجكم طفلا( (غافر: ٦٧)؛ أي: يخرج كل واحد منكم.
خامسا. وآخر الوجوه التي تبطل بها هذه الشبهة، هو أن يكون الضمير عائدا على محذوف يفهم من سياق الآية، والمعنى: مثل أولئك المنافقين كمثل الذي استوقد نارا لرفاقه، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنور أولئك الرفاق، فيكون الضمير عائدا على محذوف دل عليه سياق الآية، وهم الرفاق، وهو مثل يضرب لإعراض المنافقين عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، الذي جاء بالنور والهداية من الله.
ويؤيد هذا الوجه ما ذهب إليه بعض العلماء من تأويل هذا “الذي استوقد نارا”: أنه كان واحدا في جماعة معه، استدعي لاستيقاد النار. أي: طلبه، وسعى في تحصيله، فلما أوقدت له النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على ضوئها، ذهب الله بنورهم.
كذلك كان شأن المنافقين وحالهم – مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – كذبا ونفاقا وخداعا، وإفسادا، واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم التي اشتروها بالهدى، وتخبطوا في مستنقع الحيرة التي أدهشتهم، ولهذا كذبهم الله تعالى بادعائهم الإيمان، وذمهم بأنهم دخلوا في الإيمان، ثم خرجوا منه بقول الله تعالى: )إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)( (المنافقون).
وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه مثل المنافقين مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمثل القوم مع الذي استوقد نارا، وما حصل لهم من إذهاب نورهم؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور.
وتقدير الكلام: مثل المنافقين مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كمثل قوم اجتمعوا مع غيرهم على ضوء نار، استوقدها رجل منهم، فلما أضاءت ما حوله وحصل لهم نور من ضوء هذه النار، ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه. وقد طوي ذكر كل منهما اعتمادا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه. وهذا من ألطف أنواع البديع.
وبهذا الفهم لمعنى الآية الكريمة يكون قوله تعالى: )الذى استوقد نارا( مثلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويكون قوله تعالى: )ذهب الله بنورهم وتركهم( مثلا للمنافقين، ويدل على ذلك ما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قوله: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم[5] عن النار وأنتم تقحمون[6] فيها»[7]، فمثل – صلى الله عليه وسلم – نفسه برجل استوقد نارا، ومثل الناس الذين لم ينتفعوا بضوء النار بالفراش والدواب التي تقع في النار.
فليس بعد هذا البيان لمدع أن يدعي أن الذي استوقد نارا مثل للمنافق، وأن ناره التي استوقدها خمدت، وكيف يكون منافقا من أضاء بناره الوجود من حوله، ثم يؤخذ بجرم المنافقين؟ وكيف يحكم على ناره، التي استوقدها لهداية الناس بالخمود والانطفاء.. هذه النار التي أوقدها الله تعالى، ليهتدي بنور ضوئها كل موجود في هذا الوجود؟!
وعليه فلا نجد عذرا لمن يدعي هذا الادعاء على القرآن، إلا أنه لا لوم على ضرير في تهمته لضوء الشمس، ولا ضير على الشمس من تهمته، وصدق القائل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
روعة الإعجاز البياني في القرآن الكريم في جمع الضمير في قوله: )بنورهم( مع كونه مفردا في قوله: )ما حوله(، وذلك مراعاة للحال المشبهة – وهي حال المنافقين – لا للحال المشبه بها – وهي حال المستوقد الواحد – على وجه بديع، في الرجوع إلى الغرض الأصلي، فهذا إيجاز بديع. وكأنه قال: فلما أضاءت ذهب الله بناره، فكذلك يذهب الله بنورهم؛ أي: ببصرهم وهي أسلوب لا عهد للعرب بمثله، فهو من أساليب الإعجاز[8].
يقول الطبري: فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنما جاز لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالإيمان الظاهر، وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر.
والاستضاءة – وإن اختلفت أشخاص أهلها – معنى واحد، لا معان مختلفة. فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص، وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين – بما أظهروا من الإقرار بالله تعالى وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – وبما جاء به قولا، وهم به مكذبون اعتقاداـ كمثل استضاءة الموقد نارا، ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة:
وكيف تواصل من أصبحت
خلالته [9] كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، فأسقط خلالة؛ إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالة لسامعيه على ما حذف منه، فكذلك القول في قوله: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا( لما كان معلوما عند سامعيه بما أظهر من الكلام أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله.
والمقصود بالمثل ما ذكرنا، فلما وصفنا جاز وحسن قوله تعالى: )مثلهم كمثل الذي استوقد نارا(، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد؛ إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما المراد من الفعل “استوقد” فنتبين فيه حال رجل، قد أحاطت به حلكة الظلام، فهو يطلب جاهدا نارا تضيء له مسالك السبيل، والهمزة والسين والتاء تدل على هذا البحث القوي، والطلب الجاد.
وفي كلمة “أضاءت” ما يدل على أنه قد أوتي أكثر مما يطمح إليه، فلقد كان يبحث عن نار، أياما كانت، فأوتي نارا قوية أضاءت ما حوله، غير أن ذلك لم يلبث أن مضى وزال.
واستخدام “ذهب بالنور” أقوى من “ذهب النور”؛ لأن في التعبير الأول دلالة على أن آخذا أخذ النور ومضى به، فكيف إذا كان الذاهب به هو الله – عز وجل – وفي إضافة النور إليهم ما يشعر بأنهم كانوا قد اطمأنوا إلى النور، وفرحوا به، فيكون الذهاب به أشد إيلاما وأنكى.
وأتى – عز وجل – بكلمة”ظلمات” جمعا؛ ليشير إلى هذا الظلام المتكاثف، والحلكة المتراكمة بعضها فوق بعض، وتأمل بعدئذ هذه الصفات التي خرجوا بها عن أن يكونوا من البشر، بل عن أن يكونوا من الحيوان، ما داموا قد عطلوا مواهبهم، ولم ينتفعوا بها، وكان لنسق هذه الصفات على وزن واحد أثر موسيقى مؤثر[10].
السر البياني في أنه تعالى قال: )ذهب الله بنورهم( ولم يقل (أذهب الله نورهم)، أو (ذهب نورهم): وهنا تشرق علينا لمحة أخرى من لمحات الإعجاز البياني؛ حيث كان الظاهر أن يقال: أذهب الله نورهم، أو يقال: ذهب الله بنارهم، أو بضوئهم. ولكن الله تعالى، لم يقل هذا ولا ذاك؛ وإنما قال: )ذهب الله بنورهم( فأسند سبحانه الذهاب إليه حقيقة، لا مجازا، واختار النور على النار وضوئها.
أما إسناد الذهاب إليه سبحانه فللدلالة على المبالغة؛ ولذلك عدي الفعل بالباء، دون الهمزة؛ لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك، وبيان ذلك: أنه إذا قيل: ذهب الشيء، فمعناه: مضى إلى رجعة، أو إلى غير رجعة؛ كقوله تعالى: )وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين (99)( (الصافات). وكقوله تعالى: )فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74)( (هود). وإذا قيل: أذهب فلان الشيء، فمعناه: أزاله من الوجود، وجعله ذاهبا، ومنه قوله تعالى: )إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19)( (إبراهيم)، فإذا قيل: ذهب فلان بالشيء، يفهم منه: أنه استصحبه معه، وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى التي كان عليها، وكأنه التصق به التصاقا، وليس كذلك: أذهبه، ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: )فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب( (يوسف: ١٥).
فثبت بذلك: أن “ذهب بالشيء” أبلغ من “أذهب الشيء”؛ لأن في التعبير الأول دلالة على أن آخذا أخذ النور، ومضى به، فكيف إذا كان الذاهب به هو الله، وأصلهما جميعا الذهاب الذي هو المضي، وكلاهما متعد إلى المفعول الأول بنفسه، والثاني بوساطة الباء؛ ولهذا لا يجوز القول بزيادة هذه الباء، أو أن المعنى معها وبدونها سواء.
وأما السر في أنه تعالى قال: )ذهب الله بنورهم(، ولم يقل: “بضوئهم”، أو “بنارهم”: فلقد اختار النور على النار وضوئها؛ لأنه المراد من استيقاد النار؛ إذ هو أعظم منافعها، ولكونه الأنسب بحال المنافقين، الذين حرموا الانتفاع والإضاءة، بما جاء من عند الله.
فقد استخدم “أضاءت” ثم “نورهم” ولم يقل بضوئهم؛ لأن هذا من مراعاة النظير، أو من التناسب والائتلاف، مع اقتضاء السياق للفظة ضوئهم: فإن السر في ذكر النور أن الضوء فيه دلالة على الزيادة، ولو قال بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة، وبقاء ما يسمى نورا، والغرض هو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا.
وعطف: )وتركهم في ظلمات لا يبصرون(على: )ذهب الله بنورهم( فاستفيد من هذا العطف التأكيد والتقرير لانتفاء النور عنهم بالكلية، نظرا لما فيه من ذكر الظلمة المنافية للنور، ثم إيراد ما يدل على أنها ظلمة، لا يتراءى فيها شبحان. والقصد من هذا التأكيد والتقرير زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها.
أما قوله تعالى: )وتركهم( فهو للإشارة إلى تحقيرهم وعدم المبالاة بهم، لما فيه من معنى الطرح للمتروك.
ومن اللطائف البديعة أن “الظلمة ” حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة، وأن النور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمةـ وإن قلت – تستكثر، وأن النورـ وإن كثرـ يستقل ما لم يضر. وأيضا فكثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان. والقليل من الكفر كثير، والكثير من الإيمان قليل، فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا.
وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة لا متعددة، ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة.
وبهذا يتبين أنه لا وجه لما تعلق به أصحاب هذه الشبهة، وأن الكلام مستقيم من أوله إلى آخره، ويأخذ بعضه برقاب بعض؛ فليس بعد هذا البيان لمدع أن يدعي، أو لمتوهم أن يتوهم خطأ في القرآن.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م.
[1]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج1، ج1، ص309.
[2]. جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، عند تفسير الآية.
[3]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[4]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج1، ج1، ص309.
[5]. الحجز: جمع حجزة، وهي معقد الإزار والسراويل.
[6]. تقحمون: تقعون.
[7]. أخرجـه البخــاري في صحيحـه، كتـاب الرقائـق، بــاب الانتهـاء عن المعاصـي (6118)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، باب شفقته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم (6095).
[8] .التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس ، مج1، ج1، ص309.
[9]. الخلال: الصداقة والمحبة.
[10]. من بلاغة القرآن، د. أحمد بدوي، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، ط2، 1952م.
دعوى اضطراب القرآن الكريم في حديثه عن يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين اضطراب القرآن في حديثه عن قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز؛ حيث ذكر بعض المفسرين عند تفسير آيات سورة يوسف من (25: 29)، أن الشاهد على براءة يوسف – عليه السلام – كان ابن عم لها وكان صبيا في المهد. ويتساءلون: من أين جاء هذا الصبي ولم يكن في البيت أحد؟! كما يتساءلون: كيف يسجن عزيز مصر يوسف مع علمه ببراءته؟ وكيف يرضى بهذا العار؟ وكيف تهدد الزوجة يوسف بالسجن إن لم يفعل ما أمرته به من الفحشاء فيقبل أن يسجن لا لفحشه، بل لعفته؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم يتناقض القرآن بشأن قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – ولا في غيرها؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومن ذلك ما في الكتاب المقدس من ترهات في هذا الشأن.
2) حديث القرآن الكريم عن سيدنا يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز في غاية السلاسة والإحكام، مما يدل على أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
3) قول بعض المفسرين: إن الشاهد على براءة سيدنا يوسف – عليه السلام – كان طفلا في المهد أنطقه الله تجاوز وإسراف لا يحتمله السياق، بل الأصوب أنه كان ابن عم لها وكان يجلس مع زوجها ساعة الحدث.
4) براءة يوسف – عليه السلام – لا تقتضي أن يسجنه ع0زيز مصر، كما شهد له الجميع: عزيز مصر، الزوجة، والنسوة، كما شهد له رب العزة وكفى بها شهادة. لكنه سجنه درءا لفضيحة زوجته، وسترا لعرضه؛ حتى ينسى الناس هذه الحادثة.
التفصيل:
أولا. لم يتناقض القرآن في هذا الشأن؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومن ذلك ما في الكتاب المقدس من ترهات وتناقضات:
إن القرآن الكريم الذي تكفل الله – سبحانه وتعالى – بحفظه من التحريف والتغيير: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). يرد على ما جاء في الكتاب المقدس من تحريفات عظيمة في حق أنبياء الله ورسله، وفي غيرها من الأمور الأخرى، وقد فضح الله أمرهم وأخبر بتحريفهم للتوراة والإنجيل؛ يقول سبحانه وتعالى: )يحرفون الكلم عن مواضعه( (النساء: 46)، ويقول سبحانه وتعالى: )فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)( (البقرة).
ثم إنك لتعجب أشد العجب من قصص وقصاص التوراة الذين أطلقوا العنان لخيالهم المريض وأفكارهم الخبيثة التي تبث سمومها وأمراضها على صفحات كتاب يفترض أن يكون مقدسا – كما يزعمون – ولا ندري مصدر القداسة في هذه القصص القبيحة أو الحكايات الأسطورية الفاضحة أو الخيالات الماجنة عن أشخاص أكمل الله لهم الخلق والخلق، وجعلهم للناس قادة وللبشر سادة[1]، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: أن داود – عليه السلام – وقع على بتشيع زوجة القائد أوريا، وزنا بها، وجره عشقه لها وهيامه بها أن دفع زوجها إلى مقدمة الجيش حتى قتل غدرا بوشية من داود إلى أحد قادته في جيش أوريا، ومنها أن هارون – عليه السلام – صنع عجلا وبنى له مذبحا وعبده مع بني إسرائيل وسجدوا له، وذبح الذبائح وقدم القرابين بين يديه، وتحدى تعاليم الله عليه السلام وخالف أوامره!! ومنها أن إبراهيم – عليه السلام – تاجر بامرأته لكل ملك نزل بأرضه وجعلها عرضا مباحا، لا يرد عنها يد لامس، ولا يكبح عنها[2] شهوة راغب[3].
وقد برأ الله في القرآن أنبياءه مما لحق بهم يقول سبحانه وتعالى: )وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47)( (ص)، ويقول سبحانه وتعالى: )ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32)( (الدخان)، وقال سبحانه وتعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33)( (آل عمران).
وبناء على ذلك فإن عدم ذكر التوراة لقصة الشاهد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم – في قصة امرأة العزيز مع سيدنا يوسف – عليه السلام – لا يعني اضطراب القرآن أو تناقضه؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومضيفا لما ورد في كتبهم من قصص، وإنما يدل هذا على إحكامه، وعلى أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم تذكر التوراة أيضا قصة استباق الباب من يوسف – عليه السلام – وامرأة العزيز، مما تفرد به القرآن وإنما ساقت التوراة أنها لما أمسكت بثبوت يوسف خلعه لها، فنادت الخدم وأخبرتهم، بأن بعلها جاء برجل عبراني يداعبها، وأن يوسف لما رأى المكان خاليا طلب منها أن يضاجعها، فأبت وصرخت بصوت عظيم، وكان استعد للأمر، فخاف حين استغاثت وهرب وترك عندها قميصه. وهذا يدل على التشويه الذي أصاب قصة يوسف – عليه السلام – وغيرها في نصوص التوراة المحرفة[4].
ثانيا. حديث القرآن عن سيدنا يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز، في غاية السلاسة والإحكام:
فالتصوير الحقيقي للقصة في القرآن الكريم هو التصاعد الصادق لأحداث الموقف بين الطرفين، فسيدنا يوسف – عليه السلام – يمتنع عنها، ويقوم مبادرا إلى الباب للهرب منها، فتتعلق بقميصه من الخلف، فتجذبه لمنعه من الهرب دون الوصول إلى مأربها، وبذلك شق القميص، ووجدا زوجها عند الباب جالسا مع ابن عمها؛ فهابته، وألصقت التهمة به؛ لتتحول من جانية إلى مجني عليها بكل مكر ودهاء وقالت: )قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم (25)( (يوسف)، ونلاحظ هنا أن خلق يوسف – عليه السلام – ما كان ليجعله يفشي هذا السر ويفضح المرأة لكنها قلبت الحقائق؛ ليتحول الجاني إلى مجني عليه، فكان عليه أن يبرئ نفسه؛ لأن هذا طعنا في أمانته مع من أحسن إليه، وإذا نظرنا إلى الموقف نظرة فاحصة لوجدنا أن امرأة العزيز تصعد رغبتها من مراودة إلى تغليق الأبواب إلى تهيؤ وطلب صريح، إلى محاولة الاقتراب منه بالقوة، وهو يقابلها بتصعيد الرفض والإباء: )قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون (23)( (يوسف) [5].
فيوسف – عليه السلام – لم يجد معاذا إلا الله؛ لأنه سبحانه الذي أعطاه الحكم والعلم، وقال له: هذا حلال وهذا حرام، والله تعالى قادر دائما أن يعيذ عباده، ويمنع عنهم ما يكرهون وكلمة “معاذ الله”عند المؤمن إذا قالها فلا بد أن الأمر عصيب.
ولم يوافق يوسف – عليه السلام – على ما تريده، وطلب العون من الله، وقوله عليه السلام: )أحسن مثواي( أي نجاني من الجب ومن شر إخوتي، وهيأ لي مكانا رغدا؛ لأعيش فيه فلا أكافئه بأن أعصيه، وأن أجعل نعمه على وسيلة لمعصيته خاصة أن زوجها عزيز مصر، قد أكرم يوسف – عليه السلام – فهو القائل: )عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا( (يوسف: 21)[6].
وبذلك يتضح لنا أدب اللجوء إلى الله في القرآن الكريم، وهو ما أدب الله – عز وجل – به أنبياءه وعباده الصالحين.
ثالثا. تحديد الشاهد:
لا بد أن زوج المرأة بطبيعة الحال لجأ للتحقيق في القضية، والتحقق من الأمر، فوجد خيطا يدله على التعرف على تحديد الجاني، والمجني عليه، )قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26)( (يوسف) ويكفي أنه من أهلها حتى يكون ألزم وأقوى في الحجة، وأظهر في براءة يوسف – عليه السلام – وأنفى للتهمة.
واختلف العلماء في شاهد يوسف – عليه السلام – فقال السدي: إنه ابن عمها، الذي كان جالسا أمام الباب مع زوجها بدليل قوله عليه السلام: )وشهد شاهد من أهلها( (يوسف: 26) وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان الشاهد صبيا في المهد أنطقه الله.
أما عن الحكم فقد لخصته الآية الكريمة فيما يلي: )وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف).
وهنا تظهر فراسة الشاهد في إحقاق الحق، فقد حكم بما قرأناه في الآية الكريمة قبل أن يرى ثوب يوسف؛ لذا نجد نوعا من العدالة، ثم رتب على رؤيته للقميص ترجيح حكم على آخر، ثم كان الحكم، والكيد هو الاحتيال على إيقاع السوء بشخص ما على أن يتم ذلك في الخفاء؛ لأن المحتال ليس له القدرة على أن يواجه عدوه؛ لذلك يدبر له في الخفاء، وقوله – عليه السلام – على لسان الزوج: )إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف) دليل على أن المرأة كيدها عظيم وضعفها أعظم.
وحينما عرف العزيز أن المرأة هي المذنبة، طلب من يوسف – عليه السلام – ألا يتحدث في هذا الأمر حتى لا تسوء سمعة العزيز وزوجته بين الناس )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف)[7].
رابعا. براءة يوسف عليه السلام:
وهنا نجد أن براءة سيدنا يوسف – عليه السلام – شهد بها الكثيرون، كما قال الإمام الفخر الرازي: إن يوسف قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله سبحانه وتعالى: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف).
وشهد الشيطان ببراءته بقوله سبحانه وتعالى: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص)، وشهد ببراءته الشاهد من أهل امرأة العزيز، إذ قال: )إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)( (يوسف).
وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيديهن بقولهن: )ما علمنا عليه من سوء( (يوسف:51)، وشهدت ببراءته امرأة العزيز بقولها: )الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51)( (يوسف). فالذي يريد أن يتهم يوسف – عليه السلام – بالهم عليه أن يختار أن يكون من حزب الله، أو من حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف – عليه السلام – فلا مفر من الإقرار بالحق على أية حال[8].
شيوع الخبر في المدينة، وتحدث النساء به:
رغم هذا التحفظ والتستر شاع الخبر في المدينة، وانتشر بين النساء، فربما يكون أحد العاملين بالقصر هو الذي أشاع الخبر أو ربما أشاعه امرأة من النسوة اللاتي يعملن في خدمة امرأة العزيز، فالمنطقي أن الخدم سمعوا الضوضاء وأمر كهذا لا يخفى على هؤلاء على كثرتهم في القصر.
المهم أن الخبر شاع ولاكته[9] أفواه النساء، لائمين امرأة العزيز على غرامها بغلام مملوك اشتروه بدراهم معدودة، وهي امرأة العزيز[10]، ولما عرفت امرأة العزيز ما سمعته من أخبار، وعرفت أنهن يردن إهانتها والتشهير بها مكرت بهن حتى يدخلن في تجربة عملية ويراودن يوسف – عليه السلام – عن نفسه فلا يكون هناك لوم ولا عذل.
قال سبحانه وتعالى: )فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا( (يوسف: 31)، ثم قالت ليوسف عليه السلام: )اخرج عليهن( حتى لا ينتبهن من شدة جمال يوسف – عليه السلام – وحسنه فيقطعن أيديهن: )فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31)( (يوسف)، حيث وجدنه أكبر مما تخيلنه، وهنا يظهر عناد المرأة وكبرياؤها مرة أخرى؛ حيث أعلنت أمام النسوة بعد أن فقدت حياءها وتحفظها: )ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)( (يوسف)، ولم تقل سأبيعه أو أطرده؛ لأنهن قد يسارعن بشرائه فقطعت بذلك هذا الأمل الذي ربما يساورهن، معلنة أنه لن يخرج من القصر، فهن أكبرنه، وهي ستذله وتهينه إذا لم يستجب لها.
ولم يجد يوسف إزاء هذا الموقف إلا اللجوء لربه سبحانه ليعصمه من كيدهن: )قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه( (يوسف: 33). فاستجاب له ربه – عز وجل – ونجاه من هذا الوسط الحافل بالفتن، فالله – عز وجل – يريد في قولهعليه السلام: )وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33)( (يوسف) [11] أن يثبت ليوسف – عليه السلام – بشريته وفحولته، فكان قوله هكذا: إما أن يصرف الله – عز وجل – عنه كيدهن، وإما أن يقع فيما لا رغبة له فيه، فدعا الله مخلصا في ساعة اضطرار فهو في سن خطيرة سن البلوغ والرجولة، فقد يميل إليهن ويكون من الجاهلين إن لم يعصمه الله وهو سميع لما يقول عليم بحاله: )فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)( (يوسف) [12].
إذن فقد يتساءل بعضهم: لماذا لم ينجه ربه من محنة السجن؟ لقد كان أمام يوسف – عليه السلام – محنتان: محنة السجن ومحنة فتنة النساء وكيدهن، والله تعالى قادر على أن ينجيه من كل المحن والفتن، ولكنه البلاء والابتلاء الذي هو سنة في حياة الأنبياء والمرسلين، فهم أشد الناس بلاء، والبلاء تمحيص واختبار ورفعة في المنازل والدرجات، ولا يصح أن يبتلي نبي من أنبياء الله تعالى بالوقوع في المعصية، إنما يصح أن يبتلى بأي بلاء آخر: كالسجن أو الإيذاء والتعذيب؛ لأن ذلك – مما لا شك فيه – يصقل مواهبه و يرفعه الدرجات العلى، كما أن الابتلاء بالسجن كان له من الحكمة وجوه منها ما تدركه عقول البشر، ومنها ما لا يعلمه إلا الله – عز وجل – وربما يكون من الحكم صرف فتنة النساء عن يوسف – عليه السلام – فإنه لشدة جماله تعرض للفتنة من جميع من رأينه – كما ذكر القرآن – فقد يخرج من بيت العزيز ثم يتعرض إلى نفس الفتنة في أماكن أخرى؛ فكان السجن صرفا له وإبعادا عن أعين النساء، كما كان السجن مجالا خصبا لدعوة يوسف – عليه السلام – وهو المنطلق الذي وصل منه – بإرادة الله عز وجل – إلى التمكين في الأرض وتحقيق رؤياه.
وقد يتساءل آخر: لماذا سجنه العزيز، وقد تأكد من براءته؟ الراجح أنه أراد أن يستر خطأ امرأته ويدرأ عن بيته الفضيحة حتى يعلم الناس أن يوسف هو الجاني، ولكن يبقى مع هذا موقف العزيز دالا على أنه كان ضعيف الغيرة على عرضه؛ لأنه عبر عنه بمجرد لوم زوجته، وطلب الاستغفار: )يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (29)( (يوسف). يقول سيد قطب: “وهنا تبدو صورة من الطبقة الراقية في المجتمع الجاهلي، رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية، وميل إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف – عليه السلام – البريء، فيأمره بكتم الأمر، وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجه الخائن بأسلوب لبق[13] يواجه به الحادث الذي يثير الدم في العروق”[14].
ولعل مكوث يوسف فترة من الزمن في السجن كان خيرا له: )وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم( (البقرة: 216)، وكما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء[15] شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء[16] صبر فكان خيرا له…»[17].
وهكذا نجد سيدنا يوسف – عليه السلام – لا يفتر عن الدعوة في سجنه، وشهد له رفاق السجن بذلك: )إنا نراك من المحسنين (36)( (يوسف) أي: ليس من المنحرفين الذين يستحقون الإهانة بسجنهم وتعذيبهم.
كما خرج من سجنه كأكرم ما يكون الرجل، وهيئ له ملك مصر، والخير كله كان في يده آنذاك.
وبهذا يتبين لنا أن براءة سيدنا يوسف – عليه السلام – قد أثبتها القرآن الكريم، دون تناقض أو اضطراب، كما يدعون، فقد عرض القضية عرضا سلسا جميلا، حيث أقر الجميع ببراءة سيدنا يوسف – عليه السلام – وكان من نتيجة ذلك ليس خروجه من السجن فحسب، لكن ملك خزائن مصر وصارت الأمور بيده. فأين التناقض أو الاضطراب إذا في عرض القصة؟!
الخلاصة:
لم يتناقض القرآن الكريم بشأن قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز، ولا في غيرها؛ فقد جاء مصوبا لأخطاء السابقين، ومضيفا إليها مثل: قصة الشاهد، وحادثة استباق الباب وغيرها، ومصوبا ما جاء في الكتاب المقدس من ترهات، وتناقضات في هذا الشأن؛ فمثلا نجد الكتاب المقدس، يذكر أن يوسف – عليه السلام – فر من امرأة العزيز تاركا ثوبه، فهل من المعقول أن يخرج عاريا أمام الزوج؟ فيثبت على نفسه الجريمة، أفلا يتناقض هذا مع المنطق والعقل السليم؟!
إن القرآن محكم تمام الإحكام إضافة إلى ما نلمحه من أدب التناول بألفاظ خفيفة، لا تخدش الحياء، على عكس التوراة التي تتسم بالسفور الصارخ، ولا عجب في ذلك فهي محرفة، من وضع البشر، فشتان ما بين هذا وذاك.
حديث القرآن الكريم عن سيدنا يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز غاية في السلاسة والإحكام؛ فالأحداث مرتبة لا تناقض فيها يسلم بعضها إلى الآخر، مما يدل على أنه الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فمثلا: مسألة الشاهد التي يزعمون أن القرآن تناقض بشأنها جاءت واضحة رقراقة[18] في القرآن الكريم، فقد ذكر أنه كان من أهلها، ورغم ذلك فقد حكم ببراءة يوسف – عليه السلام – على أساس من المنطق السليم.
أن قول بعض المفسرين إنه كان طفلا في المهد أنطقه الله من قبيل المغالاة، ولا يستدعيه سياق الموقف، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم – صلى الله عليه وسلم – فلا تناقض في ذلك.
أما مسألة تبرئة سيدنا يوسف – عليه السلام – فقد برأه رب العزة فقال سبحانه وتعالى: )إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، فضلا عن الآخرين: العزيز، والزوجة، والنسوة، الشاهد، بل الشيطان نفسه، ورغم تأكد الزوج من براءة يوسف كان لا بد من سجنه درءا للشبهات وسترا لعرضه الذي لاكته الألسنة، أما تهديد الزوجة يوسف – عليه السلام – بالسجن أمام النسوة فكان من قبيل الضغط عليه حتى يقبل ما تريده منه، ثم من قبيل امتهانه وإذلاله بعد أن أحست بالطعن في كبريائها وضياع كرامتها كأنثي فقد أبي يوسف – عليه السلام – أن يفعل بها الفاحشة – وإن شئت فقل عصمه ربه – وهي لا تزال تريده وقد شغفها حبا، كما حكى القرآن الكريم وقد أرادت إذلاله أمام النسوة إن ظل على عناده واعتصامه.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص30 بتصرف يسير.
[2]. يكبح عنها: يرد عنها.
[3]. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص33 بتصرف يسير.
[4]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص158: 161 بتصرف.
[5]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص135 بتصرف.
[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص181 بتصرف يسير.
[7]. حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص136 بتصرف.
[8]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص160، 161. سيب
[9]. لاكته: تحدثت به.
[10]. قيل: إن لفظ العزيز كان يطلق في هذا الزمان على رئيس الشرطة.
[11]. أصب: أحن وأميل إليهن.
[12]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص187: 193 بتصرف.
[13]. لبق: ظريف.
[14]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص1983 بتصرف.
[15]. السراء: الشيء السار.
[16]. الضراء: الشيء الضار.
[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره لله خير (7692).
[18]. الرقراقة: الواضحة المتلألأة.
توهم وقوع الخلط في القرآن بشأن قصة قارون
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن يخلط في قصة قارون بين قارون وكروسوس ملك ليديا (560 – 546 ق. م) الذي هو علم على الغني عند العرب وغيرهم، وقورح الذي ورد ذكره في التوراة في زمن موسى عليه السلام، ويستدلون على ذلك بالتشابه الواقع بين قصص الأشخاص الثلاثة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ورد ذكره في التوراة؛ وذلك بناء على ما أكده المؤرخون بخصوص نسب قارون الذي يختلف عن نسب هذين الرجلين.
2) الحكمة من القصص القرآني هو استخلاص العبرة والعظة، لا ذكر الأنساب والأسماء، والقرآن يكتفي بما يفيد توصيل العبرة والعظة.
3) وردت قصة قارون في القرآن واضحة متماسكة، بل فصلها الذكر الحكيم تفصيلا بحيث لا تلتبس بأي قصة أخرى.
التفصيل:
أولا. قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ذكر في التوراة:
كروسوس الذي يقولون عنه إنه ملك ليديا، قد ذكر التاريخ الذي وجد فيه (560 – 546 ق. م) كما حدد المكان الذي عاش فيه وهو ليديا، وقد وردت قصة قارون بتمامها في سورة القصص دون أن يحدد الحق – صلى الله عليه وسلم – زمان وقوعها ولا مكان حدوثها.
كما أن كروسوس هذا الاسم ليس هو اسم قارون وليس له علاقة به لا من جهة المعنى ولا المبنى، وإن كان هناك علاقة بين الاسمين؛ فلماذا لم يأتوا بالأدلة العلمية الواضحة التي تثبت هذه العلاقة؟! فمن أين – إذن – يأتي لهم الزعم أن القرآن يخلط بين كروسوس وقورح في قصة قارون، وهم لا دليل لهم على ذلك؟!
كما أن الأدلة العلمية تثبت أنه ليس قورح، وإن كان لا بد من معرفة نسبه وإلى من ينتهي هذا النسب، فالراجح بالأدلة العلمية أنه يصهار عم موسى – عليه السلام – إذ جاء في قاموس الكتاب المقدس، ص1072: “يصهار: اسم عبري معناه يضيء أو يشرق”.
وجاء في تفسير القرطبي والرازي، وجاء في قصص الأنبياء كذلك أن قارون كانت كنيته في قومه المنور؛ لوضاءته وجماله وحسن صوته بالتوراة.
كما أن الجذر العبري “قر ن” معناه: “أنار وأضاء وأشع، واشتق منه: قارون بمعنى الأوار المنور”. [1] ويقول أكثر المؤرخين وأهل العلم: إنه كان ابن عم موسى – عليه السلام – فهو قارون بن يصهب بن قاهث بن لاوي، وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب[2]. وقيل: إنه يصهار عم موسى الذي ورد ذكره في التوراة، فضلا عن أن اسم قارون يحمل معنى آخر، وذلك الفعل “يقر” العبري هو الفعل “وقر” العربي وكلاهما يفيد معاني الثقل والعظمة والمال، فالوقر يعني الحمل الثقيل والوقار من معانيه العظمة، وحينما اشتق القرآن الكريم من “يقرون” اسم قارون لم يبعد كثيرا عن قواعد اللغة العبرية حيث يشتق من “يشرون” اسم “شارون”، فاختيار القرآن لاسم “قارون” كان إعجازا لفظيا، إذ يتماشى مع قواعد اللغة العبرية، وفي نفس الوقت يعني المنير وهو نفس اسم “يصهار”، كما أنه يتضمن الحمل الثقيل، وفيه إشارة إلى كنوزه التي كانت مفاتيحها من الثقل، بحيث يعجز عن حملها الرجال الأشداء.
مما سبق يثبت أن قارون هو يصهار أو يصهر – كما ورد في التفاسير – بن قاهث بن لاوي بن يعقوب – عليه السلام – وليس كروسوس ولا قورح.
ثانيا. ليست الحكمة من القصص القرآني ذكر الأسماء والأنساب، وإنما هي استخلاص العبرة والعظة، بغض النظر عن الزمان والمكان و الأسماء والأنساب:
فالأسلوب القرآني المعجز – يهتم بما يفيد في توصيل العبرة والعظة؛ لذا نراه هنا يكتفي بذكر أن قارون كان من قوم موسى؛ ليعلم أهل البغي والضلال أن النسب لا يغني عن صاحبه شيئا، إن جاءه بأس الله في الدنيا، وحلت به نقمته، «فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم [3].
فقد كان قارون من قوم موسى وكان ممن سمع منه التوراة ولازمه مدة طويلة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، ولم تؤثر فيه مواعظه، فنافق قومه، وحسد موسى على ما آتاه الله من فضله، وتمنى أن يكون رسولا مثله، كما تمنى ذلك كثير من أثرياء مكة، وكبراء الطائف، ورؤساء اليهود؛ ظنا من هؤلاء القوارين – جمع قارون – أن النبوة والشرف، والعزة، تنال بالثراء والغنى قال سبحانه وتعالى: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف). أي: عظيم في نسبه وجاهه وثروته، فضرب الله لهم قارون مثلا يستبينون به حالهم، ومآلهم ويعرفون به أقدارهم، ومنازلهم بين الناس؛ فيعلمون من خلال هذا المثل أنهم ليسوا على شيء، وأن العزة ليست لهم، وإنما هي للمؤمنين، وأن العاقبة يوم القيامة للمتقين[4].
من هذا نصل إلى أن اهتمام القرآن بالتوجيه والإرشاد، واستخدامه الأسلوب الصالح لكل زمان ومكان – يبرر عدم تحديده لزمان هذه القصة، ولا مكانها، كما يبرر عدم ذكره وتفصيل نسب “قارون” والقرآن بهذا الأسلوب لم يترك فرصة لأعدائه لأن يتصيدوا عليه أي عيب أو خلط؛ فلا يرمي هذا القرآن بعيب إلا سفيه غاب عنه فقه الأسلوب القرآني المعجز.
ثالثا. وردت قصة قارون في القرآن واضحة متماسكة، يفهمها الصغير والكبير، والمسلم وغيره:
فقد يعرف شخص ما بصفة من الصفات كالغنى، وغيرها، لكن هذا لا يمنع غيره أن يكون مثله أو أكثر منه، وقد عرف حاتم الطائي – مثلا – بين العرب بالكرم، فهل منع اشتهاره بالكرم من أن يضاهيه غيره في هذه الصفة؟!
وما المانع – كذلك – أن تكون نهاية ومصير هؤلاء – الذين يشتركون في صفة أو صفات ما – واحدة؟ فكثير ممن كذبوا الرسل أخذتهم الصيحة، وكثير أخذتهم الرجفة… إلخ.
وقورح هذا الذي يزعمون أن القرآن يخلط بينه وبين كروسوس – هو ابن يصهار الذي هو “قارون”. وقد ثار قارون على موسى – عليه السلام – في سيناء، وقد ذكره القرآن فقال تعالى: )إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76)( (القصص)، وكانت نهايته الخسف: )فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81)( (القصص).
ولعل ما حدث من خسف أموال “قارون” كان له أثر عميق في نفس قورح؛ إذ فقد المال الذي كان يمني نفسه بالتمتع به بعد أن يئول إليه، ولكن ها هي آماله قد ضاعت فخرج من مصر مع موسى؛ إذ لم يعد هناك شيء يربطه بمصر إلا الأسف على هذه الثروة الضائعة، ونفث عما في دخيلته فيما بعد بالثورة على موسى وهارون، وكان مصيره أن خسف الله به الأرض هو الآخر في سيناء كما خسفت الأرض بأبيه من قبل في مصر.
فهل هناك ما يمنع من أن يكون مصير الابن كمصير أبيه[5]؟!
الخلاصة:
ثبت أن القرآن محكم متماسك بأسلوبه المعجز؛ إذ هو من عند الله، لا ريب فيه، ولا خلط، ولا اضطراب، وقصة قارون التي ورد ذكرها في القرآن على قمة التماسك والإحكام، ولا خلط فيها بين قارون وكروسوس وقورح؛ إذ إن قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ورد ذكره في التوراة، وإنما هو يصهار بن قاهث بن لاوي بن يعقوب – عليه السلام – كما ثبت هذا بالأدلة العلمية.
الحكمة من القصص القرآني هي استخلاص العبرة والعظة، والتوجيه والإرشاد؛ لذا لا يعطي كل اهتمامه لتحديد الزمان، والمكان، أو الأسماء، وتفضيل نسبها، وقد حقق هذا الأسلوب القرآني المعجز ما سعى إليه؛ حيث رسم لنا لوحة كاملة لهذا الرجل الذي أنعم الله عليه، فبغى في الأرض، وتكبر ومنع حق الله؛ فكان مصيره أن خسف الله به وبداره الأرض.
هذا المصير الذي آل إليه قارون لا يمنع من أن يصير إليه غيره؛ فقد كان لابنه نفس المصير، وهذا لا يعني وجود الخلط في القصة التي يشبهها غيرها.
(*) من إعجاز القرآن، رؤوف أبو سعدة، دار الهلال، القاهرة، 1993م.
[1]. من إعجاز القرآن، رؤوف أبو سعدة، دار الهلال، القاهرة، 1993م، ج2، ص71.
[2]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص345.
[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028).
[4]. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص239.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 11، ص186. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص333 وما بعدها.
دعوى اضطراب مضامين القرآن الكريم بسبب ولوعه بالموسيقى اللفظية
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم مشتت في موضوعاته وأخباره، مضطرب في مضمونه؛ لاهتمامه بالموسيقى اللفظية على حساب المعنى المراد، من ثم فهو مليء بالتشبيهات والعبارات الخلابة التي تجعله قريبا من الشعر وأسلوب الكهانة، وأيضا يحتوي على كثير من الأبيات الشعرية، وهذه خصائص لا تناسب إلا الذوق العربي، الأمر الذي يبطل القول بأن هذا القرآن كتاب للناس كافة، فإذا كان له إعجاز – كما يقول المسلمون – ففي نظمه فقط.
وجها إبطال الشبهة:
إن القرآن الكريم كتاب معجز أنزله الله – عز وجل – للناس كافة، وعلى الرغم من أنه جاء على ما اعتاده العرب في صور البيان، إلا أنه فاقهم تماما، ولم يستطيعوا أن يدانوه في فصاحته وقوته، وعلى الرغم من أنهم كانوا أرباب الفصاحة وصانعي البيان، ومع أن القرآن ممتليء بالتشبيهات والعبارات الخلابة، إلا أنه ليس بشعر، وقد شهد بذلك أرباب الفصاحة أنفسهم، ونستطيع دفع هذه الشبهة من وجهين:
1) إن التناسب بين المعاني، والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح في كل آيات القرآن لا في آية دون آية، ولا في سورة دون سورة، وهو ليس بشعر ولا أساطير.
2) لقد تحدى القرآن الكريم العرب بإعجازه اللغوي، فلم يستطيعوا الوقوف أمام هذا التحدي؛ بل إنهم شهدوا بإعجاز القرآن اللغوي، والفضل ما شهدت به الأعداء.
التفصيل:
أولا. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: “إن التأليف ليس فقط في نسق الألفاظ ونغمها، بل إنه يشمل التآخي في المعاني كالتآخي في المباني، فلا يكون معنى لفظ نافرا من المعنى الذي يجاوره، ويتألف من الألفاظ والمعاني وما توعزه من أخيلة، وما تثيره من معان متداعية يدعو بعضها بعضا، ويتألف منها علم زاخر، كثير خصب، وقد عبر عن هذا المعنى الوليد بن المغيرة بقوله عن القرآن: “إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق”.
ولنذكر شاهدا على ما نقول؛ قصة الأعرابي الذي سمع قوله عز وجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة)، فأخطأ القارئ وقال: غفور رحيم، فقال الأعرابي: إنه يقطع الأيدي نكالا فلا يتفق القول؛ فراجع القارئ نفسه وأدرك المعنى.
إن التآخي في المعاني والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح في كل آيات القرآن، لا في آية دون أخرى، ولا في سورة دون سورة، فلا تجد في لفظ معنى يوجه الخاطر إلى ناحية، ويليه آخر يوجهه إلى ناحية أخرى، بل تجد النواحي متحدة، إما بالتقابل، وإما بالتلاصق والمجاورة، وفي كلتا الحالتين تجد معني كل لفظ يمهد لمعنى اللفظ الآخر فلا تنافر في المعاني، كما أنه لا تنافر في الألفاظ، وهما في مجموعهما ينسابان في النفس غذاء رطيبا مريئا، ونميرا عذبا سلسبيلا[1].
تلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها اتصالا طبيعيا، فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، المنفصلة بطبيعتها؟ كم من المهارة والحذق، بل كم من الاقتدار السحري يتطلبه التأليف بين أمزجتها الغريبة واتجاهاتها المتشعبة؛ حتى لا يكون الجمع بينها في الحديث، كالجمع بين القلم، والحذاء، والمنشار، والماء، بل حتى يكون لها اتجاه واحد، وحتى يكون عن وحدتها الصغرى وحدة جامعة أخرى.
إنه من أجل عزة هذا الطلب نرى البلغاء – وإن أحسنوا وأجادوا إلى حد ما في أغراضهم – كان منهم الخطأ والإساءة في نظم تلك الأغراض كلا أو جلا، فالشعراء يجيئون في القصيدة الواحدة بمعان عدة، أكثر ما يجيئون بها أشتاتا لا يلوي بعضها على بعض، وقليلا ما يهتدون إلى حسن التخلص من غرض إلى غرض، كما في الانتقال من الغزل إلى المدح، والكتاب ربما استعانوا على سد تلك الثغرات باستعمال أدوات التنبيه أو الحديث عن النفس؛ كقولهم: إلا، وإن هذا، ولكن، بقي علينا، ولننتقل، نعود، قلنا، وسنقول.. إلخ.
وفي ذلك معنى بلاغي، وهو أن عجيب نظم القرآن وبديع تأليفه، لا يتفاوت ولا يتباين مع ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة.
وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور[2].
فإن أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه؛ حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر في السورة منه؛ حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة، لنرى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز.
ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبيل الإطالة والتزام جانب الإيجاز – بقدر ما يتسع به جمال اللغة – قد يجعله أكثر الكلام افتنانا؟ نعني أكثر تناولا لشئون القول وأسرع تنقلا بينها، من وصف إلى قصص إلى تشريع، إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شئون وشئون.
أولست تعلم أن القرآن – في جل أمره – ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة؟ بل كان ينزل بها آحادا متفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها، والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعا لانفصال الحديث عنها علي ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعا للتواصل والترابط.
ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام، أو تقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟!
خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضا متباينة، أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك، وحاول أن تجيء بها سردا؛ لتجعل منها حديثا واحدا من غير أن تزيد بينها شيئا أو تنقص منها شيئا، ثم انظر كيف تتناكر معانيها، وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام، وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل؟
وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكا، ووحدتها تمزيقا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة، سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني.
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي نزل عليه الذكر لم يتربص بترتيب نجومه حتى كملت نزولا، بل لم يتربص بتأليف سورة واحدة منه حتى تمت فصولا، بل كان كلما ألقيت إليه آية أو آيات أمر بوضعها من فوره في مكان مرتب من سورة معينة، في حين أن لهذه الآيات والسور في ورودها التنزيلي سببها الذي اتبعته في وضعها الترتيبي؛ فكم من سورة نزلت جميعا أو أشتاتا بين نجوم سورة أخرى! وكم من آية في السورة الواحدة تقدمت فيها نزولا وتأخرت ترتيبا! وكم من آية على عكس ذلك!
نعم، لقد كان للنجوم القرآنية في تنزيلها وترتيبها ظاهرتان مختلفتان، وسبيلان قلما يلتقيان، ولقد خلص لنا من بين اختلافهما أكبر العبر في أمر هذا النظم القرآني.
فلو أنك نظرت إلى هذه النجوم عند تنزيلها، ونظرت إلى ما مهد لها من أسبابها، فرأيت كل نجم رهينا بنزول حاجة ملحة، أو حدوث سبب عام أو خاص إذا لرأيت في كل واحد منها ذكرا محدثا لوقته، وقولا مرتجلا عند باعثته، لم يتقدم للنفس شعور به قبل حدوث سببه، ولرأيت فيه كذلك كلا قائما بنفسه لا يترسم نظاما معينا يجمعه وغيره في نسق واحد.
ثم إذا نظرت في الوقت نفسه إلى ترابط كل نجم بما قبله وما بعده في نظام دقيق. لوجدت أن هناك خطة تفصيلية شاملة قد رسمت فيها مواقع النجوم كلها قبل نزولها، بل من قبل أن تخلق أسبابها، وأن هذه الخطة كانت محكمة لا تنفصم عراها.
ثم إن الله – عز وجل – نفى تهمة الشعر عن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم فقال: )وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69)( (يس)، وقال في ذم الشعراء: )والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)( (الشعراء)، وقال: )وما هو بقول شاعر( (الحاقة: 41)، كما أن الفصحاء من العرب، حين أورد عليهم القرآن، لو كانوا يعتقدونه شعرا ورأوه خارجا عن أساليب كلامهم لبادروا إلى معارضته؛ لأن الشعر مسخر لهم سهل عليهم، ولهم فيه ما علمت من التصرف العجيب، والاقتدار اللطيف.
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، ولا عولوا عليه، علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في الصنعة، والمزيدون في هذا الشأن، وعلى الرغم من استدراك المحدثين على فصحاء العرب وبلغائهم فإن ادعاءهم أنهم قد ظفروا بشعر في القرآن ادعاء باطل ووهم كاذب.
وكذلك فإن القصص في القرآن الكريم من المواضع التي يحسن فيها الإطناب، بل التكرار أحيانا، ولا نذكره هنا من ناحية أنه من وجوه الإعجاز في ذاته، إنما نذكره من ناحية التكرار فيه، وموضع ذلك من سر الإعجاز وبلاغة القرآن، التي لا تساميها بلاغة في الوجود، وإن ذلك التكرار من تصريف القول الذي هو وجه من وجوه البيان القرآني الذي قصد إليه الكتاب العزيز، إننا إذا نظرنا نظرة فاحصة تليق بمقام القرآن ومكانته في البيان العربي نجد أن التكرار فيه له مغزى؛ ذلك أن القرآن ليس بكتاب قصص، وليس كالروايات القصصية التي تذكر الحوادث المتخيلة أو الواقعة، إنما قصص القرآن – وهو قصص لأمور واقعية – يساق للعبر وإعطاء المثلات، وبيان مكان الضالين ومنزلة المهتدين، وبيان ما يقاوم به النبيون، ووراءهم كل الدعاة للحق، فهو قصص للعبرة بين الواقعات، لا لمجرد المتعة من الاستماع والقراءة؛ ولذلك قال الله – عز وجل – في آخر قصة يوسف عليه السلام: )لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111)( (يوسف) [3].
وعلى هذا يسقط الادعاء بأن القرآن الكريم مشتت في موضوعاته وأخباره، أو أنه مضطرب في أفكاره؛ لأنه قد ثبت إعجاز القرآن، وعظمة سره البياني والبلاغي.
أما الحديث عن سر النظام الإيقاعي في لغة القرآن، هذا النظام الذي رقت له القلوب وذرفت له العيون، وما رقت القلوب ولا ذرفت العيون قبل لقول أحد من العالمين كما ذرفت لكلام رب العالمين ورقت له،؛ فنجمل هذا الجانب في النقاط الآتية:
إن السورة على كثرة نجومها وطولها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها من سور المفصل؟ حيث جرى التنجيم في بعض القصار منها، كالضحى، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين.
إن بيان إعجاز القرآن أمر جسيم أرهق العلماء والأدباء من قبلنا وفي عصرنا، فجفت من دونه أقلامهم، ولم يزيدوا إلا أن ضربوا له الأمثال واعترفوا بأن ما خفي عليهم منه أكثر مما فطنوا إليه، وأن الذي وصفوه مما أدركوه أقل مما ضاقت به عباراتهم، ولم تقف به إشاراتهم.
إن أول ما نجده في إعجاز القرآن تأليفه الصوتي الذي تطرب له الآذان، فلا نسمع فيه جرس الحروف، وإنما تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها في نظام مؤتلف متسق يسترعى من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر، فالشعر يقسم أبياتا وأشطارا، وتتكرر بحوره في نغم متصل متكرر، والقطعة الموسيقية تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبا متقاربا، لا يلبث السمع أن يمجها، والطبع أن يملها، أما القرآن فهو لحن متنوع متجدد، لا تصيب النفس منه – على كثرة ترداده – ملالة أوسأم، بل كلما كثر ترداده زادت عذوبته على النفس.
ثم إذا ما انتقلنا من الحديث العام عن موسيقى القرآن واقتربنا قليلا من حروفه نجد عجبا، نجد لذة في رصف الحروف وترتيب أوضاعها فيما بينها، فهذا الحرف ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفس وآخر ينحبس عنده النفس، وهلم جرا، فترى الجمال اللغوي ماثلا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة، فلا هو بالكلام الحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل نراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها.
ثانيا. القرآن الكريم تحدى العرب – وهم أهل اللغة – بإعجازه اللغوي، فلقد تحداهم – عز وجل – أولا بالإتيان بمثله؛ فقال: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، ثم تحداهم بعشر سور منه، وقطع عذرهم بقوله: )فأتوا بعشر سور مثله مفتريات( (هود: 13)، وإنما قال: )مفتريات( من أجل أنهم قالوا: لا علم لنا بما فيه من الأخبار الخالية والقصص البالغة، فقيل لهم: )مفتريات( إزاحة لعللهم، وقطعا لأعذارهم، فعجزوا، وتحداهم – أخيرا – أن يأتوا بسورة واحدة من مثله؛ مبالغة في التعجيز لهم فقال: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)( (البقرة)، أي: يشهدون لكم أنها في نظمه وبلاغته وجزالته، فعجزوا؛ فقال عز وجل: )فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا( (البقرة: 24) مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم )فاتقوا النار( (البقرة: 24)، وهذه مبالغة في الوعيد، مع أن اللغة لغتهم، والكلام كلامهم، وناهيك بأن الوليد بن المغيرة – لعنه الله – كان سيد قريش، وأحد فصحائها لما سمعه أخرس لسانه، وبلد جنانه، وأطفئ بيانه، وقطعت حجته، وقصم ظهره، وظهر عجزه، وذهل عقله، حتى قال: “قد عرفنا الشعر كله: هزجه ورجزه وقريضه، ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر! قالت له قريش: فساحر؟ قال: وما هو بساحر، قد رأينا الساحر وسحره، فما هو بنفثه ولا عقده، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، سمعت قولا يأخذ القلوب، قالوا: مجنون، قال: لا والله ما هو بمجنون فما هو بخنقه، ولا بوسوسته، ولا رعشته، قالوا: كاهن. قال: قد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم”[4].
كما أن القرآن جاء بجوانب إعجازية بهرت الناس كافة، منذ نزوله وحتى لحظة كتابة هذه السطور، وما زالت تنكشف لنا حقائق قد ذكرها القرآن؛ تصديقا لقوله عز وجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)( (فصلت).
ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن القرآن سبق العلم الحديث بألف وأربعمائة عام في شتى المجالات، سواء منها ما ارتبط بالفلك، أم علوم البحار، أم علوم الأجنة، أم الطب، أم ما يرتبط بالمعادن وثروات الأرض، أم ما يرتبط بعلوم دراسة المايكروبات والجراثيم… وغير ذلك كثير.
وعلى هذا فقد ظهرت عظمة القرآن وإعجازه سواء في النظم، أم اللغة، أم البلاغة، أم الأفكار، والأخبار، أم الأسلوب والبيان، وبطل اتهام القرآن بعدم الإعجاز، قال عز وجل: )وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا (81)( (الإسراء).
(*) قصة الحضارة، وول ديورانت، ترجمة: محمد بدارن، دار الجيل، بيروت، 1418 هـ/ 1998م. المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410 هـ/ 1990م.
[1]. المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص117.
[2]. إعجاز القرآن، الباقلاني، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص60، 61.
[3]. المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص149، 150 بتصرف.
[4]. البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المكتبة العصرية، بيروت، د. ت، ج2، ص110: 112 بتصرف يسير.
دعوى اضطراب القرآن الكريم في مجيء الجمع الدال على القلة في موضع جمع الكثرة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم خالف قواعد اللغة العربية في قوله عز وجل: )وسبع سنبلات خضر( (يوسف:٤٣)؛ حيث جيء بجمع المؤنث السالم الدال على القلة “سنبلات” موضع جمع التكسير الدال على الكثرة “سنابل”، والصواب في زعمهم أن يقال: “سبع سنابل خضر”**.
وجوه إبطال الشبهة:
الجمع في اللغة قسمان: جمع سلامة – تصحيح – وجمع تكسير، وجموع التكسير نوعان: جمع قلة، وجمع كثرة، وقد أجمع النحويون على أن جموع القلة ما كان للأعداد من ثلاثة إلى عشرة. وصيغ جموع القلة تأتي على أوزان مختلفة هي: أفعل، وأفعال، وأفعلة، وفعلة. وقد يأتي الجمع السالم حاملا دلالتها.
وقد زعم بعض أصحاب الشبهات أن في القرآن الكريم تناقضا واضطرابا؛ حيث يظنون أنه قد استخدم جمعا يدل على القلة في موضع جمع الكثرة؛ كما في قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر(، ويزعمون أن في ذلك اضطرابا، والصواب في زعمهم أن يقال: “سبع سنابل خضر”؛ ليوافق الجمع عدده.
وهذا الزعم مردود من وجوه:
1) أن الآية مستقيمة وموافقة لقواعد اللغة العربية؛ لأن الأعداد من (3 – 10) يعبر عنها بجمع القلة، وقد ذكر النحاة أن هذه الأعداد تشارك أبنية القلة في الدلالة على جمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم.
2) أنه لما عطف قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر( على )سبع بقرات( وجاوره، حسن فيه الجمع بالألف والتاء.
3) إذا كان القصد من كلامهم أن كلمة “سنبلة” لا تجمع بالألف والتاء فهم مخطئون خطأ شنيعا؛ لأن النحاة مجمعون على أن ما ينتهي بالتاء يجوز أن يجمع جمعا سالما.
التفصيل:
أولا. الآية مستقيمة، وموافقة لقواعد اللغة العربية؛ لأن الأعداد من (3 ـ10) يعبر عنها بجمع القلة، وقد ذكر النحاة أنه يشارك أبنية القلة في الدلالة جمعا التصحيح للمذكر والمؤنث. قال تعالى: )وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات( (يوسف: ٤٣) [1].
وقد وردت الكلمتان “بقرات” و “سنبلات” في الآية جمع مؤنث سالما، وهو من الجموع التي تنصرف إلى القلة في الغالب، ونقول “في الغالب”؛ لأنه قد يأتي من الأسماء المؤنثة، وغيرها ما لا يجمع إلا بالألف والتاء، فلا يمكن في هذه الحالة أن ينصرف إلى القلة إلا بقرينة، كالعدد وغيره، فإذا قلنا: حمامات، فهي جمع كثرة إلا إذا قلنا: سبع حمامات.
من ثم فإن كلمة “سنابل” جمع كثرة، ولا يعبر به عند جمهور النحاة عن الأعداد من (3 – 10) الدالة على القلة، إلا بقرينة كالعدد وغيره.
قال شهاب الدين: اعلم أن جمعي السلامة لا يميز بهم عدد، إلا في موضعين:
أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمع سواه، نحو “سبع سماوات”، و “تسع آيات”؛ لأن هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة.
والثاني: أن يعدل إليه لمجاورة غيره، كقوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر(، (يوسف: 43)، عدل من “سنابل” إلى “سنبلات”؛ لأجل مجاورته “سبع بقرات”؛ ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميز بجمع التكسير دون جمع السلامة[2].
ثانيا. لمـا عطف قوله تعالى: )وسبع سنبلات خضر( على )سبع بقرات( وجاوره، حسن فيه جمعه بالألف والتاء، وهو ما ألمح إليه الشهاب آنفا، وتفصيله الآتي:
أنه لو لم يعطف ولم يجاور لقال “سبع سنابل”، ولذلك إذا عري عن المجاور جاء على “مفاعل” في الأكثر والأولى، وإن كان يجمع بالألف والتاء جوازا؛ مثال ذلك قوله تعالى: )سبع طرائق( (المؤمنون: ١٧)، و )سبع ليال( (الحاقة: ٧)، فلم يقل “طريقات” ولا “ليلات”، وإن كان جائزا في جمعه أن يكون جمع سلامة، فتقول: “مسكينون” و “مسكينين”، وقد آثروا ما لا يماثل “مفاعل” من جموع الكثرة على جمع التصحيح إن لم يكن هناك مجاور يقصد مشاكلته، كقوله تعالى: )ثماني حجج( (القصص: ٢٧)، وإن كان جائزا فيه أن يجمع بالألف والتاء؛ لأن مفرده “حجة”، فتقول: “حجات”.
فعلى هذا الذي تقرر، إذا كان للاسم جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسير، فجمع التكسير إما أن يكون للكثرة أو للقلة، فإن كان للكثرة، فإما أن يكون من باب “مفاعل”، أو من غير باب “مفاعل”، فإن كان من باب “مفاعل” أوثر على جمع التصحيح، فنقول: “جاءني ثلاثة أحامد”، “وثلاث زيانب”، ويجوز التصحيح على القلة، فتقول: “جاءنى ثلاثة أحمدين”، و “ثلاثة زينبات”، وإن لم يكن من باب “مفاعل”، فإما أن يكثر فيه غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلا، مثال ذلك: “جاءني ثلاثة زيود”، و “ثلاثة هنود”، و “عندي ثلاثة أفلس”، ولا يجوز: “ثلاثة زيدين”، ولا “ثلاثة هندات”، ولا “ثلاثة فلوس”، إلا قليلا، مثال ذلك: “ثلاث سعادات”، و “ثلاث شسوع”، ويجوز على القلة: “ثلاث سعائد”، و “ثلاثة أشسع”، فإذا تقرر هذا فقوله: )سبع ليال(؛ جاء على هذه الصيغة لأجل المجاورة كما تقدم.
وتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: )سبع ليالى(، إنما جاء على ما تقرر في العربية من كونه جمعا متناهيا، وأن قوله: )وسبع سنبلات(، إنما جاء لأجل مشاكلة: )سبع بقرات( ومجاورته، فجاءت “سنبلات” منتهية بالألف والتاء لمجاورتها وعطفها على بقرات[3].
وقيل: لما كان الكلام في قوله: )سبع سنابل(، في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة. أما في سورة يوسف فقد ذكرت في سياق الكلام عن سني الجدب، فناسبها التقليل فجمعت جمع قلة.
ثالثا. أما إذا كان القصد من كلامهم أن كلمة “سنبلة” لا تجمع بالألف والتاء فهم مخطئون؛ لأن النحاة والصرفيين قد نصوا على أن ما ينتهى بالتاء يجوز أن يجمع جمعا مؤنثا سالما، سواء أكان علما مؤنثا؛ مثل: فاطمة، وكريمة، أم مذكرا؛ مثل: طلحة، أم لم يكن علما أصلا؛ مثل: بقرة، وثمرة، وسنبلة، فجمعها على التوالي: بقرات، وثمرات، وسنبلات ومن ثم فالجمع “سنبلات” ليس جمعا خطأ ليعترضوا عليه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
التعريف في”الملك” للعهد؛ أي: ملك مصر، وسماه القرآن هنا “ملكا”، ولم يسمه “فرعون”؛ لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة[4]، وإنما كان ملكا لمصر أيام أن حكمها الهكسوس، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، فالتعبير عنه بـ “الملك” في القرآن، دون التعبير “بفرعون”، مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى – عليه السلام – بلقب “فرعون”، هو من دقائق إعجاز القرآن الغيبي، وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك في زمن يوسف عليه السلام “بفرعون”، وما هو “بفرعون”؛ لأن أمته ما كانت تتكلم القبطية، وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف – عليه السلام – في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.
وقوله: “سمان” جمع “سمينة” و “سمين”، مثل كرام، وهو وصف لـ “بقرات”، و “عجاف” جمع “عجفاء”، والقياس في جمع “عجفاء”: “عجف”، لكنه صيغ هنا بوزن “فعال” لأجل المزاوجة لمقارنه وهو “سمان”، كما قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوبة
والقياس: “أبواب”، ولكنه حمله على “أخبية”[5]، وكذلك جاء بـ “عجاف”، وحسنه هنا مناسبته لـ “سمان”.
في قوله: )إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)( (يوسف) أي: تعبرونها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى الخيالي؛ كمن يعبر النهر بالانتقال من ضفة إلى أخرى[6].
يقول الطاهر ابن عاشور: “وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به، وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم، ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم، وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردى فيها ضوابط، وقواعد لتعبير الرؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف )إن كنتم للرؤيا تعبرون (43)( (يوسف) في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال الملك أهل ملئه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظن بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا، والاهتمام بهذه الرؤى يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر، وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف – عليه السلام – كانت من روح العصر وجوه على ما نعهد في معجزات الأنبياء”[7].
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الإستراباذي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص188.
[2]. تفسير اللباب، ابن عادل الحنبلي، تحقيق: محمد سعد رمضان، محمد متولي الدسوقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، عند تفسير الآية.
[3]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م، عند تفسير الآية.
[4]. الفراعنة: ملوك مصر القبط، جمع فرعون.
[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص280.
[6]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1934م، ج12، ص317 بتصرف.
[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص281.
توهم مخالفة القرآن الكريم قواعد العربية في مجيء الوصف الدال على الكثرة موضع جمع القلة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن في قوله عز وجل: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: ٨٠) مخالفة لقواعد اللغة العربية؛ حيث استخدم الوصف المفرد الدال على الكثرة “معدودة” في موضع جمع القلة، والصواب في زعمهم أن يقال: “أياما معدودات” **.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن صفة جمع التكسير المذكر الذي لا يعقل تكون كصفة الاسم المؤنث المفرد تارة، وكصفة الجمع المؤنث السالم تارة أخرى؛ فيقال: جبال راسية، وجبال راسيات.
2) ذكر المفسرون أن كلتا الصيغتين فصيحة، ولا يوجد فارق دلالي بينهما. وإنما تعرف القلة أو الكثرة من دلالة الموصوف وصيغته.
3) هذه الصفة المفردة التي يعترضون على استعمالها هنا، استعملها كتابهم المقدس دالة على القلة، على الرغم من أن هذه كانت هي المرة الوحيدة الذي ذكر فيها هذه المفردة.
التفصيل:
أولا. صفة جمع التكسير المذكر الذي لا يعقل يجوز جعلها كصفة الاسم المؤنث المفرد تارة، وكصفة جمع المؤنث السالم تارة أخرى؛ فيقال: جبال راسية، وجبال راسيات؛ وعلى هذا حتى لو سلمنا جدلا بأن “معدودة” وصف للكثرة، فإن جمع الكثرة وما في معناه يستعمل مكان جمع القلة، وهو أمر معروف في العربية قرره علماؤها[1].
وكان الأولى بهؤلاء بدلا من التشكيك في التعبير القرآني أن يقفوا على جانب بليغ ليس في وسعهم إدراكه، وهو: “معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته”، ووصف الأيام بــ “معدودة” فيما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها؛ لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذي لغير العقلاء، وما جاء على الأصل فلا يسأل عن علته.
أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل – وهي في النظم القرآني من الكثرة بمكان – فلها دواع بلاغية، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل؛ لداع بلاغي يقتضيه ذلك التنزيل.
وإذا كان القرآن قد عبر في وصف “أياما” في آية البقرة هذه بـ “معدودة” – وهو وصف لغير العاقل – جاريا به على الأصل، فإنه عبر عن وصفها بــ “معدودات” في موضع آخر هو قوله عز وجل: )ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24)( (آل عمران).
وإذا دققنا النظر في الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز، )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: 80)، ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب، )ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات(.
ثانيا. معظم المفسرين يذكرون أن كلتا الصيغتين فصيحة، وأنه لا يوجد فارق دلالي بينهما، وإنما تعرف القلة أو الكثرة من دلالة الموصوف وصيغته.
فلم تتعرض كتب التفسير المشهورة للتفريق في الاستخدام بين الصيغتين، ولم يشر أي منها إلى أن الوصف “معدودة” يعني قلة هذه الأيام، بل إن الروايات التي ينقلها المفسرون تختلف في تقدير هذه الأيام، فبعضها يذكر أنها سبعة، بينما تبلغ بها بعض الروايات الأربعين[2].
وعلى هذين القولين علل ابن جماعة مجيء الوصف تارة بالمفرد “معدودة”، وبالجمع “معدودات”؛ حيث قال: جوابه أن قائلي ذلك من اليهود فرقتان: إحداهما قالت: إنما نعذب بالنار سبعة أيام، وهي عدد أيام الدنيا، وقالت فرقة: إنما نعذب أربعين يوما، وهي أيام عبادتهم العجل، فآية البقرة تحتمل قصد الفرقة الثانية، وآية آل عمران تحتمل قصد الفرقة الأولى[3].
وتنقل هذه الروايات عن اليهود قولهم: “أياما معدودة” فكأن القرآن يحكي ألفاظهم، بل إن إحدى هذه الروايات نقلت بلفظ “معدودة” مرة، وبلفظ معدودات مرة أخرى، مما يشير إلى الترادف التام بين الصيغتين.
ثالثا. هذه الصفة المفردة التي يعترضون على استعاملها هنا، استعملها كتابهم المقدس دالة على القلة.
أما كلمة “معدودات” فلم ترد فيه مطلقا، بينما وردت كلمة “معدودة” مرة واحدة، على لسان أليفاز التيماني مخاطبا النبي أيوب عليه السلام: “الشرير هو يتلوى كل أيامه، وكل عدد السنين المعدودة للعاتي”. (أيوب 15: 20)، وواضح أن السياق هنا يحمل دلالة على قصر الفترة التي يقتضيها الظالم في هذه الدنيا.
فإذا كان لهؤلاء طعن على استعمال القرآن لهذه الصيغة في سياقها، فليرجعوا بهذا الطعن أولا إلى كتابهم المقدس الذي استعمل هذا الوصف للدلالة على القلة في الموضع الوحيد الذي ذكر فيه النص العربي.
وإذا وازنت بين صدر آية البقرة: “وقالوا”، وبين صدر آية آل عمران: “ذلك بأنهم قالوا”، تجد أن عبارة “ذلك بأنهم” اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد، الرابط بين الكلامين: السابق عليه، واللاحق به، ثم تجد “الباء” الداخلة على “أن” في “بأنهم”، ثم “إن” التي تفيد التوكيد، ثم ضمير الجماعة “هم”.
هذه الأدوات لم يقابلها في آية البقرة إلا واو العطف:”وقالوا”؛ ومن ثم فالمقامان مختلفان؛ أحدهما: إيجاز، والثاني: إطناب. وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كانت “معدودة” في آية البقرة؟! و “معدودات” في آية آل عمران؟!
ومن ثم يظهر بجلاء عدم وجود الخطأ اللغوي في القرآن الكريم؛ فهو الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
وهنا نتساءل: لـم عبر القرآن الكريم بلفظ المس، دون غيره مما قد يؤدي معناه كاللمس مثلا؟! وهنا تتجلى روعة التعبير القرآني، وجلال النظم الإلهي المعجز؛ فالمس: اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة، وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء، وإن لم يوجد، كقول الشاعر: وألمسه فلا أجده[4].
يقول الشيخ الشعراوي: هنا يكشف الله – عز وجل – فكر هؤلاء الناس، فلقد زين لهم الشيطان الباطل، فجعلهم يعتقدون أنهم كسبوا فعلا، وأنهم أخذوا المال والجاه الدنيوي وفازوا به؛ لأنهم لن يعذبوا في الآخرة إلا عذابا خفيفا قصيرا )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( (البقرة: ٨٠).
فالمس: يعني اللمس الخفيف أو اقتراب شيء من شيء، ولكن لا يحس أحدهما بالآخر إلا إحساسا خفيفا، فإذا أتيت إلى إنسان ووضعت أناملك على يده يقال مسسته، ولكنك بهذا المس لم تستطع أن تحس بحرارة يده، أو نعومة جلده، ولكـن اللمـس يعطيـك إحساسـا بمــا تلمـس: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أيامـا معـدودة(، وهكذا أخذوا أقل الأقل في العذاب، ثم أقل الأقل في الزمن فقالوا: أياما معدودة، فالشيء إذا قيل عنه معدود فهو قليل، أما الشيء الذي لا يحصى فهو الكثير، ولذلك حين يتحدث الله عن نعمه يقول عز وجل: )وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها( (النحل: ١٨)، فمجرد الإقبال على العد معناه أن الشيء يمكن إحصاؤه، فإن لم يكن ممكنا لا يقبل أحد على عده، فلم نر – مثلا – من حاول عد حبات الرمال أو ذرات الماء، فنعم الله عز وجل ظاهرة وخفية لا يمكن أن تحصى؛ ولذلك لا يقبل أحد على إحصائها، وإذا سمعت عبارة “أياما معدودة” فاعلم أنها أيام قليلة، ولذلك نرى في سورة يوسف قول الله عز وجل: )وشروه بثمن بخس دراهم معدودة( (يوسف: ٢٠).
لكن، أليس قولهم: )وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة( مما ينافي مقتضى اللمس، فهو لا يتجاوز اللحظة؟! والجواب: أنها أدل على غبائهم، وأبلغ في التعبير عن مطامعهم وأمانيهم التي وضعها الشيطان في عقولهم، ليأتي الرد من الله في قوله عز وجل: )قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده(،أي: إذا كان ذلك وعدا من الله، فالله لا يخلف وعده، والله يأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يقول لهم: لستم أنتم الذين تحكمون وتقررون ماذا سيفعل الله – عز وجل – بكم؟ بل هو – عز وجل – الذي يحكم، فإن كان قد أعطاكم عهدا فالله لا يخلف وعده[5].
أما قوله تعالى: )أياما معدودة( ففيه لمحة بلاغية أخرى تبرز إعجاز النص القرآني، على عكس ما يتوهم هؤلاء الذين ضعفت سليقتهم اللغوية عن استيعابه، فالمعدودة؛ أي: المحصورة القليلة، وأراد بالمعدودة القليلة؛ لأن العرب – الذين خاطبهم القرآن – لعدم علمهم بالحساب وقوانينه، يتصورون القليل متيسر العدد والكثير متعسر، فقالوا: شيء معدود أي: قليل، وغير معدود؛ أي: كثير، والقول بأن القلة تستفاد من الزمان، ذلك أنه إذا كثر لا يعد بالأيام بل بالشهور، والسنين والقرون.
وبذا يتضح لنا – ولهم إن فطنوا – فساد ما ذهبوا إليه، واشتملت عقولهم عليه من حسبانهم أن القرآن قد أخطأ في أمر بدهي كهذا.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. ومن ذلك قوله تعالى: ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( (البقرة: ٢٢٨)، فقروء بوزن فعول من جموع الكثرة، ولكنها هنا للقلة؛ بدليل القرينة ثلاثة.
[2]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج2، ص10. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج1، ص292 وما بعدها. جامع البيان في تأويل القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص274 وما بعدها. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج1، ص118.
[3]. كشف المعاني في متشابه المثاني، ابن جماعة، تحقيق: د. محمد داود، دار المنار، القاهرة، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص61.
[4]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسير الآية.
[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج1، ص423، 424 بتصرف يسير.
دعوى اضطراب القرآن في مسألة نبذ يونس – عليه السلام – بالعراء
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين وجود خلل واضطراب في حديث القرآن عن نبذ[1]يونس – عليه السلام – بالعراء[2]، وعدم وجود هذا الاضطراب في نصوص التوراة، مستدلين على ذلك بإقرار القرآن نبذه في قوله سبحانه وتعالـى: )فنبذنـاه بالعـراء وهـو سقيـم (145)( (الصافات) [3]، وعدم نبذه في قوله سبحانه وتعالى: )لـولا أن تداركـه نعمـة من ربـه لنبـذ بالعـراء وهو مذموم (49)( (القلم). وهم بهذا الادعاء يشككون في صدق القرآن الكريم في إخباره عن يونس عليه السلام.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم ينكر القرآن الكريم نبذ يونس – عليه السلام – بالعراء سقيما، إنما أنكر نبذه بالعراء مذموما؛ وعليه فلا تعارض بين ما أثبته القرآن وما نفاه.
2) ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم، بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص.
التفصيل:
أولا. ليس في القرآن الكريم اضطراب لا في قصة ذي النون – عليه السلام – ولا في غيرها:
الذي أثبتته آية الصافات أن يونس – عليه السلام – نبذ بالعراء وهو في حالة من السقم والإعياء، بسبب مكثه في بطن الحوت فترة من الزمن. والذي تذكره سورة القلم: أن الله تداركه بنعمة من عنده، ولولا ذلك لنبذ مذموما؛ فالحكم ليس واقعا على النبذ، ولكنه يقع على نبذه مذموما. إن الله – عز وجل – لم يذمه؛ فينبذه مذموما، بل نبذه معافى كريما، وتلقته عناية الله، كما قال تعالى: )وأنبتنا عليه شجرة من يقطين (146)( (الصافات) [4]. والحكم المنطقي يقع على الجملة بكامل توابعها كما لو تم تضمين صفة مع موصوفها، أو معطوف مع معطوف عليه، وهنا لحق بجملة نبذناه الأولى، ونبذ الثانية جملة حالية، فتدخل كل منهما في الحكم.
يقول الزمخشري في تفسير آية القلم: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم): وقد اعتمد في جواب لولا على الحال؛ أعني قوله: “وهو مذموم” يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكان حاله على الذم، ولذا قـال تعالى بعدهمـا: )فاجتبـاه ربـه فجعلـه مـن الصالحيـن (50)( (القلم) [5].
وإذا عرضنا تفسير الآيتين نعرف أنه لا تعارض، ففي الآية الأولى يقول الله تعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات)، روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه: طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطين، وفي الآية من سورة القلم يقول الله تعالى: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم)، ولولا رحمة الله – عز وجل – لنبذ بالعراء وهو مذموم.
وورد في تفسيـر الطبـري في تفسيـر قولـه تعالـى: )وهو مذموم (49)( (القلم) في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لولا؛ لأن المقصود امتناع نبذه مذموما، وإلا فقد وقع النبذ عليه سقيما؛ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم.
ثانيا. ذكر القرآن هذه القضية في إيجاز محكم بعكس ما ورد في التوراة من اضطراب في سرد تفاصيل القصة؛ مما يجعلها أقرب ما تكون إلى كتب التاريخ والقصص:
إن القصة القرآنية إعجاز رائع من ناحية الجودة والأهمية، وهي وسيلة هامة ومؤثرة من الوسائل القرآنية الكثيرة التي تحقق الأغراض الدينية وتبرز الأصول والرواسخ في العقيدة الإسلامية والتي احتواها القرآن الكريم؛ بحكم كونه الدستور الخالد الذي ينظم حركة الحياة للإنسان في الدنيا والآخرة.
والقرآن الكريم كتاب دعوة إلى الله، وإلى الوحدانية، وإلى الحق.. في المقام الأول، ولما كان هز الوجدان وإثارة العاطفة وربطها بالشعور الديني الفياض الذي هو فطرة عميقة في النفس البشرية أمرا مطلوبا… فإن القصة تصبح في هذا المجال عاملا مثيرا ومؤثرا في نفس الوقت، وتصبح وسيطا تربويا رائعا للتأثير في الذات، وفي تطهير النفس من المشاعر الدخيلة على الفطرة البشرية، ولقد اهتمت القصة القرآنية بإبراز عنصر الأحداث في مجال الدعوة بطريقة لا تستطيع أن تجدها في الكتب السماوية السابقة قبل التحريف، كالتوراة مثلا[6].
إن القصة القرآنية لها طبيعتها الخاصة وبناؤها المتميز، وما وصلت القصة القرآنية لما وصلت إليه من رقي وبلاغة وتميز وبراعة في التأثير الوجداني الفعال إلا بطرائق فنية وجمالية خاصة بها.. وذلك عبر طريقة فذة في العرض والسرد، ذلك العرض القصصي القائم على قانون الانتخاب في اختيار الجزء من القصة الذي يتلاءم والسياق القرآني في الموضع الذي وردت فيه، والغرض الديني العام، ومن ثم يتلاءم أسلوب العرض القرآني مع انتقاء الحدث المسرود، فينحى تماما كل ما لا يمت للحدث بصلة، وما لا يتلاءم مع الهدف الديني، ويخلص إلى التركيز على محور الشخصية وجوهر الدعوة وردود الأفعال[7].
وللقرآن أسلوب في طريقة عرض القصة كما قررنا، لكنا إذا توجهنا إلى نصوص التوراة فسنجد أنها تشبه إلى حد بعيد كتب التاريخ والقصص التي كانت تؤلف قديما للتسلية؛ وذلك بعد أن عبثت بها أيدي البشر وغيروا فيها وحرفوا الكلام عن مواضعه؛ كما ذكر القرآن الكريم؛ لذا أنزل الله كتابا خاتما مهيمنا على ما سبق من كتب ومصدقا لما في التوارة والإنجيل في العديد من الأمور، وتولى الله – عز وجل – حفظه من أي عبث وأي يد تمتد إليه بسـوء فقـال تعالـى: )إنـا نحـن نزلنـا الذكـر وإنـا لـه لحافظـون (9)( (الحجر).
وعلى الرغم من تحريف التوراة؛ الذي نتج عنه اضطراب الكتاب المقدس فإننا سنقف على بعض ما ورد في التوراة ونقارن ذلك بما ورد في القرآن، ولك أنت أن تحكم أي الكتابين أحكم وأيهما فيه اضطراب، وأيهما خال منه.
تجد في التوراة أن يونس – عليه السلام – يسمى “يونان بن أمتاي”، على حين يقرر القرآن أن اسمه “يونس” )وإن يونس لمن المرسلين (139)( (الصافات)، وأن “ذا النون” لقب له وليس اسما، وأنا أسألك أيهما أدق وأحكم القرآن أم التوراة؟
تقرر التوراة أن الله كلف يونس – عليه السلام – بالرسالة وأمره بالذهاب إلى أهل نينوي؛ فهرب إلى يافا وركب سفينة تتجه إلى ترشيش يونان: “قم اذهب إلى نينوي المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب”. (يونان1: 2، 3)، وربما يسأل سائل – وهذا من حقه – لماذا هرب يونس – عليه السلام – إلى ترشيش؟ وهل يصح منه – وهو نبي – أن يكلفه الله ويشرفه بالرسالة ويفر؟! وإن كان الأمر كذلك فبما فضله على العديد من البشر ولم اصفاه الله؟ وهل اصطفاه على علم؟
كن واثقا من أنك لن تجد لأسئلتك أي إجابة، وفي ذلك يقول العلامة الألوسي: “زعم اليهود أن الله أمر يونس – عليه السلام – أن يذهب إلى أهل نينوي وينذر أهلها، فهرب إلى ترشيش من ذلك، وانحدر إلى يافا، ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق… ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت”[8].
إن جماهير علماء التفسير عند المسلمين يقررون أن يونس – عليه السلام – كلف وذهب فبلغ ما أمر به، إلا أن قومه لم يستجيبوا له وأمعنوا في العناد ففارقهم، لذا فإن معاقبته إنما كانت لأنه لم ينتظر أمر الله بمفارقتهم.
تقرر التوراة أن يونس – عليه السلام – قد هرب مرتين “يونان”، مرة حين هرب إلى ترشيش، والأخرى حين هرب من المدينة بعد مواعدته لقومه بنزول العذاب، حيث اتخذ لنفسه كنا[9]يكون فيه.
ونحن نسألهم إذا كان الله قد عاقب يونس – عليه السلام – عندما فر في المرة الأولى فلم لم يعاقبه حين فر مرة أخرى؟ أيعاقبه إذا أخطأ ولا يعاقبه على تكرار الخطأ؟! ولماذا فر يونس – عليه السلام – دون أن يأذن الله له؟ وهل يجوز أن يتصرف نبي في أمر كهذا من تلقاء نفسه دون انتظار لأمر الله؟ وهل يقع يونس – عليه السلام – في الخطأ مرتين؟!
إن القرآن لم يذكر أنه هرب إلا مرة واحدة، فأيهما أصدق وأيهما أعقل وأحكم؟
تذكر التوراة أن إنبات الله شجرة من يقطين على يونس – عليه السلام – كان بعد خروجه من المدينة في المرة الأخيرة: “وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. فأعد الرب الإله يقطينة فارتفعت فوق يونان لتكون ظلا على رأسه، لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحا عظيما”. (يونان 3: 5، 6)، في حين يذكر القرآن أن ذلك كان فور خروجه من بطن الحوت إلى الشاطئ؛ لحاجته إلى شيء يظلله من الشمس لظهوره المباشر تحت أشعتها بعد أيام قضاها في الظلمات، كما أنه خرج سقيما لا يستطيع أن يتحمل الشمس، فأنبت الله عليه يقطينة تظلله رحمة منه سبحانه وتعالى.
وقد يسأل سائل: لماذا أنبت الله يقطينة على يونس حين هرب للمدينة ولم يكن في حاجة إليها ولم ينبتها عليه حين خرج من بطن الحوت وهو في حاجة لها؟
إن إنبات يقطينة عليه إثر خروجه – على حد تعبير القرآن – فيه من البلاغة الكثير، حيث يفيد السياق القرآني أن الخروج كان نهارا والشمس ساطعة، على حين لم تحدد التوراة وقت الخروج ليلا كان أم نهارا.
تقرر التوراة أن الله ندم على الشر الذي أخبر أنه سيصنعه بقوم يونس عليه السلام؛ فلم يصنعه: “فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه”. (يونان 3: 10)، على حين يقرر القرآن أن الله قدر مقادير الكون قبل أن يخلق الخلق ودون ذلك في اللوح المحفوظ فلا يتجاوز الواقع ما قدره الله وإذا تكلم الله بشيء فهو وفق مشيئته والتي لا تتعارض مع ما قدره الله في اللوح المحفوظ؛ ولذا فلا تعارض لأن الله يتكلم بعلمه، وأنه قدر كل شيء بعلمه، وأن ما يكون وما سيكون قد وقع في علم الله ودونه في اللوح المحفوظ؛ فالكون وما يقع فيه بالنسبة لعلم الله إنما هو تحصيل حاصل، وذلك يقتضي ألا يندم الله؛ لأن ما يقع هو ما قدره، ولأن الله إله والإله كامل لا يعتريه نقص والندم نقص وقدح في علم الله الذي قرر القرآن أنه علم محيط وشامل: )إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان)، )إن الله بكل شيء عليم (62)( (العنكبوت)، )وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)( (الفرقان)، )إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)( (القمر).
التوراة إذن تطعن في الله وفي نبيه في سفر واحد، ويفوتها أن تذكر الكثير الذي ذكره القرآن ولم يرد فيها مثل قوله سبحانه وتعالى: )وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147)( (الصافات).
فأنت تجد في التوراة أن يونس – عليه السلام – فر مرتين لماذا؟ وإذا كان هذا هو شأن الأنبياء – عدم الاستجابة لأوامر الله – فما شأن باقي البشر، وماذا أن تتوقع منهم غير التكذيب والعصيان، أليس هذا تناقضا؟ كيف يصح إثبات الإلوهية لله ثم يتم وصفه بالنقص الذي يتنزه عنه البشر؟
يمكنك أن تسأل كثيرا، كما يمكنني أن أخبرك بأنك لن تجد جوابا؛ لأن العقيدة اليهودية محرفة، والكتاب المقدس – مصدر هذه العقيدة – محرف؛ وبالتالي فهو مليء بالتناقض والاضطراب، الذي يستطيع أي باحث موضوعي أن يقرره فور قراءته لسفر واحد من أسفار الكتاب المقدس.
الخلاصة:
القرآن محكم بعيد كل البعد عن التعارض والتناقض والاضطراب، ومسألة نبذ يونس – عليه السلام – بالعراء في غاية الإحكام؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: )فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145)( (الصافات). وهذا معناه أنه نبذ بالعراء سقيما، ولم ينبذ بالعراء مذموما، حيث قال سبحانه وتعالى: )لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم (49)( (القلم)، فهل هناك تعارض في هذا الكلام؟!
بالمقارنة بين ما ورد في العهد القديم من ذكر لقصة النبي يونان بن أمتاي، وذلك في كتاب يونان (1ـ 4) وبين ما ذكره القرآن من إيجاز محكم في مسألة نبذ يونس – عليه السلام – بالعراء – يثبت عظم إحكام القرآن وبعده كل البعد عن التعارض والتناقض.
(*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
[1]. النبذ: الإلقاء.
[2]. العراء: المكان الخالي.
[3]. سقيم: ضعيف.
[4]. اليقطين: شجرة القرع.
[5]. الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج4، ص148.
[6]. القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص79: 83 بتصرف يسير.
[7]. القصة في القرآن، محمد قطب، دار قباء، القاهرة، 2001م، ص109: 111 بتصرف.
[8]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص421، 422.
[9]. الكن: المكان الذي يستتر فيه.
دراسة تطبيقية لبعض المبهمات في القرآن الكريم
مبهمات القرآن كثيرة ، منها :
قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) ) (23 : الأحزاب ) .
( عن أنس بن مالك قال : غاب عَمِّي أنس بن النضِّر – وبه سُميتُ أنساً – عن قتال بدر ، فشق عليه لما قٌدِم ، وقال : غبت عن أول مشهدشهده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، والله لئن أشهدني الله سبحانه قتالاُ ليرين ما أصنع ، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأُ إليك مما جاء به هؤلاء ، يعني المسلمين ، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال : أي سعد ، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، فقتلهم حتى قُتِل .
قال أنس : فوجدناه بين القتلى ، به بضع وثمانون جراحة ، من بين ضربة بالسيف ، وطعنة بالرمح ، ورمية بالسهم ، وقد مثلوا به ، وما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ، ونزلت هذه الآية ، ” مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ” قال : ومنا نقول : أنزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه ..) ( [i] )
والمقصود بالرجال : مجموعة من رجال الصحابة ، نذروا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم: عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر، وسعيد بن زيد ، وحمزة، وطلحة بن عبيد الله ، ومصعب بن عمير، وغيرهم ، – رضي الله عنهم -.
ومعنى (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) أنهم حققوا ما عاهدوا عليه ، فإن العهد وعد ، وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل ، فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر – بفتح الباء – ، يقال: صدقه الخبر، أي قال له الصدق، ولذلك فإن تعديته هنا إلى (مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إنما هو على نزع الخافض، أي: صدقوا فيما عاهدوا الله عليه .
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) ، يعني حمزة ، ومصعباً (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) يعني عثمان ، وطلحة.
والنَّحبُ: النذر ، وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه، أي : من المؤمنين مَن وَفّى بما عاهد عليه من الجهاد ، كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، فكبُر ذلك عليه ، وقال: أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما بعد ، ليرَيَّن الله ما أصنع ، فشهد أُحُداً ، وقاتل حتى قُتل) ([ii]).
قال في الكشاف : ( فإن قلت: ما قضاء النَّحب.. ؟ قلت: وَقَعَ عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حي لا بدّ له من أن يموت . فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره.
وقوله: ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) يحتمل موته شهيداً، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ……ولقد ثبت طلحة – رضي الله عنه – مع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ يوم أُحد حتى أصيبت يده، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : ( أوجب طلحة ) . وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب)([iii])
وقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ) ( 1 : المجادلة )
والتي كانت تجادل رسول الله – صلى الله عليه وسلم _ في زوجها : أوس بن الصامت، امرأة من الأنصار.
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها، فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها: خُوَيلة بنت ثعلبة. وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد. وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت. وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج . وكانت مجادلتها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في زوجها، مُراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ومحاورتها إياه في ذلك، وبذلك قال أهل التأويل، وتظاهرت به الرواية ([iv]).
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها ، تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى ، بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها. ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة ، أو بنت دُلَيْج (مصغراً) العَوْفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي ، أخي عُبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية ، أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها ، فأبت ، فغضب ، وكان قد ساء خُلُقُه ، فقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
قال ابن عباس: وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً ، (أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي – صلى الله عليه وسلم – وإقراره الناس عليه، فاستقرّ مشروعاً) فجاءت خولة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذكرت له ذلك، فقال لها: حَرُمتِ عليه، فقالت للرسول – صلى الله عليه وسلم – إن لي صِبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال: ( ما عندي في أمركِ شيء) ، فقالت: يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً. وإنما هو أبو وَلَدِي ، وأحب الناس إليّ ، فقال: ( حَرُمتِ عليه) .
فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ( حَرُمتِ عليه) ، هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.([v]) .
و( قد ) أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ، ولكن الخطاب هنا للنبي – صلى الله عليه وسلم- وهو لا يخامره شك في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.
فتعيّن أن حرف ( قد ) هنا مستعمل في التوقع، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع.
قال في ( الكشاف) : لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمُجادِلة ، كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنها . ([vi]).
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة ، تنويهاً بمجادلتها وشكواها ، لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها ، وبأبنائها ، وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، والاشتكاء: مبالغة في الشكوى، وهي ذكر ما آذاه،
يقال: شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة. اشتكى، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم ، أو نصر ، أو إشارة بحيلةِ خلاص.
والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب. فالتحاور حصول الجواب من جانبين، فاقتضت مراجعةً بين شخصين.
والسماع في قوله: ( والله يسمع تحاوركما ) مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله ، إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به ، وبعظيم منزلته ، لاشتماله على ترقّب النبي – صلى الله عليه وسلم – ما ينزله عليه من وحي، وترقب المرأة الرحمةَ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما. وجملة (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) في موضع الحال من ضمير ( تُجادلك ).
وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما ، زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور. وجملة ( إن الله سميع بصير ) تذييل لجملة (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) . أي: أن الله عالم بكل صوت ، وبكل مرئيّ. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي – صلى الله عليه وسلم – . وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات ، لتربية المهابة ، وإثارة تعظيم مِنَّتِهِ تعالى ، ودواعي شكره.([vii])
وقوله تعالى : (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)) ( 112 : المائدة )
اختلف المفسرون في المائدة التي طلبها الحواريون من عيسى – عليه السلام – ، هل نزلت أم لم تنزل ..؟ جاء عن مجاهد ، والحسن ، أنها لم تنزل ، وأنهم أبَوها حين عُرِضَ عليهم العذاب إن كفروا ، وقالوا : لا حاجة لنا بها . ([viii]) ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، لأن الله تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)) ( 115 : المائدة )
وعلى هذا القول فالمائدة المذكورة مبهمة ، لم تُفصِح الآية عن صفتها ، كما أن ظاهر سؤال الحواريين أنهم لم يشترطوا نوعاً دون آخر . وروي عن جمع من السلف تعيين لهذه المائدة ، ومبالغة في وصفها . فقيل : نزلت المائدة خبزاً وسمكاً . وقيل : سمكة فيها طُعمُ كل طَعام . وقيل : عليها ثمر من ثمار الجنة . وقيل : كان عليها من كل طعام إلا اللحم . ([ix]) وقيل غير ذلك .
ومن أحسن ما قيل في الآية ، ما قاله ابن جرير: ( وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكاً وخبزاً، وجائز أن يكون ثمراً من ثمر الجنة ، وغير نافعٍ العلم به ، ولا ضارّ الجهل به ، إذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل.) ([x])
4- وقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) ) ( 77-80، مريم) . المراد بالذي كفر : العاص بن وائل السهمي ، كما ورد في الصحيحين . ([xi])
قال في التفسير الوسيط : ( ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما أخرجه البخارى ومسلم عن خباب بن الأرتّ قال: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقاً لى عنده، فقال لى: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – فقلت له: لا، والله لا أكفر بمحمد – صلى الله عليه وسلم – حياً ولا ميتاً ولا إذا بعثت، فقال العاص: فإذا بعثت جئتنى ولي هناك مال وولد فأعطيك حقك، فأنزل الله – تعالى – هذه الآيات.
وفى رواية : أن رجالا من أصحاب النبى – صلى الله عليه وسلم – أتوا العاص يتقاضون دَيناً لهم عليه ، فقال: ألستم تزعمون أن فى الجنة ذهباً ، وفضةً ، وحريراً ، ومن كل الثمرات..؟ قالوا: بلى. قال:( موعدكم الآخرة والله لأوتَيَّن مالا وولدا) .
والاستفهام فى قوله – سبحانه – ( أَفَرَأَيْتَ.. ) للتعجيب من شأن هذا الكافر الجهول ، والفاء للعطف على مُقَدَّر يستدعيه المقام، والتقدير: أنظرت أيها العاقل فرأيت هذا الجاحد الجهول الذى كفر بآياتنا الدالة على وحدانيتنا، وعلى أن البعث حق، وعلى أن ما جاء به رسولنا – صلى الله عليه وسلم – حق وصدق…
ولم يكتف بهذا الكفر، بل قال بكل تبجح، وإصرار على الباطل، واستهزاء بالدين الحق: والله
( لأُوتَيَنَّ ) فى الآخرة (مَالاً وَوَلَداً ) ، كما هو حالي فى الدنيا. فأنت ترى أن هذا الكافر لم يكتف بكفره، بل أضاف إليه القول الباطل ، المصحوب بالقسم الكاذب، وبالتهكم بالدين الحق.
وقد رد الله – تعالى – على هذا المتبجح المغرور رداً حكيماً مُلزماً ، فقال: ( أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً كَلاَّ… ). والاستفهام للإنكار والنفي، والأصل: أأطلع ، فحذفت همزة الوصل للتخفيف.
والمعنى: إن قول هذا الجاهل إما أن يكون مستنداً إلى اطلاعه على الغيب ، وعلمه بأن الله سيؤتيه فى الآخرة مالاً وولداً، وإما أن يكون مستنداً إلى عهد أعطاه الله – تعالى – له بذلك.
ومما لا شك فيه أن كِلا الأمرين لم يتحققا بالنسبة له، فهو لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الله عهداً، فثبت كذبه وافتراؤه، ولذا كذبه الله – تعالى – بقوله ( كَلاَّ ) ، وهو قول يفيد الزجر ، والردع ، والنفي.
أي: كلاّ لم يطلع على الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً. بل قال ذلك افتراءً على الله.
وقوله – سبحانه -: ( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ) بيان للمصير السيىء الذى سيصير إليه هذا الشقي وأمثاله، و ( وَنَمُدُّ )من المَدّ ، وأكثر ما يُستعمل فى المكروه ، بخلاف أَمَدَّ . أي: سنسجل على هذا الكافر ما قاله، ونحاسبه عليه حساباً عسيراً، ونزيده عذاباً فوق العذاب المُعَدِّ له، بأن نضاعفه له؛ ونطيله عليه ، ( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) أى: ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد، بأن نسلبه منه، ونجعله يخرج من هذه الدنيا خاليَ الوِفاض منهما، وليس معه فى قبره سوى كفنه، ( وَيَأْتِينَا فَرْداً ) أى: ويأتينا يوم القيامة بعد مبعثه منفرداً بدون مال ، أو ولد ، أو خدم ، أو غير ذلك مما كان يتفاخر به فى الدنيا هو وأشباهه من المغرورين الجاحدين.([xii])
قال صاحب الكشاف 🙁 فإن قلت: كيف قيل: سنتكب بسين التسويف ، وهو كما قاله كتبه من غير تأخير قال – تعالى: ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) قلت: فيه وجهان: أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله على طريقة قول الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدنى لئيمة………….. ولم تجدي من أن تُقِرّي بها بُدَّا
أى: تَبَيَّنَ ، وعُلِمَ بالانتساب أني لم تلدني لئيمة.
والثانى: أن المتوعد يقول للجاني: سوف أنتقم منك، يعنى أنه لا يخل بالانتصار ، وإن تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هَاهُنا لمعنى الوعيد . ) .([xiii])
5- و قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)(106 : النحل )
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر – رضي الله عنه – ، فقد روي ” أن قريشاً أكرهوا عماراً وأبويه ياسراً وسُمية على الارتداد ، فأباه أبواه ، فربطوا سُمَيةَ بـين بعيرين ، وَوُجِِئَت بِحَربَةٍ في قُبُلِها، وقالوا: إنما أسلمتْ من أجل الرجالِ فقتلوها ، وقتلوا ياسراً ، وهما أولُ قتيلين في الإسلام، وأما عمارٌ فأعطاهم بلسانه ما أُكرِهَ عليه ..
فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – : ( كلا، إن عماراً مُلىء إيماناً من قَرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمانُ بلحمه ودمه) ([xiv]).
فأتىٰ عمارٌ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم – وهو يبكي، فجعل رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم- يمسح عينيه وقال: ( إن عادوا لك فعُدْ لهم بما قلت )([xv]) ، وهو دليلُ جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراهِ المُلجىء ، وإن كان الأفضلُ أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه. ([xvi])
عن قتادة: ( مَنْ كَفَرَ بـاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيـمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ ) قال: ذُكر لنا أنها نزلت فـي عمار بن ياسر، أخذه بنو الـمغيرة فغطوه فـي بئر ميـمون ، وقالوا: اكفُر بـمـحمد ، فتابعهم علـى ذلك وقلبه كاره، فأنزل لله تعالـى ذكره: ( إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بـالإيـمَانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بـالكُفْرِ صَدْراً ): أي من أتـى الكفر علـى اختـيار واستـحبـاب ، (فَعَلَـيهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ ). قال الشعبـي: لـما عذّب الأعبد ، أعطوهم ما سألوا إلا خبـاب بن الأرتّ، كانوا يضجعونه علـى الرُّضُف _ الحجارة المُحَمَّاة – فلـم يستقلوا منه شيئاً.
فتأويـل الكلام إذن: من كفر بـالله من بعد إيـمانه، إلا من أكره علـى الكفر ، فنطق بكلـمة الكفر بلسانه ، وقلبه مطمئنّ بـالإيـمان، موقنٌ بحقـيقته ، صحيحٌ علـيه عزمه ، غير مفسوح الصدر بـالكفر لكن من شرح بـالكفر صدراً ، فـاختاره وآثره علـى الإيـمان ، وبـاح به طائعاً، فعلـيهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيـم([xvii]).
6- وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(6) ) ( 6 : لقمان ) . والمراد 🙁 النضر بن الحارث ) ، الذي اشترى قَينَة ، وكان لا يسمع أحداً يريد الدخول في الإسلام ، إلا انطلق به إلى قَينَتِهِ ، فيقول : أَطعميه ، واسقِيه ، وغَنِّيهِ هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة ، والصيام ، والقتال بين يديه ، فنزلت هذه الآية . ([xviii])
قال في التفسير الوسيط : (وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات أشهرها، أنهما نزلتا فى النضر بن الحارث. اشترى قينة – أى مغنية -، وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول لها: أطعميه واسقيه وغنيه، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد – صلى الله عليه وسلم – من الصلاة ، والصيام، وأن تقاتل بين يديه.. و ( لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ ): باطله، ويُطلق على كل كلام يلهي القلب، ويشغله عن طاعة الله – تعالى – ، كالغناء، والملاهى، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله – تعالى -وقد فسره كثير من العلماء بالغناء، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيراً. و ( مِنَ ) فى قوله : ( وَمِنَ ٱلنَّاسِ ) للتبعيض، أى: ومن الناس من يترك القول الذى ينفعه، ويشترى الأحاديث الباطلة، والخرافات الفاسدة.وقوله: ( لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً.. ) تعليل لاشتراء لهو الحديث. والمراد بسبيل الله – تعالى -: دينه ، وطريقه الذى اختاره لعباده).([xix])
وقال في الكشاف:
( وقوله: { يَشْتَرِى } إما من الشراء، على ما روي عن النضر: من شراء كتب الأعاجم ، أو من شراء القِيان. وإما من قوله: ( ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ ) [177 : آل عمران ] أي استبدلوه منه ، واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابُه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرىء: ( لِيُضِلَّ ) بضم الياء وفتحها. و ( سَبِيلِ ٱللَّهِ) دين الإسلام أو القرآن.
فإن قلت: القراءة بالضم بَيِّنة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام ، واستماع القرآن ، ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح..؟
قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين ، وصدّ الناس عنه.
والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قِبَلِ أن من أضَلَّ كان ضالاً لا محالة، فدل بالرديف على المردوف . ) ([xx])
7- وقوله تعالى : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)) ( 32 : الأنفال )
تتحدث الآية عن بعض رذائل مشركي قريش ، فتحكي لوناً عجيباً من ألوان عِنادهم ، وجحودهم للحق ، فتقول : (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) ) . أخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل هذا القول هو : أبو جهل بن هشام ([xxi]). وأخرج ابن جرير عن محمد بن قيس : أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمداً – صلى الله عليه وسلم – من بيننا ، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء . ([xxii])
وفي ظني أن مُؤدّى الأقوال واحد ، فهم جميعاً راضون بهذا القول الذي صدر عن أبي جهل حسب رواية البخاري ، أي : أسند سبحانه قول ( أبو جهل ) إلى جميع المشركين : لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمداً قد جاءهم بالحق ، بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاءنا به محمد من قرآن وغيره ، هو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا ، أو تنزل علينا عذاباً أليماً يقضي علينا . وفي إطلاقهم ( الحق ) على ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – ، وجعله من عند الله ، تهكُّمٌ بمن يقول ذلك . و( أل ) فيه : للعهد ، أي : الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله . وقوله : (من السماء ) : متعلق بمحذوف ، صفة لقوله ( حجارة ) ، وفائدة هذا الوصف : الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين .
قال في الكشاف : ( وهذا أسلوب من الجحود بليغ ، يعني : إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسِّجيل ، كما فعلت بأصحاب الفيل . ومرادهم : نفي كونه حقاً .
فإن قلت : ما فائدة قوله ( من السماء ) : والأمطار لا تكون إلا منها ..؟
قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فأمطر علينا السجيل ، وهي الحجارة المُسَوَّمة للعذاب ،
فوضع حجارة من السماء موضع السجيل . ) ([xxiii] )
8- و قوله تعالى : (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)) (35 : البقرة ) .
المبهمات في الآية قوله تعالى 🙁 وزوجك ) وقوله 🙁 الشجرة ) .
أما زوجه فهي ( حواء – عليها السلام – ) ، وأول من سماها بذلك : آدم – عليه السلام – ، حين خلقت من ضلعه ، وقيل له : مَن هذه ..؟ قال : امرأة ، قيل : وما اسمها ..؟ قال :حواء . قيل : ولم ..؟ قال : لأنها خلقت من حي ّ ([xxiv]).
والقرآن لم يحدثنا عن زوج آدم ، وهي التي عرفت بحواء ، وعن كيفية خلقها ، كل الذي أشار إليه القرآن الكريم في هذا المضمار ، وفي سياق غير سياق قصة آدم ، إشارات موجزة من مثل قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1).) ( سورة النساء : 1) . وأكثر المفسرين يذهبون إلى أن الله خلقها من ضلع آدم ، وهذا ما أشارت إليه التوراة صَراحةً ، وربما يستأنسون لذلك بحديث لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خُلِقنَ من ضلع أعوج ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ) ([xxv]). وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قول الله تعالى 🙁 وخلق منها زوجها ) أي : خلقها من جنسه، حتى لا يكون بينهما تنافر .
وأما الشجرة التي نهي عنها آدم – عليه السلام – وزوجه ، فهي من المبهمات التي لا ينبغي السؤال عن حقيقتها ، لأنه لا تتوقف على معرفة نوعها فائدة تُذكَر .
لقد أبهم الله تعالى الشجرة التي نهي آدم وزوجه عن الأكل منها ، لعدم توقف حكم على بيان جنسها فضلاً عن تحديد نوعها ، ومع هذا تجد الأقوال تعددت ملتمسة تحديد هذه الشجرة .
ومما قيل في تحديدها : إنها شجرة السنبلة ، روي هذا عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وقتادة – رضي الله عنه – ، وغيرهما . وقيل : الكَرمَة ، روي عن ابن عباس أيضا ، وسعيد بن جبير وغيرهما ([xxvi]). . وقيل هي النخلة . وقيل : التينة ([xxvii]). ويضاف إلى هذه الأقوال ، ما زعمته يهود من أنها الحنظلة ، وتقول : إنها كانت حلوة ومَرَّت (أي أصبحت مرة ) من حينئذ.([xxviii]) وعن ابن عباس – رضي الله عنهما -: إنها شجرة العلم فيها ثمرة كل شيء ([xxix]). والمنهج السليم ما قرره ابن جرير الطبري بقوله 🙁 ولـم يضع الله جل ثناؤه لعبـاده الـمخاطبـين بـالقرآن دلالة علـى أيّ أشجار الـجنة كان نهيه آدم أن يقربها بنصّ علـيها بـاسمها ، ولا بدلالة علـيها. فـالصواب فـي ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجه عن أكل شجرة بعينها من أشجار الـجنة دون سائر أشجارها، فخالفـا إلـى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها ، كما وصفهما الله -جل ثناؤه -. ولا علـم عندنا أيّ شجرة كانت علـى التعيـين، لأن الله لـم يضع لعبـاده دلـيلاً علـى ذلك فـي القرآن ، ولا فـي السنة الصحيحة…. وقد قـيـل: كانت شجرة البرّ. وقـيـل: كانت شجرة العنب. وقـيـل: كانت شجرة التـين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ إذا عُلِـم لـم ينفع العالـم به عِلـمُه، وإن جهله جاهل لـم يضرّه جهله به. ) ([xxx])
وقال الفخر الرازي : ( واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، فلا حاجة أيضا إلى بيانه ، لأنه لبس المقصود أن يعرفنا عين تلك الشجرة ، وما لا يكون مقصوداً في الكلام ، لا يجب على الحكيم أن يبينه ، بل ربما كان بيانه عبثاً ..) ([xxxi]).
وقال القرطبي : ( قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب : أن يعتقد أن الله نهى آدم عن شجرة ، فخالف هو إليها ، وعصى في الأكل منها ) ([xxxii])
9- وقوله تعالى : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)) (22 : النور ). نزلت في أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -. قال في جامع البيان : (عُنِـي بذلك أبو بكر الصدّيق – رضي الله عنه – فـي حلفه بـالله لا ينفق علـى مِسْطَح، فقال جلّ ثناؤه: ولا يحلف من كان ذا فضل من مال وسعة منكم أيها الـمؤمنون بـالله ألاَّ يُعْطُوا ذَوِي قَرابتهم ، فـيصِلوا به أرحامهم، كمِسْطح، وهو ابن خالة أبـي بكر. (وَالْمَسَاكِينَ ): وكان مِسْطح منهم، لأنه كان فقـيراً مـحتاجاً. (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهم الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم فـي جهاد أعداء الله، وكان مِسْطَح منهم ، لأنه كان مـمن هاجر من مكة إلـى الـمدينة، وشهد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدراً. ( وَلْـيَعْفُوا ) ولـيعفُوا عما كان منهم إلـيهم من جُرم، وذلك كجرم مِسْطح إلـى أبـي بكر فـي إشاعته علـى ابنته عائشة ما أشاع من الإفك. ( وَلْـيَصْفَحُوا ) : ولـيتركوا عقوبتهم علـى ذلك، بحرمانهم ما كانوا يؤتونهم قبل ذلك، ولكن لـيعودوا لهم إلـى مثل الذي كانوا لهم علـيه من الإفضال علـيهم. ( أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) ألا تـحبون أن يستر الله علـيكم ذنوبكم بإفضالكم علـيهم، فـيترك عقوبتكم علـيها. ( وَاللّهُ غَفُورٌ ) لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيـم بهم أن يعذّبهم مع اتبـاعهم أمره ، وطاعتهم إيّاه، علـى ما كان لهم من زلة ، وهفوة ، قد استغفروه منها ، وتابوا إلـيه من فعلها…..
وعن عائشة، قالت: لـما نزل هذا ، يعنـي قوله: ( إنَّ الَّذِينَ جاءُوا بـاْلإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) فـي عائشة، وفـيـمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر- وكان ينفق علـى مِسطَح لقرابته وحاجته- : والله لا أُنفِقُ علـى مسطح شيئاً أبداً ، ولا أنفعه بنفعٍ أبداً ، بعد الذي قال لعائشة ما قال ، وأدخـل علـيها ما أدخـل ، قالت: فأنزل الله فـي ذلك: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ… الآية ) . فقال أبو بكر: والله إنـي لأحبّ أن يغفر الله لـي ، فرجع إلـى مسطح نفقتَه التـي كان يُنفِق علـيه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. وكان أبو بكر قد حلف أن لا ينفع يتـيـماً فـي حِجْره كان أشاع ذلك. فلـما نزلت هذه الآية قال: بلـى أنا أحبّ أن يغفر الله لـي، فَلأكوننّ لـيتـيـمي خيرَ ما كنت له قطُّ. ([xxxiii]) .
10- وهناك نوع من المبهمات ضرب الله عن ذِكرِهِ صَفحاً لعدم تعلق التكليف به ، لِخُلُوِّ معرفته من الفائدة ، مثل تعيين البعض المذكور في قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ( البقرة : 73) .
أمر الله بني إسرائيل لما قُتِلَ فيهم قتيل ، ولم يهتدوا لقاتله أن يذبحوا بقرة ، ويضربوا القتيل ببعض هذه البقرة ، ولم تُبَين الآية ما هذا البعض ..؟
لذلك اختلف المفسرون في تعيين هذا البعض على أقوال كثيرة :
قال الطبري : ( …… عن قتادة، قال: ذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله، فأنبأ بقاتله الذي قتله وتكلـم، ثم مات. وقال آخرون: الذي ضرب به منها هو البَضْعة التـي بـين الكتفـين ، فعاش، فسألوه: من قتلك..؟ فقال لهم: ابن أخي.
وقال آخرون: الذي أمروا أن يضربوه به منها عَظمٌ من عظامها ، عن أبـي العالـية، قال: أمرهم موسى أن يأخذوا عظماً منها فـيضربوا به القتـيـل ففعلوا، فرجع إلـيه روحه، فسمى لهم قاتله ، ثم عاد ميتاً كما كان . ) ([xxxiv])
وقال ابن الجوزي : ( وفي الذي ضُرِبَ به ستة أقوال:
أحدها: أنه ضُرِبَ بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أنه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وذكر عكرمة ، ومجاهد أنه الفخذ الأيمن.
والثالث: أنه البَضعة التي بين الكتفين. رواه السدي عن أشياخه.
والرابع: أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد.
والخامس: أنه عَجب الذنب، وهو عظم بني عليه البدن، روي عن سعيد بن جبير.
والسادس: أنه اللسان، قاله الضحاك.
وفي الكلام اختصار تقديره: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي، فقام فأخبر بقاتله.) ([xxxv]) .
وبناء على ذلك ، فالمبهمات التي لم يُفصح القرآن عنها ، لا يصح الاشتغال بها .
كما لا يجوز البحث في مبهمات استأثرَ اللهُ بعلمها ، فيجب التوقف عندها ، وعدم الخوض فيها . قال الزركشي : ( لا يُبحَثُ عن مبهم أخبر الله باستئثاره بعلمه ) ، كقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)) ( 60 : الأنفال ) فقد أخبر الله سبحانه اختصاصه بعلم ما تضمنه قوله : (وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) ونفى ذلك عن الخلق، فمن تَطَلَّبَ معرفة هذه الأمور ، فقد تجرأ على الله تبارك وتعالى ، وتعدَّى الحَدَّ الذي يجب الوقوف عنده ([xxxvi]).
====================================================
[i] – انظر : الواحدي : أسباب النزول : ص 228-229. . والبخاري ، محمد بن إسماعيل ين إبراهيم بن المغيرة ( تـ 256هـ) ، صحيح البخاري ، طبعة مصطفى البابي الحلبي ، عام 1953م : ج3 : ص 15 .
[ii] – انظر : الآلوسي : روح المعاني : ج 21 ص 173 .
[iii] -الزمخشري ، الكشاف : ج3: ص 256-257.
[iv] – انظر : الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن : مجلد : 12 ، ج 28 ، ص 2 .
[v] – انظر الواحدي النيسابوري ، أسباب النزول ، ص 260. وَ جامع البيان عن تأويل آي القرآن : مجلد : 12 ، ج 28 ، ص 2
[vi] – انظر الزمخشري : الكشاف ، ج4 ، ص70.
[vii] – انظر : محمد الطاهر بن عاشور( تـ 1973م) : تفسير التحرير والتنوير ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، 1984م. ، مجلد: 11 ، ج 28 ، ص 9 .
[viii] – انظر محمد ابن جرير الطبري : جامع البيان : ج11، ص: 230-231.
[ix] – انظر : محمد ابن جريرالطبري ، جامع البيان : ج11: ص 227-232. والسيوطي : الدر المنثور : ج3: ص 236.
[x] – ابن جرير : جامع البيان : ج1: ص 232 . وانظر د. عبد الرحمن بن صالح ، الأقوال الشاذة في التفسير ، ، ط1، 2004م. ص: 317.
[xi] – انظر : البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، ج3 ص : 112-113.
[xii] – انظر : د. محمد السيد طنطاوي ، التفسير الوسيط ، ط2 ، 1985م. ج16، ص: 80- 82.
[xiii] – انظر : الزمخشري : الكشاف ، المجلد الثاني : ص : 523.
[xiv] – الهيثمي ، علي بن أبي بكر ( تـ 807هـ) ، مجمع الزوائد ، دار الكتاب العربي ،ط3، 1402هـ. ج 9 : ص 157- 158.
[xv] – محمد بن سعد بن منيع الزهري ( تـ230هـ) ، الطبقات الكبرى ، دار صادر ، بيروت . 1957م : ج3: ص 189.
[xvi] – انظر : الواحدي ، أسباب النزول : ص 62. وانظر : الزمخشري ، الكشاف ، مجلد 2 ، ص 430.
[xvii] – انظر الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي الفرآن: مجلد: 7 ، ج14 ، ص 122.
[xviii] – انظر : السيوطي : لباب النقول ، ص : 135 . والآلوسي : روح المعاني ، ج 21 ص67 . والقينة هي : المُغنية .
[xix] – د. محمد سيد طنطاوي : التفسير الوسيط : ج20: ص 139
[xx] – الزمخشري : الكشاف : ج3: ص 230. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو : ( لِيَضِلَّ ) بفتح الياء ، ومعناها : أنهم يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم . . وقرأ الباقون : ( لِيُضِل ) بضم الياء ، أي : يضلون غيرهم ، وهؤلاء أكثر استحقاقا للذم ، لأنهم لا يضلون غيرهم إلا مهم ضالون . . انظر : الإمام نصر بن علي بن محمد المعروف بابن أبي مريم : الكتاب المُوضَّح في وجوه القراءات وعللها ، نحقيق الدكتور عمر حمدان الكبيسي ، ط1، عام 1993م ، ج1: ص 498. وَ ج2:ص 1013.
[xxi] – انظر : البخاري ، صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، ج3: ص:95. والآلوسي ، روح المعاني : ج9 ص199 .
[xxii] – انظر: الآلوسي ، شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت . : ج9/ ص 99 .
[xxiii] – انظر : الزمخشري ، جار الله محمود بن عمر الخوارزمي : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، ط البابي الحلبي ، القاهرة ، 1966م.: ج2/ ص 216 .
[xxiv] – انظر : السهيلي : الأعلام ،ص 19.
[xxv] – أخرجه البخاري : حديث رقم : 3153. وانظر :أ . د. فضل حسن عباس ، قصص القرآن الكريم : ط1، عام2000م ، ص 137.
[xxvi] – انظر تفسير جامع البيان : ج1: ص 517
[xxvii] – انظر المرجع السابق . نفس الجزء ونفس الصفحة.
[xxviii] – انظر : أبو محمد عبد الحق بن عطية ( تـ 546هـ) : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت : ، ج1:ص128.
[xxix] – ذكره ابن عطية ، المحرر الوجيز ، ج1: ص 127. وقال : وهذا ضعيف لايصح .
[xxx] – أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : جامع البيان ، ج1 : ص 520.
[xxxi] – الفخر الرازي : التفسير الكبير ، ج3: ص 6.
[xxxii] – تفسير القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ( تـ 671هـ) : ( الجامع لأحكام القرآن الكريم ) ، دار الكتاب العربي ، القاهرة ، 1967م . : ج1: ص 204.
[xxxiii] – انظر : الطبري : جامع البيان : مجلد : 9 ، ج: 8 ، ص، 74. وانظر : الواحدي : أسباب النزول : ص 185.
[xxxiv] – انظر : الطبري : جامع البيان ، ج1: ص229. والسيوطي ، مفحمات الأقران : ص 14.
[xxxv] – ابن الجوزي : زاد المسير : ج1: ص 102 . والسيوطي ، مفحمات الأقران : ص 14.
[xxxvi] – الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج1: ص 155.
توهم وقوع النقص والخلل في القرآن الكريم؛ لعدم إشارته إلى كتب بعض الأنبياء والرسل
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن كتاب ناقص وبه خلل؛ حيث إنه لم يشر إلى كثير من كتب الأنبياء والرسل المذكورين فيه، والمقدر عددهم بخمسة وعشرين نبيا سوى داود، وموسى، وعيسى، وإبراهيم – عليهم السلام -.. ثم ماذا عن عشرات الأنبياء الذين لم يتعرض القرآن إلى ذكر قصصهم ولا قصص أقوامهم من قريب أو بعيد؟ ويتساءلون: ألا يتناقض هذا مع ما يدعيه المسلمون من إعجاز القرآن وكماله؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) إن القرآن الكريم سلك مسلك الإيجاز البليغ في قص قصص بعض الأنبياء والرسل لأخذ العبرة والأسوة، فكان القصد الاعتبار بنهجهم في الدعوة، لا الإخبار بجميع الرسل وإحصاء كتبهم؛ لأنه أمر متعذر، فمن ذكر يغني عمن لم يذكر.
2) لا يعاب القرآن الكريم في عدم تفصيله الحديث عن بعض الأنبياء وأممهم، فما ذكر فيه من قصصهم فيه الكفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب.
التفصيل:
أولا. لقد سلك القرآن مسلك الإيجاز والاختصار في ذكر قصص بعض الأنبياء؛ لأن القصد من ذكرها أخذ العبرة والعظة:
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن الأمر ليس موقوفا على ما أتى به المعترضون، بل الأمر أبعد من ذلك، فنجد القرآن يقول: )ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)( (النساء).
فهناك أنبياء ورسل لم يقصص الحق – سبحانه وتعالى – خبرهم على نبيه – صلى الله عليه وسلم – وليس في ذلك أي مطعن في القرآن الكريم؛ حيث إن الحق – سبحانه وتعالى – أوجب على المسلمين الإيمان بهم على سبيل الإجمال، كما ينبئ عنه قوله سبحانه وتعالى: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة). أي ما قصه وما لم يقصه؛ فهناك من الأنبياء من آتاهم الله كتبا كداود عليه السلام: )وآتينا داوود زبورا (163)( (النساء: ١٦٣). وإبراهيم وموسى عليهم السلام: )إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19)( (الأعلى). وعيسى عليه السلام: )وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46)( (المائدة).
فالحق – سبحانه وتعالى – لم يخبر نبيه عما إذا كان قد آتى البعض الآخر كتبا، أم لا؛ كيوسف، ويعقوب، وإسماعيل، وإسحاق، ويونس، وإلياس، واليسع – عليهم السلام -… وليس في هذا ما يقدح في رسالتهم، فقد أخبر القرآن عن نهجهم في الحياة تجاه الدعوة وتوحيد الله عز وجل. ولا بد أن يفهم أن القرآن كتاب هداية، وأنه الأصل الأول للدين، وأنه لم يزعم من قبل أحد نبيا كان أو تابعا له أنه جاء ليلخص لنا الديانات السابقة[1].
ثانيا: القرآن لا يعاب في عدم ذكره بعض الأنبياء، فما ذكره فيه الكفاية لتحصيل العبرة:
يقول الله تعالى في ذكره الحكيم: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: ٧٨). ويوضح لنا الشيخ الطاهر ابن عاشور – عند تفسيره هذه الآية – الحكمة من عدم ذكر جميع الأنبياء وقصصهم في القرآن قائلا: “لقد بعث الله رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى؛ لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه – صلى الله عليه وسلم – ومنهم من لم يعمله بهم، إذ لا كمال في الإعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من له قصة في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم وحي غير القرآن، فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث: «أن نبيا لسعته نملة فأحرق قريتها فعوتب في ذلك»،[2] ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين، وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب.
ولقد جاء في القرآن الكريم تسمية خمسة عشر رسولا وهم: نوح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وهارون، وعيسى، ويونس، ومحمد، واثنا عشر نبيا وهم: آدم، وداود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، ويحيى، وإلياس، واليسع، وإدريس، وذو الكفل، وذو القرنين، ولقمان، وورد بالإجمال دون تسمية صاحب موسى المسمى في السنة الخضر، ونبي بني إسرائيل وهو صموئيل، وتبع.
وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد – صلى الله عليه وسلم – ولكن الأنبياء الذين ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوة يجب الإيمان بنبوتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمسة وعشرون بين رسول ونبي، ولقد اشتمل قوله تعالى: )وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86)( (الأنعام) على أسماء ثمانية عشر منهم، وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى، ولا يجب الإيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوة على الإجمال. [3]
وهكذا يعرض القرآن ظاهرة الأنبياء نموذجا موحدا، فهم يشتركون في خصائص معينة لا يجوز أن نفرق بينهم فيها. فمن هذا الجانب يفرض القرآن على أتباعه أن يؤمنوا بجميع الأنبياء في آيات عديدة، فمثلا يقول عز وجل: )آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)( (البقرة).
ويقول عز وجل: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137)( (البقرة).
ويقول عز وجل: )قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84)( (آل عمران).
ويقول عز وجل: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)( (النساء)[4].
الخلاصة:
لقد سلك القرآن في ذكر قصص الأنبياء مسلك الإيجاز والاختصار؛ وذلك لأن الهدف منها أخذ العبرة والأسوة والاعتبار بنهجهم في الدعوة.
وعلى هذا فقد أرسل الله – عز وجل – رسلا لا يعلم عددهم إلا الله، والمطلوب منا هو الإيمان بهؤلاء الرسل وعدم التفريق بينهم؛ لأن منهم من قص الله – عز وجل – قصته، ومنهم من لم يذكر الله – سبحانه وتعالى – حكايته قال سبحانه وتعالى: )منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( (غافر: ٧٨)، وهذا من حكمة القرآن في الإرشاد فما كان فيه فائدة من ذكره ذكره، وما لم يكن لم يذكره.
(*) موقع جودت سعيد. said.net www.jawdat
[1]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص19 وما بعدها.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق (2856)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل (5986).
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 11، ج24، ص210، 211 بتصرف.
[4]. انظر: عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص26 وما بعدها. محمد والأنبياء في المصادر اليهودية والمسيحية، السيد سلامة غنمي، مطابع الوليد، مصر، 2003م، ص36 وما بعدها.
دعوى تناقض القرآن حول تصوره للمسيح عليه السلام
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن بالقرآن تناقضا حول تصوره للمسيح – عليه السلام – فتارة يذكر أنه عبد، وتارة أخرى يشير إلى أن طبيعته تشبه الطبائع الإلهية. كما أن القرآن يعطي المسيح من الألقاب العظام ما لم يعطه لغيره من الأنبياء، فهو “كلمة الله”، و “روح الله”، و: )وجيها في الدنيا والآخرة( (آل عمران: 45)… إلى غير ذلك. ويتساءلون: إذا كان الذي ذكره القرآن عن المسيح – عليه السلام – يفوق ما ذكره عن سائر البشر بمن فيهم محمد – صلى الله عليه السلام – ألا يشير هذا إلى تميز المسيح – عليه السلام – عن سائر البشر، وهذا ما يقره الإنجيل عن لاهوت المسيح؟!
وجه إبطال الشبهة:
لا تناقض بين الآيات التي تعرضت لذكر المسيح – عليه السلام – فهي تصفه بأنه بشر خصه الله ببعض الخصائص التي تميز بها عن بقية الرسل، وهذه الخصائص والمزايا، منح من الله تعالى له، وليست ذاتية فيه.
التفصيل:
لا تناقض بين الآيات التي تعرضت لذكر المسيح – عليه السلام – فهي تصفه بأنه بشر خصه الله ببعض الخصائص التي تميز بها عن بقية الرسل؛ مثل تسميته بـ “كلمة الله”، و “روح الله”، وولادته بالروح القدس من عذراء، وقدرته على إتيان المعجزات، ورفعه إلى السماء، وكونه وجيها في الدنيا والآخرة، ووصفه بأنه المخلص وأنه قدوس بلا شر، وهذه الخصائص والمزايا منح من الله – عز وجل – له، وليست ذاتية فيه؛ ولو كان القرآن الكريم ينسب للمسيح شيئا بمعزل عن إرادة الله وإذنه، لكان لهؤلاء المغالطين حق في أن يستدلوا بهذه الخصائص على ألوهيته.
أما وإنها منح من الله – عز وجل – له، فإنها تدل على عبوديته لله، لا على ألوهيته، كما قال الله: )إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل (59)( (الزخرف).
ولو كانوا موضوعيين، يبحثون عن الحقيقة المجردة، لاعترفوا بفضل القرآن، وأنه كلام الله، وبفضل رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنه مبلغ عن الله كلامه، وبفضل الأمة الإسلامية، وأنها نقلت ما بلغه رسول الله لها نقلا أمينا، ولم تبادلهم بغضاء ببغضاء، ولم تبدل كلام الله.
بل نقلت ما قاله الله في نبيه عيسى – عليه السلام – دون تبديل أو تحريف، ولم تبادلهم تشويها بتشويه، فكم حاولوا – زورا – تشويه صورة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم!!
أما البيان التفصيلي لما قيل عن لاهوت عيسى – عليه السلام – في القرآن فهو كالتالي:
وصفه بأنه كلمة الله، أو كلمة منه، أي: أنه نفاذ كلمته )كن( وإن كان الخلق جميعا نفاذ كلمته، وأثرا لها، إلا أن عيسى جاء على نسق غير مألوف للناس لكونه ولد من غير أب، ومن هنا وصف بهذا الوصف.
و”من” في قوله سبحانه وتعالى: )بكلمة منه( (آل عمران: 45) ليست للتبعيض حتى لا يفهم أنه جزء من الله انفصل منه كما يتوهم النصارى، وإنما هي للابتداء، مثل “من” في قوله سبحانه وتعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه( (الجاثية: ١٣)، وإذا كان المسيح هو ذات كلمة الله كما يزعم النصارى، وما دامت كلمة الله تعالى قابلة لأن تنفصل منه وتتحول إلى مخلوق أو إنسان، فلم لا يكون الخلق أو الإنسانية كلها كذلك؟! إن تحول الصفة إلى ذات هو غاية في الشناعة، وإغراق في الاستحالة العقلية.
ووصفه بأنه “روح منه” لا يعنى أنه ابن الله كما زعموا، ولا يعنى أنه انفصل من الله، وإلا كان آدم أحق بذلك فقد قال الله تعالى في حقه: )ونفخت فيه من روحي( (ص: ٧٢)، وكان البشر كلهم كذلك؛ فالنبي – صلى الله عليه وسلم – قال في الحديث: «إن أحدكم يجمع خلقه.. ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح»[1]، وضم الحديث مع الآيات في شأن آدم وعيسى يقدم لنا الحقيقة ناصعة، وهي أن جميع البشر – بمن فيهم عيسى عليه السلام – نفخت فيهم الروح بتكليف الملك المخصص بنفخ الروح، وبنفخ الروح تحل الحياة في الجسد[2].
فقد قال تعالى في حق مريم: )فنفخنا فيها من روحنا( (الأنبياء: ٩١)، كما قال عن آدم: )ونفخت فيه من روحي(، لكن التعبير عن عيسى بأنه “روح” أو “روح منه” لكونه جاء على غير الإلف، فكأنه هو الروح، ومشكلة النصارى أنهم حولوا التعبيرات المجازية في كتابهم ككلمة الأب، إلى تعبيرات حقيقية.
ولادته بالروح القدس من عذراء: يتخذ بعض المغالطين من هذا التمييز لعيسى عن سائر الأنبياء دليلا على أنه إله وابن إله، ويصرحون بأنه ابن، وأمه مريم وأبوه الله – حاشا لله – أما السبب في هذا التميز عندنا – نحن المسلمين – فهو لكي يظهر الله تعالى لنا آية على طلاقة قدرته، وأنه يخلق الشيء وضده، لا يعجزه شيء، فكما خلق الإنسان من أبوين، أعطانا آية على أنه يخلق من غير أب، كما خلق آدم بلا أب ولا أم، وكما خلق حواء من آدم، فقدم لنا الاحتمالات المفترضة كلها، وأنه – سبحانه وتعالى – لم يعجزه واحد منها.
كما قدم الاحتمالات الأربعة في قوله سبحانه وتعالى: )يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير (50)( (الشورى)، وأنه ينفذها كلها.
ولو كان المقصود بقوله تعالى: )بكلمة منه(، وقوله: )وروح منه( أنه جزء من الله انفصل منه، وأنه ابن الإله، ما عقب الله على هذه الآية بإثبات الوحدانية له – سبحانه وتعالى – ونفي الولد وإبطال التثليث، وأكد أن المسيح عبد الله ورسوله، وأن المسيح لا يستنكف أن يكون عبدا لله، بل إن مقصود الآية في المقام الأول هو نهي النصارى عن الغلو في المسيح بتأليهه، قال سبحانه وتعالى: )إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45)( (آل عمران)، )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء).
معاني كلمة “روح الله” في الكتاب المقدس[3]:
إن الله – سبحانه وتعالى ـخلق آدم – عليه السلام – ونفخ فيه من روحه: )فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)( (الحجر)، ولم يقل أحد: إن آدم إله، ثم إن روح الله تأتي عندكم – في المسيحية – على عدة أوجه:
القدرة: “ولكن في الناس روحا، ونسمة القدير تعلقهم”. (أيوب 32: 8).
الرأي: “الحكمة تنادي في الخارج. في الشوارع تعطي صوتها. تدعو في رؤوس الأسواق، في مداخل الأبواب. في المدينة تبدي كلامها قائلة: «إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل، والمستهزئون يسرون بالاستهزاء، والحمقى يبغضون العلم؟ ارجعوا عند توبيخي. هأنذا أفيض لكم روحي. أعلمكم كلماتي”. (الأمثال1: 20 – 23).
نفس الإنسان: “فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها”. (الجامعة 12: 7).
الإلهام: “وحل علي روح الرب وقال لي: قل هكذا الرب”. (حزقيال 11: 5).
قوة الله وقدرته: “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 8: 11).
الخلق والإحياء: “روح الله صنعني، ونسمة القدير أحيتني”. (أيوب 33: 4).
منزل الوحي على رسل الله: “لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون، مسوقين من الروح القدس”. (رسالة بطرس الرسول الثانية 1: 21).
وهل من الممكن أن تكون الكلمة الصادرة عن الرب هي الرب نفسه؟ فأنتم تقولون بذلك في بداية إنجيل يوحنا، بيد أن العقل السوي يأبي ذلك ويناقض معتقداتكم. فليس معنى أنه كلمة الله أنه هو الله نفسه؛ فالكلمة هنا تعني أمر الله إلى أمه مريم. وفي هذا إجلال لمريم؛ إذ يصفها الله بأنها أطاعت كلمته وأمره بمجرد تأكدها أنها صادرة من عند الله.
معاني كلمة “كلمة الله” في الكتاب المقدس[4]:
كتاب الله وكلامه وتعاليمه: “وهؤلاء هم الذين زرعوا بين الشوك: هؤلاء هم الذين يسمعون الكلمة، وهموم هذا العالم وغرور الغني وشهوات سائر الأشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر”. (مرقس 4: 18، 19).
الإيمان وجهاد النفس لطاعة الله: “وإذا كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله”. (لوقا 5: 1)، وأيضا: “وهذا هو المثل: الزرع هو كلام الله والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا”. (لوقا 8: 11، 12).
الكلمة العادية أو الأمر الموجه لشخص ما، والتي قد تكون سبب سعادة أو حزن: “قال له يسوع: إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا؛ لأنه كان ذا أموال كثيرة”. (متى 19: 21، 22).
النطق والكلام العادي: “ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيداء، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: “ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة جدا”، فلم يجبها بكلمة”. (متى 15: 21 – 23).
دليل أو إثبات: “وإن لم يسمع فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين؛ لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة”. (متى 18: 16).
السؤال: “فأجاب يسوع: وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لي عنها أقول لكم أنا أيضا بأي سلطان أفعل هذا: معمودية يوحنا من أين كانت؟ من السماء أم من الناس؟”. (متى 21: 24، 25).
التجديف: ” لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي”. (متى 12: 31، 32).
السب واللعن والتهجم على الآخرين: “ولكن أقول لكم: إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حسابا يوم الدين”. (متى 12: 36).
الخطأ، أو الإثم، أو العلة، أو سبب الإدانة: “فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار؛ لكي يمسكوه بكلمة، حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فسألوه قائلين: «يا معلم، نعلم أنك بالاستقامة تتكلم وتعلم، ولا تقبل الوجوه، بل بالحق تعلم طريق الله. أيجوز لنا أن نعطي جزية لقيصر أم لا؟» فشعر بمكرهم وقال لهم:«لماذا تجربونني؟ أروني دينارا. لمن الصورة والكتابة؟» فأجابوا وقالوا:«لقيصر». فقال لهم:«أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب، وتعجبوا من جوابه وسكتوا”. (لوقا 20: 20 – 26).
وكما رأينا لم تأت “الكلمة” أبدا بمعنى ذات الله ولا نفس الله، كما يحلوا لهم أن يفسروا على هواهم ما يثبت ألوهية يسوع؛ ومن ثم لا يمكن أن يكون الذي أوحى بكل معاني لفظ “الكلمة” قد أفاق أخيرا؛ ليوحي في إنجيل يوحنا بأن الكلمة هي الإله نفسه، مع الأخذ في الاعتبار أن علماء اللاهوت يعلمون أن هذا الإنجيل كتب بعد عام 120 ميلادية، فلا يمكن أن يكون الرب المتجسد عندهم نسي أن يوحي بأنه الكلمة لباقي الإنجيليين، وتذكرها بعد 120 سنة من مولده!! ثم قالوا: “والذين قاموا بكتابة أسفار الكتاب المقدس هم أناس الله القديسون”.
لقد خلت الأناجيل الأربعة وما ألحقوه بها من رسائل من بينة واحدة على أن عيسى – عليه السلام – أشار إلى نفسه أنه الكلمة، كما أن الثلاثة أناجيل الأولى المتوازية لم تشر بها إليه قط على ألسنة كاتبيها أو حكاية عن غيرهم، وأشير إلى قول لوقا الشهير في بداية إنجيله: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المـتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به”. (لوقا 1: 1 – 4). فماذا تعني “الكلمة” هنا غير ما سوف نذكره؟ وما الذي يمنع أن يكون هذا المعنى هو الذي قصده يوحنا في بداية إنجيله هو أيضا؟
معاني لفظ ” كلمة” في إنجيل لوقا:
ورد هذا اللفظ في إنجيل لوقا، بالمعنى نفسه الوارد في أسفار التوراة، أي: بمدلول الوحي، أو الأمر الإلهي، أو الرسالة النبوية عند أنبياء العهد القديم، ولم يتجاوز هذا الحد ولم يشر بها إلى مسيح الناصرة، أو حتى أي مسيح آخر. وهو نفس المدلول في سفر إرميا، ونصه: “اسمعوا الكلمة التي تكلم بها الرب عليكم يا بيت إسرائيل. هكذا قال الرب: ألا تتعلموا طريق الأمم ومن آيات السماوات لا ترتعبوا؛ لأن الأمم ترتعب منها”. (10: 1، 2).
ومعنى “الكلمة” هنا واضح لا يحتاج إلى شرح، وبمثله قال لوقا عن يوحنا المعمدان: “في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية”. (لوقا 3: 2)، فقد جاءت بعدة معان؛ منها:
كتاب الله: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينيين وخداما للكلمة”. (لوقا 1: 1، 2).
رضا الله: “وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا. فأجابه يسوع: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله”. (لوقا 4: 3، 4).
التوبيخ والنهر: “فوقعت دهشة على الجميع، وكانوا يخاطبون بعضهم بعضا قائلين: ما هذه الكلمة؛ لأنه بسلطان وقوة يأمر الأرواح النجسة فتخرج”. (لوقا 4: 36).
أوامر الله ونواهيه: “وإذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله كان واقفا عند بحيرة جنيسارت”. (لوقا 5: 1).
الإيمان وجهاد النفس لطاعة الله: “وهذا هو المثل: الزرع هو كلام الله، والذين على الطريق هم الذين يسمعون، ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم؛ لئلا يؤمنوا فيخلصوا”. (لوقا 8: 11، 12).
العمل بكتاب الله: “والذي في الأرض الجيدة هم الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويثمرون بالصبر… وجاء إليه أمه وإخوته ولم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع. فأخبروه: أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك، فأجاب: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”. (لوقا 8: 15ـ 21).
التجديف: “وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”. (لوقا 12: 10).
السؤال: “فأجاب: وأنا أيضا أسألكم كلمة واحدة، فقولوا لي: معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الناس؟”. (لوقا 20: 3).
الخطأ أو الإثم: “فراقبوه وأرسلوا جواسيس يتراءون أنهم أبرار؛ لكي يمسكوه بكلمة حتى يسلموه إلى حكم الوالي وسلطانه.. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب وتعجبوا من جوابه وسكتوا”. (لوقا 20: 20 – 26).
ومن هذا نستنتج بوضوح أن الكلمة عند لوقا هي: التعليم، والوحي، والأمر الإلهي الصادر عن الله – سبحانه وتعالى – والمبلغ عن طريق نبي من عباده. فهل شذ من كتب إنجيل يوحنا واستخدم الكلمة “لوجوس” في وصف عيسى – عليه السلام – مخالفا سياق الأناجيل الأخرى والرسائل مستسقيا مصادر أجنبية، وهي الفلسفة اليونانية في جانبها الوثني؛ ليدسه في النصرانية؛ لأن المضمون عند فلاسفة اليونان مثل هيراقليطس: أن “اللوجوس” أو الكلمة هو العقل الإلهي الضابط لحركة الموجودات والمهيمن على الكون، وهذا ما التقطه كاتب إنجيل يوحنا كفكرة فلسفية ليس لها أي أصل ديني صحيح، بل هو تصور وثني أضافه كاتب هذا الإنجيل؛ ليزيد الأمور تعقيدا عند النصارى.
والملاحظ أنه – سبحانه وتعالى – قال عن عيسى وأمه: )آية للعالمين (91)( (الأنبياء: ٩١)، ولم يقل: “رحمة للعالمين” كما فهم الكاتب، ولكنه قال: )ورحمة منا( (مريم: ٢١) إشارة إلى أنه من حيث كونه آية فهو آية للعالمين على طلاقة قدرة الله تعالى، ونفاذ مشيئته بلا حدود، أما من حيث كونه رحمة فهو رحمة لأناس بعينهم، وهم قومه من بني إسرائيل، كما قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف). وكما جاء في الإنجيل على لسانه: “إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة”، فهو آية للعالمين، وليس رحمة للعالمين؛ لأن رسالته ليست عالمية. أما صاحب الرسالة العالمية فهو محمد صلى الله عليه وسلم: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
إن الله – عز وجل – غني عن أن يكون له ابن، أو زوجة تلد له ابنا، وهو – عز وجل – لا يشبه خلقه، فالتوالد نتيجة التجانس والتشابه، وهو سبحانه وتعالى: )ليس كمثله شيء( (الشورى: ١١)، وكل المخلوقات خلقه وملكه، فلا حاجة لاختصاص أحد من الخلق ببنوة، ولهذا كانت الحجج في القرآن الكريم تتوالى لإبطال الولد: )سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض( (يونس: ٦٨).
أما أن القرآن لقب المسيح بأنه قدوس بلا شر:
وهذا افتراء على كتاب الله تعالى؛ فالله تعالى لم يسم أحدا من خلقه باسم القدوس، وإنما هو سبحانه وحده القدوس، قال سبحانه وتعالى: )هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس( (الحشر: ٢٣)، ومعنى القدوس: المنزه عن كل وصف يدركه حس، أو خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير[5].
وكون المسيح ذكر في القرآن الكريم من غير أن يذكر له خطيئة لا يعني أنه إله، أو ابن إله، فهو بشر، عبد الله، عصمه الله من الوقوع في المعصية، ولم يمسه الشيطان عند ولادته كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب».[6] وفي رواية: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه”، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: )وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36)( (آل عمران)». [7] لا لأنه إله ابن إله، ولكن تحقيقا لدعوة المرأة الصالحة امرأة عمران عندما لجأت إلى الله – عز وجل – أن يعيذ مريم وذريتها من الشيطان الرجيم.
أما ما يستدل به بعضهم على ألوهية المسيح، وهو:
قدرته على إتيان المعجزات:
والمعجزة أمر خارق للعادة يجريه الله – عز وجل – على يد نبي؛ تصديقا له في دعوى النبوة، فهي فعل من الله أظهره الله على أيدي أنبيائه، ولم يختص عيسى – عليه السلام – دون سائر الأنبياء بالمعجزات؛ فلكل نبي معجزاته التي أظهرها لقومه؛ ليثبت لهم صدقه، ولا تدل المعجزة على ألوهية من جرت على يديه، وإلا كان الأنبياء جميعا آلهة، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: )وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون( (آل عمران: 52) قال على لسان يوسف عليه السلام: )قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي( (يوسف: 37).
والإحاطة الكاملة بالغيب كله ليست إلا لله – عز وجل – علما كاملا ليس مستمدا من غيره – عز وجل – وهذا لا يمنع أن يعلم بعض خلقه ما تقتضيه الحكمة، كإطلاع رسله على بعض الغيب، قال سبحانه وتعالى: )عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27)( (الجن).
وما جاء في القرآن الكريم من نسبة الخلق لعيسى في قوله سبحانه وتعالى: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله( (آل عمران: ٤٩)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني( (المائدة: ١١٠).
فعيسى لم يدع أنه يتفرد بالخلق، ولكنه لا يفعل شيئا إلا بإذن الله، ومن معاني الخلق التقدير قال الشاعر:
فلأنت تفري ما خلقت
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
فالخلق الذي نسب له هو التقدير، لذلك جاء في الآيتين أنه يخلق )كهيئة الطير( ولم يرد أنه يخلق الطير، فهو لا يوجد الطير ويخلقه، ولكنه يعمل من الطين شكل الطائر، كما يصنع ذلك أي إنسان، لكن الله تعالى أعطاه آية، بأن ينفخ فيما شكله فيكون طائرا بإذن الله – عز وجل – فهو الذي يوجد الحياة عقب نفخ عيسى – عليه السلام – في الطين المشكل طيرا، وكذلك الأمر في إحياء الموتى فإنه بإذن الله تستجيب الأموات لندائه، فإذا بهم أحياء، وليس عيسى – عليه السلام – أول من أظهر الله على يديه هذه المعجزة، فقد أجرى الله على يد إبراهيم – عليه السلام – إحياء الطير بعد تقطيعها أشلاء، وخلط بعضها ببعض، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة)، وعلى يد موسى – عليه السلام – جاءت معجزة إحياء القتيل عندما ضربوه ببعض البقرة المذبوحة، قال سبحانه وتعالى: )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة).
وإبراء الأكمه والأبرص معجزة كغيرها من معجزات الأنبياء، والله – عز وجل – هو الذي شفاهما على الحقيقة، ولكن نسبة الإبراء إلى عيسى – عليه السلام – بإذن الله لما باشر السبب بأن مسح عليهما فشفيا بإذنه تعالى، والفعل ينسب إلى السبب المباشر كما ينسب إلى الفاعل الحقيقي، وذلك كثير في القرآن وفي اللغة، تقول: شفى الله المريض، وشفى الطبيب المريض، وقال الله: )وارزقوهم فيها( (النساء: ٥)، مع أنه سبحانه هو الرزاق.
رفعه إلى السماء:
لا يدل ذلك على ألوهيته، بل يدل على ما خصه الله – عز وجل – به لتكتمل خصائصه، وليكون آية للعالمين في بدء حياته، وفي خاتمتها، وفي أثنائها، أما أن يتخذ البعض من رفعه دليلا على خلوده، ويجعل ذلك اعترافا من القرآن بخلوده، فهذا ما يكذبه القرآن نفسه؛ فالقرآن الكريم يذكر على لسان عيسى – عليه السلام – أنه يموت كغيره من البشر، قال سبحانه وتعالى: )والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)( (مريم)، وقال سبحانه وتعالى: )وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته( (النساء: ١٥٩)، والآية التي استدل بها الكاتب على موت النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ليقارن بين موت محمد، وخلود عيسى – عليهما الصلاة السلام – تدل على موت عيسى ولو بعد حين، فالآية تقول: )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد( (الأنبياء: ٣٤)، وعيسى من بين البشر الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
وجيها في الدنيا والآخرة:
نعم جاء ذلك عن عيسى – عليه السلام – بمعنى أنه ذو جاه ومنزلة في الدنيا والآخرة، وكونه ذا جاه ومنزلة لا ينفي أن يكون غيره كذلك، وقد قال الله تعالى في حق الكافرين: )فما تنفعهم شفاعة الشافعين (48)( (المدثر: ٤٨)، فيفهم من هذا أن غير الكافرين من أهل الإيمان تنفعهم الشفاعة، وأنها شفاعة شافعين كثيرين، وليست شفاعة واحد فقط، فعيسى – عليه السلام – يشفع لمن أذن الله له بأن يشفع له، وغيره من ذوي الجاه من الأنبياء والملائكة والصالحين كذلك، ولو أكمل الكاتب الآية ووقف عندها، ما تطاول على كتاب الله، فالله – عز وجل – يقول: )ومن المقربين( (آل عمران: ٤٥)، فهو واحد من المقربين إلى الله، لكنه يفرض عقائده الباطلة فرضا على آيات كتاب الله؛ ليقول عن المسيح عليه السلام: “إنه ابن الله المتجسد، والوسيط الوحيد بين الله والناس”.
المخلص:
يتخذ بعض الكتاب من إطلاق القرآن الكريم على المسيح اسمه المتداول؛ أي: عيسى، ولقبه المعروف؛ أي: المسيح، وإطلاق القرآن اسم “الإنجيل” على كتابهم – اعترافا من القرآن بعقائدهم، فعيسى هو الإطلاق العربي لاسم يسوع عندهم، ويسوع بمعنى المخلص، ويزعمون أن هذا اعتراف من القرآن بأن يسوع مخلص العالم من الخطيئة الموروثة، ومخلص المؤمنين به، كما أن إطلاق المسيح في القرآن اعتراف منه بأنه معين ملكا ونبيا وكاهنا، لتعيينه مخلصا للجنس البشري، كما أن الإنجيل بمعنى: الخبر المفرح.
ونقول ردا على هذه المزاعم: إن استخدام القرآن الكريم لهذه الإطلاقات: “عيسى، المسيح، الإنجيل” لا يعني الاعتراف بعقائدهم الفاسدة، ولا يعني حتى الاعتراف بما تحمله من معان، فإن كانت هذه الكلمات في أصل اشتقاقها تحمل المعاني المذكورة، فإنها أصبحت أسماء لمسميات، فأصبح عيسى – عليه السلام – علما على النبي المرسل، وكذلك المسيح أصبح لقبا له، وأصبح الإنجيل علما على الكتاب الذي أنزله الله عليه.
وحتى لو كان معنى كل اسم من هذه الأسماء مقصودا، فليس على عقيدتهم الوثنية، ولكن عيسى – عليه السلام – مخلص للمؤمنين به من عذاب الله لكونه سببا في هدايتهم، والمسيح معين ليكون نبيا وقد كان، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى – عليه السلام – لا ما بأيديهم مما افتروه على الله، فيه بشرى للمؤمنين، وهذا الفهم لا ينكره القرآن، بل يقرر أن المرسلين مبشرون ومنذرون: )وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين( (الأنعام: ٤٨)، أما كثرة ذكر عيسى ابن مريم – عليه السلام – في القرآن الكريم فليس اعترافا بألوهيته؛ ولكن لأنه لم يقل أحد قولا عظيما في حق مخلوق مثلما قيل في المسيح – عليه السلام – فكان تكرار ذكره تأكيدا على أنه بشر ابن بشر – ابن مريم – ونفيا لألوهيته، ولو كانوا صادقين في الإيمان بعيسى – عليه السلام – وفي حبه، لآمنوا بالكتاب الذي اعترفوا بأنه أشاد به، ووضعه في المكانة اللائقة به، ولأخذوا بكل ماجاء فيه عن المسيح وعن غيره، لا أن يزيفوا الحقائق ويقلبوها، ويحرفوا آيات القرآن ويستنطقوها ضلالاتهم.
الخلاصة:
المسيح – عليه السلام – كلمة الله وروح منه، أي: أنه نفاذ لكلمته “كن”، ونتيجة نفخ الروح في أمه، لكونه خلقا غير معتاد.
ما خص الله تعالى به عيسى – عليه السلام – من معجزات لا يدل على ألوهيته، ولكنها تصديق لنبوته، يشاركه في ذلك بقية الرسل، فهم مؤيدون بالمعجزات، وما كان من أمر خلقه، ورفعه فذلك آية للناس تدل على طلاقة قدرة الله تعالى.
تكرار ذكر عيسى – عليه السلام – في القرآن الكريم لا يدل على ألوهيته، بل لأنه أكثر من فتن الناس به، واختلفوا فيه، ومنهم من عاداه من بني إسرائيل، حتى كفروا به وحاولوا قتله، ومنهم من أفرط في حبه – أو هكذا توهموا – حتى رفعوه إلى درجة الألوهية؛ فجاء القرآن الكريم ليحسم هذا الخلاف، وليضعه في منزلته اللائقة به.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islameyat.com
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3036)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه (6893).
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص20: 25 بتصرف. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص814: 823 بتصرف. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات، دار الفكر، بيروت، 1416هـ/ 1998م، ج2، ص130، 131 بتصرف.
[3]. المناظرة الكبرى مع القمص زكريا بطرس حول ألوهية يسوع، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص99 وما بعدها.
[4]. المناظرة الكبرى مع القمص زكريا بطرس حول ألوهية يسوع، علاء أبو بكر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص100 وما بعدها.
[5]. المقصد الأسنى، أبو حامد الغزالي، مكتبة الجندي، القاهرة، د. ت، ص55.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3112).
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (6282).
دعوى أن القرآن الكريم جمع اسم علم يجب إفراده تكلفا للسجع
مضمون الشبهة:
يدعي بعض الواهمين أن القرآن الكريم قد جانب الصواب في استعمال “إلياسين” بدلا من “إلياس” في قوله عز وجل: )سلام على إل ياسين (130)( (الصافات)، بعد قوله عز وجل: )وإن إلياس لمن المرسلين (123)( (الصافات)؛ لأن “إلياسين” جمع مذكر لـ “إلياس”، وذلك من أجل السجع المتكلف**.
وجها إبطال الشبهة:
الأصل فيما كان آخره ياء ونونا أنه جمع مذكر، لكن إذا نظرنا في الآية الكريمة: )سلام على إل ياسين (130)( (الصافات)، قد يتوهم خطأ القرآن في جمع اسم علم يجب إفراده، والصواب كما يرى هؤلاء أن يقال: “سلام على إلياس”، وهذا التوهم مردود عليه من وجهين:
1) “إلياس” هو “إيليا” أحد أنبياء بني إسرائيل المذكور في سفر الملوك الأول، وربما زيادة الياء والنون له معنى في اللغة السريانية، وقيل: إن “إلياسين ” لغة في “إلياس”.
2) على الفرض – جدلا – أن “إلياسين” جمع، فإن المراد بها “إلياس” ومن آمن به من قومه، كما نقول: “المحمدون والمهلبون”، أي: تسمية الأتباع باسم المتبوع.
التفصيل:
أولا. “إلياس” هو “إيلياء” من أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعة التوراة، وقد أمر من جانب الله – عز وجل – بتبليغ ملوك إسرائيل غضب الله عليهم من أجل عبادة الأصنام، فإطلاق وصف الرسول عليه مثل إطلاقه على الرسل إلى أهل أنطاكية المذكورين في سورة يس.
وقرأ الجمهور” إلياس” بهمزة قطع في أوله، على اعتبار الألف واللام من جملة الاسم العلم، فلم يحذفوا الهمزة إذا وصلوا “إن” بها، وقرأه ابن عامر بهمزة وصل فحذفها في الوصل مع “إن” على اعتبار أن الألف واللام للمح الأصل[1]، أي: لمعرفة الأصل، وأن أصل الاسم “ياس” مراعاة؛ )سلام على إل ياسين(.
وللعرب في النطق بالأسماء الأعجمية تصرفات كثيرة؛ لأنه ليس من لغتهم، فهم يتصرفون في النطق به على ما يناسب أبنية كلامهم.
وذكر الزمخشري في الكشاف: أن لزيادة الياء والنون في لغتهم معنى، ويكون ذكر “إل” إقحاما؛ كقوله: )أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)( (غافر) [2].
ومما يقوي ما سبق ويؤيده أن “إلياسين” هو “إلياس”، ولا يصح أن يكون جمعا له، لا من ناحية أسلوب السياق في السورة، ولا من ناحية الاستعمال العربي.
فأما من ناحية أسلوب السياق: فإن قصص المذكورين من الرسل قبل إلياس، يقضي بأن السلام المنتهى به في قصته عليه لا على آله، نظير السلام المختوم به قصة كل من: نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى وهارون – عليهم السلام -، وهؤلاء قد أعيد ذكرهم بأعلامهم دون تغيير فيها، وقد تقدم في كلام الطبري ما فيه مقنع.
وأما من ناحية الاستعمال: فإن اللغة العربية تقضي في جمع العلم تعريفه بـ “أل”، فكان من اللازم أن يقال: “سلام على الإلياسين”؛ لأن العلم إذا جمع وجب تعريفه بـ “أل” بعد الجمعية – أي: استعماله جمعا – جبرا؛ لما فاته من العلمية عندها لوجوب تنكيره حينها، وكذا قالوا: إذا ثني العلم وجب في مثناه التعريف بـ “أل” مثل هذا تماما، قال الزمخشري: وكل مثنى أو مجموع من الأعلام فتعريفه بـ “اللام” إلا نحو: “أبانين، وعماتين، وعرفات، وأذرعات”، قال الشاعر:
وقبلي مات الخالدان كلاهما
عميد بني جحوان وابن المضلل
ثانيا. قوله: )إل ياسين( قيل: أريد به “إلياس” خاصة، وعبر عنه بـ “ياسين”؛ لأنه يدعى به. وقيل: إن “ياسين” هو أبو إلياس، فالمراد: سلام على إلياس وذويه من آل أبيه. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب “ءال ياسين” بهمزة بعدها ألف على أنهما كلمتان “ءال” و “ياسين”[3]، وقرأ الباقون: بهمزة مكسورة دون ألف بعدها، وبإسكان اللام على أنها كلمة واحدة هي اسم “إلياس”، وهي مرسومة في المصاحف كلها على قطعتين “إل ياسين”.
ولا منافاة بينها وبين القراءتين؛ لأن”آل” قد ترسم مفصولة عن مدخولها، والأظهر – على هذه القراءة – أن المراد بـ “آل ياسين”: أنصاره الذين اتبعوه وأعانوه، و “آل إلياس” هم: أهل جبل الكرمل الذين استنجدهم إلياس على “سدنة بعل”، فأطاعوه وأنجدوه، وذبحوا “سدنة بعل” كما هو موصوف بإسهاب في الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الأول، فيكون المعنى: “سلام على ياسين وآله”؛ لأنه إذا حصلت لهم الكرامة لكونهم آله فهو بالكرامة أولى[4].
الأسرار البلاغية في الآية:
ابتدأ الكلام عن “إلياس” بقوله: )وإن إلياس لمن المرسلين (123)( (الصافات)؛ لأنه ومن بعده سواء في مرتبة الدعوة إلى دين الله، وفي أنهم لا شرائع لهم، وتأكيد إرسالهم بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر؛ لأنه قد يغفل عنه إذ لم تكن لهؤلاء الثلاثة “إلياس، لوط، يونس” شريعة خاصة[5].
في هذه الآية روعيت الفاصلة، كما نلاحظ إيقاعها الموسيقي في إرجاع اسم إلياس بصيغة “إلياسين” على طريقة القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير[6].
جاء في زاد المسير[7] في قوله عز وجل: )سلام على إل ياسين( أنها قرئت بالفصل، كما قرئت أيضا بالوصل، وهنا اختلاف في قراءة الآية يؤدي إلى معان شتى؛ مما يدل على روعة السياق، ونوضح ذلك من خلال ما يلي:
o الوصل: وقد قرأ ابن كثير وعاصم “سلام على إلياسين”، وفيها قولان:
v أحدهما: أنها جمع لهذا النبي وأمته المؤمنين به.
v الثاني: أنه اسم للنبي وحده، وهو اسم عبراني.
o الفصل: وقد قرأ بها نافع وابن عامر ويعقوب “آل ياسين”، فجعلاها: كلمتين. وفيها قولان:
v أحدهما: أنهم آل هذا النبي المذكور وهو يدخل فيهم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوفى» [8]، فهو داخل فيهم؛ لأنه هو المراد بالدعاء.
v الثاني: أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يتضح أنه لا أساس لما يدعيه المدعون.
(*) عصمة القرآن وجهالات المبشرين، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، 2004م . الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
www.ibnmaryam.com. www.islamayat.com.
[1]. النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، د. ت، ج2، ص357.
[2]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت، ج3، ص352.
[3]. النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، د. ت، ج2، ص360.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج11، ج23، ص170.
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج23، ص165، 166.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407 هـ/ 1987م، ج5، ص2998.
[7]. زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404هـ، عند تفسير الآية.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (1426)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته (2544).
دعوى أن القرآن الكريم نصب المضاف إليه
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن خالف قواعد اللغة حيث نصب المضاف إليه “ضراء” في قوله عز وجل: )ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني( (هود: ١٠)، والصواب في ظنهم أن يجر المضاف إليه ويقال: “ضراء” بكسر الهمزة**.
وجه إبطال الشبهة:
الأصل في المضاف إليه أن يجر، والأصل في الجر أن يكون بالكسرة، فالكسرة علامة الجر الأصلية، والقارئ الغريب عن اللغة عندما يقرأ قوله تعالى: )ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني( (هود: ١٠)، يظن أن في كلمة “ضراء” خطأ في الإعراب ولحنا؛ حيث جاءت بالفتحة مخالفة بذلك أصل الجر، وهو بالكسرة، وكان الصواب في ظنهم أن يقال “ضراء”، فتكون علامة جرها الكسرة، وهذا الزعم باطل لما يلي:
إن كلمة “ضراء” مضاف إليه ممنوع من الصرف؛ لانتهائه بألف التأنيث الممدودة، والممنوع من الصرف يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة، فليست الكسرة وحدها علامة الجر في العربية، فهناك الياء والفتحة – كما سيأتي بيانه – وبذلك يتضح الخطأ الفادح الذي وقع فيه هؤلاء المتوهمون، والذي لا أساس له من الصحة.
التفصيل:
جاءت كلمة “ضراء” في الآية الكريمة مضافا إليه، والأصل في المضاف إليه الجر بالكسرة، وهي علامة أصلية، وتوجد في اللغة العربية علامات فرعية أيضا تستخدم بدلا من العلامات الأصلية، وهذا ما حدث في كلمة “ضراء” التي معنا، فقد نابت الفتحة عن الكسرة في الجر؛ لأن الكلمة ممنوعة من الصرف؛ لأنها تنتهي بألف التأنيث الممدودة، مثل: صحراء وبيضاء، والممنوع من الصرف يرفع بالضمة، وينصب ويجر بالفتحة، إلا إذا عرف بأل، أو أضيف إلى غيره، فيجر بالكسرة.
ولا يخفى على أحد ممن يفهم العربية الفصحى أن الكسرة ليست وحدها علامة الجر في العربية، فالجر قد يكون بالكسرة على الأصل، وقد يكون بالياء – وهي علامة فرعية – كما في جمع المذكر السالم والمثنى، وقد يكون بالفتحة؛ كما هو في الممنوع من الصرف.
وعلى هذا تكون كلمة ضراء مجرورة، وليست منصوبة كما يتوهم بعضهم، وكل ما حدث أن الفتحة نابت عن الكسرة في الجر، وهذا معلوم لدى أرباب الفصاحة والبيان.
الأسرار البلاغية في الآية الكريمة:
أول ما يطالعنا في هذه الآية هو مراعاة النظير بين ” نعماء” و “ضراء”؛ حيث قال عز وجل: “نعماء”، ولم يقل: “نعمة”، مع العلم أن لفظة “نعماء” لم ترد في التنزيل إلا في هذه الآية.
وقد جاء في “التحرير والتنوير”: “إن اختيار لفظ “نعماء” مع أن “النعمة” أشهر؛ لمراعاة النظير بين اللفظين”[1]. وجاء في “تفسير الشعراوي” كلام في هذا السياق؛ حيث قال: “هناك فرق بين “نعماء” و “نعمة”، و “ضراء” و “ضر”؛ فالضر: الشيء الذي يؤلم النفس، والنعمة: الشيء الذي تتنعم به النفس، ولكن التنعم والألم قد يكونان في النفس، ولا ينضح أي منهما على الإنسان، فإن نضح على الإنسان أثر النعمة يقال فيها: نعماء، وإن نضح عليه أثر من الضر يقال ضراء”[2].
ومن الأسرار البلاغية في الآية الكريمة كذلك “إسناد الإذاقة إليه – عز وجل – دون المس”، فقد جاء في تفسير الألوسي: “إن إسناد الإذاقة إليه – عز وجل – دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصود بالذات دون مس الضر، وعلل البقاعى عدم إسناد المس إليه عز وجل قائلا: ولم يسند المس إليه – عز وجل – كما فعل في النعماء؛ تعليما للأدب، كما علل الألوسي ذلك بقوله: إنه لم يؤت ببيان تحول النعمة، بل خولف التعبير فيهما؛ حيث بدئ في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة، ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه؛ تنبيها على سبق الرحمة على الغضب، واعتناء بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما، وكونهما مما يرغب فيه، وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها – من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي من عظم شأن الرحمة”[3].
(*) رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1402هـ/ 1982م. الأخطاء اللغوية في القرآن، إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، مصر، د. ت.
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج6، ج12، ص14 بتصرف يسير.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج10، ص6352.
[3]. روح المعاني، الألوسي، دار الفكر، بيروت، 1406هـ/ 1987م، عند تفسيره الآية.
معنى التعارض في اللغة والاصطلاح
معنى التعارض في اللغة:
التعارض مصدر من باب التفاعل ، وفعله يقتضي فاعلين فأكثر على سبيل التصريح بالفاعلية ، فإذا قلت : تضارب زيد وعمرو ، يكون المعنى : تشارك زيد وعمرو في الضرب الذي حدث . وإذا قلنا : تعارض الدليلان ، كان المعنى : تشارك الدليلان في التعارض الذي وقع بينهما .. والتعارض مأخوذ من العرض – بضم العين – ، وهو الناحية ، أو الجهة ، كأن المتعارضين يقف كل منهما في وجه الآخر فيمنعه من النفوذ إلى وجهته .. والاعتراض : المنع ، وقد يأني التعارض بمعنى التقابل ، وتقول : عارضت الكتاب أي : قابلته بكتاب آخر .. وفي هذا المعنى ورد الحديث الشريف : أن جبريل كان يعارض النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن كل سنة [1].
وهكذا نجد أن معنى التعارض في اللغة ، يدور بين عدة معان ، منها :
1- المقابلة : يقال : عارض الشيء بالشيء معارضة ، أي : قابله . وفي الحديث عن فاطمة – رضي الله عنها – قالت : ( أسر إلي النبي – صلى الله عليه وسلم – إن جبريل كان يعارضني
بالقرآن في كل سنة ، وأنه عارضني العام مرتين ، ولا أراه إلا حضر أجلي ) [2] . يقول ابن الأثير : أي : كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن [3] .
2- الظهور والبروز والإظهار : يقال : عرض له أمر كذا ، أي : ظهر . ومنه قوله تعالى :
( وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) (100: الكهف ) .أي : أبرزناها وأظهرناها حتى نظر الكفار إليها . ويقال لصفحة الخد عارض ، لظهورها [4] .
3- المنع : يقال : عرض الشيء يعرض ، واعترض : انتصب ، ومنع . وصار عارضا كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق ونحوهما تمنع السالكين سلوكهما . ومنه قوله تعالى : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا ..)( 224: البقرة ) أي : لا تجعلوا الله مانعا يعترض بينكم وبين ما يقربكم إليه سبحانه وتعالى . وسمي السحاب المطل عارضا ، لأنه يعترض في الأفق فيمنع وصول ضوء الشمس إلى الأرض . ويقال : اعترض الشيء دون الشيء ، أي : حال دونه .[5]
4- المساواة والمماثلة :يقال : عارض فلان فلانا بمثل صنيعه ، أي :أتى إليه بمثل ما أتى عليه . [6]
5- المحاذاة والمجانبة : يقال : عارض فلان فلانا ، أي : جانبه ، وعدل عنه وسار حياله ، أو حاذاه .[7]
6- حدوث الشيء بعد العدم : قال ابن منظور : ( والعرض : من أحداث الدهر من الموت والمرض ونحو ذلك . وقال الأصمعي : العرض : الأمر يعرض للرجل يبتلى به . ) [8]
التعارض في الاصطلاح :
اختلف العلماء ، والأصوليون تحديدا في تعريفهم للتعارض ، فبعضهم أوجز إيجازا مخلا مثل الغزالي [9] ، وابن قدامة [10]، وبعضهم أطنب في التعريف فأدخل فيه ما ليس منه[11]
وبعضهم حاول التوسط فكان أحسنها ، مثل ابن السبكي ، حيث قال : ” التعارض بين الشيئين هو : تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه ” .[12] ويؤخذ على هذا التعريف أنه تناول تعريف التعارض بين الأدلة بشكل عام ، وأنه لم يضف كلمة ” ظاهرا “: ذلك لأن التعارض بين الأدلة إنما هو في الظاهر بحسب ما يتبادر إلى ذهن المجتهد ، وليس واقعا بين الأدلة .[13]
وهناك تعريفات أخرى كثيرة [14]، حيث اقتصر بعضهم على ما يقارب المعاني اللغوية
– التي تقدمت – ، وبعضهم زاد على المعنى اللغوي ، وأورد فيه قيودا تصلح للتعريف الاصطلاحي .. وعند التأمل في تعريفاتهم يمكن إرجاعها إلى تعريف واحد هو : ( إن التعارض : هو ورود دليلين يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر نفيا وإثباتا ، سلبا وإيجابا ، حلا وحرمة ، على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى الآخر ) [15] .
والمعنى : أن يدل كل من الدليلين الشرعيين وهما: كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – على منافي ما يدل عليه الآخر ، كأن يدل أحدهما على الإباحة ، والآخر يدل على الحظر ، وهذا ما يعرف بالتعارض الحقيقي ، وهو غير موجود ألبتة بين نصوص الشريعة ، أما التعارض الظاهري فهو : التناقض الظاهري بين نصين ،خفي وجه التوفيق بينهما. [16]
[1] – صحيح البخاري :: ج6/ ص 101 . كتاب فضائل القرآن ، باب رقم ( 7 ) . وانظر : منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحدبث : ص45.
[2] – – صحيح البخاري :: ج6/ ص 101
[3] – النهاية في غريب الحديث والأثر: ج3/ ص 212 .
[4] – لسان العرب : : ج9/139. والتسهيل لعلوم التنزيل : : ج1/ 475.
[5] _ لسان العرب : ج2/ ص 737 .
[6] – تاج العروس : ج5/ ص 51.
[7] – القاموس المحيط: ج3/ ص 193.
[8] – لسان العرب : ج2: ص 738.
[9] – المستصفى ج2: ص 226
[10] – : روضة الناظر : ص 208
[11] – أصول الفقه ، للسرخسي ج2: ص12، وكشف الأسرار شرح المنار : ج2: ص 88-89)
[12] – الإبهاج شرح المنهاج : ج2: 273
[13] – منهج التوفيق والترجبح بين الأدلة : د. عبد المجيد محمد : ص 48-51.
[14] – انظر هذه التعريفات في الكتب التالية : التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية ، ج1/ ص26 وما بعدها . و دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين: ص 18 وما بعدها .
[15] – مدارك الحق ، السنة الشريفة ومباحثها : ص 152.
[16] – مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين ص 21-22.
دعوى خطأ القرآن الكريم بشأن إيمان سحرة فرعون
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن سحرة فرعون لم يسجدوا لإله موسى عليه السلام، وأن القرآن الكريم أخطأ في ذلك حيث قال: )وألقي السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)( (الأعراف). وتارة يقول: )قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه)، مستدلين بما جاء في الكتاب المقدس على لسان موسى وهارون – عليهما السلام – حينما طلبا من فرعون إطلاق بني إسرائيل، فقال فرعون: “من هو الرب حتى أسمع لقوله، فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه”. (الخروج 5: 1، 2)، ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في القرآن الكريم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الباطل لا يقبله عقل ولا يكون حجة ومعيارا على الحق الذي ثبتت حجته وموافقته للعقل، ذلك أن سجود الملائكة لإله موسى ثابت لأنه محل الإعجاز.
2) القرآن يقص حقيقة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم كاشف لزيف الكتاب المقدس.
3) لا تباين في موقف إيمان السحرة أو سجودهم، بل إن إيمانهم وسجودهم كان لله وحده لا شريك له، لا كما زعمت التوراة التي أشركت موسى – عليه السلام – بالله في الألوهية، تعالى الله عن قولها علوا كبيرا.
التفصيل:
أولا. الباطل لا يقبله عقل، ولا يكون حجة ومعيارا على الحق الذي ثبتت موافقته للعقل:
القرآن الكريم يقص الحق، ويخبر أن موسى وهارون – عليهما السلام – نبيان لبني إسرائيل، ويشرح رسالة موسى – عليه السلام – إلى فرعون وقومه، وقصة السحرة الذين آمنوا لله رب العالمين، فالقرآن حجة ثابتة تاريخيا تبرز الفارق بين كلام الخلق المتمثل في الكتاب المقدس، وكلام الخالق الموافق للعقل والمتمثل في آيات القرآن الكريم. فالتوراة تجعل من موسى إلها وهارون نبيه.
وموسى وهارون – عليهما السلام – يدعوان فرعون إلى “إله العبرانيين”، وليس إلى “رب العالمين”، هكذا تقص علينا التوراة، ولا يدعوان فرعون إلى عبادة الإله الواحد أولا، بل إلى تخليص بني إسرائيل وفقط: “وبعد ذلك دخل موسى وهارون، وقالا لفرعون: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيدوا في البرية، فقال فرعون: من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل؟ لا أعرف الرب، وإسرائيل لا أطلقه، فقالا: إله العبرانيين قد التقانا”. (الخروج 5: 1 – 3).
والطامة الكبرى أن موسى اعتذر للرب عندما طلب منه أن يكلم فرعون قائلا: “ها أنا أغلق الشفتين، فكيف يسمع لي فرعون؟ هنا قال الرب لموسى: انظر: أنا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك”!! موسى إله، وهارون نبي موسى!! هذه هي التوراة التي يحتجون بها.
أما القرآن الكريم فيقدم لنا موسى وهارون – عليهما السلام – رسولين من رب العالمين جاءا برسالة تهدي الناس إلى الحق، والخير، هذا هو الهدف الأول والهدف الثاني، هو: إنقاذ بني إسرائيل من ذل وعبودية فرعون، قال سبحانه وتعالى: )ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48)( (الأنبياء)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24)( (غافر)، وقال سبحانه وتعالى: )وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11)( (الشعراء)، وقال سبحانه وتعالى: )فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16)( (الشعراء).
فموسى – عليه السلام – رسول من رب العالمين، ومعه أخوه هارون – عليه السلام – رسول من رب العالمين كذلك إلى فرعون وقومه، وآمن بهما من آمن من قوم فرعون من السحرة، عندما قامت الحجة، وهم أعلم الناس بالسحر وحدوده، فوجدوا أن معجزة موسى – عليه السلام – تفوقت على السحر )فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء).
إن التوراة المحرفة أغفلت مهمة موسى – عليه السلام – الأساسية الأولى وهي الهداية، ووضعتنا أمام الدوران في فلك بني إسرائيل، كما عهدناها دائما، وليتها تتحدث عنهم لهدايتهم، بل للتنفيث([1])عن عقيدتهم، المتمثلة في الشعور بالنقص، والمذلة، والمهانة، والنقمة على الأمم، والانتقام منها. فهذه صورة حية تبرز الفارق بين كلام الخلق، وكلام الخالق.
متى كان هذا التخبط الذي لا يقبله عقل ولا دين حجة على الحق، ومعيارا يقاس به؟!!
إن التوراة التي يتخذونها مقياسا للحقيقة، ووصية عليها، وعلى التاريخ، تجعل من رب العالمين إلها لبني إسرائيل وحدهم، وهم شعبه! قال الرب لموسى: “وأنا أيضا قد سمعت أنين بني إسرائيل الذين يستعبدهم المصريون، وتذكرت عهدي، لذلك قل لبني إسرائيل: أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة، وأتخذكم لي شعبا، وأكون لكم إلها”. (الخروج 6: 5 – 7).
ومع أن رب العالمين جعلهم خاصته، وجعل نفسه إلها لهم وحدهم، ونقل موسى – عليه السلام – هذه الرسالة لهم، لكنهم “لم يسمعوا لموسى من صغر النفس، ومن العبودية القاسية”. (الخروج 6: 9).
وتأسيسا على ما سبق فالقول الفصل هو الذي حكاه القرآن، لأنه كلام رب العالمين المنزل على خير خلقه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. القرآن يقص حقيقة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم برب موسى:
مضى موسى – عليه السلام – يشرح رسالة ربه، وأخذ فرعون يتهدده؛ ويتوعده بالسجن والتعذيب، والتشريد، فقال له موسىعليه السلام: أو لو جئتك بشيء مبين؟ فقال: وماذا عندك؟ فألقى العصا فإذا هي ثعبان مبين، وأدخل يده إلى صدره، ثم أخرجها، فإذا بها كأنها قطعة من نور الشمس تضيء، ففزع فرعون لهذا ودعا جماعته، واستشارهم فأشاروا عليه أن يجمع السحرة؛ ليبطلوا ما جاء به موسىعليه السلام؛ لأنهم ظنوا أنه من قبيل السحر، فاجتمع السحرة عند فرعون، فطلب منهم فرعون أن يجمعوا قواهم، ويوحدوا هدفهم؛ ليبطلوا – بعزيمتهم – سحر موسى – عليه السلام – وأغراهم بالمال، والمنصب، وأن يجعلهم من خاصته فيما إذا تمكنوا على موسى – عليه السلام – وغلبوه، ثم كانت النتيجة بعد تداول بين السحرة أن طلبوا من موسى – عليه السلام – أن يلقي ما معه، أو يبدأوا هم بالإلقاء اعتزازا منهم بالنفس واعتقادا بالغلبة: )قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم (116) وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117)( (الأعراف) ([2]).
ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، وقالوا مغترين: )فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44)( (الشعراء). ونظر موسى – عليه السلام – وإذا بهذه الحبال والعصي، كأنها حيات وثعابين، فهاله أمرها، وأوجس في نفسه([3]) خيفة منها، ولكن الله ثبته أمام ذلك الجمع الزاخر، وأوحى إليه ألا تخف فإنك أنت المنصور، وأمره أن يلقى العصا، فإذا هي تبتلع كل ما قذف به السحرة، من زور وبهتان: )فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)( (طه).
وأن موسى – عليه السلام – لما ألقى العصا، انقلبت إلى حية عظيمة لها عنق طويل، وشكل مفزع هائل، حتى إن الناس هربوا فزعا منها، وقد أقبلت هذه الحية على الحبال والعصي، فجعلت تلقفها([4]) في أسرع ما يكون، والناس في فزع واضطراب، وفي دهشة واستغراب، وكان أول من أذعن للحق وأعلن إيمانه، إنما هم “السحرة” الذين أتى بهم فرعون لينصروه، ويتغلبوا على خصمه موسى – عليه السلام – قال تعالى: )فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46)( (الشعراء).
آمن السحرة، وسجدوا لله – عز وجل – وأقروا له بالوحدانية؛ لأنهم أيقنوا أن هذا ليس بسحر، ولا شعوذة، ولا زور ولا بهتان، وإنما هي آية من آيات الله الباهرة، أظهرها على يد رسوله موسى – عليه السلام – لتكون برهانا على صدقه، وعرفوا أن ذلك ليس بطاقة إنسان ولا قدرته، وإنما هي القوة الإلهية التي تصنع العجائب؛ فخروا لله ساجدين وقالوا: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء). علم فرعون أنه لم يعجز موسى، ولكن موسى أعجزه، فأراد أن يستر هزيمته، ويستعيد هيبته، فقال للسحرة – وكان صاحب مكر وخداع: )قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين (49)( (الشعراء) توعد السحرة بالقتل والصلب، وتقطيع الأيدي والأرجل، واتهمهم بالتآمر مع موسى، مع أنه يعلم علم اليقين، أن موسى – عليه السلام – لم يعرفهم، ولم يجتمع معهم من قبل؛ لأنه كان مقيما مع أهل مدين، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟! ثم إن موسي – عليه السلام – لم يجمعهم، ولا علم باجتماعهم، وإنما استدعاهم فرعون من أنحاء البلاد؛ ليبطلوا دعوى موسىعليه السلام، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر، وإن كان لا يغني أمام الحق شيئا([5]).
أما السحرة فقد ثبتوا على الإيمان، ولم يبالوا بوعيد فرعون، وتهديده، بل صرخوا في وجهه صرخة الإيمان والبطولة، متحدين فرعون وبطشه وجبروته: )قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73)( (طه).
قال سعيد بن جبير: لما سجد السحرة، رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة، تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون، وتهديده، ووعيده بل صدعوا بالحق في وجهه، ولقد نفذ فرعون ما هددهم به، فصلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وقتلهم شر قتله، ومع ذلك لم يثنهم ذلك عن الإيمان بالله، فماتوا شهداء أبرارا رضوان لله عليهم أجمعين، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: كانوا أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة.
ثالثا. لا تباين في موقف السحرة من الإيمان بالله والسجود له، بل إن إيمانهم وسجودهم كان لله وحده لا شريك له، رب العالمين، رب موسى وهارون، لا كما جاء في الكتاب المقدس:
حين رأى السحرة المعجزة استيقظت عندهم الفطرة الإيمانية، قال الحق سبحانه وتعالى: )فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه)، فهنا الفعل “ألقى” مبني للمجهول، فكأن نفوسهم من تلقاء نفسها خرت ساجدة لله فكأن قوة الحق تلاقت مع صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أن يقعوا ساجدين بدون اختيار، وهذا السجود عملية مرئية.
وهناك عملية أخرى قولية هي قولهم: )آمنا برب هارون وموسى (70)( إذن هناك منظر رآه الناس وهو: أنهم ألقوا سجدا، والذي ألقاهم هو قوة الحق؛ لمفاجئته الفطرة فانكبوا على الأرض ساجدين دون اختيار أو شعور، ومع أن موسى – عليه السلام – هو المرسل وهارون – عليه السلام – هو العضد، إلا أنهم حينما سجدوا قالوا: )آمنا برب هارون وموسى (70)( بعض الناس قد يتساءل، ماذا قال السحرة؟ هل قالوا: آمنا بـ )رب موسى وهارون (48)(، أم قالوا: )آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه)، ونحن نقول: إذا كان رؤساء السحرة سبعين فلا بد أن الأتباع يصل عددهم إلى سبعمائة أو يزيد، فهل من المعقول أن يتحدوا جميعا في الحركة وفي القول، أم أن كل واحد انفعل بحسب مداركه الإيمانية الجديدة، فبعضهم قال: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء)، وبعضهم قال: )آمنا برب هارون وموسى (70)( (طه) فقيل هذه وهذه، والقرآن عدد كل اللقطات مجتمعة؛ لأنه ليس من المعقول أن يتفق هذا العدد الضخم في الحركة وفي اللفظ؛ ولذلك نجد الواحد من خصوم الإسلام يقول: القرآن يقول عن السحرة مرة: إنهم قالوا كذا، ومرة يقول: إنهم قالوا كذا… فأيهما قالوا؟ نقول له: هذه جمهرة لا نستطيع أن تحكي أقوالهم، فكل واحد انفعل بما يقول؛ فنحن نستطيع أن نرد على من يقول: إن القرآن يحكي أقوالا متعددة عن كلام السحرة بعد إيمانهم، فأي قول قيل؟ فنقول له: هذه لقطات لمجتمع جماهيري لا تضبط حركاته، ولا تضبط كلماته، بل كل واحد ينفعل حسب مداركه الإيمانية. فالقرآن عدد اللقطات؛ ليقص كل ما حدث في القصة([6]).
الخلاصة:
الباطل لا يقبله العقل، ولا يصح – أن يكون – حجة على الحق، ومعيارا يقاس به، فالتوراة المحرفة التي يتخذونها مقياسا للحقيقة – في زعمهم – تجعل من رب العالمين إلها لبني إسرائيل وحدهم، وتجعلهم شعبه المختار، وما عداهم عبيد لهم.
الكتاب المقدس يزيف الحقائق، ويجعل موسى – عليه السلام – إلها وهارون – عليه السلام – نبيا له، وهذا لا يتوافق مع العقل السليم.
القرآن الكريم يخبر بالحقيقة، والقرآن ثبتت حجته تاريخيا. وهو يحكي قصة السحرة مع موسى – عليه السلام – وإيمانهم بالله – عز وجل – عندما اكتشفوا زيف سحرهم وحقيقته، وإعجاز ما يفعله موسى – عليه السلام – فعلموا أن هذا ليس بسحر، وإنما هي آية من آيات الله الباهرة، أظهرها على يد رسوله موسىعليه السلام، وعرفوا أن ذلك ليس بطاقة إنسان، وإنما هي القوة الإلهية التي تصنع العجائب، فخروا لله ساجدين وقالوا: )قالوا آمنا برب العالمين (47) رب موسى وهارون (48)( (الشعراء).
فهذه صورة حية تبرز الفارق بين كلام الخلق المتمثل في الكتاب المقدس، وكلام الخالق المتمثل في القرآن الكريم.
لا تباين في موقف السحرة من الإيمان بالله والسجود له وحده، بل كان إيمانهم وسجودهم لله وحده لا شريك له، رب العالمين، رب موسى وهارون.
(*) قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م.
[1]. التنفيث: التفريج عنها وكشفها ونشرها.
[2]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص177.
[3]. أوجس في نفسه خيفة: وجد في نفسه بعض الخوف نتيجة المفاجأة.
[4]. تلقف: تبتلع وتأكل.
[5]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص178، 179.
[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص300، 301.
دعوى خطأ القرآن في ذكر عدد مرات مجيء إخوة يوسف – عليه السلام – لمصر وسجنه أخاه بنيامين
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن أخطأ في عدد مرات مجيء إخوة يوسف لمصر، فالقرآن يذكر أنهم جاءوا أربع مرات، وتزعم التوراة أنهم جاءوا ثلاث مرات، كما يزعمون أن يوسف – عليه السلام – سجن أخاه بنيامين، وهو ما لم يذكره القرآن، إضافة إلى تعليقهم على قوله سبحانه وتعالى: )قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83)( (يوسف)، بأن يوسف – عليه السلام – أخذ أخاهم شمعون رهينة[1]، وهذا تفسير قوله سبحانه وتعالى: )جميعا( أي: يوسف – عليه السلام – وبنيامين، وشمعون.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لم يخطئ القرآن في سرد الوقائع التاريخية، فقد صوب الخطأ وأضاف الكثير من الحقائق؛ لأنه الكتاب الخاتم، أما التوراة فقد حرفت، فلا يعتد بما جاء فيها.
2) أخذ سيدنا يوسف – عليه السلام – أخاه لحيلة دبرها معه ليسعد بمجاورته ويعيد جمع أسرته بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته.
3) عدد مرات مجيء إخوة يوسف – عليه السلام – لمصر أربع مرات، كما يقتضي المنطق، وسياق الأحداث، وليس ثلاثة، كما نصت التوراة فقد تناقضت في هذا الشأن كما تناقضت في غيره.
التفصيل:
أولا. لم يخطئ القرآن في سرد الوقائع التاريخية، فقد صوب وأضاف؛ لأنه الكتاب الخاتم أما التوراة فقد حرفت، فلا يعتد بما جاء فيها:
لم يخطئ القرآن الكريم في سرد الوقائع التاريخية فقد صوب وأضاف؛ لأنه الكتاب الخاتم، الذي لم يحرف كما حرف غيره من الكتب السماوية السابقة، أما التوراة المحرفة فلا يصدق ما جاء بها؛ لأنها قول بشر والأدلة على ذلك كثيرة منها:
إغفال التوراة لبعض أحداث قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – مثل قصة وليمة امرأة العزيز للنسوة وقد تحدث عنها القرآن.
أطلقت التوراة على حاكم مصر آنذاك – فرعون – وهو اسم مصري قديم مكون من جزئين “بر” أي: بيت، و”عما” أي: عالي، فيكون المعنى للاسم “البيت العالي”، وهو أشبه بلقب “البيت الأبيض” عند الأمريكان في العصر الحاضر.
أما القرآن الكريم فلم يستخدم هذا الاسم للدلالة على حاكم مصر أيام يوسف – عليه السلام – وإنما لقبه بـ “الملك”، وهذا هو الصحيح تاريخيا وعلميا، فقد ثبت صدق القرآن الكريم في هذه التسمية؛ إذ إن حاكم مصر قبل يوسف – عليه السلام – وبعده كان يلقب بـ “فرعون”، أما في زمن يوسف فقد حكم الهكسوس بعد أن انتصروا على الفراعنة، حتى تجمع الفراعنة وطردوهم منها.
ومما يؤكد هذا أن القرآن الكريم قد سرد بدقة بالغة قصة كل حاكم في زمنه – وصف حكام مصر بأنهم الفراعنة، ثم جاء الهكسوس فلم يكن هناك فرعون، ولكن كان هناك ملك، أطلق عليه القرآن الكريم لقب “العزيز”، وعندما جاء موسى – عليه السلام – كان الفراعنة قد عادوا لحكم مصر. فإذا كان هذا الأمر لم نعرفه إلا في مطلع القرن الخامس عشر عندما اكتشف الفرنسيون حجر رشيد، ولكن القرآن أرخ له التأريخ الصحيح منذ أربعة عشر قرنا من الزمان – وهذه معجزة تضم لمعجزات كثيرة في القرآن – ووضعه في موضعه الصحيح والسليم[2]. وبناء عليه فإن ما جاء به القرآن هو الصواب قطعا، وما عداه هو الباطل.
ثانيا. أخذ سيدنا يوسف – عليه السلام – أخاه لحيلة دبرها معه؛ ليسعد بمجاورته ولعودة التئام شمل الأسرة بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته:
لقد أكرم سيدنا يوسف – عليه السلام – إخوته أيما إكرام وأحسن وفادتهم [3]، وقد ذكر القرآن إكرامه وفادة إخوته على هذا النحو: قال سبحانه: )ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون (62)( (يوسف).
وعلى ذلك فإن يوسف – عليه السلام – يجبرهم على العودة باحتجاز أخيه الأكبر رهينة كما تصور التوراة خطأ وزورا، بل أكرم وفادتهم، وهذا يتفق مع خلقه الكريم، وقد بالغ في إغرائهم بالرجوع إليه، فأمر فتيانه أن يجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها في رحالهم، حتى إذا وجدوها هموا بردها عليه، لظنهم أنه نسيها في رحالهم، أو الطمع في المزيد من هذا الإكرام الذي فاق تصورهم، وحاز إعجابهم، فقد وجدوا فيه الإحسان ماديا ومعنويا، فلماذا لا يرجعون إليه ومعهم أخوهم بنيامين، وكانت حجتهم لأبيهم حتى نوسع على أهلنا ونزداد كيل بعير.
إذن فما كان ليوسف أن يتخذ منهم رهائن، فهو يثق في نصر الله وإكرامه إياه بالتئام شمل الأسرة ثانية، ورؤية أخيه وأبيه، وللعاقل أن يقارن بين أسلوب القرآن الكريم الذي يذكر إكرامه وفادتهم، وتصوير التوراة المخزي لنبي من أنبياء الله – عز وجل – فتجعله سجانا لأخيه دون شفقة أو رحمة لصغره، وبراءته من أي ذنب، كما تجعله متخذا للرهائن من أقرب الناس إليه.
والسؤال المطروح الآن: لماذا يسجن يوسف أخاه، وقد أراد أن يسعد بجواره؟ وهل يتفق هذا مع خلق الأنبياء، وعصمتهم وعدلهم؟
لم يتخذ يوسف – عليه السلام – أخاه – شمعون – رهينة إلى حين مجيء إخوته ومعهم بنيامين، فهذا يجافي الواقع، فأخو يوسف – عليه السلام – الأكبر هو بنفسه – رفض أن يرجع مع إخوته إلى أبيهم، كما قص القرآن الكريم، تمسكا بما شاهد، وحفاظا على عهد أبيه، قال سبحانه وتعالى: )قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80)( (يوسف).
كما أن التوراة تتناقض فيما بينها في هذا الشأن فتارة تقول شمعون، وتارة تقول رأوبين.
واستنادا إلى ما سبق فإن الخلاف بين التوراة وبين القرآن في سرد حوادث القصة، لا يدل على عيب في القرآن بل يدل على ما في التوراة من زيادة ونقص في النسخة الواحدة، وفي النسخ الثلاث، ومع هذا ففي التوراة ما يدل على ما جاء في القرآن، ومن ذلك[4]:
“وولد ليوسف في أرض مصر: منسى وأفرايم، اللذان ولدتهما له أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون”. (التكوين46: 20)، ويعقوب – عليه السلام – أبوه من الأنبياء الملهمين ويدل على ذلك قوله: )إني لأجد ريح يوسف (94)( (يوسف)، وقوله: )يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87)( (يوسف). إذن فقوله تعالى في الآية التي احتجوا بها: )عسى الله أن يأتيني بهم جميعا( (يوسف: 83) هكذا بضمير الجمع “بهم” وقد صرح من بعد بفقد اثنين هما: يوسف، وأخيه فقط؛ لا يدل على ولد ثالث محبوس في مصر، وإنما يدل على ولدي يوسف.
أن التوراة ليس فيها ما يدل على سجن بنيامين، وهو أنه لما دبر حيلته في استبقائه وتمت الحيلة، طلبوا منه أن يطلقه فرد عليهم بقوله: “حاشا لي أن أفعل هذا! الرجل الذي وجد الطاس في يده هو يكون لي عبدا، وأما أنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم”. (التكوين 44: 17). إذن فقوله: “هو يكون عبدا لي” معناه: أنه استبقاه في مصر، وليس سجنه فهذا تناقض، وفهم خطأ لتوراتهم المحرفة، فضلا عن فهمهم الخاطئ للقرآن الكريم، وهذا ديدنهم.
في التوراة ما يدل على بقاء كبيرهم في مصر، مع يوسف وبنيامين، وكبيرهم هو رأوبين وليس شمعون، ولا يهوذا كما قال كاتب التوراة. ومما يدل على بقاء كبيرهم: أنه استعطف يوسف – عليه السلام – بقوله: “فالآن ليمكث عبدك عوضا عن الغلام، عبدا لسيدي، ويصعد الغلام مع إخوته. لأني كيف أصعد إلى أبي والغلام ليس معي؟ لئلا أنظر الشر الذي يصيب أبي”. (التكوين 44: 33، 34) [5].
ثالثا. عدد مرات مجيء إخوة – عليه السلام – مرات كما يقتضي المنطق وسياق الأحداث وليس ثلاثة كما نصت التوراة:
ذكر القرآن الكريم أن إخوة يوسف – عليه السلام – جاءوا مصر للمرة الأولى طلبا للميرة والطعام حيث قال تعالى: )وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58)( (يوسف)، وكما تقص الآية الكريمة أن سيدنا يوسف – عليه السلام – عرف إخوته غير أنهم له منكرون، ولذا أمر فتيانه بوضع بضاعتهم التي جاءوا بها إلى مصر للمقايضة والبيع، حتى يعطيهم الأمل في العودة مرة أخرى وكذلك أعلن لهم صراحة أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم حيث يرون كرمه وفضله، وعندما عادوا إلى بلدهم وجدوا بضاعتهم، لذلك قرروا العودة إما ردا للتجارة أو طمعا في المزيد فجاءوا بأخيهم، وهو دخولهم المرة الثانية، فآواه يوسف – عليه السلام – عن طريق الحيلة المذكورة في التوراة والقرآن وهي فقدان صواع الملك؛ فرفض العودة معهم أخوهم الأكبر فعادوا إلى أبيهم يخبرونه بما حدث، فأمرهم أبوهم أن يرجعوا، ويتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا ييأسوا من روح الله، فاستجابوا لأبيهم، وجاءوا للمرة الثالثة، وعندئذ كشف لهم يوسف – عليه السلام – عن حقيقة الأمر، وأمرهم بأن يرحلوا ويأتوا بأهلهم أجمعين، فكان دخولهم جميعا مع أبويهم، وهذه هي المرة الرابعة، وهذا هو الواقع الحق.
وبالعرض السابق للحقائق التي ذكرها القرآن، ولم يرد لها ذكر في التوراة، يتبين لنا أن التوراة محرفة استبعد كاتبها ما يريده وأضاف إليها ما يحلو له، فوقع في العديد من الأخطاء، والتناقضات التي لا تثبت أمام النقد الدقيق[6].
الخلاصة:
لم يخطئ القرآن الكريم في سرد الوقائع التاريخية، فقد صوب وأضاف؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي سلم من التحريف، أما التوراة المحرفة فلا يصدق ما جاء بها؛ لأنها قول البشر. ويدل على تحريفها تناقضها مع الحقائق التاريخية ومع نفسها.
ومما يدل على تحريف التوراة أن: التوراة تذكر أن الحاكم زمن سيدنا يوسفـ عليه السلام – كان فرعون والقرآن يذكر أنه ملك فاختلاف الألقاب هنا على أساس العصور؛ إذ كان الهكسوس آنذاك هم حكام مصر وليس الفراعنة، حيث طرد الهكسوس الفراعنة من مصر بعد تغلبهم عليهم، والحاكم عند الهكسوس يطلق عليه لفظ “ملك” وليس “فرعون”، ولم يعرف هذا إلا بعد اكتشاف حجر رشيد، وقد تحدث عنه القرآن منذ أربعة عشر قرنا من الزمان. وهذا مما يؤكد عصمة القرآن وإعجازه العلمي، كما يؤكد على تحريف التوراة وعبث البشر بها.
سجن يوسف لأخيه لا يليق بعصمته – عليه السلام – فهو نبي أدبه ربه فحسن خلقه، والقرآن يحكي أنه أكرم وفادة إخوته، وبالغ في إعطائهم، وترك لهم بضاعتهم فلم يأخذها مقابل ما أعطاهم من قمح؛ حتى يحفزهم كرمه على العودة ثانية ومعهم أخوه بنيامين طمعا في عطاياه، ولم يسجن أخاه بالطبع لبراءته، وكيف يتوقع ممن أراد أن يسعد بجوار أخيه ويهنأ بالقرب منه بعد غياب وحرمان، كيف يتسنى له أن يسجنه؟! ولم يأخذ رهائن منهم – كما زعمت التوراة – بل إن كبيرهم كما حكى القرآن فضل البقاء على رؤية الحزن في عين أبيه، فهي مسألة اختيارية إذن.
ومن تناقض التوراة في ذكر اسم الرهينة، يتضح لنا عبث الكاتب فهذا خيال البشر، فتارة يذكر أنه شمعون، وأخرى أنه يهوذا، والأخ الأكبر كان رأوبين، ليس هذا ولا ذاك.
أما عدد مرات مجيء إخوة يوسف – عليه السلام – إلى مصر فأربع، وليس ثلاث كما زعمت التوراة، ومن خلال العرض السابق يتضح لنا أن القرآن قال هذا وقوله الحق، أما التوراة فقد تناقضت في هذا الشأن كما تناقضت في غيره.
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islameyat.com
[1]. الرهينة: الضمان.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج1، ص326، 327 بتصرف.
[3]. وفادتهم: قدومهم ومجيئهم.
[4]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص493.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص494.
[6]. انظر: قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م.
دعوى مخالفة القرآن الكريم التوراة في عدد آيات موسى عليه السلام
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين تعارض القرآن الكريم مع الكتاب المقدس في عدد الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، ففي حين أنها في التوراة عشر آيات، نجد القرآن يقول: إنها تسع، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات( (الإسراء: ١٠١).
وجها إبطال الشبهة:
1) القرآن الكريم صاحب الكلمة الفصل في عدد الآيات التي ابتلي بها بنو إسرائيل؛ لأن القرآن ثبتت حجته تاريخيا بصحة سنده، وبموافقة المؤرخين له.
2) إن مفسري التوراة أنفسهم قد اختلفوا في عدد هذه الآيات، وهذا الاختلاف من شأنه أن يثبت صحة ما ورد في القرآن.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم هو الحجة وثبتت حجته، والكتب الأخرى لم تثبت حجتها:
إن ما ثبتت حجته يكون حجة على ما لم تثبت حجته، والقرآن حجة تاريخية موثقة، ويبدو أن الزاعمين لا تزيد معلوماتهم التاريخية عما جاء في الكتاب المقدس، وأن القرآن الكريم – وهو صاحب كلمة الفصل الحق – يذكر أن الله – عز وجل – آتى موسى – عليه السلام – تسع آيات بينات: )ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)( (الإسراء).
أمر الله – سبحانه وتعالى – موسى أن يعلم فرعون وقومه، بأن الله سيوقع عليهم العذاب الشديد، جزاء تكذيبهم، وامتناعهم عن إطلاق بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم أنواعا من العذاب وصنوفا[1] من البلاء، وكانت بمثابة إنذار لهم من الله – عز وجل – ليعودوا إلى رشدهم، وأظهر هذه الابتلاءات أو الآيات التسع التي أرسلها الله على قوم فرعون، وهي:
القحط والجدب: وهو الذي عبر عنه القرآن بـ “السنين”، وهي أعوام الجدب التي أصابتهم حيث لا يستغل فيها زرع، ولا ينتفع بضرع.
النقص من الثمرات: وهي قلة الثمار من الأشجار بسبب الجوائح والعاهات.
الطوفان: وهو كثرة الأمطار المتلفة للزوع والثمار، وهو مروي عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وقيل: المراد فيضان نهر النيل عليهم.
الجراد: وقد أرسله الله على آل فرعون بشكل غير معهود، فكان يغطي الخضراء، ويحجب ضياء الشمس لكثرته، وكان لا يترك لهم زرعا ولا ثمرا.
القمل: وهو السوس الذي يفسد الحبوب، وقيل: هو القمل المعروف، وقيل: هو البعوض الذي أقض مضاجعهم ولم يمكنهم من الغمض ولا العيش.
الضفادع: وقد كثرت عندهم حتى نغصت عليهم عيشهم حيث كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم، وتقفز على فرشهم وملابسهم.
الدم: وهو من الآيات الواضحة، فقد استحال الماء دما، فلا يسقون من بئر، ولا نهر إلا انقلب إلى دم في الحال.
العصا: وكانت من معجزات موسى – عليه السلام – حيث تنقلب إلى حية تسعى.
اليد: إذ كان يضع يده في جيبه، ثم يخرجها بيضاء من غير سوء آية أخرى، قال تعالى: )ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا (101)( (الإسراء).
فكان هؤلاء كلما شاهدوا آية أظهروا الأسف والندم، وجاءوا إلى موسى – عليه السلام – يطلبون منه أن يدعو ربه ليكشف عنهم الرجز [2] والعذاب، فإذا رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه، حتى كانت الآية الكبرى التي لم ينج منها أحد من فرعون وجنوده، ألا وهي الغرق في البحر: )فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56)( (الزخرف) [3] [4].
ثانيا. اختلاف مفسري التوراة في عدد هذه الآيات:
إن مفسري التوارة صرحوا بالاختلاف في عدد هذه الآيات، فالآية الثانية وهي الضفادع، يوجد من يقول: إنها التماسيح، والآية الثالثة، قال بعضهم: إنها ضربة القمل، وقال بعضهم: إنها ضربة البعوض، والآية الرابعة قال بعضهم: إنها ذباب الكلب خاصة، وقيل: مطلق الذباب. وفي القرآن الكريم أن الآيات التسع فيها آية الطوفان، فقد ورد ذكره في قوله تعالى: )فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133)( (الأعراف)، في حين أن التوراة ليس فيها هذه الآية[5].
وهذا الاختلاف بين مفسري التوراة يؤكد أن ما جاء في القرآن هو الصواب.
الخلاصة:
القرآن الكريم أخبر أن آيات موسى – عليه السلام – تسع، وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، ونقص الثمرات، والقرآن صاحب الكلمة الفصل في ذلك؛ لأنه ثبتت حجته تاريخيا، والكتاب المقدس لم تثبت حجته تاريخيا، فأيادي التحريف قد عبثت به.
لقد اختلف مفسرو التوراة أنفسهم بشأن هذه الآيات، سواء من حيث العدد أم التسمية، ففي الآية الثالثة – على سبيل المثال – نجد أن منهم من قال: إنها القمل، ومنهم من قال: إنها ضربة البعوض؛ مما يؤكد عدم صدق هذه التوراة واضطراب ما جاءت به من أخبار.
(*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م.
[1]. الصنوف: جمع صنف، وهو النوع.
[2]. الرجز: العذاب.
[3]. آسفونا: أغضبونا بكثرة عصيانهم.
[4]. النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص180: 182.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص503.
نماذج من الآيات التي يزعم بأنها موهمة للتعارض
لا أستطيع في هذا البحث – المحدود الصفحات – استقصاء الآيات الموهمة للتعارض ، بل سأذكر بعض الأمثلة للآيات القرآنية التي زعم المغرضون أن فيها تعارضا ، وبيان مجانبتهم الصواب ، وتنكبهم عن الطريق الصواب في فقه كتاب الله ، وإدراك أسرار التعبير فيه ، من ذلك :
1- قولة تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراًً)( 16 :الإسراء ) ، فإن الآية توهم عند النظرة الأولى أنها تأمر بالفسق ، وهو أمر مخالف لمحكم الكتاب ، إذ يتضح هذا المحكم في قول الله تعالى : ( إن الله لا يأمر بالفحشاء) ( 28 :الأعراف ) ، فالآية تشير إلى أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء أو الفسق ، وبيان ذلك : أن الآية الثانية أفادت أن الفحشاء والفسق لم يأمر بهما الله ، بينما أفادت الأولى أن الله أمر بالفحشاء والفسق ، وإذن : فالفسق مأمور به وغير مأمور به – تعالى الله عن ذلك – وهذا مما يوهم التعارض . والجواب عن ذلك : من ثلاثة أوجه : [ الأول : وهو أظهرها : أن معنى قوله ( أمرنا مترفيها ) أي : بطاعة الله ،وتصديق الرسل ، ففسقوا ، أي : بتكذيب الرسل ، ومعصية الله تعالى ، فلا إشكال في الآية أصلا . أي : أن الناس جاءهم أمر الله ليمتثلوه ، لكنهم تركوه وراءهم ظهريا ، وساروا في طريق الفسق والفجور ، فأخذهم الله بأعمالهم .
الثاني :أن الأمر في قوله ( أمرنا مترفيها ) أمر كوني قدري ، لا أمر شرعي ، أي : قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني القدري :كقوله تعالى (كونوا قردة خاسئين )( 166:الأعراف ) و ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون )( 82 : يس ) والأمر في قوله ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء )( 28 : الأعراف ) ، أمر شرعي ديني فظهر أن المنفي غير المثبت .
الوجه الثالث : أن معنى ( أمرنا مترفيها ) أي : كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة – رضي الله عنه – :
( خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة ) فقوله مأمورة : أي ، كثيرة النسل وهي محل الشاهد ..][1] .
2 – قوله تعالى:( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)(33 : الأنفال ) ، مع قوله تعالى:( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام…)( 34 : الأنفال ) . . أفادت الآية الأولى: نفي العذاب, بينما أفادت الآية الثانية: إثبات العذاب, وهو موهم التناقض .ولدفع هذا التعارض أقول :- إن النضر بن الحارث قال:( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ( الأنفال 32) ، يريد: أهلكنا ومحمداً ومن معه عامة ، فأنزل الله (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم…. الآية) [2] ( الأنفال : 33) ، أي لا يعذبهم وأنت مقيم فيهم بمكة، وكان كذلك، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- طيلة بقائه بمكة لم يعذبوا ، ولأن العذاب إذا أنزل عــمّ ، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها . ثم قال: ( وما لهم ألا يعذبهم الله ) بعد خروج النبي والمؤمنين والمستغفرين. وقيل: المراد بالأول: عذاب الاستئصال، وبالثانية: غير الاستئصال .
وقيل : المراد بالأول: عذاب الدنيا، والثانية: عذاب الآخرة. وعلى ذلك فلا اختلاف ولا تناقض .[3]
3 – قوله تعالى:(فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)( 6 : الأعراف ).
وقوله تعالى:( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون)( الحجر : 92) . وقوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسؤلون)( الصافات : 24 ) .مع قوله تعالى (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ( القصص : 78).وقوله تعالى: (فيومئذ لا يسال عن ذنبه انس ولا جان) (الرحمن : 39).
أفادت المجموعة الأولى السؤال، والثانية:عدم السؤال، وهذا يوهم التعارض.
ولدفعه أقول : لا تعارض ولا اختلاف ، لأن في القيامة مواقف كثيرة ،ففي موضع يسألون ،وفي موضع أخر لا يسألون ، فاختلف المكان، وكذلك اختلف الزمان ،لأن الموقف يطول ، ففي وقت يسألون ، وفي آخر لا يسألون .وقيل: إن السؤال المثبت سؤال توبيخ وتبكيت . والمنفي: سؤال المعذرة ، وبيان الحجة ، أو سؤال الاستعلام، فالسؤال مختلف، وعلى ذلك فلا تعارض [4].
4- قوله تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم انتم وشركاؤكم )( سورة يونس : آية / 28 ) مع قوله تعالى:(ولا يكلمهم الله يوم القيامة )( سورة البقرة : آية / 174) ، أثبتت الآية الأولى كلام الله للمشركين، بينما نفته الثانية .وسبق أن قلنا : إن مواقف القيامة : مواقف ومواطن ، ففي موقف يكلمهم ، أو المراد : أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم وينفعهم ، بل كلام توبيخ وتقريع ، وعلى ذلك فلا اختلاف [5] .
5 – قوله تعالى:(يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) ( هود : 105 ) .
وقوله تعالى:(لاتختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) ( ق :28 ).
وقوله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون)( سورة المرسلات : الآيتان /35، 36) .
مع قوله تعالى:(يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها )( النحل : 111 )
و قوله تعالى:(ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )( الزمر : 31).
و قوله تعالى:(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )( البقرة : 111).
فالجواب : إن يوم القيامة طويل ، وفيه أحوال مختلفة ، ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الاهوال، وفي بعضها يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون ،وفي بعضها تخف عنهم تلك الأهوال ، فيحاجون ، ويجادلون ، وينكرون ، أو: المأذون فيه : الجوابات الحقة ، والممنوع عنه : الأعذار الباطلة [6]… أو: انهم يختصمون ، ويدعي المظلومون على الظالمين ، ففي تلك الحالة يختصمون ، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم ، قيل : لا تختصموا ولا تنطقوا ، ولا تعتذروا ، فليس ذلك بمغن عنكم ، ولا نافع لكم ، فيسكتون . [7] روى عبدالرازق عن معمر عن قتادة : أن رجلاً جاء إلى عكرمة فقال : أرأيت قول الله تعالى:(هذا يوم لا ينطقون )و قوله (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فقال :إنها مواقف .فأما موقف منها: فتكلموا واختصموا ، ثم ختم الله على أفواههم ، فتكلمت أيديهم وأرجلهم ، فحينئذ لايتكلمون ) [8].
– قوله تعالى : (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)( 25 : النحل ) ، و قوله تعالى:( وليحملن أثقالهم وأثقالاَ مع أثقالهم) (31 : العنكبوت ) ، مع قوله تعالى:(ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( 164 : الأنعام ) أفادت الآية الأولى : أن النفس الوازرة تحمل وزرها ووزر غيرها . بينما أفادت الآية الثانية : بأنها لا تحمل وزر غيرها .
والجواب على ذلك : إن المراد بالآية الأولى أنهم يحملون وزر ضلالهم ، ووزر ضلال الذين أضلوهم، فيكون عليهم وزر كفرهم مباشرة ، ووزر من أضلوهم تسبباَ .
وأما قوله تعالى:( ولا ترز وازرة وزر أخرى )( 164 : الأنعام ) فمعناه : وزر لا مدخل لها فيه ، ولا تعلق لها به مباشرة ولا تسبباَ ،فالمعنى مختلف وعلى ذلك فلا تناقض . [9]
7 – قوله تعالى:( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)( 14 : الإسراء) ، مع قوله تعالى:
( وكفى بنا حاسبين )( 47 : الأنبياء ) . وجواب ذلك : إن يوم القيامة مواقف مختلفة ،ففي موقف يكل الله حسابهم إلى أنفسهم ، وعلمه محيط به ، وفي موقف يحاسبهم هو ، وقيل : معنى ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ( 14: الإسراء ) أي : يكفيك أنك شاهد على نفسك بذنوبها ، عالم بذلك ، فهو توبيخ وتقريع ، لا أنه تفويض لحساب العبد إلى نفسه ، لأنه هو الذي يحاسبهم لا غيره . وقيل: من يريد مناقشته في الحساب يحاسبه بنفسه ، ومن يريد مسامحته يكل حسابه إليه [10] .
8 – قوله تعالى 🙁 ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ….) (52 : الكهف ) مع قوله تعالى: ( وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) (86 : النحل ) . ففي الآية الأولى : نفي النطق عن الأصنام ، وفي الآية الثانية أثبته .
ويجاب عن ذلك : بأن المقصود من الآية الأولى نفي النطق عنهم بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم , وفي الآية الثانية أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم . فالموضوع مختلف , وعلى ذلك فلا تنافي بين المثبت والمنفي [11] .
9 – قوله تعالى:( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) (61 : الأنعام ) .
و قوله تعالى:( تتوفاهم الملائكة )( 28 : النحل ) ، و قوله تعالى:( قل يتوفاكم ملك الموت ) (11 : السجدة ) .و قوله تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها )( 43 : الزمر ) . ظاهر هذه الآيات التعارض ….ولدفع التعارض أقول : إن الله هو المتوفي حقيقة بخلق الموت ، وأمر الوسائط بنزع الروح ، والملائكة المتوفون أعوان ملك الموت ، يقول الشيخ الشنقيطي 🙁 إسناد التوفي لنفسه ، لأنه لايموت أحد إلا بمشيئته تعالى كما قال : (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) (145 : آل عمران ) ، وإسناده إلى ملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده إلى الملائكة ، لان لملك الموت أعواناَ من الملائكة ينتزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت . )[12] وقيل : إن المراد من قوله تعالى:( توفته رسلنا ) ملك الموت وحده ، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .[13] ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.
10 – قوله تعالى :(فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) ( 101 : المؤمنون ) مع قوله تعالى : (أقبل بعضهم على بعض يتساءلون) ( 27 : الصافات ) .
أفادت الآية الأولى:نفي التساؤل ، وعدم وقوعه يوم القيامة .
والثانية :نص في إثبات التساؤل ووقوعه ، فآل الأمر إلى إثبات التساؤل ونفيه ، وهذا يوهم الاختلاف ، ولدفع هذا الإبهام أقول: إن الآية الأولى : محمولة على عدم التساؤل عند النفخة الأولى في الصور ، وصعق من في السموات والأرض ، وأنه في هذا الوقت ينتفي التساؤل . وأما ثبوت التساؤل ووقوعه ، فهو بعد النفخة الثانية,وقيام من في السموات والأرض وهم ينظرون .وهذا محمل الآية الثانية ، إذن : فإثبات التساؤل في وقت ، ونفيه في وقت آخر ، لأن يوم القيامة مواطن متعددة ، ومواقف مختلفة . قال محمد بن أبي بكر الرازي : ( يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ، ففيه أحوال مختلفة ، ففي بعضها يتساءلون ، وفي بعضها لا ينطقون لشدة الفزع والهول )[14] . ومع تعدد الوقت تنفك الجهة ، ويرتفع التناقض ، ويزول الاختلاف.
11 – قوله تعالى (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين ) ( 6- 11 : فصلت ) . فدلت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء ، وقال في موضع آخر: ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها)( 27-30 : النازعات ) فدلت هذه الآيات على أنه خلق السماء بعد خلق الأرض ، وفي هذا ما يفيد أن السموات خلقت بعد الارض ، وأن السموات خلقت قبل الأرض وهو تناقض .
والجواب: إنه لاتناقض ولا اختلاف بين مدلول تلك الآيات ، وبيان ذلك : أن الأرض خلقت قبل السماء بمقتضى الآيات الأولى ، وأن دحو الأرض وبسطها ووضع الجبال فيها وشق الأنهار ونحو ذلك ، متأخر عن خلق السموات ، فالمقدم هو خلق الأرض ، والمتأخر هو دحوها، فالمقدم غير المتأخر ، ومع تغاير المتقدم عن خلق السماء, والمتأخر عن خلقها، لا يكون تناقض ولا اختلاف لانفكاك الجهة , وتعدد المحكوم عليه [15] .
12- قوله تعالى :(قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلوا له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين …إلى قوله….فقضاهن سبع سموات في يومين ) (9-12 : فصلت ) . يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام., وقال في موضع آخر:(الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام…) ( 59 : الفرقان ) ، وقال سبحانه:(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام )( 38 : ق ) فكيف التوفيق بينهما؟
أقول: معنى قوله (في أربعة أيام) أي :في تتمة أربعة أيام .لأن اليومين الذين خلق فيهما الأرض من جملة الأربعة . أو معناه : كل ذلك في أربعة أيام ، يعني خلق الأرض وما ذكر بعدها ، فصار المجموع ستة ، وهذا كقول القائل : ( حوطت داري في يومين ، وكملت مرافقها كلها في عشرة أيام ، لا يعني عشرة غير اليومين ، بل هي داخلة فيها .)[16]
وقال ابن الأنباري : ( ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ، أي : في تتمة خمسة عشر يوما ، فيكون المعنى : إن جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام ..) [17] ، وعلى ذلك فلا تناقض ولا اختلاف.
13 – قوله تعالى : (وجزاء سيئة سيئة مثلها)( 40 : الشورى ) ، مع قوله تعالى : ( يضاعف لهم العذاب )( 20 : هود ) ، تضعيف العذاب في الآية الثانية : راجع لتضاعيف مرتكباتهم من الكفر والمعاصي والتعامي عن آيات الله ، والبغي والصد عن سبيل الله ، فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه . أو يراد : عذابهم في الآخرة ، فيعذبون عن ضلالهم في أنفسهم وعلى إضلالهم غيرهم ، فتكثير العذاب بحسب كثرة المجترحات ، فموضوع الآيتين مختلف ، وعلى ذلك فلا تنافي بينهما . [18]
14 – قوله تعالى :(إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم)( 4 : النحل ) ،
مع قوله تعالى (وزين لهم الشيطان أعمالهم )( 24 : النحل ). ففي الآية الأولى أسند تزيين الأعمال إليه سبحانه ، وفي الثانية :أسندها إلى الشيطان ، وهذا موهم التناقض .
والجواب عن ذلك : إن تزيين الله تعالى لهم أعمالهم ، بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء..وعلى ذلك فلا تناقض بينهما لاختلاف الموضوع[19]
15 – قوله تعالى :(سيجعل الله بعد عسر يسرا) (7 : الطلاق ) ، مع قوله تعالى 🙁 إن مع العسر يسرا) (6 : الشرح ) أفادت الآية الأولى أن اليسر يأتي بعد العسر ، بينما أفادت الثانية بأن اليسر يأتي معه ، وظاهر هذا التعارض. والجواب عن ذلك :إن (مع)في الآية الثانية بمعنى (بعد) ، لأن الضدين لا يجتمعان ، وعبر بها إشعارا بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن [20] .
16 – قوله تعالى :(ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) (102 : البقرة ) . أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم , ثم نفاه عنهم بمقتضى لو الإمتناعية ، فيوهم ذلك التناقض … ولدفع ذلك نقول :إن المثبت لهم العلم الإجمالي ، أي :أنهم علموا علما إجماليا أن من اختار السحر ماله في الآخرة من نصيب .
والمنفي عنهم :العلم التفصيلي على التحقيق والتعيين ، أي: انهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه من تحسر في الآخرة، ولا يكون لهم نصيب منها ، فالمنفي غير المثبت ، فلا تعارض [21] .
17- قوله تعالى : [ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..]
(114 : البقرة ) ، مع قوله تعالى : [ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ..]
(17 : يونس ) ، وقوله تعالى [ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ..]( 57 : الكهف) ، وقوله تعالى : [ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ]( 32 : الزمر ) ، من : استفهام إنكاري بمعنى النفي ، والمعنى : لا أحد أظلم من افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممن أعرض … ، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله …ويرتفع التعارض بتخصيص كل موضع بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا . ولا أحد من المعرضين أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . ولا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله . وقال بعض العلماء : هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع ، من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، ولا نفيها عن غيره . [22]
18 – قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة .. الآية ) ( 3 : النساء ) . فهذه الآية تدل على إمكانية عدل الرجل بين زوجاته . وجاءت آية أخرى في أواخر السورة السابقة يفهم منها عدم إمكانية العدل ، وذلك في قوله سبحانه : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم … الآية ) (129 : النساء ) . …فقد يتوهم متوهم أن بينهما تعارضا .. ولكن بمعرفة الجواب يزول هذا الوهم والجواب : أن المراد بالعدل في الآية الأولى : العدل بين الأزواج ، في توفية حقوقهن الشرعية والمادية ، من نفقة وحسن معاملة ، وهذا ممكن الوقوع .
والذي نـفته الآية الثانية : هو العدل في الميل القلبي ، والإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض . وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقسم بين نسائه ، ثم يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ..) [23] .
19 – قوله تعالى حكاية عن أهل النار : ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنزبنا فهل إلى خروج من سبيل . ) ( 11 : غافر ) هذه الآية تدل على أن الناس لهم موتتين وحياتين ، بينما جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم ..) (56 : الدخان )
وعلى هذا فقد يتوهم متوهم على أن بين الآيتين تعارضا .. والجواب من وجهين :
الوجه الأول : إن قوله تعالى 🙁 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) وصف لأهل الجنة ، والضمير في قوله ( فيها ) للجنة ، فيكون المعنى : لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت ، فلا ينقطع نعيمهم .. وقوله : ( إلا الموتة الأولى ) للجنس ، لا للوحدة ، نحو قوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ( 1 : العصر ) وليس في الآية نفي تعدد الموت .[24] . فقوله : ( إلا الموتة الأولى ) استثناء منقطع لتأكيد نفي ذوقهم الموت الذي ذاقوه في الدنيا ، لأن من يدخل الجنة لا يموت أبدا كما ورد في الحديث [25] . فالموتة الأولى في الآية تعني الموت السابق الذي ذاقوه ، سواء أكان ذلك مرة أو مرتين ولذلك فإنه لم يرد بالأولى موتة واحدة ، ونظير ذلك قوله تعالى : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى )، (33 : الأحزاب ) أراد الجاهلية السابقة للإسلام ، وليس هناك جاهلية أولى ولا ثانية ، وعلى هذا فإن قوله : ( إلا الموتة الأولى ) لا ينافي أنهم كانوا أمواتا مرتين .
الوجه الثاني : إن المراد بالموتة الأولى التي ذاقوها عند مجيء الأجل وقبض الروح ، أما الموتة التي كانت وهم في العدم قبل أن يخلقوا ، فذلك موت لا يوصف بأن أحدا قد ذاقه ، لأنه لم يخلق ، وإنما سمي موتا من حيث إن المعدوم بحكم الميت ، كما سمى الله تعالى الكافر ميتا في قوله سبحانه : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) (122 : الأنعام ) ، وقال في حق الكفار وبيان أنهم لا ينتفعون بالحق والهداية كحال الموتى : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) (30 : النمل ) . وعلى ذلك فإن الموت الحقيقي الذي يذوقه الناس إنما هو الموت الذي يعقب الحياة ، فينهي حياة الإنسان وينقله للآخرة ، وهذا الموت أخبر الشارع أن له سكرات ، وفطرة البشر تكره هذا الموت ، لذلك طمأن الله أهل الجنة بأنهم لن يذوقوا هذا الموت في الجنة ألبتة ، لأن حياتهم في الجنة خالدة .. وعلى هذا فإنه لا مجال لتوهم التنافي والتناقض بين قوله تعالى ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ..) وبين قوله تعالى
( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ..) لما تقدم بيانه .[26]
– أثارت مطبوعات تبشيرية تحت عنوان ( هل القرآن معصوم ..؟ ) وكذلك منشور آخر تحت عنوان : ( الباكورة الشهية في الروايات الدينية ..؟ ) عدة شبهات قابلوا بها بين بعض الآيات ، وزعموا أن كل آية تناقض معنى الآية المقابلة لها ، وهذه الشبهات ترديد لما سبق أن أشاعه أسلافهم منذ أكثر من مائة عام تقريبا في مثل كتاب ( الهداية … أو رسالة الكندي .. ) مما يدل على إفلاسهم .. ومن هذه الشبهات : ما زعموه من أن هنال تناقضا بين قوله تعالى 🙁 لا تبديل لكلمات الله ) ( 64 : يونس ) وقوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) (101 : النحل ) ، وهذا التناقض لا وجود له إلا في أوهامهم ، ويبدو أنهم يجهلون معنى التناقض تماما ، فالتناقض من أحكام العقل ، ويكون بين أمرين كليين لا يجتمعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا في الوجود في محل واحد ، ولا يرتفعان أبدا عن ذلك المحل ، بل لا بد من وجود أحدهما وانتفاء الآخرمثل الموت والحياة ، فالانسان يكون إما حيا وإما ميتا ، لأن النقيضين لا يجتمعان في محل واحد ، وليس في القرآن كله صورة ما من صور التناقض العقلي إلا ما يدعيه الجهلاء أو المعاندون ، والعثور على التناقض بين الآيتين المشار إليهما محال ، لأن قوله تعالى في سورة يونس ( لا تبديل لخلق الله ) معناه : لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه في شئون الكائنات ، ويتسع معنى التبديل هنا ليشمل سنن الله وقوانينه الكونية ، ومنها القوانين الكيميائية ، والفيزيائية ، وما ينتج عنهما من تفاعلات بين عناصر الموجودات ، أو تغيرات تطرأ عليها ، كتسخين الحديد أو المعادن وتمددها بالحرارة ، وتجمدها وانكماشها بالبرودة ، هذه هي كلمات الله عز وجل .
وقد عبر عنها القرآن في مواضع أخرى بـ : السنن ، وهي القوانين التي تخضع لها جميع الكائنات ، الانسان ، والحيوان ، والنبات ، والجماد . إن كل شيء في الوجود يجري ويتفاعل وفق السنن الإلهية أو كلماته الكلية ، التي ليس في مقدور قوة في الوجود أن تغيرها أو تعطل مفعولها في الكون . ذلك هو المقصود به بـ : كلمات الله ، التي لا نجد لها تبديلا ولا نجد لها تحويلا . ومن هذه الكلمات أو القوانين أو السنن الإلهية النافذة طوعا أو كرها قوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) ( 185 : آل عمران ) فهل في مقدور أحد مهما كان أن يعطل – سيف المنايا – ويهب كل الأحياء خلودا في هذه الحياة الدنيا ..؟ فكلمات الله – إذن – : هي عبارة عن قضائه في الكائنات وقوانينه المطردة في الموجودات ، وسننه النافذة في المخلوقات . ولا تناقض في العقل ولا في النقل ، ولا في الواقع المحسوس بين مدلول آية ( لا تبديل لكلمات الله ) وآية ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) ، لأن معنى هذه الآية : إذا رفعنا آية ، أي : وقفنا الحكم بها ، ووضعنا آية مكانها ، أي : وضعنا الحكم بمضمونها مكان الحكم بمضمون الأولى ، قال جهلة المشركين : إنما أنت مفتر [27] . فلكل من الآيتين معنى في محل غير معنى ومحل الأخرى . فالآية في سورة يونس ( لا تبديل لكلمات الله ) والآية في سورة النحل ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) لكل منهما مقام خاص ، ولكن هؤلاء الحقدة جعلوا الكلمات بمعنى الآيات ، أو جعلوا الآيات بمعنى الكلمات ، زورا وبهتانا ، ليوهموا الناس أن في القرآن تناقضا ، وهيهات هيهات لما يتوهمون .[28]
21 – وزعموا كذلك : أن بين قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( سورة الحجر : 9) وقوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ..) ( 39 : الرعد ) تعارضا ، مع أنه لا تعارض بينهما ، لأن الآية الأولى إخبار من الله بأنه حافظ للقرآن من التبديل والتحريف والتغيير ، ومن كل آفات الضياع ، وقد صدق إخباره تعالى ، فظل القرآن محفوظا من كل ما يمسه مما مس كتب الرسل السابقين عليه في الوجود الزمني ، ومن أشهرها التوراة التي أنزلت على موسى – عليه السلام – ، والإنجيل الذي أنزله على عيسى – عليه السلام – . أما الآية الثانية ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) : فهي إخبار من الله بأنه هو وحده المتصرف في شئون العباد دون أن يحد من تصرفه أحد ، فإرادته ماضية ، وقضاؤه نافذ يحيي ويميت ، يغني ويفقر ، يسعد ويشقي ، يعطي ويمنع ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (23 : الأنبياء ) . فأين التناقض المزعوم بين هاتين الآيتين ..؟ التناقض كان سيكون لو ألغت آية معنى الأخرى ، أما ومعنى الآيتين كل منهما يسير في طريق متواز غير طريق الأخرى ، فإن القول بوجود تناقض بينهما ضرب من الهذيان المحموم ، وماذا نقول حينما يتكلم الحقد ، ويتوارى العقل وراء الجهالة الحاقدة ..؟ [29] .
22 – توهموا أن هناك تناقضا بين قوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) (5 : السجدة ) وبين قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) ( 4 : المعارج ) ونرد على هذه الشبهة التي تصيدوها من اختلاف زمن العروج إلى السماء ، فهو في آية السجدة ألف سنة ، وهو في آية المعارج : خمسون ألف سنة ، ومع هذا الفارق العظيم فإن الآيتين خاليتان من التناقض ،…. لأنهما عروجان لا عروج واحد ، وعارجان لا عارج واحد . فالعارج في آية السجدة : الأمر ، والعروج : عروج الأمر . والعارج في آية المعارج : هم الملائكة ، والعروج هو : عروج الملائكة ، اختلف العارج والعروج في الآيتين ، فاختلف الزمن فيهما قصرا أو طولا ، وشرط التناقض – لوكانوا يعلمون – هو اتحاد المقام .[30]
23- كانت مسألة الاختلاف في القراءات القرآنية من المسائل التي اتخذها عدد من المستشرقين مسوغاً للطعن في القرآن الكريم ، وراحوا يصفون القرآن وقراءاته بالتناقض والاضطراب وعدم الثبات ، وحاولوا تشكيك المسلمين في ذلك ، وكان وراء ذلك كله نفي النبوة ، والوحي ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ، وإنكار أن يكون القرآن بقراءاته من الله – عز وجل – ، من أجل هذا كله حاولت أن أبين مقاصد الاختلاف في القراءات القرآنية ، وكيف ساهم الاختلاف في القراءات القرآنية في تعدد المعاني واتساعها .
كما في قوله تعالى :(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) [ البقرة : 10] قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( يَكْذِبُونَ ) ( بفتح الياء وتسكين الكاف وتخفيف الذال ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ( يُكَذِّبونَ ) ( بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال ) [31] . فالقراءة بالتخفيف معناها أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب كَذِبَهم في إظهار الإسلام والإيمان ، وهم في باطنهم كافرون . فهم كاذبون في قولهم : ( آمنا بالله وباليوم الآخر ) . والقراءة بالتشديد معناها : أنهم استحقوا العذاب الأليم بسبب تكذيبهم النبي – صلى الله عليه وسلم -. فحاصل القراءتين أن المنافقين سيعذبون العذاب الأليم بسبب كذبهم وتكذيبهم ، ففي القراءتين تنوع في المعاني ، إذ بينت إحدى القراءتين أنهم كاذبون في أخبارهم ، وبينت القراءة الأخرى بأنهم يُكَذِّبون النبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به من عند الله تعالى ، وبهذا اتسعت المعاني بتعدد القراءات من غير تناقض أو تباين في المعاني .
24 – وكذلك في قوله تعالى : ( يسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة : 219 ( فقرأ حمزة والكسائي ( فيهما إثم كثير ) بالثاء ، وقرأ الباقون (إثم كبير ) بالباء[32] . فمعنى قراءة حمزة والكسائي ( إثم كثير ) من الكثرة ، وذلك لأن شرب الخمر يحدث معه آثام كثيرة ، من لغط ، وتخليط ، وسب ، وأيمان ، وعداوة ، وتفريط في الفرائض ، وفي غير ذلك ، فوصف بالكثرة ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : ( إنما يريد الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم منتهون ) [ المائدة :91]، فذكر أشياء من الإثم [33] .
يقول أبو حيان : ( ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين فكأنه قيل فيه : للناس آثام ، أي كل واحد من متعاطيها آثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرفة ، أو باعتبار من زاولها من لدن كانت إلى أن بيعت وشريت الخمر ولعن معها عشرة ، فقد لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بائعها ،ومبتاعها ،والمشتراة له ، وعاصرها ،ومعتصرها والمعصورة له ،وساقيها ،وشاربها ،وحاملها ،والمحمولة له ، وآكل ثمنها ، فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار. ) [34] . أما معنى قراءة ( إثم كبير ) فهو من الكبر والعظم ، أي: فيها إثم عظيم ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ) : والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يغفرون ) ( الشورى : 37) ، وفي هذا يقول الزجاج : ( فأما الإثم الكبير الذي في الخمر فبين ، لأنها توقع العداوة والبغضاء ، وتحول بين المرءٍ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه .) [35] . فحاصل القراءتين هو التأكيد على تحريم الخمر وذمها لعظيم إثمها وعقوبتها ، وكذلك لكثرة آثامها ، فلا تناقض بين القراءتين ، لأنهما في ذم الخمر ، وتقبيح شاربها فكل قراءة بينت أمراً هو فيها ، وهو من باب الاتساع في المعاني الذي لا يقتضي التضاد والتباين وكلتا القراءتين مراد الله عز وجل ، وفي ذلك يقول أبو حيان : ( ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى وهذا خطأ ، لأنَّ كلاً من القراءتين كلام الله تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفسنا إذ كله كلام الله تعالى . ) [36] وكذلك كل القراءات القرآنية المتواترة ..
وختاما أقول :
إن ما يأتي في القرآن موهما الاختلاف أو التضارب ، هو من قبيل التشابة الذي يرد وكأنه أخفى معنى ، أو ستر مفهوما قد يوهم بوجود إشكال ، إلا أن هذا ضرب من أروع ضروب البلاغة العربية ، ولا يظهر جمال اللغة العربية وروعتها وفصاحتها إلا مع هذا التشابة ، إذ يتمثل فيه الكثير من أنواع البلاغة العربية من مجازات ، وكنايات ، وإشارات ، وتلويحات , وهو أسلوب مستملح عند العرب حتى يكون القرآن متحديا بطبيعته في أي من نوعيه : الواضح منه ، أو المشكل فيه ، الموهم للاختلاف والتعارض .
وعندما يأتي الكلام على خلاف ما يقتضي الظاهر ، فان ذلك لون من ألوان البلاغة يقتضي إعمال الفكر وتنشيطه ويدعو إلى التدبر ، وسبر أغوار النص لاستخلاص المعنى المقصود ، والوصول إلى مايهدف إليه ، ومن هذا المنطلق, يظل القران مجالا رحبا للبحث والتقصي ، والنظر الثاقب في تدبره وفهمه . [ غير أن الذي لا ينبغي أن يغرب عن خواطر المؤمنين ، وأن يكون أبدا لزاماً لأفكارهم ، هو أن يفرقوا بين الرأي المغرض ، والرأي الأحمق , والرأي الجاهل ، وبين الرأي المتروي الذي يلتزم حدود اللغة ، ويستصحب مقاصد الشريعة .] [37]
=============================
[1] – انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص : 132-133. و تيجان البيان في مشكلات القرآن : ص 224-225 بتصرف يسير . وانظر : غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام : ج1: ص349 – 351. وانظر : صحيح البخاري بيوع : 90. ومسند الإمام أحمد : 2/ 6، 9 ، 63 .
[2] – رواه ابن جرير في تفسيره ، 9/ 152. وانظر أسباب النزول : ص 156.
[3] – ابن قتيبة : تأويل مشكل القرآن : ص50. و الكشاف : ج2: 155-156. و الجامع لأحكام القرآن : ج7: 399.
[4] – انظر : الإتقان : ج2: 29. و تنزيه القرآن عن المطاعن : ص 328.
[5] – التفسير الكبير : ج5: ص19.
[6] – إرشاد العقل السليم .. : ج1: ص241.
[7] – تأويل مشكل القرآن : ص 47.
[8] – انظر : تأويل مشكل القرآن : ص 46-47. والجامع لأحكام القرآن : ج13: 315. والتفسير الكبير : ج 19: 218 .
[9] – انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : ص 172.
[10] – انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 194.
[11] – انظر : مسائل الرازي وأجوبتها : ص 204.
[12] – انظر : أضواء البيان : ج3/ ص267.
[13] – انظر :حاشية الجمل على الجلالين : ج2/ ص40 .
[14] – انظر : مسائل الرازي وأجوبتها ، ص 238 .
[15] – انظر : دفاع عن القرآن الكريم ، ص 162-165.
[16] – انظر : المغني في أبواب التوحيد والعدل : ج16/ ص 314.
[17] – انظر : فتح القدير ، ج4/ ص 507.
[18] – انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 204.
[19] – انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ص 205.
[20] – انظر: حاشية الجمل على الجلالين : ج4/ ص 556.
[21] – انظر : مواهب الرحمن في علوم القرآن : ، ص 176.
[22] – انظر : معترك الأقران في إعجاز القرآن : ج1/ ص 105. واللآلئ الحسان في علوم القرآن : ص : 197-198.
[23] – المسند : ج2: 347.
[24] – انظر : موهم الاختلاف والتناقض في القرآن الكريم :: ص 696 .
[25] – انظر :صحيح البخاري : كتاب التفسير ، سورة مريم ، باب قوله : ( وانذرهم يوم الحسرة ) ج5/ ص 236. وانظر صحيح مسلم شرح النووي : في صفة القيامة والجنة والنار ، باب جهنم ، ج17/ ص 184.
[26] – انظر : موهم الاختلاف والتناقض : ص 696-697 بتصرف يسير .
[27] – انظر: تفسير فتح القدير : ج2/ ص 232 .
[28] – انظر : حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين : ص 68 ، بتصرف يسير
[29] – حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين : ص 70 . بتصرف يسير .
[30] – المرجع السابق : ص 71 ، بتصرف يسير .
[31] – انظر السبعة في القراءات : ص 143 . و النشر في القراءات العشر : ج2/ ص 207 .
[32] – تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن: ج9/ ص 23 . . والنشر : ج2/ ج2/ ص 227.
[33] – الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها : ج1/ ص 261. والموضح في تعليل وجوه القراءات السبع : ص 302 .
[34] – البحر المحيط : ج2/ ص 157-158. ( تخرج الحديث)
[35] – معاني القرآن وإعرابه : ج1/ ص 292.
[36] – البحر المحيط : ج2/ ص 185 .
[37] – مع القرآن : ص 80 . وانظر : قضايا في علوم القرآن تعين على فهمه : ص 252 .
دعوى عدم حسم القرآن مسألة صلب المسيح عليه السلام
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن لم يكن حاسما في إثبات صلب المسيح، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( (النساء: 157)؛ حيث يدعون أنه يعارض قول الله – سبحانه وتعالى – على لسان المسيح: )فلما توفيتني( (المائدة: 117)، مستنكرين الجمع بين إنكار صلب المسيح، وإلقاء الشبه على غيره وصلبه بدلا منه، ونجاته من الصلب مع الإقرار بوفاته عليه السلام. ويسوقون قول الإمام الرازي لتقوية زعمهم: لو كان الله يلقي شبه إنسان على آخر لاختلت الموازين. ويتساءلون: هل يصح أن يخلط القرآن في حديثه عن أحد أنبياء الله بهذه الصورة؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) عرض القرآن في سورة النساء يؤكد نجاة المسيح – عليه السلام – برفعه إلى السماء من القتل والصلب، وعقيدة المسلمين في خاتمة المسيح يسيرة لا تعقيد فيها، خلافا لعقيدة النصارى.
2) القرآن يقدم على الإنجيل في حادثة رفع المسيح – عليه السلام – وغيرها؛ لخلوه من الخلط والأباطيل، ولعصمته من التحريف، ولتواتره القطعي الثبوت، خلافا للإنجيل.
3) الأدلة العقلية تؤكد نفي صلب المسيح – عليه السلام – وترد كل ما يقال عن قصة صلبه المزعومة.
4) تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء[1] عند النصارى، يؤكد عدم صلاحية الإنجيل كمرجعية لإثبات حادثة الصلب أو غيرها.
5) مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوعه على شبيهه.
6) اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب.
7) تنبؤات المسيح في الكتاب المقدس بنجاته من القتل!
8) شخصية المسيح لا تتلاقى مع النهاية الاستسلامية التي صنعها كتاب الأناجيل.
9) هناك طوائف نصرانية متعددة تنكر صلب المسيح!
10) مسألة الصلب بين إقرار بولس ونفي المسيح، أيهما يصدق النصارى؟!
11) نهاية يهوذا خير شاهد على صدق القرآن وتحريف الإنجيل، ونجاة المسيح.
12) كلام الإمام الرازي مقطوع من السياق، إيهاما للمسلمين أنه ينكر أن عيسى – عليه السلام – شبه لهم، ولو رجعت إلى مصدر كلامه لعلمت تدليس المدلسين.
التفصيل:
أولا. عرض القرآن في سورة النساء يؤكد الرفع وينفي قتل المسيح وصلبه:
التبس على النصارى صلب عيسى – عليه السلام – كما التبس على اليهود.. وحل القرآن الإشكال، وأزال اللبس، لكن النصارى لم يصدقوا القرآن. قال الله عز وجل: )وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
واعترض النصارى على نفي القرآن قتل عيسى – عليه السلام – وصلبه، واعتبروه خطأ وقع فيه القرآن، واستغرب كثير منهم إنكار القرآن أمرا مجمعا عليه بين اليهود والنصارى، واليونان، والرومان. ويتساءلون: “لماذا ينكر القرآن صلب المسيح وقتله بأيدي اليهود، مع أن اليهود يعترفون بذلك، والنصارى يؤكدونه ويفتخرون به؟ ومدار الإنجيل كله على خبر صلب المسيح والبشارة به، كفاد للبشر”؟
ويدعون أن القرآن ذكر في مواضع أخرى موت المسيح وقيامته، وارتفاعه إلى السماء، كقوله سبحانه وتعالى: )إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي( (آل عمران: ٥٥)، وفيه يقول المسيح: )فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم( (المائدة: ١١٧)، ويقول أيضا: )والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)( (مريم). ويقولون: أليس غريبا أن يجيء من ينكر صلب المسيح بعد حدوثه بستمائة سنة؟! إن حادثة الصلب حقيقة تاريخية، سجلها اليونان، والرومان، واليهود، والمسيحيون… وفي “مجمع نيقية” الذي انعقد سنة (325م)، كتب أساقفة العالم المسيحي قانون الإيمان مقرين صلب المسيح!
يؤمن كل النصارى أن اليهود والرومان قتلوا عيسى – عليه السلام – وصلبوه، وأن روحه خرجت على الصليب، وبعد ثلاثة أيام من دفنه ردت إليه روحه، فقام من قبره، وصعد إلى السماء! وكان اليهود يتباهون ويتفاخرون بقتل عيسى – عليه السلام – قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله( (النساء: ١٥٧). أما النصارى فقد جعلوا الصليب جزءا من عقيدتهم ودينهم، والشعار المميز لهم عن باقي أتباع الأديان، ووضعوا الصليب في أعناقهم وعلى كنائسهم، وملابسهم، ومرافق حياتهم، فإذا نفى القرآن صلب عيسى – عليه السلام – نفيا صريحا، فإن النصرانية تتهاوى من أساسها. أما القرآن الكريم فقد نفى صلب عيسى – عليه السلام – وكذب اليهود في ادعاء ذلك، قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم( (النساء: 157) فنفى أن يكونوا قد قتلوا عيسى – عليه السلام – أو صلبوه.
ويقرر القرآن أن المختلفين في موضوع القتل والصلب من اليهود والنصارى في شك منه لم يصلوا إلى اليقين؛ لأنهم لا ينطلقون من العلم، وإنما يتبعون الظن، والظن لا يوصل إلى يقين قال سبحانه وتعالى: )وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن( (النساء: 157). ويؤكد القرآن مرة أخرى أنهم لم يقتلوا عيسى – عليه السلام – يقينا؛ لأن الله العزيز الحكيم رفعه إليه قال سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
لقد أراد اليهود الرومان صلب عيسى – عليه السلام – ولكن الله حماه وعصمه منهم، ورفعه إلى السماء، أما هم فقد صلبوا رجلا آخر، وكل ظنهم أنه عيسى! فقال اليهود متبجحين: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله عليه السلام.
أما معنى قوله سبحانه وتعالى: )ولكن شبه لهم( شبه لهم أمر الصلب والقتل، والتبس عليهم، وهذا معناه أنهم قتلوا وصلبوا شخصا آخر سوى عيسى عليه السلام. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه( (النساء) لم يقتل اليهود عيسى – عليه السلام – يقينا، ولم يكن الشخص المقتول المصلوب عيسى حقيقة، إنما كان شخصا آخر غيره، بينما كان عيسى في السماء[2]!!
يقول الإمام محمد رشيد رضا في تفسيره لآيات سورة النساء: )وما قتلوه وما صلبوه( أي: والحال أنهم ما قتلوه، كما زعموا تبجحا بالجريمة، وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس: )ولكن شبه لهم( أي: وقع لهم الشبهة، أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى، وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا )وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن( أي: وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره، أي: في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي، لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض، فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان – كما يقول علماء المنطق – لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم هم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل، والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك. وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر، قال الركاض الدبيري:
يشك عليك الأمر ما دام مقبلا
وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا
فجعل المعرفة في مقابلة الشك. وقال ابن الأحمر:
وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى
تشك على قلبي فما استبينها
وفي لسان العرب: أن الشك ضد اليقين، فهو – إذن – يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب، أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول: إنه هو، وبعضهم يقول: إنه غيره، وما لأحد منهما علم يقيني بذلك، وإنما يتبعون الظن. وقوله تعالى: )إلا اتباع الظن( استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له، وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه: “كلكم تشكون في في هذه الليلة”. (متى 26: 31، ومرقس 14: 27)، أي: التي يطلب فيها للقتل.
فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة، فإنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به سيشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا، فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره، وقد صارت قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد؟
)وما قتلوه يقينا( أي: وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الإسخريوطي، وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الإسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح؛ لأنه ألقي عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل: إن الضمير في قوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا( للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم، لكنهم يتبعون الظن، وما قتلوه عن علم وتثبت منه، بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها، يقال: قتلت الشيء علما وخبرا: إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب. وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه قال: “لم يقتلوا ظنهم يقينا”؛[3] أي: إنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح، والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة؛ لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى، وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحواريه “أو تلاميذه”، وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم: إنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له.
ولكن بعضهم قال: إن شبهه ألقي على من دلهم عليه، وبعضهم قال: بل ألقي شبهه على جميع من كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى – عليه السلام – نجا من أيدي مريدي قتله؛ فقتلوا آخر ظانين أنه هو.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )بل رفعه الله إليه( فقد سبق نظيره في سورة آل عمران وذلك قوله سبحانه وتعالى: )إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا( (آل عمران: ٥٥).
جاء عن ابن عباس تفسير التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر، وعن ابن جريج تفسيرها بأصل معناها، وهو الأخذ والقبض، والمراد منه ومن الرفع: إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله الذي اصطفاه وقربه إليه.
)وكان الله عزيزا حكيما( فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى – عليه السلام – من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين، وبحكمته جزى كل عامل بعمله”[4].
خاتمة المسيح عند النصارى وعند المسلمين:
جعل النصارى خاتمة المسيح – عليه السلام – خاتمة شنيعة ومأساة مروعة، وجعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم ودعامة من دعائم عقيدتهم لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها ولا ينفعه عمل صالح ولا عبادة ولا بر، ولا تقوى، ولا إخلاص دون الاعتقاد بصلب المسيح.
وقد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم، وأسسوا عليه صلب المسيح. فقالوا: إن آدم – وهو أول كل البشر – قد عصى الله – عز وجل – بالأكل من الشجرة، التي نهاه عن الأكل منها، فصار خاطئا وصار جميع ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي.
وقد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين فهم يحملون وزر ذنوبهم، ووزر ذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم.
ولما كان الله – عز وجل – من صفته العدل والرحمة، فمن عدله أنه لا يترك الجريمة دون عقاب، وإلا لم يكن عادلا، والعقاب مناف للرحمة فلا يكون رحيما إذا عاقب، ولا بد من تحقق العدل والرحمة معا، وللخروج من هذا الإشكال شاء الله أن يحل ابنه الذي هو بنفسه الله في رحم امرأة من ذرية آدم، ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها، فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث إنه ابن لتلك المرأة، وإلها كاملا من حيث إنه ابن الله، ويكون معصوما من جميع المعاصي. ثم بعد أن يعيش كما يعيش الناس، ويأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون، يأتي أعداء الله وأعداء شريعته ويقتلونه شر قتلة وأفظعها، وهي أن يصلبوه ويسمروا يديه ورجليه في الخشب، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه ويسخروا منه، ويضفروا له إكليلا من الشوك، ويبصقوا في وجهه، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو ولا هم.
إن هذه العملية لم يتحقق بها عدل ولا رحمة؛ لأنه ليس من العدل في شيء أن يؤتى ببريء غير مذنب، ويطوق إثم جريمة جناها سواه، كما أن عقاب غير الآثم ليس فيه رحمة، وبخاصة إذا كان المعاقب من شأن الجبلة أن تشمله بالرحمة، ولو مع الذنب، فالابن البار غير الآثم أولى.
والعقاب على هذا الوجه يخالف الكتاب المقدس عندهم، فقد جاء فيه: “لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يقتل”. (التثنية 24: 16)، “وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبا”. (التثنية 21: 22، 23).
وعلى قول المسيحيين قد بقي الله تعالى مجردا عن صفتي العدل والرحمة من زمن عصيان آدم إلى أن اهتدى إلى تلك الحيلة التي ظهرت له قبيل خلق المسيح – عليه السلام – في مريم. هذا فضلا عن أن عقيدة الصلب لما كانت هي كل الإيمان كانت حادية لمعتنقها إلى نبذ كل الفضائل، بل مخذلة عن أفعال البر والتقوى، فيكون صاحبها إباحيا فاتكا ليس للفضيلة في نفسه نصيب.
أما خاتمة أمر المسيح بحسب قصص القرآن فهي عجيبة وبسيطة، لا تعقيد فيها؛ ذلك أن المسيح قد أحرج الكهنة والفريسيين[5] بتعليمه، وتجريمه إياهم في طريقتهم، وفضح ريائهم وخبثهم، فدفعهم ذلك إلى الكيد له والتدبير لقتله، فلما اختمر هذا الأمر في أنفسهم شكوا أمره إلى الوالي وزينوا شكواهم بما يستدعي اهتمامه بأن ادعوا عليه أنه يقول: إنه ملك اليهود، وأنهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح عيسى ابن مريم – عليه السلام – فلما أتوا ولم يبق إلا القبض عليه – والمسيح قد اهتم لهذا الأمر، وخشى أن ينالوه بالأذى – أنقذه الله من أيديهم وطهره منهم، وألقى شبهه على شخص آخر، علم فيما بعد أنه تلميذه الخائن وعرفته الأناجيل بأنه يهوذا الإسخريوطي – كما هو مشهور – وصار بحيث إن كل من رآه لا يشك في أنه يسوع، فأخذ وصلب وقتل ونجا المسيح من شرهم، وقد أعلم الله – عز وجل – الميسح بما سيتم، وشاع في الناس أن يسوع الناصري قتل بعد أن صلب، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.
وقد أورد ابن كثير وابن جرير وغيرهما من المفسرين: أن المسيح لما قرب وقت القبض عليه ندب أصحابه ثلاث مرات طالبا أن يتقدم واحد منهم ليفديه، ويقدم نفسه إلى اليهود عوضا عنه، ويكون جزاؤه الجنةـ فلم ينتدب له في كل مرة إلا واحد بعينه، فلما جاء أعداؤه ألقى الله على صاحبه الذي انتدب له شبه المسيح، وصار بحيث لا يشك أحد من أصحابه في أنه يسوع، فألقي القبض عليه وصلب وقتل، وهو يهوذا الإسخريوطي. الذي واطأ الكهنة على الدلالة على المسيح بأجر[6].
ثانيا. القرآن يقدم على الإنجيل:
يقدم القرآن على الإنجيل في قصة رفع المسيح وفي غيرها، إذا تعارض القرآن والإنجيل؛ لأن:
القرآن هو الكتاب الخاتم الذي أنزل الله فيه الحقيقة، التي لم تعبث بها الأيدي البشرية، أو المجامع الرومانية.
الله فصل فيه كل شيء، وجعله مهيمنا على الكتب السابقة.
الله وعد بحفظه، ونفى عنه التحريف، والعبث، والباطل، فما فيه صدق، لا يحتمل الخطأ.
القرآن كتب والنبي – صلى الله عليه وسلم – حي، وعرضه جبريل – عليه السلام – عليه عام موته عرضتين.
القرآن لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف طوال أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.
القرآن نقل بالتواتر، وعلى أعلى درجات التواتر، حيث ينقله الجيل عن الجيل والأمة عن الأمة.
أما الإنجيل، فإن الله لم يعد بحفظه، ولم يكتب في حياة عيسى – عليه السلام – وبه الكثير من المتناقضات التي لا يمكن التسليم بأنها من عند الله؛ لأنها تفيد تعددية المصادر التي أخذ منها، ولقد تدخل الحكام والأباطرة على مر التاريخ – لحسم مسائل مهمة في النصرانيةـ في نصوص الإنجيل، فقاموا بإثبات ما يوافق عقيدتهم، وشطب ما يخالفها:
يقول النصارى: بأنه كان يوجد بعد رفع المسيح مباشرة:
كتاب يحتوى على أقوال السيد المسيح.
وكتاب يحتوي على سيرته.
وأن الأناجيل الأربعة قد جمعت الأقوال والسيرة معا، ثم إن الأقوال قد فقدت، والسيرة أيضا. ويسمون الأقوال “لوجيا” Logia، ويسمون السيرة “كويل” Quelle، وقد حكى الأستاذ عباس محمود العقاد عنهم: أن منهم من يسمى “كويل لوجيا”، والحق: أنهما مختلفان. يقول: “الإنجيل” كلمة يونانية بمعنى الخبر السعيد، أو البشارة. وقد تداول المسيحيون في القرن الأول عشرات النسخ من الأناجيل، ثم اعتمد آباء الكنيسة أربع نسخ منها بالاقتراع – أي بكثرة الأصوات – وهي إنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، مع طائفة من أقوال الرسل المدونة في العهد الجديد.
ويرجح المؤرخون المختصون بهذه المباحث أن الأناجيل تعتمد على نسخة آرامية مفقودة، يشيرون إليها بحرف “ك” مختزلة من كلمة كويل Quelle بمعنى “الأصل”[7].
ولقد تتبع الحكام والأباطرة الرومان من يخالفهم الاعتقاد، فقتلوا وأحرقوا الكثير منهم، كما عقدوا العديد من المجامع التي تدرس العقيدة وتقررها حسب أهواء هؤلاء الأباطرة، وتحذف ما يعارضها في هذا الاعتقاد من الأناجيل، ولقد استمر هذا الأمر حتى اليوم، حيث يتم عقد العديد من المجامع – على غرار مجمع نيقية – وحذف الكثير من مواد الإنجيل.
يقول الداعية الإسلامي أحمد ديدات تحت عنوان “كذبة الكتاب المقدس”: “لم يسمر عيسى على الصليب، كما سمر الآخران، على العكس من الاعتقاد الشائع، هذا إذا كان فعلا قد صلب! شك توما في صلب المسيح، وقد تكون هذه القصة مجرد اختلاق أثيم، تماما كقصة المرأة التي أمسك بها متلبسة بفعل الزنا، وقد حذفت قصة المرأة هذه من إنجيل يوحنا في النسخة الإنجليزية الحديثة.
يبدأ الإصحاح الثامن لهذا الإنجيل بفقرة (12)، أي كتاب ديني يبدأ بفقرة (12)، لقد أزيلت الفقرات (1ـ 11)؛ لأن الاثنين والثلاثين عالما، والخمسين طائفة تعاونت معهم لتنقيح الكتاب المقدس، ووجدوا أن هذه النصوص مختلقة وكاذبة فأمروا بإزالتها”[8].
وإذا تكلمنا عن التواتر عند نقل النصارى للكتاب المقدس، فإن الواقع يؤكد لنا “أن دعوى التواتر ممنوعة، فإن التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير لا يجوز العقل اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب بشيء قد أدركوه بحواسهم إداركا صحيحا لا شبهة فيه، وكان خبرهم بذلك متفقا لا اختلاف فيه، هذا إذا كان التواتر في طبقة واحدة، فإن كان التواتر في طبقات كان ما بعد الأولى مخبرا عنها، ويشترط أن يكون أفراد كل طبقة لا يجوز عقل عاقل تواطؤهم على الكذب في الإخبار عمن قبلهم، وأن يكون كل فرد من كل طبقة قد سمع جميع الأفراد الذين يحصل بهم التواتر ممن قبلهم، وأن يتصل السند هكذا إلى الطبقة الأخيرة، فإن اختل شرط من هذه الشروط لا ينعقد التواتر.
وأني للنصارى بمثل هذا التواتر، والذين كتبوا الأناجيل والرسائل المعتمدة عندهم لا يبلغون عدد التواتر، ولم يخبر أحد منهم عن مشاهدة، ومن تنقل عنه المشاهدة كبعض النساء لا يؤمن عليه الاشتباه والوهم، بل قال يوحنا في إنجيله: إن مريم المجدلية وهي أعرف الناس بالمسيح اشتبهت فيه وظنت أنه البستاني، وهو قد كان صاحب آيات، وخوارق عادات، فلا يبعد أن يلقي شبهه على غيره، وينجو بالشكل بصورة غير صورته، كما رووا عنه أنه قال لهم: إنهم يشكون فيه، وكما قال مرقس: إنه ظهر لهم بهيئة أخرى، ثم إن ما عزى إليهم لم ينقله عنهم عدد التواتر بالسماع منهم طبقة بعد طبقة إلى العصر الذي صار للنصارى فيه ملك، وحرية يظهرون فيها دينهم. وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي وغيره انقطاع أسانيد هذه الكتب بالبينات الواضحة.
وإذا كانت الأناجيل ورسائل العهد الجديد قد أثبتت صلب المسيح دون القول بغير ذلك، ودون قبول أي رأي آخر يقول بغير ذلك، فالحق الذي يبدو جليا ولا يحتاج إلى برهان أن هذه الكتب:
لا دليل على عصمتها، ولا على أن كاتبيها كانوا معصومين.
لا دليل على نسبتها إلى من نسبت إليهم؛ لأنها غير متواترة كما تقدم.
معارضة بأمثالها كإنجيل برنابا وترجيحهم إياها على هذا الإنجيل لا يصلح مرجحا عندنا؛ لأنهم اتبعوا في اعتمادها تلك المجامع التي لا ثقة لنا بأهلها، ولا كانوا معصومين عندهم ولا عندنا.
إنها متعارضة في قصة الصلب وفي غيرها.
إنها معارضة بالقرآن العزيز وهو الكتاب الإلهي الذي ثبت نقله بالتواتر الصحيح دون غيره، فقصارى تلك الكتب أن تفيد الظن بالقرائن، كما قال سبحانه وتعالى: )ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)( (النساء)، والقرآن قطعي فوجب تقديمه؛ لأنه يفيد العلم القطعي[9].
ثالثا. الأدلة العقلية على نفي صلب المسيح:
لا يمكن أن يقبل العقل قصة صلب المسيح لعدد من النتائج التي تترتب عليها، ولعدد من الأسباب هي:
لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما؛ لأنها تستلزم الجهل والبداء على الباري – عز وجل – كأنه حين خلق آدم – عليه السلام – ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم ألا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به، وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية – سفر التكوين – هذه الجملة: “فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه”. (التكوين 6: 6)، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.
يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم بما يحيله كل عقل مستقل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبة الذرة إليها، وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يكون بشرا يأكل ويشرب ويتعب ويعتريه غير ذلك مما يعتري البشر، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص، ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.
تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكر فيه ألوفا من السنين، فلم يتم له ذلك الشيء، ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون: إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها، ولنا أن نقول: إنه لم يؤمن بها أحد قط؛ لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء، والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون: إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول: إن أكثر البشر لا يقولون به، بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، من دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنهم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى، فإذا عذبهم الله – عز وجل – في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته – كما تدعي النصارى – لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة؟
يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق – تعالى وتقدس – عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح؛ لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب؛ لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب – على ما زعموا – لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو أن يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا؟
إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة، أو القصة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما شاء هواه، وهو آمن من عذاب الله – وناهيك بهذا مفسدا للبشر – وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبيين فما مزية هذه العقيدة؟ وإذا كان له امتياز عند الله – عز وجل – في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي؟
ما رأينا أحدا من العقلاء، ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول: إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو، ويقولون: إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة[10].
رابعا. تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى:
هناك العديد من الشواهد والأدلة الواردة في الإنجيل التي تتعارض مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى، ومن هذه الشواهد:
أن أصل هذه العقيدة أن المسيح بذل نفسه باختياره فداء، وكفارة عن البشر، مع أن هذه الأناجيل تصرح بأنه حزن واكتأب عندما شعر بقرب أجله، وطلب من الله أن يصرف عنه هذه الكأس. ففي إنجيل متى: “ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا ههنا واسهروا معي». ثم تقدم قليلا وخر على وجهه، وكان يصلي قائلا:«يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت». ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما، فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف». فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: «يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك”. (متى 26: 37 – 42). ومثل هذا في لوقا: “لما صار إلى المكان قال لهم: «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة». وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك”. (لوقا 22: 40 – 42)، فكيف يقول المسيح هذا وهو إله عندهم، فهل يمكن أن يجهل بما يمكن وما لا يمكن، وأن يطلب إبطال الطريقة التي أراد الآب – وهو هو عندهم – أن يجمع بها بين عدله ورحمته؟!
ومن الشواهد عليها مسألة اللصين اللذين قالوا: إنهما صلبا معه، قال مرقس: “وصلبوا معه لصين، واحدا عن يمينه وآخر عن يساره. فتم الكتاب القائل:«وأحصي مع أثمة». وكان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين:«آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام! خلص نفسك وانزل عن الصليب!» وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة، قالوا: «خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب، لنرى ونؤمن!». واللذان صلبا معه كانا يعيرانه”. (مرقس15: 27 – 32).
وكذلك قال متى: “ثم جلسوا يحرسونه هناك. وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: «هذا هو يسوع ملك اليهود». حينئذ صلب معه لصان، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار. وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب!». وكذلك رؤساء الكهنة أيضا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: «خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتكل على الله، فلينقذه الآن إن أراده! لأنه قال: أنا ابن الله!». وبذلك أيضا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه. (متى 27: 36 – 44).
وأما لوقا فقد سمى الرجلين اللذين صلبا معه مذنبين، ولكنه قال: “وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: «إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا!» فأجاب الآخر وانتهره قائلا:«أولا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله». ثم قال ليسوع:«اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فقال له يسوع:«الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس». (مرقس 23: 39 – 42)، فكانت نبوءة الكتاب – المراد به إشعياء – أنه يصلب مع أثمة بصيغة الجمع، ثم كان الجمع اثنين ولا بأس بذلك، ولكن كيف يقول اثنان من الإنجيليين المعصومين على رأيهم أن الذي عيره وأهانه هو أحدهما، وهما مثله في عصمته؟
ومثل هذه المخالفات والمعارضات في هذه القصة كثيرة، ومن أظهرها مسألة دفنه ليلة السبت، وقيامه من القبر قبل فجر يوم الأحد، مع أن البشارة أنه يكون في بطن الأرض ثلاثة أيام بلياليها، وهي مدة مكث يونس في بطن الحوت، ومنها مسألة النساء اللواتي جئن القبر، وفيها عدة خلافات في وقت المجيء ورؤية الملك… إلخ[11].
إن وقوع التشابه أمر وارد وواقع يراه الناس ويتلمسونه ويدركونه حق الإدراك، فهو يقع في التوءم، ويقع في غيرهما من المتباعدين الذين يسكنون في أقطار شتى، وبيئات متباينة بين أفراد الجنس البشري، ووقوع شبه المسيح على غيره، سواء كان يهوذا أم غيره له ما يقويه وما يعضده من الأدلة، وهو متحقق من وجهين هما:
أنه عهد بين الناس أن يشبه بعضهم بعضا شبها تاما، بحيث لا يميز أحد المتشابهين المعاشرون والأقربون، وقد يكون هذا بين الغرباء كما يكون بين الأقربين، ولعله يقل في الذين يسافرون وينقلبون بين الكثير من الناس من لم يقع له الاشتباه بين من يعرف ومن لا يعرف، وإننا لزيادة البيان نورد قليلا من الشواهد عن الإفرنج الذين يثق دعاة النصرانية عندنا بهم ما لا يثقون بغيرهم؛ لأن هؤلاء الدعاة من أبناء جنسهم أو مقلدتهم.
قال إميل صاحب كتاب “التربية الاستقلالية” حكاية عن كتاب كتبته امرأة الدكتور إراسم إلى زوجها ما نصه: “لقد كثر ما لاحظت أنه يوجد في بعض الأحوال بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلا منهما يكون أجنبيا عن الآخر من كل الوجوه، أتدري من هو الذي حضرت صورته في ذهني عند وقوع بصري على السيدة وارنجتون؟ ذلك هو صديقك يعقوب نقولا، خلتني أراه بذاته في زي امرأة”. فهذا مثال لرأي الكاتب في تشابه الناس.
ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادث كثيرة في باب تحقيق الشخصيات دالة على أنه كثيرا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص، ويشتبهون عليهم بغيرهم، وقد ذكر جاي وفرير مؤلفا كتاب “أصول الطب الشرعي” في اللغة الإنجليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدا لمعرفة شخص يدعى “مارتين جير”، فجزم أربعون منهم أنه هو هو، وقال خمسون: إنه غيره، والباقون ترددوا جدا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا، ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير، وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون، وعاش مع زوجة مارتين محاطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه مدة ثلاث سنوات، وكلهم مصدقون أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه – لظهور كذبه بالدلائل القاطعة – استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا آخرون، فأقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين وقال سبعة: إنه غيره، وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539م في فرنسا.. وأمثالها كثير.
وقد بلغ من شبه بعض الأشخاص بغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح، أو آثارها وغير ذلك؛ حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض، ولذلك جد الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين.
أن هذه الحادثة من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم، وأنقذه من أعدائه، فألقى شبهه على غيره، وغير شكله هو فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفي أناجيلهم وكتبهم جمل متفرقة تؤيد هذا الوجه أشرنا إلى بعضها من قبل، ولا شك أن هذا من الممكنات الخاضعة لمشيئة الله وقدرته.
ويمكن أن يستدل على استجابة الله لدعائه بقول يوحنا حكاية عنه في سياق قصة الصلب: “أجابهم يسوع: ألآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم”. (يوحنا 16: 31 – 33)، وفي هذا المعنى قول متي: ” في تلك الساعة قال يسوع للجموع: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني. وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء». حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا. (26: 55، 56)، وقول مرقص: “فأجاب يسوع وقال لهم: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني! ولكن لكي تكمل الكتب». فتركه الجميع وهربوا”. (مرقس 14: 48 – 50). فهذا نص في أن التلاميذ كلهم هربوا حين جاء الجند ليقبضوا على المسيح، فلم يكن الذين يعرفونه حق المعرفة هنالك.
ومما يدل على استجابة الله دعوته بأن ينقذه ويعبر عنه تلك الكأس عبارة المزامير التي يقولون: إن المراد بها المسيح، وهذا نصها: “أعني يا رب إلهي خلصني حسب رحمتك وليعلموا أن هذه يدك أنت يا رب فعلت هذا، أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا، أما عبدك فيفرح، ليلبس خصمائي خجلا وليتعطفوا بخزيهم كالرداء، أحمد الرب جدا بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه؛ لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه”. (المزامير 109: 26 – 31)، وفي العبارات التي ينسوبنها إلى المسيح شواهد أخرى تدور حول هذا المعنى[12].
خامسا. مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوع الصلب على شبيهه:
إن من أشهر وأقدم الأناجيل في الديانة النصرانية إنجيل برنابا، وهو أحد مصادر النصرانية الأساسية قبل انعقاد “مجمع نيقية”، ولقد كان برنابا صاحب هذا الإنجيل من أتباع المسيح القائمين على نشر دعوته، والتبشير باقتراب ملكوت السموات، وقد جاء عنه: “وكان هذا الرجل موثوقا به في الكنيسة ثقة تامة ويندب لوعظ الناس المدعوين للدخول في الدين”. (الأعمال 2: 26).
هذا الرجل وجد له إنجيل مدون، وهو عبارة عن قصة للمسيح كإنجيل متى ولوقا، ومرقس، ويوحنا، منقطع السند كما هي منقطعة السند، وهذا الإنجيل يقول فيه مترجمه د. خليل سعادة: تضاربت فيه آراء الباحثين وتشعبت بخصوصه مذاهب المؤرخين وخبطوا فيه بين ضلالة وهدى، وتلمسوا حقيقته بين رشاد وهوى، واستنطقوا الآثار، والأسفار، واستفسروا الأعصار والأمصار، فما ظفروا بعد كل ذلك بما يشفي منهم عليلا، أو يبرد لهم غليلا.
وهذا الإنجيل كانت نسخته بمكتبة الباب – سكتس – بروما واختلسها أسقف يقال له “فرامرينو” حين عثر عليها مصادفة، فقرأها واعتنق الإسلام، وذلك في أواخر القرن السادس عشر، ويقول المترجم في مقدمته: إنه يرى أن كاتب إنجيل برنابا يهودي أندلسي متمكن من الديانة اليهودية والاطلاع عليها قد تنصر واطلع اطلاعا عظيما على النصرانية، ثم أسلم واطلع على الديانة الإسلامية، ويرى أن هذا الحل أقرب إلى الصواب، ثم قال: وبعد كل ما تقدم فإن هذا الإنجيل قد أتى على آيات باهرة من الحكمة وطراز راق من الفلسفة الأدبية وأساليب تسحر الألباب ببلاغتها السامية على ما فيها من البساطة في التعبير، وهو يرمي إلى ترقية العواطف البشرية إلى أفق سام وتنزيهها عن الشهوات البهيمية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الفضائل، مقبحا للرذائل داعيا الإنسان إلى التضحية بنفسه في سبيل الإحسان إلى الناس حتى يزول منه كل أثر للأنانية ويحيا لنفع إخوانه.
وقال ناشره محمد رشيد رضا في مقدمته: “لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا، وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد أي قبل بعثة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور، كما ذكر د. سعادة في مقدمته والمثبت مقدم على المنفي.
مهما يكن من أمر فإنجيل برنابا واحد من الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح، وإن كان يمتاز عن سائرها بالبلاغة، ودقة التعبير، ويصرح بأمور لعلها هي التي زهدت الكنيسة فيه حتى حرمه البابا جلاسيوس، ومن ذلك: التصريح باسم محمد في كثير من المواضع، وإني أنقل عن إنجيل برنابا لا لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ بل لأن روايته للحوادث أبين، واستقصاءه للأخبار أتم، وإن كان في نظري لا تخلو بعض الموضوعات فيه من المبالغات الشعرية.
على أن د. سعادة مترجم إنجيل برنابا قال في مقدمته بعد أن أفاض في الاحتمالات والآراء في إنجيل برنابا: “بيد أن هناك إنجيلا يسمى بـ “الإنجيل الأغنطسي” طمست رسومه، وعفت آثاره، يبتدئ بمقدمة تندد بالقديس بولس، وينتهي بخاتمة فيها مثل ذلك من إنجيل برنابا، فمن المحتمل – أيضا – أن يكون الإنجيل الأغنطسي أبا لإنجيل برنابا. وأقول: ومن المحتمل – أيضا – أن كاتب الإنجيل الأغنطسي ألم بما كتبه برنابا في إنجيله واقتبس منه ما أثبته في إنجيله وأن إنجيل برنابا يصح أن يكون أبا للإنجيل الأغنطسي. ولو أن المسيحيين أبقوا جميع الأناجيل ولم تحرم الكنيسة قراءتها لوصلت إلينا، ولو على نوع من التحريف، ولكن ذلك التحريم أعدم تلك الأناجيل وربما كان فيها الكثير الطيب، وإلا فأين الإنجيل الأغنطسي والأناجيل المذكورة في الأناجيل، وأنها وجدت والأناجيل التي كان الداعون إلى المسيحية كبولس يحذرون الناس من اتباعها كالتي كانوا يقولون إن أصحابها يحرفون إنجيل المسيح[13]؟
ومن المعلوم أن إنجيل برنابا يقرر أن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي تحديدا، وأن المسيح لم يصلب؛ لذا نجد أن هذا الإنجيل تم استبعاده من قبل الكنيسة، ومن قبل “مجمع نيقية”؛ لأنه يتعارض مع ما يعتنقه الإمبراطور الروماني، والطوائف النصرانية الحاكمة، والموجودة داخل هيكل السلطة، والقوة، والنفوذ، والتغيير، والعجب كل العجب أن تتبع الطوائف النصرانية بولس وتثق به، ولا تتبع برنابا ولا تثق بإنجيله، ومن يراجع صفحة أو صفحات في تاريخ النصرانية، يتبين له الحق، وليقارن بين بولس – صاحب عقيدة الصلب والفداء – وبرنابا – صاحب الإنجيل الشهير – ليجد العجب، حيث كان النصارى لا يثقون ببولس، بل كانوا يعتبرونه عدوا للنصرانية، أما برنابا فكان يقرر أن المسيح لم يصلب، وأن الذي صلب هو يهوذا شبيهه، ولكن النصارى لا يأخذون بقوله؟!
أضف إلى ذلك ما نشرته مجلة “المجلة” في عددها الصادر بتاريخ 9/10/1993م، برقم (712) حول اكتشاف عدد من المخطوطات الضائعة من مكتبة الإسكندرية، كانت بنجع حمادي، وعثروا فيما عثروا على أناجيل مكتوبة بالقبطية، كانت قد دفنت يوم أصدرت روما في القرن الرابع الميلادي أمرها بإحراق الأناجيل غير الأربعة. وقد جاء في الأناجيل القبطية المكتشفة: جاء على لسان بطرس: “إن الذي رأيته سعيدا يضحك هو يسوع الحي، لكن من يدخلون المسامير في يديه وقدميه فهو البديل، فقد وضعوا العار على الشبيه”، وورد فيها أيضا على لسان المسيح: “كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، كنت أنا في العلاء أضحك لجهلهم”[14].
لا أعلم إلى متى سيكتم النصارى المصادر التي تصرح بعدم صلب المسيح، ووقوع الصلب على شبيهه، وإلى متى لا يعترفون بالحقيقة الواضحة، أم إنهم كما يقول الله سبحانه وتعالى: )فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم( (القصص: ٥٠).
سادسا. اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب:
لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألة من المسائل كاختلافها في تفصيل مسألة صلب المسيح وقتله، فلا تكاد جزئية من الجزئيات في أحدها تتحد مع الجزئية نفسها في إنجيل آخر، ولما كانت هذه الأناجيل من تأليف قوم يدعي المسيحيون لهم الإلهام ويعتقدون خلوها من الخطأ، كان ينبغي أن تكون كتابتهم في هذه الحادثة المهمة التي هي مناط النجاة، ودعامة الإيمان في نظرهم متطابقة متوافقة بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلا، إذ النفس لا تطمئن إلى الأخذ بروايات إذا اتفقت في موضع واحد من قصة جاءت في جميعها فإنها تتخالف في مواضع كثيرة، وإذا لم يكن الراوي أمينا كل الأمانة كانت الثقة بروايته ضعيفة والتصديق بها غير سائغ.
فقد خالف مرقس متى، فزاد في شهادة الشهود عليه قول الشاهدين: “إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد.. فسأله رئيس الكهنة أيضا وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا في سحاب السماء”. (مرقس 14: 58 – 62)، فخالف متى في هذه المواضع. وقوله: “المبارك” يريد “داود”.
وأما لوقا فقد ضرب صفحا عن طلب شهود زور على المسيح، ولم يذكر سوى قول مشيخة الشعب ورؤساء الكهنة: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو”. (لوقا 22: 67 – 70)، فخالف بذلك كلا من سابقيه، ومن المفارقات قول لوقا: إنهم قالوا له: ” أفأنت ابن الله”؟ مع أنه لم يدع أنه ابن الله، بل عبر بلفظ “ابن الإنسان”.
وأما يوحنا فقد ألغى شهادة الزور وشهوده، وألغى محاكمة الكهنة والشيوخ والكتبة له، ولم يذكر من ذلك شيئا أصلا وهو من أصحاب المسيح وقد شهد ما لم يشهده متى؛ لأنه كان معروفا من رئيس الكهنة، ودخل داره مع يسوع، كما نص على ذلك يوحنا في إنجيله مكذبا مرقس الذي يقول: وهرب منهم عريانا”. (مرقس 14: 52)، وبعد هذا فشهادة من شهدوا بمسألة نقض الهيكل ليست شهادة زور، فقد جاء في يوحنا: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه”. (يوحنا 2: 19)، فكيف يصح أن يقال: إنهم شهدوا زورا؟
وبعد هذا كله فإن الكهنة، ورئيسهم لم يقولوا: إن سبب الموت هو ما ذكر من هدم الهيكل، وبنائه، بل حين قال لهم: إنه المسيح على رأي مرقس، وإنه سيكون على يمين قوة الله، ومع هذا، فلم يرفعوه إلى الوالي بشيء من هذا، بل قالوا: إنه يفسد الشعب ويقول: إنه ملك اليهود.
قال متى: “ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي. (متى 27: 1، 2)، ووافقه مرقس غير، أنه لم يذكر صفة بيلاطس ولا جنسيته، واختصر فقال: “فقام كل جمهورهم وجاءوا به إلى بيلاطس”. (لوقا 23: 1)، وقال يوحنا: “ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح. ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا، فيأكلون الفصح”. (يوحنا 18: 28). وهذه العبارة انفرد بها يوحنا دون الثلاثة.
قال متى: “حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر! فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. لهذا سمي ذلك الحقل «حقل الدم» إلى هذا اليوم. حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة، ثمن المـثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل، وأعطوها عن حقل الفخاري، كما أمرني الرب”. (متى 27: 3 – 10).
هذا التقرير قد أسقطه أصحاب الأناجيل الثلاثة وخالفه مؤلفه الأبركسيس: “فإن هذا – أي يهوذا – اقتنى حقلا من أجرة الظلم وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوما عند سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم “حقل دما” أي: حقل دم”. (أعمال الرسل 1: 18، 19)، فالفرق بين تقرير متى وتقرير سفر الأعمال ظاهر، وإذا أخذنا بأحدهما وجب أن يكون الآخر كاذبا، وعبارة سفر الأعمال تفيد أن مؤلفه ليس عبرانيا؛ بدليل قوله: “في لغتهم”.
وبعد هذا فقد نسب متى إلى رؤساء الكهنة شراء حقل الفخاري بالفضة، وحينئذ تم ما قيل بأرمياء إلى آخره.
ونسب القول إلى أرمياء غلط؛ فإن هذا القول لا يوجد في كتب أرمياء فذكر متى لاسم أرمياء غلط يقينا، وورد هذا القول في سفر زكريا، ونصه: “فقلت لهم: «إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا». فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة. فقال لي الرب: «ألقها إلى الفخاري، الثمن الكريم الذي ثمنوني به». فأخذت الثلاثين من الفضة وألقيتها إلى الفخاري في بيت الرب. ثم قصفت عصاي الأخرى حبالا لأنقض الإخاء بين يهوذا وإسرائيل”. (زكريا 11: 112 – 14).
وبعد فهذا الكلام الذي في زكريا لا تعلق له بالمسيح أصلا، وليس في شأنه، ولكن القوم يتصيدون كل الكلام ويلحقونه بكتبهم المقدسة ليقيموه دليلا على أن الحادثة قد تنبأ بها الأنبياء من قبل، وهي بعيدة من غرضهم بعد السماء من الأرض.
وكذلك فقد اختلفت الأناجيل الأربعة في بسط السبب الذي بنى عليه الوالي صلب المسيح، وكل واحد يخالف الآخر، وإذا قلنا الوالي، فلا نعني بذلك أنه أدان المصلوب أو وجده مذنبا، فإن كل أناجيل القوم مصرحة بأنه لم يجد فيه علة تستوجب الموت، قال متى: “فوقف يسوع أمام الوالي. فسأله الوالي قائلا: «أأنت ملك اليهود؟» فقال له يسوع:«أنت تقول». وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس:«أما تسمع كم يشهدون عليك؟» فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجب الوالي جدا. (متى 27: 11 – 14)، وقد وافقه مرقس: “فسأله بيلاطس:«أأنت ملك اليهود؟» فأجاب وقال له:«أنت تقول». وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيرا. فسأله بيلاطس أيضا قائلا: «أما تجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك!» فلم يجب يسوع أيضا بشيء حتى تعجب بيلاطس”. (مرقس15: 2 – 5)، وأما لوقا فأثبت ما لم يثبته متى ومرقس؛ حيث قال: “وابتدءوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تعطى جزية لقيصر، قائلا: إنه هو مسيح ملك. فسأله بيلاطس قائلا: أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول”. (لوقا 23: 2، 3)، وبدهي أن هذا ضد ما قاله متى من أنه لم يجب بشيء حتى تعجب الوالي.
والمطلع على الأناجيل يعلم فساد تلك الدعاوى بما أثبته أصحابه من قوله: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ومن هربه ممن أرادوا المناداة به ملكا، فلو أنه المسيح نفسه لتبرأ من مقالتهم واستشهد على نقض دعواهم، ولكنه المسكين يهوذا الاسخريوطي الذي دهش للقبض عليه وارتبك عقله واستغرق في التأمل فيما هو قادم عليه من أهوال الموت، فأنساه ذلك الجواب، وقد انفرد لوقا بإحياء هيرودس الذي أثبت موته من قبل، وذكر أن بيلاطس أرسل إليه بيسوع، وكان هيرودس – الميت من زمن مديد – يتمنى رؤية المسيح، وأراد أن يصنع أمامه آية، فلم يجبه بشيء، وكيف يجيبه أو يصنع آية وليس هو المسيح صاحب الآيات، وإنما هو يهوذا[15]؟
سابعا. تنبؤات المسيح بنجاته من القتل:
لعله قد تبين لنا مما سبق أن فكرة قتل المسيح كانت دخيلة على رسالته، وأنه بذل كل جهده للعمل ضدها. ويزداد الأمر يقينا حين نرى ما تذكره الأناجيل عن تنبؤات المسيح بنجاته من كل المحاولات التي يبذلها اليهود لقتله. وسوف نكتفي بذكر تلك التنبؤات الواضحة، التي لا يحتاج فهمها إلا لقراءتها فقط:
“فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلا: «تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه. أنا أعرفه لأني منه، وهو أرسلني». فطلبوا أن يمسكوه، ولم يلق أحد يدا عليه، لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد. فآمن به كثيرون من الجمع، وقالوا: «ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟». سمع الفريسيون الجمع يتناجون بهذا من نحوه، فأرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خداما ليمسكوه. فقال لهم يسوع:«أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضي إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا». فقال اليهود فيما بينهم: إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين؟ ما هذا القول الذي قال: ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟”. (يوحنا 7: 28 – 36).
لا نظن أن أحدا يشك في وضوح هذا القول الذي يعني – رغم أي شيء – أن اليهود حين يطلبون المسيح لقتله فلن يجدوه؛ لأنه سيمضي للذي أرسله، أي: سيرفعه الله إليه. ومن الطبيعي أن يقال: إن السماء مكان يعجز اليهود عن بلوغه تعقبا للمسيح، بالإضافة إلى عجزهم عن فهم قوله وتحديد المكان الذي أشار إليه في حديثه هذا.
إن هذه النبوءة تقرر شيئا مهما، وهو أن اليهود حين يطلبون المسيح فلن يجدوه، سوف تحدث المعجزة قبل أن يمسكوه، وتتدخل ذراع الرب لإنقاذه قبل أن يلقي أحد عليه الأيادي.
وفي موقف آخر من مواقف التحدي بين المسيح واليهود أكد لهم نبوءته السابقة، وأن محاولاتهم ضده ستنتهي برفعه إلى السماء بعد عجزهم عن الإمساك به: “قال لهم يسوع أيضا: أنا أمضي وستطلبونني، وتموتون في خطيتكم. حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا. فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول: حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟ فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت لكم: إنكم تموتون في خطاياكم، لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم. فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به. إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذي أرسلني هو حق. وأنا ما سمعته منه، فهذا أقوله للعالم. ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب. فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو، ولست أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي. والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه”. (يوحنا 8: 21 – 29).
ولقد كانت آخر أقوال المسيح لتلاميذه – في تلك اللحظات التي سبقت عملية القبض مباشرة – هو تأكيده لهم أن الله معه دائما، ولن يتركه: “أجابهم يسوع: ألآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم”. (يوحنا 16: 31 – 33).
من المؤكد إذن أن ذلك المصلوب الذي تركه إلهه فأطلق صرخة اليأس على الصليب قائلا: “إلهي إلهي، لماذا تركتني”. (متى 27: 46) – إنما هو شخص آخر غير المسيح الذي يقول لتلاميذه بكل ثقة ويقين: “أنا لست وحدي لأن الآب معي”. وما من شك في أن المصلوب قد غلبه أعداؤه، وقهره الموت وساد عليه بعد أن تجرع كأسه المريرة حتى النهاية. ولهذا يقول بولس: “إن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضا. لا يسود عليه الموت بعد”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 6: 9).
نعم لقد ساد الموت على المصلوب كما يسود على كل الموتى – كما قرر بولس – أما ذلك الذي غلب العالم، فهو الذي حطم الإرادة الشريرة لمن في ذلك العالم من أشرار، فمنع محاولاتهم سحقه، ورد الضربة على رأس الخائن.
“أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب”. (متى 23: 39). إن التحدي في هذا القول واضح، ذلك أن المسيح يؤكد لأعدائه أنهم لن يروه منذ تلك الساعة، حتى يأتي في نهاية العالم: “وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحابة بقوة ومجد كثير”. (لوقا 21: 27). لكن ذلك المصلوب رآه الكهنوت اليهودي أسيرا في قبضته أثناء المحاكمة، ثم رأوه بعد ذلك معلقا على الخشبة قتيلا، قد أسلم الروح والمشيئة، ولم يبق منه إلا جسد خامد، فقد نبض الحياة[16].
ثامنا. شخصية المسيح لا تتلاقى مع النهاية الاستسلامية التي صنعها كتاب الأناجيل:
إذا كانت الأناجيل مليئة بالتناقضات التي يستحيل قبولها وتصديقها عقليا على المستوى العام، فإنها مليئة بتناقضات أشد استعصاء وأبعد تصديقا في الأحداث الأخيرة في حياة المسيح قبل الصلب المزعوم وبعده، وبوسع أي قارئ غير متخصص أن يدرك هذا بعد قراءة سريعة لصفحات الإنجيل فضلا عن عالم متخصص.
وتعليقا على الأحداث الأخيرة قبيل الصلب المزعوم وتحليلا لها يقول الداعية الإسلامي أحمد ديدات: “لن يظل يسوع كالبطة الساكنة في انتظار القبض عليه خلسة من اليهود، ها هو يهوذا يعد حوارييه للخاتمة الوشيكة، وفي حيطة وحذر؛ حتى لا يدخل الخوف على قلوب حوارييه، أعد خطة الدفاع، فيقول لهم في لطف: “حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية، هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا. فقال لهم: لكن الآن، من له كيس فليأخذه ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا”. (لوقا 22: 35، 36).
هذا الإعداد للجهاد، للحرب المقدسة ضد اليهود، لماذا؟ لماذا هذا التحول نحو العنف؟ ألم يسبق له أن نصحهم: “سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا”. (متى 5: 38، 39)، “حينئذ تقدم إليه بطرس وقال: يا رب، كم مرة يخطئ إلى أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع: لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات”. (متى 18: 21، 22)، (70 × 7 = 490)، أليس هو الذي أرسل حوارييه الاثني عشر المختارين قائلا لهم: “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام”. (متى 10: 16).
الموقف والظروف تغيرت، وكأي قائد مقتدر وحكيم، فإن الاستراتيجية يجب أيضا أن تتغير. كان الحواريون قد تسلحوا بالفعل، كانت لهم بصيرة، لم يكونوا قد غادروا الجليل صفر اليدين من السلاح. أجابوا قائلين: “يا رب، هوذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي”. (لوقا 22: 38).
يقول المبشرون إبقاء على الانطباع السائد عن يسوع الوديع المسالم أمير السلام: “إن السيوف كانت سيوفا روحية. ولكن إذا كانت السيوف روحية لكان من الواجب أن تكون الملابس أيضا ملابس روحية. ولو كان الحواريون سيبيعون الملابس الروحية لشراء سيوف روحية، فإنهم في هذه الحالة سيكونون عراة روحانيين، وبالإضافة إلى ذلك فإن أحدا لا يستطيع قطع آذان الناس بسيوف روحية، ففي إنجيل متى: “وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة، فقطع أذنه. فقال له يسوع: رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون”. (متى 26: 51، 52)، إن العمل الوحيد للسيوف والبنادق هو القطع والقتل، والناس في عصر المسيح لم تكن تحمل السيوف لتقشير التفاح والموز”[17].
ويستطرد ديدات في تحليل ووصف مشهد القبض على يسوع، فيقول: “تم القبض عليهم نياما، داس عليهم عدوهم بأحذيته الثقيلة، “فلما رأى الذين حوله ما يكون، قالوا: «يا رب، أنضرب بالسيف؟» وضرب واحد منهم – بطرس – عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع وقال:«دعوا إلي هذا!» ولمس أذنه وأبرأها. (لوقا 22: 49 – 51).
ألم يكن يسوع يعرف وجه الحق في قوله السالف، عندما أمر أتباعه أن يبيعوا ملابسهم، ويشتروا بثمنها سيوفا؟ بالتأكيد كان يعرف، إذن فلماذا هذا التناقض الآن؟!
لماذا لا يعطي المسيحيون المجادلون سيدهم ومولاهم حقه وقدره؟ لأنهم برمـجوا لمدة ألفين من السنين على أن عيسى – عليه السلام – الحمل الوديع، أمير السلام، لا يستطيع أن يؤذي ذبابة. ويتجاهلون الجانب الآخر في طبيعته الذي يتطلب الدم والنار. وهم يتناسون أوامره إلى أتباعه أن يحضروا أعداءه الذين لا يعترفون بحكمه: “جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟ ولي صبغة أصطبغها، وكيف أنحصر حتى تكمل؟ أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم: بل انقساما”. (لوقا 11: 49 – 51)[18].
ثم يتكلم ديدات عن خطة الخلاص التي يعرضها الإنجيل، فيقول: “إذا كان ذلك هو خطة الله لاتخاذ قربان أخطاء البشرية فإنه يكون – وحاشا لله أن يكون – قد اختار الفداء غير المناسب، إن الممثل الشخصي لله كان حريصا على ألا يموت. يتسلح، يبكي، يعرق، يصيح، يشكو! وازن بينه وبين شخص آخر كاللورد نلسون بطل الحرب الإنجليزي الذي واجه الموت، بهذه الكلمات الخالدة: “شكرا لله فقد أديت واجبي”، هناك ملايين اليوم يقدمون أرواحهم طواعية، وفي سرور من أجل الملك ومن أجل الوطن بابتسامة على وجوههم، وهم يصيحون “الحمد لله”، أو “الله أكبر”، أو “فلتحيا الملكة”. عيسى كان ضحية غير راغبة في ذلك.
إذا كان ذلك حقا بتدبير الله في الخلاص، إذن فهي مؤامرة قاسية، إنه اغتيال بالدرجة الأولى وليس فداء شخصيا.
يقول الميجور بيتس براون في كتابه “حياة قناص في بلاد البنجال” ملخصا عقيدة الفداء المسيحية في جملة واحدة: “لم تتفهم قبيلة واحدة من تلك القبائل الوثنية مثل هذه الفكرة الهائلة، وفيها ما فيها من أن الإنسان كان قد جاء إلى الوجود ملطخا بالخطيئة، وأن هذه الخطيئة التي لم يكن مسئولا عنها كانت في حاجة إلى من يكفر عنها، وأن خالق كل الأشياء كان عليه أن يضحي بابنه الوحيد المولود من صلبه؛ لكي يزيل أثر هذه اللعنة المبهمة”[19].
وهكذا نرى المسيحية غير مقنعة لدى المبشرين والمبشرين بها على حد سواء، ومن العجب أن يطلبوا منا أن نقبل هذه الأضاليل التي لا يسوغها عقل سليم، فكيف إذا كان بين أيدينا السراج الساطع، والبرهان الواضح، والتفسير الشامل، أنتركه ونتبعهم؟!
ولقد ترتب على بحث قضية الصلب في الأناجيل – الكلام للواء أحمد عبد الوهاب – ما يلي:
اختلفت روايات الأناجيل الأربعة في أحداث الصلب: فقد اختلف الرواة في مقدمة الأحداث مثل قصة مسح جسد المسيح بالطيب، وقصة خيانة يهوذا. كذلك اختلف الرواة في العشاء الأخير[20] وكيفية التحضير له وتوقيته ودور يهوذا، وما قيل عن شك التلاميذ الذي تنبأ المسيح بوقوعهم فيه في تلك الليلة الأخيرة، واختلفت الأناجيل في الليلة الأخيرة وأحداثها، وإن كان هناك اتفاق على أنه في قمة المحنة التي تعرض لها المسيح “تركه التلاميذ كلهم وهربوا”.
واختلفوا في المحاكمات وإعدادها وزمانها ومكانها، كما اختلفوا في قصة إنكار بطرس، وكان الخلاف حادا في الصلب، وأحداثه السابقة واللاحقة، ولعل أخطر خلاف وقع هو ما قيل عن توقيت الصلب ويومه، فقد تأرجح ذلك بين يوم الخميس على أحد الأقوال، ويوم الجمعة على أقوال أخرى، وكما اختلفوا في الصلب، فإنهم اختلفوا في الدفن.
واختلفت الروايات التي ذكرت عن نهاية يهوذا، وإن كانت قد اتفقت على أنه هلك في أعقاب حادث الصلب، وفي ظروف غامضة تناظر ما قيل عن هلاك بيلاطس الحاكم الروماني. وهذا الأخير ذكرت بعض الروايات أنه مات ميتة القديسين والشهداء، بينما قالت رواية أخرى أنه مات ميتة الشياطين.
وفي شتى المناسبات رأينا المسيح يرفض كل محاولة لقتله يقول لليهود: “لماذا تطلبون أن تقتلوني”؟ وعند المحاكمة كان المقبوض عليه يقول لمحاكميه: “إن سألت لا تجيبوني ولا تطلقوني”. بل في النزع الأخير نجد ذلك المصلوب يصرخ في يأس وحسرة قائلا: “إلهي إلهي لماذا تركتني”؟!
ويكفي أن نورد في موضوع تنبؤات المسيح بنجاته من القتل قوله: “ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا”.
وأما عن تنبؤات المزامير بنجاة المسيح من القتل، فقد ظهرت فيها الحقيقة بأوضح ما تكون مؤكدة جميعها نجاة المسيح؛ لأن “الرب يحفظه ويحييه، يغتبط في الأرض، ولا يسلمه إلى مرام أعدائه”. (المزامير 41: 2). وجاء على لسان المسيح أيضا: “لا أموت بل أحيا وأحدث بأعمال الرب. تأديبا أدبني الرب، وإلى الموت لم يسلمني”. (المزامير 118: 17، 18)، أما يهوذا الخائن فإنه “سقط في الهوة التي صنع. يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه. أحمد الرب حسب بره، وأرنم لاسم الرب العلي”. (المزامير7: 15ـ 17)، وذلك لأن: “معروف هو الرب. قضاء أمضى. الشرير يعلق بعمل يديه”. (المزامير 9: 16)، لقد صلب يهوذا، فهكذا تنبأت المزامير.
ولقد اختلف المسيحيون الأوائل في صلب المسيح: اختلفوا فيه كحادث فقال بعضهم: ما صلب المسيح، ولكن صلب أحد تلاميذه. كذلك اختلفوا في الصلب كنظرية تتكلم عن الفداء والخلاص، فرفضه الرافضون، وقالوا: إن الإنسان يعتمد على ركيزتين اثنتين هما: إيمان بالإله الواحد خالق الأكوان، وعمل صالح يثبت ذلك الإيمان ويصدقه. وما عدا ذلك فهو ضلال وضياع.
تلك هي خلاصة النتائج التي انتهى إليها بحث قضية الصلب، وهي تبين أن الصلب يمثل بحق ذروة المشاكل والتناقضات التي تحتويها الأناجيل.
إنه مشكلة رئيسة يكمن حلها في عقل القارئ، وضميره، وهو يستطيع حلها بسهولة بشرط ألا يكون من الذين قال عنهم المسيح: تمت فيهم نبوة إشعياء القائلة: “اذهب وقل لهذا الشعب: اسمعوا سمعا ولا تفهموا، وأبصروا إبصارا ولا تعرفوا. غلظ قلب هذا الشعب وثقل أذنيه واطمس عينيه، لئلا يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه ويفهم بقلبه، ويرجع فيشفى”. (إشعياء 6: 9، 10)[21].
تاسعا. طوائف نصرانية تنكر صلب المسيح:
إذا نظرنا إلى مسألة صلب المسيح وقتله لم نجدها عند المسيحيين مسألة إجماعية، بل وجد من طوائف المسيحيين من ينفي الصلب والقتل، فمن القائلين بذلك: (الساطرسيون – والكاربوكراتيون – والمراكيونيون – والبارديسيانيون – والبارسكاليونيون – والبوليسيون)، هؤلاء مع كثير غيرهم لم يسلموا بوجه من الوجوه بأن المسيح سمر فعلا، ومات على الصليب – وما ذكر هنا مقرر في تاريخهم – موسيهيم – الذي يدرس في مدارس اللاهوت الإنجيلية.
ومن القائلين بأن الشخص المصلوب غير عيسى قطعا، وأنه لم تسلط عليه أيدي مضطهدين، بل رفع إلى السماء طوائف: (الدوسيتية – والمرسيونية – والقلنطنيائية)، ونذكر هنا شهادات من بعض علماء النصرانية تفيد المطلع بصيرة:
قال المسيو إرادوارسيوس الشهير بمعارضة المسلمين في كتابه “عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية” صفحة 49 – قال: “إن القرآن ينفي قتل عيسى وصلبه، ويقول بأنه ألقي شبهه على غيره فغلط اليهود فيه وظنوا أنهم قتلوه، وما قاله القرآن موجود عند بعض طوائف النصارى، وقد صرح إنجيل القديس برنابا باسم الذي صلب بدل عيسى فذكر أنه يهوذا”.
ذكر الهرارنست دي بونس الألماني في كتابه “الإسلام أي النصرانية الحق” في صفحة 142: أن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح من أصول النصرانية الأصلية.
قال ملمن في الجزء الأول من كتابه المسمى “تاريخ الديانة النصرانية”: “إن تنفيذ الحكم كان في وقت الغلس[22] وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال أحد المجرمين بالمسيح ممن كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقدت بعض الطوائف وصدقهم القرآن”[23].
ألقى البروفسور فنك مؤسس “ندوة عيسى” الشكوك على قصة صلب المسيح – عليه السلام – إذ كتب: “إن قصة الصلب ليست من الأمور المقطوع بها”، وكتب أيضا: “إن قصة إلقاء القبض على المسيح ومحاكمته وإعدامه هي في معظمها من نسج الخيال”، وكتب: “إن رواية مرقس عن الآلام التي تصل ذروتها بإلقاء القبض على عيسى، ومحاكمته وصلبه هي من نسج خياله القصصي”، وأيضا: “إن قصة الصلب لا تليق أن تحدث للمسيح إطلاقا”.
وكتب ويلسون: “ليس هنالك من براهين حقيقية وصادقة لقصة اعتقال عيسى وإعدامه”، وكتب أيضا: “تذكر الأسفار الثلاثة الأولى أن عيسى أسس طقس القربان المقدس خلال، أو بعد الوجبة التقليدية لعيد الفصح اليهودي، فلو صح ذلك لكانت كل تفاصيل القصة: الاعتقال والمحاكمة، والصلب من نسج الخيال، إذ لا يعقل أن يقوم اليهود بخرق أكثر أعيادهم قداسة لأجل محاكمة شخص”.
أما البروفسور بورتون ماك فليس لديه أي شك في أن القصة خرافية؛ حيث كتب: “أما بالنسبة لقصة الصلب والقيامة، فإن مرقس – أول من كتب القصة – أخذ الفكرة الأساسية من أسطورة كريستوس، غير أنه تجرأ بأن تخيل كيف يمكن أن تبدو قصة الصلب والقيامة لو كتبها تاريخا فعليا تمت أحداثه في القدس، وهو ما كانت الأسطورة ترفضه، وهكذا يمكننا أن نفهم قصة مرقس باعتبارها دمجا لأحداث عيسى الحقيقي مع أسطورة كريستوس”، وكتب: “كافة القصص في الأسفار الأخرى تبدأ من مرقس فلا يغير أحد من المؤلفين بعد مرقس أساس القصة”، وكتب أيضا: “ثم بعد ذلك صار المسيحيون يتخيلون قصة مرقس الخيالية كما لو كانت تاريخا واقعا”.
وكتب البروفسور Geza Vermes ما يلي: “لم يكن النصارى يعتقدون بقصة آلام المسيح ولا بقصة صلبه”، و”إن أحداث محاكمة المسيح من قبل المحكمة اليهودية العليا بتهمة دينية، وصدور الحكم عليه ثم تصديقه من السلطة السياسية، كل هذه الأحداث ليست خارج نطاق الالتباس والريبة”.
وفوق كل ذلك نلاحظ أنه لا يوجد في سفر الأقوال، ولا في سفر توما، المكتشف حديثا، أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد عن قصة الآلام والصلب، مع أنهما كتبا في وقت مبكر أي حوالي ثلاثين عاما قبل أول ما كتب من الأسفار الأربعة، فلا بد أنهما أقرب إلى الحقيقة فيما يتعلق بحياة عيسى – عليه السلام – من الأسفار القانونية الأربعة.
كانت رسالة شيث الكبير الثانية Second Treatise of the Great Seth من جملة المخطوطات التي تم اكتشافها في نجع حمادي بمصر سنة (1945م)، وقد ورد فيها على لسان المسيح ما يلي: “لقد كان شخصا آخر.. الذي شرب المر والخل، لم يكن أنا.. كان شخصا آخر. كان شخصا آخر الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، في حين كنت مبتهجا في الأعالي من فوق.. كان خطؤهم.. وكنت أضحك من جهلهم”. (56: 6 – 20).
كما ورد أيضا في مخطوطة “رؤيا بطرس Apocalypse of Peter”، المكتشفة أيضا في نجع حمادي ما يلي: “لقد رأيته، كما بدا لي في ظاهره، وهم يقبضون عليه فقلت: ماذا أرى؟ يا إلهي! هل أنت حقا الذي أخذوه؟ وهل يدقون المسامير في قدمي ويدي شخص آخر؟ ومن هو هذا الذي فوق الصليب يضحك مبتهجا؟ قال لي: هذا الذي تراه يضحك مبتهجا فوق الصليب هو المسيح الحي، أما الذي يدق المسامير في يديه ورجليه فهو البديل، لقد ألحقوا العار بشبيهه الذي بقي بين أيديهم فانظر إلي، وانظر إليه!”. (رؤيا بطرس 81: 4 – 24)[24].
إن القرآن الكريم حسم التخبط واللغط في موضوع الصلب – صلب المسيح – حين قال سبحانه وتعالى: )وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)( (النساء).
عاشرا. مسألة الصلب بين إقرار بولس ورفض المسيح:
نشر ماكيل هـ. هارت – وهو مؤرخ بحاثة وعالم رياضيات مشهور – كتابا بعنوان “المائة العظام في التاريخ” ووضع لائحة بأسماء هؤلاء المائة العظام، موضحا الأسباب الموجبة لموقع كل واحد منهم في لائحته، ومن المدهش حقا أن يضع محمدا – صلى الله عليه وسلم – على رأس لائحة المائة وذلك لأسباب وجيهة، في حين أنه وضع عيسى المسيح – عليه السلام – الرجل الذي يدعوه المسيحيون “الرب” و “المخلص”، ولأسباب وجيهة أخرى، وضعه في المقام الثالث في القائمة.
مع العلم بأن عدد المسيحيين اليوم يزيد على عدد المسلمين بما يقرب من مائتي مليون، فإن موقع عيسى هو الثالث في اللائحة؛ لأن المؤرخ هارت يقول بأن بولس وعيسى هما مؤسسا المسيحية، ولكنه يعطي الفضل الأكبر إلى بولس، وكل مسيحي يسلم بأن المؤسس الفعلي للمسيحية هو بولس، وليس عيسى عليه السلام.
إن أسباب الخلاف بين المسلم والمسيحي حول العقيدة، والإيمان، والأخلاق، والفضائل تعود إلى أقوال بولس في رسائله، كورنثوس، فيلبي، غلاطية، تسالونيكي وغيرها في الكتاب المقدس.
وعلى العكس مما نصت عليه تعاليم المعلم – عيسى – بأن الخلاص يتم فقط بحفظ الوصايا وتطبيق الناموس: “فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عمل وعلم، فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات”. (متى 5: 18، 19)، يدق بولس هذا مسماره واضعا الوصايا والناموس على الصليب “كولوسي 1402 مدعيا أن الخلاص هو فقط في موت وقيامة عيسى المسيح: “لأنه يقول: «الرسائل ثقيلة وقوية، وأما حضور الجسد فضعيف، والكلام حقير». لأننا لا نمدد أنفسنا كأننا لسنا نبلغ إليكم. إذ قد وصلنا إليكم أيضا في إنجيل المسيح. غير مفتخرين إلى ما لا يقاس في أتعاب آخرين، بل راجين إذا نما إيمانكم أن نتعظم بينكم حسب قانوننا بزيادة”. (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 10: 14، 15). يقول القديس بولس: ليس لدى المسيحية ما تقدمه إلى البشرية غير دم المسيح، فإن لم يمت عيسى ولم يقم من الموت، فلا خلاص في المسيحية!
يقول البروفسور جورغين مولتمان في كتابه “الرب المصلوب”: “إن موت عيسى على الصليب هو أساس اللاهوت المسيحي.. وترتكز جميع الأقوال المسيحية عن الرب، والخلق، والخطيئة، والموت على مسألة المسيح المصلوب. كما تنبع كل الأقوال المسيحية عن التاريخ والكنيسة، والإيمان، والقدسية، والمستقبل، والأمل، عن قصة المسيح المصلوب”.
وبعبارة موجزة: لا اعتقاد بالصلب.. إذن لا مسيحية!!
إن دعاة المسحية يزعمون أن الخلاص يأتي فقط من “دم الرب عيسى”، ويقولون في ذلك: إن كل أعمالكم نجس… فلو قبلتم دم عيسى لغسل الخطايا، ولو قبلتم به على أنه مخلصكم لأصبحتم كملائكة تمشي على الأرض.
ماذا نقول – نحن المسلمين – ردا على هذا الادعاء المسيحي؟ ليس لدينا جواب أفضل من رد الله على التجمع اليهودي[25]: )وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)( (النساء).
لقد تبنى بولس فكرة سفك دم المسيح كفارة من خطايا البشر، وروج لها في رسائله، تلك الرسائل التي لم يكتب أقدمها إلا بعد رفع المسيح بأكثر من 20 عاما، فلقد كان الصلب وسفك الدم هو ما عزم بولس على ألا يعرف من المسيحية شيئا غيره، وهو يقرر ذلك في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، حيث يقول: ” أنتم الذين أمام عيونكم قد رسم يسوع المسيح بينكم مصلوبا”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 3: 1).
ولقد كان ذلك هو ما قبله بولس وإنجيله الذي ذهب يبشر به: “وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص. جميعكم أبناء نور وأبناء نهار… وأما نحن الذين من نهار، فلنصح لابسين درع الإيمان والمحبة، وخوذة هي رجاء الخلاص. لأن الله لم يجعلنا للغضب، بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح، الذي مات لأجلنا، حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعا معه”. (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي 5: 4 – 10)[26].
“ومن المعلوم أن بولس كان عدو المسيحيين وخصمهم، وأنه لما ادعى الإيمان لم يصدقه جماعة المسيح – عليه السلام – ولولا أن شهد له برنابا لما قبلوه. وبرنابا يقول في أول إنجيله: إن بولس نفسه كان من الذين بشروا بتعليم جديد غير تعليم المسيح”[27].
وإذا كان بولس مجرد مبشر يهودي بالإنجيل اعتنق النصرانية بدون قبول له من النصارى، لعداوته السابقة للنصرانية، وإذا كان بولس قد أخذ عقيدة الصلب والفداء من الوثنيين الهنود وقام بنسبها للمسيح تلفيقا وزورا، على ما يؤكده علماء النصرانية المنصفون؛ فإننا – أولا وأخيرا – لا نريد أن نقف عند مصب النهر، بل أن نقف عند منبعه، إن الأهم من رأي بولس هو رأي المسيح، هل وافق المسيح على الصلب، وهل سلم نفسه لليهود، وهل تخلى الله عنه؟ ما هو تصورنا لما حدث من خلال تعاليم المسيح، وما ورد على لسانه في الكتاب المقدس، إن عقيدة الصلب والفداء تقتضي أن يبذل المسيح نفسه عن رضا، وطيب خاطر فداء للبشرية، كما يفعل المواطنون حينما يبذلون أنفسهم طواعية في الحروب، ويقبلون على الموت فداء لأوطانهم، فهل كان هذا هو موقف المسيح؟
“منذ بدأ المسيح دعوته حتى آخر يوم فيها، نجد الأناجيل تضع لنا، بين الحين والحين علامات على طريق الرسالة المسيحية، تذكرنا دائما باستبعاد فكرة قتل المسيح مهما وضع من أجل تبريرها من نظريات وفلسفات.
فالمسيح صاحب الدعوة الذي يعلم حقيقتها وحدودها، أكثر من بولس وغيره من كتبة الرسائل المسيحية، هو الذي رفض فكرة قتله واستنكرها تماما، ثم هو قد عمل كثيرا لإحباط جميع المحاولات التي رآها تبذل من اليهود لقتله، فلقد حدث أن “ولما كان العيد قد انتصف، صعد يسوع إلى الهيكل، وكان يعلم. فتعجب اليهود قائلين: كيف هذا يعرف الكتب، وهو لم يتعلم؟ أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم، هل هو من الله، أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم. أليس موسى قد أعطاكم الناموس؟ وليس أحد منكم يعمل الناموس! لماذا تطلبون أن تقتلوني”؟ (يوحنا 7: 14 – 19). “أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم. لكنكم تطلبون أن تقتلوني؛ لأن كلامي لا موضع له فيكم. أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون ما رأيتم عند أبيكم». أجابوا وقالوا له:«أبونا هو إبراهيم». قال لهم يسوع:«لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم! ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم”. (يوحنا 8: 37 – 40).
ولما كان المسيح يخشى على حياته من القتل، فإنه اتخذ من الاحتياطات ما يجنبه الوقوع في براثن أعدائه من اليهود؛ فقد ” وجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعياء النبي.. وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.. فامتلأ غضبا جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا، فقاموا وأخرجوه خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى. (لوقا 4: 16 – 30).
“فلما خرج الفريسيون تشاوروا عليه لكي يهلكوه. فعلم يسوع وانصرف من هناك”. (متى 12: 14، 15). “فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازا في وسطهم ومضى هكذا”. (يوحنا 8: 59). “وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل؛ لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه”. (يوحنا 8: 1). “فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه، فلم يكن يسوع أيضا يمشي بين اليهود علانية، بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها أفرايم، ومكث هناك مع تلاميذه”. (يوحنا 11: 53، 54).
وفي الساعات العصيبة، أو الساعات الأخيرة للمسيح بين الناس نجده يصرخ بكل قوته طالبا النجاة، فما كانت فكرة سفك دمه فدية عن خطايا الكثيرين – إلا سرابا علق برسالته فيما بعد. إن الذين يرفضون هذا القول، إنما يلحقون بالمسيح – عليه السلام – صفات يبرئه منها كل مؤمن وعاقل. إن الأناجيل ترينا – وخاصة في الساعات الأخيرة – مواقف حاكمة، ترفض كلها فكرة قتل المسيح، وتقطع كل صلة بينها وبين رسالته – ومن هذه المواقف ما يلي:
في نهاية الفترة التي سبقت عملية القبض مباشرة، كان آخر ما نطق به المسيح في صلاته، هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه المسيح رسول الله، فقال: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. ثم أعقب المسيح ذلك مباشرة بتقرير واضح – لا لبس فيه ولا إبهام – بين فيه أن الرسالة التي بعثه الله بها قد اكتملت؛ فقال: “أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته”. (يوحنا 17: 3، 4). لقد اكتملت رسالة المسيح تماما قبل حادث الصلب، فمن الذي يفتي بما يخالف شهادة المسيح؟!
وينطق كل مشهد من مشاهد المعاناة في النصوص الحديثة برفض المسيح فكرة قتله: “ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وابتدأ يدهش ويكتئب. فقال لهم: «نفسي حزينة جدا حتى الموت! امكثوا هنا واسهروا». ثم تقدم قليلا وخر على الأرض، وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن. وقال:«يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت». ثم جاء ووجدهم نياما، فقال لبطرس:«يا سمعان، أنت نائم! أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف». ومضى أيضا وصلى قائلا ذلك الكلام بعينه. ثم رجع ووجدهم أيضا نياما، إذ كانت أعينهم ثقيلة، فلم يعلموا بماذا يجيبونه. ثم جاء ثالثة وقال لهم:«ناموا الآن واستريحوا! يكفي! قد أتت الساعة! هوذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب! هوذا الذي يسلمني قد اقترب”. (مرقس 14: 33 – 42).
وحين شعر المسيح بالخطر يقترب منه وقوة الظلم تتقدم للقبض عليه، كانت صيحته لتلاميذه: “قوموا ننطلق؛ هوذا الذي يسلمني قد اقترب”. (متى 26: 46). لقد كان يطلب بإلحاح إلى تلاميذه أن ينهضوا لمعونته في الانطلاق بعيدا عن المحنة الوشيكة، إلا أنهم كانوا “نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة فلم يعلموا بماذا يجيبونه” وتركوه وحيدا يعاني آلامه.
وحين جاءت قوة الظلم وتقدم يهوذا ليدلهم على سيده: “قال له يسوع: يا صاحب، لماذا جئت”. (متى 26: 50).
وفي المحاكمة: “ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب: رؤساء الكهنة والكتبة، وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني”. (لوقا 22: 66 – 68).
وهنا نجد أن المسئول لو جاوبهم، فلن تخرج الإجابة عن أحد قولين، لا ثالث لهما:
نعم، أنا المسيح.
لا، لست أنا المسيح.
ومن الواضح أن كل من يؤمن بروايات الأناجيل عن أحداث الصلب، سوف يرفض حتما الإجابة الثانية، وبذلك تبقى الإجابة الأولى، والتي يمكن أن توضع في الصيغة الآتية: “فقال لهم: نعم، أنا المسيح، لكنكم لا تصدقون وإن سألت لا تجيبونني، ولا تطلقونني”، وسواء وضعت الإجابة الأولى في الصيغة المقترحة، أم لم توضع، فالنتيجة التي لا مفر من قبولها تقول: بفرض أن الذي يستجوبه الكهنوت اليهودي هو المسيح، فمن الواضح أنه كان يطلب إطلاق سراحه. وبذلك لا يوجد محل لأي قول يقول: إنه جاء ليبذل نفسه فدية عن كثيرين.
ومن الواضح أيضا أنه باستخدام القول الثاني، فإن إجابة المقبوض عليه يمكن أن تأخذ الصيغة التالية: “فقال لهم: لا، لست أنا المسيح الذي تطلبونه، لكنكم لا تصدقون. وإن سألت النجاة لا تجيبونني ولا تطلقونني”. وسواء كان هذا أو ذاك، فإن ما جاء في هذه المحاكمة يلغي كل ما يقال عن نظرية قتل المسيح.
ونصل الآن إلى الشهادة الأخيرة، التي تنسبها الأناجيل للمصلوب في الرمق الأخير، ألا وهي: صرخة اليأس على الصليب. من يسمع قول مصلوب يصرخ إلى ربه “بصوت عظيم قائلا: إلوي إلوي، لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي إلهي لماذا تركتني”؟ (مرقس 15: 34)، من يسمع هذا ثم يقول إن المسيح “بذل نفسه لأجل خطايانا؛ لينقذنا من العالم الحاضر الشرير”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 1: 4)، وإنه “بذل نفسه فدية لأجل الجميع”. (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تيموثاوس2: 6)، أو إنه “إذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”. (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 2: 8)، أو إنه “بعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة، جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرا بعد ذلك حتى توضع أعداؤه موطئا لقدميه”. (الرسالة إلى العبرانيين10: 12، 13)؟!
منذ ما يقرب من 2000عام وقف المسيح يعلم الكهنوت اليهودي مشيئة الله، فقال لهم: “لو علمتم ما هو؛ إني أريد رحمة لا ذبيحة”. (متى 12: 7)، وحتى اليوم لا يزال الكثيرون مصرين على تجاهل مشيئة الله، فيرفضون الرحمة، ويقبلون الذبيحة [28]!
إننا نظلم عيسى ونغمطه حقه إذا قلنا: إنه كان يبكي كامرأة لينقذ جسده من الآلام الجسمية، سوف يحملون منطقا زائفا لو أنهم نجحوا في قتل أي واحد على أنه المسيح، سوف يتأكدون حينئذ أنه دعا؛ لأن الله العلي القدير لم يكن ليسمح أبدا بقتل المسيح الحق، ومن هنا كان الرفض الدائم لليهود لعيسى ابن مريم – عليه السلام – على أنه المسيح الذي وعدوا به “الرفض الأبدي”[29].
حادي عشر. نهاية يهوذا خير شاهد على صدق القرآن وتحريف الإنجيل:
اتفقت النصارى على القول بأن يهوذا الإسخريوطي هو الذي دل على يسوع المسيح، وكان يهوذا هذا رجلا عاميا من بلدة تسمى “خريوت”، تبع المسيح وصار من خواص أتباعه الذين يلقبونهم بالتلاميذ الاثني عشر، الذين بشرهم بأنهم يكونون معه في الملكوت على اثني عشر كرسيا، ويدينون بني إسرائيل، أي: يحاسبونهم يوم الدين، ومن الغريب أن يهوذا كان يشبه المسيح في خلقه، كما نقل “جورج سايل” الإنكليزي في ترجمته للقرآن المجيد، في تعليقه على سورة آل عمران، وعزا هذا القول إلى “السيرنثيين والكربوكراتيين” من أقدم فرق النصارى الذين أنكروا صلب المسيح، وصرحوا بأن الذي صلب هو يهوذا الذي كان يشبهه شبها تاما.
وقالوا: “حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا». فقالوا:«ماذا علينا؟ أنت أبصر!» فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه”. (متى 27: 3 – 5)، وغرضنا من هذا الخبر بيان أنهم معترفون بأن يهوذا فقد بعد حادثة الصلب، ولم يظهر في الوجود، وأنهم يدعون أن سبب هذا هو قتل نفسه من الحزن والأسف. ونحن نرى أنه إنما فقد؛ لأنه هو الذي صلب، والمسيح هو الذي نجاه الله – عز وجل – ورفعه، فإن الذي يحمله حزنه وألم نفسه على أن يبخع نفسه بيده خنقا أو شنقا لا يستبعد منه أن يسلبها بالاستسلام إلى من يتولى ذلك عنه فإنه أهون عليه، فمن المعقول أن يكون يهوذا عندما دل اليهود على المسيح في الليل رأى بعينيه عناية الله – عز وجل – بإنجائه وإنقاذه من بين أيديهم “كما أنجى أخاه محمدا – عليهما الصلاة والسلام – من أيدي كفار قريش، وكانوا أشد معرفة له من معرفة اليهود للمسيح – لأنهم لم يكونوا يحتاجون إلى بذل المال لمن يدلهم عليه، كما بذلت اليهود ثلاثين قطعة من الفضة ليهوذا – فخرج ليلة الهجرة من بين الذين كانوا ينتظرونه عند داره ليقتلوه ولم يبصروه”، فلما رأى يهوذا ذلك وعلم درجة عناية اللهـ عز وجل – بعبده ورسوله عظم ذنبه في نفسه، واستسلم للموت ليكفر الله عنه ذنبه كما كفر ذنب الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فأخذوه وصلبوه من غير مقاومة تذكر، فرواية الإنجيل وسفر الأعمال عن وجدانه مخنوقا أو مشنوقا غير مسلمة، وقد تعارض القولان فتساقطا، ووجب اعتماد قول برنابا الذي أخذ به بعض قدماء النصارى.
وإذا كان إيمان يهوذا قويا إلى هذه الدرجة درجة الانتحار والبخع من ألم الذنب فليت شعري، لماذا لا تقبل توبته ولا ينفعه إيمانه حتى ادعوا أنه مات كافرا، وأن كرسيه في الملكوت سيبقى خاليا، وبشارة المسيح لا تكون صادقة؟ ولماذا تقبل توبة بطرس الذي أنكر المسيح ولعنه المسيح في حياته وسماه شيطانا، على أن توبته دون توبة يهوذا، وما كان يهوذا إلا متمما لذريعة الفداء التي هي أساس الدين عندهم”.
“إن ما اتفق عليه متى ولوقا – وصمت عنه مرقس ويوحنا – هو أن يهوذا الخائن قد هلك في ظروف مريبة، لكن روايتهما اختلفت في ثلاثة عناصر:
الأول: كيفية موته، وفيها يروي متى أن يهوذا قد انتحر بخنق نفسه، بينما يروي لوقا أنه مات ميتة دموية، انشق فيها وسطه وانسكبت جميع أحشائه.
الثاني: يتعلق بمشتري الحقل، فيروي متى أن رؤساء الكهنة هم الذين اشتروه، بينما يروي لوقا أن يهوذا كان هو الشاري.
الثالث: كذلك اختلفت روايتا متى ولوقا في سبب تسمية الحقل باسم: حقل دم، فرواية متى ترجع ذلك لكونه قد اشترى بنقود كانت ثمنا بيع به دم بريء، بينما يرد لوقا تلك التسمية إلى الميتة الدموية التي ماتها يهوذا.
إن ما يذكره متى ولوقا عن هلاك يهوذا لا يعني إلا شيئا واحدا هو: أن يهوذا قد اختفى في فترة الاضطراب التي غشيت أحداث الصلب وملابساته. وإذا كان هناك من يعطي أيا من هاتين الروايتين قدرا من الثقة، فإن ذلك القدر يمكن تقييمه بمقارنتهما بما ترويه المصادر المسيحية القديمة عن هلاك بيلاطس.
عجبا، وأي عجب… لقد جعلت القصة الأولى من بيلاطس شهيدا، تتسلم رأسه ملائكة السماء؟! في حين جعلت منه القصة الثانية شيطانا، ترتع في جسده الشياطين؟! على أن ما يعنينا هو التشابه الملحوظ بين نهايتي كل من يهوذا وبيلاطس، فقد وجدت روايات تقول أن كلا منهما أهلك نفسه انتحارا، بينما وجدت روايات أخرى تقول بعكس ذلك. فأيهما نرفض، وأيهما نصدق؟!!
إن ذلك يعني شيئا جوهريا لا مناص من الأخذ به في كل ما يتعلق بالعقائد، والروايات الدينية، ألا وهو أن تخضع جميعها للبحث والتمحيص على ضوء ما ميز به الله الإنسان من عقل وفكر، وعندئذ يستطيع الإنسان أن يميز الخبيث من الطيب، والحق من الضلال، أما أن يدعي الناس إلى إبطال عقولهم، والتسليم بكل ما يقال عنه أنه كتاب مقدس، باعتبار “أن كل الكتاب هو موحى به من الله”، فتلك مغامرة لها باب واسع يستطيع التوصيل بسرعة إلى الهلاك الأبدي[30].
إن ما يحكيه متى عن نهاية يهوذا يتعارض كما بينا مع ما يحكيه لوقا، والقاعدة الأصولية في المتعارضين إذا لم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح أحدهما على الآخر أن يقال: “تعادلا فتساقطا”، وبهذه القاعدة التي لا مندوحة عن القول بها في هذه القصة وغيرها من التعارض في هذه الأناجيل اتقاء الوقوع في الترجيح بغير مرجح.
إذن فرواية متى عن نهاية يهوذا ساقطة وكذلك رواية لوقا، فإذا أضفنا إليها إنجيل مرقس ويوحنا، صار عندنا أربعة أناجيل لا يوجد بها رواية صريحة وصحيحة لنهاية يهوذا، وإننا – بناء على ما سبق – لا يسعنا إلا أن نتوجه إليهم بالسؤال قائلين: كيف كانت نهاية يهوذا عندكم يا كتاب الأناجيل ويا أصحاب المعرفة والعلم؟!
إن الإجابة المتوقعة هي: ليس في الإمكان أفضل مما كان، وما كان – للأسف الشديد – من رواية متى ولوقا ساقط، لا يعتد به!
وإذا سألنا: لماذا لا يقبل النصارى إلقاء شبه المسيح على يهوذا، أو غيره وصلبه بدلا من المسيح؟ وهل هذا الأمر صعب الحدوث على أرض الواقع؟
يجيب عن هذا السؤال د. عبد الوهاب النجار فيقول: مما يسهل إلقاء شبه المسيح – عليه السلام – على غيره هذه الحادثة التي ذكرها متى في إنجيله، ونصها: “وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه. فجعل بطرس يقول ليسوع: «يا رب، جيد أن نكون ههنا! فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة». وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائلا:«هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا». ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدا. فجاء يسوع ولمسهم وقال: «قوموا، ولا تخافوا». فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدا إلا يسوع وحده”. (متى 17: 1ـ 8).
وقد ذكر هذه الحادثة أو المعجزة كل من مرقس ولوقا، وأغفلها يوحنا، ومن العجيب أنه كان أحد شهودها، ومع ما بينهم من التناقض في عدد الأيام فقد اتفقوا على حصولها في الجملة.
إن هذا التغيير الذي يقرون به في هيئة المسيح – في وجهه وثيابه – يفسر لنا بأجلى بيان إلقاء شبهه على غيره وتغير هيئته، حتى إن الذين أتوا للقبض عليه أخذوا من ألقى عليه شبه المسيح فوقع في الورطة ونجا عيسى عليه السلام[31].
ثاني عشر. كلام الإمام الرازي مقطوع من سياقه:
وأما كلام الإمام الرازي المستدل به فكلام مقطوع من السياق، إيهاما للمسلمين بأن أحد علماء المسلمين ينكر أن عيسى – عليه السلام – شبه لهم، ولو رجعنا إلى مصدر كلامه لعلمت تدليس هؤلاء المدلسين.
والذي ذكره الإمام الرازي هو سؤال – أي: اعتراض – نقله عن أصحابه نقلا أمينا بكامل أدلته كعادة علمائنا في المنهجية والأمانة العلمية، ثم أعقب هذا السؤال بعدة أجوبة عليه من علماء الأمة، ولما وجد أن هذه الأجوبة لا تسلم من الاعتراض ولم ترق إلى الأجوبة العقلية المقنعة – من وجهة نظره – فوض حقيقة الأمر إلى علم الله – عز وجل – فقال: “وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور”[32].
الخلاصة:
لقد نص القرآن الكريم صراحة على أن سيدنا عيسى – عليه السلام – لم يصلب، ولم يقتل بل رفعه الله – عز وجل – إليه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم(، )وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه( وقد اتفقت جماهير وعلماء الإسلام قديما وحديثا على نجاة المسيح – عليه السلام – من كيد أعدائه، ومحاولتهم قتله وصلبه، انطلاقا من التأكيدات القرآنية القاطعة. والصواب في رأي أكثر المفسرين أنه رفع حيا بروحه وجسده، وحجتهم في ذلك:
القول بصلب المسيح – عليه السلام – ينفي ألوهيته عند النصارى، والقول بألوهيته ينفي صلبه.
ما ورد على لسان المسيح – عليه السلام – في الأناجيل يؤكد أنه لم يصلب.
هناك العديد من الطوائف والمصادر النصرانية تؤكد نجاة المسيح – عليه السلام – وعدم صلبه.
ولا تعارض بين آية نفي الصلب، والقتل، وآيات الوفاة والرفع، إنما هي أفهام حظها من التدبر قليل.
ولقد شبه لهم فقتلوه أو صلبوه، ولا يتنافى هذا مع عدل الله ولا يحصل بإلقاء الشبه على آخر أي اختلال في الموازين.
وأما ما نسب زورا إلى الإمام الرازي فهو تدليس وقطع للكلام من سياقه، لإيهام المسلمين أن بعض علمائهم ينكرون أن عيسى شبه لهم، ولو رجعنا إلى المصدر، لعلمنا كذب ادعاء هؤلاء.
(*) برنامج “أسئلة عن الإيمان”، قناة الحياة، زكريا بطرس. هذا هو الحق، رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، مصر، 1399هـ/ 1977م.
[1]. عقيدة الصلب والفداء: هي عقيدة عند النصارى في عيسى ـ عليه السلام ـ أنه صلب وتحمل الآلام؛ ليفدي البشرية من خطيئة آدم ـ عليه السلام ـ والتي لم تكن لتكفر في نظرهم إلا بصلبه، وإن المرء ليعجب من الاختلاف الكبير من قبل الأناجيل في إيراد هذه القصة، ولو صح أن هذا أساس وأن المسيح أنبأ له، لكان اهتمامهم بتدونه متساويا أو متقاربا.
[2]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص184: 186 بتصرف.
[3]. أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 377) برقم (10790).
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص18: 21 بتصرف.
[5]. الفريسيون: إحدى الفرق اليهودية، ومعناها: المنعزلون أو المنشقون، وهم يشبهون فريق المعتزلة عند المسلمين، وقد أطلق عليهم هذه التسمية أعداؤهم، ولذلك فهم يكرهونها، ويسمون أنفسهم “الأحبار”، وهذه الطائفة تعتقد أن التوراة بأسفارها الخمسة خلقت منذ الأزل، وهم يعتقدون في البعث، وقيامة الأموات، والملائكة، والعالم الآخر، كما يرون أن التوراة ليس هي كل الكتب المقدسة التي يعتمد عليها، وإنما هناك بجانب التوارة روايات شفوية ومجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير التي تعتبر توراة شفوية، وقد تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل، وربما دونوها أحيانا؛ خوفا عليها من الضياع، وتلك الروايات الشفوية هي التي دونت فيما يسمى بـ “التلمود”.
[6]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص504: 514 بتصرف.
[7]. الأدلة الكتابية على فساد النصرانية، د. أحمد حجازي السقا، دار الفضيلة، القاهرة، د. ت، ص234.
[8]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص208.
[9]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص35 بتصرف.
[10]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص26: 28.
[11]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص37، 38.
[12]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص38: 40 بتصرف.
[13]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص479: 481.
[14]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام الزين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص329.
[15]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص516: 526 بتصرف.
[16]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص207: 209.
[17]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص168، 169 بتصرف.
[18]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص174، 175 بتصرف.
[19]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص171، 172.
[20]. العشاء الأخير: يطلق عليه أيضا “التناول”، ويرمز إليه أيضا بـ “العشاء الرباني”، وهو عشاء عيسى ـ عليه السلام ـ مع تلاميذه؛ إذ اقتسم معهم الخبز والنبيذ، والخبز يرمز إلى جسد المسيح ـ عليه السلام ـ الذي كسر لنجاة البشرية. أما الخمر فيرمز إلى دمه الذي سفك لهذا الغرض، ويستعمل في هذا العشاء قليل من الخبز وقليل من الخمر لذكرى ما فعل المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة موته على حد تعبير النصارى، وكذلك ليكون هذا طعاما روحيا للمسيحيين، فمن أكل هذا الخبز وشرب هذا الخمر استحال الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه، فيحصل امتزاج بين الآكل وبين المسيح وتعاليمه.
[21]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص280: 283 بتصرف.
[22]. وقت الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح.
[23]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص530، 531.
[24]. المسيحية والإسلام والاستشراق، محمد فاروق الزين، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص221: 223.
[25]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص181: 183.
[26]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص191، 192.
[27]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج6، ص37.
[28]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص202: 206.
[29]. أضواء على المسيحية: دراسة تحليلية للكتاب المقدس، أحمد ديدات، ترجمة: د. عادل جلول، دار القارئ، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص171.
[30]. المسيح في مصادر العقائد المسيحية، أحمد عبد الوهاب، مكتبة وهبة ،القاهرة،ط2 ،1988م، ص183: 188.
[31]. قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص507، 508.
[32]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، بيروت، 1993م، عند تفسير قوله تعالى: ) وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم (.
مذاهب العلماء في وقوع التعارض الحقيقي في القرآن
التعارض الحقيقي هو : ( التضاد التام بين حجتين متساويتين دلالة وثبوتا وعددا ، ومتحدتين زمانا ومحلا ) [1]. وبناء على هذا فإن التعارض الحقيقي لايتم إلا باجتماع أمور أربعة :
1- التضاد التام بين دليلين .
2- الحجية في المتعارضين .
3- التساوي بين المتعارضين .
4- اتحاد المتعارضين في الوقت والمحل .
وقد اختلف العلماء في جواز وقوع التعارض وعدمه إلى مذاهب مختلفة ، على النحو التالي:
المذهب الأول : ذهب جمهور الأصوليين ، ومنهم أئمة المذاهب الأربعة ، وجمهور المحدثين ، وأهل الظاهر ، وعامة الفقهاء [2] ، إلى أن التعارض الحقيقي لا وجود له بين الأدلة الشرعية العقلية أو النقلية ، سواء أكانت قطعية أم ظنية ، وإذا وجد دليلان يوهم ظاهرهما التنافي والتخالف ، فإن مرد ذلك إلى قصور في فهم المجتهد وإدراكه ، لا في نفس الأمر والواقع ، وهذا ما أميل إليه . واستدل أصحاب هذا المذهب على صحة قولهم بعدم وجود تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية بما يلي :
الدليل الأول : الوحي منزه عن التعارض الحقيقي :
وما كان وحيا من الله فهو منزه عن الاختلاف ، والتناقض ، والاضطراب ، لقول الله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )(82 : النساء ) ، فلا تعارض ولا اختلاف بين نصوص القرآن ، ونصوص السنة وما نقل من أفعاله – صلى الله عليه وسلم – .
يقول الإمام الشافعي ( ت 204هـ) : ( لا يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص و العموم والإجمال والتفصيل ، إلا على وجه النسخ .) [3]
ويقول الإمام الباقلاني ( ت403هـ) : ( وكل خبرين علم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تكلم بهما ، فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه ، وإن كان ظاهرهما متعارضين ..)[4]
ونقل القاضي عبد الجبار المعتزلي ( ت 415هـ) عن شيخه أبي الهذيل العلاف
( ت 226هـ ) قوله : ( قد علمنا أن العرب كانت أعرف بالمتناقض من الكلام ، وكانت على إبطال أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحرص، وكان – صلى الله عليه وسلم – يتحداهم بالقرآن ، ويقرعهم بالعجز عنه ، ويتحداهم بأنه ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )( 82: النساء ) ، ويورد ذلك عليهم تلاوة وفحوى ، لأنه كان – صلوات الله وسلامه عليه – ينسبه إلى أنه من عند الله الحكيم ، وأنه مما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويدعي أنه الدلالة ، وأن فيه الشفاء ، فلو كان الأمر في تناقض القرآن – على ما قاله القوم – لكانت العرب أيامه – عليه السلام – إلى ذلك أسبق ، فلما رأيناهم عدلوا عن ذلك إلى غيره من الأمور علمنا زوال التناقض عنه ، وسلامته مما زعموه .) [5]
ويقول الإمام ابن حزم ، علي بن أحمد ( ت 456هـ) : ( .. فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبر أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى ، صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن ، والحديث الصحيح ، وأنه كله متفق – كما قلنا ضرورة – وبطل من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض ، أو ضرب الحديث بالقرآن ، وصح أنه ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ) [6]
ويقول الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت ( ت463هـ) :[ وليس في القرآن ولا نص حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعارض ، لقول الله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )(82 : النساء ) ،وقال مخبرا عن نبيه – صلى الله عليه وسلم -(وما ينطق عن الهوى .إن هو إلا وحي يوحى)( 3، 4 : النجم ).وأن كلام نبيه وحي من عنده تعالى ، فدل ذلك على أنه كله متفق ، وأن جميعه مضاف بعضه إلى بعض ، ويبنى بعضه على بعض ، إما بعطف ، أو استثناء ، أو غير ذلك . ] [7]
ويقول الإمام أبو إسحق إبراهيم بن إسحق الشاطبي ( ت :790هـ) : [ إن كل من تحقق بأصل الشريعة ، فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض ، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه ، لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة ، ولذلك لا تجد – ألبتة – دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما ، بحيث وجب عليهم الوقوف – أي : التوقف والامتناع عن إبداء الرأي في المسألة – ثم يقول : إذا تقرر هذا ، فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران:
أحدهما : أن ينظر بعين الكمال ، وأن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ، ولا بين الأحاديث النبوية ، ولا بين أحدهما مع الآخر . فإذا أدى بادئ الرأي إلى ظاهر اختلاف ، فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الخلاف ، لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه ، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع ، أو المسلم من غير اعتراض .
وأما الأمر الثاني : فإن قوما قد أغفلوا ، ولم يمعنوا النظر ، حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن ، والسنة ، فأحالوا بالاختلاف عليهما ، وهو الذي عاب عليهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حال الخوارج ، حيث قال – صلى الله عليه وسلم – فيهم : ( يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم )[8] ] [9] .
ويذكر السيوطي ( ت 911هـ) : أن الخطابي ( ت 388هـ) قال لسائل عن إحدى الشبهات : ( اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحضرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا ، وعليه مطعنا ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ،وأسرعوا بالرد عليه ولكن القوم – أي العرب – علموا ،وجهلت – يريد السائل – ، ولم ينكروا ما أنكرت .. ) [10]
الدليل الثاني : – التعارض الحقيقي يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق[11] :
وذلك أنه لو كان بين النصوص الشرعية تعارض واختلاف لأدى إلى التكليف بما لا يطاق . لأن الشارع لو أمر المكلف بفعل شيئ معين ونهاه عن فعل الشيئ ذاته ، وطلبهما معا : فعل الشيئ وعدم فعله في آن واحد ، وعلى وضع واحد ، لسبب واحد فهو تكليف بما لا يطاق وتكليف ما لا يطاق ، لا يتصور أن يأمر به الشارع . لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 286 :البقرة ) .
الدليل الثالث : – ثبوت التعارض الحقيقي بين الأدلة يؤدي إلى التناقض :
لأن المفروض في الأدلة ثبوت نتائجها في الخارج ، فلو أمر الشارع بنص ، ونهى عنه بنص آخر ، لزم منه أن يكون الشيء الواحد حلالا وحراما ، أو واجبا وحراما ، وهذا تناقض ، والتناقض باطل ، فما أدى إليه يكون هو الآخر باطلا [12] . وهو أيضا محال على الشارع – جل شأنه – ، فهو منزه عن كل قصور ، وهو وحده المتفرد بالكمال .[13]
يقول عبد العزيز بن أحمد البخاري ( ت730هـ) : ( التعارض والتناقض من أمارات العجز ، لأن من أقام حجة متناقضة على شيء ، كان ذلك لعجزه عن إقامة حجة غير متناقضة ، وكذا إذا أثبت حكما بدليل عارضه دليل آخر يوجب خلافه ، كان ذلك لعجزه عن إقامة دليل سالم عن المعارضة ، والله يتعالى أن يوصف به ..) [14]
الدليل الرابع : – الأمر بالرجوع – عند الاختلاف – إلى الكتاب والسنة :
فقد أمرنا الله بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله لرفع أي خلاف أو منازعة لقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول .. )( 59 : النساء ) ، فلو كان بين الآيات القرآنية ، أو بين الأحاديث النبوية تعارض حقيقي ، لما كان في الرجوع إليهما رفع للاختلاف ، بل لو كان بينهما تعارض واختلاف فسيفضي إلى الاختلاف ، لأن كل واحد من المتعارضين سيقيد حكما خلاف حكم الآخر ، ولكن الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فدل على عدم وجود تعارض حقيقي بين الأدلة الشرعية . فإن بقي اختلاف بين المجتهدين بعد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فإنما هو اختلاف في أ فهامهم ومداركهم ، لا في الآيات والأحاديث .[15]
الدليل الخامس: إثبات الناسخ والمنسوخ يدل على عدم وجود التعارض الحقيقي :
فقد أثبت علماء الإسلام الناسخ والمنسوخ في نصوص الكتاب والسنة ، ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما يكونان في دليلين متعارضين ، بحيث لا يصح اجتماعهما بحال ، لأنه لو أمكن الجمع بينها لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، ولو كان التعارض جائزا بينها في الواقع ونفس الأمر ، لما كان للبحث عن إثبات الناسخ والمنسوخ فائدة ، ولكان يصح العمل بكل منهما ابتداء ودواما ، ولكن العمل بالناسخ والمنسوخ معا باطل بالإجماع ، فدل على أنه لا تعارض في الواقع ونفس الأمر . [16]
المذهب الثاني : – جواز التعارض مطلقا ، سواء أكانت الأدلة الشرعية عقلية أو نقلية .[17]
المذهب الثالث : – ذهب جماعة من الفقهاء الشافعية ومنهم البيضاوي ( تـ 685هـ) والشيرازي ( تـ 544هـ) إلى جواز التعارض بين الأمارات ، وعدم جواز ذلك بين الأدلة القاطعة .[18] . وقد استند كل فريق بما يؤيد مذهبه ، وقد ساق الأستاذ عبد اللطيف عبد الله عزيز البزرنجي أدلة كل فريق مع مناقشتها ، ثم أعقبها ببيان الرأي الراجح في نظره ، وعززه بقوله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (82 : النساء ) ، وقال : ( إن قوله تعالى المتقدم يدل بمنطوقه على نفي التعارض بمعنى التناقض ، ويدل بمفهومه على ثبوت التعارض بمعناه العام ، لأن الآية تشير إلى قياس استثنائي تقديره : لو كان القرآن من عند غير الله لوجد فيه الاختلاف الكثير والتناقض ، لكنه ليس فيه الاختلاف الكثير والتناقض ، فثبت أنه من عند الله . ومفهومه : الاختلاف القليل موجود ، وهو لا ينافي كونه من عند الله ) [19]
وهذا الفهم مردود ، إذ الاختلاف الكثير غير موجود ، وكذلك الاختلاف القليل . فأسلوب الآية من قبيل ما يسمى في البلاغة بـ ( عكس الظاهر ) كما في قوله تعالى : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ..) (109 :الكهف ) ، فليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر ، بل لا تنفد أبدا ، لا قبل نفاد البحر ولا بعده . وحاصل الكلام : لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي . [20] وكقوله تعالى : ( ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا .)( 41 : البقرة ) فليس المقصود بالنهي الأول : أن يباح لهم أن يكونوا ثاني الكافرين ، أو ثالثهم ، أو أي ترتيب آخر ، وفيه تعريض بمن يسارعون إلى الكفر .
وليس المقصود في الثاني : أنه يباح لهم أن يشتروا بآيات الله ثمنا كثيرا ، وإنما المقصود : أن لا يشتروا بآيات الله أي ثمن ، قليلا كان أو كثيرا . وفيه تنبيه على أن كل ثمن لا بد أن يكون قليلا بجانب آيات الله تعالى ، وفيه تعريض بمن يسارع بشراء الثمن القليل بآيات الله تعالى .[21]
وكذلك كقوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ..)( 33 :النور ) . فليس المقصود إباحة إكراههم إن لم يردن تحصنا ـ وإنما المقصود النهي عن الإكراه مطلقا ، أردن التحصن ، أم لم يردن [22] . لذلك قال الزركشي : ( وكلام الله منزه عن الاختلاف … إلى أن يقول : ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به ، فاحتيج لإزالته ، كما صنف في مختلف الحديث ، والجمع بينهما ) [23] ، فأرجع حدوث هذا الوهم بالاختلاف إلى أمر خارج عن النص ذاته ، داخل في طريقة التناول وهو ( المبتدئ ) ، يعني : أن قلة الخبرة بالنص ، وبأدوات فهمه ، أو قصور وسائله ، هي المنتجة لهذا التعارض ، وليس في النص نفسه اختلاف كثير أو قليل ، فترتب على ذلك توافر العلماء على درسه ، وتفصيله لإزالته .
[1] – انظر : كشف الأسرار شرح أصول البزدوي : ج3: 77-78. والتلويح على التوضيح : ج3: 38. النسخ في القرآن : 1: 167-169.
[2] – إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من عام الأصول : ص 275. وشرح المحلى على جمع الجوامع : 2: 359. والإبهاج بشرح المنهاج : 3: 142-143.
[3] – إرشاد الفحول : ص 275.
[4] – الكفاية في علم الرواية : ص 606-607.
[5] – المغني في أبواب التوحيد والعدل ، الجزء السادس عشر ج16/ ص 387.
[6] – ابن حزم الأندلسي: الإحكام في أصول الأحكام: ج2/ ص 35. وانظر : دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص176.
[7] – الفقيه والمتفقه: ج1/ ص 221.
[8] – إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: ج6/ ص 55-60.
[9] – الموافقات: ج4/ ص 294. ، و الاعتصام : ج2/ ص 202-204
[10] – الإتقان في علوم القرآن: ج3 / : ص 88.
[11] – أدلة التشريع المتعارضة ووجوه الترجيح بينها . ص 31. وانظر : دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين : ص 193.
[12] – دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص 181.
[13] – الموافقات: ج3/ ص 31. وج4/ ص 76.
[14] – كشف الأسرار ، ج3/ ص 76.
[15] – : الموافقات ، ج4/ ص 119. و أدلة التشريع المتعارضة ، ص 31. ودراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين ، ص 174-176.
[16] – انظر : دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين : ص 195. و التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية : ج1: ص 72. والموافقات : ج4: 121.
[17] – انظر : شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : ج2: 310. وشرح المحلى على جمع الجوامع : 2: 357-359.
[18] – انظر : نهاية السول على منهاج الأصول : 3/ 256. وشرح المحلي على جمع الجوامع 2/359 .
[19] – التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية ، ص ص62-75. وانظر منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث : ص 59-86.
[20] – انظر : البرهان في علوم القرآن : ج3/ ص 399. وانظر : الجنى الداني في حروف المعاني : ص 287.
[21] – أمالي المرتضى : ج1/ ص 231. ( وارجع إلى كتاب تفسير)
[22] – عكس الظاهر في ضوء أسلوب القرآن الكريم ولغة العرب: ص136- 151.
[23] – البرهان : ج2: 45.
دعوى خطأ القرآن في قصة تآمر إخوة يوسف – عليه السلام – عليه والمكر به
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين خطأ القرآن في ذكره معلومات غير صحيحة فيما يتعلق بقصة يوسف – عليه السلام – مع إخوته، وذلك في قوله تعالى: )قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12)( (يوسف) [1]ويتساءلون: من أين جاء القرآن بهذه المعلومات، مع أن التوراة لا تذكرها؟
وجها إبطال الشبهة:
1) مكر إخوة يوسف – عليه السلام – به والتآمر عليه نية مسبقة، تتفق مع الطبائع البشرية، وسياق الأحداث تثبت هذا التآمر وأنه ليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة.
2) نسخ التوراة الثلاثة (العبرانية، واليونانية، والسامرية) لا تتفق في القصة اتفاقا تاما، فأيهما نصدق القرآن الكريم، أم التوراة المحرفة؟!
التفصيل:
أولا. مكر إخوة يوسف به والتآمر عليه نية مسبقة، تتفق مع الطبائع البشرية، وسياق الأحداث يثبت هذا التآمر وأنه ليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة:
إن المتأمل في آيات القرآن الكريم التي ذكرت قصة يوسف – عليه السلام – مع إخوته، وما ورد فيها من طلب إخوة يوسف – عليه السلام – من أبيهم أن يسمح بخروج يوسف – عليه السلام – معهم للعب، وما ورد في التوراة من قصة يوسف – عليه السلام -، من أن يعقوب – عليه السلام – هو الذي أرسل يوسف – عليه السلام – إلى إخوته في البرية – يجد أن الذي يتفق مع الواقع هو ما ذكره القرآن الكريم، أما التوراة فهي التي تتضمن المعلومات المغلوطة. فالذي يتفق مع الواقع أن إخوة يوسف – عليه السلام – بيتوا النية مسبقا للتخلص من يوسف – عليه السلام – فقالوا متآمرين: )اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9)( (يوسف). وهذا يتفق مع إحساسهم بأن يوسف – عليه السلام – أثير لدى أبيهم، فقد حقدوا عليه وحسدوه على حب أبيه إياه، وعلى ما أتاه الله من علم وجمال وجلال، فتآمروا على قتله وإبعاده عن أبيه بطرحه في أرض بعيدة لا يمكنه الرجوع منها إليه، ولا يعرف أحد من أهله مكانه فيأتي به إلى أبيه.
وقد بنوا على ذلك آمالا وأحلاما تدل على سفه عقولهم، وفساد رأيهم وقسوة قلوبهم، فقد تصوروا أنهم بتخلصهم من يوسف – عليه السلام – سوف يحوزون حب أبيهم، واعتماده عليهم في كثير من شئون الحياة، وهم عصبة؛ ولذلك رأوا أنهم أحق بحب أبيهم، ولم يعلموا أن عاطفة الحب لا يمكن أن تتحول بمجرد إرادة الإنسان لها، فحب يعقوب – عليه السلام – لولديه يوسف – عليه السلام – وبنيامين، نابع من كونهما صغيرين ضعيفين، والآخرون عصبة، ولكن خاب ظنهم فأي صلاح يكون لإخوة يوسف – عليه السلام – بعد أن يبعدوه عن أبيه، وهو قرة عينه؟ وهل مثل هذه الجريمة مما يطويه النسيان، أو يقلل من حدة وقعها مر الزمان؟!
أما كيدهم ليوسف – عليه السلام – دون أخيه فربما يرجع إلى أن أخاه كان صغيرا جدا ليس له عند أبيه من المكانة ما ليوسفـ عليه السلام – ولعلهم أحاطوا علما بالرؤيا التي رآها يوسف – عليه السلام – وعلموا تأويلها، وأدركوا أنه سيعلوهم ويسودهم، ويضطرون إلى استجدائه والسجود له؛ فمكروا به، ودبروا له دون أخيه.
وهذا يتفق مع الواقع وسياق الأحداث، وطبائع النفوس المريضة التي إذا تحكم فيها الهوى فكرت ودبرت للكيد والانتقام.
أما تصوير التوراة للموقف فإنه يختلف تماما، فالذي جاء فيها أنهم انتظروا إلى حين إرسال يعقوب ابنه يوسف – عليهما السلام – إليهم، وبناء على هذا لو لم يرسله أبوه لما حدث ما حدث، وهذا لا يتفق مع نيتهم المبيتة، وتآمرهم السابق، فيوسف – عليه السلام – يذهب إلى إخوته، وهم يرعون مواشيهم ليطمئن عليهم وعلى سلامة الغنم، والإخوة يفكرون في التخلص منه حين يرونه (وهذا وفق ما جاء في سفر التكوين في الإصحاح السابع والثلاثين) وهذا غير مستقيم لدينا؛ لأن يعقوب – عليه السلام – نهى يوسف – عليه السلام – عن قص رؤياه على إخوته، حين سمعها منه، فهو يخاف على ابنه من بغضهم وكراهيتهم له، فكيف يرسله إليهم في البرية؟
ولذلك تحكي الآيات القرآنية الدافع وراء التآمر على حياة يوسف – عليه السلام – وهي: )إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8)( (يوسف). فهناك السبب العاطفي وهو إيثار أبيه له ولأخيه بالحب كما فصلناه. والسبب الثاني: أنهم رأوا قوتهم في عصبتهم، ومدى نفعهم لأبيهم أكثر من صغيرين نالا محبة أبيهم، ويبدو أن الشيطان دخل إليهم من خلال اختلاف الأمهات.
وقد جعل كاتب التوراة فكرة القتل لدى إخوة يوسف وليدة اللحظة التي رأوا فيها يوسف قادما عليهم من بعيد، ولكن بالتأمل في سرد التوراة فيما بعد يتضح أن هناك تآمرا، فإنهم على دراية بالمنطقة الصحراوية، والبئر كانت محددة في أذهانهم من قبل، بدليل قولهم: “اطرحوه في هذه البئر”. (التكوين 37: 22). فاستخدام اسم الإشارة “هذه” يدل على اتفاق سابق على نوع البئر المطلوبة.
كما أن التوراة تقول على ألسنتهم: هل نقتله ونطرحه في إحدى الآبار، أي أنهم سيجمعون بين القتل والطرح في البئر، وكلاهما وسيلتا قتل، ولكن القرآن ذكر أنه ألقي حيا، كما نص على أن إخوة يوسف – عليه السلام – ليسوا قتلة محترفين، يقتلون لمجرد القتل، وإنما القتل إحدى وسائل التخلص من يوسف – عليه السلام – ومن هنا كان الخيار الثاني “اطرحوه أرضا”، وجاءت كلمة “أرضا” نكرة كدليل على أن هؤلاء الإخوة سيتجهون في كل ناحية؛ حتى يجدوا منطقة مليئة بالذئاب، أو تكثر فيها الآبار.
ومن هنا بدأ الاحتيال؛ لذا قالوا لأبيهم: )قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (12)( (يوسف)، فقد كانوا يعرفون خشية أبيهم عليه منهم لسوء صنيعهم وإهمالهم له، وهم تحت عينيه فكيف بهم إذا كانوا خارج البيت في أرض قفر؟! وقد حاولوا إقناعه ليثق بهم، ويصدق قولهم، باعتبارهم سيقومون على حراسة يوسف، وحفظه من العوادي، والمؤذيات، ولكن أباهم لم يكن غافلا عنهم، ولا خافيا عليه أمرهم فهو نبي مرسل، له من النور ما يميز به الصدق من الكذب، لقد تفرس الكذب في وجوههم وعرف ما انطوت عليه سرائرهم، فأفصح عما يكنه قلبه، وما يعتمل في نفسه، وصارحهم بالحقيقة التي ما غابت عنه لحظة؛ لذا قال لهم: )قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف)، وهذا ما لم تذكره التوراة، فهذه مزية في القرآن الكريم، وليس عيبا فيه، وصدق الله: )إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76)( (النمل)، ولم يذكر القرآن أن يعقوب اتهم بنيه بالغفلة، وإنما قال لهم: )وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13)( (يوسف) فهو يخشى أن يحدث ذلك.
ثانيا. نسخ التوراة الثلاثة لا تتفق على القصة اتفاقا تاما فأيهما نصدق: القرآن الكريم أم التوراة المحرفة؟!
مما يؤكد ما جاء في القرآن الكريم من قصة يوسف – عليه السلام – أنه هو الحق الذي لا مراء فيه أن نسخ التوراة تتناقض فيما بينها؛ فما نجده في نسخة منها قد لا نجده في الأخرى، وهذا دليل على بشريتها وأنها من تأليف النساخ والكتاب، فما جاء في القرآن، ولم يجئ في التوراة، لا يدل على إيراد شبهة على القرآن؛ ذلك لأن نسخ التوراة الثلاثة: العبرانية، واليونانية، والسامرية – لا تتفق مع القصة اتفاقا تاما.
ففي اليونانية نجد قصة “صواع الملك” وليس في العبرانية صواع الملك، وفي التوراة العبرانية ترجمة البروتستانت: “ولما كانوا قد خرجوا من المدينة، ولم يبتعدوا؛ قال يوسف للذي على بيته: قم اسع وراء الرجال، ومتى أدركتهم فقل لهم: لماذا جازيتم شرا عوضا عن خير؟ أليس هذا هو الذي يشرب سيدي فيه، وهو يتفاءل به؟ أسأتم فيما صنعتم”. (التكوين 44: 4، 5)، وفي الكتاب المقدس في الشرق الأوسط: “فما أن خرجوا من المدينة، وابتعدوا قليلا حتى قال يوسف لوكيل بيته: قم اتبع هؤلاء الرجال، فإذا لحقت بهم فقل لهم: لماذا كافأتم الخير بالشر؟ لماذا سرقتم كأس الفضة التي يشرب بها سيدي، وبها يرى أحوال الغيب؟ أسأتم فيما فعلتم”.
وهنا نلاحظ تناقض التوراة بشأن الشيء المسروق، فتارة يكون “صواع الملك” وفي نسخ أخرى يكون “كأس الفضة”، ولا توجد إشارة إليه في بعض النسخ[2]، فما جاء في القرآن الكريم – إذن – هو الصواب، فهو المصوب لأخطاء السابقين بل إن القرآن يضيف حقائق لم تذكر عندهم، وهو الكتاب الخاتم الذي حفظه الله تعالى من التحريف، والتبديل، )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر) [3].
الخلاصة:
مكر إخوة يوسف – عليه السلام – به والتآمر عليه نية مسبقة تتفق مع الطبائع الإنسانية، وسياق الأحداث، وليس وليد اللحظة كما ذكرت التوراة، فالتآمر على قتله والتخلص منه يتفق مع إحساسهم بأن يوسف – عليه السلام – يستأثر بحب أبيه، كما ينبع من حقدهم عليه وحسدهم له لجماله، وعلمه، وجلاله، فقد أراد كاتب التوراة أن يخفف من حدة فكرة القتل لدى إخوة يوسف – عليه السلام – ولكن المعلومات التي تسردها التوراة فيما بعد تبين أن هناك اتفاقا مسبقا على طريقة القتل ونوع البئر المطلوبة، وليس وليد اللحظة التي رأوا فيها أخاهم مقبلا عليهم فراودتهم فكرة التخلص منه، فهل يعقل أن يرسل لهم يعقوب – عليه السلام – ابنه مع علمه أنهم يحقدون عليه ويحسدونه لمكانته لدى أبيهم!
التوراة المحرفة تتناقض فيما بينها في هذا الشأن، فنسخ التوراة الثلاث لا تتفق على القصة إطلاقا، فأيهما نصدق: القرآن المحكم أم التوراة التي حرفت؟!
(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. Islamyet.com
[1]. يرتع: يلهو.
[2]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425/ 2004م، ص490.
[3]. للمزيد انظر: جولة نقدية في نصوص الرواية التوراتية، محمد صالح توفيق، دار الهاني، القاهرة، 1426هـ/ 2005م. قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م.
ادعاء أن القرآن الكريم يدعو إلى إرهاب غير المسلمين
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى إرهاب اليهود والنصارى، ويحث على قتالهم، ويقولون: إن كل الآيات التي تدعو إلى التسامح في القرآن الكريم منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( (التوبة: 5)، ومنسوخة بالعديد من الآيات الأخرى، مثل قوله تعالى: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة( (الأنفال: 39)، وقوله تعالى: )واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم( (البقرة: 191) وقوله تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل( (الأنفال: 60) مدعين أن الإرهاب صناعة إسلامية يزعم المسلمون أنها بأمر من الله!
وجوه إبطال الشبهة:
1) الآيات التي تدعو إلى التسامح مع غير المسلمين كثيرة جدا وهي غير منسوخة، كما يدعي هؤلاء المتوهمون.
2) آية السيف التي ذكرها هؤلاء جاءت بعد ظلم المشركين للمسلمين، وليس فيها دعوة إلى استمرار القتال مع غير المسلمين.
3) فرق القرآن الكريم بين المعتدين من أهل الكتاب وغير المعتدين منهم، فلكل فريق معاملة خاصة.
4) الكتاب المقدس مليء بالتعاليم والأوامر الإرهابية التي يرمون بها غيرهم.
5) فرق كبير بين الإسلام وبين المسلمين، فإن كانت أخطاء بعض الأفراد وممارساتهم غير مقبولة، فالمنهج الإسلامي لا يتحمل تبعات هذه الممارسات الخاطئة.
التفصيل:
أولا. الآيات التي تدعو إلى التسامح مع غير المسلمين كثيرة جدا، وهي غير منسوخة، كما يدعي هؤلاء المتوهمون:
لقد اشتمل القرآن الكريم على العديد من الآيات التي تدعو إلى التسامح مع غير المسلمين؛ لأن الإسلام دين التسامح والرحمة، والمعاملة الحسنة مع غير أهله، ولم لا وهو دين العالم كله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، انظر إلى قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256) فالقرآن الكريم يؤكد حرية العباد في اختيار دينهم الذي يؤمنون به، ولكن في مقابل ذلك يكون العبد مسئولا عن اختياره هذا، ويحاسب عليه يوم القيامة، فإن كان خيرا فلنفسه، وإن كان شرا فعليها: )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة) واقتصر دور الرسول – صلى الله عليه وسلم – على الترغيب والترهيب، والإنذار والبلاغ، ولم يؤمر بإكراه الناس على الدخول في الإسلام، وهذا المعنى واضح في العديد من الآيات الكريمة، ومنها قوله تعالى: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29) وقوله تعالى: )فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22)( (الغاشية) وقولــه تعالــى: )فإن أعرضــوا فمــا أرسلنــاك عليهــم حفيظــا( (الشورى: 48) والآيات التي تتضمن حرية الاعتقاد في القرآن أكثر من أن تحصى، فأين هذا الإرهاب الذي نزل في القرآن ليجبر الناس على الدخول في الإسلام دون رغبة منهم؟ هذا ادعاء باطل ولا صحة له.
ثانيا. آية السيف التي ذكرها هؤلاء جاءت بعد ظلم المشركين للمسلمين، وليس فيها دعوة إلى استمرار القتال مع غير المسلمين:
لم ينظر أصحاب هذا الادعاء إلى الظروف المحيطة التي نزلت فيها آية السيف التي يعتمد عليها هؤلاء، فالله تعالى يقول: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد( (التوبة: 5). والحقيقة أن هذه الآية جاءت بعد ظلم الكفار للمسلمين، وإخراجهم من ديارهم، وأخذ أموالهم وصب العذاب عليهم، في هذا الوقت لم يأذن الله للمسلمين بصد هذا العدوان الذي كان من قبل الكفار والمشركين، وعندما استفحل الظلم أذن الله تعالى للمسلمين بالقتال: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج) ونصر الله المسلمين بجنود لم يروها؛ لأنهم أصحاب رسالة سماوية، ودين رباني من عند الله تعالى، فأين الدعوة إلى قتل الناس بغير وجه حق، كما يدعي هؤلاء؟!
ويذكر الشيخ محمد الغزالي أن ابن تيمية ألف رسالة صغيرة عن القتال في الإسلام، وتساءل: هل قتال الكفار بسبب كفرهم أم لعدوانهم على المسلمين؟! وذكر رأيين لعلماء المسلمين:
الأول: يرى أنه بسبب كفرهم.
الثاني: يرى أنه بسبب عدوانهم على المسلمين، ورجح ابن تيمية الرأي الثاني، وذكر أنه قول جمهور علماء المسلمين، وهذا الرأي تدل عليه نصوص القرآن والسنة ومعاملة المسلمين لغيرهم، فقال تعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة) فقوله تعالى: )الذين يقاتلونكم( تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا، فهذا دليل على علة الأمر بالقتال، وقال )ولا تعتدوا( فالقتال مقتصر على صد الظلم فقط، ولا يتعداه إلى العدوان والبغي. وقوله: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة( فالفتنة هي تحويل المسلمين عن دينهم قسرا، مثلما كان يفعل الكفار والمشركون بالمستضعفين، فقتال هؤلاء يكون لكسر شوكتهم وإعجازهم عن إحداث الفتنة بين المسلمين، ولم تقل الآية “قاتلوهم حتى يسلموا”.
والسنة المطهرة فيها العديد من الإشارات إلى تحريم العدوان في القتال، فجاء عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه في بعض غزواته مر على امرأة مقتولة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل»[1]. فكره هذا العمل من قبل من قتلها؛ لأنها لن تستطيع القتال، لا سيما وقد جاءت رواية في الصحيحين صريحة في الإنكار، فقد جاء عن عبد الله بن عمر «أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي – صلى الله عليه وسلم – مقتولة، فأنكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتل النساء والصبيان»[2].
ويتابع الشيخ محمد الغزالي حديثه عن الادعاء القائل إن آية السيف نسخت كل الآيات التي تدعو إلى حسن معاملة غير المسلمين قائلا: وقد ادعت طائفة أن الآية منسوخة، قال ابن تيمية وهذا رأي ضعيف ودعوى النسخ تحتاج إلى دليل وليس في القرآن ما يناقض الآيات التي ذكرناها، بل فيه ما يوافقها فمن أين يجيء النسخ؟
ثم يقول الشيخ: الدليل الذي يعتمد عليه القائلون بالنسخ ما يسمى بآية السيف، يعنون قوله تعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( (التوبة: 5) وفي هذا الكلام تلبيس خطير يجب أن ينكشف لكل ذي لب، فإن كلمة المشركين هنا فسرت في الآيات السابقة والآيات اللاحقة بأنهم قوم تفاحش عدوانهم حتى بلغ حدا لا يطاق، وأنهم جماعة من الفتاك القادرين، تعرفهم عندما تقرأ الآية التي استثنت من تصان دماؤهم من المشركين وهي قوله تعالى: )إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا( (التوبة: 4) هؤلاء المعتدون هم الذين أعلنت الحرب عليهم في سورة براءة، وأعطوا أربعة أشهر مهلة ليروا ما يصنعون بأنفسهم، فهل هذا الحكم يطابق أم يخالف آية)وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة)؟ إن القول بالنسخ – نسخ أنه لا قتال إلا للمعتدين – لا مساغ له أبدا، ولا يدل عليه فقه في القرآن الكريم[3].
ثالثا. فرق القرآن الكريم بين المعتدين من أهل الكتاب وغير المعتدين منهم، فلكل معاملة خاصة:
لقد فرق القرآن الكريم بين نوعين من غير المسلمين:
الأول: من بينهم وبين المسلمين عهد ويحافظون على هذا العهد.
الثاني: الذين لا يحافظون على عهودهم مع المسلمين، أو الذين لا عهود لهم مع المسلمين، فلكل فريق منهم معاملة خاصة، فالذين على عهدهم مع المسلمين لا يجوز للمسلمين محاربتهم ما داموا على عهدهم معهم، بل يحرم على المسلمين محاربتهم بدون وجه حق، أما الذين ينقضون عهودهم مع المسلمين، أو ليس لهم عهد مع المسلمين، فإن اعتدوا على المسلمين فيجب على المسلمين رد هذا العدوان بكل قوة، قال تعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، فالذين لم يقاتلوا المسلمين لهم حق الأمان على المسلمين، وعدم التعرض لهم ما داموا على عهدهم، أما الذين يعادون المسلمين فليس لهم أية حقوق، بل تجب محاربتهم إن اعتدوا ولكن هذه الحرب لمجرد صد العدوان فقط، وهذا ما تدل عليه العديد من الآيات التي جاءت في القرآن الكريم ويصعب حصرها.
فأما قوله تعالى: )فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق( (محمد: 4) فهذه الآية تصف الحالة التي يجب أن يكون عليها المسلمون في ميدان المعركة، فيجب أن يكونوا شديدي البأس على الكفار الذين بدأوا بالعداء والعدوان، فهذه الآية لا تجمع كل الذين كفروا، بل تخص الذين اعتدوا منهم دون غيرهم من الكفار المسالمين، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( (الأنفال: 60) فالإرهاب الذي في الآية موجه إلى عدو الله وعدوكم الذي بدأ بالعدوان ولا يوجه هنا للمسالمين من غير المسلمين، فيجب أن يفهم السياق الذي وردت فيه الآيات لكي تفسر تفسيرا صحيحا.
إذن فإرهاب أعداء الله مطلب رباني، ولكن من هم أعداء الله المقصودون؟ إنهم الذين يبدأون بالعداء على المسلمين، أما المسالمون فلا يحق للمسلمين إرهابهم.
رابعا. الكتاب المقدس مليء بالتعاليم والأوامر الإرهابية التي يرمون بها غيرهم:
قبل أن يتحدث أصحاب هذا الادعاء عن معاداة المسلمين لغيرهم وإرهابهم، يجب عليهم أن ينظروا – أولا – في كتابهم المقدس وما فيه من نصوص تدعو إلى إرهاب غيرهم، فهي أكثر من أن تحصى في هذا الموضع، ونشير إلى بعض هذه النصوص التي تحض على العدوان على غيرهم.
ففي سفر التثنية – بعد التحريف – تأتي أوامر الرب – حاشاه تعالى – لموسى – عليه السلام – بقتل جميع ما في المدينة حتى البهائم، والنص يقول: “فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها كاملة”. (التثنية 13: 15، 16)، ففي هذا النص إشارة واضحة إلى القتل والحرق لكل من في المدينة، حتى البهائم التي لا ذنب لها في شيء.
وفي السفر نفسه يقول: “وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة”. (التثنية 20: 13 – 16).
وفي سفر العدد نجد أن النص يقول: “إن موسى – عليه السلام – يقول لشعبه من بني إسرائيل، فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها”. (العدد 31: 17).
كل هذه النصوص نعرف أنها نصوص باطلة ويستحيل أن تصدر عن الله تعالى أو عن نبي من أنبياء الله الكرام، ولكننا نقيم الحجة عليهم بنصوص من الكتاب الذي يؤمنون به، ويزعمون أنه من قبل الله – عز وجل – فهي تدعو إلى قتل الكبار والنساء والأطفال، حتى البهائم التي لا تعقل تقتل مع هؤلاء، فأين السماحة التي تدعو إليها كتبهم المقدسة من السماحة التي يدعو إليها القرآن الكريم والمسلمون بالقول والفعل؟!
خامسا. فرق كبير بين حقائق الإسلام وبين تطبيق المسلمين لهذه الحقائق:
هناك فرق كبير بين الشرع ومن يطبق الشرع، فإن كان من بين المسلمين من هو فاسد الرأي بعيد عن الفهم الصحيح لنصوص الدين، فلا يعني هذا فساد الإسلام بالضرورة، ولتنظر إلى حديث القرآن عن الأسرى الذي ظهر في ثلاثة محاور هي:
الإحسان إلى الأسرى في النواحي الإنسانية، ومصداق ذلك في القرآن الكريم هو قوله تعالى: )ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9)( (الإنسان)، وجمعت الآية بين هؤلاء جميعا؛ لأنهم أصحاب أعذار.
الإحسان إلى الأسرى في النواحي المعنوية، وذلك من خلال مواساتهم وتقديم النصح لهم، ولذلك أمر الله تعالى رسوله – صلى الله عليه وسلم – بدعوة الأسرى إلى الدين الحق، فقال تعالى: )يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم (70)( (الأنفال).
التصرف في الأسرى يكون عن طريق أمرين: إما المن وإما الفداء، فقال تعالى: )فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها( (محمد: 4)، فقد جعل جمهور الفقهاء مصائر الأسرى الحربيين البالغين إلى الإمام؛ إما أن يقتلهم، أو يسترقهم، أو يمن عليهم، أو مفاداتهم بمال أو نفس، أو يمن عليهم بأن يجعلهم أهل ذمة وعليهم الجزية. ويتفق الفقهاء على أن الأصل في السبايا من النساء والصبية أنهم لا يقتلون.
هذا هو الإسلام وهذا هو الشرع، أما تطبيق المسلمين لهذا الشرع فهو شيء آخر، فقد يكون التطبيق تطبيقا صحيحا، وقد يكون عكس ذلك، فلا نتهم الإسلام والقرآن بغير ما فيه، فأين هذا الإرهاب الذي يزعمون في حق الإسلام، فالإسلام بريء من مثل هذه الدعاوى الباطلة والكاذبة.
الخلاصة:
الآيات التي تدعو إلى التسامح من قبل المسلمين مع غيرهم كثيرة، ولا يمكن حصرها، ومن هذه الآيات قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256) وغيرها، ونرى أن القتال فرض على المسلمين فرضا، سواء كان مع الوثنيين أم مع الكتابيين واضطر المسلمون لخوضه دفاعا عن أنفسهم وعقيدتهم ووجودهم.
الآية التي قيل بأنها نسخت كل الآيات التي تدعو إلى التسامح مع غير المسلمين، والتي يطلق عليها آية السيف، هذه الآية كانت متعلقة بالظروف والسياق الذي وقعت فيه، حتى يفهم معناها ويزال اللبس والتوهم، والقول بأنها تنسخ ما قبلها قول لا يعتمد على دليل واضح وصادق، فهذا مجرد ادعاء باطل.
معاملة المسلمين لغيرهم ليست واحدة على طول الخط، بل تنقسم قسمين:
o الأولى: مع الذين لم يعادوا المسلمين وبينهم وبين المسلمين عهد، فهؤلاء لهم حق الأمان على المسلمين في مقابل دفع الجزية.
o والثانية: معاملة المسلمين مع الذين يبدأونهم بالعداء أو الذين ليس بينهم وبين المسلمين عهد فهؤلاء يصد المسلمون عدوانهم فقط، ولا يتعدى هذا الصد حدوده التي حددها الله ورسوله.
قبل الحديث عن دعوى إرهاب المسلمين لغيرهم من اليهود والنصارى يجب أن ننظر إلى نصوص كتابهم المقدس، وما فيه من دعوات صريحة إلى إرهاب الناس وقتلهم، حتى البهائم لم تسلم من هذا العدوان.
فرق كبير بين الإسلام وبين تطبيق المسلمين لقواعده وتشريعاته، فالإسلام رسالة سامية ومبادئ مثالية ودين حق، أما المسلمون فقد يلتزمون هذه المباديء، وقد يهملونها أحيانا، فمخالفتهم لها عيب فيهم لا فيها.
إن من الجهل المخزي أن يتحدث عن الإسلام من لا يعرف إعجازه العقلي وقدرته الذاتية على الانتشار والانتصار.
(*) مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م.
[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث رباح بن الربيع رضى الله عنه (16035)، وأبو داود في سننه، كتاب الجهاد، بـــاب في قتــل النســاء (2671)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2324).
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قتل الصبيان في العرب (2851)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، بــاب تحريــم قتـل النسـاء والصبيـان في العـرب (4645).
[3]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص77 وما بعدها.
ادعاء أن القرآن يحث على الاعتداء على الآخر بفرضه الجهاد
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن يدعو إلى الاعتداء على المخالفين، والانتقام منهم، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة). ويتساءلون: كيف يأمر القرآن المسلمين أن يقاتلوا الناس، ويخيروهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن وفي أهداف الجهاد الإسلامي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الأمر بالجهاد لرد العدوان، وصد الغاصبين.
2) للجهاد المشروع في الإسلام ضوابط عديدة قبل القتال وفي أثنائه وبعده.
3) الفتوحات الإسلامية خير شاهد على سماحة الإسلام وأهله.
4) الإسلام دين الرحمة والسلام، وأتباعه حملة دعوة سامية وشريعة رحيمة يوصلونها بجهادهم النبيل إلى كل الدنيا.
التفصيل:
أولا. الأمر بالجهاد في الإسلام كان لرد العدوان وصد الغاصبين:
اصطلح الغرب على مقابلة كلمة “الجهاد” بالحرب المقدسة. وهو مفهوم خاطئ، فالجهاد في الإسلام نوعان: جهاد النفس، والجهاد بمعنى الحرب المشروعة.
أما الجهاد بالمعنى الأول: فقد كلف به المسلمون لتصفية أنفسهم من الشرور والأحقاد، والوصول إلى درجة من النقاء لا تتأتى لذوي النفوس المريضة. فالمعروف أن النفس البشرية تحتوي على نوازع الخير والشر، وتختلف طبيعة البشر في هذا، فهناك من يعلو داخله صوت الخير، والعكس صحيح (وكلما حاول الإنسان جهاد نفسه وتهذيبها نال القرب من الله، وهذا النقاء يساعده على التغلب على أهوائه وطبيعته البشرية).
أما المعنى الثاني للجهاد: فيطلق عليه الجهاد الأصغر. أي تلك الحرب القائمة على رد العدوان إذا هو حرب دفاعية، فلم يتعطش المسلمون يوما للدماء وسوف نفصل في هذا.
وآيات القرآن واضحة، فنرى في هذا السياق أن المسلمين لم يؤذن لهم بالجهاد إلا بعد طغيان المشركين آنذاك وتطاولهم على الرسول ومن معه، قال تعالى: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا( (الحج: 39) هذا دون اعتداء أو وحشية؛ لأن هذا يتنــافى مــع تعاليــم ديننــا الحنيــف، حيـــث قــال – عز من قائــل: )وقاتلــوا في سبيــل الله الذيــن يقاتلونكــم ولا تعتــدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة) إذن فالأمر بالقتال هنا كان دفاعا عن النفس، فالإسلام لا يهوى إراقة الدماء، )كتب عليكم القتال وهو كره لكم( (البقرة: 216).
وإذا كان الجهاد يعني الحرب الدفاعية فإن ذلك لا يقتصر على القتال، فقد يكون الجهاد بالمال أو بالنفس، أو بالفكر، أو بأي وسيلة أخرى تساعد على رد عدوان المعتدين بكل صوره: استعمار، غزو ثقافي أو فكري، احتلال عسكري… فالهدف إذن هو حماية المجتمع الإسلامي والدفاع عن عقيدته، وهذا حق مشروع لكل أمة من الأمم كما تؤكده المواثيق الدولية.
والإسلام يدعو إلى التعايش السلمي مع الآخرين وإقامة علاقات طيبة معهم ما لم يعتدوا على المسلمين: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، ومن هنا نجد أن القرآن يحث المسلمين على التعامل معهم بالعدل والإنصاف، والبر، والإحسان: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة).
ثانيا. للجهاد المشروع في الإسلام ضوابط عديدة:
وإذا كان هذا العمل في سبيل مرضاة الله فقد شرع له ضوابط تنظمه؛ لئلا يكون ظلما والله – عز وجل – هو الحكم العدل، لاحظ هذه الآية: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة) قد اشتملت هذه الآية على أربعة ضوابط للقتال المأمور به:
أن يكون مقصورا على من قاتلنا فعلا، أو ظنا مقرونا بالدلائل.
أن يكون القتال في سبيل الله؛ أي لنصرة الحق لا من أجل المصالح، أو الأهواء الشخصية، أو الانتقام فقط.
تجنب التجاوزات؛ مثل: قتل الشيوخ والنساء، والذرية الضعفاء، والرهبان المعتزلين في خلواتهم، بل وجميع المدنيين الذين لا يقاتلون.
الترهيب من الاعتداء بعد النهي عنه؛ لأن الله لا يحب المعتدين.
أما أنواع هذه الضوابط، فهي:
ضوابط قبل بدء القتال ومنها:
ألا نقاتل العدو إلا إذا سدت كل الطرق أمام التوصل إلى عقد اتفاق سلمي حول النزاع الناشب بيننا وبينه.
ألا نبدأهم بالقتال إلا إذا بدأوا هم مع أخذ الحذر الدقيق منهم، وترقب حركاتهم حتى لا نؤخذ على غرة[1]، ويجوز مبادأتهم بالقتال في حالات الضرورة.
أنه إذا كان بيننا وبينهم عهد بعدم الاعتداء وبدرت منهم بوادر قوية على خيانة العهد، فيجب علينا أن نعلمهم بنقض العهد من جانبنا قبل أن نقاتلهم، عملا بقوله تعالى: )وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)( (الأنفال).
ضوابط في أثناء القتال:
وهي تشرح الاعتداء المنهي عنه في ضوابط القتال، بالإضافة إلى أمرين:
عدم المثلة[2] بالقتلى، لتقطيع أطرافهم، وتعليقهم على حوامل، أو أعمدة، أو بقر بطونهم، أو تلطيخ وجوههم بمواد مشوهة، فقد ثبت النهي عن المثلة؛ لأنها حقيرة ولا تليق بكرامة الإنسان مسلما كان أو غير مسلم.
الاستجابة إلى كف القتال، إذا طلب العدو بشرط الحذر من الخديعة،)وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال).
ضوابط ما بعد القتال وهي ضربان:
الأول: سلوكيات تتعلق بأثر القتال وما نتج عنه، مثل: التصرف في الأسرى، فقد كان مصيرهم قبل أن يقتلوا ثم أصبحوا في دائرة المن أو الفدية، على حسب تقدير إمام المسلمين للمصلحة العامة: )فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء( (محمد: 4). كما حث القرآن هنا على العفو: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال) والمعاملة بالحسنى، واستبعاد الاسترقاق، والقتل، وغيرها من أعمال وحشية لا تليق بتسامح الإسلام والمسلمين.
الثاني: سلوكيات تختص بواقع المسلمين بعد إحراز النصر، وهي الالتزام الكامل بمنهج الله من التواضع، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر الله، واتباع هديه في كل شئون الحياة الخاصة والعامة، تأمل قوله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)( (الحج) ومن الأمانة أن ندلي هنا بشيء هام مؤداه أن معظم الغزوات التي خاضها المسلمون كانت باختيار العدو.
وجهاد الكفار فرض كفاية على المسلمين إذا كانوا ببلادهم والغرض منه إعلاء كلمة الله، وتبليغ دعوة الحق للناس حتى يهتدوا بنور الله، فالحرب وسيلة لا غاية، وهي ضرورة يلجأ إليها المسلمون إذا عجزت الوسائل السلمية، عن إقرار الحق في الأرض.
وقتال الكفار ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود هو هدايتهم إلى الدين الحق، وعدم التعرض للدعاة، وإذا تأملنا هذا الحديث لفهمنا المراد من فرضية الجهاد. فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – «أن أعرابيا أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه.. فمن في سبيل الله؟ قال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله»[3].
إذن فأسباب القتال خمسة: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب، ليس فيها ما يؤجر عليه المرء إلا إذا قصد بذلك مرضاة الله.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال الرسول: “لا شيء”، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له، وابتغي به وجهه»[4] [5].
ثالثا. الفتوحات الإسلامية خير شاهد على سماحة الإسلام وأهله:
ويوضح د. محمود محمد طنطاوي في كتابه السلام والحرب في الشريعة الإسلامية هذا الموضوع فيقول:
لم تقم الفتوحات الإسلامية على التخريب والنهب مثلما هو الحال في الاستعمار الذي يهدف إلى إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم الظاهرة والباطنة، وبالتالي تقييد الحريات، وظلم العباد، وإنما قامت على أسس حضارية، ولو نظرنا إلى مدى التقدم والازدهار التي وصلت إليه الأندلس على يد المسلمين آنذاك، وهي جزء من أوربا، لعرفنا حرصهم على إنقاذ البشرية وإخراجهم من غيابات الجهل.
ومما يدعم قولنا هذا تلك المقولة التي حفظها لنا التاريخ لهذا الصحابي الجليل الذي ربما لم تكتب له الشهرة، ولكن قوله أدل عليه من تعريفنا له، قال “ربعي بن عامر” يخاطب التاريخ، والحاضر، والمستقبل موضحا هدف المسلمين في فتح البلاد: “جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
إذن فهذه الفتوحات جاءت لإزالة العقبات بين الناس وبين دين الله، حيث لا يكون للفراعنة، ولا للقوارين[6]، ولا للهامانات[7] أي تأثير على قرارهم حين يعرض عليهم دين الله “الإسلام” وبعد إزالة العقبات يكون للناس مطلق الاختيار؛ لأنــه: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256) فــــإن فعلــوه وإلا )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون) لأنــه: )ومــا علـــى الرســول إلا البــلاغ المبيــن (18)( (العنكبوت) [8].
رابعا. الإسلام دين الرحمة والسلام:
الإسلام يدعو إلى العدل والسلام، ويصون حرية الإنسان وكرامته، فهو )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء) كما ورد في القرآن الكريم، وقد وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالته بقوله: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»[9]. والإسلام يمنح الإنسان حرية الاختيار حتى في أمور الاعتقاد: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: 29) والدعوة إلى الإسلام تقوم على الإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: 125)، كما يتضح رفق الإسلام في قوله تعالى آمــرا موســى وأخــاه هـــارون: )فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)( (طه) ودعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة: )ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)( (فصلت).
وقد عفا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل مكة عند فتحه لها رغم إساءتهم إليه، وإخراجه من وطنه، وقتل أصحابه وتعذيبهم، وقال لهم:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[10]. أفلا يدل هذا على تسامح الإسلام وحقنه للدماء، مقارنة بحروب الآخرين المقدسة التي قتلوا فيها وصلبوا وذبحوا النساء والشيوخ والأطفال (الحروب الصليبية مثلا)؟!
أما عن كلمة الإسلام فهي مشتقة من السلام، أي لا مكان للعنف، أو القهر، أو الإرهاب، وترويع الآمنين. فكل إنسان آمن على حياته، ودينه وعقله، وأسرته وممتلكاته.
ومن هنا حرم الإسلام الاعتداء على الآخرين، حتى جعل الاعتداء على فرد واحد من أفراد الإنسانية كأنه اعتداء على البشرية كلها: )من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا( (المائدة: 32) وفي الحديث الشريف:«من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما»[11]. أفبعد كل هذه البراهين يصرون على أن الإسلام يحض على سفك الدماء؟!
الخلاصة:
الإسلام دين السلام، ولكنه لا يدعو إلى الاستسلام، فالقرآن الكريم حينما فرض الجهاد على المسلمين كان ذلك ردا لعدوان المغتصبين، ودفاعا عن الإسلام والمسلمين، فالفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الدفاع عن النفس عند الشعور بالخطر، فلا معنى أن يهاجم المسلمون ويعتدى عليهم، ثم بعد ذلك يقفون مستسلمين، هذا ما لا يقبله عقل، ولايقره دين.
عندما فرض القرآن الجهاد، وضع له ضوابط عديدة، منها ما هو قبل القتال، مثل: ألا نشرع في القتال إلا إذا سدت كل سبل الاتفاق السلمي، ومنها أيضا عدم البدء بالقتال وغيرها، أما في أثناء القتال، فالاستجابة إلى كف القتال إذا طلب الأعداء ذلك، ومنها: النهي عن التمثيل بالقتلى بالصلب وغيره.
أما ما بعد القتال، فهناك سلوكيات تتعلق بأثر القتال، وما نتج عنه، وأخرى تختص بواقع المسلمين بعد إحراز النصر، وكل هذا يدل على أن الإسلام عندما شرع الجهاد لم يطلق العنان للمسلمين فيه، وإنما قيدهم بقيود شديدة.
الفتوحات الإسلامية خير شاهد على مدى تسامح وسمو الإسلام وأهله، فقد قامت الفتوحات الإسلامية على أسس حضارية عظيمة وأهداف سامية، والأندلس خير شاهد على ذلك بالنظر إلى مدى التقدم والازدهار التي وصلت إليه على يد المسلمين، نرى أيضا سماحة الإسلام في صون حرية الإنسان، وحرية اعتقاده، ومدى رفقه وعفوه عن المعتدين، فهذا هو إسلامنا، وهذا هو قرآننا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إذن ليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن القرآن يغري أتباعه بالعدوان أو التعدي على الآخرين.
(*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م.
[1]. الغرة: الغفلة.
[2]. المثلة: التنكيل.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتات الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2655)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (5028).
[4]. صحيح: أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3140)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (52).
[5]. السلام والحرب في الشريعة الإسلامية، د. محمود محمد الطنطاوي، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص58، 59 بتصرف.
[6]. القوارين: جمع قارون.
[7]. الهامانات: جمع هامان، وهو وزير فرعون.
[8]. انظر: السلام والحرب في الشريعة الإسلامية، د. محمود محمد الطنطاوي، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص60 وما بعدها.
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (8939)، والبخاري في الأدب المفرد، باب حسن الخلق (273)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2349).
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم (6516).
ادعاء أن القرآن يدعو إلى الشهوانية ويحث عليها
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم يدعو إلى الانحلال ويحل الشهوات، ويستدلون علـى ذلـك بإباحـة تعـدد الزوجـات في قولــه تعالــى: )فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع( (النساء: 3) مستنكرين مبدأ تعدد الزوجات، والتسري بملك اليمين، وأن تكون الجنة مكانا للهو بالحور العين.
وجوه إبطال الشبهة:
1) التشريع الإسلامي يتناسب مع الفطرة الإنسانية، وهي تنطلق من مراعاة المصلحة ودفع المفسدة، وحفظ الضرورات العامة.
2) ثبت علميا وعمليا أن تعدد الزوجات يحل مشكلة العنوسة لدى النساء، ويحفظ الأعراض والأنساب، ويكثر النسل الشرعي، ويعمل على ترابط الأسرة.
3) هل الأفضل والأنسب العلاقات المشروعة في الإسلام، أم الإباحية المطلقة عند غير المسلمين وما نتج عنها من اختلال في شتى مظاهر الحياة؟!
4) الكتب السابقة تقر تعدد الزوجات، حتى الشعوب الوثنية مارست تعدد الزوجات، فلم يستنكرونه على الإسلام؟!
التفصيل:
أولا. تشريعات الإسلام تتناسب مع الفطرة الإنسانية:
جاء التشريع الإسلامي العظيم بمقاصد خمس: حفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض وهذا ما تقتضيه مصلحة الإنسان، والقضية التي نحن بصددها ترتبط بحفظ الدين والعرض أولا ثم بحفظ المال ثانيا، ولكي يحفظ الإسلام على الناس دينهم، أحل أمورا وحرم أخرى، فأحل الزواج، وحرم كل علاقة أخرى بين الرجل والمرأة، وهو بهذا يتناسب مع الفطرة الإنسانية السليمة.
وهو بهذا يحفظ العرض أيضا، أرأيتم مجتمعاتنا المعاصرة، كيف سقط الدين فيها؟! وكيف انتهكت الأعراض؟! لماذا؟ لأنهم خالفوا تشريع الإسلام، فكم من رجال متزوجين وقعوا في غياهب[1] الفتن وأتون المعاصي، برغم وجود التشريعات الوضعية والمحرفة التي تجرم ذلك وتعاقب عليه.
أما الإسلام الحنيف[2]، فإنه يقوم حياة البشر وفق منهاج رباني سام يراعي – أول ما يراعي – مصلحة البشر، أو بتعبير آخر: يراعي أهداف التشريع، والمراد بالأهداف: هي أحدث الطرق الإدارية التي توصل إليها العلم الحديث في العلوم الإدارية، وهي تعني أن يكون المحرك الأول للعمل هو الهدف، فلا يكون الشغل الشاغل هي الوسائل دون الأهداف.
وها هو الإسلام يقر هذا الأمر منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.
ما أرحب هذا التشريع، وما أعظم مراعاته طبيعة البشر، فكل التشريعات قد ضاقت بالرجال والنساء، على حد سواء، إلا تشريع الإسلام، فها هو الغرب المسيحي ينظر – من الناحية النظرية – إلى الجسد وغرائزه على أنها شيء ممتهن، ولا سبيل للسمو والرقي إلا بكبح جماح[3] هذا الجسد، ومنعه من جميع رغباته وغرائزه، أما الإسلام فقد حدد الإطار الذي يسير فيه الإنسان تلبية لرغباته الفطرية دون أن يترك له الأمر هكذا من غير ضابط أو رابط، وليس هذا فحسب بل حدد الإطار العام للمجتمع ككل؛ تلبية لحاجات هذا المجتمع وحلا لمشاكله؛ مراعيا المصلحة الجماعية دون جور على مصلحة الفرد.
فالتعدد في الإسلام شرع على سبيل الإباحة لا الوجوب، والفارق بينهما كبير فالمباح[4] لا يفترض على الناس الإتيان به، بل متروك لاختيارهم ولا إثم عليهم في تركه أو فعله.
أما الواجب[5]، فهو ما يفترض على الناس الإتيان به، فتاركه يأثم وفاعله يثاب، والمرأة لها الحرية في قبول ذلك أو عدم قبوله، ولها الحق في طلب الطلاق إذا لم تقبل ذلك أو تخالع زوجها، والقضاء يحقق لها ما أرادت، فالإسلام الحنيف أعطى للمرأة الحرية التامة في اختيار زوجها واختيار الحياة معه، وجاءت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
عن عائشة قالت: «جاءت فتاة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه؛ يرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء»[6].
وفي قصة بريرة التي كانت أمة ثم أعتقت، وكان زوجها مغيث عبدا فتشفع النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تبقى تحته، فخيرها النبي – صلى الله عليه وسلم – بين بقائها تحت مغيث زوجة له، وبين أن تصير حرة بلا زوج، فاختارت حريتها، ورفضت شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – في أن ترجع إلى زوجها، حتى كان زوجها يبكي في طرق المدينة، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: «عجبت من حب مغيث بريرة وكراهية بريرة مغيثا»[7].
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت:«تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي على بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات: )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله( (المجادلة: 1)» [8].
ثانيا. تعدد الزوجات في الإسلام له أهداف ومقاصد ثابتة علميا وعمليا، فمن أهدافه ما يلي:
حفظ الدين والأخلاق لكلا الطرفين الرجال والنساء:
فقد لا تستقيم حياة رجل مع زوجته، فماذا يكون الحل؟! انفصال كلا الطرفين عن الآخر، وحرمان المرأة من حقها في إشباع غريزتها بالوسيلة الشرعية (الزواج) ثم اندفاعها نحو الحرام، أم عدم الانفصال، ودفع الرجل دفعا إلى إشباع غريزته من الحرام، فبتعدد الزوجات نكون قد حفظنا للناس دينهم وأخلاقهم.
حفظ الأعراض والأنساب:
فكم من أعراض قد هتكت! وكم من أنساب قد اختلطت نتيجة العلاقات المحرمة خارج نطاق الزواج! فبعض من فعل هذا دفعته ظروفه القاسية مع زوجته إلى هذا الأمر، والبعض الآخر دفعه أصحاب التشريعات الوضعية والمحرفة إلى هذا الأمر بتشريعهم منع التعدد.
مراعاة التناسب العددي بين الرجال والنساء:
فقد أثبتت الإحصائيات أن زيادة عدد النساء عن الرجال صارت بنسبة قد تكون 1: 4 أو 1: 5 في الآونة الأخيرة في العالم كله، وأثبتت أيضا أن عدد العوانس “وهن ممن تعدى عمر الواحدة منهن ثلاثين سنة ولم تتزوج” في بلد كمصر مثلا وصل إلى ستة ملايين فتاة، هذا مع إغفال عدد الأرامل والمطلقات والمختلعات، ناهيك عن قلة عددالرجال بسبب الحروب وغيرها، فهل من حل إلا التعدد؟!
زيادة العلاقات والصلات بين أفراد المجتمع الواحد:
فالتعدد يؤدي إلى ترابط المجتمعات وزيادة الصلات بين أفراده، على العكس تماما مما هو سائد في المجتمعات الغربية من تفكك وضعف أواصر الصلة بين أفراده، وهذا كله له أبلغ الأثر على حياة الناس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء.
وليس معنى ما تقدم أن الأمر مباح هكذا دون ضابط، بل إن الأمر مشروط:
بتوافــر إمكــان النفقــة لقولـه تعالــى: )لينفق ذو سعة من سعته( (الطلاق: 7).
بتوافر العدل المادي بين الزوجات، ثم إن التعدد لا يكون إلا لضرورة أو حاجة أو مصلحة اجتماعية أو شخصية، كوجود الميل الجنسي الشديد، أو عقم الزوجة الأولى أو كثرة النساء وقلة الرجال كما في بعض دول أوربا اليوم[9].
هل الأفضل والأنسب العلاقات المشروعة في الإسلام، أم الإباحية المطلقة عند غير المسلمين وما نتج عنها من اختلال في شتى مظاهر الحياة.
إن المجتمع الغربي الذي فرض على نفسه الزواج بواحدة يعج[10] بشتى ألوان الرذائل، لقد أغلق أبواب الحلال فانفرجت أبواب الحرام.
وها هي الأرقام والإحصاءات تتكلم، فقد نشرت مجلة حضارة الإسلام في المجلد الثاني عام 1381هـ/1961م، ص 365 مايلي:
وتدل الإحصاءات في السويد على أنه بين كل سبع زيجات تنتهي واحدة بالطلاق، وفي النرويج بين كل ست زيجات تنتهي واحدة بالطلاق، وليس نادرا أن تجد شابات في الدانمرك طلقن مرتين أو ثلاث مرات، قبل أن يبلغن الثلاثين.
أما الأطفال غير الشرعيين ففي السويد يولد طفل غير شرعي بين كل عشرة أطفال، وفي الدانمرك طفل بين كل ثلاثة عشر طفلا، كما تتم حالات إجهاض كثيرة بواسطة سيدات غير إخصائيات مما حفز الصحف على مطالبة الحكومة كي تجعل الإجهاض قانونيا، لا يسأل عنه الأطباء إذا قاموا به علانية.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد ولد 221 ألف طفل غير شرعي خلال عام 1959م، أي بنسبة 52 طفلا في كل ألف طفل ولد في أمريكا خلال هذا العام.
وقد قدمت الدكتورة راشل دافيز – عضو الجمعية العمومية لولاية شمال كارولينا – مشروعا بتعقيم السيدات اللاتي يلدن أكثر من مولودين غير شرعيين.
وقد نشرت المجلة المذكورة في ص 489 من المجلد الثاني ما يلي:
يحاول البوليس الإنجليزي الآن القضاء على مائة ألف امرأة تعمل في البغاء[11] بعد أن صدر قانون بإلغائه، وقد أعلن البوليس أخيرا أنه عجز عن القيام بهذه المهمة وحده، وطلب من كل سيدة أن تتولى الإبلاغ عن كل فتاة من بنات الليل تجدها تتسكع في الطرقات، للقبض عليها في الحال.
وقد نشرت جريدة اللواء الدمشقية في عددها الصادر بتاريخ 19 شعبان 1382هـ، 14 كانون الثاني 1963م برقية صادرة عن الأمم المتحدة من وكالة “رويتر” ما يلي:
يقول تقرير الأمم المتحدة حول التمييز ضد الأطفال غير الشرعيين إن ما يقارب 30% من الأطفال في بعض البلدان يولدون خارج نطاق الزواج[12]!
أو ليس ما مضى ذكره يثبت ما اختص به هذا التشريع الرباني من سعة ودراية في معالجة قضايا البشر: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك)، بلى سبحانه وتعالى يعلم أن عدد النساء سيكثر عن عدد الرجال، خاصة في أعقاب الحروب التي تلتهم صفوة الرجال والشباب، وهناك تكون مصلحة المجتمع ومصلحة النساء أنفسهن في أن يكن ضرائر، بدلا من أن يعشن العمر كله عوانس محرومات من الحياة الزوجية، وما فيها من سكون ومودة وإحصان، ومن نعمة الأمومة، ونداء الفطرة في ثناياهن يدعو إليها. إنها إحدى طرائق ثلاث:
فإما أن يقضين العمر كله في مرارة الحرمان من حياة الزوجية والأمومة.
وإما أن يرخى لهن العنان ليعشن أدوات لهو لعبث الرجال المفسدين، ومن ثم إتيانهن بأطفال غير شرعيين، وكثرة عدد اللقطاء المحرومين من الحقوق المادية والمعنوية، ليكونوا عالة على المجتمع وأداة هدم فيه وإفساد.
وإما أن يباح لهن الزواج برجل متزوج قادر على النفقة والإحصان، ولا ريب أن هذه الطريقة الأخيرة هي الحل العادل والأمثل، والبلسم الشافي، وهذا ما حكم به الإسلام، )ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)( (المائدة).
وكما راعى الإسلام طبيعة البشر في الدنيا أيضا راعاها في الآخرة، فجعل الجزاء يتوافق مع طبيعة البشر، سواء كان ثوابا أو عقابا. لكن الأمر بيننا وبينهم كما قالت العرب قديما: “لا تعدم الحسناء ذاما”، فحسن هذا التشريع وبهاؤه وحلاوة منطقه، وواقعية منهجه، وتعامله مع الواقع البشري بحكمة واقتدار، جذب إليه ألسنة الناقدين وطعن الطاعنين، لكن هيهات أن تطفأ الشمس بأفواه هؤلاء.
ثم دعنا نسلم بما قالوه، فما الدليل على أن سنة الله في الزواج عدم التعدد؟ بل إن التوراة تقول في سفر التكوين: “واتخذ لامك لنفسه امرأتين: اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة. فولدت عادة يابال الذي كان أبا لساكني الخيام ورعاة المواشي. واسم أخيه يوبال الذي كان أبا لكل ضارب بالعود والمزمار. وصلة أيضا ولدت توبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد. وأخت توبال قايين نعمة. وقال لامك لامرأتيه عادة وصلة: “اسمعا قولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي”. (التكوين 4: 19 – 23)، كذلك جمع يعقوب بين امرأتين ليئة ورايل. (التكوين 39) [13].
رابعا. الكتب السابقة تقر تعدد الزوجات، وأقرته الشعوب الأخرى من غير أتباع الأديان السماوية الثلاثة:
يشير د. محمد بلتاجي أن التعدد كان معروفا بين الأمم السابقة، وفيما يتصل بالأديان السماوية الكتابية فإننا نجد التعدد بصورة واضحة في التوراة التي يقدسها اليهود اليوم، ويشاركهم المسيحيون أيضا في تقديسها تحت اسم العهد القديم.
ففي سفر التكوين أن سارة – زوجة إبراهيم – عليه السلام – دفعت له هاجر المصرية جارتها فاتخذها زوجة ثانية، وكما يقول نص العهد القديم: “أعطتها لأبرام رجلها زوجة له”. (التكوين 16: 3).
وظل التعدد قائما ومشروعا في أسفار العهد القديم، وظل الأنبياء وأبناؤهم وأتباعهم يعملون به كما في سفر التثنية، الإصحاح الحادي والعشرين 15- 17 ومواضع أخرى متعددة في العهد القديم.
حتى إننا لنجد أن نص التوراة يصرح بأن سليمان – عليه السلام – جمع بين ألف امرأة، وفي “التلمود” اليهودي – هو شرح يهودي للتوراة قام به أحبارهم وعلماؤهم – أنه لا يجوز للرجل أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات تشبها بزواج يعقوب، وبشرط القدرة على الإنفاق عليهن، وأنه إذا أقسم عند زواجه الأول بأن لا يتزوج عليها فلا يمكنه الزواج من ثانية، إلا إذا سمحت له الأولى، وبعد مرور عشر سنوات من زواجها منه، وليس في هذا أيضا منع للتعدد، وإنما فيه إباحة مقيدة.
وأما في الإنجيل فلا يوجد نص يحرم تعدد الزوجات، ومع هذا نجد أن التعاليم الدينية الشائعة عن المسيحيين الآن تحرمه، وهناك فريق من الباحثين المسيحيين يرون أن تعاليم المسيحية الأولى لم تكن تتضمن شيئا عن تحريم تعدد الزوجات، ويدللون على ذلك بأدلة قوية أهمها:
أن الإنجيل لا يتضمن نصا واحدا يحرم تعدد الزوجات.
أن لوثر مؤسس أحد المذاهب الرئيسية في المسيحية، وهو المذهب البروتستانتي كان ينظر إلى تعدد الزوجات بشيء كثير من التسامح.
أن بعض الفرق المسيحية ناضلت بشدة من أجل تعدد الزوجات، ومارسته.
أن بعض ملوك أوربا وأمراءها في العصر الوسيط مارسوا تعدد الزوجات.
هذا فيما يتصل بتعدد الزوجات في اليهودية والمسيحية، ونضيف إلى هذا أن كثيرا من الشعوب الأخرى – من غير أتباع الأديان السماوية الثلاثة – كانت تمارس تعدد الزوجات، حيث كان مشروعا في نظمها الاجتماعية.
فقد كان التعدد شائعا بين الشعوب الإفريقية الوثنية، وما تزال له آثار بين بعض قبائلها، وكان شائعا بين العرب القدماء قبل الإسلام بغير حد، وكان شائعا بين الشعوب الأسيوية، ولا تزال له آثار في بعض مناطقها[14].
يقول د. توماس: يباح للرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، إن هذا التحديد بواحدة هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أي ظن يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا عارا وعالة على المجتمع، فلو كان تعدد الزوجات مباحا لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون[15]، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن، إن إباحة تعدد الزوجات تجعل كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين”[16].
الخلاصة:
التشريع الإسلامي ملائم للفطرة وقائم على مراعاة المصالح ودفع المفاسد.
لم يكن الزنا مقبولا في الإسلام على أي نحو، وكانت مطالبة الزوج بكبت غريزته بعد الضرر الذي أصاب زوجته من مرض ونحوه من الأضرار الجسدية، فشرع له الإسلام التعدد مع المحافظة على زوجته الأولى وهذا أفضل الطرق للزوجة ولأولادها ولزوجها وللمجتمع كله، لذلك فمقاصد الإسلام خمس هي حفظ: الدين النفس، العقل، العرض، المال، وضوابطه عامة تراعي طبيعة البشر ومصالحهم.
الغرب يعج بشتى ألوان الرذائل والفواحش، وهذا نتيجة خلل التشريع الذي أخل بشئون الحياة عندهم، على العكس من عظمة التشريع الإسلامي العظيم، وعلم الخالق الحكيم بطبيعة البشر.
الأديان السماوية السابقة تبيح تعدد الزوجات، كما أنه ليس في الإنجيل نص يحرمه، وقد كان تعدد الزوجات منتشرا في المجتمعات الوثنية كذلك؛ فلماذا يحرمونه على الإسلام.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الغياهب: جمع الغيهب، وهي الظلمة.
[2]. الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
[3]. جمح الفرس: عتا عن أمر صاحبه حتى غلبه.
[4]. المباح: هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه.
[5]. الواجب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما.
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25087)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على زوج بريرة (4979).
[8]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب الطهارة (2063)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة المجادلة (3791)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1678).
[9]. أخلاق المسلم علاقته بالنفس والكون، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، دمشق، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص37.
[10]. يعج: يمتلئ.
[11]. البغاء: الزنا.
[12]. المراة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق ، ط6، 1404هـ/ 1984م، ص241، 242.
[13]. بين الإسلام والمسيحية، أبو عبيدة الخزرجي، تحقيق: د. محمد شامة، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1975م.
[14]. مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ط1، 1996م، ص225 وما بعدها.
[15]. الهون: الذل والمهانة.
[16]. مجلة المنار: رشيد رضا، مج4، ص485، 486، نقلا عن: المراة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق ، ط6، 1404هـ/ 1984م، ص82.
ادعاء عدم موافقة ترجمة القرآن لمعانيه
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن المترجم للتفسير مضطر إلى الترجمة الحرفية الممنوعة، وهي ترجمة كل ما يسوقه في كل مرحلة للتفسير من آية أو آيات؛ لأن التفسير بيان، فلا بد أن يعرف المبين أولا ثم يعرف البيان؛ ولأنه إذا ترجم التفسير بدون الآية كانت الترجمة غير مؤدية للمطلوب لعدم التئامها مع ما قبلها. هادفين من وراء ذلك تشكيك المسلمين غير الناطقين بالعربية في ترجمة معاني القرآن التي بين أيديهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الأمور المذكورة في الشبهة غير مطلوبة كلها في التفسير العربي أصلا.
2) ما لا يطلب في التفسير العربي لا يطلب في الترجمة من باب أولى؛ لأن التفسير بيان لأحد الأوجه؛ ولذا تنوعت التفاسير.
3) فوائد ترجمة معاني القرآن متعددة، فلا ينبغي أن نحيد عنها لشبهة طاعن جاهل.
التفصيل:
أولا. الأمور المذكورة في الشبهة غير مطلوبة كلها في التفسير العربي أصلا:
إن استيفاء الأمور المذكورة لم يشترط في أصل التفسير العربي، فكيف تشترط في الترجمة؟ فبدهي ألايشترط ذلك في ترجمةالقرآن بلغة أجنبية من باب أولى.
ولا ريب عندنا في أن تفسير القرآن بلسان أعجمي يجري في حكمه مجرى تفسيره بلسان عربي، فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه، لا عرض لترجمة القرآن نفسه، وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعاني والمقاصد، لا حكاية لجميع المقاصد لتفسير القرآن الكريم – وهذا هو موطن الشاهد – يكفي في تحققه أن يكون بيانا لمراد الله – عز وجل – بقدر الطاقة البشرية، ولو جاء على احتمال واحد؛ لأن التفسير في اللغة: هو الإيضاح والبيان، وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه.
ولأن التفسير في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية، وهذا يتحقق أيضا بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل، وإذا كان تفسير القرآن بيانا لمراد الله بقدر الطاقة البشرية، فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب؛ لأن كلا منهما مقدور للبشر، وكلا منهما يحتاجه البشر، ولإيضاح بيانه لا بد من أمرين:
الأول: أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير.
الثاني: أن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربى بلغة غير عربية[1].
ثانيا. ما لا يطلب في التفسير العربي لا يطلب في الترجمة من باب أولى:
ذلك أن استيفاء الأمور المذكورة لم يشترطه أحد في أصل التفسير العربي، فبدهي ألا يشترط ذلك في ترجمته وهي صورة له، كيف وقد علمنا أن التفسير: هو البيان ولو من وجه، وكل ما على المفسر أن يكون حكيما يلاحظ حال من يفسر لهم على قدر طاقته، فيضمن تفسيره ما يحتاجون إليه، ويعفيهم مما لا تسعه عقولهم، وإلا كان فتنة عليهم. ولعل ذلك سر من أسرار تنوع التفاسير العربية التي بين أيدينا، ما بين مختصر ومتوسط ومطول، وما بين تفسير بالمأثور وتفسير بالمعقول، وما بين تفسير معني بالناحية البلاغية، وآخر معني بالناحية النحوية، وثالث معني بالناحية الكلامية ورابع معني بالناحية الفقهية، إلى غير ذلك.
وإذا كان هذا ماثلا أمام أعيننا في التفاسير العربية، فكيف نذهب إلى إنكاره إذا وقع مثله في التفاسير بلغة أجنبية؟!
كما أن العلماء يشترطون ألا تكون ألفاظ الأصل ولا ترجمتها العرفية منبثة بين ثنايا التفسير بلغة أجنبية، بل نقول: إن التفسير يجزأ أجزاء، وتساق الآية أو الآيات في كل نوبة من نوبات هذه التجزئة باللفظ والرسم العربيين، إن كنا نترجم هذه الترجمة لطائفة من إخواننا المسلمين، ثم يشار إليها في تفسيرها فيقال: معنى هذه الآية أو الآيات كذا.
أو يقال: الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا معناها كذا وكذا، بعبارة مجردة من ألفاظ الأصل وترجمتها ترجمة حرفية، ويكفي في ارتباط المبين ببيانه أن يكون بأي وجه من وجوه الارتباط.
أما الالتئام فمن السهل رعاية الانسجام بين جمل التفسير بعضها مع بعض في كل نوبة من نوباته، وأما انسجام هذه النوبات كلها بعضها ببعض بحيث يتألف منها كلام واحد مترابط كأنه سبيكة واحدة فشيء لم يشترطه أحد في التفسير، ولا يضيرنا فقده شيئا ما دام التفسير كلاما منجما على نوبات متفرقة، لا كلاما واحدا في نوبة واحدة، وأما التئام الآيات بعضها مع بعض فهو حاصل لا محالة، ولكن ليس من الواجب أن يعرض له هذا التفسير ولا غيره من التفاسير[2].
ثالثا. ترجمة معاني القرآن لها فوائد عظيمة، فلا ينبغي إهمال هذه الترجمة لشبهةطاعن جاهل:
إن الله – سبحانه وتعالى – بعث محمدا – صلى الله عليه وسلم – برسالة الإسلام إلى البشرية كافة على اختلاف أجناسها وألوانها، قال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[3]. وشرط لزوم الرسالة البلاغ، والقرآن الذي نزل بلغة العرب صار إبلاغه للأمم العربية ملزما لها، ولكن سائر الأمم التي تحسن العربية، أولا تعرفها يتوقف إبلاغها الدعوة على ترجمتها بلسانها، لذلك يترجم تفسير القرآن الذي يتضمن أسس دعوته بما يتفق مع نصوص الكتاب وصريح السنة إلى لسان كل إنسان حتى تبلغهم الدعوة وتلزمهم الحجة[4].
لذلك فإن من فوائد هذه الترجمة ما يلي:
رفع النقاب عن جمال القرآن، ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين والأعاجم، وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة؛ ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.
دفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتراء، ثم ضللوا بها المسلمين الذين لا يحذقون اللسان العربي في شكل ترجمات مزعومة للقرآن، أو مؤلفات علمية وتاريخية للطلاب، أو دوائر معارف للقراء، أو دروس ومحاضرات للجمهور، أو صحف ومجلات للعامة والخاصة.
تنوير غير المسلمين من الأجانب في حقائق الإسلام وتعاليمه، خصوصا في هذا العصر الذي ضل فيه الحق، أو كاد يضل في سوق الباطل، وخفت صوت الإسلام، أو كاد يخفت بين ضجيج غيره من المذاهب المتطرفة والأديان المنحرفة.
إزالة الحواجز التي أقامها الخبثاء الماكرون للحيلولة بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية، وهذه الحواجز ترتكز – في الغالب – على أكاذيب افتروها تارة على الإسلام، وتارة أخرى على نبي الإسلام، فإذا ترجمنا تفسير القرآن بلغة أخرى بشروط التفسير وشروط الترجمة مع العناية التامة بدفع الشبهات والأباطيل الرائجة فيهم، تزلزلت بلا شك تلك الصروح التي أقاموها من الخرافات والأباطيل، وزالت العقبات من طريق طلاب الحق وعشاقه من كل قبيل.
براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه إلى غير الناطقين بلغة القرآن، وبذلك كون قد وفقنا لتبليغه للناس جميعا[5].
الخلاصة:
إن دعوى عدم موافقة ترجمة القرآن لمعانيه دعوى عارية من الحق والصحة؛ لأن تفسير القرآن باللغة العربية أمر لا شيء فيه، ومثله ترجمة معاني القرآن بلغة أجنبية؛ فما كان شرطا في التفسير كان شرطا في الترجمة؛ لأن الترجمة تقوم على نقل التفسير الذي قام به صاحبه وتوضيحه لمعاني القرآن ومقاصده، فهو ينقل اجتهاد المفسر لا غيره.
ثم إن استيفاء الشروط التي ذكروها لم يشترطه أحد في أصل التفسير العربي، فبدهي ألا يشترط ذلك في ترجمته، وهي صورة له، إذن فحجتهم داحضة ولا سبيل لهم علينا بمثلها.
للترجمة فوائد جمة، لا ينبغي أن تصرفنا عن ابتغائها شبهة هنا أو فرية هناك؛ حيث إنها تدفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام للقرآن وتفسيره، وتنير لغير المسلمين من الأجانب حقائق الإسلام وتعاليمه، وترفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لغير الناطقين بلغة القرآن.
(*) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م.
[1]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ج2، ص106، 107 بتصرف يسير.
[2]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ج2، ص112، 113 بتصرف.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” (427)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد (1191).
[4]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 13، 1425هـ/2004م، ص309، 310 بتصرف يسير.
[5]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ج2، ص109: 111 بتصرف.
أكثر من ١٤٠٠ سنة والأمر قريب؟
كيفية الجمع بين قوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ومضي أكثر من ١٤٠٠ سنة ولم تقم الساعة ؟!
التمهيد:
الـحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصّلاة والسلام على عبده ورسوله؛ محمد أدى الأمانة، ونصح الأمة.
أما بعد:
ما زال حال المنكرين للبعث في زمن النبي ﷺأنهم كانوا يستفتون عن القيامة؛ ليس لأنهم خائفون منها أو مؤمنون بها، بل كانوا يسألون إنكارًا لها واستهزاءً بها، ولا يزال المنكرون في زمننا هذا على الحال نفسها، تغيّر الأشخاص وتغيرت الأسماء لكن الأسئلة نفسها لم تتغير، يسألونها استهزاء وإنكارًا فانظر إلى قولهم: ” كيف تقولون أن الساعة قريب ومضى أكثر من ١٤٠٠ سنة على هذا الخبر ولم تقع الساعة فأيُّ قربٍ هذا؟”
أصول الخطأ في الشبهة:
وقبل أن نرد على هذه الشبهة نذكر أصل الخطأ في الشبهة وهو:
((بناء النتائج على أدلة لم تُفهم على وجهها الصحيح))
الرد:
ولذلك سنذكر المعنى الصحيح للقريب أو قرب الساعة وفيه أربع نقاط:
١- معنىً قريب ومعنى بعيد:
كل ما هو آت فهو قريب، والبعيد قد يستعمل في معنى استحالة الوقوع، وهذا ما ذكره الـمفسرون في تفسير قول الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قَرِيبًا}[المعارج: ٦ – ٧]
قال ابن كثير: “{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} أي: وقوع العذاب وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع، بمعنى مستحيل الوقوع، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي: المؤمنون يعتقدون كونه قريبًا، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.”[١]
وقال الشوكاني : “{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أي: يرون العذاب الواقع بهم، أو يرون يوم القيامة بعيدًا أي: غير كائن لأنهم لا يؤمنون به، فمعنى {بَعِيدًا} أي: مستبعدًا محالًا، وليس المراد أنهم يرونه بعيدًا غير قريب. قال الأعمش: يرون البعث بعيدًا؛ لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة، كما تقول لمن تناظره هذا بعيد، أي: لا يكون {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي: نعلمه كائنًا قريبًا؛ لأن ما هو آت قريب. وقيل المعنى: ونراه هينًا في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر.”[٢]
٢- قرب باعتبار مرور الزمان:
نفهم قرب الساعة باعتبار عمر الدنيا فما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه ولذلك هي قريبة ولو وقعت بعد آلاف سنين من نزول القرآن.
وهذا ما ذكره الألوسي في تفسير قول الله تعالى:
{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}[ الإسراء: ٥١] فقال: “وقيل: قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه.”[٣]
والذي يدل على أن ما بقي من عمر الدنيا إلا قليل، قول رسول اللهﷺ: ((إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس…)) الحديث رواه البخاري.
٣- مقدار الزمن موقوف بعلم الله
فالأمر عند الله قريب كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قرِيبًا} [المعارج: ٦ – ٧]
وقال سبحانه: {اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: ١٧]
فوقتها غير معلوم وهو أمر قد يفاجئ الجميع وقد يقع في أي لحظة كما قال السعدي في تفسير هذه الآية: ” أي: ليس بمعلوم بعدها، ولا متى تقوم، فهي في كل وقت متوقع وقوعها، مخوف وجبتها.”
٤- ساعة الانسان موته، فمن مات فقد قامت قيامته:
كما روي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي –صلى الله عليه وسلم– فيسألونه متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول إن يعِش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم. صحيح البخاري.
ومثله ما روي عن أنس رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ –ﷺ– مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ وَعِنْدَهُ غُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ –ﷺ– « إِنْ يَعِشْ هَذَا الْغُلاَمُ فَعَسَى أَنْ لاَ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ». صحيح المسلم
فساعة الإنسان بمعنى: موتُه قريبٌ منه وبعده ينتهي أمره في الدنيا وما بقي إلا أن يواجه نتائج أعماله، لذلك يجب على الإنسان أن يستعد لآخرته ولا يهرب من الحق لأنه لو وقعت ساعتُه وهو بعيد عن الحق لم ينفعه شيء.
نسأل الله أن يهدينا أجمعين.
[١] تفسير القرآن العظيم
[٢] فتح القدير
[٣] روح الـمعاني
التشكيك في نظم القرآن الكريم وإعجازه البلاغي
مضمون الشبهة:
يشكك بعض المتوهمين في إعجاز القرآن الكريم البلاغي، مستدلين على دعواهم باشتماله على حروف لا معنى لها، افتتحت به أوائل السور مثل: (ص، ق، الم…)، كما زعموا أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – شك فيه؛ حيث عاتبه ربه في قوله: )فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94)( (يونس)، ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) نزل القرآن على أرباب الفصاحة والبيان، ولو وجدوا فيه ما زعمتم لكانوا أول من شكك فيه وشنع عليه، لكنهم شهدوا له بالبلاغة والبيان.
2) ليست الحروف المقطعة في القرآن الكريم كلاما زائدة دون معنى، وإنما هي معجزة لغوية.
3) الفهم الصحيح للآية التي استدل بها هؤلاء يزيل هذا الوهم لديهم، فالمقصود هنا الفرض والتمثيل، وقيل: بل خوطب النبي – صلى الله عليه وسلم – بالآية والمقصود أمته، وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك.
التفصيل:
أولا. إعجاز القرآن في بيئة بضاعتها الكلمة:
كان القرآن الكريم أكبر سبب لهداية العرب للحق، فقد نزل على عرب أقحاح، فاقوا الأمم في ميدان الفصاحة والبلاغة، واعتنوا بذلك أتم العناية، وبلغوا المنزلة العظمى في التفنن في البيان؛ فأقاموا الأسواق في الشعر والخطابة، وعلقوا معلقاتهم على الكعبة؛ رفعا لشأن البلاغة والبيان، ومع ذلك انخلعت قلوب صناديد الكفر خوفا من أن تفتن أمام بلاغة القرآن.
لهذا كان من حكمة الله – عز وجل – أن أنزل لهم هذا القرآن بهذه اللغة التي يفتخرون بها، وتعالوا بها على الأمم، فبهرهم القرآن ببديع ألفاظه، وجميل معانيه، وعظيم مقاصده ومبانيه، فخضعوا له وتهيبوا أن يتكلموا فيه طعنا في لفظ أو في إعراب أو في بيان.
وتحداهم القرآن أن يأتوا بمثله فلم يستطعيوا فقال تعالى: )قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (88)( (الإسراء)، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، قال تعالى: )أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (13)( (هود)، فلما عجزوا أن يأتوا بعشر سور مثله، قال تعالى: )وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم( (البقرة: 23).
ولقد تعددت مناحي الإعجاز البلاغي في القرآن؛ لأن القرآن بلغ الذروة في صياغته وأسلوبه، قال أبو بكر الباقلاني: “بديع النظم، عجيب التآلف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن”. وقال ابن أبي الإصبع المصري: “وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز انتهيت إلى نهاية البلاغة”.
وقد طفق العلماء يكتبون بصدق صادق في بلاغة القرآن وطرائق نظمه، ونورد هنا بعض ما ذكره علماء التفسير والبلاغة حول بعض الكلمات القرآنية التي تحمل حشدا من الصور البلاغية:
في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة( (التوبة: 38) فعند سماع قوله تعالى: )اثاقلتم( تشخص في الخيال صورة ذلك الجسم “المثاقل” الذي يرفعه الرافعون في جهد شديد، فيسقط من أيديهم في ثقل، ولو كانت الكلمة “تثاقلتم” لخف جرس هذه الكلمة، وتوارت الصورة المطلوبة التي استقل هذا اللفظ برسمها.
وفي قوله تعالى: )ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)( (البقرة)، قال ابن عاشور: “وجاء تقتلون بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة، وهي حال قتلهم رسلهم، مع ما في صيغة “تقتلون” من مراعاة الفواصل، فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم[1].
فكيف مع هذه البلاغة والفصاحة يتهم القرآن باحتوائه على كلام ليس بليغا وليس له معنى.
ثانيا. تفسير العلماء للحروف المقطعة:
ذكر العلماء والمفسرون أن للحروف المقطعة معاني وتفسيرات عديدة منها:
أنها حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها.
أنها أدوات صوتية مثيرة لانتباه السامعين، الغرض منها تفريغ القلوب من الشواغل الصارفة لها عن السماع من أول وهلة.
أنها إشارة إلى حروف الهجاء، أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها كلامهم.
أنها أسماء للسور التي وردت فيها، وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب.
أنها حروف مقطعة، لكنها معجزة بلاغيا، تحمل أحد أوجه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، فمثلا: في سورة “ق” قال تعالى: )ق والقرآن المجيد (1)( (ق)، تدل على بلاغة القرآن العالية في أسلوبه حين يوائم ما بين الكلمة المعجمة في معناها وبين جيرانها من ألفاظ اللغة العربية في الآيات التي تتلوها، حتى أمست واحدة من مفرداتها.
وكذلك الأمر في سورة “ص” في قوله تعالى: )ص والقرآن ذي الذكر (1)( (ص) فكلمة “صاد” في اللغة المصرية القديمة لها عدة معان منها: يتقول على، يشي بـ، يسيء إلى، يدعي، يعتقد، إلى غير ذلك من المعاني.
وتفسير أول السورة في ضوء هذا المعنى: تقولوا عليك وأساءوا واتهموك بإتيان ما ليس له سند، وتقولوا أيضا على القرآن، وأساءوا إلى ما به من قصص السابقين، بل هم في استكبار وإعراض عما تبلغ به.
وبهذا البيان يتضح لنا معنى الحرف “ص”، ومما يؤازر هذا المعنى – بما لا يدع مجالا للشك – كلمة “المتكلفين” في قوله تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86)( (ص)، فيرد عليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه ليس كما تقولوا عليه ولا يتكلف شيئا من عنده.
ثالثا. التفسير الصحيح للآية ينفي دعوى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شك في القرآن:
أما ادعاؤهم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – شك في القرآن، مستدلين على هذا بقوله تعالى: )فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك( (يونس: 94)، فالمقصود به هو: الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا – وهذا لم ولن يحدث – فاسأل الذين يقرأون الكتاب، وقد قدم الله ذكر بني إسرائيل، وهم قراء الكتاب، وذكر أن العلم قد جاءهم؛ لأن أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فقال: )فإن كنت في شك مما أنزلنا(، والغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله، لا وصف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالشك فيه، ثم قال: )لقد جاءك الحق من ربك(، أي: ثبت أن ما أتاك الله هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية: )فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95)( (يونس) أي: فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك، ويجوز أن يكون الغرض هو زيادة التثبيت والعصمة.
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم”؛ ولأنه لم يسأل – وهو جواب الشرط في أول الآية – فيكون الشرط لم يحصل، وهو شك النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: خوطب – صلى الله عليه وسلم – والمراد أمته وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك.
وعلى ذلك فالمسلمون أولى بالاستمساك بدينهم ونبيهم – صلى الله عليه وسلم – لأن القرآن معصوم، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – رسول بشر به عيسى عليه السلام [2].
الخلاصة:
عجز العرب وهم أهل البلاغة أن يأتوا بمثل ما أتى به القرآن الكريم من بلاغة، وحسن بيان، وروعة نظم، فخضعوا له هيبة أن يتكلموا فيه طعنا في لفظ أو إعراب أو بيان، بل على العكس شهدوا بأنه يعلو ولا يعلى عليه.
الحروف المقطعة في القرآن الكريم لها معان عديدة ذكرها العلماء والمفسرون، كما تشتمل على نكات بلاغية ذات قيمة وأهمية في سياق السور.
لم يكن قوله سبحانه وتعالى: )فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون( (يونس:94)، عتابا للرسول، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – شاكا في ما أنزل إليه، بل إن للعلماء عدة توجيهات لهذه الآية، منها: أنه – صلى الله عليه وسلم – خوطب، والمراد أمته، وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، إلى غير ذلك من التفاسير.
(*) موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م.
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت ، مج1، ج1، ص598.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج6، ج11، ص284: 286 بتصرف.
الزعم أن القرآن يدعو إلى الانتقام والقتل وسفك الدم
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن يدعو للانتقام والقتل وسفك الدم، ويستدلون على هذا بقوله تعالى: )الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة: 194)، ويتساءلون: هل الاعتداء بالمثل هو الحل الأمثل لعلاج الجريمة في المجتمعات لحل المشكلات الدولية؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في أهداف الجهاد والقصاص في الإسلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القرآن دعا إلى القصاص العادل لا الانتقام الأعمى الأهوج.
2) الآية تحث على الدفاع عن النفس، لا الانتقام والاعتداء على الغير.
3) في القصاص حياة للبشر، وهذه هي الحكمة من تشريعه.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم دعا إلى القصاص وليس الانتقام [1]:
فالقصاص عقوبة مقدرة توجب حقا على الواقعة الإجرامية بمثلها تماما. فالقصاص بحد ذاته ليس انتقاما شخصيا، أو إرواء لغليل النفوس المكلومة، بل هو أمر أعظم من ذلك، إنه حياة للأمم والشعوب.
فإن القاتل إذا علم أنه سيدفع حياته ثمنا لحياة الآخرين فسوف يردعه ذلك عن فكرة القتل، وبهذا تستقيم الحياة، وقد ساوى القرآن الكريم بين أفراد المجتمع في الحقوق، ومنع سلب حقوق الآخرين، فشرع أن يأخذ القاضي الحق من المعتدي ويرده لصاحبه.
لذا فإن عقوبة القصاص بعيدة كل البعد عن شبهة الانتقام؛ لأن من ينظر إلى العقوبة التي شرعها الله – عز وجل – في جرائم الاعتداء على النفس وما دونها يظهر له الفرق الكبير بين القصاص والانتقام:
فالانتقام يدفع إليه الحقد، أما القصاص فيدفع إليه طلب العدل والمساواة، كما يدل على ذلك اسمه.
يتولى الانتقام المعتدى عليه أو أقرب الناس إليه، أما القصاص فيتولاه ولي الأمر، ولا يكون إلا بإذن منه.
يقوم الانتقام – في الغالب – على الشبهات والظنون التي تثور لدى المعتدي، أما القصاص فلا يحكم به إلا بناء على دليل يقيني، بالإضافة إلى العدل في التنفيذ.
الانتقام قد يوجه إلى غير القاتل، أما القصاص فيوجه إلى القاتل دون غيره.
أما الاعتراض المتعلق بحقوق الإنسان، فنقول: أين حق المكلوم الذي قتل، وقد يكون قد ترك أولادا صغارا وأسرة، أين حقه لدى من يقولون بحقوق الإنسان، فالأخذ بحقوق الإنسان ذريعة للاعتراض على القصاص يتعارض مع حق المقتول الذي قتل ظلما، وينطوي على تشجيع لمن أفسد في الأرض بقتل الإنسان ظلما[2].
والقصاص كان عقوبة مقررة في كافة الشرائع السماوية، فقد قال الله تعالى: )من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32)( (المائدة). وقال عز وجل: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص( (المائدة: 45)، أي في التوراة.
ثانيا. الآية تحث على الدفاع عن النفس، لا الانتقام والاعتداء على الغير:
الفهم الخاطئ للآية: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة: 194)، الذي فهمه منها المدعون أن القرآن يدعو إلى الانتقام، وليس الحال كما قالوا، وإنما انتزعوا الآية من سياقها، ولو قرأوا الآية من أولها لزال عنهم هذا اللبس.
قال تعالى: )الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة).
قال أهل العلم: الكلام سياق وسباق ولحاق، فلا يجوز قطع واحد منها وإلا فسد المعنى، وهذا ما فعله المدعون في الآية. وسبب نزول الآية هو: قول المشركين للنبي – صلى الله عليه وسلم – في عمرة القضاء أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام، قال: نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية بإباحة القتال لهم في الشهر الحرام دفاعا عن أنفسهم لا انتقاما من عدوهم.
وعن ابن عباس قال: “نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله للنبي – صلى الله عليه وسلم – ما صد عن البيت، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه المقبل، فلما كان العام المقبل تجهز وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام، ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام، فأنزل الله ذلك”.
وذكر السيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم( (البقرة: 194)، )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به( (النحل:126)، أنه قال: هذا ونحوه نزل بمكة، والمسلمون يومئذ قليل فليس لهم سلطان يقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه، أو يصبر أو يعفو، فلما هاجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعتد بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال تعالى: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33)( (الإسراء) [3].
فإذا علم سبب نزول الآية، ولم تنزع من سياقها، وضح معناها وزالت الشبهة وانتفت الدعوى، وبهت المعتدي، والله المستعان.
ثالثا. في القصاص حياة للبشر، وهذه هي الحكمة من تشريعه:
الإسلام طهر المجتمع من الجريمة تطهيرا شافيا، فلقد نص الشارع على حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه هي مقاصد الشرع من الخلق، وعلى هذا حد الإسلام حدودا لكل عقوبة من شأنها هز كيان المجتمع، أو الأمة الواحدة.
فقضى بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي مناط التكليف، وإيجاب حد الزنا، إذ به حفظ النسب والأنساب، وإيجاب زجر المغتصبين والسراق، إذ به حفظ الأموال التي هي معايش الخلق، وهم مضطرون إليها، وحد الردة لحفظ الدين من أن يكون لعبا ولهوا.
وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها صلاح الخلق، ولذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر[4].
وقيل: إن في حد الحدود صنع تدابير وقائية، فإن للإسلام طريقتين لوقاية المجتمع وحمايته من الجرائم، ووقاية الفرد وحمايته من الوقوع في هذه الجرائم، فاتخذ تدابير وقائية عامة ضد الجرائم عموما، وتدابير وقائية خاصة بكل جريمة من الجرائم الكبيرة على حدة.
فمثلا: اتخذ الإسلام الكثير من الحيطة لكي يحمي الإنسان من الوقوع في الرذيلة واقتراف جريمة الزنا، فحرم كل ما يسهل ارتكاب هذه الجريمة، فحرم الخلوة بالأجنبية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما»[5].
وحرم النظر إليها وتفحصها، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى ولست لك الآخرة»[6]، ولما سئل عن نظرة الفجأة قال: «اصرف بصرك»[7].
وقبل ذلك أمر الله عز وجل بغض البصر، فقال: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( (النور: 30). وكذلك حرم الإسلام على المسلمين الدخول إلى البيوت بدون استئذان، حتى لا تقع عيونهم على ما لا يجب، وحرم سفر المرأة بدون محرم ثلاثة أيام لما في ذلك من خطر عليها وخشية وقوعها في الفتنة، كما لا يجوز اختلاط النساء بالرجال في العمل، أو دور العلم أو غيرها.
وشرع الإسلام الزكاة على الأغنياء للفقراء تأليفا لهؤلاء المحتاجين، فلا يحقدون على الأغنياء، ولا يفكرون في الانتقام منهم، وحض على الصدقة والإنفاق والبذل والعطاء للفقراء والمعوزين، قال صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم»[8] [9]. وباب سد الذرائع في الفقه الإسلامي كبير جدا ولا يسعنا الإتيان به في هذه السطور.
والقصاص حياة للأمة، على الرغم من إزهاق النفوس، وفيه مقاصد عديدة:
أولها: حفظ الأنفس، وهذا ما يجسده قوله تعالى: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة). إذن من يدرك أنه إن قتل إنسانا – فردا أوجماعة – يقتل به قصاصا، وإن اعتدى على غيره اقتص منه بمثل ما فعل من عدوان، فإنه سوف يكف عن القتل والعدوان، فيكون بذلك حياة له أولا وحياة لمن كان سيقتله ثانيا، كما أن في الوقوف بالقصاص عند مجازاة المعتدي وحده حفظا لحياة الآخرين؛ لأن القصاص فيه شفاء لنفوس أولياء الدم، فيرفع من نفوسهم الحقد وشهوة الانتقام، فينتهي الأمر عند القصاص، وتنسى الجريمة.
ثانيها: تحقيق الأمن والاستقرار؛ لأن في القصاص ردعا لمن تسول له نفسه الاعتداء على حياة غيره.
ثالثها: القصاص استجابة للفطرة الإنسانية: فلقد فطر الله تعالى الناس على الدفاع عن أنفسهم في سبيل المحافظة على الأنفس[10].
الخلاصة:
ليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن القرآن يدعو إلى الانتقام، والقتل وسفك الدم، وذلك للآتي:
القرآن دعا إلى القصاص، وليس الانتقام، والقصاص عقوبة مقدرة توجب حقا على الواقعة الإجرامية بمثلها تماما، فهناك بون شاسع بين القصاص والانتقام.
والآية التي استدل بها الزاعمون إنما تأمر بالدفاع عن النفس، لا الاعتداء على الغير، وهذا ملاحظ من خلال السياق قبلها وبعدها.
الإسلام شرع القصاص؛ حتى يطهر المجتمع من الجريمة تطهيرا شافيا، فإذا به يحفظ النفس البشرية، وشرع الحدود لذلك الغرض أيضا، وأوجب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي مناط التكليف، وأوجب حد الزنا، إذ به حفظ النسب والعرض… إلخ.
القصاص حياة للأمم على الرغم من إزهاق النفوس به، فبه تحفظ الأنفس، ويتحقق الأمن والاستقرار، وهو استجابة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الدفاع عن النفس ضد المعتدي عليها.
(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.
[1]. القصاص: هو أن يوقع على الجاني مثل ما جنى؛ النفس بالنفس، والجرح بالجرح.
[2]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص606.
[3]. انظر: الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ج1، ص497: 499.
[4]. المستصفى في علوم الأصول، أبو حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1413هـ، ص174.
[5]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (2165)، وابن حبان في صحيحه، كتاب إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مناقب الصحابة، باب فضل الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ (7254)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2546).
[6]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقى مسند الأنصار، حديث بريرة السلمي ـ رضي الله عنه ـ (23041)، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر (2151)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7953).
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث جرير بن عبد الله عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (19220)، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصــر (2150)، وصححــه الألبانــي في صحيــح الجامــع (1014).
[8]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/ 259)، باب الألف: أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (751)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5505).
[9]. التدابير الزجرية والوقائية في التشريع الإسلامي وأسلوب تطبيقها، توفيق علي وهبة، دار اللواء، ص111: 113 بتصرف.
[10]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام ، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص413: 415.
الزعم بأن القرآن منتج ثقافي
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن منتـج ثقافـي جمعـه محمــد – صلى الله عليه وسلم – من المعارف التي حصل عليها بالسماع، وأن أحكامه كانت صالحة لعصره، ثم نسخت صلاحيتها بالتطور التاريخي والتغيرات التاريخية. هادفين من وراء ذلك إلى أن شريعة الإسلام لا تصلح لكل زمان ومكان.
وجها إبطال الشبهة:
1) إعجاز القرآن وعدم قدرة العرب الفصحاء على الإتيان بمثله مع تحديهم بذلك يتنافى مع كونه منتجا ثقافيا أو كلاما مخلوقا.
2) لقد جمع القرآن الكريم بين ثبات النص وتطور التفسير، والاجتهاد الفقهي في فهم النص الإلهي، فواكب المتغيرات عبر الزمان والمكان.
التفصيل:
أولا. التحدي القرآني يتنافى مع القول ببشريته:
إذا كان زعم هؤلاء وقيامهم بمحاولاتهم الساذجة الفجة[1] يشفي غليلهم من الإسلام والقرآن؛ فليقوموا بجهد دءوب ولينفق بعضهم فيه عمره، ولتنفق عليهم دولهم الملايين للتشكيك في المصدر الرباني للقرآن، ومهاجمته بكل وسيلة.
هو فعل قديم وإفك قالته الجاهلية العربية من قبل ولا تزال كل جاهلية تردده! ولقد عرض القرآن كل تلك المزاعم والافتراءات وفندها تفنيدا عقليا مقنعا قال تعالى: )وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون( (الفرقان: 4) ويـرد عليهـم القـرآن في نفـس الآيــة: )فقد جاءوا ظلما وزورا (4)( (الفرقان)، وقال تعالى: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( (الفرقان)، ويرد عليهم القرآن أيضا: )قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (6)( (الفرقان) أي: قل يا محمد: أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر فهو عالم الغيب فلا يحتاج إلى معلم، وذكر “السر” دون الجهر؛ لأنه من علم السر، فهو في الجهر أعلم، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا، كما تمكن محمد – صلى الله عليه وسلم – فهل عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه[2]. وقال تعالى: )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر( (النحل: ١٠٣) فرد الله عليهم: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل) أي: كيف يعلم شخص أعجمي هذا الكلام الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يعارضوا منه سورة واحدة فما فوقها[3].
ولنسأل: هل تأتى لبشر في التاريخ كله أن يؤلف كتابا يحوي من الحقائق ما جاء به القرآن الكريم؟ إن القرآن ليس فقط معجزا بأسلوبه، ولكن كذلك بمحتوياته، وبكون هذه المحتويات – بكل شمولها وتكاملها – معروضة بأسلوب معجز، أي إنه إعجاز فوق إعجاز. قال تعالى: )وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله( (يونس: 37).
فلو أن الإعجاز كان في الأسلوب وحده الذي عجز الناس خلال كل القرون عن أن يأتوا بمثله – لكان هذا كافيا لإثبات مصدره الرباني، ودليلا قاطعا على صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في دعواه أنه رسول مرسل من عند الله، وأنه: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
فكيف إذا كان الإعجاز موضوعيا إلى جانب الإعجاز البياني[4]؟
لقد كان العرب في جاهليتهم قوما أولي فصاحة نادرة، فكانت معجزة النبي – صلى الله عليه وسلم – الكبرى هي هذا القرآن الذي تحداهم أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فلم يستطيعوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا.
وإذا كان القدامى قد وجهوا أكبر اهتمامهم للإعجاز البياني، الذي تحدى به القرآن الجاهلية العربية وآلهتها المزيفة، فقد آن لنا أن نتدبر جوانب الإعجاز الأخرى في هذا الكتاب المعجز لتحدي الجاهلية المعاصرة التي تريد أن تفتن الناس عن ربهم ودينهم، وتؤله “الإنسان” بدلا من الله – وتسعى إلى تدمير الإنسان بإبعاده عن مصدر النور الحقيقي )الله نور السماوات والأرض( (النور: 35).
ولقد اشتمل النص القرآني على أنواع متعددة من الإعجاز، فإلى جانب إعجازه البياني الذي لا تنفد عجائبه، هناك الإعجاز الدعوى بوصفه كتاب دعوة، فقد أبرز عقيدة التوحيد الصافية كما لم يبرزها كتاب قط، وهناك الإعجاز التشريعي الذي يتضمن شريعة متكاملة وافية بكل حاجات البشر الحياتية، ومتطلبات وجودهم لا في زمان نزولها فحسب، بل مهما امتد بهم الزمن وتعددت مجالات الوجود، وهناك الإعجاز التربوي الذي أخرج خير أمة أخرجت للناس، وهناك الإعجاز العلمي الذي تتكشف آياته كلما زاد البشر علما بما حولهم من الكون، وهذه مجرد إشارات لحث الباحثين إلى أن يبحثوا، والمفكرين إلى أن يتدبروا كما أمرهم الله، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)[5].
خذ حقيقة الألوهية وحدها، وما جرى فيها على أيدي البشر من تخبطات مقارنة بصفاء الوحي وشفافيته، ووضوحه، وتألقه، وعمقه ونصاعته، وخذ إلى جانبها عشرات الحقائق الواردة في كتاب الله: حقيقة خلق الإنسان، حقيقة الدنيا والآخرة، حقيقة البعث والنشور، والحساب، والجزاء، حقيقة القيم التي ينبغي أن تحكم حياة الإنسان على الأرض، حقيقة الكون المادي وما يجري فيه، حقيقة المهمة التي خلق الإنسان من أجلها، حقيقة الإيمان، حقيقة المعركة القائمة بين الإيمان والكفر، حقيقة السنن الربانية التي تحكم حياة البشر، وانظر وتفكر.
أي كتاب من صنع البشر جمع هذا الحشد من الحقائق بالتناسق الذي عرضت به في هذا الكتاب، وبقوة التأثير الذي يبعثه في النفوس؟ وأي بشر تبلغ اهتماماته هذا الشمول الذي لا يغادر شيئا من أساسيات الحياة إلا ويتعرض له في عمق وتمكن مثل ما جاء في هذا الكتاب؟ ولكن بعض المستشرقين لهم في ذلك تخرصات!
يقولون: لقد جاء محمد – صلى الله عليه وسلم – بما جاء به نقلا عن كتب أهل الكتاب، أو سطوا عليها، أو تلقيا من أصحابها! وقد بلغت فريتهم حدا من الكذب المفضوح أكبر من باقي مزاعمهم، فكيف يتأتى للذي ينقل من كتاب يقول إن الله ثالث ثلاثة أن يقرر أن الله واحد؟
وكيف يتأتى للذي ينقل من كتاب يقرر أن لله ولدا يشاركه في الألوهية، أن يقرر أن الله لا شريك له ولا ولد؟! وكيف يتأتى للذي ينقل من كتب لم تترك نبيا من أنبياء الله إلا لطخت سمعته وشوهت صورته، واتهمته بما لا يجوز في الرجل العادي فضلا عن النبي المرسل، أن يسرد سير الأنبياء وقصصهم بالنصاعة والطهر والسمو الذي وردت به سير الأنبياء في القرآن؟
وكيف يتأتى للذي ينقل من كتب أو يسمع من أناس لم يتعرفوا على آيات الله في الكون، أو لم يدركوها، ولا علم لهم بأطوار الجنين البشري من النطفة للعلقة للمضغة للعظام لاكتمال التكوين، أن يسرد في كل هذه الأمور حقائق لم يتعرف العلم عليها إلا منذ زمن قريب؟!
قال تعالى: )ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)( (الأنعام)، ولكن المعركة لن تكف، قال تعالى: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة: 217) [6].
ثانيا. الجمع بين الثبات والتطور لمواكبة المتغيرات:
إن القول بتاريخية ووقتية أحكام القرآن الكريم ليس بجديد، فلقد سبق وتبناها فلاسفة التنوير الغربي الوضعي العلماني، بالنسبة للتوراة والإنجيل، فرأوا أن قصصها مجرد رموز، بل ورأوا أن الدين والتدين إنما يمثل “مرحلة تاريخية” في عمر التطور الإنساني، مثلت مرحلة الطفولة للعقل البشري، ثم تلتها – على طريق النضج – مرحلة “الميتافيزيقا” التي توارت هي الأخرى لحساب المرحلة الوضعية، التي لا ترى علما إلا إذا كان نابعا من الواقع، ولا ترى سبلا للعلم والمعرفة إلا العقل والتجارب الحسية، وما عدا ذلك – من الدين وأحكام شرائعه – فهي “إيمان” مثل مرحلة تاريخية على درب التطور العقلي، ولم يعد صالحا لعصر العلم الوضعي – اللهم إلا لحكم العامة والسيطرة على نزعاتهم وغرائزهم!
وإذا كان هذا القول قد جاز، ووجد له بعض المبررات – في الغرب – بالنسبة لكتب رسالات خاصة بقوم بعينهم – بني إسرائيل – الذين جاءتهم اليهودية والمسيحية، ونزلت لهم التوراة والإنجيل، لزمان معين وبتفاصيل تشريعات – وخاصة في التوراة – تجاوزها تطور الواقع، فإن دعوى تاريخية النص الديني لا مكان لها ولا ضرورة تستدعيها بالنسبة للقرآن الكريم؛ ذلك لأن القرآن هو كتاب الشريعة الخاتمة، والرسالة التي ختمت بها النبوات والرسالات، فلو طبقنا عليه قاعدة تاريخية النصوص الدينية لحدث “فراغ” في المرجعية الدينية، إذ لا رسالة بعد رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا وحي بعد القرآن.
وإذا حدث هذا “الفراغ” في المرجعية والحجة الإلهية على الناس، زالت حجة الله على العباد في الحساب والجزاء، إذ سيقولون: يا ربنا، لقد أنزلت علينا كتابا نسخه التطور، فماذا كان علينا أن نطبق، بعد أن تجاوز الواقع المتطور آيات وأحكام الكتاب الذي أنزلته لهدايتنا؟!
إن التاريخية ووقتية الأحكام لا يقول بها أحد في أحكام العبادات، وإنما يقول بها أصحابها في آيات وأحكام المعاملات. وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها في أحكام المعاملات التي جاء بها القرآن الكريم، ذلك أن القرآن الكريم – في العبادات – قد وقف عند “فلسفة” و “كليات” و “قواعد” و “نظريات” التشريع أكثر مما فصل في تشريع المعاملات.
فهو قد فصل في الأمور الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل منظومة القيم والأخلاق، والقواعد الشرعية التي تستنبط منها الأحكام التفصيلية، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة، وترك تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه، الذي هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية، وذلك حتى يظل الفقه – فقه المعاملات – متطورا دائما أبدا، عبر الزمان والمكان؛ ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث في إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها، التي تحفظ على أحكامه المتطورة إسلاميتها دائما وأبدا.
وهذه “الصيغة الإسلامية” الفريدة التي جاءت بالنص الإلهي الثابت – أي الشريعة التي هي وضع إلهي ثابت – تحفظ إسلامية وإلهية المرجعية والمصدر دائما وأبدا، بينما وكلت أمر المتغيرات إلى الفقه – المتجدد والمتطور – والفقه هو علم الفروع، هذه “الصيغة الإسلامية” هي التي وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشري للنص الإلهي الثابت، وجمعت بين ثبات “الوضع الإلهي” وتطور “الاجتهاد الفقهي” أي جمعت بين ثبات المرجعية والنص، وبين تطور “الاجتهاد الفقهي” المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان[7].
الخلاصة:
ما يشتمل عليه النص القرآني من كافة وجوه الإعجاز: البياني، والدعوى، والتربوي، والتشريعي، والعلمي، بجانب عجز البشر عن المجيء بمثل أو بسورة من مثله وتحديه لهم بهذا – لدليل كاف على أنه لا يمكن أن يكون منتجا ثقافيا جمعه محمد – صلى الله عليه وسلم – من المعارف التي حصل عليها بالسماع.
القرآن الكريم قد جمع بين ثبات النص، وتطور التفسير والاجتهاد الفقهي للنص الإلهي، فواكب المتغيرات عبر الزمان والمكان، ويدل على ذلك صلاحية شريعته منذ أن نزل القرآن إلى الآن، وستظل تحكم بعدل الله وإحسانه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها – يشعر بهذا ويحسه كل من ظل على فطرته التي فطره الله عليها.
إن رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات السماوية إلى الأرض، وهذا يستدعي أن تكون شريعته ملائمة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، حتى لا يكون للبشر حجة على الله – سبحانه وتعالى – وإذا نظرنا إلى شريعة الإسلام وجدناها متطورة حسب مقتضيات كل عصر.
(*) الاستشراق وجه للاستعمار الفكري، د. عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1416هـ/ 1995م. خطاب التطرف العلماني في الميزان، فهمي هويدي، 1996م. الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، د. محمد عمارة، نهضة مصر، القاهرة، 2003م.
[1]. الفجة: الخاطئة والمخالفة للحقيقة.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج13، ص4.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج10، ص177 بتصرف يسير.
[4]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص204 بتصرف.
[5]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص8: 10 بتصرف.
[6]. لا يأتون بمثله، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص204: 206 بتصرف.
[7]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص307: 309.
الطعن في أسلوب القرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن العجز عن مجاراة أسلوب القرآن الكريم – مجرد تقليده أو الإتيان بمثله – ليس مرجعه إلى خصوصية الأسلوب القرآني، بل إلى اختلاف العقول والطرق التعبيرية، ويستدلون على ذلك بأن أي قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه فطرته وموهبته إليها، ويختلف أسلوبهم لاختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم أيضا. ويتساءلون: كيف تعدون عجزهم عن الإتيان بمثله آية على قدسية القرآن وتميز أسلوبه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في خصوصية أسلوب القرآن الكريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وقد امتاز الأسلوب القرآني بخصائص عديدة كجمال التعبير، و دقة التصوير، و قوة التأثير، والبراعة في تصريف القول حسب مقتضى الحال.
2) اختلاف الأسلوب بين ما نزل من القرآن بمكة، وبين ما نزل منه بالمدينة، يدفع توهم وحدة الأسلوب القرآني وثباته على سنن معين يختلف عن كلام العرب وأساليبها.
التفصيل:
أولا. خصائص الأسلوب القرآني:
لقد اتفق العلماء على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، أو هو: المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو: طابع الكلام، أو هو: فن الكلام الذي انفرد به المتكلم.
وعلى هذا، فأسلوب القرآن الكريم هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به، فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به.
ونود أن نلفت النظر إلى أن “الأسلوب” شيء، و “المفردات والتراكيب” التي يتألف منها الكلام شيء آخر، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار مفرداته وتراكيبه. وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين، مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة، وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة، وذلك – أيضا – هو السر في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث: المفردات والجمل وقوانينها العامة، ومع ذلك، فقد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز عن أن يأتوا بمثله[1].
ثانيا. للأسلوب القرآني خصائص عديدة امتاز بها:
إن لكل مقام مقالا، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني البلاغة، وخصائص الأسلوب القرآني – مكي ومدني – تعطي الدارس منهجا لطرائق الخطاب في الدعوة إلى الله بما يلائم نفسية المخاطب، ولكل مرحلة من مراحل الدعوة موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم، وأحوال بيئتهم، ويبدو هذا واضحا جليا بأساليب القرآن المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب[2].
وقد أفاض د. محمد بكر إسماعيل في بيان خصائص الأسلوب القرآني البليغ، وكان مما ذكره من هذه الخصائص ما يلي:
الخاصية الأولى: جمال التعبير.
اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرا على القلوب، وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركبها تركيبا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد؛ وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس[3]، وتقتحم شغاف القلوب، وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت، فقد جاء رصف المعاني وفق رصف المباني، فالتقى البحران على أمر قد قدر، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعا. وإن نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته وسكناته، ومداته وغناته، واتصالاته وسكناته، أمر يبهر العقول ويسترعي الأسماع، ويستهوي النفوس بصورة تختلف كل الاختلاف عما يجده المتذوق لكلام الناس من نسق وانسجام، فإنه مهما كان كلام البشر سهلا عذبا، فإنه لا يخلو من قصور في المعنى أو ثقل في النطق أو خلل في الترتيب.
وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية، وكان بعيدا لا يسمع إلا صدى الصوت من غير تمييز للحروف والكلمات، يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية – بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر؛ لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها، فلا يفتأ الطبع أن يمحوها والسمع أن يملها، ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه الملل، بينما سامع لحن القرآن لا يمل؛ لأنه ينتقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة، على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة.
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء أكان مرسلا أم مسجوعا، حتى خيل إلى العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم – وهو الوليد بن المغيرة -: “وما هو بالشعر”، معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده.
بيد أنه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط، خارقة لحدود العادة البشرية، بين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور، لكنه معجز ليس كمثله كلام؛ لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه، ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها، إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه، وقد نشأ فيهم وشب بينهم.
هذا إلى جانب أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة، لا محل فيها إلى خبث ورجس، بل قد نهى عن تجارب السحر وخبثه ورجسه، وسماه كفرا، إذ قال تعالى: )ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر( (البقرة: 102).
وبهذا البيان اتضح أن: اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سمات رئيسة مجتمعة:
جمال وقعه في السمع.
انسجامه الكامل مع المعنى.
اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى.
الخاصية الثانية: دقة التصوير.
ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان.
فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسة منتزعة من الواقع المشاهد، مؤتلفة ائتلافا عجيبا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارات والكنايات المسبوكة سبكا فريدا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها.
ومن سمات الصور القرآنية: أنها تصور الغائب حتى يصبح حاضرا، وتقرب البعيد النائي حتى يصير قريبا دانيا. ومن سماتها: التلوين في التشبيهات؛ فكثيرا ما يكون المشبه واحدا، والمشبه به شيئين فأكثر؛ تثبيتا للمعاني المرادة، وتعميقا لآثارها في النفس.
ومن ذلك ما شبه الله به حال المنافقين في قوله تعالى:)مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)( (البقرة).
والتشبيه الأول ناري، والثاني مائي، والمشبه فيهما المنافقون، والمشبه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد؛ لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفية من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شر أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشفت لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة.
فهم في ادعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها أو أوقدت له، فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حماية لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة والزكاة وغيرها.. لكنهم بكفرهم الذي أخفوه فأظهره الله في محكم آياته فقدوا الانتفاع والتمتع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضا ثواب الآخرة، وحرموا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن.
وهم في تخوفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى، كمثل أهل الصيب – المطر – الذين يكونون في أمس الحاجة إليه، فينزل عليهم مصحوبا برعد وبرق وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث – المطر – ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، فيحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيا من الموت فزعا وهلعا، ولكن دون جدوى، فالله محيط بهم وبأمثالهم.
ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين؛ لنيل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئا، فيبرق البرق فيمشي على ضوئه هنيهة[4]، فإذا ذهب البرق – وسرعان ما يذهب – وقف كما هو لا يقدم رجلا ولا يؤخر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب أو الإياب.
وفي هذين المثالين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثل له في جميع مواطنه وشتى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثالين على قوم من المنافقين في أي عصر وأي مكان لطابق المشبه المشبه به، وطابق الاسم المسمى.
ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم: أنها تخلو من المبالغات التي تخرج الكلام عن المعاني المرادة إلى جو من الخيال المفرط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان وذهاب الحقائق وخلو الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.
لهذا كانت تشبيهات القرآن وأمثاله صورا حية تعبر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تماما من التكلف والاعتساف مع رقة في النظم والحواشي والفواصل، كانت – ولا تزال – زادا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذواقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه.
وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدد على مر العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبا بدليلها المقنع، ويتلاشى في طياتها ما يستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة – وهو لون من التشبيه كما هو معروف – بإبراز المعاني والأهداف في صور محسة مفردة أو مركبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض، وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات، يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخاذ.
والكنايات في الأسلوب القرآني منتزعة من الواقع المشاهد، وأكثرها أمثال مرسلة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسبة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية، لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها.
ومن كنايات القرآن الكريم قوله تعالى: )ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون(75)( (المائدة)، فالمقصود من قوله تعالى:)كانا يأكلان الطعام( (المائدة: 75): هو ما يلزم عنه من إخراج الفضلات، وهو أمر يمج [5] الطبع السليم ذكره، وتستهجن الآذان سماعه، فعدل عنه إلى ملزومه، وهو أكل الطعام.
والكناية هي: لفظ له معنيان، أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، لعلاقة المشابهة بين المعنيين، فأكل الطعام يحتاج إليه لإقامة البنية، ويحتاج أيضا إلى إخراج فضلاته، فاكتفى سبحانه بذكر الملزوم، وأراد اللازم، أو أرادهما معا، فاكتفى بأكل الطعام عما يلزم عنه؛ لأنه دال عليه بالضرورة.
الخاصية الثالثة: قوة التأثير.
للأسلوب القرآني قوة في التاثير، وتنشأ هذه القوة من جمال التعبير ودقة التصوير، فيؤثر في العقول والقلوب معا.
فالقرآن الكريم يخاطب بأسلوبه المتفرد، العقل والعاطفة معا، ولا يخاطب العقل وحده؛ لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات، ولا يخاطب القلب وحده؛ لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب، ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو كتاب هداية، ومنهج حياة، يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، ويقودهم إلى ساحات الخير والفضل الإلهي، فيدعوهم إلى الإيمان بخالقهم – عز وجل – في سلاسة أسلوب، وعذوبة منطق، وقوة حجة لا تدع لهم مجالا للشك والارتياب.
والإيمان بالله يتطلب استجابة العقل والقلب معا، فالعقل والقلب من الإيمان كجناحي طائر، لا يطير بأحدهما دون الآخر.
يضاف إلى ذلك: أنه يرضي بأسلوبه العامة والخاصة، وهو ما يسمى عند الأدباء بـ “السهل الممتنع”، وأنه ذو أسلوب معجز، له جلال يقتحم القلوب في أعماقها من غير حاجز، ومعنى هذا: أنه إذا تليت آياته على العامة والخاصة، وجدوا – جميعا – في سماعه حلاوة تتذوقها القلوب قبل أن تصل إلى الأسماع.
والعامة والخاصة من الناس ليسوا سواء في تذوق حلاوة القرآن الكريم، بل إن الخاصة متفاوتون أيضا في التذوق بحسب استعدادهم الوهبي والكسبي، وبحسب تفاوتهم في درجات الإيمان والإخلاص والصفاء الروحي والذهني.
الخاصية الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
ومعنى هذا: أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة، بمقدرة فائقة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء، فهو ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه، ويسلك مسالك شتى في التعبير والتصوير والترغيب والترهيب، من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب، أو تنافر بين كلمة وأخرى، ومن غير أن تشعر بتغيير يذكر في الجو العام للنص القرآني. وهذا ضرب فريد من الإعجاز البياني، وإليك بعض الأمثلة لأسلوبين فقط – من أساليبه المتنوعة – وهما: أسلوبا الأمر والنهي، ومن خلالهما تستطيع أن تنطلق باحثا بين دفتي المصحف عن غيرهما من الأساليب.
فخذ أولا تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين، فإنه قد ورد بأساليب مختلفة، كل أسلوب منها في موقعه سديد:
فقد يرد الأمر صريحا بمادته المستعملة فيه، وهو لفظ “افعل”، مثل قوله تعالى:)يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف).
وقد يرد بلفظ فيه حروف الأمر نفسها، مثل قوله تعالى: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها( (النساء: 58)، وقوله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى( (النحل: 90)
وأحيانا يدل على الأمر بصيغة “كتب”، مثل قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصـــاص في القتلــى( (البقرة: 178)،)يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام( (البقرة: 183).
وقد يعبر عنه بكونه على الناس، نحو قوله تعالى: )ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)( (آل عمران).
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه، نحو قوله تعالى: )والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء( (البقرة: 228)، أي: مطلوب منهن أن يتربصن، وقد جاء هذا الأمر بصيغة الخبر مبالغة في طلب الحرص على فعله حتى لكأنه واقع منهن بمقتضى حيائهن الذي فطرن عليه، فإن المطلقة من شأنها أن تستحي من تعريض نفسها للأزواج بعد الطلاق، حتى تظل مدة كافية تتأكد فيها من براءة رحمها، وتكون لزوجها فرصة في مراجعتها إن كان قد طلقها طلقة رجعية.
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن الفعل بأنه خير، نحو قوله تعالى: )ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير( (البقرة: 220).
وقــد يعبــر عن الأمـر بوصـف الفعـل بالفرضيـة، نحـو قولـه تعالـى: )قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم( (الأحزاب: 50)، أي: من بذل المهور والنفقة والمعاشرة بالمعروف.
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الوعد والثواب على الفعل، نحو قوله تعالى:)من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11)( (الحديد).
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الفعل على شرط قبله، نحو قوله تعالى: )فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي( (البقرة: 196).
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام، نحو قوله تعالى: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، أي: تذكروا.
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل عقب ترج، نحو قوله تعالى:)ولعلكم تشكرون (185)( (البقرة: 185).
وقـد يعبـر عن الأمـر بترتيـب وصـف شنيــع على تـرك الفعـل، نحـو قولـه تعالـى: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون( (45) (المائدة).
أما أساليب القرآن الكريم في التعبير عن النهي فله صور منها:
الصيغة المألوفة الصريحة بأداة النهي المعروفة، مثل قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29)( (النساء).
الصيغة الصريحة التي تفيد التحريم بلفظه، مثل قوله تعالى: )قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)( (الأعراف)، وقوله تعالى: )حرمت عليكم((النساء: 23)، وقوله تعالى )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير( (المائدة: 3).
نفي الحل عنه، كقوله تعالى)يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها( (النساء: 19).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه ليس برا، كقوله تعالى: )ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها( (البقرة: 189).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه شر، كقوله تعالى: )ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم((آل عمران: 180).
قد ينهى عن الفعل بذكره مقرونا بالوعيد، كقوله تعالى:)والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة).
قد ينهى عن الفعل بذكره منسوبا إليه الإثم، كقوله تعالى: )فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه((البقرة: 181).
قد ينهى عن الفعل بالإتيان به في جانب مادة النهي، كما في قوله تعالى:)إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم( (الممتحنة: 9).
قد ينهى عن الفعل بالإخبار عنه بأنه رجس، ووصفه بأنه من عمل الشيطان، والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه، وترتيب مضار مؤذية على فعله، والأمر بالانتهاء منه في صورة الاستفهام، ومثال هذه الطرق كلها تحريم الخمر في قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)( (المائدة).
فهذه نماذج من الأوامر والنواهي جاءت على أساليب متعددة، وفق المقام الذي سيقت له والجو الذي سيقت فيه.
إن تصريف القول في القرآن على هذا النحو فن من فنون إعجازه الأسلوبي، وفي الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس؛ ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا، قال تعالى: )ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89)( (الإسراء)[6].
ها هو الأستاذ محمد الصادق قمحاوي يذكر في كتابه “البرهان في تجويد القرآن” شهادات الخصوم المشيدة بالقرآن وأسلوبه، منها قول المستشرق الفرنسي د. “موريس” في وصف القرآن الكريم: “إنه ندوة علمية للعلماء، ومعجم لغة للغويين، ومعلم نحو لمن يريد تقويم لسانه، ودائرة معارف للشرائع والقوانين، وكل كتاب سماوي جاء قبله لا يساوي أدنى سورة من سوره في حسن المعاني وانسجام الألفاظ، ومن أجل ذلك ترى رجال الطبقة الراقية في الأمة الإسلامية يزدادون تمسكا بهذا الكتاب، واقتباسا منه كلما ازدادوا رفعة في القدر ونباهة في الفكر”.
ثانيا. اختلاف خصائص الأسلوب المكي عن الأسلوب المدني:
تختلف خصائص الأسلوب للسور المكية عن السور المدنية، وذلك تبعا للموضوعات التي تتناولها، ولقد استنبط العلماء ضوابط لخصائص الأسلوب القرآني في السور المكية تبعا للموضوعات التي تتطرق إليها، ويمكن إجمالها فيما يلي:
الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والأدلة الكونية.
وضع الأسس العامة للتشريع، والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.
ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة؛ زجرا للمشركين حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يصبر على أذاهم ويطمئن إلى الانتصار عليهم.
قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعق القلوب أو يؤكد المعنى بكثرة القسم.
أما ضوابط السور التي نزلت بالمدينة، فيمكن إجمال خصائص أسلوبها والمواضيع التي تطرقت إليها فيما يلي:
بيان العبادات والمعاملات والحدود، ونظام الأسرة والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر أحكام الشريعة، ويوضح أهدافها ومراميها.
وقد أتى هذا الاختلاف بين الأسلوبين تبعا لاختلاف الموضوعات، وأيضا لاختلاف نوعيات الناس الذين يخاطبهم، ذلك إلى يوم القيامة[7].
الخلاصة:
إن معنى الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه. وأسلوب القرآن هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه.
إن الأسلوب يختلف عن المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.
إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن، والمزايا التي توافرت فيه جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته، ومن هذه الخصائص: جمال التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير، و براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
الخصائص الأسلوبية للغة القرآن جعلت لغته جديدة، فالجديد في لغة القرآن، أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين… وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
تمتاز السور المكية بخصائص تختلف عن خصائص السور المدنية، حيث تتفق مع سمات المرحلة ووقتها، ومن أهم هذه الخصائص: موضوع العقيدة ومعالجته، والأخلاق الفاضلة، وقصر الآيات مع قوة العبارة، وكثرة الردع والزجر، والبداية بالأحرف المقطعة – غالبا -، وذكر القصص السابقة، والجنة والنار، وكثرة القسم. أما القرآن المدني فمعني بآيات الجهاد، وذكر المنافقين والنفاق، والتشريع والنظم العامة، ومجادلة أهل الكتاب، وامتاز بطول آياته، وهدوء أسلوبه.
وتلك الميزات هي التي أعطت القداسة والإعجاز للنص القرآني وعجز العرب أن يأتوا بمثله أو حتى بمثل آية واحدة.
(*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1977م.
[1]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/ 1996م، ج2، ص241.
[2]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص46، 47 بتصرف.
[3]. خلجات النفس: بواطنها.
[4]. هنيهة: الوقت القليل.
[5]. يمج: يرفض.
[6]. دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص374 وما بعدها.
[7]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ص171، 172. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 13، 1425هـ/2004م، ص59، 60. دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص53: 56.
الفهم الخاطئ للقسم في القرآن الكريم
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن القرآن الكريم يعتمد على القسم في مواضع كثيرة، ويستدلــون بقولــه تعالــى: )والشمس وضحاها (1)( (الشمس) وقولــه تعالــى: )والفجر (1)( (الفجر)، وقوله أيضا: )والضحى (1) والليل إذا سجى (2)( (الضحى). ويتساءلون، كيف يقسم الله تعالى والحالف على قوله متهم في صدقه؟ ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القسم في القرآن الكريم جاء لأغراض عدة، منها: مراعاة لاختلاف الاستعداد النفسي لدى البشر، وتوكيدا للمعاني.
2) القسم في القرآن الكريم بهذه المخلوقات جاء للاستدلال المحض، ولم يكن الغرض منه تقديسها أو تعظيمها.
3) لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته كما هو وارد في كل الكتب السماوية، وليس للعبد أن يحلف إلا بالله تعالى، ثم إن القسم ورد أيضا في الكتاب المقدس.
التفصيل:
أولا. جاء القسم في القرآن نظرا لاختلاف الاستعداد النفسي لدى البشر:
يختلف الاستعداد النفسي عند الفرد في تقبله للحق وانقياده لنوره، فالنفس الصافية يكفيها في الانصياع إليه اللمحة والإشارة، وأما النفس التي رانت عليها سحابة الجهل، وغشيتها ظلمة الباطل، فلا يهتز قلبها إلا بمطارق الزجر، وصيغ التأكيد، حتى يتزعزع نكيرها، والقسم في الخطاب من أساليب التأكيد التي يتخللها البرهان المفحم، والاستدراج بالخصم إلى الاعتراف بما يجحد.
إن أسلوب القسم في اللغة طريق من طرق توكيد الكلام، وإبراز معانيه ومقاصده على النحو الذي يريده المتكلم، ومعلوم أن القرآن نزل بلغة العرب، وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عندهم، فكان من عادتهم أنهم إذا قصدوا توكيد الأخبار وتقريرها جاءوا بالقسم، وعلى هذا جاءت في القرآن أقسام متنوعة في مواضع شتى، فذكر القسم تأكيدا وبالطريقة المألوفة لديهم.
وللقسم أركان أربعة: المقسم، والمقسم به، والمقسم عليه، وأداة القسم، وما يعنينا الحديث عنه – فيما نحن بصدده – هو “المقسم به” ولمجيئه في القرآن الكريم أغراض منها:
أن يكون شيئا عاليا بعيدا عنا يثير الرهبة والعظمة والجلال، والقسم به يثير لدينا الفضول العلمي وحب الاستطلاع، وذلك كالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم.
وقد يكون المقسم به شيئا مما يحيط بالإنسان ويتعايش به ومعه، ويقسم الله تعالى به لما فيه من منافع وفوائد، كالتين والزيتون.
يقسم الله تعالى بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته، أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته[1].
ثانيا. قسم الله – عز وجل – بمخلوقاته لا يعني تقديسها وتعظيمها:
قد يكون الغرض من القسم الاستشهاد والاستدلال، وليس التعظيم والتقديس، إذ ورد استخدام العرب للقسم بمعنى الاستشهاد والاستدلال، مثل قول عنترة:
والخيل تعلم والفوارس أنني
فرقت جمعهم بطعنة فيصل
وليس المقصود هنا: إلا أنك لو سألت الخيل ونطقت لشهدت على دعواه.
ومن الأمثلة أيضا ما روي عن “هجرس” حين هم بقتل “جساس” قاتل أبيه، قال: “وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه[2]، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه”، ثم طعنه فقضى عليه، وهو هنا لم يرد تقديس هذه الأشياء وتشريفها – وإن كانت عظيمة عنده – وإنما أراد أن يقول إنه تام العدة، قادر على الثأر، ومن ثم، فلا يسوغ له أن يترك قاتل أبيه حيا.
وهناك ما يدل على أن القسم في القرآن الكريم لم يكن للتعظيم والتقديس، من ذلك:
تعميم المقسم به على طريق تعميم الآيات الدالة، كما قال تعالى: )والشمس وضحاها (1) والقمر إذا تلاها (2) والنهار إذا جلاها (3) والليل إذا يغشاها (4) والسماء وما بناها (5) والأرض وما طحاها (6) ونفس وما سواها (7)( (الشمس)، فلم يترك شيئا إلا وأقسم به، فكيف يظن أن الله عظم كل شيء، والسبيل إلى جعله آية دالة ظاهرة، فلا يصار إلا إليه.
ما يتبع المقسم به من التنبيه على كونه دليلا للعقلاء، كما قال تعالى: )والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا يسر (4) هل في ذلك قسم لذي حجر (5)( (الفجر) فهو هنا بعد ذكر الأقسام نبه سبحانه وتعالى على كونها دلائل لذي عقل وبصيرة، وكذلـك في قولــه تعالــى: )فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76)( (الواقعة)، أي: إن فيها دلالة عظيمة وشهادة كبيرة، فصرح بعظمة القسم لا بعظمة المقسم به.
تفسير الآيات بعضها ببعض، فقد يذكر الله تعالى الأمور الدالة على أسلوب القسم بها تارة، وأخرى على أسلوب الآية والعبرة، وكلها إشهاد لمــن يتفكــر فيهــا، قــال تعالى: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخــر بين السماء والأرض لآيــات لقــوم يعقلــون (164)( (البقرة)، ثم أشهد القرآن على أسلوب القسم بهذه الآيات، فأشهد بالسماء والأرض، والشمس والضحى والفجر،… وغيرها.
ثالثا. لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته – كما هو واضح في الكتب السماوية كلها – وليس للعباد أن يحلفوا إلا بالله تعالى:
وأكد العديد من العلماء – أمثال: د. سامي عطا حسن في كتابه “أسلوب القسم الظاهر في القرآن الكريم”، وعبد الحميد الفراهي في كتابه “إمعان في أقسام القرآن”، وابن القيم في كتابه “التبيان في أقسام القرآن” وغيرهم – على أن القسم في القرآن بمخلوقاته – عز وجل – خاص بالله وحده، ولا يجوز للعبد أن يحلف بها، ولله أن يحلف بما شاء، أما حلف العباد بغير الله فهو ضرب من الشرك، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك»[3]. وإنما أقسم الله بمخلوقاته؛ لأنها تدل على بارئها، وهو الله تعالى، وللإشارة إلى فضيلتها ومنفعتها ليعتبر الناس بها. وعن الحسن قال: “إن الله ليقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله”[4].
وقد ذكرت التوراة أن الله أقسم في مواضع عديدة، والإنجيل أيضا؛ ومن ذلك: “حلف الرب بيمينه وبذراع عزته”. (إشعياء 62: 8). وفي الإنجيل: “من حلف بالهيكل فليس بشيء، ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم. أيها الجهال والعميان! أيما أعظم: ألذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب؟ ومن حلف بالمذبح فليس بشيء، ولكن من حلف بالقربان الذي عليه يلتزم. أيها الجهال والعميان! أيما أعظم: ألقربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟ فإن من حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه! ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه”. (متى 23: 16 – 22). وفي الزبور: “أقسم الرب ولن يندم”. (المزمور 110: 4). وفي سفر التكوين: “بذاتي أقسمت”. (التكوين 22: 16).
وبهذا البيان اتضح أن القسم في القرآن الكريم، لم يكن تعظيما وتقديسا للمقسم به، وإنما للاستشهاد وللاستدلال به فقط[5].
الخلاصة:
نزل القرآن بلغة العرب، وقد لجأ القرآن إلى القسم جريا على عادة العرب في توكيد الكلام وإبراز معانيه، ومن أغراضه أيضا: أن يكون شيئا يثير الفضول العلمي وحب الاستطلاع، وقد يكون شيئا مما يحيط بالإنسان ويتعايش به ومعه، فيقسم الله تعالى به لما فيه من منافع… إلخ.
ليس معنى قسم الله – عز وجل – ببعض مخلوقاته أن هذه الأشياء معظمة ومقدسة، بل إن القسم بها جاء على سبيل الاستدلال والاستشهاد، ومثال ذلك كثير في لغة العرب الفصيحة.
الله – عز وجل – هو خالق الكون وكل ما فيه من مخلوقاته، وله وحده سبحانه وتعالى أن يحلف بما شاء من خلقه، فكل شيء تحت أمره ورهن إشارته، أما العبد، فلا يجوز له أن يحلف بغير الله؛ لأن هذا من قبيل الشرك بالله. ولذلك نرى كل الكتب السماوية تشمل على أسلوب القسم، فكيف يعاب على القرآن وجود القسم فيه وهو موجود في غيره من الكتب السماوية؟!
(*) موقع الكلمة. www.alkalema.com
[1]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 13، 1425هـ/2004م، ص284 وما بعدها.
[2]. الغرار: حد السيف.
[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (6072)، وأبو داود في سننه، كتاب الإيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء (3253)، وصححــه الألبانــي في صحيــح أبي داود (2787).
[4]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الإيمان والنذور، باب الرجل يحلف بغير الله أو بأبيه (12288).
[5]. الشبكة الإسلامية. www.islamweb.org
تخطئة القرآن في وصفه السماء بالسقف المحفوظ
مضمون الشبهة:
التبس الأمر على بعض الطاعنين فزعموا أن القرآن الكريم أخطأ في وصفه السماء بالسقف المحفوظ في قوله تعالى: )وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32)((الأنبياء)، مدَّعين أن هذا الوصف لا يتناسب إلا مع شخص ينظر إلى السماء من الأرض، دون أدنى معرفة بعلم الفلك؛ فيظن أن السماء كسقف الخيمة، وأن القمر والنجوم أشياء مسطَّحة في ذلك السقف، وهذا يتناسب مع البدوي الجاهل فحسب، ويستدلون على زعمهم بأن الفراغ لا يمكن أن يكون سقفًا، فضلًا عن أن يكون سقفًا محفوظًا.
وجها إبطال الشبهة:
1) أثبت العلم أن السماء هي كل ما يحيط بالأرض بدءًا من غلافها الغازي وانتهاءً بحدود الكون المدرَك، كما أنها عبارة عن بناء متماسك مترابط، على الرغم من تمدُّد هذا البناء واتساعه المستمر بسرعة رهيبة إلا أنه لا يوجد به أي فراغ، وأحدث ما يقرِّره العلماء، وآخر وصف يصفون به هذا الغلاف، هو أنه كالسقف الذي يحمينا.
2) إن الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية هو جزء من “السماء” يؤدي وظائف ضرورية؛ لاستمرار الحياة بالنسبة لجميع الكائنات؛ إذ توصَّل العلماء في العصر الحديث إلى أن هناك نظامًا متكاملًا يعمل فوق الأرض، يتمثل في الغلاف الجوي بطبقاته، وهو يحيط عالمنا ويحميه من التهديدات الخارجية، بيد أن العلماء لم يعلموا بوجوده إلا مؤخرًا، لكن الله سبحانه وتعالى أخبرنا به منذ قرون بعيدة، قال تعالى: )وجعلنا السماء سقفا محفوظا((الأنبياء: ٣٢).
التفصيل:
أولاً- إثبات العلم الحديث مدى دقة الوصف القرآني للسماء بالسقف:
1) الحقائق العلمية:
في البداية نودُّ الإشارة إلى أن السماء جزء من الغلاف الجوي أو الفضاء الخارجي، وبالتأثير المرئي تبدو أنها تحيط بالأرض، وخلال النهار تظهر السماء زرقاء عميقة.
وكان المعتقد القديم عن السماء أنها غلاف أو سقف للأرض لونه أزرق نهارًا وإذا جاء الليل كان أسود.. وكان المعتقد أيضًا أن السماء شيء ملموس، كالسقف مثلًا يمكن لمسه للصاعد إليها.
أما السماء في العصر الحديث فهي وصف لما نراه فوق الأرض، وليست شيئًا ملموسًا يمكن الوصول إليه، وما نراه من لون أزرق هو انعكاس ضوء الشمس على الغلاف الجوي للأرض الذي سرعان مايتغير لونه إلى البنفسجي عند الغروب أوالشروق، وبعدها يصبح أسود، وتُرىالنجوم وأصقاع الفضاء المتاح للعين المجردة، ذلك أن ضوءالشمس يختفي عندالغروب ثم ينعكس على الغلاف الجوي، فيصبح الغلاف الشفاف مكشوفًا للفضاء الخارجي، وما نراه من سواد هو المادة الداكنة للفضاء البعيد.
صورة من طائرة توضح السماء من أعلى
كما أثبت العلم الحديث أنه لا يوجد في الكون شيء اسمه خلاء أو فضاء، كما أثبت أن المادة تنتشر انتشارًا كاملًا، وأن السماء بناء محكم؛ فعلى الرغم من أن الكون يتسع باستمرار إلا أن أجزاء السماء شديدة التماسك والترابط، بمعنى أن المجرات تتباعد عن بعضها بعضًا بسرعات تكاد تقترب من سرعة الضوء (300 ألف كم في الثانية)، وتتخلَّق المادة من حيث لا يعرف الناس؛ لتملأ الفراغات الناتجة بين هذه المجرات المتباعدة؛ حتى لا يكون في السماء فراغ ولا فضاء.
فالمسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدًّا من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين، وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات الـمُتناهِية في الصغر من المواد الصلبة، على هيئة هباءات من غبار دقيق الحبيبات، يغلب على تركيبه ذرات من الكالسيوم، والصوديوم، والبوتاسيوم، والتيتانيوم، والحديد، بالإضافة إلى جزيئات من بخار الماء، والأمونيا، والفورمالدهايد، وغيرها من المركبات الكيميائية.
وبالإضافة إلى المادة التي تملأ المسافات بين النجوم، فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد، مُتماسِك الأطراف، وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين، بل في العقود المتأخرة منه([1]).
صورة لمركز مجرتنا درب التبانة مغطاه بغلالة من سحب الغاز والغبار
وها هو العالم “فريد هويل”([2]) يعترف بأن السماء بناء وليست فضاء، وذلك في كتابه”الكون الذكي” (The Intelegent Universe)؛ فيقول: كنا ننكر وجود خالق لهذا الكون من قبل، فإذا بالخالق يؤكد لنا وجوده، بامتلاء الفراغات الناتجة عن ابتعاد المجرات بمادة تتخلَّق من حيث لا ندري من أين تأتي هذه المادة!
فهذه شهادة بأن الذي خلق الكون، هو الذي يخلق هذه المادة ليملأ بها هذه المسافات الشاسعة التي تتكوَّن بين المجرات المتباعدة عن بعضها([3]). وهذه الشهادة تبين مدى فساد قول القائل بأن الكون يحتوي على فراغ، ويستنكر أن يكون هناك سقف يحمينا.
لقد اكتشف العلماء حديثًا طبقات الكون الفسيح بامتداد النجوم في المجرات في الفضاء اللانهائي، وذهب العلماء إلى أنها جميعًا تشير إلى السماء وهي:
الغلاف الجوي للأرض.
الفضاء المحيط بالأرض الذي يسبح فيه القمر مشدودًا بجاذبية الأرض وتابعًا لها.
فضاء المجموعة الشمسية الذي تسبح فيه الكواكب حول الشمس.
المجال الذي تجري فيه الشمس بمجموعتها داخل المجرة.
الفضاء الذي تشغله مجرة درب التبانة متحركة في الفضاء الفسيح.
فضاء الكون المرئي بما فيه من آلاف المجرات.
الفضاء اللانهائي الذي لم تزل تنطلق فيه المجرات المتباعدة عن بعضها موسعة للكون باطراد إلى ما شاء الله.
وذهب فريق إلى القول بأن السماء هي طبقات الغلاف الجوي، هذه الطبقات تختلف عن بعضها بعضًا في الترتيب على النحو الآتي:
1 ـ أدنى هذه الطبقات طبقة التروبوسفير.
2، 3 ـ يعلو هذه الطبقة طبقتان يطلق عليهما مجتمعتين: الستراتوسفير.
4ـ أما الطبقة الرابعة: الميزوسفير.
5 ـ الطبقة الخامسة: الثربوسفير.
6 ـ الطبقة السادسة: الأيونوسفير.
7 ـ الطبقة السابعة: الإكسوسفير([4]).
وسواء كان الغلاف الجوي بطبقاته هو المقصود أم كانت سماء الكون على امتدادها هي المقصودة، فإن هذا يدل دلالة قاطعة على أن السماء سقف، ولا يختلف في ذلك الناظر إليها من الأرض -البدوي البسيط- أو الناظر إليها من أية جهة أخرى -رواد الفضاء مثلًا- وصدق الله إذ يقول:)وجعلنا السماء سقفا محفوظا ((الأنبياء: ٣٢).
ثانيًا- الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية هو جزء من السماء، يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة بالنسبة لجميع الكائنات الحية:
1) الحقائق العلمية:
إن الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية هو جزء من السماء يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة بالنسبة لجميع الكائنات الحية حتى التي توجد في أعماق البحار، ويدور هذا الغلاف حول الأرض ويرتبط بها بقوة الجاذبية، ويتكوَّن من خليط من الغازات تتخلَّلها جسيمات دقيقة عالقة من مواد صلبة كالأتربة والدخان، ومواد سائلة كبخار الماء، وقد أثبتت الأبحاث العلمية التي أجريت في القرن العشرين أهمية كل طبقة من طبقات الغلاف الجوي.
إن أحدث شيء يقرِّره العلماء وآخر وصف يصفون به هذا الغلاف أنه كالسقف الذي يحمينا في وسط هذا الكون المظلم والبارد، فهو يقوم بما يأتي:
من أهم خصائص الغلاف الجوي أنه يحفظ حياة الكائنات على ظهر الأرض؛ ففيه الأكسجين اللازم لاستمرار الحياة.
يقوم الغلاف الجوي بحفظ الحرارة القادمة من الشمس وتخزينها، والمحافظة علىحرارة معتدلة ومناسبة للحياة، ولولا هذه الميزة لأصبح كوكب الأرض كالقمر درجة الحرارة على أحد وجهيه أكثر من مئة درجة، وعلى الوجه الآخر أقل من مئة درجة تحت الصفر.
ملايين الأحجار النيزكية تهوي على الأرض يوميًّا، جميعها يتصدَّى لها الغلاف الجوي فتحترق بسبب احتكاكها معه قبل أن تصل إلى الأرض إلا القليل منها([5])، وأثبت العلماء أن السماء سقف محفوظ من خلال هذه الوظيفة المهمة التي يقوم بها الغلاف الجوي؛ إذ بها يحفظ الحياة على سطح الأرض، فهو يقوم بتحطيم جميع النيازك التي تكون بطريقها إلى الأرض، وهذه النيازك يكون عددها بالملايين، ولا تصل إلى الأرض إلا وقد تحوَّلت إلى ذرات صغيرة.
هذه الصورة التوضيحية تظهر النيازك وهي على وشك الارتطام بالأرض، والأجرام السماوية التي تسبح في الفضاء قد تشكِّل تهديدًا خطيرًا على الأرض، ولكن الله سبحانه وتعالى الذي خلقها بأكمل خلق جعل الغلاف الجوي سقفًا حاميًا لها، وبفضل هذه الحماية الخاصة فإن معظم النيازك لا تؤذي الأرض؛ إذ إنها تتفتت في الغلاف الجوي
فتخيَّل لو أن تلك الملايين من النيازك ضربت الأرض ماذا سيحدث؟!
فالغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يؤدي وظائف ضرورية لاستمرارية الحياة، فهو حين يدمِّر الكثير من النيازك الكبيرة والصغيرة فإنه يمنعها من السقوط على سطح الأرض وإيذاء الكائنات الحية.
الصورة أعلاه تعود إلى فجوة أحدثها سقوط أحد النيازك في أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولولا وجود الغلاف الجوي لسقطت ملايين النيازك على الأرض جاعلة منها مكانًا غير قابل للعيش فيه، ولكن خاصية الحماية التي يتمتع بها الغلاف الجوي تسمح للكائنات بالبقاء آمنة على قيد الحياة
وكذلك يقوم الغلاف الجوي بتصفية أو فلترة جميع الأشعة الضارة بالحياة، القادمة من خارج الغلاف الجوي. والعجيب في هذه الفلترة التي يقوم بها الغلاف الجوي أنه يسمح بمرور الأشعة غير الضارة بالحياة، التي هي أصلًا نافعة لاستمرارية الحياة على سطح هذا الكوكب!
وهذه الأشعة، التي تمرُّ عبر الغلاف الجوي، هي الأشعة المرئية والأشعة القريبة من الأشعة تحت الحمراء، ولها عامل حيوي لجعل الحياة صالحة على سطح الأرض! كما أن هذه الأشعة أساسية لحدوث عملية البناء الضوئي التي لو لم تكن موجودة لما وجدت النباتات!
وكذلك يقوم الغلاف الجوي بعكس جميع الأشعة الصادرة من الشمس وإرجاعها، ولكنه يسمح بمرور الحيوي منها لسطح الأرض، وهذه الوظيفة لا تنتهي هنا؛ بل إنه يقوم بحماية الأرض من صقيع الفضاء وبرودته التي تصل درجة حرارته إلى 270 تحت الصفر!
حين ننتقل بالحديث عن الأرض نجدها ملائمة تمامًا للحياة البشرية، وعندما ننفذ من الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي نصادف فيه برودة شديدة تصل إلى 270درجة تحت الصفر، وقد حُميت الأرض من هذه البرودة بفضل الغلاف الجوي
فالأشعة فوق البنفسجية التي يُسمح بمرورها بشكل جزئي فقط عبر الغلاف الجوي، ضرورية جدًّا لعملية التمثيل الضوئي في النباتات، ولبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة؛ كما أن غالبية الإشعاعات فوق البنفسجية المركَّزة التي تنبعث من الشمس يتم تصفيتها من خلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، ولا تصل إلا كمية محدودة وضرورية من الطيف فوق البنفسجي إلى الأرض.
يقول دكتور “هوغ روس” عن أهمية حزام “فان ألن”([6]) ما يأتي: في الحقيقة إن الأرض تملك كثافة أعلى من كل ما تملكه باقي الكواكب في النظام الشمسي، وهذا القلب العظيم للأرض المكوَّن من الحديد والنيكل هو المسئول عن الحقل المغناطيسي الكبير، وهذا الحقل المغناطيسي هو الذي ينتج درع إشعاعات “فان ألن” الذي يحمي الأرض من الانفجارات الإشعاعية، ولو لم يكن هذا الدرع موجودًا لما كانت الحياة ممكنة على سطح الأرض، ولا يملك مثل هذا الدرع سوى الأرض وكوكب المريخ الصخري، ولكن قوة حقله المغناطيسي أقل بمئة مرة من قوة حقل الأرض المغناطيسي، وحتى كوكب الزهرة المشابه لكوكبنا ليس لديه حقل مغناطيسي. إن درع “فان ألن” الإشعاعي هو تصميم فريد خاص بالأرض.
الطاقة التي تنتجها الشمس تتفجر مثل قنبلة هائلة يصعب على العقل البشري تصور مداها
إن الطاقة التي ينقلها انفجار واحد فقط من هذه الانفجارات التي تم حساب قوتها مؤخرًا تعادل قوة مئة بليون قنبلة ذرية شبيهة بتلك التي ألقيت فوق هيروشيما. وبعد خمس وثمانين ساعة من انفجارها لوحظ أن الإبر المغناطيسية في البوصلة أظهرت حركة غير عادية، ووصلت الحرارة فوق الغلاف الجوي على ارتفاع مئتين وخمسين كيلو مترًا إلى 1500 درجة مئوية([7]).
وباختصار فإن هناك نظامًا متكاملًا يعمل فوق الأرض وهو يحيط عالمنا ويحميه من التهديدات الخارجية. إلا أن العلماء لم يعلموا بوجوده إلا مؤخَّرًا، ولكن الله سبحانه وتعالى أخبرنا منذ قرون بعيدة عن غلاف الأرض الجوي الذي يشكِّل درعًا واقيًا لها([8]).
في هذه الصورة كوكب الأرض على اليمين ويحيط به مجال مغاطيسي قوي، وهذا المجال يصدُّ الجسيمات التي تطلقها الشمس وتسمَّى الرياح الشمسية القاتلة، ولولا وجود هذا المجال لاختفت الحياة على ظهر الأرض
وبواسطة الأقمار الصناعية في عام 1958م تم اكتشاف أن الغلاف الجوي للأرض هو عبارة عن سقف محفوظ، يحفظ الكرة الأرضية من الأشعة الكونية والرياح القاتلة بواسطة “أحزمة فان ألن”، التي ترتفع من ألف إلى 65 ألف كم فوق سطح البحر، وتمتد إلى مسافة عرضها 7500 كم، وهذه الأحزمة تشكل درعًا واقيًا للأرض وغلافها الجوي([9]).
سخر لنا الله تعالى هذا الغلاف الجوي وأحاط به الأرض؛ ليكون سقفًا نحتمي تحته من الرياح الشمسية القاتلة والأشعة الكونية المدمِّرة، ولولا وجود هذا الغلاف لما استمرت الحياة على ظهر الأرض؛ ولذلك فإن هذا الغلاف الجوي من النعم العظيمة التي ينبغي علينا أن نؤدي شكرها لله تعالى
فلولا هذا الحقل المغناطيسي للأرض الذي هو سبب في حفظ الغلاف الجوي لفتكت أشعة جاما وأشعة ألفا والقسم الأكبر من الأشعة تحت الحمراء والأشعة الأخرى المجهولة- لفتكت بالأحياء الأرضية، ولما أمكن للحياة أن توجد على كوكب الأرض([10]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة:
ادَّعى بعض الطاعنين خطأ القرآن في وصفه السماء بالسقف المحفوظ في قوله تعالى:)وجعلنا السماء سقفا محفوظا ((الأنبياء:32)، لكن حقائق العلم الحديث أثبتت مدى دقة الإشارة القرآنية وموافقتها للثوابت وما اكتشفه العلماء حديثًا، وفي بيان الدلالات اللغوية للآية مع تفسيرها ما يؤكد ذلك:
من الدلالات اللغوية للآية:
السماء: قال صاحب اللسان: سماء كل شيء: أعلاه، مذكر. والسماء: سقف كل شيء وكل بيت، والسماوات السبع: سماءٌ، والسماوات السبع: أطباق الأرضين، وتجمع سماءات وسماوات. وقال الزجاج: السماء في اللغة يقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو، وكل سقف فهو سماء([11]).
والسماء في الاصطلاح: ذلك العالم العلوي الذي نراه فوق رءوسنا بكل ما فيه من أجرام.
والسماء في العلم: كل ما يحيط بالأرض بدءًا من غلافها الغازي وانتهاء بحدود الكون المدرَك([12]).
والسقف: غماء البيت، والسماء سقف الأرض([13]).
من أقوال المفسرين:
بالرجوع إلى أقوال المفسرين في هذا الوصف القرآني: )سقفا محفوظا((الأنبياء:32)، يتبين لنا مدى موافقته للحقائق العلمية التي لم تُكتشف إلا حديثًا؛ يقول الإمام الفخر الرازي: سمَّى السماء سقفًا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت، ولفظ “محفوظًا” يشير إلى أنه محفوظ من الوقوع والسقوط اللذين يجري مثلهما على سائر السقوف كقوله: )ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه((الحج: ٦٥)، وقال: )ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ((الروم: ٢٥)، وقال تعالى: )إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا((فاطر: ٤١)، وقال: )ولا يئوده حفظهما((البقرة: ٢٥٥) ([14]).
كما ذكر الشيخ الشعراوي : أن الله عز وجل سمَّى السماء سقفًا؛ لأن السماء كل ما علاك فأظلك، وفرْق بين سقف من صنع البشر يعتمد على أعمدة ودعائم… إلخ، وسقف من صنع الخالق العظيم، سقف يغطي الأرض كلها ومحفوظ بلا أعمدة، سقف مستوٍ لا نتوء فيه ولا فتور… ومعنى “محفوظًا”، أي: في بنية تكوينه؛ لأنه محكم لا اختلاف فيه، ولا يحفظ إلا الشيء النفيس…
إذًا في خلق السماء عظمة خلْق، وعظمة تكوين، وعظمة صيانة تناسب قدرة المولى عز وجل، ولا يقدر عليها إلا الله، فكأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا: الصيانة من عندنا نحن، ولن نترك لكم صيانتها، وإن كانت لا تحتاج إلى صيانة لأنها صنعتنا([15]).
ويذكر صاحب الظلال في تفسير قوله تعالى: )وجعلنا السماء سقفا محفوظا( (الأنبياء: 32) أن السماء كل ما علا، ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف، والقرآن يقرِّر أن السماء سقف محفوظ؛ محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق، ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزًا للعلو الذي تتنزل منه آيات الله..([16]).
3) وجه الإعجاز:
يُشير القرآن الكريم إلى أن السماء جُعلت سقفًا محفُوظًا، ويأتي العلم الحديث فيكشف لنا عن بناء هذا السقف المحكم، وأن فوق الأرض نظامًا متكاملًا يَلُفُّها ويحميها من الأخطارالخارجية، ويحفظها مناسبة لوجود الحياة عليها؛ وقد أثبتت الأبحاث العلمية فيالقرن العشرين هذه الخاصية للسماء من خلال بيان فائدة الخاصية الواقعية للغلاف الجوِّي.
وبعد هذه الحقائق التي تؤكد أن السماء التي فوقنا تحمينا من كثير من الأضرار، أليست هذه السماء سقفًا محفوظًا بعناية الله يحفظنا ويحافظ على حياتنا؟
إن هذا الوصف موجود في كتاب الله منذ أربعة عشر قرنًا، يقول تعالى: )وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32)((الأنبياء)، لنتأمل هذا التعبير العلمي: كيف جاء هذا التعبير الدقيق في كتاب أنزل في عصر لم يكن فيه إلا الأساطير! في ذلك الوقت لم يكن أحد يعلم بوجود غلاف جوي للأرض، فمن الذي أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا السقف المحفوظ؟ )ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ( (آل عمران)([17]).
(*) منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، دار المعرفة، بيروت، ط4، 1428هـ/ 2007م، ص86، 87.
[2]. السير فريد هويل: فلكي وعالم رياضيات بريطاني، وهو من أسَّس لنظرية الانفجار العظيم، وصاحب نظرية”الحالة المضطردة” بخصوص أصل الكون.
[3].)وجعلنا السماء سقفا محفوظا((الأنبياء:32)،.. آية قرآنية وحقيقة علمية مبهرة، مقال منشور بمنتدى: طيوب www.toyob.com.
[4]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص19، 20.
[5]. السقف المحفوظ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[6]. يُقصد بحزام فان ألن: الغلاف المغناطيسي للأرض الذي يمتد تأثيره إلى مسافة 60 ألف كم، وقد اكتشفه الفلكي الأمريكي (van allan) عام 1965م؛ ولذلك سُمِّي باسمه.
[7]. السقف المحفوظ وطبقات الغلاف الجوي، مقال منشور بموقع: رابطة نصرة المسيحwww.nasara.org/nasrah.net.
[8]. الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص74.
[9]. القرآن العظيم وعلوم الفضاء، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي للقرآن الكريم www.fussilat.org
[10]. للمزيد انظر: آيات الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 2008م، ص74. الموسوعة العلمية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. هاني بن مرعي القليني ومجدي فتحي السيد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 2008م، 631- 635.
[11]. لسان العرب، مادة: سمو.
[12]. الفيزياء في القرآن الكريم: السقف المحفوظ، بحث منشور بموقع: جريدة البينةwww.al-bayyna.com.
[13]. لسان العرب، مادة: سقف.
[14]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، 1401 هـ/ 1981 م، عند تفسيره لهذه الآية.
[15]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج15، ص9529- 9531 بتصرف.
[16]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، بيروت، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2377.
[17]. السقف المحفوظ، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
توهم تعارض القرآن بشأن حفظه من الضياع
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين قوله سبحانه وتعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7)( (الأعلى)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، كقوله سبحانه وتعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17)( (القيامة)، حيث أخبر الله – سبحانه وتعالى – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ينسى من القرآن ما شاء الله أن ينساه في الآية الأولى، والذي ينسى يضيع، وقد بينت آيات أخرى أن القرآن الكريم محفوظ من الضياع.
ويتساءل هؤلاء: كيف يشير الله في موضع إلى أن هذا القرآن ينسى، والنسيان طريق الضياع، ثم يقرر في موضع آخر أن القرآن محفوظ من الضياع؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
ينتفي هذا التعارض عن طريقين:
النسيان في قوله ـ سبحانه وتعالـى ـ: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى) على الوجهين:
الأول: أنه من قبيل الإنشاء (النهي).
الثاني: أنه من قبيل الخبر.
الاستثناء في قوله سبحانه وتعالى: )إلا ما شاء الله( (الأعلى: ٧) بين الحقيقة والمجاز.
الأول: الحقيقة، والمستثنى هنا هو المنسوخ أو المنسي نسيانا مؤقتا.
الثاني: المجاز، والاستثناء هنا لبيان القدرة الإلهية.
التفصيل:
انتفاء التعارض بين الآيات:
أخبر الله – عزوجل – النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله سبحانه وتعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17)( (القيامة)، بأنه – سبحانه وتعالى – تولى جمع القرآن في صدره – صلى الله عليه وسلم – لكي يقرأه على الناس من غير أن ينسى منه شيئا.
وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يقرأ مع جبريل أثناء تلقي الوحي منه، من شدة حرصه على حفظ القرآن؛ مخافة أن ينسى منه شيئا، فنهاه الله – سبحانه وتعالى – عن ذلك، وطمأنه بأنه سيجمع القرآن في صدره، فلا ينسى منه شيئا. وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، فالقرآن تكفل رب العالمين بحفظه، فلا يضيع منه شيء، كما ذكرت آية الحجر وآية القيامة؛ فلا تعارض بين الآيات، أما عن قوله سبحانه وتعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى)، فيحتمل احتمالين:
الأول: أن يكون نهيا، فيكون المعنى: فلا تغفل قراءته وتكراره؛ حتى لا تنساه. وعلى هذا فلا تعارض، وأثبتت الألف في )فلا تنسى( مع أنه مجزوم بـ”لا” الناهية؛ رعاية لفواصل الآيات في السورة.
الثاني: أن يكون خبرا، فتكون الآية بشارة من الله، ووعدا للنبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه سبحانه سيقوي حفظ نبيه للقرآن؛ حتى لا ينساه.
والأصح: أن الآية من قبيل الخبر على سبيل البشارة والوعد، ويؤيد ذلك عدة قرائن، منها:
أنه يلزم على كونها نهيا ارتكاب مجاز في النسيان، يحمله على ترك القراءة والغفلة عنها، والحمل على الحقيقة أولى من المجاز.
أن جعل الألف مزيدة للفاصلة خلاف الأصل.
أن في كون الآية خبرا تأييدا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكل ما يدل على إعجاز القرآن وصدق الرسول – صلى الله عليه وسلم – أولى.
وإذا كان قوله سبحانه وتعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى) من باب الإخبار والبشارة والوعد، فما معنى الاستثناء في قوله سبحانه وتعالى: )إلا ما شاء الله( (الأعلى: 7) وهل هو على حقيقته أم لا؟
وفسر الاستثناء في هذه الآية على قولين:
الأول: أنه على حقيقته، ومعنى الآية: سنقرئك القرآن فلا تنسى منه إلا ما شاء الله أن تنساه، ويرفع حكمه وتلاوته، فالمستثنى هو ما نسخه الله من القرآن، ورفع حكمه وتلاوته، أو أن النسيان الذي أفاده الاستثناء هو الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام الذي هو محو الشيء من الذهن بالكلية؛ لأن النسيان التام يخل بموجب التبليغ عن الله تعالى، ويزعزع الثقة في القرآن الكريم. ومعنى الآية: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم يذكرك به بعد، إما بنفسك، وإما بغيرك.
الثاني: أن الاستثناء ليس على حقيقته، ومنهم الفراء الذي قال: إن هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله – سبحانه وتعالى – في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه، والزمخشري أيضا الذي ذكر أن الغرض نفي النسيان رأسا، ولا يقصد استثناء شيء. والاستثناء على هذا لبيان أن الله – سبحانه وتعالى – لو أراد أن يصير نبيه – صلى الله عليه وسلم – ناسيا لذلك لقدر عليه، كما قال سبحانه وتعالى: )ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك( (الإسراء: ٨٦)، والله – سبحانه وتعالى – لم يشأ ذلك.
فعدم النسيان إنما هو من الله تعالى وإحسانه، لا من قدرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد قوى هذا القول ما قيل في قول الله – سبحانه وتعالى – عن أهل الجنة: )وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108)( (هود)، من أن الاستثناء ليس على حقيقته، وإنما المقصود: أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.
وقد ضعف هذا القول بعض المفسرين كأبي حيان الذي قال: وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، بل ولا في كلام فصيح[1].
والأرجح: أن الاستثناء على حقيقته، وأن النسيان الذي أفاده الاستثناء هو الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام، وذلك لأمور هي:
أن الأصل إبقاء الأشياء على حقيقتها، وحيث يمكن هنا الاستثناء على حقيقته مع عدم الإخلال بالقاعدة المقطوع بها، وهي عصمة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – في مجال التبليغ عن الله – سبحانه وتعالى – فلا داعي للخروج به عن حقيقته.
أن النسيان الذي يعقبه التذكر لا ضير فيه، ولا يخل بمهمة التبليغ، ولا يزعزع الثقة بالنبي ولا بالقرآن، ولوقوعه من النبي – صلى الله عليه وسلم – فائدة هي أن يسن لنا.
أن هذا القول تؤيده أحاديث متعددة منها: أن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلا يقرأ في المسجد فقال: “يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا»[2]. وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون»[3] [4]. ويذكر ابن حجر: أن في قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – حجة لمن أجاز النسيان على النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا، وكذا فيما طريقه البلاغ لكن بشرطين:
أحدهما: أنه بعدما يقع منه تبليغه.
والآخر: أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه، وإما بغيره[5].
ويندرج تحت زعمهم هذا ادعاؤهم تناقض القرآن حول قوله سبحانـه وتعالــى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، وقولــه: )يمحو الله مــا يشــاء ويثبــت وعنــده أم الكتــاب (39)( (الرعد)، ويتساءلون: كيف يجتمع الحفظ مع المحو؟
ونحن نجيب بأن: الآية تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب؟ كما أن المقصود بالمحو والإثبات هو في وقت حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن الله يحفظ القرآن ويصونه.
الخلاصة:
ليس في قوله سبحانه وتعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى)، ما يدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نسى آيات من القرآن نسيانا يقدح في عصمته في التبليغ، ويتعارض مع قوله ـ سبحانه وتعالى ـ: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، الذي يفيد تكفل الله – سبحانه وتعالى – بحفظ القرآن الكريم؛ لأن النسيان الذي أفادته الآية فهو النسيان الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام على أرجح الأقوال. وهذا ما يتناسب مع تكفل المولى بحفظه في مواضع أخرى منه. أو أن الأمر كله من قبيل النفي، بمعنى: فلن تنسى.
الاستثناء في قوله تعالى: )سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7)( (الأعلى) يمكن أن يفسر على وجهين: إما أنه على الحقيقة، وهذا يعني أن الله – عز وجل – أراد أن ينسى الرسول – سبحانه وتعالى – ما نسخه الله من القرآن ورفع كلمه وتلاوته، أو أنه نسيان يعقبه تذكر. وإما أنه على غير حقيقته، أي: لا يوجد شيء أبيح نسيانه أصلا، فلا مجال للاستثناء في الآية.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج7، ص459.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا (4750)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا (1873).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[4]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م ، ص49،48 بتصرف.
[5]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، ج9، ص68.
توهم تناقض القرآن الكريم بشأن بيان أظلم الناس
مضمون الشبهة:
يتوهم المبطلون وجود تناقض بين قوله تعالى: )ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)( (البقرة)، وبين قوله تعالى: )فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (37)( (الأعراف)، وقوله تعالى: )فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17)( (يونس).
ويتساءلون: كيف يذكر القرآن الكريم في موضع أن أظلم الناس هو الذي يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ويسعى في خرابها، بينما يذكر في مواضع أخرى أن أظلم الناس هو الذي افترى على الله الكذب أو كذب بآياته؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
يزول التناقض المزعوم بواحد من التوجيهات التالية:
تخصيص كل موضع من مواضع هذه الآيات بمعنى سياقه الذي ورد فيه.
أن التخصيص بالنسبة إلى السبق في الفعل، أي: لا أحد ممن يأتي بعد كل من المذكورين سالكا طريقه، أظلم منه في فعله.
لا أحد من هؤلاء المذكورين في الآيات أظلم من الآخر؛ لأنهم يتساوون جميعا في الظلم.
التفصيل:
توهم وجود تعارض بين آيات القرآن الكريم حول أظلم الناس وجزائه – توهم لا أساس له، فقد ذكر العلماء عدة توجيهات للتوفيق بين هذه الآيات منها:
تخصيص كل موضع بذكر معنى صلته وموصوله يوضح اللبس:
تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا، وهكذا سائر الآيات، وإذا تخصصت بصلاتها زال التناقض.
التخصيص بالنسبة إلى السبق في الفعل:
إن التخصيص بالنسبة إلى السبق، أي: لا أحد ممن جاء بعد – كل واحد من المذكورين في الآيات – سالكا طريقه أظلم منه، فالمانع ذكر الله في مساجده لا أحد ممن جاء بعده – في منع ذكر الله في مساجده – أظلم منه، وهكذا.
يقول السيوطي في “الإتقان”: وهذا يؤول معناه إلى ما قبله، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية. وهذا الوجه يؤول معناه إلى الوجه الأول باعتبار أن في كل منهما تخصيصا، الأول فيه التخصيص بما يفهم من نفس الصلات، والثاني: التخصيص فيه بالنسبة إلى ما سبق من ذلك النوع.
لا أحد من هؤلاء المذكورين أظلم من الآخر لمساواتهم جميعا في الظلم:
إن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة، فنفي الأشد ظلما أو الظلم الشديد الطاغي لا يستلزم نفي ما دونه من الظلم؛ لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق، وإذا لم يدل علي نفي ما دونه من الظلم لم يلزم التناقض؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية أو الظلم الشديد الطاغي، وإذا ثبتت التسوية فيها لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن افترى ومنع ونحوها.
ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر، كما إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم، وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا. وقال بعض العلماء: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الظلم للمذكور في الآية حقيقة ولا نفيها عن غيره[1].
الخلاصة:
إن توهم تناقض القرآن الكريم بشأن من هو أظلم الناس توهم مردود ويزول بأحد الوجوه الآتية:
تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا، وهكذا.
التخصيص بالنسبة إلى السبق، أي: لا أحد ممن جاء بعد سالكا طريقه أظلم منه.
نفي التفضيل لا يلزم نفي المساواة، ونفي الأظلمية أي الظلم الشديد لا يستدعي نفي الظالمية أي ما دونه من الظلم؛ لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق.
توهم تناقض القرآن الكريم حول نجاة ابن نوح عليه السلام
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين وجود تناقض بين قوله تعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء)، وبين قوله تعالى: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود). ويتساءلون: كيف يذكر القرآن أن الله نجا نوحا وأهله من الغرق في موضع، ثم يذكر غرق ابنه في موضع آخر؟! هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
المراد بأهل نوح الذين نجوا من الغرق ومن آمن منهم فقط، وابنه ليس من أهله؛ لأنه لم يؤمن. وعليه فقوله تعالى: )إنه ليس من أهلك( (هود: ٤٦) أي: الموعود بنجاتهم.
التفصيل:
المراد بأهل نوح – عليه السلام – من آمن منهم فقط، أماابنه فهو ليس من أهله؛ لأنه لم يؤمن بدعوته:
إن المراد بأهل سيدنا نوح – عليه السلام – في قوله تعالى: )ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء)، هو من آمن منهم فقط، حيث أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قال لسيدنا نوح: )حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل (40)( (هود)، فقد أمره الله تعالى أن يحمل أهله معه في السفينة التي أمره الله بصنعها لينجو فيها من الغرق، إلا من سبق القول من الله بهلاكهم، وكان قد سبق في علم الله أن يهلك ابنه مع الهالكين؛ لأنه لم يكن مؤمنا، ولم يكتب الله لأحد النجاة مع نوح إلا أهل الإيمان فقط، وابنه لم يكن مؤمنا.
وعلى هذا يفهم قوله تعالى: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود).
فالله تعالى استثنى من الغرق من شملته رحمته، ورحمته تعالى شملت المؤمنين، وابن سيدنا نوح لم يؤمن، ومن ثم لم تشمله الرحمة، أي: النجاة من الغرق، فالاستثناء أسلوب معروف في لغة العرب، فيذكر المتكلم المستثنى منه على وجه العموم، ثم يخرج منهم من أراد إخراجه.
ومعنى قول الله عز وجل: )إنه ليس من أهلك( (هود: ٤٦) أي: ليس من الموعود بنجاتهم في قوله تعالى: )فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء)؛ لأنه كافر لا مؤمن، وقول سيدنا نوح: )إن ابني من أهلي( (هود: ٤٥) يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين، كما يشير إليه قوله تعالى: )فلا تسألن ما ليس لك به علم( (هود: ٤٦)، وقد شهد الله تعالى بأنه ابنه، حيث قال: )ونادى نوح ابنه( (هود: ٤٢)، إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح لكفره، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم، وإن كان من جملة الأهل نسبا([1]).
الخلاصة:
إن توهم تناقض القرآن بشأن غرق ابن نوح – عليه السلام – ونجاته توهم لا أساس له؛ إذ إن: المراد بأهل سيدنا نوح في قوله تعالى: )فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)( (الأنبياء): من آمن منهم فقط، وأطاع نوحا وركب معه في السفينة، وهم المقصودون من الاستثناء في قولــه سبحانـــه وتعالــى: )إلا من رحم( (هود: ٤٣)، وعليه، فإن معنـى قولـه تعالـى: )ليـس مـن أهلك( (هود: ٤٦) أي: ليس من أهلك الموعود بنجاتهم؛ لأنه كافر غير مؤمن.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
.[1] دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط2، 1420 هـ/ 2000م، ص123. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص148، 149 بتصرف.
توهم تناقض القرآن بشأن تعذيب قاتل المؤمن عمدا
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين أن هناك تناقضا بين قوله تعالى: )ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)( (النساء)، وبين قوله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)( (النساء).
ويتساءلون: كيف تخبرنا الآية الأولى أن قاتل المؤمن متعمدا يجازى بالخلود في جهنم، وأن الله يغضب عليه ويلعنه، في حين أن الآية الثانية تقرر أن التائب من أي ذنب يغفر الله له، ولا يحرم من مغفرة الله تعالى إلا من مات على الشرك؟!! ويستدلون بذلك حسب زعمهم على وقوع التناقض في القرآن الكريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الآية الأولى حكمها فيمن يستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، وهذه الآية للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن.
2) إن جزاء القاتل عمدا جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى موته، أما إن تاب فإن الله غفور رحيم، وهذا ما تؤكده الآية الثانية.
التفصيل:
أولا. الآية الأولى نزلت فيمن يستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، فهي من قبيل التشديد والتغليظ والتخويف:
ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته.
فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة، فأتى الشيطان مقيسا، فوسوس إليه فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة، اقتل الذي معك، فتكون نفس مكان نفس، وفضل الدية، فتغفل الفهري، فرماه بصخرة فقتله، ثم ركب بعيرا، وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا؛ فنزل فيه: )ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها( (النساء: ٩٣)، بكفره وارتداده، وهو الذي استثناه النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة ممن أمنه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة.
وعلى هذا، فالآية مختصة بالقاتل المستحل للقتل الخارج عن الإسلام، الذي هو كمقيس بن صبابة، فإنه مخلد في النار. أما أي مؤمن يرتكب ذنبا غير مستحل له، فإنه لا يخلد في النار.
فهذه الآية نزلت للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن، ولذلك نظير في قوله تعالى: )فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)( (آل عمران)، على أن القول بأن معنى: )ومن كفر(: ومن لم يحج.
وما جاء عن ابن عباس من عدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا، فقد أراد به التشديد، فقد جاء عنه أيضا قبول توبته.
قال الخطيب: وما جاء عن ابن عباس أنه قال: «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا» أراد به التشديد، كما قاله البيضاوي؛ إذ روي عنه خلافه[1].
وقال القرطبي: وذهب جماعة من العلماء – منهم عبد الله بن عمر، وهو أيضا مروي عن ابن عباس وزيد – إلى أن له توبة، فقد جاء عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: لا، إلا البار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.
كما جاء عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل، يقال له: لا توبة لك. وإن قتل ثم جاء يقال: لك توبة، ويروى قتله عن ابن عباس[2].
وهكذا يبشع الله لنا جريمة القتل العمد؛ لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكره أن يقتل. وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها للقتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب عن الله، فالله يغيبه عن رحمته.
ثانيا. جزاء القاتل عمدا جهنم إن أصر على الذنب حتى موته، أما إن تاب فإن الله غفور رحيم:
قال القرطبي: إن الجمع بين الآيتين ممكن، فلا نسخ ولا تعارض بينهما، وذلك أن يحمل مطلق الآية الأولى على مقيد الآية الثانية، فيكون معناه: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب.
وأما الأخبار فكثيرة، كحديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – الذي قال فيه: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفي منكم، فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه»[3].
وكحديث أبي سعيد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة[4]، ثم يقول ابن كثير: وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار[5] والأغلال[6] التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة؛ ولأن الكفر أعظم من القتل، وتوبة الكافر مقبولة بدليل قوله تعالى: )قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف( (الأنفال: ٣٨)، وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة، فلأن تقبل من القاتل أولى.
والمراد بالخلود في جهنم على هذا، والذي قبله المكث الطويل؛ إذ الخلود في حق الكفار بمعنى: الدوام الذي لا ينقطع، وبالنسبة للمؤمنين: المكث الطويل، فالله يعذب عصاة المؤمنين في النار ثم يخرجهم منها برحمته وكرمه، فقد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة، إخراج جميع الموحدين من النار، وهذا الوجه الأخير هو الأرجح[7].
الخلاصة:
الآية الأولى نزلت في مستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، وعلى هذا، فإن الآية مختصة بالقاتل المستحل للقتل الخارج عن الإسلام، فإنه مخلد في النار، أما أي مؤمن يرتكب ذنبا غير مستحل له، فإنه لا يخلد في النار.
ثم إن الآية للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن، وهكذا يبشع الله لنا جريمة القتل العمد؛ لأن القاتل قد غاب الله تبارك وتعالى عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك، فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب عن الله، فالله يغيبه عن رحمته.
إن جزاء القاتل عمدا جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى موته، وذلك أن يحمل مطلق آية الفرقان على مقيد آية النساء، فيكون معناه: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، أما إن تاب عن ذنبه فإن الله – عز وجل – يقبل توبته.
وعليه، فإن المراد بالخلود في جهنم على هذا هو: المكث الطويل؛ إذ الخلود حق الكفار، بمعنى: الدوام الذي لا ينقطع، وبالنسبة للمؤمنين: المكث الطويل.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
.[1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الفرقان (4484)، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب التفسير (7730).
.[2] البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص257: 259.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء (6787)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، بــاب الحــدود كفــارات لأهلهــا (4558).
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3283)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (7185).
[5]. الآصار: جمع الإصر، وهو الذنب أو العقوبة.
[6]. الأغلال: جمع الغل، وهو طوق من حديد أو جلد يجعل في عنق الأسير أو المجرم أو في أيديهما.
[7]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص259، 260.
توهم تناقض القرآن بشأن طلب الرسول أجرا على تبليغ الرسالة
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين وجود تناقض في القرآن الكريم؛ حيث نفى الله عن نبيه طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحــي، فقــال تعالــى: )قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله( (سبأ: ٤٧)، بينما أثبت في آيات أخرى طلب الرسول أجرا على تبليغ الرسالة، فقال تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)( (الفرقان)، وقال تعالى: )قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى( (الشورى: ٢٣)، ويستدلون بذلك على وقوع التناقض في القرآن.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، وذلك شأن الرسل جميعا.
2) معنى الأجر في آية سور ة الفرقان: أنه الاستجابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – والإيمان والطاعة، فهذا بمنزلة الأجر للنبي – صلى الله عليه وسلم – وليس أجرا حقيقيا له، أو أن معناه: الإنفاق في سبيل الله والبذل والتضحية، وهذا بمثابة الأجر للنبي – صلى الله عليه وسلم – كذلك.
3) ذكر العلماء عدة تفسيرات لمعنى الأجر في آية سورة الشورى منها: لا أسألكم إلا أن تودوني وتكفوا أذاكم عني مراعاة للقربى بيننا، أو لا أسألكم إلا أن تحفظوني في قرابتي وأهل بيتي من بعدي وتكفوا عنهم، أو أن تتوددوا إلى الله بالطاعة، أو أن تصلوا أرحامكم، وكل هذا لا يعد أجرا على تبليغ الدعوة.
التفصيل:
أولا. الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، وذلك شأن الرسل جميعا:
ينفي الله تعالى عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – أنه يطلب أجرا على تبليغ الرسالة والوحي، وبهذا لا يكون قد أثقل عليهم بهذا الأجر إثقالا، امتنعوا بسببه عن الإيمان به واتباعه، قال تعالى: )أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40)( (الطور).
فإن “أم” استفهامية، والاستفهام فيها بمعنى النفي، أي: لست تطلب أجرا على تبليغ الرسالة. وفي سورة “ص” أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يقول للناس: إنه لا يسألهم على تبليغ القرآن والوحي أجرا فقال تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86)( (ص). وفي سورة سبأ يقول تعالى: )قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد (47)( (سبأ).
وشأن النبي – صلى الله عليه وسلم – في عدم طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي، هو شأن الرسل جميعا، فلم يطلب واحد منهم على التبليغ أجرا فهذا نوح – عليه السلام – يقول لقومه: )ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله( (هود: ٢٩). وهذا نبي الله هود – عليه السلام – يقــول لقومــه: )يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الــذي فطرنــي أفلا تعقلــون (51)( (هود). وفي سورة الشعراء يقول كل من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب – عليهــم الصــلاة والسـلام جميعـا: )وما أسألكــم عليـه من أجر إن أجــري إلا على رب العالميـــن (109)( (الشعراء: ١٠٩، 127، 145، 164، 180). فجميع الرسل – عليهم الصلاة والسلام – لم يطلبوا أجرا من أقوامهم على تبليغ رسالات الله إليهم[1].
ثانيا. معنى الأجر في سورة الفرقان:
ففي آية سورة الفرقان قد يفهم منها أن فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا هو أجر للرسول – صلى الله عليه وسلم – على التبليغ، والأمر ليس كذلك، فالحقيقة أن ذلك ليس أجرا للرسول – صلى الله عليه وسلم – من قومه، وإنما صور بصورة الأجر، فاتخاذ السبيل إلى الله عز وجل – الذي هو على الأصح تقربهم إلى الله بالإيمان والطاعة – يعد بمنزلة الأجر له، أما أنه أجر حقيقي له – صلى الله عليه وسلم – فلا، بل هو في الحقيقة أجر لهم، فباتباعهم دينه ينالون كرامة الدنيا والآخرة.
وقد فسر بعض العلماء اتخاذ السبيل إلى الله بأنه: الانفاق من المال والتصدق منه، وهذا لا يعني طلب الأجر والمال منهم، بل إن المعنى: لا أطلب من أموالكم جعلا خاصا لنفسي، لكن من شاء إنفاقها لوجه الله فليفعل[2].
ثالثا. معنى الأجر في سورة الشورى:
أما قوله تعالى في سورة الشورى: )قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى( (الشورى: ٢٣)، لا ينبغي أن يفهم منه أن المودة في القربى أجر له – صلى الله عليه وسلم – على التبليغ؛ فقد ذكر العلماء في معناها أقوالا يبعد كل قول منها أن المودة في القربى أجر للرسول – صلى الله عليه وسلم – نكتفي منها بما يأتي:
أن معنى الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا أذاكم عني، وتمنعوني من أذى الناس كما تمنعون كل من كان بينكم وبينه قرابة مثل قرابتي منكم.
فقد كان له – صلى الله عليه وسلم – في كل بطون قريش قرابة، فإذا سألهم مودته والانتصار له من أذى الناس لم يكن ذلك أجرا على التبليغ في الحقيقة؛ إذ هو حق القريب على قريبه، إذ كل إنسان يوده أهل قرابته، ويكفون عنه أذى الآخرين.
وقد انتصر للنبي – صلى الله عليه وسلم – ودافع عنه عمه أبو طالب – وهو كافر – ولم يكن ذلك أجرا له على التبليغ، وإذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يسأل أجرا إلا هذه المودة – وهي ليست بأجر – تحقق أنه لا يسأل أجرا.
أن المعنى: كف الأذى عن قرابتي وأهل بيتي من بعدي وحفظي فيهم، وهذا ليس أجرا؛ لأن المودة بين المسلمين واجبة، وأحق بها قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى وتتقربوا له بالطاعة والعمل الصالح، والتقرب إلى الله تعالى ليس أجرا على التبليغ.
أن المعنى: إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم، وصلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ[3].
وبناء على هذه الآراء، فقد ثبت لدينا، عدم وجود أي تناقض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء على زعمهم.
الخلاصة:
لقد نفى الله تعالى عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي، فقال تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين (86)( (ص)، وقد كان شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك شأن الرسل جميعا، فجميع الرسل – عليهم السلام – لم يطلبوا أجرا من أقوامهم على تبليغ رسالات الله إليهم.
في قوله تعالى: )قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)( (الفرقان) المراد بكلمة “أجر” – في الحقيقة – ليس أجرا للرسول – صلى الله عليه وسلم – فتقربهم إلى الله بالإيمان والطاعة يعد بمنزلة الأجر له – صلى الله عليه وسلم – أما أنه أجر حقيقي فلا، وقد يجوز أن يكون اتخاذ السبيل هو الإنفاق من المال، وهذا لا يعني طلب الأجر، بل إنفاقه لوجه الله تعالى.
أما قوله: )ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى( (الشورى: ٢٣)، لا ينبغي أن يفهم منه أن المودة في القربى أجر له – صلى الله عليه وسلم – فقد ذكر العلماء عدة تفسيرات للآية منها:
o لا أسألكم عليه أجرا، إلا أن تودونى في قرابتى التي بينى وبينكم، فكفوا أذاكم عنى.
o لا أسألكم أجرا، لكن أذكركم الله في قرابتي، فاحفظوني فيهم.
o لا أسألكم أجرا، ولكن توددوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح.
o لا أسألكم أجرا، ولكن توددوا إلى قراباتكم وصلوا أرحامكم.
وكل هذه التفسيرات تثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذ أجرا على تبليغ الدعوة للناس كما زعم أصحاب هذه الدعوى الباطلة.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص34، 35.
[2]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص34، 35.
[3]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص35: 37 بتصرف يسير.
توهم تناقض القرآن بشأن كونه مبينا أو متشابها
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين قوله سبحانه وتعالى: )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)( (النحل)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران: ٧). ويتساءلون: أيليق بكتاب الله أن نجد فيه موضعا يصف القرآن بأنه مبين، ويصفه في موضع آخر بأنه متشابه؟! ألا يدل هذا التناقض – في ظنهم – على أن القرآن ليس من عند الله؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض
وجها إبطال الشبهة:
1) القرآن كله محكم باعتبار إتقانه وإحكامه، ورصانته، وكله متشابه باعتبار تماثل آياته في البلاغة والإعجاز وصعوبة المفاضلة بين أجزائه، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار التأويل.
2) أوجد الله – عز وجل – المتشابه – بالمعنى الصحيح – في القرآن لحكمة عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
التفصيل:
أولا. القرآن محكم من حيث الإتقان ومتشابه من حيث البلاغة والإعجاز، ومحكم ومتشابه في آن من حيث التأويل:
إن العاقل إذا تأمل القرآن يجده كله في قمة الإحكام والإتقان والبيان والوضوح، يشهد بذلك القرآن نفسه: )الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)( (هود)، ونحن نجد القرآن – منذ أن أنزله الله على عبده ورسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – إلى يوم القيامة – يوجه المسلمين بتعاليمه الأخلاقية العالية دون اختلاف منهم على أي آية، أو تنازع منهم على أي مفردة، وإن يكن هناك اختلاف في الرأي؛ فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يكون هذا الاختلاف رحمة بعباده وتيسيرا لأمة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما يجده المتفكر في آياته وكلماته وتركيبه، من حيث تماثله في البلاغة والإعجاز وصعوبة المفاضلة بين أجزائه[1]ـ يجده متشابها، يشهد بذلك القرآن نفسه: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣). ويشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا.
وليس المراد بقوله: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات( (آل عمران: ٧) هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: )قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70)( (البقرة)، أي: التبس علينا، أي: يحتمل أنواعا كثيرة من البقر، والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا وهو ما لا التباس فيه، ولا يحتمل إلا وجها واحدا.
وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد، وأبطل الباقي صار المتشابه محكما، فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع[2].
فوصف القرآن بـ”المبين”، أي: الذي أبان وأفصح عن كل صغيرة وكبيرة تخص أمر المسلمين والناس أجمعين في حياتهم، وبعد مماتهم، وبعد أن يبعثوا من قبورهم، والقرآن – بلا شك – أتى بتركيب معجز تحدى به الإنس والجن، وأهل السماوات والأرض على أن يأتوا بمثله، وحقا لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؛ فالقرآن محكم بين لا ينكر هذا إلا معاند. كما أن المتشابه ليس معناه الغامض المبهم الملبس الذي لا يمكن أن يصل عقل إلى معناه، وإنما المقصود به: الذي تتعدد فيه الآراء.
وأما معنى أنه بعضه محكم وبعضه متشابه، فقد اختلف العلماء في تفسير المحكم والمتشابه على أقوال يذكرها د. أبو النور الحديدي:
أحدها: أن المحكم: ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، قالوا: وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
ثانيها: المحكم: ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، والمتشابه: ما يحتمل وجوها، فإذا ردت إلى وجه واحد وترك الباقي صار المتشابه محكما.
ثالثها: أن المحكم: ناسخه، وحرامه وحلاله وفرائضه، وما نؤمن به ونعمل عليه. والمتشابه: منسوخه، وأمثاله، وأقسامه، وما نؤمن به ولا نعمل به.
رابعها: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ.
خامسها: المحكم: ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره. والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره.
قال الشوكاني – بعد حكاية هذه الأقوال -: والأولى أن يقال: إن المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره. والمتشابه: ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره.
فظهر من هذا أنه لا تعارض بين هذه الآيات، وأن القرآن الكريم يصدق عليه كله أنه محكم، وأنه كله متشابه، وأن بعضه محكم وبعضه متشابه، وكل باعتبار[3].
ثانيا. الله سبحانه وتعالى أوجد المتشابه لحكمة يعلمها:
وقد يسأل بعض الناس: لماذا جاء الله – عز وجل – بالمتشابه في كتابه؟! نقول: لحكمة ظهرت في ثنايا الآية.
إلا أن خلاصة القول في ذلك: أن الله – عز وجل – قد استأثر في علمه بآيات وكلمات في القرآن لا يعلم المراد منها إلا الله، قال سبحانه وتعالى: )وما يعلم تأويله إلا الله( (آل عمران: ٧)، كالحروف المقطعة في فواتح السور وغيرها، وهناك بعض المتشابه أراد الله أن يكون للعلماء فضل عن غيرهم فأعلمهم تأويله؛ ليعلموه لغيرهم فتعم الإفادة للجميع، ويفهم الناس مراد الله منه.
وفي جميع الأحوال، على قارئ القرآن أن يؤمن بمتشابه القرآن على مراد الله منه، ولا يحمل نفسه على الكلام فيه؛ فإن الخوض في المتشابه من أعظم أسباب الضلال، من ذلك نصوص صفات الله – عز وجل – لا من جهة معاني ألفاظها، وإنما من جهة إدراك كيفياتها في حق الله – عز وجل – فإنه منزه عن الشبيه والنظير: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى)[4].
وأما أسباب مجيء المتشابه في القرآن مع أنه نزل لبيان الدين، وإرشاد العباد وهدايتهم، وهذا يتحقق بكونه كله محكما، فهو – كما ذكر العلماء – أربعة:
أن القرآن جاء بألفاظ العرب ولغاتهم، وكلام العرب على ضربين:
أحدهما: الإيجاز للاختصار، والموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره، والإطالة لبيان المراد والتوكيد.
الضرب الثاني: المجاز والكنايات والإشارات والتلميحات وإغماض بعض المعاني. وهذا الضرب هو المستحسن عند العرب، والبديع في كلامهم؛ فأنزل الله تعالى القرآن على هذين الضربين ليتحقق عجزهم التام عن الإتيان بمثله.
أن يشتغل أهل العلم والنظر بردهم المتشابه إلى المحكم فيزداد اهتمامهم بالبحث عن معانيه؛ فيثابون على تعبهم، كما أثيبوا على عباداتهم، ولو أنزل القرآن كله محكما لاستوى في معرفته العالم والجاهل ولم يفضل العالم على غيره.
أن أهل كل علم يجعلون في علومهم معاني غامضة ومسائل دقيقة؛ ليختبروا بذلك أذهان المتعلمين منهم على انتزاع الجواب، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء جاز أن يكون ما أنزل الله تعالى من التشابه على هذا النحو.
اختبار الله تعالى عباده بالمتشابه؛ ليقف المؤمن عنده ويرد علمه إلى عالمه؛ فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق ويداخله الزيغ؛ فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلي بنو إسرائيل بالنهر، والله أعلم[5].
الخلاصة:
لا تناقض في وصف القرآن بالمبين، ووصفه بالمتشابه؛ إذ إن القرآن كله محكم باعتبار إتقانه وإحكامه وإعجاز تركيبه، وكله متشابه باعتبار تماثل آياته في البلاغة، والإعجاز وصعوبة المفاضلة بين أجزائه. وبعضه محكم، والآخر متشابه باعتبار التأويل، ومن حيث كون المحكم أصلا والمتشابه فرعا عنه. وغير ذلك من الفروق التي ذكرها العلماء بين المحكم والمتشابه.
هناك من المتشابه ما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه خلقه؛ لحكمة أرادها، ومنه ما جعل الله للراسخين في العلم علما به؛ ليعلموا الناس مراد الله منه ومن بين هذه الحكم: أن الله أنزل القرآن بطريقة العرب للتأكيد على عجزهم أمام هذا الكتاب، أو للتمييز بين العالم والجاهل، أو لتشجيع أهل العلم على النظر والبحث، أو للتفريق بين المؤمن والمنافق.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. بحوث منهجية في علوم القرآن الكريم، موسى إبراهيم الإبراهيمي، دار عمار، الأردن، ط2، 1996م، ج2، ص155.
[2]. بحوث في علوم القرآن، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 1993م، ص64.
[3]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص227، 228.
[4]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص227، 228.
[5]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص228، 229.
توهم تناقض القرآن بشأن نفي التعب عن الله – عز وجل – من خلق السماوات والأرض
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)( (ق)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧)، ويتساءلون: كيف يخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام دون أن يمسه أي تعب، ثم يصرح في موطن آخر أن خلق الخلق صعب عليه؟ ظانين أن )وهو أهون عليه(، أي: صعب عليه، ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض.
وجها إبطال الشبهة:
1) الله سبحانه وتعالى لم يصبه أي تعب من خلق السماوات والأرض، وكان هذا ردا على اليهود الذين زعموا أن الله استراح في اليوم السابع بعد خلقه السماوات والأرض في ستة أيام.
2) ذكر العلماء عدة تفسيرات لقوله سبحانه وتعالى: )وهو أهون عليه( منها:
هين سهل لا صعوبة فيه.
أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم، فالذي يخلق أول مرة يكون البعث أهون عليه حسب منطقكم.
الضمير في “عليه” يعود على الخلق.
التفصيل:
أولا. إن الله – عز وجل – خلق الخلق دون نصب أو تعب:
إن قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)( (ق) يظل على أصل معناه، فالله سبحانه وتعالىـ لم يصبه أي تعب أو سأم من خلق أي شيء، وهذه الآية الكريمة نزلت ردا على اليهود الذين زعموا أن الله – سبحانه وتعالى – تعب من خلق السماوات والأرض في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع يوم السبت.
يقول ابن كثير: في الآية تقرير المعاد؛ لأن من قدر على خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى. وقال قتادة: قالت اليهود – عليهم لعائن الله -: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه “يوم الراحة”، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – تكذيبهم فيما قالوه قوله: )وما مسنا من لغوب (38)( (ق)، أي: ما مسنا من إعياء ولا تعب ولا نصب، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير (33)( (الأحقاف) [1].
ثانيا. الفهم الصحيح لقوله ـ سبحانه وتعالـى ـ: )وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧)، ينفي هذه الشبهة:
ذكر العلماء عدة تفسيرات لقوله تعالى: )وهو أهون عليه(، وكان من بينها أن قوله سبحانه وتعالى: )وهو أهون عليه( معناه: هين عليه لا يستصعبه، ولا يوجد شيء في قدرته سبحانه وتعالى – سبحانه وتعالى – بعضه أهون من بعض، فكل الأشياء لديه سبحانه سواء، يوجدها بقوله: كن فتكون.
يقول أبو عبيد: من جعل “أهون” عبارة عن تفضيل شيء على شيء، فقوله مردود بقوله سبحانه وتعالى: )وكان ذلك على الله يسيرا (19)( (الأحزاب)، وأيضا قوله: )ولا يئوده حفظهما( (البقرة: 255)، والعرب تحمل صيغة أفعل على صيغة فاعل كثيرا، كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
أي: عزيرة وطويلة.
وقرأ عبد الله بن مسعود “وهو عليه هين”.
وقيل: أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم وعلى ما يقوله بعضكم لبعض، فالله تعالى قد خاطب العباد بما يعقلونه، فإذا كانت الإعادة أسهل من الابتداء في تقديركم وحكمكم، فإن من قدر على الإنشاء أول مرة كان البعث أهون عليه حسب منطقكم وأصولكم.
قال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن المعنى: أن الإعادة أهون عليه – أي على الله – من البداية، أي: أيسر، وإن كان جميعه على الله تعالى هينا. وقاله ابن عباس، ووجهه: أن هذا مثل ضربه الله تعالى لعباده، يقول: إعادة الشيء على الخلائق أهون من ابتدائه؛ فينبغي أن يكون البعث لمن قدر على البداية عندكم وفيما بينكم أهون عليه من الإنشاء[2].
وقيل: إن الضمير في “عليه” يعود على الخلق، أي: وهو أهون على الخلق؛ لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون؛ فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى آخر النشأة، وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى: )وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧): ما شيء على الله بعزيز[3].
الخلاصة:
ليس هناك تناقض بين قوله ـ سبحانه وتعالـى ـ: )ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)( (ق)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧) فالآية الأولى نزلت ردا على اليهود الذين زعموا أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم أصيب بالتعب والنصــب، فاستــراح في اليــوم السابــع ـ يــوم السبــت ـ فــرد الله عليهــم: )وما مسنا من لغوب (38)( (ق).
ذكر العلماء عدة تفسيرات لقوله سبحانه وتعالى: )وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧) منها:
o أن معنى )أهون عليه(، أي: هين لا يستصعب، ولا يوجد شيء على قدرته تعالى بعضه أهون من بعض، بل كل الأشياء لديه سواء يوجدها بقوله: كن فتكون.
o وقيل: أهون عليه بالنسبة إلى قدرتكم وعلى ما يقوله بعضكم لبعض.
o وقيل: الضمير في )عليه( يعود على الخلق، فبعثهم مرة واحدة أهون عليهم من المرور بكل مراحل الخلق المعروفة.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م، ج7، ص409.
[2]. دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص21.
[3]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص108: 110 بتصرف.
توهم تناقض القرآن حول أسبقية خلق الأرض والسماء
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين قوله تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)( (فصلت). وبين قوله تعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعــد ذلــك دحاهــا (30)( (النازعات).
ويتساءلون: كيف يدل الموضع الأول على أن خلق الأرض سابق على خلق السماوات، في حين يدل الموضع الثاني على عكس ذلك؟ مستدلين بذلك حسب ظنهم على أن القرآن الكريم به من التناقض والاضطراب ما يكفي لإثبات بشريته.
وجها إبطال الشبهة:
1) المراحل التي ذكرها القرآن الكريم لخلق السماوات والأرض تتفق مع معطيات العلم الحديث، وهذه المراحل هي:
مرحلة الرتق والفتق.
مرحلة خلق السماوات والأرض.
مرحة دحو الأرض.
2) ذكر العلماء عدة توجيهات للآيات – فضلا عما سبق – تنفي أي تناقض بينها، ومنها:
المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل.
لما خلق الله الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها، فكان كل ما فيها وكأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا.
الظرف “بعد” يأتي بمعنى “مع”، ومن ثم، دحو الأرض كان مع بناء السماء.
التفصيل:
أولا. مولد الكون ونشأته ومراحل خلقه كما جاء في القرآن الكريم حقائق يؤكدها العلم الحديث:
قبل الشروع في الرد على هذا التوهم يجدر بنا أن نتحدث عن مولد الكون ونشأته كما جاء في القرآن الكريم، ومدى تأكيد العلم الحديث لتلك الحقائق القرآنية.
فلقد عرض لنا القرآن الكريم بداية خلق الكون والمراحل التي مر بها عرضا بيانيا دقيقا، يصور كل طور من أطوار الخلق بوضوح وجلاء دون لبس أو غموض، وسوف نستعرض الآيات القرآنية التي تتحدث عن كل مرحلة مع الإشارة إلى فهم علماء التفسير واللغة، ثم نحدد معطياتها؛ لنرى مدى التوافق بينها وبين ما وصل إليه علماء الفلك والكون في عصرنا الحاضر.
وقد أفاض مروان وحيد شعبان في كتابه ” الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث” في هذا الجانب، وكان مما قاله:
مراحل الخلق:
مرحلة الرتق والفتق:
يقول الله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)( (الأنبياء)، والآية هنا تشير إلى أن السماوات والأرض، أي: الكون وما بث في أرجائه من: نجوم ومجرات وكواكب وشموس وأقمار كان شيئا واحدا، كان مادة واحدة كتلة واحدة، ثم انشطرت هذه المادة وفتقت وتفجرت، فانفصلت السماوات عن الأرض، وتباعدت أجزاؤها وأصبحت عالما عظيما مترامي الأطراف بعيد المدى واسع الرحاب.
وعند الطبري “.. كانتا رتقا، يقول: ليس فيهما ثقب، بل كانتا ملتصقتين. ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله تعالى السماوات والارض بالرتق، وكيف كان الرتق، وبأي معنى فتق؟ قال ابن عباس: كانتا ملتصقتين فرفع السماء ووضع الأرض، وكان الحسن وقتادة يقولان: كانتا جميعا ففصل الله بينهما بهذا الهواء، وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السماوات كانت مرتتقة طبقة، ففتقها الله فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين.
وإذا بحثنا في كل كتب التفسير عند أهل اللغة سوف نلاحظ أن الكل قد اتفق على أن معنى الرتق هو: السد، وأن معنى )كانتا رتقا( أي: ملتصقتين، وأن معنى )رتقا( أي: فصلناهما، فصل الله بينهما.
وبذلك نستطيع أن نحدد – من خلال التصوير القرآني عن المرحلة الأولى لخلق الكون – ما يأتي:
أن السماوات والأرض في لحظة الخلق الأولى وبداية النشأة كانتا كتلة واحدة متلاصقة ثم انفصلت وتوزعت.
طبيعة هذه المادة التي تشكل الكون منها إنما هي الدخان.
مرحلة خلق السماوات والأرض:
قال تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين (10) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)( (فصلت).
كان الحديث في المرحلة الأولى من خلال آية سورة الأنبياء عن طبيعة المادة الكونية الأولى وما هيتها وكيف أنها كانت كتلة واحدة ثم انفصلت، أما هنا في آيات سورة فصلت فإنها تتحدث عن أطوار خلق السماوات والأرض، والمراحل التي اعترتها بعد عملية انفصال المادة الأولى، وهذه الآيات التي بين أيدينا تقرر حقيقة كونية ثابتة وقطعية الدلالة وهي: أن الأرض بعد عملية فتق الرتق خلقت أولا، ثم تم تشكيل السماء وبناؤها من الدخان. وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين، ولقد وقع في الخطأ والخلط من حاول أن يقدم مرحلة خلق السماوات على الأرض، وذلك بسبب رغبة شديدة دفعته إلى توأمة هذا النص القرآني مع التخمينات النظرية التي تحدث عنها بعض الفلكيين، وهذا الكلام لا يستند إلى دليل لا من النصوص القرآنية ولا من المعطيات العلمية الثابتة، وهذا ما توضحه أقوال المفسرين.
مرحلة دحو الأرض:
قال تعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات).
والآيات توضح – كما ذهب إليه المفسرون – أن هذه المرحلة الثالثة، وذلك بعد المرحلتين السابقتين، فبعد أن خلق الله الأرض أولا في يومين، ثم خلق السماء في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ودحا الأرض أي: أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والرمال، والجماد والآكام[1]، وكل ما بين السماء والأرض في يومين أخرين.
وقد عرض هذا السؤال على ابن عباس – رضي الله عنهما – وأجاب عليه كما ورد في صحيح البخاري: «قال رجل لابن عباس – رضي الله عنهما -: إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال تعالى: )أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها (27) رفع سمكها فسواها (28) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها (29) والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات)، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين (9)( (فصلت)، خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال ” أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله طائعين” فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء؟! إلى أن قال: خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد، والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى: )دحاها(، وقوله: )خلق الأرض في يومين( (فصلت: ٩)، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين»[2].
وعلى هذا النسق سار المفسرون، فقد جاء في إرشاد العقل السليم ما نصه: فهي وما في سورة البقرة من قوله تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم (29)( (البقرة)، تدلان على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها، وعلى هذا الرأي أكثر أهل التفسير، وقد روي أن العرش العظيم كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء، ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان، فأما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق فيه اليبوسة فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، وأما الدخان فارتفع وعلا، فخلق منه السماوات. وقيل: إن خلق جرم[3] الأرض مقدم على خلق السماوات، لكن دحوها وخلق ما فيها مؤخر عنه لقوله تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات).
ولما روي عن الحسن – رضي الله عنه – من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر[4] عليه دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: )أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30)( (الأنبياء)، وليس المراد بنظمها مع السماء في سلك الآمر بالإتيان وإنشائها وإحداثها، بل إنشاء دحوها وجعلها على وجه خاص يليق بها من شكل معين ووصف مخصوص، كأنه قيل: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه، ائتي يا أرض مدحوة قرارا ومهادا لأهلك، وائتي يا سماء مقببة [5]سقفا لهم.
وعند الطبري عن ابن عباس قوله: حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء، ثم ذكر السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات)، وفي تفسير القرطبي: أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء، ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك.
فالأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، أما دحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك فبعد خلق السماء، ويدل على ذلك أنه قال)والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات)، ولم يقل: خلقها. ثم فســر دحــوه إياهــا بقولــه: )أخرج منها ماءها ومرعاهــا (31)( (النازعات).
ثانيا. الحقائق العلمية تؤكد حقائق القرآن:
وقبل الشروع في عرض وبيان آراء العلماء حول مولد الكون ونشأته، ينبه إلى أن هناك العديد من النظريات التي أعلنت حول أصل الكون، إلا أن معظمها خفت صوتها وغيبت عندما ظهرت أحدث نظرية حول مولد الكون، والتي تدعى بالانفجار العظيم (big bang)، بل التي أجمع على صحتها جمهور علماء الفلك، مما دفع بعض الفلكيين إلى القول بأنها حقيقة قطعية.
وبوسعنا أن نستعرض طائفة من دراسات الفلكيين حول الانفجار الكوني العظيم؛ لنرى مدى التوافق بين ما أثبتوه، وبين الحقائق القرآنية التي سبق وأن قرر من خلالها الحق نشأة الكون.
فقد توصل عالم الفلك البلجيكي ” جورج إدوارد لو ميتر ” إلى نتيجة الانفجار العظيم وأعلنها في عام 1927، وقد افترض في مستهل الأمر أن المادة الكونية كانت كلها مضغوطة في حجم ضئيل للغاية أسماه “البيضة الكونية”، ثم تعرض ذلك الجسم لتمدد مفاجئ سريع وما زال يتمدد.
ولما طرح “هبل ” قانونه في عام 1929م، وشرح المشاهدات التي استند إليها، بدا واضحا أن ذلك يجسد تماما ما ينبغي أن يكون من شأن كون في حالة تمدد، وكون كل المجرات تبتعد عنا بمعدل أسرع كلما كانت أكثر بعدا، أمر ليس له أي دلالة خاصة تتعلق بنا وبمجرتنا، فما دام الكون في حالة تمدد فهذا يعني أن كل مجراته تتباعد عن بعضها.
وقد التقط الفيزيائي جورج جاموف فكرة البيضة الكونية وعممها، ثم أطلق على عملية التمدد الأولى اسم “الانفجار العظيم”، وما زال ذلك الاسم مستخدما حتى الآن، ويشير جاموف إلى أن الأشعة التي صاحبت الانفجار العظيم لا بد أن يكون لها الآثار حتى الآن ما يمكن رصده من أي اتجاه على هيئة موجات ميكروويف ضعيفة، لها من المواصفات ما يمكن تقديره حسابيا، وبهذا الاكتشاف انتهى علماء الفلك إلى الاقتناع بوجود الانفجار العظيم، ومن المتفق عليه الآن أن الكون قد بدأ بجسم ضئيل انفجر منذ خمسة عشر بليون سنة، وما زال تحديد عمر الكون على وجه الدقة قيد البحث، ولكنه يصعب أن يقل عن عشرة بلايين سنة، ولن يزيد – على الأرجح – على عشرين بليون سنة.
وهذا ما أكده كثير من علماء الكون الذين يدرسون الزمن الغابر باستقراء خارجي للشروط السائدة في الكون حاليا، بمعنى أنهم يستعملون قوانين الفيزياء لاستنباط الكيفية التي كان الكون عليها حين نشأته وبداية تكوينه، فلقد تبين أن الكون كان في بدايته حارا وكثيفا، وكان غازيا وكانت مادته وإشعاعه ممتزجين معا امتزاجا يختلف فيه تماما عما نعرفه عنهما من حيث تميزهما الواضح عن بعضهما، ويعود سبب الامتزاج إلى أنه في غاز ذي درجة حرارة مرتفعة يحمل الإشعاع طاقة هائلة، الأمر الذي يوفر إمكان تحوله إلى مادة وهكذا، فالإشعاع والمادة في بداية نشأة الكون سلكا سلوكا لا يكاد يميز أحدهما عن الآخر… وهم يعتقدون أن درجة حرارته كانت عالية جدا مما أدى إلى الانفجار العظيم.
ويؤكد هذا المعنى العالم “جون فايفر ” فيقول: (لقد كانت الظلمات السائدة حينذاك نقطة بداية لا نقطة نهاية، عندما تكونت فيها سحابة لا تشبه سحب اليوم أبدا، فقد بدأت المادة تتجمع بالغريزة كما تتجمع قطعان الأغنام، وهكذا بدأت كثافة السحابة تزداد، وبدأت الظلمة تنقشع ويبدو فيها بصيص من النور، ولقد كان هذا النور بداية تكون النجوم[6].
ولم يكتف العلماء بذكر المراحل التي نص عليها القرآن لخلق الكون ومدى اتفاقها مع العلم الحديث، بل أضافوا عدة تأويلات أخرى، منها:
المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلقه السماء الخلق اللغوي:
إن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود، والعرب تسمي التقدير خلقا، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعضهم
مزق الحديث يقول ما لا يفعل
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير: أنه تعالى نص على ذلك، حيث قال: )وقدر فيها أقواتها( (فصلت: ١٠)، ثم قال: )ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)( (فصلت).
لما خلق الله الأرض غير مدحوة، فكان كل ما فيها وكأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا:
إنه لما خلق الأرض غير مدحوة، وهي أهل لكل ما فيها، فكان كل ما فيها وكأنه خلق بالفعل؛ لوجود أصله فعلا.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودا بالفعل، قوله تعالى: )ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)( (الأعراف)، فقوله: )خلقناكم ثم صورناكم( أ ي: بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
دلالة الظرف “بعد” تأتي بمعنى “مع، ” ومن ثم فدحو الأرض كان مع بناء السماء:
قال بعض العلماء بأن معنى قوله تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات) أي: مع ذلك، فلفظة “بعد” بمعنى “مع” ونظيره قوله تعالى: )عتل بعد ذلك زنيم (13)( (القلم)، وعليه، فلا إشكال في الآية.
الخلاصة:
لا يوجد أي تناقض بين قوله تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين( (فصلت: 9)، وبين قوله تعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات)؛ لأن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السماوات بعد ذلك، ثم دحا الأرض بعد هذا بسهولها وجبالها وغير ذلك، وهذا ما يتفق اتفاقا تاما مع معطيات العلم الحديث.
ذكر العلماء عدة تأويلات للآيات – فضلا عما سبق – تنفي أي تناقض بينها، ومنها:
o أن الله تعالى لما خلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي، أي: التقدير لا الخلق بالفعل.
o أن الله تعالى لما خلق الأصل وهو الأرض فكأنما خلق ما يتصل به من فروع، ومنها دحو هذه الأرض.
o أن كلمة “بعد” في قوله سبحانه وتعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات) قد تكون بمعنى “مع”، وبناء عليه فلا تناقض بين الآيات.
(*) أضواء البيان، الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م.
[1]. الآكام: التلال.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة فصلت (4537).
[3]. الجرم: الجسد.
[4]. الفهر: الحجر.
[5]. مقببة: مرتفعة.
[6]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص167 بتصرف.
توهم تناقض القرآن في حكم الجمع بين الأختين
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغرضين وجود تناقض بين قوله تعالى: )حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم( (النساء: 23) إلى أن يقول: )وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف( (النساء: 23)، وبين قوله تعالى: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)، حيث دلت الآية الأولى على حرمة الجمع بين الأختين بالنكاح وملك اليمين، ودلت الثانية على جواز الجمع بينهما بالوطء بملك اليمين.
ويتساءل هؤلاء: كيف يقع مثل هذا التناقض في القرآن الذي تدعون له العصمة؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض.
وجها إبطال الشبهة:
1) عموم آية )وأن تجمعوا بين الأختين( أرجح من عموم آية )أو ما ملكت أيمانهم( وذلك من خمسة أوجه:
عموم)وأن تجمعوا بين الأختين( (النساء: 23) نص في محل المدرك المقصود بالذات، أي أنها واردة في سياق ذكر من تحل من النساء ومن تحرم.
آية )أو ما ملكت أيمانهم( ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين.
التعميم الوارد في معرض المدح أو الذم، اختلف العلماء في اعتبار عمومه.
الأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل على الإباحة.
العموم المقتضي للتحريم أولى من العموم المقتضي للإباحة.
2) أجاز العلماء الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقط دون الوطء.
التفصيل:
أولا. عموم الآية الأولى أرجح من عموم الآية الثانية:
لا بد أن يخصص عموم إحدى الآيتين بعموم الأخرى، فيلزم الترجيح بين العمومين، والراجح منها يقدم، ويخصص به عموم الآخر؛ لوجوب العمل بالراجح إجماعا، وعليه فعموم)وأن تجمعوا بين الأختين( أرجح من عموم )أو ما ملكت أيمانهم( من خمسة أجه:
الأول: أن عموم)وأن تجمعوا بين الأختين( نص في محل المدرك المقصود بالذات؛ لأن سورة النساء هي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم، أما آية )أو ما ملكت أيمانهم( فإنها لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن، بل ذكر الله صفات المتقين فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية[1]، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها من غير مظانها.
الثاني: أن آية )أو ما ملكت أيمانهم( ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين؛ لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم )أو ما ملكت أيمانهم( يخصصه عموم: )وأخواتكم من الرضاعة( (النساء: ٢٣)، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم )أو ما ملكت أيمانهم( يخصصه عموم: )ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء( (النساء:٢٢).
والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو: تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر.
الثالث: أن عموم)وأن تجمعوا بين الأختين( غير وارد في معرض مدح ولا ذم، وعموم )أو ما ملكت أيمانهم( وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: )إن الأبرار لفي نعيم (13) وإن الفجار لفي جحيم (14)( (الانفطار) فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم، وخالف في ذلك بعض العلماء منهم الإمام الشافعي – رحمه الله – قائلا: “إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له؛ لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم”.
ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)( (التوبة) في الحلي المباح؛ لأن الآية سيقت للذم، فلا تعمم عنده في الحلي المباح، فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء.
الرابع: أننا لو سلمنا بالمعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة؛ لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام”[2].
ثانيا. يجوز الجمع بين الأختين في ملك اليمين دون الوطء:
إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين فقط يجوز بإجماع كافة أهل العلم، قال القرطبي: واختلفوا في الأختين بملك اليمين، فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع، وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة، واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها، فقال الأوزاعي: إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها، وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت، قال أبو عمر: من جعل عقدة النكاح كالشراء أجازه، ومن جعله كالوطء لم يجزه[3].
الخلاصة:
لا تعارض بين قوله تعالى: )وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف( (النساء: 23)، وبين قوله تعالى)والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)، فقد رد العلماء على هذا بأكثر من وجه؛ منها أن:
o عموم الآية)وأن تجمعوا بين الأختين( أرجح من عموم آية )أو ما ملكت أيمانهم(؛ لأنها فرائض في محل المدرك المقصود بالذات؛ لأن سورة النساء هي التي تختص بحكم من تحل من النساء ومن تحرم، أما آية )أو ما ملكت أيمانهم( فإنها لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن.
o آية )أو ما ملكت أيمانهم( ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين؛ لأن الأصح عند الأصوليين هو تقديم العام الذي لم يدخله التخصيص على العام الذي دخله التخصيص.
o العام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فمنهم من اعتبره ومنهم من لم يعتبره، وعلى الرأي الثاني يكون قوله سبحانه وتعالى: )أو ما ملكت أيمانهم( وارد في معرض مدح المتقين فقط لمجرد الحث على هذا الفعل.
o الأصل في الفروج التحريم مالم يثبت نص يدل على الإباحة.
العموم المقتضي التحريم أولى من العموم المقتضي الإباحة.
أباح كافة أهل العلم الجمع بين الأختين في ملك اليمين، وحرموا الجمع بينهما في الوطء.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. السرية: الأمة المملوكة يتخذها سيدها للجماع، وهي في الأصل منسوبة إلى السر بمعنى الجماع، غير أنهم ضموا السين تجنبا للبس، وفرقوا بينها وبين السرية، وهي الحرة التي يتزوجها الرجل سرا، وقيل: هي من السر بمعنى الإخفاء، لأن الرجال كثيرا ما يتخذون السراري سرا ويخفونهن عن زوجاتهم الحرائر، وقيل: هي من السر بالضم بمعنى السرور.
[2]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط2، 1420 هـ/ 2000م، ص62، 64. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص250، 251 بتصرف.
.[3] دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص116.
توهم تناقض القرآن في مسألة نصرة الرسل
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين وجود تناقض بين قوله تعالى: )أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)( (البقرة)، وبين قوله تعالى: )ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)( (الصافات)؛ حيث إن الموضع الأول يفيد أن بعض رسل بني إسرائيل قد قتلوا، وأن أعداءهم تمكنوا منهم وانتصروا عليهم، بينما الموضع الثاني يفيد أن رسل الله تعالى منصورون في الدنيا والآخرة. ويتساءلون: ألا يعد هذا التناقض دليلا على عدم مصداقيته؟!
وجه إبطال الشبهة:
لا تعارض بين الآيات كما يدعي هؤلاء، ويمكن التوفيق بين الآيات بأحد الوجوه التالية:
1) أن الرسل قسمان: قسم أمر بالجهاد، فهؤلاء نصرهم الله بالظفر على الأعداء، وقسم لم يؤمر بالجهاد وأمر بالصبر، وهؤلاء نصروا بالحجة الظاهرة.
2) أن الحكم بنصر الرسل هو الأغلب، فلا مانع من أن يكون فيهم من لا ينصر على عدوه.
3) أن جميع الرسل منصورون، بعضهم يكون بالظفر على العدو، وبعضهم يكون بالانتقام لهم من أعدائهم الذين آذوهم أو قتلوهم.
التفصيل:
يمكن التوفيق بين الآيات بواحد من ثلاثة:
الأول: أن الرسل قسمان: قسم أمر بجهاد أعدائهم، فهؤلاء نصرهم وغلبتهم عليهم يكون بالظفر على الأعداء وقهرهم، وقسم لم يؤمر بقتال أعدائهم، بل أمر بالصبر على أذاهم والكف عنهم، وهؤلاء نصرهم وغلبتهم في الدنيا يكون بالحجة الظاهرة والبرهان الساطع الذي يدحض باطل الكافرين، ومن هؤلاء من قتل؛ وذلك ليعظم أجرهم وتزداد مكانتهم رفعة عند ربهم.
قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب، فهو الغالب في الحرب، ومن بعث بغير الحرب، فهو غالب في الحجة.
الثاني: أن الحكم بنصر الرسل وغلبتهم على أعدائهم إنما هو للأكثر والمعظم، فلا مانع أن يكون فيهم من لا ينصر على عدوه، بل يصيبه الأذى أو يقتل؛ وذلك ابتلاء لهم يعظم به أجرهم، وترتفع به درجتهم عند ربهم.
الثالث: أن جميع الرسل منصورون كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، فبعضهم يكون بالظفر على العدو، وبعضهم يكون نصره بالانتقام ممن آذوهم، أو حاولوا قتلهم، أو قتلوهم بالفعل، ولو كان ذلك بعد موتهم.
وقد أورد ابن جرير سؤالا عند تفسيره قوله تعالى: )إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا( (غافر: 51) قال: قد علم أن بعض الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – قرب قبل قومه كيحيى وزكريا وشعيب، ومنهم من خرج من بين أظهرهم، إما مهاجرا كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى، فأين النصرة في الدنيا؟!
ثم أجاب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عاما والمراد به البعض. وهذا سائغ في اللغة.
الثاني: أن يكون المراد بالنصر: الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم، أو في غيبتهم، أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعيب، فقد سلط الله عليهم من أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر.
وأما الذين راموا صلب المسيح – عليه السلام – من اليهود، فسلط الله تعالى عليهم الروم فأذلوهم وأهانوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، وقبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم – عليه السلام – إماما عادلا وحكما مقسطا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام، وهذه نصرة عظيمة، وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه، أنه ينصر عباده المؤمنين ويقر أعينهم ممن آذاهم.
قال السدي: لم يبعث الله تعالى رسولا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب بذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا.
قال: فكان الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها.
وهكذا نصر الله نبيه محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه على من خالفه وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان.. ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة، ولهذا قال تعالى: )إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا( (غافر: 51)، أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل[1].
الخلاصة:
لا تعارض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء المتوهمون على زعمهم، ويمكن التوفيق بينها بواحد من هذه الوجوه:
الرسل قسمان: قسم أمروا بجهاد أعدائهم، فهؤلاء نصرهم الله، وقسم لم يؤمروا بقتال أعدائهم، بل أمروا بالصبر على أذاهم، وهؤلاء يكون نصرهم في الدنيا بالحجة الظاهرة التي تدحض الكافرين.
أن الحكم بنصر الرسل هو الأغلب، فلا مانع أن يكون فيهم من لا ينصر على عدوه؛ وذلك ابتلاء لهم يعظم به أجرهم.
أن جميع الرسل منصورون كما نطقت بذلك الآيات القرآنية، وبعضهم يكون بالظفر على العدو، وبعضهم يكون نصره بالانتقام ممن آذوهم، أو حاولوا قتلهم، أو قتلوهم بالفعل.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص196: 198.
توهم تناقض القرآن في معاملة الوالدين الكافرين
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين وجود تناقض في القرآن الكريم في تحديده كيفية معاملة المسلم لوالديه الكافرين، فمرة يأمر بمصاحبتهما بالمعروف في قوله تعالى: )وصاحبهما في الدنيا معروفا( (لقمان: 15)، ومرة أخرى ينهى عن موادتهم في قوله تعالى: )لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم( (المجادلة: 22). ويتساءلون: كيف يأمر القرآن بشيء، ثم ينهى عنه؟! ألا يعد ذلك تناقضا صريحا في القرآن؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من التناقض.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة، فالنهي عن الخاص – الموادة – لا يتناقض مع الأمر بالعام – المصاحبة بالمعروف -.
2) مصاحبة الوالدين بالمعروف والإحسان إليهما من أفعال الجوارح، بينما الموادة من أفعال القلوب، فالمنهي عنه والمحذر منه هو المحبة القلبية التي تستوجب الرضا عن عقيدة الكفر، وهذا غير وارد في المصاحبة بالإحسان.
التفصيل:
أولا. المصاحبة بالمعروف أعم من المودة، والنهي عن الخاص – الموادة – لا يتناقض مع الأمر بالعام – المصاحبة بالمعروف -:
لقد أمر الله تعالى بمصاحبة الوالدين – إن كانا كافرين – بالمعروف والإحسان إليهما في قوله سبحانه وتعالى: )وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا( (لقمان: ١٥)، وينبغي ألا يفهم من هذا الأمر أنه يتناقض مع قوله سبحانه وتعالى: )لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم( (المجادلة: 22) [1].
فالحقيقة أنه لا اختلاف بين الآيتين إذا عددنا أن المصاحبة بالمعروف غير الموادة، فالمصاحبة بالمعروف أعم من الموادة؛ لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده، ومن لا يوده، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم[2].
فالمؤمن مطالب أن يصاحب والديه الكافرين بالمعروف من غير موادة، أو محبة، وأما والداه المؤمنان فيصاحبهما بالمعروف ويوادهما أيضا.
فقوله تعالى: )وصاحبهما في الدنيا معروفا( (لقمان: 15) دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلا فالقول والدعاء إلى الإسلام برفق[3].
ثانيا. مصاحبة الوالدين بالمعروف والإحسان إليهما من أفعال الجوارح بينما الموادة من أفعال القلوب:
لقد أمر الله الإنسان ألا يفعل لوالديه إلا المعروف والإحسان إليهما، وفعل المعروف والإحسان لا يستلزمان الموادة؛ لأن الموادة من أفعال القلوب، بينما المصاحبة بالمعروف والإحسان من أفعال الجوارح، فكأن الله تعالى حذر من محبة وموالاة الكفار جميعا، ويدخل في ذلك الآباء وغيرهم[4].
وممـا يؤكـد ذلك مـا جـاء عن أسمـاء بنـت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – أنها قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم – وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة – أي: راغبة عن الإسلام – أفأصلها؟ قال: نعم»[5] [6]. فالصلة هنا لا تعني المودة القلبية، ولكن الإحسان والمصاحبة بالمعروف بالجوارح الظاهرية فحسب، ومن ثم فلا تعارض بين الآيتين.
الخلاصة:
المصاحبة بالمعروف غير الموادة، فالمصاحبة بالمعروف أعم من الموادة؛ لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم.
إن مصاحبة الوالدين – وإن كانا كافرين – بالمعروف والإحسان إليهما لا تستلزم الموادة؛ لأن الموادة من أفعال القلوب، بينما المصاحبة بالمعروف والإحسان من أفعال الجوارح، ومن ثم لا تعارض بين آيات القرآن الكريم.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص162.
[2]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط2، 1420 هـ/ 2000م، ص184.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص65.
[4]. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط2، 1420 هـ/ 2000م، ص184. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص162، 163.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3012)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد (2371).
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص65.
توهم تناقض القرآن فيمن نزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا في القرآن في الآيات الدالة على من نزل بالوحي على محمد – صلى الله عليه وسلم – ويستدلون على ذلك بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى: )فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)( (النجم)، فهذه الآية تذكر أن الله نفسه أوحى إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – في حين أن قوله تعالى: )قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل) يبين أن جبريل هو الذي نزل بالوحي، وذكر أيضا أن أكثر من ملك نزل إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – كما في قوله تعالى: )ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)( (الحجر).
ويتساءلون: ألا يعد هذا تناقضا في الآيات الدالة على من نزل بالوحي على النبي؟ هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في القرآن وعصمته من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
لكل آية من هذه الآيات معنى مختلف عن الآية الأخرى، إذ إن:
1) معنى الآية الأولى: فأوحى جبريل – عليه السلام – إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – ما أوحاه إليه ربه.
2) قوله تعالى: )قل نزله روح القدس( يعني: جبريل نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه.
3) نزول الملائكة في الآية الثالثة يكون بالعذاب لمن لم يؤمن.
التفصيل:
يختلف معنى كل آية عن الآية الأخرى؛ إذ إن:
معنى الآية الأولى: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد – صلى الله عليه وسلم – ما أوحاه إليه ربه:
ورد في تفسير القرطبي أن قوله تعالى: )فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)( (النجم) تفخيم للوحي الذي أوحي إليه، وتقدم معنى الوحي: وهو إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحاء. والمعنى: فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد – صلى الله عليه وسلم – ما أوحى. وقيل: المعنى: )فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)( (النجم) جبريل عليه السلام: )ما أوحى(.
وقيل: المعنى: فأوحى جبريل – عليه السلام – إلى عبد الله محمد – صلى الله عليه وسلم – ما أوحى إليه ربه([1]).
قوله تعالى: )قل نزله روح القدس( يعني: جبريل نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه:
وعلى هذا، فلا تعارض ولا تناقض بين الآيتين؛ لأن الآيتين تشيران إلى أن جبريل – عليه السلام – هو الذي نزل بالوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد تلقيه من ربه – عز وجل – فقوله تعالى: )قل نزله روح القدس( يعني أن جبريل نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه”([2])، وجبريل المذكور في سورة النجم هو نفسه الذي ذكره الله تعالى في سورة النحل، حيث يقول سبحانه: )قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل)، فقد سماه الله روحا؛ لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب، وهو وحي الله إلى رسله، ووصفه “بروح القدس” أي: المقدس، وهو المنزه عن الكذب أو الغش، فهو الذي قدسه الله ورفعه، وأعلى من شأنه عليه السلام.
نزول الملائكة في الآية الثالثة يكون بالعذاب لمن لم يؤمن:
ورد في تفسير قوله تعالى: )ما ننزل الملائكة إلا بالحق( (الحجر) عدة تفسيرات، أرجحها أن الحق هو العذاب إن لم يؤمنوا، )وما كانوا إذا منظرين (8)( (الحجر) أي: لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت توبتهم. وقيل: المعنى: لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا، وأصل)إذا(: إذ إن، ومعناه: حينئذ([3]).
الخلاصة:
معنى الآية الأولى: فأوحى جبريل إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – ما أوحى إليه ربه، وعلى هذا، فلا تناقض ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: )قل نزله روح القدس(؛ لأن آية )قل نزله روح القدس( تعني: جبريل – عليه السلام – نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه، وقد سماه الله تعالى روحا؛ لأنه ينزل بما يحيي موات القلوب، وهو وحي الله تعالى إلى رسله.
ونزول الملائكة في الآية الثالثة يكون بالعذاب لمن لم يؤمن في أغلب الآراء، ومعنى قوله تعالى: )وما كانوا إذا منظرين( أي: لو نزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل: المعنى: لو نزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج17، ص91.
[2]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج10، ص176، 177.
[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص4، 5.
توهم خطأ القرآن حين جعل القلب يؤدي وظيفة العقل
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القلب مجرد “مضخة للدم” وليست له مهمة تعقلية، وأن العقل – بكل مزاياه، ومراكزه الحسية، والفكرية الموجودة في الدماغ هو الذي يقوم بوظيفة التعقل والتدبر والإدراك. ويتساءلون: كيف يقول القرآن بعد ذلك: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها( (الحج: ٤٦)، فيجعل القلب محلا للعقل، ويستدلون بذلك علي تناقض القرآن مع الواقع العملي والعلمي، الذي يثبت أن العقل محله الدماغ.
وجها إبطال الشبهة:
1) القرآن الكريم والسنة المطهرة يقرران أن القلب هو مستقر العقل.
2) أثبت العلم الحديث أن القلب ليس مجرد مضخة للدم فقط، بل اكتشفوا فيه هرمونات عاقلة ترسل إلى بقية أعضاء الجسم.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم والسنة المطهرة يقرران أن القلب هو مستقر العقل:
لقد قرر القرآن الكريم أن العقل في القلب، قال تعالى: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمــى الأبصــار ولكــن تعمــى القلــوب التــي في الصدور (46)( (الحج)، فجعل الله تعالى محل العقل في القلب، كما جعل محل السمع في الأذن، فلولا أن مستقر العقل في القلب، ما ذكر الأذن محلا للسمع وذكر عضوا غيرها.
كما جعل القلب هو مناط التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وهذه هي صفات العقلاء أنهم يميزون بين ما يضر وما ينفع، وما هو حق وما هو باطل؛ لذا قال تعالى: )فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)، وجاء في تفسير القرطبي: )فتكون لهم قلوب يعقلون بها( (الحج: ٤٦) “أضاف العقل إلى القلب لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ، وجاء عن أبي حنيفة، وما أراها عنه صحيحة”[1].
وفي السنة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس»[2]. وجاء أيضا: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»[3]. وجاء أيضا: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب»[4].
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ” يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”[5]. فزوال القلب فيه زوال العقل، وفي الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[6]. فلولا أن مناط التكليف محله في القلب لما ركز الرسول على الإشارة إليه والتعويل عليه، فسلامة القلب فيه سلامة العقل.
وفي الحديث أيضا: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة[7] سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين على: أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا[8] كالكوز مجخيا[9]، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه»[10].
فإذا بلغ بالقلب هذا الحال – وهو عدم التمييز بين المعروف والمنكر – وهو معروف لدى عامة الناس أنه مضخة للدم فقط، ثبت أن به العقل الذي يميز بين المنكر والمعروف، والحق والباطل.
ثانيا. العلم الحديث يشهد بأن العقل في القلب وليس في الدماغ:
وهذا ما يشهد به الأطباء المختصون بعمليات نقل القلب، ففي الستينيات من القرن الماضي اعتزل طبيب قلب مشهور مهنة الطب بسبب هذا الموضوع، وكان اسمه “برنار”.
وفي مناسبة نجاح عملية نقل قلب لطفل إنجليزي عمره أربعة عشر عاما، قام بها الدكتور المصري مجدي يعقوب في لندن، إلا أن العملية دمرت خلايا المخ لدى الولد، فقام والده برفع دعوى ضد د. مجدي يعقوب يطالبه فيها بتعويض، بهذه المناسبة نشرت إحدى الصحف قصة د. برنار أول طبيب نقل قلبا في الدنيا، وبعدما نقل القلب للمريض، أصبح القلب يعمل بطريقة ميكانيكية جيدة، لكن المريض أخذ يهذي بكلام غير معهود منه، فأرجعوا السبب إلى تأثير المخدر، فلما انقضت مدة المخدر لم يفق المريض من الهذيان.
فقام نفس الطبيب برنار بعملية نقل قلب لمريض آخر، فأخذ هذا المريض يهذي أيضا بكلام غير معهود منه، فكالعادة أرجعوا السبب إلى المخدر؛ إلا أنه لم يفق من هذا الهذيان حتى بعد انتهاء مدة المخدر. هنا أرسل د. برنار مساعديه ليستقصوا عن صاحب القلب الأصلي، فوجدوا أن المريض الذي نقل إليه القلب الجديد يهذي بوقائع حقيقية لصاحب القلب الأصلي، مع أنه لا رباط بينهما في الواقع.
فحينئذ أسقط في يد د. برنار، وأعلن في مؤتمر صحفي – بأسى بالغ – اعتزال مهنة الطب؛ لأنه جنى على رجلين، ثم قال: “ما قيمة حياة الإنسان إذا كان يعيش في فلك إنسان آخر، يفكر بتفكيره، ويعيش في أحلامه، ويتخلى عن حياته”[11].
ولعل ما بثته قناة الجزيرة القطرية في أحد برامجها عن الذين تم لهم عمليات نقل قلب، وما حدث لهم من تغير في الأحوال والأقوال والسلوكيات والتفكير، لعل هذا يعاضد ويؤيد علميا أن العقل مستقره في القلب، ولولا ذلك ما تغيرت سلوكيات هؤلاء.
وقال الشيخ الزانداني متعجبا: هل مركز الإيمان والتعقل في الإنسان هو القلب؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف الحال في عمليات نقل القلوب والقلوب الصناعية؟ وهل القلب في القرآن والسنة هو هذا القلب؟
يقول: اليوم فقط فجرا وجدت جوابا جديدا كنت أبحث عنه، فمنذ مدة ونحن نتتبع هذا، فأرسلنا واحدا من إخواننا إلى مركز إجراء العمليات الصناعية إلى أمريكا، قال: لو تسمحون لي أن أقابل المرضى؟ قالوا: لا نسمح لك… لماذا؟ قال: أريد أن أقابلهم وأن أسألهم؛ فانزعجوا انزعاجا شديدا من طلبي وقالوا لي: أي معلومة تريدها نحن سنقدمها لك. قلنا: إن شاء الله ربنا سيكشف لنا وسيجعل من هذا إعجازا علميا نتكلم عنه في الأعوام القادمة والأيام القادمة إن شاء الله.
وأخذنا نتتبع، فإذا بأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز قال لي: أما سمعت الخبر؟
قلت: وما هو؟ قال: نشر في الجريدة منذ ثلاث سنوات ونصف أنهم اكتشفوا أن القلب ليس مضخة للدماء، بل هو مركز عقل وتعقل.
ومرت الأيام، وسمعنا عن مركز لتبديل القلوب بالأردن، فقلت: هذه بلاد عربية، لعلنا – إن شاء الله – يتيسر لنا معلومة، وأن نرى ذلك بأعيننا.
وقال أحد الإخوة المتتبعين لهذا الموضوع: هل سمعت المؤتمر الصحفي لأول شخص بدل قلبه؟ قلت: لا. قال: عقد مؤتمر صحفي، وقالوا: لو أنكم معنا في البيت تشاهدون سلوك هذا ما غبطتموني على هذا.
قال الشيخ: اليوم اتصل بي أحد الإخوة من الأطباء السعوديين يشتغل بعملية تغيير القلوب، ويريد أن يعد بحثا عن هذا الموضوع، فأخذت أسأله: أنا أريد أن تركز على التغييرات العقلية والنفسية التي تحدث، والقدرة على الاختيار، ماذا يحدث؟ قال: القلب الجديد لا تكون فيه أي عواطف ولا انفعالات، فقلت كيف هذا الكلام؟ قال: هذا القلب إذا قربت إليه خطرا، بدا وكأنه لا شيء يهدده، بينما الثاني يرعش، وإذا قربت إليه شيئا يحبه، بدا وكأنك لم تقدم إليه شيئا، قلب بارد غير متفاعل مع سائر الجسد.
وها هم يقولون: اكتشفوا أن في القلب هرمونات عاقلة ترسل رسائل عاقلة إلى الجسم كله، وأن القلب مركز عقل وتعقل، وليس مجرد مضخة للدم[12].
الخلاصة:
الوحي يقرر أن القلب محل العقل ومستقره لقوله تعالى: )أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)( (الحج)، فجعل الله تعالى العقل الذي يميز بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشر، في القلب، كما جعل محل السمع في الأذن.
وفي السنة آثار تدلل على أن القلب هو محل التمييز والإدراك، وأن بصلاحه يصلح سائر البدن، وبفساده يفسد سائر البدن، ولا يكون ذلك إلا لمكانة القلب وما يحتويه من إشارات عاقلة تمد سائر الأعضاء بالقدرة على التصرف إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ولقد ثبت علميا بعد عمليات نقل القلب لمرضى أنهم قد تغيرت سلوكياتهم وتفكيرهم وانفعالاتهم، وهذا دليل على أن مركز التفكر والتدبر، إنما هو في القلب، وليس في الرأس، وثبت علميا أيضا أن في القلب هرمونات عاقلة ترسل رسائل عاقلة إلى الجسم كله، فالقلب ليس مجرد مضخة للدم فقط كما كان يعتقد الناس من قبل.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج12، ص77.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم (6680).
[3]. صحيــح: أخرجـه الترمـذي في سننـه، كتـاب صفـة القيامـة والرقائــق والــورع (2518)، والنسائـي في سننــه، كتاب الأشربــة، باب الحث على تــــرك الشبهات (5711)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3377).
[4]. أخرجــه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الإيمـان، بـاب فضـل من استبـرأ لدينـه (52)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (4178).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (12128)، والترمذي في سننه، كتاب القدر، باب القلوب بين إصبعي الرحمن (2140)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7987).
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره (6708).
[7]. النكتة: النقطة والعلامة والأثر، وأصله من النكت في الأرض، وهو التأثير فيها بعصا أو بغيره.
[8]. المرباد: المتغير سواده بكدرة.
[9]. المجخي: المائل عن الاستقامة والاعتدال.
[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (386).
[11]. محاضرة بعنوان “القلب ملك البدن”، الشيخ أبو إسحاق الحويني.
[12]. الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم، والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص302، 303 بتصرف.
توهم خطأ قوله تعالى:( إذا الشمس كورت )
مضمون الشبهة:
يُخطِّئ بعض المشككين قوله تعالى: (إذا الشمس كورت) (1) (التكوير)، قائلين: إن الآية تجزم بأن الشكل الحالي للشمس غير كروي؛ لأن الكرة لا تكور. ومن ثم؛ فإن الآية تدل على جهل قائلها بحقيقة كروية الشمس، ولا يمكن أن يكون للآية معنى إلا إذا اختلف الشكل الحقيقي للشمس عن الشكل الكروي.
وجه إبطال الشبهة:
ليس مقصودًا بتكوير الشمس في الآية أنها ستصبح كروية، لكن المقصود هو ذهاب ضوئها، فالتكوير هو مرحلة النهاية في حياة الشمس، وهذا يتطابق مع ما أثبتته الاكتشافات العلمية من أن النجوم تمر بمراحل عدة؛ فهي تخلق ثم تصير إلى مرحلة تسمَّى فيها نجوم النسق الرئيسي، ويستمر النجم على هذا الطور غالبية عمره، وبعد ذلك تتحوَّل إلى مرحلة جديدة، وهكذا حتى يتحول إلى نجم لا ضوء فيه.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
المقصود بتكوير الشمس: ذهاب ضوئها:
خلقت النجوم ابتداء من الدخان الكوني، الذي نشأ عن انفجار الجرم الأولي للكون (فتق الرتق)، ولا تزال النجوم تتخلق أمام أنظار الفلكيين اليوم في دخان السُّدُم عبر مراحل متتالية، وذلك بواسطة عدد من الدوامات العاتية التي تعرف باسم “دوامات تركيز المادة” (MaterialAccretionwhorlsorvertigos)، وتعمل هذه الدوامات على تكثيف المادة في داخل سحابات الدخان أو السدم بفعل عملية التجاذب التثاقلي (Gravitational Attraction)، فتؤدي إلى إحداث تصادمات متكررة بين جسيمات المادة ينتج عنها الارتفاع التدريجي في درجة حرارتها حتى تصبح قادرة على بث الأشعة تحت الحمراء فيولد ما يُسمَّى بـ “النجم الابتدائي” (The pro-or proto-star).
وتستمر جزيئات المادة في هذا النجم الأولي في التجمع والانجذاب أكثر نحو المركز حتى تتجمع الكتلة اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي؛ فتزداد الاصطدامات بينها، ويزداد الضغط إلى الدرجة التي تسمح ببدء التفاعلات النووية الاندماجية بين نوى ذرات الإيدروجين، فيتوهج النجم الأولي وتنطلق منه الطاقة، وينبثق الضوء وعند ذلك يكون النجم الابتدائي قد وصل إلى طور النضج المسمَّى باسم “نجوم النسق الرئيسي” (Themain sequence stars)، ويستمر النجم في هذا الطور غالبية عمره (نحو 90% من عمره)؛ حيث يتوقف انكماش مادته نحو المركز بسبب الحرارة والضغط البالغين المتولدين في مركز النجم.
وينتج عن استمرار التفاعلات النووية في داخل “نجم النسق الرئيسي” استهلاك كميات كبيرة من غاز الإيدروجين الذي يتحول إلى الهيليوم، وبالتدريج تتخلق العناصر الأثقل من مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين والسيليكون، وفي مراحل لاحقة يتحول لب النجم إلى الحديد، فتتوقف عملية الاندماج النووي، ويدخل النجم في مرحلة الاحتضار على هيئة النموذج الأول لانفجار المستعر الأعظم (TypeI Supernova Explosion)، وينتهي به إلى دخان السماء عبر مراحل من العمالقة الحمر (Red Giants)، ثم مرحلة النجوم الزرقاء شديدة الحرارة المحاطة بهالة من الإيدروجين المتأين والمعروفة باسم السدم الكوكبية Planetary Nebulae))، ثم مرحلة الأقزام البيض(Dwarfs White)إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم قليلة نسبيًّا؛ أي في حدود كتلة الشمس تقريبًا.
أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم عدة مرات قدر كتلة الشمس، فإنه يمر بمراحل من العمالقة العظام (Super giants) ثم النموذج الثاني لانفجار المستعر الأعظم (TypeII Supernova Explosion) الذي تتبقى عنه النجوم النيوترونية (NeutronStars) أو الثقوب السوداء (Black Holes)، التي تبتلع كل ما تمر به أو يصل إلى أفق حدثها (EventHorizon) من مختلف صور المادة والطاقة.
رسم تخطيطي يوضح دورة حياة النجوم
وغالبية نجوم السماء من النوع العادي, أو ما يعرف باسم “نجوم النسق الرئيسي” (MainSequenceStars) التي تمثل مرحلة نضج النجم وأوج شبابه, وهي أطول مرحلة في حياة النجوم؛, حيث يمضي النجم 90% من عمره في هذه المرحلة, التي تتميز بتعادل دقيق بين قوى التجاذب إلى مركز النجم -الناتجة عن دوران النجم حول محوره- وقوى دفع مادة النجم إلى الخارج -نتيجة لتمدده بالحرارة الشديدة الناتجة عن عملية الاندماج النووي في لبه- ويبقي النجم في هذا الطور حتى ينفد وقوده من غاز الإيدروجين, أو يكاد ينفد, فيبدأ بالتوهُّج الشديد حتى تصل شدة إضاءته إلى مليون مرة قدر شدة إضاءة الشمس, ثم يبدأ في الانكدار التدريجي حتى يطمس ضوؤه بالكامل, ويختفي كلية عن الأنظار على هيئة النجم الخانس الكانس أو (الثقب الأسود), عبر عدد من مراحل الانكدار.
ومن النجوم المنكدرة ما يعرف باسم السدم الكوكبية (Planetary Nebulae),والأقزام البيض (WhiteDwarfs), والنجوم النيوترونية (Neutron Stars), ومنها النابض وغير النابض,وغيرها من صور انكدار النجوم([1]).
انتهاء الشمس على صورة نجم قزم:
شمسنا عبارة عن نجم في مرحلة نجوم النسق الرئيسي -مرحلة الشباب- ولذلك نلاحظ عليها استقرارًا في خصائصها، فلا تخرج علينا يومًا بيضاء شديدة، ثم تبدو مثل نجم خافت في يوم آخر، يقول العلماء:
The sun appears appears to have been active for 4. 6 billion years and has enough fuel to go on for another five billion years or so.
The sun is destined perish as a white dwarf.
وهذا يعني “أن الذي يظهر أن الشمس قد كانت نشطة منذ 4,6 ألف مليون سنة، وأنها تمتلك الطاقة الكافية لتكمل خمسة آلاف مليون سنة أخرى”. “وإنه يقدر للشمس انتهاؤها مثل نجم قزم”.
إن الشمس تفقد ملايين الأطنان من كتلتها لتشع الطاقة في فضاء المجموعة الشمسية، وهو مقدار ضخم، ولكنه جزء تافه من كتلة الشمس البالغة 2 بليون بليون طن، إلى درجة أننا لا نلاحظ النقص في كتلتها من يوم إلى آخر، ولا حتى طول العمر؛ لأنها في خلال المليون سنة الأخيرة فقدت جزءًا من ألف جزء من كتلتها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الشمس تتغير ببطء، فإنها بالتأكيد سوف تموت؛ لأنها بمضي الزمن سوف تستهلك كل مخزونها من الوقود النووي “الإيدروجين” في قلبها، وبهذا يقف هذا المفاعل النووي الاندماجي عن العمل، ولن يستطيع مركز الشمس أن يقاوم وزن المناطق الخارجية لها التي تضغط إلى الداخل، وعندئذٍ يبدأ قلب الشمس في التقلص([2]).
يؤكد العلماء أن الشمس تحرق من وقودها ملايين الأطنان كل ثانية؛ ومن ثم سوف يأتي يوم تستنفد فيه وقودها وتتكور على نفسها ويذهب ضوؤها
إن ما للشمس من وهج، يتكون من اندماج في داخل باطن الشمس لذرتين من الهيدروجين مما ينتج الهيليوم، ونفاد الهيدروجين من باطن الشمس وتوافر الهيليوم، يحدث اضطرابًا وعدم توازن في جسم الشمس؛ لأن الهيليوم أثقل من الهيدروجين بأربع مرات، وعندما تلجأ الشمس إلى حركة تعيد توازنها فينتفخ الجزء الخارجي من الشمس ويتقلص لبها.
وعندما يكون اللب أضعف من أن يسند الجزء الخارجي من الشمس، ينهار جسم الشمس على بعضه -بسبب جاذبية أجزاء بعضها إلى بعضها الآخر- فتنكمش الشمس انكماشًا سريعًا مفاجئًا، فتتقارب الذرات تقاربًا شديدًا حتى تكاد تتداخل، وهذا هو التكوير.
ولكن قوة التنافر بين الذرات تحافظ على مسافة بينها تمنع الالتحام؛ فتتعادل قوى التنافر الكهربائي مع قوى الجذب الناتج عن التكوير، عندها يحصل شيء من التوازن في الشمس، وتسمَّى تلك المرحلة علميًّا بمرحلة “القزم الأبيض”، فلا يبقى من نورها إلا ضوء خافت واهن.
وقد لاحظ العلماء -الذين يراقبون ولادة النجوم وموتها- أن النجوم التي أكبر من شمسنا بمرة ونصف المرة تصل إلى مرحلة التكوير ثم تتلاشى وتنفجر دون أن تتوازن، فلا تصل إلى حالة “القزم الأبيض”، بينما النجوم التي تقارب حجم شمسنا، فإنها تؤول إلى حالة مستقرة تمامًا مع انخفات ضوئها([3]).
2) التطابق بين الحقيقة العلمية و ما أشارت إليه الآية الكريمة:
يقول المشككون: إن في قوله تعالى:)إذا الشمس كورت (1)((التكوير)، دليل على عدم كروية الشمس؛ لأن الآية تشير إلى أن تكويرها سيتم في زمان آت، وهذا يعني أنها ليست كروية الآن، وهذا غير صحيح؛ ذاك أن كروية الشمس لا تحتاج إلى إثبات كما أن وجودها لا يحتاج إلى إثبات.
ونحن نتفق مع المشككين في ذلك، فكروية الشمس لا تحتاج إلى دليل، ولكن الآية لا تتحدث عن كروية الشمس، ولكنها تتحدث عن مرحلة من حياة الشمس، وهي وقت نهايتها عندما تتكور على نفسها ويذهب ضوؤها، وهذه المرحلة من حياة الشمس أثبتها العلماء حديثًا. وفي بيان المدلول اللغوي للفظة “التكوير” واستعراض أقوال المفسرين في الآية ما يؤكد هذا المعنى ويعززه.
الدلالة اللغوية للآية الكريمة:
التكوير في اللغة بمعنى اللف والجمع، يقول صاحب مختار الصحاح: “كور: كار العمامة على رأسه؛ أي: لاثها، وكل دور كور، وقوله تعالى:)إذا الشمس كورت (1)((التكوير)، قال ابن عباس: غُوِّرت، وقال قتادة: ذهب ضوؤها، وقال أبو عبيد: كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى”([4]).
ويقول ابن منظور: “وأصله من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، وكوِّرت اضمحلت وذهبت، ويقال: كرت العمامة على رأسي أكورها وكورتها أكورها إذا لففتها، وقال الأخفش: تلف فتُمْحَى، وقال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى، وقال قتادة: كوِّرت ذهب ضوؤها، وهو قول الفراء، وقال عكرمة: نزع ضوؤها، وقال مجاهد: كورت دُهْوِرت، وقال الربيع بن خيثم: كورت رمي بها. وكورته فتكوَّر؛ أي: سقط”([5]).
من أقوال المفسرين في الآية الكريمة:
قال ابن كثير: “قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:)إذا الشمس كورت (1)((التكوير)، يعني: أظلمت. وقال العوفي عنه: ذهبت. وقال مجاهد: اضمحلت وذهبت. وكذا قال الضحاك. وقال قتادة: ذهب ضوؤها.
قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها”([6]).
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور: “وتكوير الشمس: فساد جرمها لتداخل ظاهرها في باطنها، بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها، ومن قولهم: كور العمامة، إذا أدخل بعضها في بعض ولفها، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطي في قوله تعالى: )يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب(“([7])(الأنبياء:104).
قال صاحب الظلال: “إن تكوير الشمس قد يعني برودتها، وانطفاء شعلتها، وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء، كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف، واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة، والتي تحوِّل جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة ـ استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمُّد كقشرة الأرض، وتكور لا ألسنة له ولا امتداد”([8]).
من خلال ما سبق نستطيع أن نقول: لا يوجد بين المعاني اللغوية للفظة “التكوير” أو بين أقوال المفسرين ما يشير إلى أن الشمس ليست كروية، وأنها ستكور مستقبلاً -بالمفهوم الذي قصده المشككون- ولكن أقوال المفسرين جميعها وكذلك المعنى اللغوي للفظة التكوير يؤكدان ما أثبتته الاكتشافات العلمية الحديثة من أن النجوم تولد، ثم تمر بمراحل عدة إلى أن تصل في النهاية إلى نجم لا ضوء فيه.
3) وجه الإعجاز:
تخبرنا القياسات الحديثة لكتلة الشمس وما تفقده كل ثانية من وزنها بسبب التفاعلات الحاصلة في داخلها، التي تسبب خسارة ملايين الأطنان كل ثانية! هذه الخسارة لا نحس بها ولا تكاد تؤثر على ما ينبعث من أشعة ضوئية من الشمس بسبب الحجم الضخم للشمس، ولكن بعد آلاف الملايين من السنين سوف تعاني الشمس من خسارة حادة في وزنها؛ الأمر الذي يسبب نقصان حجمها واختفاء جزء كبير من ضوئها، ويقود إلى انهيارها، وهذا يتطابق مع ما أخبر الله عنه، فقد تحدث الخالق عز وجل عن تلك المرحلة الدقيقة من حياة شمسنا في الآية الأولى من سورة التكوير بقوله تعالى: )إذا الشمس كورت (1)( ([9])(التكوير).
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص258-261.
[2]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، القسم الأول، ص104.
[3]. حول شبهة إدراك الشمس للقمر، د. عبد الرحيم الشريف، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[4]. مختار الصحاح، مادة: كور.
[5]. لسان العرب، مادة: كور.
[6]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص475.
[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج15، ج30، ص141.
[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3838.
[9]. نهاية الشمس، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
دعوى اختلاف القرآن في أحكامه وتناقض معانيه
مضمون الشبهة:
يرمي المشركون والمنافقون القرآن بالتناقض واختلاف أحكامه وتضارب معانيه، وتكذيب بعضه بعضا.
وجها إبطال الشبهة:
1) دعوتهم إلى تدبر القرآن والنظر فيه وتفهم معانيه وأحكامه، فإنه لو كان من عند غير الله لكان فيه اختلاف وتضاد كثير.
2) القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب وقد سلم من كل ذلك، وما جهله الناس من القرآن هو من قصور عقلهم.
التفصيل:
أولا. من تدبر القرآن علم أنه من عند الله عز وجل:
يدعو القرآن هؤلاء المنافقين والمشركين أن يتدبروا كتاب الله عز وجل؛ ليعلموا حجة الله عليهم في طاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – واتباع أمره، وأن الذي أتاهم به من التنزيل هو من عند ربهم لاتساق معانيه، وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، ولكان فيه اختلاف كثير.
يقول قتادة – رحمه الله – في هذه الآية: قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل، وقول الناس يختلف، ولذا قال سبحانه وتعالى: )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء).
وكل متدبر في القرآن بحق يعلم أنه من عند الله، ولو كان من عند غيره لوجدوا فيه اختلافا كثيرا؛ لعدم استطاعته أن يأتي بمثله في تصوير الحق بصورته كما هي لا يختلف ولا يتفاوت في شيء منها، لا في حكايته عن الماضي الذي لم يشهده محمد صلى الله عليه وسلم، ولا في إخباره عن الآتي في مسائل كثيرة وقعت كما أنبأ بها، ولا في بيانه لخفايا الحاضر حتى حديث النفس ومخبآت الضمائر، ولعدم استطاعة محمد – صلى الله عليه وسلم – ولا غيره أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد وقواعد التشريع، وفلسفة الآداب والأخلاق، وسياسة الشعوب والأقوام، وفنون القول وألوان العبر في أنواع المخلوقات وسنن الاجتماع ونواميس العمران وضرب الأمثال، وتكرار القصة الواحدة بالعبارات البليغة، وفوق ذلك كله ما فيه من العلم الإلهي والخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة، وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء الوفاق، وكون ذلك موافقا لفطرة الإنسان، فالالتئام بين آياته الكثيرة هو غاية الغايات عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
وهكذا تدبر القرآن وتأمل ما فيه يهدي صاحبه إلى كونه من عند الله عز وجل، وإلى وجوه الاهتداء بهداه[1].
ثانيا. جهل من زعم أن القرآن من عند غير الله:
أما ما جهله الناس من أمر القرآن فهو من تقصير عقولهم وجهالتهم، فإن محكم القرآن حق، و متشابهه حق، ولا يضرب بعضه ببعض، فما جهله الناس من أمر القرآن وجب رده إلى العالم به، ولهذا مدح الله الراسخين في العلم الذين قالوا: )كل من عند ربنا( (آل عمران: ٧)، أي: محكمه ومتشابهه حق؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا، وذم الله الزائغين عن الحق الذين اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة حيث ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا.
ومن رد القرآن على هذه الدعوى أيضا قوله – سبحانه وتعالى – في آية أخرى: )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها( (الزمر: ٢٣)، فالقرآن أحسن الحديث، ولا كتاب أحسن منه، ولا يمكن لأحسن الحديث أن يكون فيه تناقض أو إشكال أو اضطراب.
ومعنى المتشابه هنا يراد به أن القرآن متماثل في النظم والبلاغة والهدف الذي يدعو إليه فلا تجد في أسلوبه اختلافا ولا في معانيه مناقضة، فهو يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة، ويصدق بعضه بعضا، في غاية الفصاحة والبلاغة والجزالة.
وأيضا فقد نفى الله – عز وجل – عن كتابه جميع أنواع الريبة والشك فقال: )ذلك الكتاب لا ريب فيه( (البقرة: ٢)، وقد استفتح بهذه الكلمة كتابه معلنا فيها التحدي لكل من يقرأ أن يجد فيه خطأ أو ريبا أو شكا، على خلاف عادة البشر الذين يستفتحون كتبهم بالاعتذار عن الأخطاء، وإظهار العجز، فالمرجو تقبل الحق الذي فيه والتماس العذر لأخطائه، أما القرآن فلا زيغ فيه ولا اختلال في نظمه ولا تنافي في معانيه، قال سبحانه وتعالى: )الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1)( (الكهف)، وهكذا ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من رب العالمين )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت)، فهو كتاب عظيم فصل، قال سبحانه وتعالى: )إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14)( (الطارق)[2].
الخلاصة:
القرآن وحي من الله سبحانه وتعالى؛ ولذا سلم من الاضطراب والاختلاف، إذ لو كان من عند غير الله لكان فيه كثير من الاختلاف والتعارض.
ما توهمه الجاهلون من تناقض القرآن في أحكامه وتضارب معانيه مردوده إلى قصور عقولهم، وعدم تدبر وفهم معانيه وأحكامه.
القرآن الكريم تدل تفاصيل آياته على مقاصده؛ فلو تأمل هؤلاء المغرضون وتدبروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم، ولما بقوا على فتنتهم الناتجة عن كفرهم.
(*) الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (النساء/ 82، الكهف/ 1، فصلت/ 42، البقرة/ 2، الطارق/ 13، 14، الزمر/ 3).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج 5، ص137، 138 بتصرف. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص290 بتصرف.
[2]. للمزيد انظر: التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص223: 228.
دعوى أن القرآن أساطير الأولين وقصص السابقين
مضمون الشبهة:
يزعم المشركون أن القرآن الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – ما هو إلا أساطير الأولين ومن قصص السابقين الأوائل، استنسخها محمد – صلى الله عليه وسلم – وهي تملى عليه أول النهار وآخره. قال سبحانه وتعالى: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( (الفرقان).
وجوه إبطال الشبهة:
1) هذا الادعاء منشؤه الكفر والعناد.
2) التذكير بنظير القرآن من الكتب السابقة.
3) شهادة الشهود من بني إسرائيل والكتب السابقة بصحة القرآن وصدقه.
4) تدبر آيات القرآن تؤكد خلوه من الإفك والاختلاف؛ لأنه من عند الله.
5) كبر المشركين وجدالهم بغير علم في آيات الله – عز وجل – يمنعهم من اتباع الحق.
التفصيل:
أولا. عناد المشركين وكفرهم هو مصدر مثل هذا الادعاء:
يرمي المشركون والكفار القرآن بأنه أساطير اقتبسها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس، وهو كذب صراح وافتراء محض وادعاء بحت، وقد تكررت منهم هذه المقالة في كثير من آيات القرآن، فهم يقولون: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( (الفرقان)، وتارة يقولون: )هذا إفك قديم (11)( (الأحقاف)، وقد رد الله عليهم افتراءاتهم هذه مبينا أن هذه الادعاءات ناشئة عن كفرهم وعنادهم واستكبارهم، دل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: )وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11)( (الأحقاف)، وهذا من الغرور الواضح والجهل الناتج عن حقدهم على الإسلام والمسلمين.
ثانيا. تصديق القرآن للكتب السابقة:
من إبطال القرآن لمزاعمهم تذكيره لهم بنظير القرآن ومثيله من كتب الله عز وجل، وهو مشهور عندهم، وهو التوراة، مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذا حرموا أنفسهم الانتفاع بها، قال سبحانه وتعالى: )ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (12)( (الأحقاف)، وقد كان في التوراة نعت النبي – صلى الله عليه وسلم – والإيمان به فتركوا ذلك ولم يهتدوا به عنادا وكبرا، بل حرفوا هذه الكتب المقدسة ليضلوا بها ويضلوا غيرهم من بني إسرائيل عن صحة القرآن الكريم.
ثالثا. شهادة الشهود:
ومن ردود القرآن عليهم أيضا ما أثبته من شهادة الكتب السابقة، وشهادة الشهود من بني إسرائيل بصدقه وصحته، قال سبحانه وتعالى: )وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (10)( (الأحقاف).
فأهل الكتاب يؤمنون بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل، وكان اليهود يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه، وفي هذا إبطال لمزاعم المشركين بالتأكيد على أن الوحي سنة إلهية سابقة معلومة أشهره كتاب موسى وهو التوراة، وقد بلغتهم نبوءتها من اليهود؛ لذا قال سبحانه وتعالى: )ومن قبله كتاب موسى(.
رابعا. القرآن تنزيل من الله الذي يعلم السر في السماوات والأرض:
إن القرآن نفسه يخالف ظاهره ما يرمونه به، فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك، ولا يستطيع أحد منهم أن يأتي بكلام عربي مبين بليغ ومرتق إلى حد الإعجاز، ولذا لقن الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – الجواب لرد بهتان المفترين بأن الله أنزل القرآن على رسوله؛ لأنه يعلم كل سر في كل مكان، قال سبحانه وتعالى: )قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض( (الفرقان: ٦). وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكا أو أساطير الأولين؛ ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فيوقنوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله، وليعلموا براءة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه.
خامسا. كبر المشركين وجدالهم بغير علم يمنعهم عن اتباع الحق:
من ردود القرآن على هؤلاء الذين يطعنون في القرآن ويزعمون أنه أساطير الأولين: أنهم يحاولون في آيات الله بغير حجة ولا برهان، وإنما يدفعهم إلى ذلك كبر في نفوسهم عن الحق وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر، قال سبحانه وتعالى: )ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4)( (غافر)، وقال سبحانه وتعالى: )إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه( (غافر:٥٦).
إن الإنسان ليجادل في آيات الله ويكابر وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما ينافس لأنه لم يقتنع، ويجادل لأنه غير مستيقن، والله العليم بعباده، السميع البصير المطلع على السرائر يقرر أنه الكبر، والكبر وحده هو الذي يحيك في الصدر وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه، الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته، ومحاولة أخذ مكان ليس له، ولا تؤهله له حقيقته، وليست له حجة يجادل بها، ولا برهان يصدع به، إنما هو ذلك الكبر وحده[1].
فالحق واضح، ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل؛ ليغلبوا به الحق ويبطلوه، وهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون بالعذاب، إنما هم يستهزئون بالآيات والنذر ويسخرون، قال سبحانه وتعالى: )ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا (56) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57)( (الكهف)، فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن، ولا أن ينتفعوا به؛ لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه، وجعل في آذانهم كالصمم فلا يستمعون إليه، وقدر عليهم الضلال – بسبب استهزائهم وإعراضهم – فلن يهتدوا إذن أبدا فللهدى قلوب متفتحة مستعدة للتلقي[2].
قال عز وجل: )ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59)( (الروم).
فالقرآن فيه من كل مثل، وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب، وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول، وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط، وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالاتها وفي كل طور من أطوارها، ولكنهم – بعد ذلك كله – يكذبون بكل آية، ولا يكتفون بالتكذيب، بل يتطاولون؛ لذلك يعقب على هذا الكفر والتطاول: )كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59)( (الروم) [3].
الخلاصة:
هذه المقالة ناشئة عن كفر الكافرين وعنادهم واستكبارهم عن الحق. بلا برهان ولا دليل يؤيدها.
القرآن مصدق للكتب السابقة فهو مثلها ومؤكد لها ومهيمن عليها.
شهادة الشهود من بني إسرائيل ببشاراته – صلى الله عليه وسلم – في الكتب السابقة تدل على أنه من عند الله عز وجل.
كيف يكون القرآن إفك وأساطير وقد أنزله الذي يعلمه السر في السماوات والأرض، فمن تدبره حقا لا يجد بدا من الاعتراف بأنه من عند الله عز وجل.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (القلم/ 15، الأحقاف/ 11، 17، النحل/ 24، الفرقان/ 5، الأنفال/ 31، المؤمنون/ 83، الأنعام/ 25).
الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (الفرقان/ 6، الأحقاف/ 12).
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص3089.
[2]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2276.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص2778.
دعوى أن القرآن يدعو إلى النهب
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن القرآن الكريم أحل نهب أموال الغير، والتمتع بها، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى( (الأنفال: 41)، وقوله تعالى: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال). هادفين من وراء ذلك إلى جعل الغنيمة نهبا لا يحل للمسلمين أخذه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الغنيمة ليست نهبا – كما يتوهم هؤلاء – إنما هي مال أهل الحرب يأخذه المسلمون؛ حتى لا يتقوى به العدو على محاربة المسلمين.
2) الإسلام لم يدع إلى النهب والسلب، بل دعا إلى الصفح ورد الأموال.
3) من أخلاقيات الحرب في الإسلام: الدعوة إلى الإسلام وإنذار الأعداء ثم إمهالهم، فإن أبوا إلا القتال قوتلوا.
4) الغنائم التي أحلت للمسلمين لم تحل لغيرهم، ومع هذا استحل أهل الكتاب النهب والسلب، وهناك فرق بين النهب وبين الغنيمة والفيء.
5) تقسيم الغنائم، معاملة الأسرى، العتق، كلها مبادئ إسلامية سامية، تختلف عن مبادئ القانون الدولي، ودعاوى الديموقراطية في العصر الحاضر.
التفصيل:
أولا. الغنيمة ليست نهبا، إنما هي مال أهل الحرب يأخذه المسلمون؛ حتى لا يتقوى به العدو على محاربة المسلمين:
لقد أحل الله الغنيمة للأمة الإسلامية خاصة، ولم تحل لأمة من قبل، وفيها كسر لشوكة أعدائهم، وتمكين لهم من المال الذي قد يتزودون به في إعداد عدتهم وجلب أسلحتهم، والإنفاق منها على مصالح المسلمين ورعاية شئونهم، ثم إننا نسأل لمصلحة من ترك هذا المال الذي ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر من عدوهم.
ثانيا. الإسلام لم يدع أتباعه إلى النهب ولا إلى السلب، وأخذ أموال الناس بغير وجه حق:
دعا الإسلام إلى الصفح والعفو ورد الأموال والممتلكات إلى أصحابها، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، حتى وإن كانوا على غير ملة الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلف الله عليه، ومن أخذها يريد أداءها أدى الله عنه».[1]
وقــال تعالــى: )وقاتلـوا فـي سبيـل الله الذيــن يقاتلونكــم ولا تعتــدوا( (البقرة: 190) والمسلمون بهذه الآية منهيون عن المثلة، وعن الغلول[2]، وقتل النساء والصبيان والشيوخ، وقتل أصحاب الصوامع، وعن تحريق الأشجار، وقتل الحيوان لغير مصلحة[3].
وأعظم من ذلك أن الذي كان يسلم من الأسرى كان يرد عليه ماله، ولا يؤخذ منه شيء، وكانت المرأة من السبي إذا أسلمت خيرت بين الرجوع إلى أهلها، وأن يتزوجها أحد المسلمين، كما حدث من النبي – صلى الله عليه وسلم – مع صفية بنت حيي بن أخطب.
ثالثا. أخلاقيات الإسلام في الحرب من أمثل الأخلاقيات:
أخلاقيات الإسلام في الحرب ليست كالتي كانت عليها القوانين الحربية في الجاهلية، أوفي العصر الحاضر من الأمم المتسلطة، فالإسلام يدعو أعداءه إلى الإسلام أولا، فإن أجابوا، وإلا دفعوا الجزية، فإن أبوا الإسلام أو دفع الجزية، أو ترك المسلمين يدعون إلى الإسلام، قوتلوا بعد إمهالهم ثلاثة أيام.
والإسلام يدعو إلى قتال من قاتله، ويكف عمن كف عنه: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة). وكان الإسلام أسبق من الاتفاقيات الدولية في حظر الأعمال العدوانية غير الإنسانية في حالة الحرب في قوله تعالى: )إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
وبهذا العرض اتضح أن الحرب المشروعة في الإسلام هي الحرب الدفاعية ضد المعتدي الذي يخرج المسلمين من ديارهم وأرضهم، أو يمنعهم من إقامة شعائر دينهم، أو يعتدي على أعراضهم وأموالهم، أو يشنع عليهم ويكيد لهم، ويوقع بينهم وبين غيرهم الخصومات والفتن والعداوات، فهذه كلها أعمال عدوانية تستوجب الرد عليها بمثلها[4].
وقد مر بنا أن الإسلام نهى عن قتل الأطفال، والنساء، والرهبان والشيوخ، ونهى عن قطع الأشجار، وهتك الأعراض، وتدمير المزروعات، ولما وجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امرأة مقتولة في إحدى الغزوات أنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان[5].
رابعا. الغنائم والفيء والجزية أحلها الله – عز وجل – للمسلمين، في حين استحل أهل الكتاب النهب والغنيمة لأنفسهم وهي محرمة عليهم:
أحل الله – عز وجل – الغنائم للأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم»[6]. وهذا مما فضل الله – عز وجل – به هذه الأمة عن غيرها من الأمم، وإذا كان الله – عز وجل – أحل الغنائم للمسلمين، فإن في التوراة تحليلا لها، ففي سفر التثنية: “وغنيمة المدن التي أخذنا.. الجميع دفعه الرب إلهنا أمامنا”. (التثنية 2: 35، 36)، وفي سفر التكوين في صفات بنيامين: “في الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسم نهبا”. (التكوين 49: 27).
ومن أوصاف محمد رسول الله في التوراة أنه يقسم الغنائم، ففي نبوءة العبد المتألم: “ومع العظماء يقسم غنيمة”. (إشعياء 53: 12)، ولكن النصارى يفسرونها على المسيح مع أنه لم يحارب أحدا، وفي المزمور عن محمد – صلى الله عليه وسلم – “الملازمة البيت تقسم الغنائم”. (المزمور 68: 12) [7].
والغنيمة: هي ما غلب عليه المسلمون من مال أهل الحرب حتى يأخذوه عنوة[8][9].
والفيء: هو كل مال وصل إلى المسلمين من المشركين من غير قتال، ولا بإيجاف[10] خيل ولا ركاب[11] [12].
وأما النهب: فهو كل مال أخذ عنوة بغير وجه حق، وغالبا ما يترتب عليه إزهاق أنفس بريئة كالنساء والأطفال.
خامسا. تقسيم الغنائم ومعاملة الأسرى مبادئ إسلامية سامية تختلف عن مبادئ القانون الدولي:
فقد حض الإسلام على حسن معاملة الأسرى من النساء والعبيد والصبيان، وحرم قتلهم، وقد اتفق الأئمة والعلماء على حرمة قتلهم، إلا إذا اشتركوا في القتال، وباشروا في مقاتلة المسلمين، فإنهم يقتلون مقبلين، ويجب الإعراض عنهم مدبرين.
وكان الأسير إما أن يفدي نفسه بمال، وإما أن يرضى بالإسلام فيدخل في صف المسلمين، ولا يقتل إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وتظهر رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى في تقسيم الغنائم، ففي غزوة حنين بعد ما عاد إلى الجعرانة، وفيها السبي والغنائم التي أخذت من هوازن في غزوة حنين، قسم السبي هناك، ثم قدم عليه وفد هوازن وقد أسلموا، وسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم: “اختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم[13]، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أنظرهم بضع عشرة ليلة حين رجع من الطائف. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: ” أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أبنائنا ونسائنا، فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم”. وقد تم لهم من أرادوا، حيث رد معظم المسلمين السبي لأصحابه مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم [14].
فأين هذه المبادئ في المجتمع الدولي والقوى الدولية، التي لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة؟ وإن خير ما يشهد على مبادئهم وأخلاقهم، ما يحدث اليوم في العراق وفلسطين، وأفغانستان، وغيرها من بلاد المسلمين.
وأكبر شاهد على ذلك انتهاكات حقوق الأسرى والمعتقلين من الدول الراعية لحقوق الإنسان وحقوق الحيوان في السجون العراقية، وفي القاعدة البحرية الأمريكية التي يعتقلون فيها أفرادا من المسلمين من مختلف أجناس العالم، والتي أذيعت على شاشات التلفاز ورآها القاصي والداني والصغير والكبير.
فهل سمعنا بمثل هذه الانتهاكات في صفوف من أسرهم المسلمون على مدى التاريخ؟!
الخلاصة:
الغنيمة هي مال أهل الحرب المعادين للإسلام يأخذها المسلمون، حتى لا يتقوى بها أعداؤهم على محاربتهم، وليست نهبا كما يزعمون.
لقد دعا الإسلام إلى رد الحقوق إلى أصحابها، ومنع أخذ حق الغير من غير وجه حق، وحرم قتل الراهب في صومعته والطفل والمرأة، وحرم تدمير الاقتصاد من الزراعة، أو الصناعة، إلا إذا دعت الضرورة لذلك.
حث الإسلام على تحرير العبيد، وحسن معاملة الأسرى، وقبول الفداء منهم، ووعد بالأجر مرتين لمن كانت له أمة فأحسن تربيتها، فاعتقها ثم تزوجها، ونهى عن السلب والنهب القائم على التشفي والإضرار بالآخر دون وجه حق.
في حين أن المجتمع الدولي المعاصر لم يراع أيا من هذه الأخلاقيات على مدى تاريخه السيئ، والذي يحفل بالجرائم التي تشيب لها الرؤوس وليس ما حدث في سجون العراق وغيرها منا ببعيد.
(*)هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه،كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2257).
[2]. الغلول: الغدر.
[3]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ج2، ص1866.
[4]. موسوعة القرآن العظيم، د. عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2004م، ص1866.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قتل النساء في العرب (2852)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (4646).
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التيمم (338)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).
[7]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص535.
[8]. عنوة: قهرا.
[9]. سيرة عمر بن الخطاب، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، ط6، 1421هـ/ 2000م، ص360.
[10]. إيجاف الخيل: حثها على السير.
[11]. الركاب: ما توضع فيه الرجل.
[12]. سيرة عمر بن الخطاب، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، ط6، 1421هـ/ 2000م، ص360.
[13]. استأنيت بكم: أي أخرت قسم السبي والغنائم أملا في إسلامكم.
[14]. انظر: فقه السيرة، محمد الغزالي، مكتبة دار الدعوة، مصر، ط6، 1421هـ/ 2000م، ص36.
دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية الثابتة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن هناك تعارضا بين القرآن الكريم والحقائق الشرعية، مستدلين على دعواهم هذه بعدة تساؤلات منها:
كيف تزعمون أن محمدا اصطفاه الله للرسالة وهيأه، مع وصفه له بالضلال، فهو كقومه كان وثنيا، )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)؟
كيف سحر النبي مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار، ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم: )إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)( (الفرقان).
كيف يسحر النبي مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين، كما قال تعالى: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر) )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)( (النحل)؟! فسحر النبي دليل أنه من الغاوين، وأنه من الذين يتولون الشيطان.
كيف يذكر في القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم في قوله تعالى: )وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)( (البقرة)، مع أن هذا الدين اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك، وتكفير كل ساجد لغير الله؟!
هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في حقائق الإسلام ومبادئه السامية.
وجوه إبطال الشبهة:
1) المقصود بالضلال هو المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شرع.
2) سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في الأمور الدنيوية، لكنه معصوم من الخطأ فيما يتعلق بالأمور الشرعية والوحي.
3) للسحر أنواع وليست كلها تسلط من الشياطين على المسحور، وسحر النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أشبه بالمرض.
4) الأمر بالسجود لآدم غرضه التحية والإكرام، لا العبادة والإعظام.
التفصيل:
أولا. المقصود بالضلال في الآية المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي:
إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في صحراء لا شجر معها سموها “ضالة”، فيهتدى بها على الطريق، فقال الله تعالى لنبيه: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، أي: وجدتك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلى، ومن هذا قول العرب: “الحكمة ضالة المؤمن”، أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع، وهذا المعنى اللغوي المقصود في الآية يوضح الحالة التي كان عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – في تلك الفترة، فقد كان وحيدا على طريق الحق فهدى الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما.
وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق. أي لم تعرفه، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم. يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع، فهو ضال بهذا المعنى، أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب: الضلال ترك الطريق المستقيم؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب: )قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)( (يوسف)، وقال أولاده: )إن أبانا لفي ضلال مبين (8)( (يوسف)، إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وقال عن موسى عليه السلام: )قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)( (الشعراء)، تنبيه أن ذلك منه سهو، وقوله: )أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى( (البقرة: 282)، أي: تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان.
والضلال من وجه آخر ضربان: ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة ونحوهما، المشار إليهما بقوله: )ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)( (النساء)، وضلال في العلوم العملية، كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه.
ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح[1]، قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لن آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؛ إنكارا لذلك وإعظاما له»[2].
وعن ابن عمر «أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني؟ فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم – عليه السلام – خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم»[3].
«عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري. وكان يحيي الموءودة[4]، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مئونتها، فيأخذها فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها»[5].
فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة، إلا أن فطرته دلته على وجود الله، وعقله هداه إلى توحيد الله، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة، إلا أنه كان معذروا، لذلك أدخله الله الجنة، ومن هذا الباب معنى قوله تعالى: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، أي: ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها، وإن كنت عارفا بالله موحدا له.
ثم إننا نلزمهم بأمر وهو: هل هم يقولون هذا أيضا في موسى – عليه السلام – عندما قال عن نفسه: )قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20)( (الشعراء)، ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون، فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم إذ لم يضل عن علم، بل ضل بغير علم، وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لم يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا”.
ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه، كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يعرفون أبناءهم.
ثانيا. كان سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأمور الدنيوية، لكنه معصوم من الخطأ فيما يتعلق بالأمور الشرعية والوحي:
لا بد – أولا – أن نعرف أن حديث سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – ثابت في كتب السنة[6]، فعن عائشة قالت: «سحر النبي حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله – وفي رواية: وأنه يأتي أهله ولا يأتي – حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله ودعاه، ثم قال: “أشعرت يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه”؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: “جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب[7]. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم – اليهودي من بني زريق – قال: فيم ذا؟ قال: في مشط ومشاطة [8] وجف[9] طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان[10]. قال: فذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: “والله، لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين”. قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: “لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثور على الناس منه شرا، وأمر بها فدفنت»[11].
فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية، فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل، ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله[12]، وأما الأمور الشرعية والوحي، فإنه معصوم من الخطأ فيها، كما ثبت في النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: ” اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»[13]. وغير ذلك من النصوص الكثيرة.
قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس: إن المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن»[14].
وفي رواية الحميدي: «أنه يأتي أهله ولا يأتيهم»[15]. قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد: “فقالت أخت لبيد بن الأعصم: «إن يكن نبيا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله». قلت: فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح.
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به. وقال المهلب: صون النبي من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين. ومثل هذا قوله تعالى عن موسى: )قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66)( (طه)، فسحر النبي مثل سحر موسى، وهو أن يخيل إليه الشيء، فمن أنكر الحديث ماذا يقول عن هذه الآية؟
ونزيد الأمر وضوحا فنقول: السحر الذي أراده المشركون غير السحر الذي حصل للنبي – صلى الله عليه وسلم – فهم أرادوا المسحور يعني الذي يصل إلى حد الجنون والافتراء، وقول ما لا يعقل ودخول الجن في المسحور، وهذا لا شك أنه باطل في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – وأما سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – فهو من نوع التخيل الذي يحصل لأي إنسان يقظة ومناما، وهذا لا يضر في مقام النبوة.
ثالثا. ليس كل السحر تسلطا من الشياطين على المسحور، وسحر النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أشبه بالمرض:
للسحر أنواع منها:
سحر بالأدوية.
سحر لا حقيقة له، بل هو خيال أو “خفة يد” كما يقولون.
سحر بالاستعانة بالشياطين.
إذن فليس كل أنواع السحر تسلطا من الشياطين على المسحور، وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – من نوع الأدوية؛ قال ابن حجر: واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: «فأما أنا فقد شفاني الله»[16]. وفي الاستدلال بذلك نظر.
لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل«فكان يدور ولا يدري ما وجعه»[17]. وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النبي وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان…. إلخ. ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة[18] وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عن جابر قال سمعت النبي يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»[19].
فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة، وهو أقسم على إغواء بني آدم. ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة، ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى، ويرجع المسلم إلى حاله الأولى. هذا آدم – عليه السلام – أغواه الشيطان حتى وقع في الأكل من الشجرة، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال: )هذا من عمل الشيطان( (القصص: 15) ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل، بل يبقى آدم وموسى – عليهما السلام – من خير أنبياء الله ورسله.
وبذلك يتبين لنا أن سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يشكك في نبوته، وإنما يمثل نقطة مشرقة، إنه سحر، ولكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان في أعلى درجات الاستقامة والهداية، وهذا يدل على أن السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي والعصمة، ومع أنه أمر جسدي، فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه وشفاه[20].
رابعا. السجود نوعان؛ سجود تحية وإكرام، وسجود عبادة وإعظام:
إن سجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل، بل لا يسجد الإنسان إلا لله وحده، وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا، كما حصل ليوسف عندما خر له أبواه وإخوته سجدا، فلم ينكر عليهم، ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية، درءا للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه.
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: )ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا( (يوسف: 100)، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود – على أي وجه كان – إنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة[21].
على أن كثيرا من العلماء يقولون: إن السجود هنا المقصود به المعنى اللغوي للسجود، وهو عموم الانحناء والميل والاحترام، ولا يلزم منه أن يخر على الأرض.
وبهذا يتبين لنا أن سجود الملائكة لآدم كان سجود تحية وتعظيم وتسليم، لا سجود عبادة وصلاة؛ لأن سجود العبادة لا يجوز إلا لله – سبحانه وتعالى – وفي سجود الملائكة لآدم – عليه السلام – طاعة لله – عز وجل – فضلا عن تحية عبده عليه السلام.
الخلاصة:
لا يمكن أن يوجد تعارض بين القرآن والحقائق الشرعية؛ لأن القرآن والحقائق الشرعية كلها من وحي الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد اصطفاه الله تعالى للرسالة وهيأه لها، فكيف يعده ويصطفيه ثم يضله عن طريق الحق الذي أراده له المولى عز وجل؟! وأما الضلال المنسوب إليه في سورة الضحى إنما قصد به معناه اللغوي، لا المعنى الشرعي، ولو كان المقصود به المعنى الشرعي لكان الأنبياء من قبله من الضالين أيضا، وهذا مستحيل.
لقد كان سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – في الأمور الدنيوية، لا في الأمور الشرعية كالوحي؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان معصوما من الخطأ في التبليغ عن الله – عز وجل – ودليل ذلك أنه لم يقل شيئا أثناء سحره، ثم عاد بعد شفائه ونقض ما قال.
ثم إن السحر ليس كله تسلطا من الشياطين على المسحور، وإن السحر أنواع؛ منه سحر بالأدوية، ومنه سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – وسحر لا حقيقة له، بل هو خيال أو خفة يد كما يقولون، وسحر فيه استعانة بالشياطين.
لقد حفظ الله – عز وجل – دينه من أن يحتوي على إشراك به سبحانه، وأن أمره سبحانه بالسجود لآدم، ليس معناه الشرك، أو أنه سجود عبادة وإعظام، إنما كان سجود التحية وإكرام، وكانت هذه تحية في شرع من قبلنا، وقد نسخ في ديننا، فكانت التحية في ديننا بالكلام دون السجود أو الانحناء درءا للفتنة وسدا للذريعة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله عز وجل.
(*) رد مفتريات على الإسلام، د. عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1405هـ/ 1982م. هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. بلدح: واد في طريق التنعيم إلى مكة.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل ـرضي الله عنه ـ (3614).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب حديث زيد بن عمر بن نفيل ـ رضي الله عنه ـ (3615).
[4]. الموءودة: البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل (3616).
[6]. قال ابن القيم: وهو حديث ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته, وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة, والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيامه من المتكلمين. (التفسير القيم، ابن القيم، ص566.
[7]. المطبوب: المسحور.
[8]. المشاطة: ما يسقط من الشعر حين يسرح.
[9]. الجف: قشر الطلع، يعني: طلع النخل.
[10]. بئر ذو أروان: هو بئر بالمدينة في بستان بني زريق.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب السحر (5430)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب السحر (5832).
[12]. ويرى الشيخ رشيد رضا أن هذا كان خاصا فقط في إتيانه أهله، وأنه معنى قول عائشة: « كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه ». كناية عن الجماع، كما جاء في تفسيره في الرواية الثانية. (تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن، محمد رشيد رضا، ص137).
[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنه (6802)، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في كتابه العلم (3648)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1532).
[14]. أخرجـه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الطـب، بـاب هـل يستخــرج السحــر (5432).
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) (النحل: ٩٠) (5716).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات باب تكرير الدعاء (6028).
[17]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب كيفية نزول الوحي (3018).
[18]. المحارشة: التحريض.
[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (7281).
[20]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص255 بتصرف.
[21]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص265.
دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية، التي أثبتها العلم التجريبي
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن هناك تعارضا بين القرآن والحقائق الكونية، ويستدلون على ذلك ببعض الحقائق والتساؤلات منها:
أن الأرض ليست ثابتة بل متحركة، فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة؟
أن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم متفرد في ذاته بمكوناته وضخامته.
أن الأرض والسماء جرمان، وليس كل واحد منهما سبعة كما ورد في القرآن.
ذكر المفسرون أن جبل”قاف” يحيط بالأرض كلها، وهذا خطأ؛ لأن العلم يبين أن أعلى قمة هي “إفرست”.
هادفين من وراء ذلك إلى التشكيك في الحقائق العلمية في القرآن بغية التشكيك فيه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القرآن يذكر ثبات الأرض من الاضطراب، لا من الحركة، فهي متحركة بحركة متزنة لا اضطراب فيها.
2) النجوم والكواكب في حجم الحجارة للناظرين، لا بحسب الأصل، ولكن بحسب منظور الرؤية.
3) الوحي قرر أن الله خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وهذا يقين لا ريب فيه، وعلميا إذا كان العلم قد أثبت أن المجموعة الشمسية واحدة من مجموعات أخرى فلا يستبعد أن يكتشف الأراضي السبعة، والسماوات السبع.
4) هذا الحرف “قاف” في أول سورة “ق” هو من الحروف المقطعة وليس اسم جبل.
5) شهادات بعض علماء الغرب والشرق المتخصصين في الدراسات الكونية، تؤكد سبق القرآن الكريم لكل العلوم والمعارف الكونية الحديثة، وتطابقها مع ما قرره.
التفصيل:
أولا. القرآن يذكر ثبات الأرض من الاضطراب، لا من الحركة؛ لأنها متحركة بحركة متزنة:
في البداية يجب أن نشير إلى أنه لا بد أن تكون هذه المعلومات التجريبية وصلت مرحلة الحقيقة العلمية المستقرة المتفق عليها، فلا يجوز أن نجادل القرآن بنظريات تفسيرية لبعض ظواهر الكون، إذ إنه من الممكن أن تكون القضية العلمية عبارة عن تجارب لم تصل إلى حد الحقيقة الثابتة القطعية، مثل نظرية أن أصل الإنسان قرد، ثم مر بمراحل حتى وصل إلى هذا المستوى، والتي تتعارض مع كون ابتداء خلق الناس من آدم الذي خلقه الله تعالى مرة واحدة من غير تدرج.
وكذلك إن زعموا أن في القرآن تناقضا فلا بد أن يكون هذا التناقض من كل وجه، بحيث لا يحتمل حمل اللفظ على معنى آخر، فإن دلالة القرآن الظنية المعنى مما يمكن حملها على عدة معان، ومن هذه المعاني معان لا تخالف العلم، مثل دعوى المناقض أن الأرض تدور حول الشمس، حسب زعمهم – لقوله الله تعالى: )وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17)( (الكهف)، فنسب فعل الدوران للشمس، وهذا غير صحيح؛ فإن اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول: )وترى الشمس(، أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل، فإذا كانت المسألة في حقيقة علمية ثابتة، وهي تعارض نصا قرآنيا من كل وجه، فهنا يحدث التناقض.
وقد وضح لنا د. منصور محمد حسب النبي في كتاب المعارف الكونية بين العلم والقرآن، القسم الأول، مدى تطابق العلم الحديث مع آيات القرآن الكونية فقال:
جاء في سورة لقمان: )خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10)( (لقمان). قالوا فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة؟ وهذا يدل على أنهم لم يفهموا المعنى الحقيقي لكلمة تميد[1].
فمعنى تميد أي: تضطرب وتتزلزل، ولا يراد بالميدان مجرد حركة متزنة، والمصدر الثلاثي (فعلان) يأتي لإفادة هذا المعنى، مثل ميدان وغليان وثوران وجولان… وهكذا، والآية تذكر أن الله ثبت الأرض حتى يستطيع البشر أن يستقروا عليها في نومهم، ويزرعوا ويرعوا ماشيتهم، ولو كانت مضطربة ما استطاع الناس أن يطمئنوا عليها وأن يعملوا هذه الأعمال.
نحن ننام في الطائرة وفي القطار وفي السفينة، فإذا اضطرب واحد منها استيقظنا وشعرنا بالتعب، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئا يسكنها لتثبت، ولا يعني تثبيته أنه يقف ولا يتحرك، بل أن ينقطع اضطرابه، وسيذكر القوم بعد معترضين على القرآن أنه ذكر )وكل في فلك يسبحون (40)( (يس)، وكل (كلمة تشمل الشمس وتوابعها من القمر والأرض والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل هذه الكواكب).
وبهذا فالأرض ليست ساكنة، بل تتحرك عدة حركات متداخلة؛ لأن الكون كله لا يعرف السكون، وصدق الله تعالى: )كل يجري إلى أجل مسمى( (لقمان: 29) [2].
ثانيا. النجوم والكواكب في حجم الحجارة للناظرين، لا بحسب الأصل، ولكن بحسب منظور الرؤية:
جاء في القرآن: )ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5)( (الملك)، وجاء أيضا: )ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18)( (الحجر)، وقال رجال المجلس الكنسي: إن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم ضخم.
والذي في الآية أن هناك أجساما نارية تصيب الشياطين، ولم يذكر أن الشيطان يسقط عليه نجم أو أن الملائكة ترميه به، والعلم الحديث، ورواد الفضاء يتحدثون عن النيازك التي ترى في الفضاء الواسع مذنبات مضيئة، ومنها الناري الذي ينطفئ ويتفتت في سيره، وبعضها يصل إلى الأرض، وهي تشبه المقذوفات البركانية، والذين درسوا جغرافية فلكية يعرفون هذا، فهذه المقذوفات قطع تنفصل من الكواكب وتتحرك في الفضاء، خصوصا إذا كان النجم أو الكوكب قريبا من الأرض، والله تعالى يصيب بها من يشاء ويحفظ بها من يشاء، وقد تكون قطعا باردة ولكنها مضيئة كالقمر. أما سماع نوابغ العصر أصحاب تيموثاوس أن الذين نزلوا على سطح القمر رأوا هناك جهات ساكنة نارها، وأخرى ملتهبة؟ وأنهم رأوا الأرض مشعة كما نرى نحن القمر؟ وأن الفضاء مليء بقطع نارية سابحة، ومنها ما يصل إلى الأرض؟ فهذه أشياء لا أصل لها من الصحة في الاكتشافات العلمية الحديثة.
ثالثا. أخبر الله أنه خلق سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، وأكد الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا الإخبار:
وإذا كان العلم الحديث قد أثبت أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا هذا ليست إلا واحدة من مجموعات أخرى لا يعلمها إلا الله، فلا يستبعد أن يتوصل العلم الحديث إلى الأراضين السبع والسماوات السبع، وإن كنا لسنا في حاجة إلى إثبات العلم الحديث بعد ما جاء الوحي في القرآن والسنة يقرر عدد السماوات والأرض؛ ذلك لأنه جاء في القرآن: )الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما (12)( (الطلاق)، وجاء: )والله جعل لكم الأرض بساطا (19)( (نوح)، وجاء: )يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)( (البقرة)، وجاء هذا ومثله في آيات أخرى، وخطؤه في نظر رجال المجلس أن الأرض كوكب واحد وليست سبعة، وكذلك السماء!
والآية الأولى جاءت في ختام سورة الطلاق، وهي تلفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى البالغة: )الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما (12)( (الطلاق).
آية عجيبة رهيبة تبين ضآلة الإنسان في هذا الكون العظيم، ويقف غير واحد من الكتاب مذهولا أمام التعبير، وأمام مدلوله، وأمام هذا الإعجاز القرآني.
ما هذه السماوات؟ وما هذه الأرضون؟ كل ينظر من زاوية خاصة، وكل يجد في الآية ما يبهره.
قد تكون السماء التي توصل علمنا إليها بكل ما فيها من كواكب ونجوم وأفلاك إحدى سماوات سبع، والكرة الأرضية التي نعيش عليها هي أيضا كذلك! إن علم الفلك الحديث يؤيد هذا، ويذكر أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا هذا ليست إلا واحدة من مجموعات أخرى لا يعلمها إلا الله الذي خلقها.
وفي آية سورة الطلاق نلاحظ أن لفظ سماوات أتى دون ذكر كلمة طباقا كوصف قرآني لها، وبهذا يجب علينا أن نصرف النظر عن وجود طبقات سبع داخل أرضنا كما تخيل بعض المفسرين لهذه الآية مجازا دون وجه حق، فالآية تشير صراحة إلى حقيقة وجود عدد من الأرضين بنفس عدد السماوات السبع، ويؤيد ذلك أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – كما يلي:
«من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين»[3].
«ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة»[4].
«اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن»[5].
وكل هذه الأحاديث النبوية تؤكد أن لكل أرض سماء تعلوها، وأن هناك ارتباطا بينهما، فلا سماء بدون أرض ولا أرض بدون سماء، كما يتضح أيضا من بديعيات قوله تعالى: )وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين (44)( (هود)، وبهذا فالأرض والسماء متلازمان، فإذا كان هناك سبع سماوات، فلا بد أن يكون هناك سبع أرضين[6].
رابعا. “قاف” حرف من الحروف المقطعة التي بدأت بها أوائل السور، ولا يعلم المقصود منه إلا الله:
إن ما روي عن بعض المفسرين أن “ق” جبل يحيط بالأرض فإنه رأي مرجوح وليس عليه أكثر المفسرين، والراجح أن “ق” حرف من الحروف المقطعة التي لا يعلم المراد به إلا الله تعالى، ويؤيد هذا ما ذهب إليه الإمام الطاهر ابن عاشور عند تفسيره لهذه الآية فيقول: إن القول فيه – أي: في الحرف “ق” – نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور، فهو حرف من حروف التهجي، وقد سموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يتهجى بها في الكتب، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحرف المعروف… وقد أجمع من يعتد به من القراء على النطق به ساكن الآخر، سكون هجاء في الوصل والوقف، ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله: ق: اسم جبل عظيم محيط بالأرض… وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره. ومن العجيب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن، ألم يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجي مثل: آلم وآلمص؟! ولو أريد الجبل الموهوم لكتب ” قاف” ثلاثة حروف مثل: عين: اسم الجارحة، وغينش: مصدر غان عليه، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجي كما لا يخفى[7].
خامسا. شهادات علماء الغرب بسبق القرآن للدراسات الكونية الحديثة وتطابقها معه:
إن المنصفين من أهل الملل الأخرى شهدوا بأن القرآن لا يتعارض مع العلم أبدا. يقول إبراهيم خليل: يرتبط هذا النبي – صلى الله عليه وسلم – بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح u في قوله عنه: “ويخبركم بأمور آتية”. وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه؛ من طب وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ… ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف”، وقال: أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس، وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه؛ لآمنت برب العزة والجبروت خالق السماوات والأرض، ولن أشرك به أحدا”.
وقال بوتر: عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق، الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وأنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق رائع، وأسلوب قاطع لا يدع مجالا للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة”. وقال بوتر أيضا: كيف استطاع محمد الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية، أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لا بد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل”.
وقال حتى: “إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره، ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه هو إعجاز القرآن.. فمن جميع المعجزات كان القرآن هو المعجزة الكبرى”. ولقد ألف د. مراد هوفمان – سفير ألمانيا السابق بالرباط – كتاب “الإسلام كبديل”[8]، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه وصدق النبي وكمال التشريع.
ومن الذين تخصصوا في هذا المجال، وكان من أشد الناس عداوة للقرآن والرسول د. موريس بوكاي، وكان كلما جاءه مريض مسلم يحتاج إلى العلاج الجراحي، فإنه إذا أتم علاجه يقول له: ماذا تقول في القرآن، هل هو من عند الله أنزله على محمد، أم من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ فإذا أجاب المريض بأنه من الله، وأن محمدا صادق، قال: أنا أعتقد أنه ليس من عند الله وأن محمدا ليس بصادق.
وبقي على ذلك زمانا حتى جاءه الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية الراحل، يقول بوكاي: فعالجته جراحيا حتى شفي، فألقيت عليه نفس السؤال، فقال لي: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم مرارا وتأملته، فقال لي: بلغته أم بترجمة؟ فقلت: بالترجمة، فقال: إذن أنت تقلد المترجم، والمقلد لا علم له؛ إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقته، والمترجم ليس معصوما من الخطأ والتحريف عمدا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأ القرآن بها، وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك الخاطئ هذا. قال: فتعجبت من جوابه، ووضعت يدي في يده وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن حتى أتعلم العربية، وذهبت من يومي إلى الجامعة الكبرى بباريس، وتعلمت اللغة العربية في سنتين، وأنا آخذ يوميا درسا حتى يوم عطلتي، ثم قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفا ولا ينقص، وأما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها[9].
وكانت ثمرة هذه الدراسة العميقة للقرآن تأليف كتابه المشهور “التوراة والإنجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث”، ومما قاله بوكاي في هذا الكتاب: “لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف – قبل هذه الدراسة وعن طريق الترجمات – أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظواهر الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث”.
الخلاصة:
لقد تقرر لدى الناس جميعا – إلا من كابر عن الاعتراف بالحق – أن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإذا كان كذلك فكل حقيقة علمية مصدرها الوحي المعصوم سواء أثبتها العلم الحديث أو لم يتوصل إلى إثباتها، فنحن نؤمن أن ما جاء في القرآن هو الحق، فالقرآن أثبت أن الأرض وسائر الكواكب متحركة بحركة ثابتة مقدرة مضبوطة ليس فيها اضطراب، ولو اضطربت لدمرت الدنيا، وحسبك في ذلك عمليات المد والجزر، وهذا ليس اضطرابا، وإنما إرادة إلهية بقدر معين.
وأما النجوم فإذا كانت في حجم الحجارة، فإن ذلك بحسب النظر الإنساني القاصر إلا أن هذه النجوم والكواكب عالم كبير وضخم لا يعلم حقيقته إلا الله.
ولقد قرر الوحي أن الله تعالى خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وإذا لم يتوصل العلم الحديث إلى كنه السماوات والأرض، وحدود كل واحد منهما بالتحديد، فإنما هذا من قصور في العلم الإنساني، ولعله يكتشف ذلك فيما بعد، خاصة وأنه قرر أن المجموعة الشمسية التي يتعلق بها عالمنا واحدة من بين مجموعات كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى.
القرآن الكريم لم يقرر أن “ق” اسم جبل، وإلا لذكر ذلك صراحة إما في القرآن أو أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – كما أخبر عن اسم جبل أحد، ولكن “ق” هذا من الحروف المقطعة التي لا يعلم المراد منها إلا الله تعالى، فهذا مما استأثر الله تعالى بعلمه.
شهد بعض علماء الغرب الذين تخصصوا في الدراسات الكونية، أن الحقائق الكونية الحديثة تتطابق مع جاء في القرآن الكريم، وأن القرآن سبق كل هذه الاكتشافات العلمية بآلاف السنيين، وهذا يدل على أن القرآن الكريم ليس كلام بشر، ولكنه كلام الله عز وجل.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات www.islameyat.com
[1]. تميد: تتحرك.
[2]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418هـ/ 1998م، ص266 وما بعدها.
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (3023)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغضب الأرض (4222).
[4]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب ما جاء في الطاعات وثوابها (361)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (109).
[5]. صحيح: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب السير، باب الدعاء عند رؤية القرية التي يريد دخولها (8827)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الصلاة، باب المسافر (2709)، وصححه الألباني في الكلم الطيب (179).
[6]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418هـ/ 1998م، ص242، 243.
[7]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج12، ج26، ص275، 276 بتصرف.
[8]. من منشورات مكتبة العبيكان، الرياض، ط3، 2001م.
[9]. مقال في مجلة “السمو”، العدد الثاني، نوفمبر 2001م، د. وليد الطبطبائي بعنوان “الملك فيصل يدعو الجراح العالمي موريس بوكاي للإسلام”، وذكر في المقدمة أن هذه القصة موجودة في كتاب “نوادر التاريخ” لصالح محمد الزمام.
دعوى تناقض القرآن الكريم في مادة خلق الإنسان
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين أن القرآن الكريم متناقض مع نفسه في مسألة مادة خلق الإنسان؛ فهو يعطي معلومات مختلفة عن ذلك:
قال تعالى: )ألم نخلقكم من ماء مهين (20)( (المرسلات)، قال تعالى:)وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وكان ربك قديرًا (54)( (الفرقان)، وقال تعالى: )خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4)((النحل)، وقال سبحانه: )الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7)( (السجدة)، وقال عز وجل: )خلق الإنسان من علق (2)( (العلق)، وقال تعالى:)ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)( (الحجر)… إلخ، فكيف يكون ذلك كله صحيحًا في الوقت نفسه؛ علمًا بأن العلم الحديث يؤكد أن جسم الإنسان يتكون معظمه من مادة الكربون، ولم يثبت أنه يتكون من تراب أو طين.
ويزعمون أن قول القرآن بأن الإنسان خلق من طين خرافة أخذها الإسلام من الأساطير القديمة، هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن الكريم، ونفي الحقائق العلمية التي أشار إليها.
وجها إبطال الشبهة:
1) ليس هناك تعارض البتة بين الآيات التي تتحدث عن مادة خلق الإنسان؛ فإن بعضها يتحدث عن خلق آدم عليه السلام، وبعضها الآخر يتحدث عن خلق ذريته، فأما عن خلق آدم عليه السلام فإن آيات القرآن الكريم تتحدث عن مراحل خلقه، لكن في آيات متعددة، وترتيب هذه المراحل كالآتي: (تراب ـ ماء ـ طين ـ سلالة من طين ـ طين لازب ـ صلصال من حمأ مسنون، صلصال كالفخار)، وأما عن خلق ذرية آدم عليه السلام فإنها قد مرت بمراحل أيضًا، لكنها تختلف عن مراحل خلق آدم عليه السلام، وهي كالآتي: [النطفة ـ العلقة ـ المضغة ـ العظام ـ كسوة العظام باللحم ـ الإنشاء خلقًا آخر]، وهذه المراحل جاءت مجملة في مواضع ومفصلة في مواضع أخرى، حسب ما يقتضيه السياق، فأين التناقض المدَّعى إذًا؟!
2) لقد أثبت العلم حديثًا من خلال التحليل الكيميائي أن جسم الإنسان يشبه في تكوينه تراب الأرض؛ حيث يحتوي على عناصر كثيرة، منها: الأكسجين والكربون والهيدروجين… إلخ، وهذه العناصر وغيرها هي المكونة لتربة الأرض، وهذا يعني أن الإنسان مخلوق من تراب الأرض وطينها، يؤكد هذا أن شفرة كل إنسان مستمدة في الأصل من شفرة أبي البشرية آدم عليه السلام، كما يقول علماء الوراثة، وكذا تغذية الإنسان في جميع مراحل خلقه وحياته على نباتات الأرض أو الحيوانات التي تتغذى عليها، كما يؤكد ما سبق موت الإنسان؛ حيث يتحلل جسده بطريقة عكسية لعملية الخلق فيصير ترابًا كما بدأ.
كل هذه الحقائق العلمية قد أشار إليها القرآن الكريم صراحة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن، وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: )ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20)( (الروم).
التفصيل:
أولا. نفي تناقض القرآن الكريم في مادة خلق الإنسان:
ليس هناك أدنى تناقض ـ بل حتى شبهة تناقض ـ بين ما جاء في القرآن الكريم من معلومات عن خلق الإنسان، وحتى يتضح ذلك يلزم أن يكون هناك منهج علمي في رؤية هذه المعلومات التي جاءت في عديد من آيات القرآن الكريم، وهذا المنهج العلمي يستلزم جمع هذه الآيات والنظر إليها في تكاملها، مع التمييز بين مرحلة خلق الله للإنسان الأول آدم عليه السلام، ومرحلة خلق ذريته التي توالت وتكاثرت بعد خلق حواء واقترانها بآدم، وحدوث التناسل عن طريق هذا الاقتران والزواج.
خلق آدم عليه السلام:
لقد تحدث القرآن الكريم عن خلق آدم عليه السلام في آيات متعددة؛ مبينًا المراحل التي مر بها؛ كل مرحلة على حدة، من هذه الآيات ما يأتي:
قال الله سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)((آل عمران).
وقال سبحانه وتعالى: )والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير (45)( (النور).
وقال سبحانه وتعالى:( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7)( (السجدة).
وقال عز وجل:(ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12)((المؤمنون).
وقال عز وجل: (فاستفتهم أهم أشد خلقًا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11)((الصافات).
وقال سبحانه: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)((الحجر).
وقال سبحانه وتعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14)( (الرحمن).
وبنظرة تأملية في هذه الآيات الكريمات نجد أن خلق آدم عليه السلام قد مر بمراحل متعددة؛ مرحلة تلو مرحلة، بدأت بــ(التراب) الذي أضيف إليه (الماء) فصار (طينا).
صورة لطين الأرض الذي خلق منه الإنسان
ثم أخذ من هذا الطين (سلالة)([1]) وهي الزبد، الذي يعد أجود عناصر الطين وأنواعه؛ فلو أخذت قبضة من الطين وضغطت عليها بين أصابعك يتفلت منها الزبد، ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة([2]).
خلق الإنسان من سلالة من طين الأرض
ثم جف هذا الطين جفافًا نسبيًّا؛ حتى صار (لازبًا)؛ أي: متماسكًا، ملتصقًا بعضه ببعض؛ فهو وسط بين السيولة والصلابة([3]).
الطين اللازب
ثم تحول هذا الطين بعد فترة إلى (حمأ مسنون)، والحمأ: هو الطين الأسود([4])، والمسنون: هو المتغير المنتن بسبب التفاعل الكيميائي([5]).
فلما يبس هذا الطين من غير أن تمسه النار سمي (صلصالًا)؛ لأن الصلصال هو الطين اليابس الذي تمسه نار، وسمي صلصالًا؛ لأنه يصل؛ أي: يصوت من يبسه، أي: له صوت ورنين([6]). وقد شبهت طينة آدم في يبسها وصلصلتها بـ (الفخار)؛ لأن الفخار ـ كما يقول الدكتور محمد وصفي ـ لا يصنع ولا يتكون إلا من طين غني بالعناصر التي يتركب منها الإنسان، وينشأ منها النبات([7]).
صورة لطين الأرض الذي خلق منه الإنسان تشكل منه الأواني الفخارية
تلك هي مراحل خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام، توالت فيها وتتابعت وتكاملت معاني المصطلحات: التراب، والماء، والطين بمراحله، والحمأ المسنون، والصلصال، دونما أية شبهة للتعارض أو التناقض المدَّعى([8]).
قال الزمخشري: “فإن قلت: قد اختلف التنزيل في هذا… قلت: هو متفق المعنى، ومفيد أنه خلقه من تراب: جعله طينًا، ثم حمأ مسنونًا، ثم صلصالًا”([9]).
وهذا ما أكده القرطبي في تفسيره حيث قال: “ذلك متفق المعنى؛ وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينًا، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالًا كالفخار”([10]).
ويقول الشيخ الشعراوي: “لا تعارض بين هذه الأقوال (يعني: الآيات التي تتحدث عن خلق آدم عليه السلام)؛ لأنها أطوار للمادة الواحدة ـ وهي التراب ـ كالثوب الذي تلبسه تقول: هذا الثوب من القطن، أو من الغزل، أو من النسيج؛ فهي مراحل تمر بها المادة الواحدة، فليس في هذا تناقض في المراحل، إنما التناقض في أن يكون الشيء مرتبة واحدة، ثم تجعله مراتب، إنما هذه المسألة مراحل للمرتبة الواحدة، كالطفل يصير غلامًا، ثم شابًا، ثم رجلًا، ثم كهلًا… إلخ، كلها مراحل لإنسان واحد”([11]).
وقد ذكر هذا أيضًا كثير من المفسرين([12])، ولم يذكر أحد منهم خلافه.
وعليه، فلما كان تنقل خلق آدم عليه السلام من تراب إلى طين ـ بمراحله ـ إلى حمأ مسنون إلى صلصال كالفخار ـ ناسب ذلك أن ينسب خلقه إلى كل واحد من هذه المراحل([13])، التي يقول عنها ابن القيم: “هذه كلها أطوار للتراب الذي هو مبدؤه الأول”([14]).
هكذا شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يخلق جسم آدم طورًا بعد طور، ولم يخلقه في لمح البصر، مع أنه سبحانه وتعالى قادر على كل شيء؛ فهو القائل سبحانه وتعالى:)إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)( (النحل)، وهو تعالى القائل: )وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50) ( (القمر)، كل ذلك لحكمة أو لحكم لا يعلمها إلا الخالق سبحانه وتعالى([15]).
خلق ذرية آدم عليه السلام:
كما تحدث القرآن عن مراحل خلق أبي البشرية ـ آدم عليه السلام ـ تحدث أيضًا عن مراحل خلق ذريته، مفصلًا في مواضع، ومجملًا في مواضع أخرى؛ بذكر مرحلة أو أكثر حسب ما يقتضيه السياق.
فمن الآيات المفصلة في ذلك قوله سبحانه وتعالى:)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون).
وأما عن الآيات التي تتحدث بصورة مجملة عن هذا الخلق فهي كثيرة ومتنوعة في ألفاظها، منها ما يأتي:
قال سبحانه وتعالى: )خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4)( (النحل)، وقال تعالى: )إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا (2)((الإنسان)، وقال سبحانه وتعالى: )ألم نخلقكم من ماء مهين (20) ( (المرسلات)، وقال سبحانه وتعالى: )ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8)((السجدة)، وقال سبحانه وتعالى: )وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وكان ربك قديرًا (54)( (الفرقان)، وقال سبحانه وتعالى:)فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6)( (الطارق)، وقال عز وجل:)خلق الإنسان من علق (2)( (العلق).
والمتأمل في هذه الآيات المجملة يدرك أنه لا تعارض بينها البتة؛ “فالنطفة” في الآية الأولى هي ماء الرجل وماء المرأة التناسلي([16])، أما “النطفة الأمشاج” نفسها في الآية الثانية، فهي النطفة المختلطة من ماء الرجل وماء المرأة([17])، وأما “الماء المهين” في الآية الثالثة، فهو وصف لكل من نطفة الرجل ونطفة المرأة، وذلك لقلته وضعفه([18])، الذي لا يعبأ به؛ فهو ماء يراق ويسفح، ويهان ولا يكرم، حتى يشاء الله تعالى لجزء منه القيام بالدور الذي خلق من أجله وهو التكاثر([19]).
وأما قوله تعالى: )من سلالة من ماء مهين (8)((السجدة) في الآية الرابعة، فيعني أن الإنسان خلق من خلاصة كل من ماء الرجل والمرأة؛ فقد أثبت العلم حديثًا أن من بين مئتي مليون إلى ثلاث مئة مليون نطفة (حيوان منوي) تنطلق في دفقة المنيّ الواحدة من الزوج، ولا يصل إلى البويضة المنتظرة في الثلث الأخير من الرحم إلا نطفة واحدة (حيوان منوي واحد)، قدرت له الإرادة الإلهية النجاح في اختراق جدار البويضة السميك، فتلتقي نواتا النطفتين لتكوين النطفة الأمشاج (المختلطة) التي يكمل فيها عدد الصبغيات المحدد للنوع([20]).
ومن ثم، فهذه الآية الكريمة تعد توضيحًا وبيانًا شافيًا للآية السابقة: )من ماء مهين (8)( (السجدة) ؛ فالقرآن الكريم يوضح بعضه بعضًا.
وأما المقصود بكلمة (الماء) في الآية الخامسة، فهو ماء الرجل وماء المرأة التناسلي، على أحد قولي التفسير المحتملين في هذه الآية([21])؛ لذا فلا يصح لأحد أن يخطِّئ القرآن في إطلاقه لفظ (الماء) هنا؛ لأنه قد جاء موضحًا ومفسرًا في أيات أخرى.
وأما (الماء الدافق) في الآية السادسة، فهو ـ أيضا ـ ماء الرجل وماء المرأة التناسلي([22])، وسمي دافقا؛ لأن كلا منهما يخرج من مصدره متدفقًا: فماء الرجل يخرج من غدتيه التناسليتين (أي من خصيتيه) عند حدوث تقلصات لكل من جدار الحويصلة المنوية والقناة القاذفة للمنيّ، مع تقلصات عدد من عضلات الجهاز التناسلي بأمر من الجهازين العصبيين (الودي واللاودي)، فيندفع السائل المنوي بقوة عبر الإحليل.
أما ماء المرأة فهو الماء المحيط بالبويضة في داخل حويصلتها المعروفة باسم (حويصلة جراف)، فإذا انفجرت الحويصلة تدفق هذا الماء ليدفع بالبويضة إلى بوق قناة الرحم (قناة فالوب)؛ حيث تلتقي بالحيمن (الحيوان المنوي) المقسوم لإخصابها، وتكوين النطفة الأمشاج([23]).
ونلحظ في الآيات السابقة أن الله تعالى قد أفرد كلمة (ماء) ولم يثنها، مع أن المراد بها هو كلا الماءين ـ ماء الرجل وماء المرأة ـ وذلك لامتزاجهما أثناء عملية التخصيب([24])، كما هو معروف طبيًّا.
وأما عن الآية السابعة فإنه عز وجل قد ذكر فيها أن الإنسان خلق من (علق) وهو جمع علقة، وهي المرحلة التي تلي مرحلة النطفة الأمشاج، وسميت بذلك لأن النطفة المخصبة تنزل إلى الرحم فتأخذ في الانغراس والتثبت به وسط أوعية وبرك دموية كثيرة؛ فيبدو الجنين في هذه المرحلة وكأنه قطعة دم جامدة متعلقة بجدار رحم المرأة، يشبه دودة العلق.
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة العلقة ولم يذكر النطفة كما في الآيات الأخرى؛ وذلك لأن العلقة أولى مراحل التكوين الحقيقي للجنين في بطن أمه، فإن النطفة تكون في البداية ماء مهينًا أو منيًّا، ولكن حين يخصب هذا الماء أو المنيّ نطفة المرأة أو بويضتها، تتحول إلى نطفة أمشاج وتتعلق بجدار الرحم([25]).
وبناء على ماسبق، فإنه لا تعارض البتة بين الآيات التي تتحدث عن مراحل خلق ذرية آدمعليه السلام ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أجمل في مواضع وفصل في مواضع أخرى، فأجمل في مواضع بذكر مرحلة النطفة؛ وذلك لأنها أولى المراحل، فهي الأساس؛ إذ لولاها لما كانت المراحل الأخرى التي تتبعها، وأيضًا ليلفت سبحانه وتعالى نظر الإنسان إلى هذا الخلق العجيب، الذي مبدؤه من (ماء مهين) للعظة والعبرة، وذكر في موضع واحد فقط مرحلة العلقة؛ لكونها أولى مراحل التكوين الحقيقي للإنسان؛ وقد فسر سبحانه وتعالى في مواضع أخرى بذكر هذه المراحل ـ التي تحوي حقائق علمية ـ في تسلسل دقيق محكم؛ ومن ثم “اقتضى الإجمال الحذف، والتفصيل الإثبات، فجاء في كل سورة بما اقتضاه الحال”([26]).
فهل يحق لأحد بعد ذلك أن يدعي وجود تناقضات بين آيات خلق الإنسان أو غيرها من آيات القرآن، قال الله تعالى في كتابه: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا (82)((النساء).
ثانيا. خلق الإنسان من تراب الأرض:
1) الحقائق العلمية:
أثبت التحليل الكيميائي حديثًا أن جسم الإنسان يتكون أكثره من الماء (54% إلى أكثر من 70%)، بالإضافة إلى نسبة من الدهون (من 14% إلى 26%)، والبروتينات (من 11% إلى 17 %)، والكربوهيدرات (في حدود 1%)، وعدد من العناصر والمركبات غير العضوية (تتراوح بين 5% إلى 6%). وبِرد كل ذلك إلى عناصره الأولية يتضح أن جسم الإنسان يتكون من العناصر الآتية:
الأكسجين 65%
الكربون 18 %
الهيدروجين 10 %
النيتروجين 3%
الكالسيوم 1,4 %
الفوسفور 0,7 %
الكبريت 0,2 %
البوتاسيوم 0,18 %
الصوديوم 0,10 %
الكلور 0,10 %
الماغنسيوم0,045%
عناصر نادرة 0,014 %
وتشمل العناصر النادرة كلا من:
اليود
الكروم
المنجنيز
الفلور
الكوبالت
الزنك
البروم
النيكل
السيليكون
الحديد
الموليبدينوم
الفاناديوم
النحاس
القصدير
الألومنيوم
وهذه الشوارد وإن كانت نادرة إلا أن أقل خلل في نسبها بالزيادة أو النقصان قد يؤدي إلى اعتلال جسم الإنسان.
وهذا التركيب يشبه في مجموعه التركيب الكيميائي لتراب الأرض المختلط بالماء (الطين)، وإن تكوُّن تراب الأرض أصلًا في غالبيته من المعادن الصلصالية التي تتركب أساسًا من سيليكات الألومنيوم المميأة، وتشمل عددًا من المعادن التي تزيد على العشرة، والتي تختلف عن بعضها البعض باختلاف نسبة التميؤ، ونسب كل من السيليكون والألومنيوم، ونسب بعض الشوارد من مثل الماغنسيوم والبوتاسيوم، وغيرها.
كذلك يختلط مع المعادن الصلصالية نسب متفاوتة من حبات الرمل (ثاني أكسيد السيليكون أو المرو) ومعادن الفلسبار، والميكا، وأكاسيد النحاس، وبعض دقائق المعادن الثقيلة، بالإضافة إلى شيء من الرماد البركاني، ودقائق الأملاح المندفعة من مياه البحر، والجير (الكلس)، ودقائق الكربون والرماد الناتجة عن مختلف عمليات الاحتراق، وحبوب اللقاح والبكتيريا، وغيرهما من البقايا الدقيقة للأحياء، وبعض آثار الغبار الكوني، وغبار الشهب، وغيرها.
وتراب الأرض من الرواسب الفتاتية الناعمة جدًّا؛ حيث تقل أطوال أقطار حبيباتها عن (1/256 من المليمتر) وإن اختلط بها بعض حبيبات الغرين (1/16 من المليمتر إلى 1/256 من المليمتر)، وبعض حبيبات الرمل (1/4 من المليمتر إلى ا/16 من المليمتر). ونظرا للمسامية العالية للتراب، وللطبيعة الصفائحية لمعادنه؛ فإن أسطح الصفائح الترابية والمسام الفاصلة بينها تمتلئ بأيونات العناصر المختلفة وبالبقايا الدقيقة للأحياء، بالإضافة إلى الماء والهواء، فتجعل من هذا الخليط في تركيبه الكيميائي ما يشبه التركيب الكيميائي لجسم الإنسان([27]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآيات الكريمات:
لقد ذكرنا في الوجه الأول أن آدم عليه السلام قد خلق من تراب الأرض، الذي مر بمراحل متتالية حتى صار آدم إنسانًا؛ كما قال سبحانه وتعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران).
ولما كان بنو آدم في ظهر أبيهم عليه السلام لحظة خلقه دل هذا على أنهم خلقوا أيضًا من تراب الأرض؛ قال سبحانه وتعالى:)ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)( (الأعراف).
“والخطاب هنا للبشرية جمعاء، مما يؤكد أنهم كانوا جميعًا في صلب أبيهم آدم عليه السلام لحظة خلقه”([28]).
وفي ذلك المعنى يقول الدكتور السيد طنطاوي: “أي نحن الذين خلقناكم في ظهر آدم، ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق…”([29]).
ويؤكد هذا الشيخ الشعراوي فيقول: إن الحق سبحانه وتعالى طمر الخلق جميعًا في خلق آدم، والعلم الحديث يعطينا مؤشرات على ذلك، حين يأتون ببذرة ويكتشفون فيها كل مقومات الثمرة، وكذلك الحيوان المنوي ـ وماء المرأة ـ الذي توجد فيه كل صفات الإنسان؛ ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون: إن حياة كل منا تتسلسل عن آخر، فأنت من ميكروب أبيك، وقد نزل من والدك وهو حي، ولو أنه نزل ميتًا لما اتصل الوجود، ووالدك جاء من ميكروب جدك وهو حي، وعلى ذلك فكل كائن الآن فيه جزيء حي من لدن آدم، لم يطرأ عليه موت في أي حلقة من الحلقات؛ إذًا فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم، بدليل الآية التي معنا، وكذا قوله تعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)( (الأعراف)([30]).
وقد جاء في تفسير هذه الآية الأخيرة الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ـ يعني: عرفة ـ فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قِبَلًا، قال:)ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)((الأعراف)»([31]).
ويقول الدكتور زغلول النجار: “علم الوراثة يرد بلايين البشر الذين يملئون جنبات الأرض اليوم، وكذلك البلايين الذين عاشوا من قبل وماتوا، والذين سوف يأتون من بعدنا إلى اليوم الآخر ـ يرد هؤلاء جميعًا إلى شفرة وراثية واحدة كانت في صلب أبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه، وقد ظلت هذه الشفرة ولا تزال، مما يعين على ردها في الأصل إلى شفرة واحدة جمع فيها ربنا عز وجل الخلق كله”([32]).
إذًا فكل إنسان خلق في الأساس من تراب الأرض لا محالة.
يقول صاحب الظلال: “الإنسان ابن هذه الأرض، من ترابها نشأ، ومن ترابها تكون، ومن ترابها عاش، وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه (الأرض)، اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه، ونفخه فيه من روحه، وبه افترق عن عناصر ذلك التراب، ولكنه أصلًا من التراب عنصرًا وهيكلًا وغذاء، وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب، ولكن أين التراب وأين الإنسان؟ أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب، الفاعل المستجيب، المؤثر المتأثر، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء، ويحلق بفكره فيما وراء المادة كلها، ومنها ذلك التراب.
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب”([33])!
وتأكيدًا على ما سبق يسوق الدكتور زغلول النجار الأدلة العلمية على خلق الإنسان من تراب الأرض، وهي ما يأتي:
أن الشفرة الوراثية لكل إنسان مستمدة من شفرة أبيه آدم عليه السلام، وهو مخلوق أصلًا من تراب الأرض.
أن خليتي النطفة الأمشاج مستمدتان من جسدي والديه، وهما مستمدتان أصلًا من سلالة آدم المخلوق من تراب الأرض، وقد تغذيتا من غذاء مستمد أصلًا من عناصر الأرض.
أنه بمجرد انغراس الخلية الأرومية (النطفة الأمشاج) المنقسمة أقسامًا متعددة في جدار الرحم، فإنها تبدأ في الاعتماد على دم الأم في تغذيتها، وهو مستمد أصلًا من غذاء الأم المستمد من عناصر الأرض، ويستمر الحال كذلك في جميع المراحل الجنينية (العلقة، والمضغة، والعظام، وكسوة العظام لحمًا، ومرحلة النشأة خلقًا آخر، إلى طور المخاض)، والجنين ينمو جسده على حساب دم أمه المستمد من غذائها، وغذاؤها مستمد أصلًا من عناصر الأرض.
طوال مرحلة الرضاعة والوليد يحيا على لبن أمه، أو لبن مرضعة أخرى أرضعته، أو على ألبان الحيوانات، وكل ذلك مستمد أصلًا من عناصر الأرض عن طريق طعام الأم أو المرضعة، أو ألبان البهائم المتغذية على نبات الأرض.
بعد الفطام يبدأ الطفل في التغذية المباشرة على نبات الأرض وثمارها، وعلى ألبان الأنعام ومنتجاتها، وهي تتغذى بنبات الأرض، وكل ذلك مستمد من عناصر الأرض الموجودة في تربتها ومائها وهوائها، وكل ذلك من مكونات الأرض([34]).
صورة توضح تكون جسم الإنسان من عناصر الأرض
وفاة الإنسان؛ إذ بموته يتحلل جسده، ويتحول إلى تراب الأرض بعملية عكسية لعملية الخلق، التي بدأت من تراب الأرض الذي ارتوى بالماء فأصبح طينًا، وأذاب الماء من هذا الطين قبل الذوبان فيه عناصر ومركبات الأرض، فتمايزت من بين حبات هذا الطين سلالة خاصة تعرف باسم “سلالة من طين”، وبتبخير المحاليل المكونة لتلك السلالة ترسبت مكوناتها بين حبات المعادن الصلصالية (الترابية)، فأصبح الطين لاصقًا بعضه ببعض (طين لازب)، ثم ترك هذا الطين اللازب ليجف بالتدريج؛ فاسود وأنتن (وأصبح صلصالًا من حمأ مسنون)، ثم زاد جفافه فأصبح صلصالًا كالفخار، ثم نفخ الله تعالى فيه الروح فأصبح إنسانًا، وهو آدم عليه السلام.
ويحدث هذا تمامًا لكن بطريقة عكسية عند مغادرة الروح لجسد أي إنسان، فإنه ييبس حتى يصير كالتمثال الحجري (الصلصال)، ثم بعد دفنه يبدأ في التحلل التدريجي الذي تقوم به البكتيريا والفطريات والطحالب والفيروسات التي تعايشت معه في حياته، والتي توجد في التربة التي يدفن فيها، فيتغير لونه وتنتن رائحته؛ فيصير صلصالًا من حمأ مسنون، ثم يهترئ الجسد تمامًا، ويصبح كالطين اللازب، ويتبخر ما به من ماء؛ فيتحول إلى تراب الأرض، ويغيب فيه إلا عجب ذنبه الذي يحفظ بقدرة الله تعالى حتى يُبعث منه يوم القيامة([35]).
3) وجه الإعجاز:
لقد أثبت التحليل الكيميائي حديثًا أن جسم الإنسان يشبه في تكوينه تراب الأرض؛ إذ يحتوي على عناصر كثيرة، هي جملة العناصر المكونة لتراب الأرض وطينها، مما يعني ارتباطه بها ارتباط الأم بوليدها؛ لأنه قد خلق منها، وإليها يعود بعد موته، كل هذه الحقائق العلمية قد أشار إليها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن، وذلك في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:)ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20)( (الروم).
(*) حقائق الإسلام في مواجهة حملات المشككين، د. عبد الصبور مرزوق وآخرون، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة. تناقضات في الإسلام والقرآن لا حصر لها، مقال منشور بموقع: www.nagam.org. وَهْم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق.
[1]. السُّلالة: هي خلاصة الشيء تُسلُّ منه كما يُسلُّ السيف من غِمْده (الجراب).
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج16، ص9978 بتصرف.
[3]. انظر: لسان العرب، مادة: لزب. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج20، ص12749.
[4]. انظر: لسان العرب، مادة: حمأ. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، ص133.
[5]. انظر: لسان العرب، مادة: سنن. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص245.
[6]. انظر: لسان العرب مادة: صلل. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص284.
[7]. انظر: قصة آدم عليه وعلى نبينا السلام، مقال منشور بموقع: www.garam.sy.com. مراحل خلق آدم عليه السلام، مقال منشور بموقع: كنوز الحروف www.knooz.com.
[8]. انظر: حقائق الإسلام في مواجهة حملات المشككين، د. عبد الصبور مرزوق وآخرون، مرجع سابق، ص156، 157.
[9]. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، الزمخشري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407هـ، ج4، ص445.
[10]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج17، ص161.
[11]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج20، ص12444، 12445.
[12]. انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ج19، ص142. لباب التأويل في معاني التنزيل، الخازن، تحقيق: محمد علي شاهين، 1415هـ، ج2، ص226. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، تحقيق: علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ، ج14، ص104. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مرجع سابق، ج14، ص44.
[13].)خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ( (الحجر:26) ، مقال منشور بموقع: شبكة المنهاج الإسلامية www.almenhaj.net.
[14]. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص29.
[15]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: أطوار الخلق وحواس الإنسان، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2003م، ص30 بتصرف.
[16]. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، ج2، ص330. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط2، 1431هـ/ 2010م، ج2، ص158.
[17]. انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، مرجع سابق، ج24، ص90. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص159.
[18]. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مرجع سابق، ج8، ص304.
[19]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج4، ص263 بتصرف.
[20]. المرجع السابق، ج3، ص58 بتصرف.
[21]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج13، ص59. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مرجع سابق، ج10، ص63.
[22]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج20، ص4.
[23]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج4، ص412، 413 بتصرف.
[24]. انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج20، ص4.
[25]. انظر: الحلقة الثالثة من تفسير القرآن للشيخ محمد حسان، مقال منشور بموقع: فرسان الحق www.forsanelhag.com.
[26]. أسرار التكرار في القرآن، الكرماني، تحقيق: عبد القادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، ط2، ص125.
[27]. خلق الإنسان في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص289، 290 بتصرف. انظر: تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج2، ص200، 201.
[28]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج3، ص480.
[29]. التفسير الوسيط للقرآن الكريم، د. محمد السيد طنطاوي، مرجع سابق، ج5، ص22.
[30]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج7، ص4060 بتصرف.
[31]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس، (4/ 151)، رقم (2455). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[32]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج3، ص479.
[33]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج4، 2409.
[34]. تفسير الآيات الكونية في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ج3، ص480، 481 بتصرف.
[35]. المرجع السابق، ج2، ص202، 203. انظر: من معجزات القرآن ما بين الطب والعلوم الحديثة، د. سامي نوح حسن الموسوي، مرجع سابق، ص568، 569.
دعوى خطأ القرآن العلمي في قوله تعالى: ( وكل في فلك يسبحون )
مضمون الشبهة:
من جملة الانتقادات الموجهة إلى القرآن الكريم من قبل بعض المشكِّكين، زعمهم أن القرآن أخطأ في التعبير عن دوران الأجرام في الكون عندما قال: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس)؛قائلين: إن كلمة “يسبحون” غير دقيقة علميًّا؛ ذاك أن الكواكب والنجوم لا تسبح، إنما تدور في الفراغ، فالسباحة إنما تكون في وسط مادي مثل الماء.
ويتساءلون: إذا كان الإسلام قد حرَّر العقول من ربقة الخرافات والأساطير -كما تزعمون- فلماذا فسَّر محمد آية )وكل في فلك يسبحون (40)((يس)بأن كل واحد من الأجرام يسبح في مركبة؟ وهم يستندون في ذلك إلى الحديث الذي أورده الطبري “عندما تشرق الشمس على مركبتها في أحد فصول الربيع يرافقها ثلاث مئة وستون ملكًا ناشري أجنحتهم…”.
وجها إبطال الشبهة:
1) مع بدايات القرن الحادي والعشرين ظهرت حقيقة جديدة هي البناء الكوني (cosmic building)؛ إذ أدرك العلماء وجود لبنات بناء في الكون، فكل مجموعة مجرات تشكل لبنة بناء، وتبين لهم أيضًا أن جميع الأجسام الكونية مثل الأرض والكواكب تسبح في وسط مادي مليء بالمادة والطاقة المنتشرة في الكون، وهذه الحقيقة لم يدركها الإنسان إلا قبل سنوات قليلة؛ ومن هنا ندرك سبب إيثار القرآن استعمال الفعل”يسبحون” بدلاً من “يدورون” في قوله تعالى: )وكل في فلك يسبحون (40) ((يس)،ففعل”يسبحون” هو الأدق والأصح من الناحية العلمية.
2) لم ترد الرواية المذكورة في مراجع الحديث المعتمدة، ولم ترد حتى في تفسير الطبري؛ وإنما وردت في تاريخه المعروف باسم “تاريخ الأمم والملوك”، وهو لم يشترط الصحة فيما يرويه فيه من أخبار وآثار. كما أن طول الرواية لا يتفق مع سمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيجاز بلا إسهاب. ومن ثم؛ فإن هذا الحديث إما أن يكون مُتلقًّى من الإسرائيليات أو من وضع القُصّاص.
التفصيل:
أولاً -الدقة المتناهية لقوله تعالى: )وكل في فلك يسبحون (40((يس) في وصف حال الأجرام في الكون:
1) الحقائق العلمية:
عندما بدأ العلماء باكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة فضاء (space)؛ وذلك لظنهم بأن الكون مليء بالفراغ، ولكن بعدما تطورت معرفتهم بالكون واستطاعوا رؤية بنيته بدقة مذهلة، ورأوا نسيجًا كونيًّا (cosmic web) محكمًا ومترابطًا، بدءوا بإطلاق مصطلح جديد هو بناء (building)([1]).
لقد تبين للعلماء أن ما يسمونه بالفضاء لا وجود له حقيقة؛ لأن الفراغ غير موجود في الكون على الإطلاق، إنما كل جزء من أجزاء الكون مهما كان صغيرًا؛ فإنه مشغول بالطاقة والمادة معًا. ولذلك؛ فإن الحقيقة التي ظهرت حديثًا هي أن الكواكب والنجوم والمجرات لا تدور في فراغ أو فضاء، إنما تسبح في وسط مادي وطاقوي معًا.
جميع الأجسام الكونية مثل الأرض والكواكب تسبح في وسط مليء بالمادة والطاقة المنتشرة في الكون
ويؤكد علماء وكالة ناسا الأمريكية أن بيئة الفضاء تشبه -إلى حد كبير- بيئة البحار! ولذلك؛ فإنهم يرسلون رواد الفضاء في رحلات للسباحة تحت الماء لمدة ثلاثة أسابيع، وذلك قبل ذهابهم إلى الفضاء.
رواد فضاء يتدربون على السباحة في الماء قبل السباحة في الفضاء
ولكي نزداد يقينًا بهذه الحقيقة نلجأ إلى أقوال رواد الفضاء الذين خرجوا خارج نطاق الجاذبية الأرضية، ماذا شعروا وهم في الفضاء؟! إن كل من صعد إلى الفضاء يؤكد أنه يحس وكأنه يطفو على سطح الماء!! ولذلك نجد العلماء في وكالة ناسا الأمريكية يقولون بالحرف الواحد: (Astronauts feel like they are floating when they are inspace)، وهذا يعني “أن رواد الفضاء يشعرون وكأنهم يعومون عندما يكونون في الفضاء”.
عندما يكون الإنسان في الفضاء يحس وكأنه يطفو على سطح الماء، وهذا الإحساس حقيقيٌّ وليس وهميًّا ولذلك؛ فإن تعبير “السباحة في الفضاء” تعبيرصحيح([2])
2) التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وما جاءت به الآية الكريمة:
من الأشياء التي يأخذها المغالطون على القرآن الكريم قولهم: إنه أخطأ في التعبير عن دوران الأجسام في الكون، وذلك عندما قال:)وكل في فلك يسبحون (40)((يس)؛ إذ إن كلمة “يسبحون” غير دقيقة علميًّا؛ لأن الكواكب والنجوم لا تسبح إنما تدور في الفراغ، والسباحة تكون في وسط مادي مثل الماء، وقبل أن نشرع في تفنيد هذا الزعم، تجدر الإشارة –باختصار- إلى توضيح المعنى اللغوي للآية وبيان أقوال المفسرين فيها.
الدلالات اللغوية للآية الكريمة:
o الفلك: هو مجرى أجرام السماء في المدار الذي يجري فيه كل جرم منها، وجمعه أفلاك وفلك([3]).
o السبح: هو المر السريع لجسم ذي كثافة أعلى من كثافة الوسط الذي يمر فيه، وذلك مثل سبح الإنسان في الماء أو في الهواء، يقال: سبح يسبح سبحًا وسباحة، أي: عام عومًا، واستعير لحركة النجوم الانتقالية في أفلاكها، ولسرعة الذهاب والمنقلب في العمل، والسبح أيضًا هو الفراغ، أو التصرف في المعاش([4]).
من أقوال المفسرين في الآية:
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس) يعني: الليل والنهار والشمس والقمر كلهم يسبحون؛ أي: يدورون في فلك السماء([5]).
قال صاحب الظلال: “حركة هذه الأجرام في الفضاء أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح، فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطًا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب”([6]).
وجاء في صفوة التفاسير: “وكل في فلك يسبحون؛ أي: وكل من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء… والغرض من الآية: بيان قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه”([7]).
دقة اللفظة القرآنية:
كلما تطور العلم وتعرفنا أكثر إلى الحقائق اليقينية في الكون أدركنا أن كلمات القرآن هي الأدق والأصح من الناحية العلمية، وليس كما يدعي بعض المشككين أن القرآن يناقض بعضه بعضًا أو أن كلماته غير دقيقة.
ولذلك -وطبقًا للحقائق العلمية التي ذكرناها آنفًا-؛ فإن تعبير القرآن بكلمة يسبحون دقيق جدًّا من الناحية العلمية، بل إن علماء الغرب اليوم لو عرضت عليهم هذه الكلمة لأخذوا بها واعتبروها أفضل من كلمة “يدور” التي يستخدمونها خطأ، كما عبَّروا عن السماء بمصطلح “بناء” (building) التي وردت في القرآن في قوله تعالى: )والسماء بناء((غافر:٦٤)، وقد أخذوا بها لأنها تعبِّر تمامًا عن حقيقة الكون، بينما كلمة “فضاء” لا تعبر عن شيء!
ثم إن كلمة “يدور” التي نجدها في مقالاتهم غير صحيحة على الإطلاق؛ لأن الشمس والقمر والأرض والنجوم والكواكب والمجرات والغبار والغاز الكوني ـ جميعها تتحرك حركة اهتزازية مركبة أشبه ما يكون بجسم يطفو على سطح الماء وتحركه الأمواج حركة تعرجية.
فالأرض مثلاً تدور حول الشمس، ولكنها تدور مع الشمس حول مركز المجرة، وتدور مع المجرة حول مركز لتجمُّع المجرات، وتكون محصلة هذه الحركات الثلاث حركة اهتزازية تعرجية وكأنها تسبح على موجة صعودًا وهبوطًا. ومن ثم؛ نجد أن القرآن لا يستخدم كلمة “يدورون” بل كلمة “يسبحون”؛ لأنها تعبر عن طبيعة الحركة لهذه الأجسام([8]).
إننا لو تأملنا حركة السفن في البحر للاحظنا أنها تأخذ شكل الأمواج صعودًا وهبوطًا، وهذه الحركة قد لا تظهر لنا مباشرة، وإنما تظهر في خلال المسافات الطويلة التي تقطعها السفينة في البحر([9]).
حركة السفن في البحر تشكل مسارًا اهتزازيًّا صعودًا وهبوطًا مثل حركة الأجرام في الفضاء
ومن ثم؛ فليس غريبًا أن يعبر القرآن عن حركة النجوم والكواكب في الفضاء بالفعل “يسبحون”؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحدثنا عن الحقائق وهو العليم الخبير.
وشمسنا -على سبيل المثال- واحدة من مئة بليون شمس موجودة ضمن مجرة واحدة هي مجرة درب التبانة، وهذه الشمس -مثلها مثل بقية نجوم المجرة- تجري بسرعة هائلة صعودًا وهبوطًا، وتسبح في فلك رسمه الله لها، وتسبح معها الأرض والقمر والكواكب، وأفضل عبارة لوصف هذا النظام هي قوله تعالى: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس). وقد تبين للعلماء أن الشمس لا تدور دورانًا بل تجري جريانًا حقيقيًّا (حركة اهتزازية)، وهذا ما عبَّر عنه القرآن بقوله تعالى: )والشمس تجري((يس:٣٨)([10]).
وقد اعتبر المفسرون أن السباحة والجري تعبير واحد عن حركة الشمس؛ فقد جاء في تفسير القرطبي: يسبحون: يجرون([11]).
إن أدق عبارة تصف لنا حال هذا الكون وما فيه هي قوله تعالى:)وكل في فلك يسبحون (40) ((يس)
3) وجه الإعجاز:
لم يقل القرآن الكريم: وكل في فلك يدورون أو يسيرون، وإنما قال: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس)، وقد ثبت أن جميع الأجسام في الكون تسبح في فلك محدَّد. ولذلك؛ فإن الفعل “يسبحون” هو الأدق لوصف الحركة الفعلية للأجرام السماوية.
ثانيًا -الحديث المستند إليه حديث موضوع:
يقول المشكِّكون: إن الإعجاز العلمي الذي يدعي المسلمون وجوده في قرآنهم ما هو إلا خرافات وأساطير، وإلا فكيف يفسِّر محمد آية: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس) بأن كل واحد يسبح في مركبة؛ بمعنى أن الشمس تسير في مركبة وكذلك القمر والأرض وباقي الأجرام السماوية. وهم يستندون في ذلك إلى الحديث الذي أورده الإمام الطبري: “فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع من بعض تلك العيون على عجلتها ومعها ثلاث مئة وستون ملكًا ناشري أجنحتهم يجرونها في الفلك بالتسبيح والتقديس والصلاة لله على قدر ساعات الليل وساعات النهار ليلًا كان أو نهارًا، فإذا أحب الله أن يبتلي الشمس والقمر فيري العباد آية من الآيات فيستعتبهم رجوعًا عن معصيته وإقبالًا على طاعته، خرت الشمس من العجلة فتقع في غمر ذلك البحر وهو الفلك، فإذا أحب الله أن يعظم الآية ويشدِّد تخويف العباد، وقعت الشمس كلها فلا يبقى منها على العجلة شيء، فذلك حين يظلم النهار وتبدو النجوم وهو المنتهى من كسوفها، فإذا أراد أن يجعل آية دون آية وقع منها النصف أو الثلث أو الثلثان في الماء، ويبقى سائر ذلك على العجلة فهو كسوف دون كسوف، وبلاء للشمس أو للقمر، وتخويف للعباد، واستعتاب من الرب عز وجل، فأي ذلك كان صارت”([12]).
وردًّا على ذلك نقول:
لم ترد الرواية المذكورة في مراجع الحديث المعتبرة، ولم ترد حتى في تفسير الطبري، وإنما وردت في تاريخه المعروف باسم تاريخ الطبري أو تاريخ الأمم والملوك، وأوردها كذلك الأصبهاني في كتابه “العظمة”. ويروي مطلعها فزع ابن عباس رضي الله عنه عندما علم أن كعب الأحبار -وهو من مسلمي أهل الكتاب- يتحدث عن الشمس والقمر بما لا يتفق مع ما يدل عليه القرآن، فقال: “كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب -ثلاث مرات-؛ بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام.. قاتل الله هذا الحبر وقبح حبريته، ما أجرأه على الله وأعظم فريته”([13]).
وإذا كانت تلك الرواية أوردها الطبري في كتابه “تاريخ الأمم والملوك”، فإنه لم يشترط الصحة فيما يورده فيه من أخبار وآثار.
لا يتفق طول الرواية مع سمة حديث من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم في الإيجاز بلا إسهاب؛ فضلًا عما حوت من غرائب ومنكرات تكفي للتحقُّق بيقين أنها صنعة القصاصين والوضاعين، مثل: خلق الله الشمس عجلة من ضوء نور العرش لها ثلاث مئة وستون عروة، ووكَّل بالشمس وعجلتها ثلاث مئة وستين ملكًا، ووكَّل بالقمر وعجلته ثلاث مئة وستين ملكًا… وخلق الله بحرًا فجرى دون السماء، قائم في الهواء، فتجري الشمس والقمر في ذلك البحر، فذلك قوله تعالى: )وكل في فلك يسبحون (40)((يس). والفلك دوران العجلة في ذلك البحر، فإذا طلعت الشمس فإنها تطلع على عجلتها، ومعها ثلاث مئة وستون ملكًا ناشري أجنحتهم في الفلك يجرونها.. والذي ترون من خروج الشمس بعد الكسوف هو من ذلك البحر، فإذا أخرجوها احتملوها حتى يضعوها على العجلة.
ذكر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين أن هذا الحديث الطويل متلقًّى من الإسرائيليات، أو من وضع القُصّاص الذين يسردون قصصًا طويلة في مواعظهم لا يصحُّ. والحديث الموضوع مختلق مكذوب، وهو في الحقيقة ليس بحديث، ولكن العلماء سمَّوه حديثًا بالنظر إلى زعم راويه، وكثيرًا ما يكون من نسج خياله أو معتقدات الأمم أو آثار الصحابة والتابعين، ويرفعه الواضع زورًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
إذًا فما هو المصدر الرئيس لخرافة عجلة الشمس؟ إنه من خارج الجزيرة العربية؛ ففي الأساطير اليونانية القديمة ركب الضوء اللامع (Phaeton)ابن الشمس (Helios) عربة الشمس (sun-Chariot)، وكانت تجرها أربعة خيول، ومع تطور الأسطورة تؤيد الوثائق التوهُّم بأن الملائكة تقود العربة، ويحمل الشمس في كل يوم ملاك.
وتضيف الموسوعة العالمية الحرة (Wikipedia) أن أسطورة عجلة الشمس حيث تركب فيها الشمس مركبة (Chariot) ترجع إلى أصول هندية أوربية (Indo-European)، وهي مثل أسطورة زورق الشمس (Sun barge) في زمن أقدم.
كما ورد في الموسوعة العالمية الحرة أنه اكتشف مجسد في العام 1902م لعجلة الشمس في مستنقع “تروندولم” (Trundholm) بمنطقة “أودشريد” (Odsherred) غرب الدنمارك، وتبين أنه يرجع إلى العصر البرونزي؛ أي منذ نحو 4000 سنة إلى نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وهو محفوظ اليوم بالمتحف الوطني الدنماركي تحت اسم عجلة الشمس.
فهل يليق إذًا بمحقق نزيه أن ينسب أصول هذه الأسطورة إلى عصر النبوة الخاتمة في القرن السابع بعد الميلاد، متخطِّيًا ما يقارب 5000 سنة إلا أن يكون جاهلًا بالحقيقة أو متجنِّيًا بلا دليل؟!
وأخيرًا نتأمَّل إحدى روائع القرآن بترفُّعه عن الخرافة والدلالة بتلطف على حقيقة لم تعرف إلا بعده بأكثر من عشرة قرون؛ فالفكرة السائدة منذ القدم عند كبار الفلاسفة أن النجوم ثوابت، وترجع حركتها اليومية لحركة مداراتها التي ظنوها أجسامًا صلبة شفافة ألصقت عليها، وتدور بدورانها النجوم، وأن حركة الكواكب والشمس والقمر ترجع بالمثل لحركة أفلاكها الصلبة الشفافة؛ ولذا من المدهش قبل عصر الاكتشافات العلمية أن يؤكد القرآن الكريم في مواضع عدة أن الأجرام السماوية هي المتحركة بذاتها، وأن لكل منها فلكًا (orbit) خاصًّا تقطعه في مدة مقدرة؛ يقول العلي القدير: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)((يس)([14]).
(*) منتدى: اللادينيين العرب www.ladeenyon.net.
[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مرجع سابق، ج1، ص32.
[2]. السباحة في الفضاء، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[3]. لسان العرب، مادة: فلك. المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، ص385.
[4]. انظر: لسان العرب، مادة: سبح. المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، مرجع سابق، ص221.
[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج3، ص573.
[6]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2969.
[7]. صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، ج2، ص1179- 1180.
[8]. السباحة في الفضاء، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[9]. الإعجاز العلمي في القرآن، د. سمير تقي الدين، مرئيات قناة الرحمة. جريان الشمس بين القرآن والعلم، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[10]. دوران الأرض هل يخالف ظاهر القرآن، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص33.
[12]. أخرجه ابن جرير الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1407هـ، ج1، ص46- 47.
[13]. المرجع السابق نفسه.
[14]. إسرائيليات كاذبة في حقيقة الشمس والقمر، د. محمد دودح، مقال منشور بموقع: الإسلام اليوم www.islamtoday.net.
دعوى خطأ القرآن الكريم لتعارضه مع نظرية داروين في النشوء والارتقاء
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين خطأ القرآن الكريم في حديثه عن أصل خلقة الإنسان؛ إذ خلقه الله إنسانًا ونفخ فيه من روحه، في حين ـ على حسب ما يرون ـ أن الإنسان جاء متطورًا من مرحلة الحيوانية (المتمثلة في القرود) إلى رتبة الإنسان الحالي بشكله المعروف، وهذا ما أثبتته نظرية داروين التطورية التي اعتنقها كثير من العلماء والأفراد ودعوا إليها.
وجه إبطال الشبهة:
أثبت العلم الحديث ـ القائم على التجربة والبرهان ـ بطلان نظرية داروين، ولم يقل بصحتها كما زعم مثيرو الشبهة، فقد وصل لنتيجة مفادها “أنها ليست بنظرية علمية على الإطلاق”؛ لتناقضها، وعدم توافر المنهج العلمي فيها، هذا المنهج الذي يعتمد على الملاحظة العلمية وإجراء التجارب وعدم التسليم بالوقائع إلا بعد تمحيصها؛ فنجد علوم البيولوجيا الجزئية، والتكنولوجيا الحيوية، والهندسة الوراثية، وعلم تقسيم الكائنات ـ تدحض افتراءات هذه النظرية وتبطلها. ومن ثم؛ فإن ما أثبته العلم هو صحة ما جاء به القرآن، وذهبت إليه الأديان السماوية كافة من أن الإنسان خلق إنسانًا، ولم يك يومًا متطورًا عن قرد أو خنزير.
التفصيل:
كيف نشأت المادة الحية نفسها، تلك التي تنوَّعت بدورها بعد ذلك إلى أنواع الحياة المختلفة؟ سؤال راود أذهان كثير من المفكرين منذ قرون سحيقة.
ويجدر بنا للإجابة عن هذا التساؤل أن نستعرض نبذة تاريخية عن آراء المفكرين والباحثين في أصل المخلوقات الحية ونشأتها؛ فلقد “بدأ التفكير في أصل المخلوقات الحية ونشأتها ـ النباتية منها والحيوانية ـ منذ بداية قدرة العقل البشري على التفكير للاستقصاء والاستفادة مما حوله، ونجد آثارًا لهذه الأفكار ما زالت باقية في المتناثرات التي بقيت من حضارات الأمم البائدة التي استقرَّت في المناطق الزراعية حول ضفاف الأنهار، مثل: وادي النيل، والرافدين، والهند، والصين، ثم انتشرت إلى المناطق الزراعية في المناطق الأكثر برودة مع المد الحضاري الذي وصل إليها؛ فقد وجد المقيمون في هذه المناطق كثيرًا من الظواهر والمخلوقات تحت أبصارهم، فنشطوا للتفكير فيما يزيد تنظيم حياتهم من كتابة وتأريخ وتقاويم وقوانين وديانات تفكِّر: من أين جاءوا وإلى أين يذهبون؟
ونتجت أفكار كثيرة عن نشأة الكائنات ومنها الإنسان، منها أن بدْء التكوين كان كتلة لزجة بلا شكل أو صورة تحتوي على نفثة([1]) من الخالق، ثم تعرَّضت لتأثير الطبيعة فتطورت في أطوار من النشوء حتى بلغت حدَّها الأخير في الصورة البشرية، وقد آمن ـ أيضًا ـ القدماء بأن النجوم والكواكب لها تأثير على عناصر الأرض وصور الحياة، وأقدم ما وصل إلينا مما عثر عليه إلى الآن من تراث الأقدمين هو ما قاله الفيلسوف الإغريقي “أنتكسمندر” (610ق. م): “إنَّ نشأة الكائنات الحية هو نتيجة تأثير الشمس على الأرض، وتميُّز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة، وأن الأرض كانت في البداية طينية ورطبة أكثر مما هي عليه الآن، فلما وقع فعل الشمس، دارت العناصر الرطبة في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع، وتولَّدت الحيوانات الأولى، غير أنها كانت كثيفة ذات صور قبيحة غير منتظمة، وكانت مغطاة بقشرة كثيفة تمنعها من الحركة والتناسل وحفظ الذات، فكان لا بد من نشوء مخلوقات جديدة، أو بسبب ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيوانات منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد نوعها، أما الإنسان فإنه ظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يَخْل من التقلُّبات التي طرأت عليه، فخلق أول الأمر شنيع الصورة ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحاضرة”.
وهذه الفقرة تحمل معظم مبادئ أصل الحياة والنشوء والارتقاء والانتقاء والتمايز، وتأثير البيئة المحيطة”([2]).
ومن الجدير بالذكر أن هذه الفقرة كانت قد كُتبت منذ ستة قرون قبل الميلاد، الأمر الذي يدل على أن هذه الفكرة ـ فكرة التطور ـ لها جذور تاريخية، وليست مخترعة اختراعًا حديثًا.
كذلك نجد فكرة أخرى لفيلسوف آخر، وهو أرسطو الذي قال: “إن الحياة تبدأ مصادفة بمجرد وجود بعض المواد التي لا حياة فيها، وتكون هذه المواد متلازمة جنبًا إلى جنب في بيئة مبتلَّة رطبة، ومن هنا تبدأ الحياة”([3]).
إلا أن الأمر لم يتوقف عند مثل هذه الأقوال؛ بل إنه في القرن الثامن عشر نجد أن الفكر الأوربي قد بعث الأفكار اليونانية القديمة القائلة بأن الأجناس الحية الحاضرة هي ثمرة عملية طويلة من النمو.
في ذلك الوقت كانت النظرة المقبولة هي نظرة العالم السويدي “لينيوس”([4]) القائل: “إننا نقرُّ بوجود أنواع بعدد الأزواج التي خرجت من يدي الخالق، وأن الأنواع بقيت ثابتة منذ خلقها الذي جاء وصفُه في سفر التكوين، والتغير الوحيد الذي وقع هو زيادة أعدادها لا تغير أصنافها، وأنه ليس هنالك من جنس جديد”.
نظرية التطور عند “لامارك”([5]):
استكمل لامارك وضع نظريته في التطور في كتابه “فلسفة علم الحيوان” عام 1809م، وتتلخَّص نظريته في: أن البيئة تؤثِّر في شكل الحيوانات وتركيب أعضائها، وأن الاستعمال المتكرر أو المستمر لأي عضو يزيد في حجمه، في حين يؤدي عدم الاستعمال إلى ضعفه وصغر حجمه حتى يختفي، وأن الصفات المكتسبة التي تتكوَّن على هذا النحو تنتقل إلى الأجيال بالتوارث، وأن هذه الصفات تتكاثر بمرور الزمن، إلى أن تُحدث نوعًا جديدًا من الحيوانات.
النقد العلمي لنظرية لامارك:
لقد رأى العلماء أن هذه النظرية استحقَّت أن تتوارى في ظلام النسيان؛ إذ إن هذه النظرية ترتكز على انتقال الصفات المكتسبة بالتوارث، وقد أثبتت التجارب الجديدة أن الصفات التي يكتسبها الفرد في حياته لا تتوارث.كذلك؛ فإن هذه النظرية قد أصابها التشويه؛ إذ إنها لم ترتكز على مبدأ انتقال الصفات المكتسبة كما زعمت، بل استندت إلى مجموعة قوانين لم يكن قانون انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة إلا واحدًا منها، كما أنه لم يكن أهمها، وأن القوانين الأخرى يقوم كلٌّ منها بنفسه، ولا تتوقف صحته على صحة الآخر. ويبيَّن العالم الإنجليزي “جراهام كانون” أن لامارك قد وضع بجانب قانون انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة قانونَ الانتخاب الطبيعي، والصراع على البقاء قبل أن يذكر داروين عن ذلك شيئًا بنحو خمسين عامًا([6]).
ومن كل ما سبق يتضح لنا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن داروين لم يكن مخترعًا عبقريًّا، وليس خالقًا لمشكلة الاهتمام العام بالتطور؛ بل إنه كان وارثًا لما أُثير قبله من أفكار وآراء تبنَّاها وقام بصياغتها من جديد، ثم ما لبث داروين([7]) أن قام بطرح نظريته في التطور في أواسط القرن التاسع عشر في وقت كانت فيه العلوم والتكنولوجيا على مستوى متدنٍّ؛ فقد كان علماء ذلك القرن يجرون أبحاثهم في معامل بسيطة وبأجهزة بدائية جدًّا لا يمكن للعلماء أن يروا من خلالها البكتيريا، ومن المؤكد أن عدم دقة الأجهزة خلق بعض الاعتقادات الباطلة؛ فنجد داروين قد اعتمد في بناء نظريته على فكرة أن الحياة لها طبيعة بسيطة في أساسها، ولقد اعتنق علماء الأحياء فكرة داروين وناصروها وبنوا أفكارهم على هذا المنطلق، وكان من أهم مناصري داروين في ألمانيا العالم “إرنست هيكل”([8]) وهو الذي اعتقد أن الخلية الحية ما هي إلا “بالونة بسيطة مملوءة بسائل هُلامي”([9])، وهكذا صيغت نظرية معتمدة على مثل هذه التخيلات، الأمر الذي أدَّى إلى خطأ أصحابها مثل هيكل وداروين وهكسلي([10]) حينما اعتقدوا أن للحياة تكوينًا بسيطًا، خُلق بالمصادفة البحتة.
يقول داروين بمبدأ الانتخاب الطبيعي([11])، الذي يُعنى ببقاء الأصلح من الأجناس في الصراع من أجل البقاء والوجود، وبهذا يعطي داروين تفسيرًا آليًّا عن تطوُّر وتحوُّل الكائنات الحية على مدى وجودها على سطح الأرض، وقد ترك داروين في كتابه (أصل الأنواع The Origin of Species) الذي صدر في عام 1859م مسألة أصل الإنسان معلَّقة، ولكنه عاد إليها في كتابه الآخر (أصل الإنسان) الصادر عام 1871م؛ حيث امتدَّت نظريته للتطور لتشمل الإنسان أيضًا، وقد بيَّن داروين ومساعديه: توماس هنري هكسلي، وإرنست هيكل أن الإنسان يشترك مع الشامبانزي (Chimpanzee) والغوريلا (Gorilla) وإنسان الغابة (orangutan)([12]) في صفات تشريحية كثيرة؛ الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد بأن الإنسان العاقل (Homosapiens) ربما يكون قد انحدر من سلالة بدائية تشبه القردة؛ نظرًا لهذا التشابه التشريحي.
وفي عام 1899م صدر كتاب بعنوان “لغز العالم” لإرنست هيكل، الذي روَّج فيه لأفكار داروين، وقال: إن التطور الآلي يمتدُّ من الذرة إلى الإنسان. وبهذا؛ فإن الأسلاف المباشرين للإنسان في الحيوانات الثديية العليا هي القرود، وبهذا أصبح الفكر العام منذ ذلك الوقت بأن “الإنسان ينحدر من سلالة تشبه القرود”.
وبعد داروين فقد الإنسان مكانته الخاصة في عالم الأحياء، ولم يعد يبدو أن الله قد خلق الإنسان خلقًا مباشرًا؛ بل بدا أنه نتاج طبيعي للسلالة البيولوجية العامة، وقد تلقَّف الفكر الداروني ـ أو النظرية الدارونية ـ كلٌّ من الجيولوجيين والطبيعيين، وأخذوا في البحث والتنقيب في الأرض لإثبات هذا الفكر أو هذه النظرية([13])، والدفاع عنها بشتى الطرق والأساليب، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن هناك سببًا خفيًّا يكمن وراء كل هذه الاستماتة في الدفاع.
ونظرة فاحصة فيما وراء هذه النظرية نجد أن السبب الرئيسي في الاستماتة في الدفاع عن نظرية التطور طوال قرن كامل، وبإصرار وعناد ـ هو محاولة القيام بتفسير الكون والحياة دون الحاجة إلى خالق؛ لذا فإن من الأصح النظر إلى نظرية التطور على أنها جزء من الدعاية المادية، وليس بوصفها نظرية مستقلة، والحقيقة أن نظرة واحدة إلى كيفية انتشارها تكفي للبيان بأن الموضوع ليس موضوع علم؛ بل موضوع عقيدة وأيدولوجية معينة؛ ذلك لأن نظرية التطور تتبع في انتشارها طرق الدعاية وأساليبها، وليس الطرق العلمية، ومن الممكن مشاهدة جميع عناصر الدعاية عند تقديم هذه النظرية وعرضها:
تتبع نظرية التطور أسلوب انتقاء الأدلة؛ فهي تختار الأدلة التي تراها في صالحها، وتهمل الأدلة المعارضة والمناقضة لها؛ فلم نشاهد حتى الآن أيًّا من التطوريين قام بحساب الاحتمالات حول البروتينات.
وضع اللافتات والعناوين من العادات الملازمة للتطوريين، وهذه من السمات البارزة للدعاية؛ فتهمة الرجعية والتعصُّب تلصق حالًا بكل من يحاول تدقيق مدى صحة هذه النظرية.
تتبع نظرية التطور طريق الابتزاز؛ فالشخص المعرَّض لهذه الدعاية لن يجد أمامه إلا طريقين، فإما أن يكون رجل علم معاصر ورجلًا مستنيرًا، وإما أن يكون رجلًا متخلفًا عقليًّا، فإن قَبِلَ وتبنَّى النظرية فهو مستنير، وإلا فهو شخص متخلف.
ليس هناك محلٌّ للنقاش في نظرية التطور، وإنما هناك عرض وتقديم شيء معين، فبينما يوضِّح العلم للإنسان كيف يفكِّر، نرى أن نظرية التطور تقدِّم للإنسان ماذا يفكر.
ونظرية التطور مثلها في ذلك مثل الدعاية، لا تفتح مجالًا للنقاش؛ فهي تتحدث عن الحقائق العلمية، ولكن إما أنها لا ترى حاجة إيراد الأدلة عن هذه الحقائق أو لا تدخل في أي نقاش حول ماهية الأدلة التي تقدِّمها أو دلالاتها.
وضع الشعارات واستعمالها وتكرُّرها قدر الإمكان، يعدُّ من استراتيجيات نظرية التطور؛ إذ إن الشخص الذي يسمع بـ “الانتخاب الطبيعي” آلاف المرات، لا يرى ضرورة للبحث عن ماهية هذا المفهوم، وعمَّا إذا كان يمكن أن يعمل حقيقةً أم لا.
كما في الدعايات السياسية والأيدولوجية؛ فإن اختراع عدو ووضعه هدفًا، يحقِّق فوائد جمة، فيحقق صاحب الدعاية بذلك وحدة الصف لجماعته، ويوجَّه الانتقادات المصوبة إليه إلى هدف آخر.
فالعدو بالنسبة للتطوريين هو الأوساط الدينية؛ لذا فإنهم لا يملُّون من تكرار الادعاء بأن الانتقادات الموجهة للنظرية تستند إلى أسباب دينية، ولكن الحقيقة على العكس من ذلك تمامًا؛ إذ إن نظرية التطور ليست إلا حربًا حاقدة أُعلنت ضد المعتقدات الدينية.
وفي ضوء النقاط أعلاه، أليس من حقنا أن نتساءل عمَّا إذا كانت مدارسنا مراكز علم أم مراكز دعاية؟ إذ لا يستطيع أحد أن يزعم أن مؤسساتنا التعليمية التي تمنع تدريس أي شيء يخالف رأي داروين ـ مؤسسات تتمتَّع بحياد علمي؛ فالخُلُق العلمي يستوجب استعراض أدلة الآراء المختلفة في موضوع معين، وسردها وتقديمها معًا للطلاب.
أوليس من الغريب ألَّا تُستعرض الأدلة التي لا تُعدُّ ولا تحصى من أن الكائنات كلها مخلوقة من قِبَل الله سبحانه وتعالى، والتي قام بها علماء عظام، أمثال: نيوتن وإينشتاين، من الذين يشغلون مراتب أعلى بكثير من منزلة داروين في دنيا العلم، ولا تُستعرض أفكارهم بجملة واحدة، وتقديم نظرية داروين التي لا تزال منذ مئة عام تلهث وراء الأدلة دون جدوى وكأنها هي الحقيقة الوحيدة؟ وهل يتوقَّع أحد أن تُفلح مثل هذه المؤسسات التعليمية في تخريج جيل يستطيع أن يفكر وأن يبحث؟ إننا نرى استحالة ذلك كاستحالة من يروم قطع المحيطات على ظهر جمل([14]).
نظرية التطور والقصة الملفَّقة للإنسان:
إن من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش ضمن نظرية التطور هو بلا شك أصل الإنسان، وفي هذا الصدد تدَّعي الداروينية بأن الإنسان الحالي نشأ متطورًا من كائنات حية شبيهة بالقرد عاشت في الماضي السحيق، وفترة التطور بدأت قبل 4إلى 5 ملايين سنة، وتدعي النظرية وجود بعض الأشكال البينية خلال الفترة المذكورة، وحسب هذا الادعاء الخيالي هناك أربع مجموعات رئيسية ضمن عملية تطور الإنسان، وهي:
أوسترالوبيثيكوس.
هوموهابيليس.
هوموإريكتوس.
هوموسابينس.
يطلق دعاة التطور على الجد الأعلى للإنسان الحالي اسم “أوسترالوبيثيكوس” أو “قرد الجنوب”، ولكن هذه المخلوقات ليست سوى نوع منقرض من أنواع القرود المختلفة، وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها كل من الأمريكي البروفيسور “تشارلز أوكسنارد”، والبريطاني اللورد “سوللي زاخرمان” ـ وكلاهما من أشهر علماء التشريح ـ على قرد الجنوب أن هذا الكائن الحي ما هو إلا نوع منقرض من القرود ولا علاقة له مطلقًا بالإنسان.
والمرحلة التي تلي قرد الجنوب يُطلق عليها من قِبَل الداروينيين اسم “هومو” أو “الإنسان”، وفي كلفة مراحل الـ “هومو” أصبح الكائن الحي أكثر تطورًا من قرد الجنوب، ويتشبَّث الداروينيون بوضع المتحجرات الخاصة بهذه الأنواع المنقرضة كدليل على صحة نظريتهم، وتأكيدًا على وجود مثل هذا الجدول التطوري الخيالي، ونقول خيالي؛ لأنه لم يثبت إلى الآن وجود أي رابط تطوري بين هذه الأنواع المختلفة، وهذه الخيالية في التفكير اعترف بها أحد دعاة نظرية التطور في القرن العشرين وهو “إرنست ماير” (ErnestMayer)قائلًا: “إن السلسلة الممتدة إلى “هوموسابينس” منقطعة الحلقات بل مفقودة”.
وهناك سلسلة يحاول الداروينيون إثبات صحتها تتكوَّن من قرود الجنوب (أوسترالوبيثيكوس ـ هوموهابيليس ـ هوموإريكتوس ـ هوموسابينس)؛ أي إن أقدمهم يُعدُّ جَدًّا للذي يليه، ولكن الاكتشافات التي وجدها علماء المتحجرات أثبتت أن قردي الجنوب ـ هوموهابيليس وهوموإريكتوس ـ قد وجدت في أماكن مختلفة وفي الفترة نفسها، والأهم من ذلك هو وجود أنواع من “هوموإريكتوس” قد عاشت حتى فترات حديثة نسبيًّا، ووجدت جنبًا إلى جنب مع هوموسابينس نياندرتاليسيسن وهوموسابينس (الإنسان الحالي).
وهذه الاكتشافات أثبتت عدم صحة كون أحدهما جَدًّا للآخر، وأمام هذه المعضلة الفكرية التي واجهتها نظرية داروين في التطور يقول أحد دعاتها وهو “ستيفن جي كولد” (StephenJayGould) ـ الاختصاصي في علم المتحجرات في جامعة هارفارد ـ ما يأتي: “إذا كانت ثلاثة أنواع شبيهة بالإنسان قد عاشت في الحقبة الزمنية نفسها، إذًا ماذا حصل بالنسبة لشجرة أصل الإنسان؟ الواضح أنه لا أحد من بينها يُعدُّ جَدًّا للآخر، والأدهى من ذلك عند إجراء مقارنة بين بعضها بعضًا لا يتم التوصُّل من خلالها إلى أي علاقة تطورية فيما بينها”.
ومن ثم؛ فإن اختلاق قصة خيالية عن تطور الإنسان والتأكيد عليها إعلاميًّا وتعليميًّا والترويج لنوع منقرض من الكائنات الحية نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان ـ ما هو إلا عمل لا يستند إلى أي دليل علمي، وقد أجرى اللورد “سوللي زاخرمان” البريطاني أبحاثه على متحجرات قرد الجنوب لمدة خمس عشرة سنة متواصلة، علمًا أن له مركزه العلمي؛ لأنه اختصاصي في علم المتحجرات، وقد توصَّل إلى عدم وجود أيَّة سلسلة متصلة بين الكائنات الشبيهة بالقرد والإنسان، واعترف بهذه النتيجة على الرغم من كونه دارويني التفكير.
وقد قام زاخرمان بتأليف جدول خاص بالمعرفة أدرج فيه فروع المعرفة التي يعدُّها علمية، وكذلك فروع المعرفة التي يعدها خارج نطاق العلم، وحسب جدول زاخرمان تشمل الفروع العلمية التي تستند إلى أدلة مادية لعلمي الكيمياء والفيزياء، ويليهما علم الأحياء، فالعلوم الاجتماعية أخيرًا؛ أي في حافة الجدول تأتي فروع المعرفة الخارجة عن نطاق العلم، ووضع في هذا الجزء من الجدول علم تبادل الخواطر والحاسة السادسة والشعور أو التحسس النائي، وأخيرًا علم تطور الإنسان، ويضيف زاخرمان تعليقًا على هذه المادة الأخيرة في الجدول كما يلي:
“عند انتقالنا من العلوم المادية إلى الفروع التي تمتُّ بصلة إلى علم الأحياء النائي أو الاستشعار عن بعد، وحتى استنباط تاريخ الإنسان بواسطة المتحجرات ـ نجد أن كل شيء جائز وممكن خصوصًا للمرء المؤمن بنظرية التطور، حتى إنه يضطر أن يتقبَّل الفرضيات المتضادة أو المتضاربة في آن واحد”([15]).
إذًا فالقضية الملفَّقة لتطور الإنسان ليست إلا إيمانًا أعمى من قِبَل بعض الناس بالتأويلات غير المنطقية لأصل بعض المتحجرات المكتشفة.
أسس نظرية التطور:
إن نظرية التطور ترتكز في مضمونها على أسس ثلاثة، وهي: المصادفة، الانتخاب الطبيعي، الطَّفرة، وتفصيلها كالآتي:
1) إن نظرية التطور تستند بأكملها إلى أساس المصادفة، وعبثًا يحاول البعض العثور على نقاط التقاء بين هذه النظرية وبين عقائدهم الدينية؛ ذلك أن صاحب النظرية (تشارلز داروين) يرى أن الكون والحياة هما نتيجتان للصُّدف، والتطور ليس إلا سلسلة من الصدف كذلك، ويتجلَّى تناقض داروين الواضح والصريح في نظريته في رسالته التي بعثها لطالب ألماني كان قد استفسر منه عنها من قبل، فنجد داروين يردُّ عليه ويقع أثناء رده في تناقض منطقي غير خافٍ على كل ذي عقل فيقول: “نستطيع القول: إن مفصل الباب مصنوع من قِبَل الإنسان، ولكننا لا نستطيع الادِّعاء بأن المفصل المدهش الموجود في مصادفة المحار هو من صنع كائن عاقل”، وبهذا يقع داروين في تناقض فادح يندر أن يشاهد مثله في دنيا العلم؛ إذ يذكر أن مفصل أي باب بسيط هو معمول من قِبَل الإنسان، ولكن المفصل الحي الذي يصفه بأنه “مدهش” ليس إلا نتيجة للمصادفة.
2) وبينما تزعم نظرية التطور ظهور هذه الأحياء المتعددة عن طريق المصادفة، فإنها تحاول إيضاح انقسام الأحياء إلى هذه الأنواع الموجودة حاليًّا عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ إذ يرى داروين أن التغيرات التي حدثت في الأحياء هي نتيجة للصدف والظروف المختلفة، وتؤدي هذه التغيرات إلى ظهور أحياء مختلفة، ونتيجة للصراع الموجود في الحياة، فإن الأقوياء يبقون وينقلون صفاتهم إلى أنسالهم عن طريق الوراثة، بينما تضمحل وتزول الأنواع الضعيفة التي لا تثبت أمام هذا الصراع، وذلك بفعل الانتخاب الطبيعي بين الأحياء.
ونجد هنا أيضًا نقطة ضعيفة جدًّا في نظرية التطور؛ ذلك لأننا إذا نظرنا بمنظار الانتخاب الطبيعي فإن من الضروري أن يكون عدد أنواع الأحياء في الماضي أضعاف العدد الموجود حاليًّا؛ وذلك لكي يكون الناتج النهائي بعد عمليات الانتخاب الطبيعي والانقراض هذا العدد الحالي البالغ مليونين تقريبًا، علمًا بأن نظرية التطور لم تستطع تفسير ظهور العدد الحالي عن طريق المصادفة، ولو فرضنا المحال وقلنا: إن احتمال ظهور الأحياء الموجودة حاليًّا عن طريق المصادفة هي بنسبة واحد إلى كذا مليار × مليار × مليار × مليار، فماذا نقول إذن في نظرية تحاول مضاعفة هذه الاستحالة أضعافًا وأضعافًا؟!
يقول مدير معهد علوم الحياة في جامعة باريس البروفيسور EtieneRabavd: لم تعد أفكار داروين صحيحة؛ ذلك لأنه لا وجود للانتخاب الطبيعي في صراع الحياة بحيث يبقى الأقوياء ويزول الضعفاء، فمثلًا: ضَبُّ الحدائق يستطيع الركد بسرعة؛ لأنه يملك أربع أرجل طويلة، ولكن هناك في الوقت نفسه أنواع أخرى من الضب له أرجل قصيرة حتى ليكاد يزحف على الأرض وهو يجرُّ نفسه بصعوبة، أما الثعبان الأعمى ـ الذي هو نوع آخر من الزواحف، التي تملك البنية الجسدية نفسها ـ حتى بالنسبة لأرجلها، وهي كذلك تتناول الغذاء نفسه، وتعيش في البيئة نفسها، والظروف الحياتية نفسها، فلو كانت هذه الحيوانات متكيِّفة مع بيئتها لوجب عدم وجود مثل هذا الاختلاف بين أجهزتها، وبالرغم من تماثل بيئة ضب الحدائق وغذائه مع بيئة الأنواع الأخرى من الضب وغذائها، إلا أنه ـ بالمقارنة معها ـ في وضع أفضل، ويظهر لنا وكأنه يملك قابلية أكثر للعيش، أما الأنواع الأخرى فإنها لم تُمح ولم تُزل من الوجود على الرغم من الصعوبات التي تواجهها من جرَّاء ضعف بعض أعضائها؛ بل استمرت في الحياة والتكاثر، مثلها في ذلك مثل ضب الحدائق الذي هو في مركز متميز بالنسبة لها؛ أي إننا لا نجد في هذا المثال أي دليل أو إشارة للادعاء بأن الأقوياء يتكيَّفون للحياة ويبقون، وأن الضعفاء يزولون نتيجة لضعفهم وعجزهم([16]).
هكذا فنَّد البروفيسور EtieneRabaud خطأ فرضية الانتخاب الطبيعي التي ارتكن إليها داروين في بناء نظريته، وجعلها بمثابة ضلع في وتد خيمته، وإذا ما علمنا أن الخيمة لا تقام على وتد أجوف خالٍ أدركنا مدى خوار هذه النظرية وعدم صلاحيتها.
يقول محمد فتح الله كولن ـ مفكر وداعية إسلامي تركي الجنسية ـ : إن الطفرات إحدى نقاط الارتكاز المزعومة لنظرية التطور، وهي الفرضية القائلة بأن التغيرات الحاصلة في شفرات جينات الكائن الحي عن طريق المصادفات أو عن طريق ظروف البيئة تكون إحدى عوامل التغيير عند الانتقال من نوع إلى آخر.
إن الكروموزومات([17]) الموجودة في نواة الخلية ـ التي تُعدُّ بمثابة مركز القيادة فيالخلية ـ تحتوي على الجينات، وكل الخصائص والمواصفات العائدة للكائن الحي موجودة، ومسجَّلة في جينات هذه الكروموزومات على شكل جزيئات D.N.A))،وهذه الجزيئات التيتشكِّل آلية القيادة والأوامر هي بمثابة مخزن جيني للمعلومات، وقد خُلقت بحيث تستطيع استنساخ نفسها؛ لذا فهي مرآة إلهية.
فكما يقوم جهاز الكمبيوتر عند الضغط على زر من أزراره بتقديم المعلومات المبرمجة في ذاكرته من قبل وعرضها أمامنا، كذلك تقوم هذه الآلية بتطبيق البرنامجالمدمج فيها بكل كفاءة ودون أي نقص أو قصور؛ بل تقوم بتشفير هذا البرنامج على الدوام، وبواسطة هذه الشفرات تستطيع الحفاظ على خصائص نوعها وتكون حارسة لها عندإصدار الأوامر لتحريك مختلف الفعاليات؛ أي إنه ما من تأثير خارجي يستطيع تغيير هذهالشفرات ولا اجتياز الحواجز والأسوار والموانع التي وضعتها هذه الشفرات، فلا تستطيعلا الطفرات ولا أي شيء آخر تغيير خط سير ذلك النوع.
أما فيما يخصُّ موضوع الإشعاعات والمواد الكيميائية؛ فإننا نعلم أن الإشعاعات والمواد الكيميائية والظروف الأخرى للبيئة تُحدث بعض التغييرات في شفرات جينات الأحياء وفي برامجها، ولكن مثل هذه التغييراتالحاصلة في الشفرات الجينية التي يُطلق عليها اسم “الطفرات” لاتستطيع العمل على إنتاج نوع جديد من الأحياء، ولا تغيير أي كائن حي من نوع إلى نوعآخر.
ولكن على الرغم من كل هذا؛ فإن الداروينيين الجدد يزعمون بأن هذه التغيُّرات تتلاحق وتتجمع؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ظهور نوع جديد، ولكن أيكفي عمر أي فرد لحصول كل هذهالتغيُّرات عنده؟ أي: أيكفي عمر الفرد ليتحوَّل إلى نوع آخر بهذه التغيُّرات؟ من الواضحأنه لا يكفي، ولكن لنفرض أنه يكفي، فهل هذه التغيُّرات تكون مفيدة وبمقياس يكفيلتحويله إلى نوع آخر؟
والإجابة العلمية عن هذه الأسئلة دون أي انطباع تأثُّري تكون: “هذا مستحيل”؛ إذ إن هذه التغيُّرات الحاصلة في الفرد تكون منالنوع السلبي، مثل: تشوُّه الأعضاء؛ أي من النوع الذي يضرُّ بالنسل، وقد أيَّد علم الجينات هذا الأمر.
إن الأبحاث الأخيرة الجارية حول مرض السرطان تشير إلى أن التأثيرات الضارة، مثل: الإشعاعات وتلوُّث الجو تُعدُّ من الأسباب المؤدِّية إلى تخريب الخلية وتشويهها الأمر الذي يكونسببًا في حدوث مرض السرطان، ثم إنه لم تتم مشاهدة أي تغيُّرات من هذا النوع لا فيالإنسان ولا في الأحياء المجهرية من العهود السابقة التي تستطيع الأبحاث العلميةالاستناد إليها.
وقد أجرى العلماء ـ للبرهنة على صحة هذا الزعم ـ تجارب على ذبابةالفاكهة “دروسوفيلا” سنوات عديدة، وحصلوا على أكثر من 400 نوع مختلف من نسلها، وخلاصة هذه التجارب التي قام بها العلماء، والتي أُجريت على أكثر من 400 ذبابة من ذباب الفاكهة أظهرت أنه مع حصول تغيُّرات طفيفة عليها، إلا أنه من المستحيل أن يتغير نوعها أو ماهيتها؛ فقد حدثتتغيُّرات غير ذات أهمية على ذبابات الفاكهة نتيجة تأثير الشروط والظروف البيئيةعليها، مثلما يحدث على الإنسان من تغيُّرات بسيطة من ناحية اسمرار الجلد، أو ارتفاعضغط الدم، وعندما تـمَّت عمليات التناسل بين هذه الذبابات المتعرضة لهذه التغيُّرات لميتم الحصول على نسل جديد؛ أي أصبحت هذه الذبابات عقيمة، بالإضافة إلى ما ظهر عليها من تشوُّهات عديدة([18]).
إن أنصار نظرية التطور حاولوا أن يأتوا بمثال يدل على نماذج لتغيرات مفيدة عن طريق الإشعاعات؛ حيث قاموا بتعريض بعض الذبابات لإشعاعات، وبعد محاولات دامت عشرات الأعوام كانت النتيجة وجود ذبابات مريضة ومعاقة وناقصة.
النقد الموجَّه لنظرية داروين:
طلَّ علينا القرن الواحد والعشرون وقد تقدَّمت العلوم والتكنولوجيا، وخَطَت خطوات شديدة الاتساع في سبيل الكشف عن الحقائق، ومما تعرض له العلم الحديث كانت نظرية داروين، فأخذها ودرسها، وتمَّ التوصُّل لنتيجة مفادها: “تعارض نظرية داروين مع العلم الحديث”.
إن أكبر الاعتراضات الموجَّهة لتلك النظرية من الممكن أن تنحصر في ثلاثة أمور:
أولًا: عدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع كان في الأحياء الأرضية من عهد ألوف عديدة من السنين.
ثانيًا: عدم وجود الصور المتوسطة([19]) بين الأنواع اللازمة لمذهب التسلسل، كأن يوجد ـ مثلًا ـ حيوان أرقى من القرد رتبة واحدة وأدنى من الإنسان رتبة واحدة أيضًا.
ثالثًا: طول الزمان اللازم لحصول الترقِّي بين الأحياء؛ فإن عمر الأرض لا يكفي لإحداث كل ما يرى من هذه الأشكال المختلفة غاية الاختلاف([20]).
ولقد وجَّه العلم الحديث ضربته القاضية للنظرية الداروينية، وذلك من خلال مناقشته للافتراضات الثلاثة التي استندت إليها هذه النظرية؛ حيث تم مناقشتها موضوعيًّا وعلميًّا دون أية مؤثرات أو ضغوط مادية أو عصبية، وذلك كما يأتي:
الافتراض الأول: ومؤدَّاه أن الحياة قد نشأت على الأرض وتطورت مصادفة ودون خالق:
وهذا الافتراض يتعارض مع القوانين الثابتة والحقائق العلمية الآتية:
يكشف لنا العلم الحديث كل يوم أن الكون الذي نعيش فيه، يوجد به نظام بيئي متزن لدرجة متناهية في الدقة، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث مصادفة، ولعل ما اكتُشِفَ من دور الكائنات الدقيقة المتخصصة في دورات العناصر وإكساب خصوبة التربة، وكذلك التوازن بين حرارة الجو وما يحتويه من بخار وثاني أكسيد الكربون، وأخيرًا ما تأكَّد حديثًا من دور غاز الأوزون في طبقات الجو العليا في حماية كافة صور الحياة على الأرض من فتك الأشعة فوق البنفسجية ـ كلُّ ذلك لا يمكن أن يحدث مصادفة؛ بل هو دليل على القصد والتدبير في الخلق والإبداع.
إن القول بكون الخلية الحية وُجدت مصادفة وتطورت تلقائيًّا يتعارض مع قوانين الديناميكا الحرارية في الكيمياء الطبيعية التي تنص على أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، كما أنها تقطع كذلك بالاستحالة وجود الماكينة التي تدور تلقائيًّا إلى ما لا نهاية من دون بذل شغل أو طاقة.
وهذا يعني أن عدم إتمام أي تفاعل لبناء أيٍّ من الجزيئات أو الأنسجة الجديدة يقتضي وجود قوة مدبِّرة توفِّر القدر المطلوب من الطاقة كمًّا ونوعًا. وكذلك؛ فإن عليها أن توفر الظروف الـمُثْلَى لإتمام التفاعل وتحديد اتجاهه، فهذه قدرة لم يستطع أحد أن ينسبها لنفسه.
تتميز كثير من الجزيئات البيوكيميائية في الخلايا الحية بأن لها تركيبًا نوعيًّا ونشاطًا ضوئيًّا غاية في الدقة والإبهار، فهل يتسنَّى أن يحدث هذا مصادفة؟!
إن أحدث ما توصَّل إليه العلم في مجال البيولوجيا الجزئية([21]) والتكنولوجيا الحيوية([22]) والهندسة الوراثية([23]) ـ تتم فيه التجارب حاليًّا لنقل صفات وراثية من شريط الجينات من كائن عديد الخلايا إلى بعض البكتيريا، والأمل بناء جزيئات جديدة، ورغم أن علماء الهندسة الوراثية الذين يحاولون بناء الأحماض النووية بعد إلحاق أجزاء مأخوذة من جينات أخرى؛ أي إنهم يستعملون جزيئات حية تامة الصنع في عمليات إعادة البناء، ومع ذلك وبالرغم من أنهم يستخدمون لبنات بناء جاهزة وصلتهم عبر عصور وقرون التاريخ تامة الصنع، فهل يمكن أن يكابر الإنسان في أنها قد تكوَّنت مصادفة من غير صانع؟!
بتطبيق قوانين الاحتمال الإحصائي أمكن حساب احتمال تكوُّن جهاز لدغ الثعبان في الحية الرقطاء دون غيرها من الثعابين بتأثير عامل المصادفة؛ فقد وجد أن هذا الاحتمال في كل 1/10أس (23) من السنوات؛ أي إنه واحد فقط في كل مئة ألف بليون بليون مصادفة.
قام العالم تشارلز إيجين جاي ـ عالم رياضي سويسري ـ بحساب احتمال التكون بعامل المصادفة لجزيء بروتين واحد، فوجد أن هذا يمكن أن يحدث مرة كلما مرت فترة زمنية لا تقلُّ عن 24310 من السنوات، وهذا يزيد على بلايين أضعاف عمر الأرض، وهذا هو احتمال تكون جزيء واحد فقط من البروتين غير المتخصص.
الافتراض الثاني: ومؤدَّاه أن هناك سُلَّمًا للتطور:
تقول نظرية التطور: إن السُّلم قد بدأ بكائنات وحيدة الخلية، وتحت تأثير الظروف البيئية تم التطور إلى كائنات أكثر قدرة وأكثر تعقيدًا بتفوُّق الأصلح في الصراع من أجل البقاء، مع انقراض الأفراد الأقل صلاحية في التنافس والصراع، وهذا الافتراض الثاني تنقضه الحقائق الآتية:
رغم مرور ملايين السنين منذ بدأت الحياة على الأرض فما زلنا نرى كائنات دقيقة وحيدة الخلية وعديدًا من الكائنات التي لم تنقرض رغم أنها ضعيفة بسيطة التركيب، ولا أدلُّ على ذلك من أننا نكتشف فيروسات جديدة كل يوم كما نكتشف أنواع البكتيريا ذاتها في حفريات الفراعنة.
حين أعلن داروين نظرية التطور كان لا يعلم شيئًا عن قوانين مندل للوراثة، وعلم الوراثة علم راسخ الأركان، يقطع بأن الكائنات تتوارث صفاتها الوراثية عن طريق الجينات الوراثية للأبوين بغضِّ النظر عن الظروف البيئية، بينما تُصِرُّ نظرية التطور على القول بأن تطور صفات الكائنات يتم بتأثير ضغط البيئة والتنافس من أجل البقاء.
حاول علماء التطور الاستعانة بحفريات وهياكل الكائنات المدفونة لمحاولة عمل سلم التطور، ولكن رغم الجهود المضنية فما زالت هناك فراغات في السلم لا يتسنَّى ملؤها.
الاهتمام بالحفريات حمل بعض الانتهازيين على تزيف كثير من الهياكل العظمية، ومن أشهر الأمثلة ما حدث عام 1953م من الإعلان عن أن ما سُمِّي ببقايا الإنسان الأول Piltdown قد تبيَّن أنه بقايا عظام مزيفة تمامًا.
أوضح عالم الفيزيقا البيولوجية الأمريكي Morqwitzعام 1979م أن هناك تحدِّيًا رئيسًا يواجه نظرية التطور، وهو أن خلايا الكائنات الحية على وجه الأرض تنقسم إلى نوعين:
الأول يُسمَّى Prokaryotic، وهي كائنات وحيدة الخلية خالية من الأغشية والأجسام الخلوية المتخصصة، ومن أمثلتها: البكتيريا والطحالب الخضراء، والميكوبلازم، وتكون المادة الوراثية فيها متمثلة في حامض نووي منفرد DNA.
أما النوع الثاني فيُسمَّى Eukaraotic، وتتميز بأن خلاياها مُزوَّدة بأجسام متخصصة، مثل: النواة والميتوندريا والليسوسومات والكلوروبلاستيدات… إلخ، كما أن المادة الوراثية تنتظم في كروموزومات تحوي كثيرًا من الجينات، وهذه بدورها تحوي أحماضًا نووية مع البروتينات المتخصصة.
ويشمل النوع الثاني مختلف أنواع النباتات والحيوانات، وكذلك الإنسان والخلايا الفطرية ومعظم أنواع الطحالب، ولا يدخل في ذلك الفيروسات؛ لأنها تمثِّل قسمًا ثالثًا متميزًا بذاته، وموضع التحدي أنه لا توجد أيَّة صورة وسيطة بين النوعين من الخلايا؛ الأمر الذي ينفي نظرية التطور من الكائنات البسيطة إلى الكائنات عالية التخصص.
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن خلايا Prokayotes البسيطة تقوم بوظائف عالية التخصص وبالغة الأهمية في دورات العناصر على سطح الكون، وإكساب التربة خصوبتها، وتحلُّل الكثير من المخلفات العضوية…إلخ، وهذا يلفت النظر إلى أن حقيقة الحياة على الأرض هي أن كل مخلوق له وظيفة في إطار من التكامل والاتزان بالغة الدقة والحساسية.
أعلن العالم الفرنسي “موند جاك” (MonodJack) ـ عالم فرنسي برع في الهندسة الوراثية ـ في الستينيات أن حدوث الطفرات الوراثية هو أداة تحقيق سلم التطور تحت تأثير المصادفة والحاجة، إلا أن البحوث التي أجريت على الدروسوفيلا وغيرها، قد أثبتت أن الطفرة لا تنشئ نوعًا جديدًا ولكنها تعطي انتخابًا محدودًا لأفراد من النوع ذاته بصفات قد تتفاوت، ولكن في حدود الوعاء الوراثي المحدَّد للنوع ذاته (thesamegenetic).
الافتراض الثالث: إن الإنسان من نسل القرود والشمبانزي والغوريلا:
ولعل أول دليل على بطلان هذا الافتراض هو ما ثبت من عدم توافق التكاثر التناسلي بين الإنسان وأنواع القرود والشمبانزي والغوريلا، وهذا معناه ـ في ضوء علم التقسيم ـ أن الإنسان نوع منفرد وراثيًّا.
وقد حاول بعض علماء الأجنة مجاراة نظرية التطور، فزعموا أن جنين الإنسان مزوَّد بفتحات خياشيمية زائدة، وأنها تمثِّل مرحلة تطور الإنسان من الحيوانات المائية مثل الأسماك، إلا أنه في عام 1959م استطاع العالم “راندل شورت” RendleShort ـ أستاذ الجراحة الشهير بجامعة بريستول (1880م ـ 1953م)، الذي قضى حياته في دراسة تشريح جسم الإنسان ـ أن يثبت خطأ هذا التفسير، وأثبت أن ما يُسمَّى بفتحات خياشيمية ليست زائدة بل هي عبارة عن ثنيات في الأنسجة لازمة لتثبيت الأوعية الدموية في جنين الإنسان، وقد كان هذا التفنيد قاطعًا، حتى إن جوليان هكسلي في كتابه عن التطور في صورته الجديدة قد اضطر للتسليم بما أثبته عالم التشريح راندل شورت.
نشر فريق علماء الأنثروبولوجي المكوَّن من عشرة مختصين بقيادة TimWhiteـ الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلي عام 1987م ـ نتائج دراساتهم المضنية لفحص 302 من هياكل وعظام الحفريات Fossils، لما سُمِّي ببقايا إنسان ما قبل التاريخ الذي يفترض أنه عاش في جنوب شرق أفريقيا، والذي يُسمَّى HomoHabilis والذي كان يعتقد أن له صلة النسب في التطور بين الإنسان الحالي كما نعرفه وأجداده المزعومين من القرود أو الغوريلا أو الشمبانزي.
وقد أثبتت نتائج دراسة الفريق الأمريكي أن ما سُمِّي بإنسان ما قبل التاريخ يختلف تمامًا مع الإنسان الحالي؛ لأن العظام قد أثبتت أنه يتحرك على أربع، وأنه ليس بمنتصب القوام كالإنسان، كما أن طوله أقصر بشكل واضح، كما أن عظام الرأس وتجويف المخ تختلف تمامًا عن الإنسان الحقيقي، وقد اختتم فريق علماء الأنثربولوجي الأمريكي تقريرهم العلمي في عام 1987م بأن هناك فرقًا شاسعًا يعكس فراغًا واضحًا زمنيًّا وتشريحيًّا من ناحية التطور، بين ما سُمِّي بإنسان ما قبل التاريخ والإنسان الحقيقي.
وأنه من المقطوع به أن هناك تغييرًا دراميًّا ضخمًا قد حدث، نتج منه ظهور الإنسان على الأرض بحيث يصعب تصور ارتباط الإنسان الحقيقي بما يفترض أنه نشأ من نسلهم؛ حيث إن الإنسان الحالي متميز تمامًا ظاهريًّا وتشريحيًّا وسلوكيًّا وعقليًّا وقدرةً وملكات عن أي كائن آخر.
أصل شعار البقاء للأصلح: كان داروين في نظريته يعكس ـ فكريًّا ـ معتقداته الاجتماعية والفلسفية التي اعتنقها كواحد ممن عاصروا وتتلمذوا على الفيلسوف الإنجليزي هربيت سبنسر (HerbtSpencer) ـ فيلسوف بريطاني (1820 ـ 1903م)، وهو صاحب مصطلح البقاء للأصلح ـ، كما كان كلٌّ منهما يدين في فلسفته لفكر الفيلسوف الاقتصادي الإنجليزي توماس روبرت مالتوس (Malthus) ـ باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي، مشهور بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني (1766ـ 1834م)، وهو من أوائل من تناولوا مشكلة ازدحام السكان وتزايدهم ـ .
وتعبيرات الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح هي تعبيرات من وضع Spencer وذلك لتوضيح فكره في الفلسفة المادية اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وإذا كان Spencerيعتقد أن المجتمعات البشرية تتزاحم بشكل مضطرد، الأمر الذي يضطرها للتنافس من أجل المستقبل، وأن هذا التنافس في نظره من المحتَّم أن يتحوَّل إلى صراع، وأن الفوز في الصراع من أجل البقاء سيكون للإنسان الأقوى والأفضل، كما قام بتطبيق فكرة هذا التنافس الذي كان سائدًا في وقته بين الرجل الأبيض المتقدم والشعوب الملونة المختلفة، وكان من الطبيعي أن يرى أن هذا الفوز في الصراع لا بد وأن يكون للشعوب البيضاء الأوربية على الملونين المتخلفين؛ لأنهم أفضل وأقوى، وهذه هي الفلسفة نفسها التي استخدمها الاستعمار البريطاني والأوربي لتبرير احتلاله وحروبه الاستعمارية وراء البحار.
كما كانت هي نفسها الخلفية الفلسفية عن الصراع من أجل البقاء على سائر الكائنات، وأن يربط بين ما سجَّله من ملاحظات عن أوجه الشبه والخلاف بين الكائنات ونظرية البقاء للأصلح، فكانت نظريته عن أصل الأنواع والنشوء والتطور.
الخصائص الفردية المميزة لكل إنسان: أثبتت دراسات البيولوجيا الجزئية أن كل إنسان متميز عن الإنسان الآخر في صفات فردية لا تتكرر، مثل بصمات أصابع اليدين والقدمين، الحامض النووي DNA الذي أصبح أحد وسائل الأدلة الجنائية، فضلًا عن تركيب الشعر ومجموعة الدم ونوع أجسام المناعة وبصمة الصوت والرائحة، وهي كلها ثوابت لا تتكرر بين بلايين البشر، وهذا يقطع بعدم صحة افتراض أن الحياة والتطور كانا بعامل المصادفة؛ بل هي أدلة عاقلة على أن الإنسان من صنع قوة عاقلة جبارة مبدعة جعلت كل إنسان مستقلًّا ومسئولًا، وميَّزته بملكات وقدرات ؛ ليعمر الأرض ويرفع ويقيم الحضارة الإنسانية.
استُحدث أخيرًا علم جديد وهو: البيولوجيا الاجتماعية SocioBiology، ويقود هذا الاتجاه D.rEyengeSteiner منذ عام 1969م، وهو أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة بيل في أمريكا، وقد أوضح أن الإنسان ليس وليد سلم التطور، بل العلم برهن على أن الإنسان له من المميزات البيولوجية والذهنية والنفسية والروحية التي تمنحه القدرة على الكلام والتفكير، وترتيب الأسباب والاستنتاج المنطقي والمناقشة والتعارف والتعاون وتسخير غيره من الكائنات وصور البيئة لتكوين مجتمعات حضارية، كما أنه يتمتع بملكات الإبداع العلمي والأدبي والفني، وكذلك يتمتع بمشاعر وصور التعبير عنها، كما يستطيع التحكم فيها وفي سلوكه وعواطفه على أسس من النبل والأخلاق والمثل العليا، كما ينفر طبعه عن الشذوذ والسلوك غير الأخلاقي، وهذه كلها صفات مميزة للإنسان من كل الحيوانات والكائنات الأخرى، ولا أثر لها على ما يُسمَّى بسلم التطور الأمر الذي يقطع بعدم صلة النسب بين الإنسان والحيوان.
وفي عام 1977م تبنَّى علماء جامعة كاليفورنيا هذا العلم الجديد، ونشر العالم الأمريكي (EdwardWilson)الأستاذ بجامعة كاليفورنيا كتابه الجديد في هذا المجال، وقد انتهى فيه إلى أن ما نلحظه من تشابه بين الإنسان والحيوان في وحدات التركيب الخلوي والجزيئي ـ رغم التميز القاطع للإنسان ـ هو الدليل الناصع على وجود قوة عاقلة جبارة مبدعة “الله”.
هذا وقد وقف جمع غفير من أكابر العلماء في مختلف المجالات الحيوية بالمرصاد لهذه النظرية وبيان أخطائها وعدم دقتها، ومن هؤلاء العلماء: ألبرت إينشتاين (1879م ـ 1955م) وهو صاحب قوانين النسبية، وكذلك عالم الكيمياء الأمريكي (LinusPauling) وهو الأستاذ بجامعة كاليفورنيا والحائز على جائزة نوبل، وكذلك العالم الأمريكي (Maxwell) وهو الذي ذكر في كتابه “العلم يعود إلى الله” أن نظرية داروين قد استنفدت أغراضها في زمن إعلانها، فضلًا عن أنه يجب مراجعة سريان هذه النظرية لكونها لا تتلاءم مع مستحدثات العلم في القرن العشرين فضلًا عن مطلع القرن الواحد والعشرين([24]).
وهكذا وبأفواه عقول رائدة في شتى المجالات الحيوية نجد أن نظرية داروين، التي كانت إحدى معالم الفكر في القرن التاسع عشر أصبحت غير قابلة للاستمرار والصمود.
ومن ثم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وصوَّره فأحسن تصويره، وأظهره إلى الوجود بشكل مفاجئ دونما صلة قربى ولا سلاسل تطورية تربطه لا بالقردة ولا بغيرها؛ قال سبحانه وتعالى: )ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (102)( (الأنعام)، وقال: )هو الله الخالق البارئ المصور( (الحشر: ٢٤).
أما الآيتان 28، 29 من سورة الحجر، فإنهما تؤكِّدان إرادة الله في إيجاد خلق جديد في الأرض، وأنه خلقه بيديه من صلصال من حمأ مسنون، ولم تشر الآيتان إلى أن الله سيحوِّل قردًا إلى إنسان: )وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29)((الحجر).
الخلاصة:
إن نظرية التطور لا تتفق مع القرآن الكريم وبخاصة ما تحويه من أمور غيبية.
يجب أن يبقى خلق الإنسان بمعزل عن نظرية التطور؛ لأن الإنسان مُكرَّم ومُفضَّل على كل المخلوقات، واختصَّه الله بأنه صنعه بيديه، ونفخ فيه من روحه، قال سبحانه وتعالى: ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).
لا يوجد تناقض بين العلم والقرآن، وكل ما يقوله الملحدون حول ذلك غير صحيح، فالانتقادات التي يطلقها هؤلاء المشككون ويدَّعون فيها أن القرآن لا يتفق مع العلم، هي مجرد وهم لا أساس له؛ لأن نظرية التطور تعاني من نقص كبير في المعلومات، فهي لا تُخبر كيف نشأت الخلية الأولى؟ ومن الذي أنشأها؟ كذلك لا تُخبر كيف يحدث التطور من كائن إلى آخر وفق قفزات؟ ولماذا يتم ذلك؟ كما أنها لا تخبرنا متى نشأ الإنسان؟ وأين؟ ومن الذي أنشأه؟ وكيف تطوَّر عن مخلوق آخر؟
إن نظرية التطور هي مجرد نظرية بيولوجية، توفِّر أفضل تفسير يشرح التنوُّع الذي نراه حولنا في الكائنات الحية؛ فهي محاولة للتفسير وليست حقيقة علمية، وإننا نعجب من هؤلاء العلماء الذين يعتقدون بالمصادفة ويؤمنون بالطبيعة، ولا يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا العالم بما فيه؟!
إنه لا يجوز إقامة أي حكم علمي على هذه النظرية، ولا يجوز أن نعدَّها حقيقة علمية تجاوزها العقل بالقناعة والقبول، وإن في استمرار سلسلة النقد والنقض التي تلاحقها لأبلغ شاهد على ذلك؛ ففكرة التطور وما يتبعها من انتخاب للأصلح لم تتجاوز بعد مرحلة الفرضية، وكل ما قيل أو كتب فيها لا يعدو أن يكون محاولات مبتورة تثير مزيدًا من مشكلاتها أكثر مما تحلُّ شيئًا من معضلاتها.
إن الواقع الذي نشاهده يتنافى مع ما أسماه داروين بالبقاء للأصلح؛ فالأرض بما قطعته من مراحل في عمرها المديد تعجُّ بالأصلح وغيره، ولو كان هذا القانون صحيحًا لكان من أبسط مقتضياته الواضحة ـ بقاء حيوانات مثل الديناصورات حية إلى الآن، وانقراض الحشرات والكائنات الأضعف.
إذا كان التطور دائمًا يتجه نحو الأصلح، فلماذا لا نجد القوى العاقلة في كثير من الحيوانات أكثر تطورًا وارتقاء من غيرها، ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟ ولماذا لم تكتسب القرود العليا من القوى العاقلة بمقدار ما اكتسبه الإنسان مثلًا؟ فالحمار منذ أن عُرف إلى الآن ما زال حمارًا.
والتساؤل الذي يثور: أين الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان؟ لماذا لم يبقَ لها أيُّ وجود أو أثر؟ ولماذ لم تبق كما بقيت تلك القردة؟ لماذا هذا البقاء لغير الأصلح؟ أمَا كانت هي الأحق أن تبقى؛ لأنها كانت هي الأقوى والأفضل والأحسن؟!
ولماذا وقف التطور عند الشكل الإنساني؟ فقد مرَّت آلاف السنين ولم نر أيَّ تطور ما قد حدث في جسم الإنسان؟ أو حتى أيَّة بادرة تشير إلى تغيُّر أي عضو فيه.
(*) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي، تعريب: خليل أحمد الحامدي، دار القلم، الكويت، ط4، 1400هـ/ 1980م.
[1]. نفثة: نفخة.
[2]. أصل الأنواع، تأليف: تشارلس داروين، ترجمة: مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد: 628، ط1، 2004م، ص51- 52.
[3]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص10.
[4]. لينيوس: كارولوس لينيوس، عالم نبات سويدي الجنسية، وكان طبيبًا وجيولوجيًّا ومُربيًّا وعالم حيوان، ألَّف كتاب: النظام الطبيعي (systema Nature) الذي وضع فيه أساس التصنيف العلمي الحديث.
[5]. لامارك: عالم فرنسي في علم النبات والحيوان، (1744م ـ 1829م).
[6]. الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة، د. يحيى هاشم حسن فرغل، دار المعارف، القاهرة، ص22: 25 بتصرف.
[7]. داروين: تشارلز داروين، صاحب النظرية الدارونية (التطورية)، ولد في 12 فبراير 1809م، وهو باحث إنجليزي نشر في سنة 1859م كتابه “أصل الأنواع”، وقد ناقش فيه نظريته في النشوء والارتقاء، معتبرًا أصل الحياة خلية كانت في مستنقع آسن قبل ملايين السنين، وقد تطورت هذه الخلية ومرت بمراحل، منها مرحلة القرد، انتهاء بالإنسان، وهو بهذا ينسف الفكرة الدينية التي تجعل الإنسان منتسبًا إلى آدم وحواء ابتداء.
[8]. إرنست هيكل: فيلسوف وعالم أحياء ألماني، قام باكتشاف الآلاف من الكائنات الحية، (1834م ـ 1919م).
[9]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مرجع سابق، ص10.
[10]. هكسلي: توماس هنري هكسلي، عالم أحياء بريطاني لُقب بـ (Darwin,sbulldog) كلب داروين؛ لدفاعه القوي عن نظرية تشارلز داروين، (1825م ـ 1895م).
[11]. الانتخاب الطبيعي: يعني الاختيار والانتقاء وهو في النظرية التطورية يعني البقاء للأقوى والأصلح، وبهذا تحولت الحياة لصراع مستمر في غابة موحشة.
[12]. إنسان الغابة: نوع من القردة العليا الشبيهة بالإنسان يقطن في كل من بورنيو وسومطرة.
[13]. الحقيقة المطلقة، الله والدين والإنسان، د. محمد الحسيني إسماعيل، مطابع الأهرام، القاهرة، ص506- 507.
[14]. داروين ونظرية التطور، شمس الدين آق بلوت، ترجمة عن التركية: أورخان محمد علي، دار الصحوة، القاهرة، 1406هـ/ 1986م، ص100- 102.
[15]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مرجع سابق، ص107: 110 بتصرف.
[16]. داروين ونظرية التطور، شمس الدين آق بلوت، مرجع سابق، ص14: 20 بتصرف.
[17]. الكروموزومات أو الصبغيات الوراثية: عبارة عن عصيَّات صغيرة داخل نواة الخلية تحمل في داخلها تفاصيل كاملة عن خلق الإنسان.
[18]. الطفرات، محمد فتح الله كولن، مقال منشور بموقع: حراس العقيدة www.hurras.net.
[19]. الصورة المتوسطة: ومن الممكن أن نطلق عليها “الحلقات المتوسطة”، وهي كائنات منقرضة أو معاصرة تجمع بين صفات طائفتين متتاليتين لتدل على وجود صفة بينهما، وهي دليل التطور في النظرية الداروينية الحديثة.
[20]. الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص804- 805 بتصرف.
[21]. البيولوجيا الجزئية: أو علم الأحياء الجزيئي هو دراسة الأسس الجزيئية من عملية النسخ والاستنساخ والترجمة الجينية.
[22]. التكنولوجيا الحيوية (Biotechnologies): هي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحية بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوناتها في الأغراض الصناعية.
[23]. الهندسة الوراثية: هو العلم الذي يبحث في تغيير أو التحكم في الجينات الوراثية للنبات والحيوان بصفة عامة، لمنع انتقال أي عيوب أو نقائص موجودة في الجيل الأول أو الجيل الأصلي إلى الأجيال التالية، وبهذا يمكن الوصول بالسلالات المتولدة عن بعضها بعضًا إلى السلالة الفائقة أو السلالة السوبر.
[24]. نظرية داروين للنشوء والتطور تتعارض مع الكشوف العلمية الحديثة، د. عبد الخالق حامد السباعي، مقال منشور بموقع: كلمة سواءwww.kalmasawaa.com.
دعوى خطأ القرآن بشأن جريان الشمس ومستقرها
مضمون الشبهة:
من جملة ما خرج به علينا المشككون زعمهم أن ثمة خطأين علميين في قوله سبحانه وتعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: ٣٨)؛ الأول: خطأ في استعمال لفظة الجري مع الشمس؛ إذ استعمل القرآن الفعل “تجري” مع الشمس، والأدق علميًّا -من وجهة نظرهم- أن يستعمل الفعل “تدور”؛ لأن الشمس تدور حول مركز المجرة.
الثاني: مخالفة لحقيقة علمية؛ إذ قرأ ابن مسعود وابن عباس الآية السابقة هكذا: (والشمس تجري لا مستقر لها)، في حين أن العلم أثبت أن الشمس تدور باتجاه نقطة محددة، سماها العلماء “مستقر الشمس”.
ويتساءلون: إذا كان الأمر كذلك، فأين هو الإعجاز العلمي الذي يتحدث عنه المسلمون في القرآن؟!
وجها إبطال الشبهة:
1)أثبت العلم حديثًا أن للشمس حركتين في داخل المجرة: الأولى: دورانية حول مركز المجرة، والثانية: اهتزازية إلى أعلى وإلى أسفل، وحينما قام العلماء بدراسة تلك الحركة وجدوا أن الشمس لا تدور دورانًا، بل تجري جريانًا حقيقيًّا، وأن جريانها يشبه جريان الخيل في حلبة السباق. ومن ثم؛ فإن قوله سبحانه وتعالى: (والشمس تجري) يدل على السرعة الكبيرة لحركة الشمس، ويدل كذلك على أن حركتها حركة اهتزازية، وليست مستقيمة أو دائرية. ولهذا؛ فإن كلمة “تجري” هي الأدق لوصف الحركة الفعلية للشمس.
2)إذا كان العلم قد أثبت -في القرن العشرين- أن الشمس تجري باتجاه نقطة محددة سماها العلماء: مستقر الشمس (solarapex)، فإن هذا هو ما أثبته القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا في قوله سبحانه وتعالى:)والشمس تجري لمستقر لها(؛ ولذا فليس ثمة مخالفة من القرآن للعلم؛ إذ جاءت الحقيقة العلمية مطابقة للقراءة القرآنية المتواترة الصحيحة. أما قراءة ابن مسعود وابن عباس:(والشمس تجري لا مستقر لها)، فقد ورد ما يضعف نسبة سند تلك القراءة إليهما، و على فرض صحة نسبتها إليهما فهي تعني أنها لا تفتر ولا تقف إلى يوم القيامة.
التفصيل:
أولاً-الشمس لا تدور دورانًا؛ بل تجري جريانًا حقيقيًّا:
1) الحقائق العلمية:
كان وجود الشمس أكثر ما جذب انتباه الإنسان من قديم الزمان؛ إذ كان يراها تشرق صباحًا، فتملأ الأرض ضوءًا ودفئًا، وتبعث فيها كثيرًا من صور الحياة، وكان يراها تغرب في المساء، فيعم الظلام ويخيم السكون على الأرض، وتتغير صور الحياة فيها تغيـرًا كبيرًا، هنالك وقر في ذهن الإنسان القديم أن الشمس سر الحياة في هذه الأرض؛ لذلك اتخذتها أمم كثيرة معبودًا لها، وإلهًا مقدَّسًا.
النظرية المركزية الأرضية (Geocentric theory):
“كان اعتقاد العلماء قديمًا عن حركات الشمس وكواكبها، هو ما نقلوه عن النظريات الفلكية الإغريقية، ومن تلك النظريات أن القمر والكواكب كلها مغروزة في أفلاك كروية شفافة تدور بها من الشرق إلى الغرب حول الأرض؛ أي إن الأرض مركز الكون”([1]).
النظرية المركزية الشمسية (Ehelio centric):
في بداية القرن الثالث قبل الميلاد جاء “أريستاركوس”(Aristarchus)([2]) بنظرية أخرى، فقد قال بدوران الأرض حول الشمس، ولكنه اعتبر الشمس جرمًا ثابتًا في الفضاء، ورفض الناس هذه النظرية، وحكموا على مؤيديها بالزندقة، وأنزلوا بهم أشد العقاب.
وظل هذا الاعتقاد -اعتقاد مركزية الأرض للكون- معترفًا بصحته ثمانية عشر قرنًا من الزمان، منذ عصر “بطليموس” في القرن الثاني الميلادي، حتى عصر “كوبرنيكوس” (Copernicus)([3])في القرن السادس عشر؛ فقد أثبت هذا العالم أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الشمس والنجوم لا تدور حولها، واعتقد أن الشمس ثابتة وأنها مركز الكون، وأن الكواكب والنجوم تدور حولها.
جريان الشمس:
وجاء القرن العشرون الذي أثبت العلماء فيه أن الشمس ليست مركز الكون كما كان الاعتقاد سائدًا منذ القرن السادس عشر، وأن الشمس ليست ثابتة كما كانوا يعتقدون، وإنما تجري في الفضاء الكوني، فهي تتحرك تحركًا محليًّا -أي بالنسبة إلى ما حولها من نجوم المجرة- بسرعة 43 ألف ميل/ ساعة([4])، كما تدور الشمس في الوقت نفسه حول مركز المجرة بسرعة 540 ألف ميل/ ساعة([5]).
والشمس في حركتها السنوية تمر ببروج -وهي مناطق ممتدة على جانبيها- قسمها العلماء اثني عشر قسمًا، كل شهر تمر ببرج منها([6]).
إن حركة الشمس ظلت لغزًا محيرًا لآلاف السنين، فطالما نظر الناس إلى الأرض على أنها ثابتة، وأن الشمس تدور حولها، ولكن -كما ذكرنا- تبين فيما بعد خطأ هذا الاعتقاد؛ والسبب في ذلك هو أن كتلة الشمس أكبر من كتلة الأرض بأكثر من مليون مرة، ومن ثم لا يمكن للأرض أن تجذب الشمس إليها([7])، بل العكس هو الصحيح، فالشمس بسبب كتلتها الكبيرة تجذب جميع الكواكب إليها، تمامًا كما تجذب الأرض القمر الذي هو أصغر منها. انظر الشكل الآتي:
صورة توضح جاذبية الشمس للكواكب
لقد اكتشف العلماء أن الشمس تنجذب فقط باتجاه مركز مجرتنا (درب التبانة)([8])، بل تدور حوله بشكل دقيق ومحسوب؛ إذ تتراوح سرعة الشمس في دورانها حول مركز المجرة بين 200 إلى 250 كيلو مترًا في الثانية، فقالوا: إن الشمس تدور حول مركز المجرة، ثم وجدوا أن للشمس حركة أخرى صعودًا وهبوطًا -ومن هنا أصبحت حركة الشمس أكثر تعقيدًا- انظر الشكل الآتي:
الشمس نجم من بين بلايين النجوم التي تدور حول مجرتنا (درب التبانة) وتوجد الشمس على بعد 25 ألف سنة ضوئية عن مركز المجرة
ENCYCLOPEDIA ENCARTA:
The Milky way Galaxy contains about 100billion stars. All of these stars، and the gas and dust between them، are rotating about a galactic center.
The Sun is located in the outer part galaxy، at a distance of 2. 7×1017 km (1. 7×1017mi) from the center. The Sun، Which is moving around the center at a velocity of 220 Km/ s، takes 250 million years to complete one trip around the center of the galaxy. The Sun has circled the galaxy more than 18 times during its 4. 6-billion- year lifetime.
تذكر الموسوعة الأمريكية: أن مجرتنا -مجرة درب التبانة- تحتوي على نحو 100 بليون نجم، وكل هذه النجوم تدور مع الغاز والغبار الكوني الذي بينها حول مركز المجرة، وتبعد الشمس عن مركز المجرة مليارات الكيلو مترات 2,7 × 10 17 كم (1,7 × 1710 ميل)، وتجري حوله بسرعة 220 كم/ ثانية (140 ميل/ ثانية)، وتستغرق نحو 250 مليون سنة لتكمل دورة كاملة، وقد أكملت 18 دورة فقط خلال عمرها البالغ 4,6 مليارات سنة([9]).
حركة الشمس داخل المجرة:
لقد وجد العلماء أن للشمس حركتين داخل المجرة؛ الأولى: حركة دورانية حول مركز المجرة، والثانية: حركة اهتزازية إلى أعلى وإلى أسفل. ولذلك؛ فإن الشمس تبدو كأنها تصعد وتنزل، وتتقدم للأمام، وتتم الشمس -كما ذكرنا- دورة كاملة حول مركز المجرة في خلال 250 مليون سنة([10])، ويستغرق صعود الشمس وهبوطها في حدود 60 مليون سنة، وهكذا تصعد الشمس وتهبط وتتقدم مثل إنسان يجري!
إن العلماء حينما قاموا بدراسة حركة الشمس لمعرفة المسار الدقيق الذي ترسمه أثناء دورانها حول مركز المجرة، وجدوا أن الشمس لا تدور دورانًا، بل تجري جريانًا حقيقيًّا! وأن جريانها يشبه جريان الخيل في حلبة السباق!
إننا إذا نظرنا إلى حركة جريان الخيول في السباق بهدف رؤية المسار الحقيقي لجريان هذه الخيول، لوجدنا أن المنحنى الذي يرسمه الحصان في جريانه يتطابق مع ذلك المنحنى الذي ترسمه الشمس في جريانها، وهذا ما توضحه الصورة الآتية:
نرى على اليمين المسار الذي ترسمه الشمس خلال حركتها في المجرة؛ فهي تتم دورة كاملة كل 250 مليون سنة، وتتم هزة كاملة إلى أعلى وإلى أسفل في 60 مليون سنة تقريبًا، وعلى اليسار نرى المسار الذي ترسمه الخيول في أثناء جريانها، ونلاحظ أنه يشبه إلى حدٍّ كبير مسار الشمس. ولذلك؛ فإن كلمة “تجري” دقيقة جدًّا من الناحة العلمية
لقد وجد العلماء بعد دراسات طويلة أن النجوم -بما فيها الشمس- جميعها تتدفق بما يشبه النهر أو الجدول، وهم يستخدمون للتعبير عن ذلك عبارة (starstreaming)؛ أي: جريان النجوم، ويستخدمون كلمة (stream) “تجري” للتعبير عن حركة الشمس والنجوم، وهذا ما يوضحه الشكل الآتي:
نرى في هذا الرسم كيف يعبِّر علماء الغرب عن حركة الشمس والنجوم، ويرسمونها ضمن مجرى يشبه مجرى النهر، ووجدوا أن حركة الشمس في هذا المجرى تشبه حركة الأمواج صعودًا وهبوطًا؛ ولذلك يعبرون عن هذه الحركة بكلمة (stream) “تجري”
والقمر أيضًا يجري، ونحن إذا تأمَّلنا حركة القمر، لاحظنا أنه يرسم مسارًا متعرجًا يشبه مسار الشمس في دورانها حول مركز المجرة. وكذلك تدور الكواكب حول الشمس وتنجرف بحركة ثانية ضمن حركة الشمس الاهتزازية حول مركز المجرة. ومن ثم؛ فإن الشمس تجري، وكذلك القمر والأرض والكواكب والنجوم.
في هذه الصورة تتحرك الشمس مع الكواكب التابعة لها، وتجري جميعها جريانًا حقيقيًّا حول مركز المجرة
2) التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
قال سبحانه وتعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)) (يس)([11])، والطاعنون يقولون: كان يجب أن يستخدم القرآن الفعل “تدور” بدلاً من “تجري”؛ لأن الشمس تدور حول المجرة، ونحن إذا نظرنا في كلام العلماء وجدناهم يعبرون عن حركة الشمس بكلمة (stream) “تجري”، وهو الفعل نفسه الذي استخدمه القرآن، وإذًا فاستخدام القرآن للفعل “تجري” دون غيره دقيق جدًّا من الناحية العلمية.
“فالفعل (تجري) ينطبق في أعين الناس، والمفسرين الذين لم يعيشوا عصر العلم ـ على حركة الشمس الظاهرية اليومية من الشرق إلى الغرب، وهو في حرفيته يعبر عن حركة حقيقية أثبتها العلم الحديث للشمس التي اتضح أنها تنتقل في الفضاء، وتـجر معها –بالجاذبية- كواكبها التي تدور حولها. والفعل يدل ليس فقط على حركة انتقالية ذاتية للشمس، وإنما يدل أيضًا على عظم الحركة؛ لأن الجري طبعًا أدل على السرعة من السير، وقد أثبت العلم عدة حركات للشمس”([12]).
إن القرآن الكريم حينما عبَّر عن حركة الفلك في البحر، عبر بكلمة “تجري”، وهي الكلمة نفسها التي استعملها من أجل التعبير عن حركة الشمس، قال سبحانه وتعالى:)وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره((إبراهيم: ٣٢)، ولو تأملنا حركة السفن في البحر للاحظنا أنها تأخذ شكل الأمواج صعودًا وهبوطًا، وهذه الحركة قد لا تظهر لنا مباشرة، وإنما تظهر خلال المسافات الطويلة التي تقطعها السفينة في البحر.
لو تأملنا حركة السفن في البحر لوجدنا أنها تشكل مسارًا اهتزازيًّا صعودًا وهبوطًا مثل حركة الشمس في الفضاء
ومن ثم؛ فليس غريبًا أن يعبِّر القرآن عن حركة الشمس بالفعل “تجري”؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحدثنا عن الحقائق وهو العليم الخبير. إن الشمس تسبح في الفضاء مثلما تسبح السفينة في خضم البحر([13])، ولقد عبر القرآن الكريم عن حركة الشمس بالسباحة في قوله سبحانه وتعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)) (يس)([14])، وقد أعقبت هذه الآية الآية التي تصف الشمس بالجريان (والشمس تجري لمستقر لها)(يس:38)، واعتبر المفسرون أن السباحة والجري تعبير واحد عن حركة الشمس([15]).
والذي يتأمل حركات الكون يرى الشمس تتحرك من الشرق إلى الغرب، ويرى القمر يتحرك أيضًا، وكان الإنسان البدائي يظن أنه من الممكن أن يكون هنالك تصادم بينهما، ولكن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن حقيقة كونية حين قال: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار)(يس: ٤٠)، وهذا ما أثبته العلم يقينا، فقد ثبت أن المدار الذي يدور فيه القمر حول الأرض يختلف عن المدار الذي تدور فيه الشمس حول المجرة، وكلاهما يختلف عن المدار الذي تدور فيه الأرض حول الشمس، فلكل مخلوق فلكه الخاص الذي يسبح فيه؛ لذلك قال سبحانه وتعالى:(وكل في فلك يسبحون (40))(يس).
ولا ندهش عندما نعلم أن علماء الفلك يستخدمون الكلمة نفسها “يسبحون”؛ إذ يقولون: “إن رواد الفضاء عندما يخرجون خارج الغلاف الجوى -خارج الأرض- يحسون وكأنهم يسبحون في الفضاء”.
إن هذه الشمس التي كان يعتقد أنها ثابتة والكواكب تدور حولها، أكد القرآن الكريم أنها تسبح في كون واسع، لا تسبح فقط؛ بل تجري جريانًا، فتأمَّل قوله سبحانه وتعالى:(والشمس تجري لمستقر لها)(يس: ٣٨)، وقوله: )وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى((الرعد: ٢)، وقد تكرر ذكر هذا الجري في الآيات: (لقمان: 29)،(فاطر: 13)،(الزمر: 5).
3) وجه الإعجاز:
قال تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)) (يس)، الشطر الأول من هذه الآية يمثل إعجازًا علميًّا رائعًا؛ إذ:
كان الاعتقاد السائد في الماضي أن الشمس ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيرًا أنها ليست مستقرة في مكانها؛ إنما تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل، وهذا ما أشار إليه القرآن منذ أربعة عشر قرنًا قبل أن يتوصَّل إليه عقل علماء الفلك والفضاء!
لم يقل القرآن الكريم: والشمس تدور أو تسير أو تتحرك أو تمشي؛ بل قال: )والشمس تجري(، وهذا يدل على السرعة الكبيرة لحركة الشمس، وأنها حركة اهتزازية وليست مستقيمة أو دائرية. ولذلك؛ فإن الفعل “تجري” هو الأدق لوصف الحركة الفعلية للشمس.
لو تأمَّلنا قوله تعالى في الآية الآتية:)لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)( (يس)، أدركنا أن هذه الآية قد تحدثت عن حقيقة علمية، وهي أن جميع الأجسام في الكون تسبح في فلك محدَّد، وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى الأفلاك المختلفة للأجسام الكونية، مثل الشمس والقمر، فلا يمكن أن يلتقي هذا الفلك بذاك، وهذه حقيقة لم يتعرف إليها الإنسان إلا مؤخرًا، في حين أن القرآن ذكرها منذ ما يربو على أربعة عشر قرنًا.
ثانيًا -جريان الشمس نحو المستقر:
1) الحقائق العلمية:
مستقر الشمس:
لقد بدأ اهتمام علماء الفضاء بدراسة حركة الشمس بهدف إطلاق مركبات فضائية خارج المجموعة الشمسية، وعند دراسة المسار الذي يجب أن تسلكه المراكب الفضائية للخروج خارج النظام الشمسي تبين أن الأمر ليس بالسهولة التي كانت تظن من قبل؛ فالشمس تجري بحركة شديدة التعقيد لا تزال مجهولة التفاصيل حتى الآن، ولكن هنالك حركات أساسية للشمس، ومحصلة هذه الحركات أن الشمس تسير باتجاه محدَّد لتستقر فيه، ثم تكرر دورتها من جديد، وقد وجد العلماء أن أفضل تسمية لاتجاه الشمس في حركتها هي: “مستقر الشمس” أو (apexsolar)، ويعرفه الفلكيون كما يأتي:
The solar apex is the direction Toward which the sun and solar system amoving; it is about 10 0 southwest of the star vege.
“إن مستقر الشمس هو الاتجاه الذي تجري الشمس والمجموعة الشمسية نحوه بزاوية تميل 10 درجات جنوب غرب نجم النسر”.
ويحاول العلماء اليوم قياس “مستقر الشمس” بدقة، ولكن هناك عديد من الآراء والطرق تبعًا لمجموعة النجوم التي سيتم القياس بالنسبة إليها؛ لأنه عند الخروج في الفضاء لتحديد سرعة الشمس واتجاه جريانها، علينا أن نوجد نقطة نقيس بالنسبة إليها؛ لأن جميع المجرات والكواكب والأجسام والغبار الكوني والطاقة الكونية جميعها تسبح، وتدور في أفلاك ومدارات محددة.
إن علماء الفلك يقدرون بأن الشمس تسبح إلى الوقت الذي ينفد فيه وقودها فتنطفئ، وهذا هو المعنى العلمي الذي أعطاه العلماء لمستقر الشمس، هذا بالإضافة إلى ما تم اكتشافه في القرن العشرين من أن النجوم مثل سائر المخلوقات تنمو وتشيخ ثم تموت؛ فقد ذكر علماء الفلك أن الشمس عندما تستنفد طاقتها تدخل في فئة النجوم الأقزام ثم تموت، وبموتها تضمحل إمكانية الحياة على كوكب الأرض.
إن الشمس مصباح يستمد وقوده من الهيدروجين الذي يندمج بعضه مع بعض بتفاعلات اندماجية ينتج عنها الضوء والحرارة، ويقول العلماء: إنها تبث كميات هائلة من الطاقة، ولو قدر للناس أن يستفيدوا من طاقة الشمس مدة ثانية واحدة لكفتهم جميعًا مدة مئة ألف سنة لتزويدهم بالطاقة بشكل كامل([16]).
هذه صورة للشمس بالأشعة السينية، إنها تمتد لأكثر من مليون كيلو متر وتظهر وكأنها فرن نووي ملتهب، وهي الآن في منتصف شبابها
وتفقد الشمس ملايين الأطنان من كتلتها لتشع الطاقة في فضاء المجموعة الشمسية، وهو مقدار ضخم، ولكنه جزء تافه من كتلة الشمس البالغة 2 بليون بليون طن، إلى درجة أننا لا نلاحظ النقص في كتلتها من يوم لآخر، ولا حتى طول العمر؛ لأنها في خلال المليون سنة الأخيرة فقدت جزءًا من ألف جزء من كتلتها.
ومع ذلك وعلى الرغم من أن الشمس تتغير ببطء، فإنها بالتأكيد سوف تموت؛ لأنها بمضي الزمن سوف تستهلك كل مخزونها من الوقود النووي “الإيدروجين” في قلبها؛ وبهذا يقف هذا المفاعل النووي الاندماجي عن العمل، ولن يستطيع مركز الشمس أن يقاوم وزن المناطق الخارجية لها التي تضغط إلى الداخل، وعندئذٍ يبدأ قلب الشمس في التقلص([17]).
SHAPE \* MERGEFORMAT SHAPE \* MERGEFORMAT
يؤكد العلماء أن الشمس تحرق من وقودها ملايين الأطنان كل ثانية؛ ومن ثم سوف يأتي يوم تستنفد فيه وقودها وتتكوَّر على نفسها ويذهب ضوؤها
وقد لاحظ العلماء -الذين يراقبون ولادة النجوم وموتها- أن النجوم التي هي أكبر من شمسنا بمرة ونصف المرة تصل إلى مرحلة التكوير، ثم تتلاشى، وتنفجر دون أن تتوازن فلا تصل إلى حالة القزم الأبيض، بينما النجوم التي تقارب حجم شمسنا، فإنها تؤول إلى حالة مستقرة مع انخفات ضوئها.
2) التطابق بين ما أثبته العلم الحديث وما أشارت إليه الآية الكريمة:
قال تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: ٣٨)، والطاعنون يقولون: إن في شطر الآية الثاني مخالفة لحقيقة أثبتها العلم؛ إذ قرأها ابن مسعود وابن عباس: “والشمس تجري لا مستقر لها”، في حين أن العلماء أثبتوا أن الشمس تجري باتجاه نقطة محدَّدة سموها “مستقر الشمس”، ونحن نقول: ليست ثمة مخالفة البتة؛ لأن ما أثبته العلم أتى مطابقًا القراءة المتواترة الصحيحة للآية، كما أن قراءة ابن مسعود وابن عباس قد ورد ما يضعف نسبة سندها إليهما، وحتى في حالة صحة نسبتها إليهما، فهي لا تتعارض مع القراءة المتواترة كما سنوضح فيما يأتي، فأين تلك المخالفة إذا؟! ولعل فيما يأتي توضيحًا لما قدمنا:
التفسير اللغوي للآية:
(والشمس تجري لمستقر لها)(يس: 38)؛ أي إنها ستصل إلى وقت ستسكن فيه وتنطفئ، فالاستقرار -كما قال علماء اللغة- يأتي بمعنى: السكون والهدوء.
فالشمس تجري لمكان لا تجاوزه وقتًا ولا محلاًّ. وقيل: لأجل قدر لها.
ويأتي قوله عز وجل في سورة الرعد: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) (الرعد: ٢)؛ ليؤكد هذا المعنى ويعزِّزه، فكل جرم في هذا الكون يجرى إلى وقت أجله ونهايته؛ إذ إن الأجل هو المدة المحددة للشيء؛ وهي محدودة زمنًا إن أردنا ظرف الزمان؛ أو محددة بالمسافة إن أردنا ظرف المكان.
موقف المفسرين من الآية:
قال القرطبي: “والشمس تجري لمستقر لها؛ يعني: إلى مستقر لها، قيل: إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة”([18])، وقال النووي: “قال قتادة ومقاتل: معناه: تجري إلى وقت لها وأجل لا تتعداه. قال الواحدي: وعلى هذا، مستقرها: انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وهذا اختيار الزجاج”([19]).
وقال الزمخشري: قيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها، هو يوم القيامة([20]).
ومما يؤكد هذا قوله تعالى: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) (الرعد: ٢)، قيل: الأجل المسمى هو يوم القيامة، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير، قال تعالى: (إذا الشمس كورت (1) ((التكوير)([21]).
فقوله تعالى:(إذا الشمس كورت (1) ((التكوير)، قال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش)[22])، ولعل هذا ما أشار إليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: )والشمس تجري لمستقر لها((يس: 38) قال: «مستقرها تحت العرش»([23]).
وقيل: “تجري لمستقر لها”، هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، ولا يعلم موعده سواه([24]).
“إن هذا المستقر الذي ينتهي إليه جري الشمس أمر من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله العزيز العليم، الذي قدَّر أن ذلك الجري ينتهي إلى غايته في الوقت الذي استأثر سبحانه وتعالى بعلمه؛ إذ هو فيما يبدو متعلق بالأشراط الفلكية لقيام الساعة إن لم يكن هو وقت قيامها، وتنكير المستقر في قوله عز وجل: (لمستقر لها)(يس: 38)يشير إلى عظم شأنه وهول آثاره التي ستكون، وهذه النبوءة المذهلة ستتحقق من غير شك؛ لأنها قرينة المعجزة العلمية الصادرة عن فاطر الشمس سبحانه وتعالى”([25]).
توجيه قراءة ابن عباس وابن مسعود “لا مستقر لها”:
أورد الطاعن كلامًا لابن كثير رحمه الله دون أن يكمله، فقال على لسان ابن كثير: “قرأ ابن عباس وابن مسعود: (والشمس تجري لا مستقر لها)؛ أي: لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهارًا لا تفتر ولا تقف”، ووقف عند ذلك!
ولنا على ذلك تعليقان:
إذا كان ابن كثير قد اكتفى بذلك في شرحه، فالمقصود: لا مستقر لها ولا تفتر ولا تقف في الدنيا، ويؤيد ذلك قوله: “ليلاً ونهارًا”؛ لأن الليل والنهار من خصائص الدنيا، وليسا من خصائص يوم القيامة.
أما إذا نظرنا في شرح ابن كثير للآية، فسنجد أنه أضاف كلامًا -بعد الكلام الذي توقف عنده الطاعن- وضَّح مقصوده، ودحض به الفرية، وهذا نص ما قاله ابن كثير كاملاً غير مبتور: “وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: “والشمس تجري لا مستقر لها”؛ أي: لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهارًا لا تفتر ولا تقف، كما قال تعالى: ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين( (إبراهيم: ٣٣)؛ أي: لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة”([26]).
هذا على فرض صحة سند هذه الرواية التي نسبت إليهما؛ وإلا فقد ورد ما يثبت ضعفها، قال الإمام القرطبي: “قرأ ابن مسعود وابن عباس: “والشمس تجري لا مستقر لها”؛ أي: أنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار، إلى أن يكورها الله يوم القيامة. وقد احتج من خالف المصحف فقال: أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس، قال أبو بكر الأنباري: وهذا باطل مردود على من نقله؛ لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عباس، وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس “والشمس تجري لمستقر لها”، فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع، يبطلان ما روى بالسند الضعيف، مما يخالف مذهب الجماعة، وما اتفقت عليه الأمة”([27]).
(وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) (الرعد: ٢)؛ أي: لزمن محدد ولوقت محدد، ثم تستهلك هذه الشمس كل الوقود الموجود فيها، وتتكور على نفسها، وهذا يحدث يوم القيامة، قال تعالى: (إذا الشمس كورت (1))(التكوير)، وهنا ندرك دقة هذه الكلمات الرائعة.
إن هذا الكلام لم يكن معروفًا في القرن السابع الميلادي، فلم يكن هناك أحد يعترف أن هنالك نهاية للشمس؛ بل كانوا يعتقدون أن الكون وجد هكذا، وسيستمر إلى ما لا نهاية، ولكن القرآن الكريم حدد لنا وظيفة كل مخلوق ونهايته: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27))(الرحمن).
إن علماء الفلك يقولون: إن مستقر الشمس هو الاتجاه الذي تجري الشمس والمجموعة الشمسية نحوه، وهذا التعريف يتطابق تمامًا مع التعريف القرآني للكلمة؛ فالقرآن يقول: (والشمس تجري لمستقر لها) (يس: 38)، وفي ذلك سبق علمي للقرآن؛ إذ تحدث عن جريان الشمس ومستقرها.
إن الوصف القرآني للشمس في حركتها دقيق جدًّا من الناحية العلمية، فهي تجري جريانًا باتجاه نقطة محددة سماها القرآن “المستقر”، وجاء العلماء في القرن الحادي والعشرين ليطلقوا التسمية ذاتها، فهل هناك أبلغ من هذه المعجزة القرآنية؟!
3) وجه الإعجاز:
يقول الله عز وجل متحدثًا عن حقيقة علمية لم يكن لأحد علم بها وقت نزول القرآن:)والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38)((يس)؛ ففي هذه الآية العظيمة نحن أمام عبارة “مستقر الشمس”، هذه العبارة التي لم يفهمها أحد زمن نزول القرآن، ولكننا اليوم نجد العلماء يتحدثون عن حقيقة كونية جديدة، وهي ما أطلقوا عليه اسم (Solar apex)، وهو ما يعرف عندهم بـ “مستقر الشمس”.
(*) الإعجاز العلمي في القرآن، د. سمير تقي الدين، مرئيات قناة الرحمة. منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1]. تسبيح الكون، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ص89.
[2]. أريستاركوس (Aristarchus) (310-230 قبل الميلاد): عالم فلكي يوناني، وهو أول من زعم أن الأرض تدور حول الشمس، وقد استقى أفكاره عن حركة الأرض من “أرخميدس وبلوتارتش”، وعمله الموجود له هو أطروحته القصيرة عن الأحجام ومسافات الشمس والقمر.
[3]. كوبرنيكوس (Copernicus Nicolaus) (1473م- 1543م): عالم فلك بولندي، قال بأن الأرض وسائر الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها، وبذلك قلب معطيات علم الفلك القديم التي كانت تقول بأن الأرض هي مركز الكون الثابت، وتعرف نظريته هذه بـ “نظام كوبر نيكوس”، وقد شجبتها الكنيسة الكاثوليكية بوصفها مخالفة لنصوص الكتاب المقدس.
[4]. الميل = 1,6093 كم.
[5]. فهي تجرى أولًا ومعها الكواكب السيارة بسرعة 19 كيلو مترًا/ الثانية نحو نقطة في كوكبة هرقل مجاورة نجمًا يُسمَّى “فيجا” بالإنجليزية و”النسر الواقع” بالعربية، كما أنها تجري بسرعة 230 كيلو مترًا/ الثانية حول مركز المجرة.
[6]. ونحن نرصد هذه الأبراج بوصفها وسيلة لمعرفة أحوال الطقس: من حرارة وبرودة ومطر وغير ذلك؛ ذلك أن كل برج له زمن، ويمكن التعرف على أحوال الجو من خلال هذا الزمن بدقة، وقد أوجز الشاعر تلك الأبراج في قوله:
حملَ الثورُ جَوْزة السرطان
ورعى الليثُ سُنبل الميزان
عقرب القوس جَدْي دلو وحوت
ما عرفنا من أمة السُّرْيان
[7]. الشمس كرة نارية ملتهبة تسبح في كون واسع، يبلغ قطرها مليون وثلاث مئة وتسعين ألف كيلو متر، وهي ثقيلة لدرجة أنها تزن أكثر من 99,8 % من المجموعة الشمسية، ويبلغ وزنها 31,99 بليون طن. أما الجاذبية على سطحها فتبلغ 28 ضعف جاذبية الأرض، فإذا كان الإنسان يزن مئة كيلو جرام على الأرض، فإنه لو قُدِّر له أن يعيش على الشمس فسوف يبلغ وزنه 2800 كيلو جرام!
[8]. درب التبانة أو درب اللبانة (The Milky Way): هي مجرة لولبية الشكل، تحوي ما بين 200 إلى 400 بليون نجم ومن ضمنها الشمس، ويبلغ عرضها نحو 100 ألف سنة ضوئية (السنة الضوئية: وحدة لقياس المسافات في الفضاء الكوني، وهي المسافة التي يقطعها الضوء بسرعة تبلغ 300 ألف كيلو متر في الثانية)، وسمكها نحو 10 آلاف سنة ضوئية، ونحن نعيش على حافة تلك المجرة ضمن مجموعتنا الشمسية، التي تبعد نحو ثلثي المسافة عن مركز المجرة.
وتُسمَّى بمجرة درب التبانة أو طريق اللبانة؛ لأن جزءًا منها يرى في الليالي الصافية مثل طريق أبيض من اللبن يتمثل للرائي بسبب النور الأبيض الخافت الممتد في السماء نتيجة الملايين من النجوم السماوية المضيئة، التي تبدو على الرغم من أبعادها الشاسعة كأنها متراصة متجاورة، كما تُرى كامل المجرة من مجرة أخرى على شكل شريط أبيض باهت في السماء.
(The Milky way) هو ترجمة للتعبير الإغريقي (Kiklos Galaxias) الذي يعني “الدائرة اللبنية”. أما عن اسم “درب التبانة” فقد جاء من تشبيه عربي؛ حيث رأى العرب أن ما يسقط من التبن الذي كانت تحمله مواشيهم، كان يظهر أثره على الأرض كأذرع ملتوية تشبه أذرع المجرة. ويقدِّر علماء الفلك أن مجرة درب التبانة تكوَّنت قبل مدة زمنية تُقدَّر بـ 12إلى 14 بليون سنة، فيما يعد علماء الفلك المجرة بأنها صغيرة العمر نسبيًّا بالنسبة إلى مجرات أخرى.
وتوجد مجرة درب التبانة ضمن مجرة عظمى، هي المجرة الحلزونية التي تحتوى على عديد من العناقيد المجرِّيَّة، وتشكِّل مجرة درب التبانة أحد هذه العناقيد الهائلة في المجرة الحلزونية. والشكل الآتي صورة المجرة درب التبانة التي تنتمي إليها شمسنا:
[9]. انظر: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص62- 63.
[10]. تُسَمَّى هذه المدة “السنة المجريَّة” (galactic year)، وقد قدَّر علماء الفلك أن الشمس –وتوابعها- أكملت ثماني عشرة دورة حول المجرة، والمجرة بدورها تدور حول مجموعة من المجرات تُسَمَّى “كدس المجرات”، وكدس المجرات يجري نحو ما يُسمَّى “كدس المجرات العملاق”.
[11]. ورد ذكر الشمس في القرآن 35 مرة، منها 33 مرة باسمها الشمس، ومرتان بوصفها بأنها سراج، وفي إحدى هاتين المرتين زِيد في وصفها بأنها سراج وهَّاج، وتصف هذه الآيات القرآنية الشمس بأنها ضياء؛ أي مصدر للضوء، وبأنها سراج؛ أي جسم متقد مشتعل مضيء بذاته، وبأنها سراج وهاج؛ أي شديد الوهج، وأنها والقمر آيتان من آيات الله، وأن الله تعالى قد جعل لنا من انضباط حركاتهما وسيلة دقيقة لحساب الزمن، والتأريخ للأحداث، وأنهما والنجوم مسخرات بأمر الله، مسبحات بحمده، ساجدات لجلال عظمته، وأن هذا التسخير لأجَل مُسمًّى ينتهي بعد كل هذا الوجود. (من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص434- 435).
[12]. من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. عاطف المليجي، ط4، 2004م، ص77.
[13]. إن حركة الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفن في الخضم الفسيح؛ فهي -مع ضخامتها- لا تزيد على أن تكون نقطًا سابحة في ذلك الفضاء الرهيب.
[14]. في هذه الآية الكريمة يقرِّر القرآن الكريم مدى دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحَّد الدقيق؛ فلكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة، فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تُقدَّر بنحو ثلاثة وتسعين مليونًا من الأميال، والقمر يبعد عن الأرض نحو أربعين ومئتي ألف من الأميال، وهذه المسافات على بُعدها ليست شيئًا يُذكر حين تقاس ببعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا، وهو يُقدَّر بنحو أربع سنوات ضوئية، وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومئة ألف من الأميال في الثانية الواحدة!
وقد قدَّر خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب، ووضع تصميم الكون على هذا النحو؛ ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع حتى يأتي الأجل المعلوم، فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه؛ لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختلُّ أبدًا، فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان. (في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2968).
[15]. جاء في تفسير القرطبي: يسبحون: يجرون. (الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص33).
[16]. الشمس: نجم مثل بقية النجوم تعمل منذ خمسة بلايين عام باستمرار، وهي جزء أساسي من حياتنا، فهي التي تسبِّب الليل والنهار، وتسبب النمو للنباتات، وتؤمِّن الغذاء للإنسان والحيوان، وتمدُّنا بالوقود، وتسبب الفصول الأربعة، ولولاها لكانت الأرض كرة خربة متجمدة لا حياة فيها.
[17]. انظر: المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، القسم الأول، ص104.
[18]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص28.
[19]. شرح صحيح مسلم، النووي، دار إحياء التراث، بيروت، ط2، 1392هـ، ج2، ص196.
[20]. الكشاف، الزمخشري، الدار العالمية، بيروت، ج3، ص322.
[21]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، تحقيق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420هـ، عند تفسير هذه الآية.
[22]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص227.
[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (8/ 402)، رقم (4803). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يُقبل فيه الإيمان، (2/ 584، 585)، رقم (395).
[24]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج5، ص2968.
[25]. من روائع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. عاطف المليجي، مرجع سابق، ص78.
[26]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج6، ص375.
[27]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج15، ص28- 29.
دعوى عدم دقة القرآن في حديثه عن النجوم الطارقة الثاقبة
مضمون الشبهة:
من جملة ما درج عليه المغالطون نفيهم وجود إعجاز علمي في قوله تعالى:)والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)((الطارق)، قائلين: إن الصوت لا ينتشر في الفراغ فكيف علمتم أن هذه النجوم تصدر صوتًا يشبه صوت المطرقة؟ كما أن هذا القول يخالف التفسير القديم للآية وما فهمه العرب قديمًا؛ إذ قال قتادة: “إنما سُمِّي طارقًا لأنه يرى بالليل ويختفي بالنهار”.
هذا فضلاً عن أن العلماء يسمون هذه النجوم بالنجوم النابضة، فإذا جاء القرآن وسماها الطارقة الثاقبة، فإن التسمية تكون غير دقيقة.
وجها إبطال الشبهة:
1) يؤكد العلماء أن أفضل تسمية لهذه النجوم هي المطارق العملاقة؛ لأنهم وجدوا أن هذه النجوم تصدر أصواتًا تشبه تمامًا صوت المطرقة، ولا حجة لمن يقول: إن الصوت لا ينتشر في الفراغ، وإنه يحتاج إلى وسط مادي لينتشر فيه؛ لأن الترددات التي يصدرها هذا النجم هي في المجال المسموع، أي إننا عندما نحول هذه الأشعة([1])إلى ذبذبات فإن الترددات الخاصة بها ستكون مسموعة بالنسبة إلينا وستعطي صوت مطرقة. ومن ثم؛ فإن التسمية القرآنية “الطارق” دقيقة جدًّا من الناحية العلمية.
2) بعد دراسة طويلة لهذه النجوم وجد العلماء أن هذه النجوم تصدر موجات جذبية تشبه موجات الجاذبية الأرضية، ولكنها أقوى بملايين المرات. وهذه الموجات التي يصدرها هذا النجم النيوتروني يقول عنها العلماء بالحرف الواحد: “إنها تثقب وتخترق أي شيء تصادفه”، حتى إن الكرة الأرضية تخترق بالكامل من قبل هذه الموجات، كما يؤكدون أن هذه النجوم تبث إشعاعات هي الألمع من نوعها، وقد فسر المفسرون كلمة “الثاقب” بقولهم: النجم الثاقب: اللامع، وهو ما يعبر عنه العلماء بكلمة (hyperflare)، أي ضوء يبهر الأبصار. ومن ثم؛ فإن التسمية القرآنية “الثاقب” دقيقة جدًّا من الناحية العلمية.
التفصيل:
أولا-تأكيد العلماء على أن أفضل تسمية لهذه النجوم هي المطارق العملاقة:
1) الحقائق العلمية:
لآلاف السنوات درست البشرية السماء وتأمَّلت ما فيها من نجوم وكواكب وشهب، واستخدم الناس أعينهم، ثم استخدموا العدسات المكبرة لسبر أعماق الكون، ولكن رؤيتهم بقيت محدودة، حتى جاء القرن العشرون فاستخدموا أعينًا جديدة هي التلسكوبات العملاقة، ثم استخدموا التلسكوبات التي تعمل بوسائل جديدة تختلف عن الوسائل المرئية بالعين، فاستخدموا الأشعة الراديوية والأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية وأشعة جاما وغير ذلك؛ لرؤية ما لا تستطيع العين المجردة رؤيته.
وفي هذه اللحظة بدأ العلماء في اكتشاف أسرار الكون وعجائبه، فاكتشفوا المجرات وبداخل كل مجرة مئات الملايين من النجوم، واكتشفوا الدخان الكوني والغبار الكوني، واكتشفوا أيضًا أنواعًا عديدة من النجوم ومراحل تطور هذه النجوم، وتبين لهم أن النجم يولد ويكبر، ثم يشيخ ويهرم، ثم يموت وينفجر ويتهاوى على نفسه([2]).
ومنعجائب الاكتشافات الكونية ما سماه العلماء بالنجوم النيوترونية([3])، وقد كان أول من طرح فكرة النجوم النيوترونية العالمان (Zwicky Fritz)و (Walter Baade)عام 1933م، حيث وجدا بنتيجة حساباتهما أن الكون يحوي نجومًا عادية ونجومًا نيوترونية، وأن هذه النجوم تتكون من جسيمات صغيرة هي النيوترونات([4]).
وبدأ العلماء على مدى أربعين عامًا رحلة البحث عن هذه النجوم الجذابة، حتى جاء عام 1967م حيث قام كل من (Jocelyn Bell) و (Anthony Hewish) بمراقبة السماء لمدة طويلة، وأخيرًا تمكنوا من تسجيل إشارات راديوية تبين أنها صادرة عن هذه النجوم، ولكن الإثبات العلمي اليقيني على وجودها لم يأت إلا في أواخر القرن العشرين عندما استطاع العلماء تصوير هذه النجوم ودراستها دراسة معمقة، وتأكد لهم وجودها بكميات كبيرة في الكون([5]).
كيفية تكون النجوم النيوترونية:
يعتبر انفجار العماليق العظام على هيئة مستعر أعظم من النمط الثاني ـ واحدًا من أعظم الانفجارات الكونية المروعة، التي تؤدي إلى تدمير النجم، وإلى تدمير كل ما يدور في فلكه أو يقع في طريق انفجاره من أجرام سماوية في زمن قياسي؛ وذلك بتكون تيارات حمل عنيفة في داخل النجم تدفع بواسطة وابل غزير من النيوترونات (NeutrinoDriven Convection Currents)،فتقوم بتكوين دوامات متفاوتة في أحجامها وفي شدة دورانها، يؤدي تصادمها إلى مزيد من تفجير النجم، وتندفع ألسنة اللهب بعنف شديد من داخل النجم إلى خارجه على هيئة أصابع عملاقة ملتوية ومتكسرة، وتظل طاقة النيوترون تضخ في داخل النجم المتفجر لمسافة آلاف الكيلو مترات في العمق، الأمر الذي يؤدي إلى تكرار عمليات الانفجار مرات عديدة حتى تخبو، فتنطلق رياح عاتية مندفعة بتيار النيوترون من نجم ذي كثافة فائقة قد تكون في داخل حطام النجم المنفجر، ويعرف هذا النجم الوليد باسم النجم النيوتروني الابتدائي، الذي سرعان ما يتحول إلى نجم نيوتروني عادي الحجم بجاذبية قليلة نسبيًّا، ثم إلى نجم نيوتروني شديد التضاغط بجاذبية عالية جدًّا، وهو نجم ضئيل الحجم سريع الدوران حول محوره مطلقًا كمية هائلة من الأشعة الراديوية؛ ولذا يعرف باسم “النابض الراديوي”(Radio Pulsar)([6]).
صورة حقيقية لنجم نيوتروني في المجرة إم 84، وبسبب سرعة دورانه أحدث دوامة في الدخان الكوني المحيط به
وباقي نواتج الانفجار تقذف إلى صفحة السماء على هيئة موجات لافحة من الكتل الغازية الملتهبة، تعرف باسم فضلات انفجار المستعرات العظمى، وهذه الفضلات الدخانية قد تدور في مدارات حول نجوم أخرى لتتخلَّق منها أجرام تلك النجوم، أو قد تنتهي إلى المادة بين النجوم لتشارك في ميلاد نجوم جديدة.
ومن رحمة الله بنا أن مثل هذه الانفجارات النجمية المروعة والمدمرة والمعروفة باسم “المستعر الأعظم”(Supernova Explosion) قد أصبحت قليلة جدًّا بعد أن كانت نشطة في بدء الخلق كما تدل آثارها الباقية في صفحة السماء، فلا يتعدى وقوعها اليوم مرة واحدة كل عدة قرون، فحتى سنة 1987م لم يعرف الفلكيون سوى ثلاث حالات فقط مسجلة في التاريخ المدون، وقعت إحداها في سنة 1054م وخلفت وراءها نجمًا نيوترونيًّا نابضًا في “سديم السرطان”(Crab Nebula)، الذي يبعد عنا بنحو ألف فرسخ فلكي [3260 سنة ضوئية]، ويدور هذا النابض حول محوره ثلاثين مرة في كل ثانية مطلقًا إشعاعًا دوارًا من الأشعة السينية.
وسجلت الثانية في سنة 1604م في مجرتنا درب اللبانة، ولا تزال آثار الانفجار باقية على هيئة دوامات شديدة من الموجات الصدمية (shock waves) التي يمكن رصدها. ووقعت الثالثة 1987م في سحب ماجلان الكبيرة (The Larg Magellanic clouds)وهي إحدى المجرات المجاورة لمجرتنا.
والانفجار الواحد من هذه الانفجارات العظمى تفوق شدته الطاقة المنطلقة من جميع النجوم في مجرة كاملة، ويكون الضوء المصاحب له أشد لمعانًا من ضوء المجرة بالكامل، ويتبقى عنه نفثات كونية من أشعة جاما (Cosmological Gamma Ray bursts)، ويطلق عليها اسم “المرددات الناعمة لأشعة جاما” (Soft Gamma Ray Repeaters or SGRS)، التي تصدر انبثاقات هائلة من الأشعة السينية لتختفي ثم تظهر من جديد بعد عدة شهور -أو عدة سنوات حسب بعدها عنا- والنفثة الواحدة التي ينفثها واحد من تلك المرددات في ثانية واحدة تساوي كل ما تنفثه الشمس من الأشعة السينية في سنة كاملة من سنين الأرض.
وفي سنة 1992م تمكن الفلكيون من إثبات أن مرددات الأشعة السينية تلك ما هي إلا نجوم نيوترونية شديدة المغنطة (Super Magnetized Neutron Stars) أطلقوا عليها اسم “الممغنطات” (The Magnetars)،وأثبتوا لها حقلاً مغناطيسيًّا فائق الشدة، تفوق شدته شدة جاذبية الحقل المغناطيسي للأرض بأكثر من ألف وخمس مئة مليون مليون مرة، وأيضًا للشمس بنحو الألف مليون مليون مرة، وهذه الممغنطات هي نجوم نيوترونية (Pulsting Neutron Starsor Pulsars)تدور حول محورها بسرعات فائقة مطلقة الأشعة السينية بكميات غزيرة([7])
صورة بالأشعة السينية لنجم نابض يبعد عنا 800 سنة ضوئية
مطارق عملاقة:
عندما قام العلماء بتسجيل الإشارات الراديوية القادمة من الفضاء البعيد، ظنوا في البداية أنها رسالة من كائنات مجهولة، ولكن تبين أن هذه الإشارات ما هي إلا أصوات لدقات منتظمة جدًّا، فقد سمعوا وكأن أحدًا يطرق عدة طرقات كل ثانية، وتخيلوا أن هذا النجم ينبض مثل قلب الإنسان، فأسموا هذه النجوم بـ “النوابض” (Pulsars) ولكن تبين فيما بعد أنها تصدر أصواتًا أشبه بالطرق، فأسموها “المطارق العملاقة” (gigantichammer) التي تدق مثل الجرس([8]).
إن هذه النجوم تدور حول نفسها بشكل هائل؛ إذ إنها تدور مئات الدورات في الثانية الواحدة؛ الأمر الذي يولد حولها مجالاً كهرطيسيًّا قويًّا جدًّا([9])، وهذا المجال يولد صوتًا يشبه صوت المطرقة. لذلك؛ فإن العلماء وجدوا أن أفضل تسمية لهذه النجوم هي المطارق العملاقة، وأخذوا يطلقون عليها في أبحاثهم هذا الاسم.
تعتبر النجوم النابضة من أسرع النجوم دورانًا في الكون، وتنتج موجات جذبية هائلة تخترق الزمان والمكان؛ إذ يمكن أن يدور هذا النجم بسرعة تتجاوز 600 دورة في الثانية الواحدة؛ أي 36 ألف دورة في الدقيقة
ولكن كيف يمكن أن يكون الصوت حقيقيًّا ونحن نعلم أن الصوت لا ينتشر في الفراغ؟ فهذه النجوم بعيدة عنا جدًّا، وتفصلنا عنها سنوات ضوئية، فكيف يصلنا هذا الصوت مع العلم أن الصوت يحتاج إلى وسط لكي ينتشر فيه؟
والجواب: إن هذه النجوم تصدر أصواتًا حقيقية، تنتشر في مجال معين حولها، وتختفي هذه الأصوات ويبقى منها الأثر الراديوي لها؛ أي تبقى فقط الموجات الراديوية، وما فعله العلماء أنهم جاءوا بهذه التسجيلات وقاموا بردها إلى شكلها الأصلي تمامًا مثل موجات الراديو، فالراديو يستقبل موجات ولا يستقبل أصواتًا؛ لأن الصوت لا ينتشر في آلاف الكيلو مترات، ولكن يتم تحويل هذا الصوت إلى موجات راديوية يستقبلها هذا الجهاز، ثم يعيد بناءها ويحولها إلى شكلها الأصلي، فنسمعها أصواتًا، والعملية نفسها تحدث مع النجم الطارق.
ولكي نؤكد صدق هذه الأبحاث؛ فإن العلماء سجلوا هذه الأصوات وعرضوها من مواقعهم العلمية، وهي أصوات حقيقية سجلتها الأجهزة، ومع أن الصوت لا ينتشر في الفراغ إلا أن الأجهزة تستطيع تسجيله بتقنيات خاصة، بعد تحليل الأشعة الراديوية الصادرة عن النجم([10]).
مطرقة من حديد:
يقول العلماء في تعريف هذه النجوم:
Their surface is solid crystalline iron, and would ring like a bell were it to be hit with and hammer.
وهذا يعني أن سطحها من الحديد البلوري الصلب، وهي تدق مثل الجرس عندما يضرب بمطرقة.
ومن العجيب أن العلماء وجدوا أن هذه النجوم تتكون من طبقات، وأن قلب هذه النجوم يتألف من الحديد، وفي أثناء تشكل هذه النجوم يحدث طرق لهذه الطبقات بالنواة الحديدية تمامًا كالمطرقة، وجاء في دراسة حول طريقة تشكل النجوم وما يحدث في داخل النجوم النيوترونية:
In the star, the outer layers of the core are like the hammer, and the core is the rubber ball.
وهذا يعني أن الطبقات الخارجية في النجم تعمل مثل المطرقة، ونواة هذا النجم مثل الكرة المطاطية.
رسم يمثل النجم النيوتروني، موضحًا عليه أبعاده وكتلته، ويقول العلماء: إن سطح هذا النجم أملس جدًّا ويتكون من الحديد. ولذلك؛ فإن تشبيهه بالمطرقة دقيق من الناحية العلمية
إذا فالعلماء جميعهم يؤكدون أن هنالك طرقًا داخليًّا يحدث في داخل النجم، وطرقًا خارجيًّا نتيجة دوران النجم؛ حيث يصدر طرقات منتظمة تصل إلى الأرض على شكل أمواج راديوية، وهذا يعني أن العلماء يرون في هذه الأجسام عمليات طرق مستمرة تشبه طرقات المطرقة على الجرس.
ويستخدم العلماء في كشف أعماق هذه النجوم تسجيل الانفجارات التي تولدها، ثم يقومون بتحليل هذا التسجيل ومعرفة التركيب الداخلي للنجم، تمامًا كما يستخدم علماء الأرض مقاييس الزلازل وتسجيل الاهتزازات الأرضية لمعرفة تركيب الأرض وبنيتها الداخلية وطبقاتها.
يقول البروفيسور (Richard Rothschild) من جامعة كاليفورنيا -الذي درس هذه الأجسام مدة طويلة- عن أحد الانفجارات النجمية الذي خلف وراءه نجمًا ثاقبًا:
This explosion was akin to hitting the neutron star with a gigantic hammer, causing it to ring like a bell.
وهذا يعني أن الانفجار كان أشبه بضرب النجم النيوتروني بمطرقة كونية؛ الأمر الذي جعل هذا النجم يرنُّ مثل الجرس([11]).
هكذا ينفجر النجم ويتهاوى على نفسه، ويبدأ في مركزه تشكل النجم النيوتروني النابض، الذي يبدأ بإطلاق نبضات أشبه بصوت المطرقة
2) التطابق بين ما أثبته العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:
يستهل ربنا عز وجل سورة الطارق بقسم عظيم يقسم به عز وجل، وهو الغني عن القسم ـ بكل من السماء والطارق، ثم يثني باستفهام تفخيمي عن ماهية الطارق، ويحدده بالنجم الثاقب، فيقول عز وجل مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)((الطارق).
المدلول اللغوي للفظة الطارق:
الطارق: اسم فاعل من الطرق؛ بمعنى: الضرب بشدة، وأصل الطرق: الدقُّ، ومنه سميت “المطرقة” التي يطرق بها.
أقوال المفسرين:
يقسم ربناعز وجل بالسماء والطارق، ومن يستمع إلى هذا القسم لن يعرف لأول وهلة ما المقصود بالطارق؟ ولذلك عرفنا العلي القدير أنه نجم ثاقب؛ ولقد درج المفسرون -وسيأتي تفصيل أقوالهم لاحقًا- على تفسير أشعة النجم بأنها ثاقبة نافذة، أما صفة الطرق فقلَّما تعرض لها أحد.
ومن الناحية العلمية فقد تمكن الفلكيون في أوائل السبعينيات من رصد عدة نجوم ـ وذلك بواسطة جهاز يسمَّى بـ “التلسكوب اللاسلكي أو المذياعي” (RadioTelescope)، وهو جهاز يلتقط الإشارات اللاسلكية من أعماق السماء ومن مسافات تقدر بملايين السنين ـ تشترك كلها في خاصية إرسال إشارات لاسلكية منتظمة وعلى درجة كبيرة من الدقة، فالإشارات تصل على صورة متقطعة: (بيب.. بيب.. بيب)، وتستمر كل إشارة منها كسورًا من الثانية وتتكرر كل ثانية أو أكثر([12]).
ومن ثم؛ فالنجم الطارق يصدر نبضات وطرقات منتظمة؛ ولذلك يقول العلماء عن هذه النجوم بالحرف الواحد: “تعتبر هذه النجوم من أفضل الساعات التي عرفها الإنسان، ولذلك يمكن أن نسميها بالساعات الكونية العملاقة”.
إن المشكِّكين يقولون: إن الصوت لا ينتشر في الفراغ، فكيف علمتم أن هذه النجوم تصدر صوتًا يشبه صوت المطرقة؟ ونقول: كلامكم صحيح! فالصوت لا ينتشر في الفراغ؛ ولذلك فنحن لا نسمع صوت هذه النجوم، وهذا من رحمة الله علينا؛ لأن صوتها لو وصلنا إلينا لصمَّ آذاننا على الفور! ولكن العلماء بعدما حللوا الأمواج الراديوية ودرسوا آلية عمل هذه النجوم وجدوا أنها تصدر هذه الأصوات، وهذا ما يقوله علماء وكالة ناسا؛ ففي بحث نشرته وكالة ناسا يقول فيه البروفيسور (Tod strohmayer) -في أثناء حديثه عن اكتشاف في عالم النجوم النيوترونية- بالحرف الواحد:
We think the explosion; the biggest of its kind ever observed, really jolted the star and literally started it ringing like abell.
وهذا يعني أن الانفجار الذي رصده العلماء والذي تشكل نتيجته هذا النجم هو أعنف انفجار رآه العلماء حتى الآن؛ فقد أحدث هزة عنيفة للنجم وجعله يدق مثل الجرس!
إن الترددات التي يصدرها هذا النجم هي في المجال المسموع؛ أي إننا عندما نحول هذه الأشعة إلى ذبذبات فإن الترددات الخاصة بها ستكون مسموعة بالنسبة إلينا، وستعطي صوت مطرقة؛ ولذلك يؤكد العلماء أن الصوت الذي تصدره هذه النجوم يشبه -إلى حد كبير- الصوت الذي نسمعه، ويقولون بالحرف الواحد:
The frequencies of the pulsars are similar to the frequencies of sound waves that can be heard by the human ear.
وهذا يعني أن الترددات التي يطلقها النجم النابض شبيهة بالترددات الصوتية التي يسمعها الإنسان بأذنه.
وهنا نلاحظ مزيدًا من الإعجاز؛ لأن القرآن حدثنا عن صوت لا يمكن لأحد أن يسمعه بشكل مباشر، هذا الصوت لا ينتشر في الفضاء، ولا نحس به، وسؤالنا لكل من يدعي أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم: من أين جاء هذا النبي -وهو الأمي- بهذه المعلومة؟ و كيف صاغها بهذا الشكل العلمي الدقيق الذي يتطابق مع أحدث المكتشفات الكونية؟ ولو لم يكن رسولا من عند الله عز وجل فمن أين له بهذه الحقائق العلمية؟!
ومن ثم؛ فإن الله عز وجل سمَّى هذا النجم “الطارق”، وقد كان العلماء يسمونها النجوم النابضة، وهذه التسمية غير دقيقة؛ فقد ظن العلماء في بداية الأمر أن هذه النجوم تشبه نبضات القلب، ولكن تبين لهم بعد ذلك أن التسمية الأدق هي تسمية مطرقة أو مطارق، فأسموها المطارق العملاقة. وبالفعل؛ فإن الصوت الذي تصدره هذه النجوم يشبه تمامًا صوت المطرقة.
ومن ناحية أخرى يقول الطاعن: إنكم تخالفون التفسير القديم للآية؛ ونحن نقول: إن القرآن الكريم هو معجزة الله الخالدة لهداية البشر كافة في كل زمان ومكان، فهو معين متجدد، ولا يجوز أبدًا قصر فهمه على عصر من العصور أو على قوم دون قوم، فالإعجاز العلمي فهم جديد لمعاني الآيات يتفق مع المعطيات العلمية الحديثة لإثبات أن القرآن لا يناقض العلم.
إننا لو اعتمدنا التفسير القديم لجاء الطاعنون أنفسهم وقالوا: إن القرآن يحوي أخطاء علمية؛ لأن هذه النجوم لا تختفي، وليس كما يقول المفسرون: إنها ترى بالليل وتختفي بالنهار، وبالفعل إنها تختفي بالنسبة إلينا، بسبب أشعة الشمس في النهار، ولكن الذي يخرج خارج الأرض يرى هذه النجوم باقية ليلاً ونهارًا، والمفسرون لم تكن لديهم هذه الحقائق العلمية، ولو كانت لديهم لاستخدموها في تفسير الآيات([13]).
فلا مشكلة إذا أخطأ مفسر في تفسير آية؛ لأن القرآن هو الحقيقة المطلقة التي لا تتغير، أما التفسير فإنه يمثل فهم البشر للآية، وبما أن الناس يختلفون في مستوى فهمهم وبما أن العلم يتطور، فلا بد أن يكون هناك تطور في التفسير، وهذا لا يسيء إلى القرآن، بل يؤكد أن هذا القرآن مناسب لكل عصر من العصور؛ لأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض يمكن تفسيره بشكل منطقي وبما يتفق مع العلم مهما تطور إلا القرآن الكريم.
وفي هذا رد على من ينكر الإعجاز العلمي بحجة حرصه على القرآن؛ فالأخطاء التي تصدر من البشر تبقى للبشر، ويبقى القرآن منزَّهًا عن الخطأ، والمؤمن إذا اجتهد فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران، وهذا يثبت أنه لا تناقض في القرآن ولا اختلاف، بل هو تعدُّد في التفاسير، وتعدد في فهم النص القرآني؛ لأن القرآن نزل للبشر كافة([14]).
ثانيا -النجوم الطارقة تثقب وتخترق أي شيء تصادفه:
1) الحقائق العلمية:
النجوم النيوترونية تزداد كتلتها على كتلة الشمس بما يقارب 1,4، وعندما يبدأ النجم بالانهيار على نفسه ينكمش بسرعة ويزداد الضغط على ذرات مواده، فتتحطم الذرات ويتكون المائع الإلكتروني ويزداد سمكه فيبقى عاجزًا عن تحمل الضغط الناتج عن ثقل النجم وجاذبيته، وتكون النتيجة أن تسحق جاذبية النجم (المائع الإلكتروني) كما سحقت من قبل قشرة الذرة، ويستمر انهيار العملاق الأحمر على نفسه، فتلتصق الإلكترونات بالبروتونات ثم تتحد معها مكونة نيوترونات جديدة، وتبدأ طبقات النجم وهي تنهار في التطلع إلى منقذ ينقذها من براثن هذا الوحش المسمى بقوة ثقل النجم، الذي يسحق كل ما يجده أمامه، وفي النهاية تتحد الإلكترونات بالبروتونات فيصبح النجم عبارة عن نيوترونات منضغطة على بعضها دون وجود أي فراغ؛ فتصل كثافة النجم إلى رقم قياسي يصعب تصوره ويتقلص العملاق الأحمر إلى ما يسمى بـ “النجم النيوتروني”(Neutron Stars)،فكُرَةٌ من المادة النيوترونية في حجم كرة القدم يبلغ وزنها خمسين ألف بليون من الأطنان، فإذا وضعت هذه الكرة على الأرض أو على أي جرم سماوي آخر فلن يتحمل سطحه هذا الوزن الهائل، فتسقط الكرة خلال الأرض أو خلال الجرم السماوي تاركة وراءها ثقبًا يتناسب مع حجمه.
إن كثافة النجم الثاقب النيوتروني أعلى كثافة معروفة للمادة، ووزنه يزيد على وزن الكرة الأرضية على الرغم من صغر حجمه، ولنا أن نتصور ماذا يحدث للأرض أو أي جرم سماوي آخر إذا وضع هذا النجم عليه أو اصطدم به، فلن تصمد أمامه أي الأجرام كانت، ولا حتى الشمس، والسبب أنه ذو كثافة مهولة([15]).
يقول علماءوكالة ناسا: إن هذه النجوم ثقيلة جدًّا، حتى إننا لو أخذنا كمية بحجم مكعب سكر سوف يزن 100 مليون طن؛ أي وزن جبل، كذلك فإن جاذبية هذه النجوم – وبسبب كتلتها الهائلة- أكبر 200 بليون مرة من جاذبية الأرض!
من ناحية أخرى يؤكد العلماء أن هذه النجوم تبث أشعة عظيمة ولامعة([16])، ففي عام 1979م سجل العلماء الشعاع الأكثر لمعانًا في السماء، وقد كان ناتجًا عن نجم نيوتروني ثاقب، فقد بث هذا النجم كمية هائلة من أشعة جاما (gamma rays)وهي أقوى أنواع الأشعة الثاقبة، لقد بث في خلال 0,2 ثانية كمية من الإشعاعات الثاقبة تعادل ما تبثه الشمس في ألف سنة! ويقول العلماء الذين رأوا هذا الشعاع إنهم لم يشاهدوا شعاعًا بهذه القوة واللمعان من قبل.
صورة تخيلية لنجم نيوتروني يصدر إشعاعا ثاقبا
لقد رصد العلماء في أمريكا وأوربا الموجات الجذبية الصادرة عن النجوم الثاقبة، وقالوا: إذا كان الضوء يمكن أن يصطدم بالحواجز المادية فلا يستطيع اختراقها، فإن الموجات الجذبية الهائلة التي يصدرها النجم الثاقب تخترق أي شيء، حتى أجسامنا فإنها تخترق في كل لحظة بهذه الأمواج ولا نحس بها.
وهنالك جسيمات دقيقة جدًّا تطلقها هذه النجوم بكميات كبيرة في أثناء تشكلها بعد انفجار النجم الأصلي، وتدعى “نيوترينو”، ويعرف العلماء هذه الجسيمات:
Neutrinos are electrically neutral, virtually mass less elementary particles that can pass through miles of lead unhindered, Some are passing through your body as you read this.
وهذا يعني أن النيوترينوات هي جسيمات عديمة الشحنة وليس لها كتلة، هذه الأجسام الأولية تخترق الرصاص مسافة أميال عديدة دون أن يعرقلها شيء.
وهذه الجسيمات فائقة الصغر تتعرض لها الأرض ومن عليها في كل لحظة، وهي تبث من المطارق الكونية في أثناء تشكُّلها، وتثقب الغلاف الجوي للأرض، وتثقب البحار والجبال، حتى إن العلماء وجدوا آثارًا لهذه الجسيمات في أعماق البحار وفي أخفض نقطة وصلوا إليها تحت سطح الأرض، ويخبرنا العلماء أن النيوترينوات تستطيع ثقب واختراق طبقة من الرصاص يبلغ سمكها عدة كيلو مترات، حيث تعجز جميع الأجسام الأخرى عن اختراق أكثر من أمتار محددة من الرصاص. ولذلك؛ فإن أفضل تسمية لهذا النجم علميًّا هو (النجم الثاقب)([17]).
أشعة ثاقبة تخترق الأرض باستمرار
2) التطابق بين ما أثبته العلم وما أشارت إليه الآية الكريمة:
من عظمة كتاب الله عز وجل أنه أشار إلى كثير من الحقائق الكونية المبهرة، وعندما يقسم الله بمخلوق، فإنما يدل على عظمة هذا المخلوق، والله يقسم بما يشاء من خلقه؛ فقد أقسم الله عز وجل بنجوم عظيمة فقال: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)( (الطارق).
وقد احتار المفسرون في تفسير الآيات الكريمات، ولكنهم أجمعوا على أن الله أقسم بنجوم شديدة اللمعان والإضاءة([18])، وهذاما وصلت إليه معارفهم في ذلك العصر، ولكننا في العصر الحديث وأمام التطورات الكبيرة التي شهدها علم الفلك، فإن أفضل تفسير علمي لهذه الآيات هو أنها تتحدث عن النجوم النيوترونية، وقد يتطور العلم فيكشف لنا أشياء جديدة لا نراها اليوم ليبقى القرآن هو المعجزة الخالدة.
المدلول اللغوي للفظة (الثاقب):
o الثقب في اللغة هو الخرق النافذ كما في القاموس المحيط، فكيف يثقب الأشياء ويخترقها هذا النجم الثاقب؟ إن من خصائص النيوترون أنه أثقل أجزاء الذرة، وهو حيادي؛ أي لا شحنة له، فهو ليس موجبًا وليس سالبًا؛ ولذلك فهو يخترق الذرة وينفذ منها بسهولة، ومن ثم يستخدمه العلماء لتحطيم نواة الذرة بسبب ثقله وحياديته. ولذلك؛ فإن أفضل وصف للنيوترون هو أنه يثقب الأشياء ويخترقها بسهولة دون أن يعيقه شيء؛ وبناء على هذا فإن كلمة “الثاقب” مناسبة جدًّا من الناحية العلمية لوصف النجوم النيوترونية.
وثمة أمر آخر، وهو أن النجوم الطارقة تبث موجات جذبية عنيفة جدًّا، وهذه الموجات تستطيع اختراق أي شيء في الكون بما فيه نحن البشر، ففي كل لحظة هنالك موجات جذبية تصدر من هذه النجوم وتخترق أجسامنا ولا نحس بها. ولذا؛ فإن اسم “الثاقب” ينطبق على الموجات التي تبثها هذه النجوم، فسبحان الذي أخبرنا عنها لنزداد إيمانًا ويقينًا بهذا الخالق العظيم!
o وكلمة “ثاقب” تعني في اللغة أيضًا “مضيء” أو”لامع”، وقد وجد العلماء أن هذه النجوم تعتبر من أشد النجوم لمعانًا في الكون، ويعجب العلماء كيف تنشأ هذه النجوم في قلب الانفجارات وتكون محاطة بكميات هائلة من الدخان الكوني، وفجأة تظهر وتشع بل وتضيء ما حولها، وهذا يدل على أن اللفظة القرآنية تجمع أكثر من معنى؛ فكلمة “الثاقب” تعني الذي يخترق الأشياء، وتعني شديد اللمعان، وكلا المعنيين صحيح، وهذا يعني أن العلماء يستخدمون عدة كلمات لوصف هذه النجوم، بينما القرآن يختصر هذه المصطلحات بكلمة واحدة فقط([19]).
من أقوال المفسرين في النجم الثاقب:
في تفسير قول الحق عز وجل: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)((الطارق)، ذكر ابن كثير قول قتادة وغيره من متقدمي المفسرين ـ رحمهم الله جميعا ـ ما نصه: “إنما سمي النجم طارقًا؛ لأنه إنما يرى بالليل، ويختفي بالنهار”، ويؤيده ما جاء بالحديث: «إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن»([20])، وأضاف قول ابن عباس رضي الله عنهما في شرح الثاقب بالمضيء، وأشار إلىه قول عكرمة رضي الله عنه: وهو مضيء ومحرق للشيطان([21]).
وقال صاحب الظلال رحمه الله: “هذا الوصف ينطبق على جنس النجم، ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص، ولا ضرورة لهذا التحديد، بل إن الإطلاق أولى ليكون المعنى: والسماء ونجومها الثاقبة للظلام، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء”([22]).
وذكر مخلوف رحمه الله أن المراد هنا النجم البادي بالليل، وأضاف: (النجم الثاقب)؛ أي المضيء، كأنه يثقب الظلام بنوره فينفذ فيه، والمراد به الجنس، فإن لكل كوكب ـ والصحيح: هو لكل نجم ـ ضوءًا ثاقبًا، أو هو معهود وهو الثريا، أو النجم الذي يقال له: “كوكب الصباح”.
ووافق كل من الصابوني وأصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما قاله ابن كثير رحمه الله على الرغم من أن القسم واضح الدلالة على نجم محدد بذاته، وفيه من التحديد والتخصيص ما لا يمكن تجاهله، فلو كان الوصف بالطارق ينطبق على كل نجم، ما خصص في هذه الآية القرآنية الكريمة بهذا التحديد الدقيق، ولما أعطي اسمًا محددًا “الطارق”، ولا صفة محددة “النجم الثاقب”، ولما ورد به القسم مع السماء بهذه الصورة المفخمة، ولما وجه السؤال إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم عقب القسم مباشرة بقول الحق عز وجل: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)( (الطارق). ولما أتى الجواب قاطعًا حاسمًا من الله عز وجل بقوله: )النجم الثاقب( (الطارق)..
والنجوم قد ورد ذكرها في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، أربع منها بالإفراد (النجم)، وتسع بالجمع (النجوم)، ولم يوصف أي منها (بالطارق النجم الثاقب)، إلا في هذه السورة المباركة التي نحن بصددها، والتي حملت اسم الطارق تأكيدًا على أن الطارق نجم محدد بذاته.([23])
وإذا كان هذا ما ذكره المفسرون، فإن العلماء يؤكدون أن هذه النجوم تبث إشعاعات هي الألمع من نوعها، وهو ما يعبر عنه العلماء بـ (hyperflare)؛ أي ضوء يبهر الأبصار، ويؤكدون من ناحية أخرى أن هذه النجوم تصدر موجات، ويقولون عنها: “إنها تثقب وتخترق أي شيء تصادفه”. ومن ثم؛ فإن تسمية الله عز وجل هذا النجم بالنجم الثاقب تسمية دقيقة جدًّا من الناحية العلمية.
يقول العلماء: إن سبب سماعنا لصوت الطرقات هو دوران هذه النجوم بسرعة هائلة حول مركز دورانها، وفي أثناء دوران هذا النجم فإنه يحقق نتيجتين، الأولى: أنه يعطي طرقات منتظمة، والثانية: أنه يصدر إشعاعات تستطيع ثقب أي شيء يصادفها؛ أي إن دوران هذه النجوم يسبب الطرق والثقب
لماذا أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه المخلوقات الكونية العظيمة([24])؟
لنتأمَّل هذه السورة بشيء من التدبر والتأني:)والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) إن كل نفس لما عليها حافظ (4)((الطارق)، تأمَّلوا كيف ربط الله عز وجل بين النفس والملائكة التي تحفظ علينا أقوالنا؛ فكل إنسان وكل الله له ملائكة تحفظ وتكتب كل كلمة ينطق بها، بل كل فكرة قد تخطر بباله: )إن كل نفس لما عليها حافظ( (الطارق)..
ويقول العلماء اليوم: إن هذه النجوم النيوترونية أو الثاقبة تصدر هذه الموجات وتصدر هذه الطرقات بدقة مذهلة، حتى إنهم يعتبرونها من أدق الساعات الكونية على الإطلاق؛ وهذا يعني أن هذه النجوم أدق من أي ساعة على الأرض، فهي تصدر هذه الطرقات بصورة شديدة الانتظام، ولا تخطئ في عملها أبدًا.
فكأن الله عز وجل يخاطب الناس جميعًا ويقول لهم: كما أن هذه النجوم التي خلقتها وحدثتكم عنها وعن عملها ودقتها، كما أنها دقيقة في عملها ولا تخطئ، كذلك فقد وكلت عليكم ملائكة لا تخطئ في كتابتها أبدًا، لا تخطئ في كتابة أي شيء أبدًا يصدر عنك أيها الإنسان؛ فكل شيء مكتوب ومحسوب، ولا يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء.
وإذا ما تتبعنا سلسلة الآيات، نلاحظ أن الله عز وجل يحدثنا عن آيات أخرى أيضًا لنصل إلى هدف نهائي أبعد من هذا الهدف: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) إن كل نفس لما عليها حافظ (4) فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) والسماء ذات الرجع (11) والأرض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13)((الطارق) فالله عز وجل أقسم بهذه المخلوقات: بالنجم الثاقب، وبالسماء ذات الرجع، وبالأرض ذات الصدع، على أن هذا القرآن هو القول الفصل، فكما أن هذه السماء لا تخطئ في عملها ولا يوجد هناك خلل واحد في الكون، كذلك هذا القرآن لا يخطئ أبدًا: )والأرض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (17)((الطارق).
ويحاول العلماء اليوم التعرف من خلال هذه النجوم إلى طبيعة المادة في الكون وكيف تشكَّلت، فهم يعتقدون أن نواة النجم الطارق تحوي جسيمات تسمى “كواركات” وهي كتل بناء البروتون والنيوترون، ويقولون: إن دراسة هذه النجوم تساعد على معرفة أصل تشكل النجوم والمادة في الكون. ومن هنا ربما ندرك لماذا جاء الأمر الإلهي للإنسان أن يبحث عن أصله: )فلينظر الإنسان مم خلق((الطارق)، وكأن هذه السورة تربط بين أصل تشكل المادة والطاقة في الكون من خلال دراسة هذه النجوم، وأصل الإنسان من خلال دراسة النطفة التي خلق منها!
وهذا الارتباط يؤكد أن القرآن مترابط؛ أي إن هناك علاقة بين النجم الطارق وخلق الإنسان، فالنجم الطارق)والسماء والطارق (1)((الطارق)، هو دليلنا لمعرفة أصل المادة والطاقة، والماء الدافق )خلق من ماء دافق (6)((الطارق) ،هو دليلنا لمعرفة أصل الإنسان فتأمَّلوا معي هذا الترابط العجيب([25])!
وقفة تأمُّل:
أبعد هذه الحقائق اليقينية هل يبقى شك في أن هذه النجوم تصدر صوتًا؟! وهل هناك شك في أن هذه الأصوات تشبه صوت المطرقة؟! وأن العالم الأمريكي (RichardRothschild) شبهها بالمطارق العملاقة (gigantic hammer)، وهل هناك شك في أن هذه النجوم تصدر أشعة متوهجة هي الأكثر إشعاعًا؟!
3) وجه الإعجاز:
اكتشف العلماء وجود نجوم نابضة تصدر أصوات طرق أشبه بالمطرقة، كما وجدوا أن هذه النجوم تصدر موجات جذبية تستطيع اختراق أي شيء وثقبه بما فيها الأرض وغيرها؛ ولذلك أطلقوا عليها صفتين: صفة تتعلق بالطرق فهي مطارق كونية، وصفة تتعلق بالقدرة على النفاذ والثقب فهي ثاقبة، وهذا ما لـخصه لنا القرآن في مطلع سورة الطارق إذ يقول تعالى في وصف هذه النجوم من خلال كلمتين: )والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3)((الطارق)؛ فكلمة “الطارق” تعبر تعبيرًا دقيقًا عن الصوت الذي تصدره هذه النجوم، وكلمة “الثاقب” تعبر تعبيرًا دقيقًا عن نواتج هذه النجوم، وهي الموجات الثاقبة.
الطارق النجم الثاقب
(*))النَّجْمُ الثَّاقِبُ(: وهم أم معجزة؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com. منتدى: المسيحيين المغاربة www.movemegod.com.
[1]. أشعة النجوم: عبارة عن سلسلة متصلة من الأمواج الكهرومغناطيسية، هذه الأمواج تشمل: موجات الراديو بمختلف أطوالها، الأشعة تحت الحمراء، وأطياف الضوء المرئي، والأشعة فوق البنفسجية، والأشعة السينية، وأشعة جاما.
[2]. تمر النجوم بمراحل من الميلاد والشباب والشيخوخة قبل أن تنفجر أو تتكدَّس على ذاتها فتطمس طمسًا كاملًا، فهي:
تولد من الدخان الكوني بتكدس هذا الدخان على ذاته، ثم بفعل الجاذبية تتكوَّن نجوم ابتدائية (prostars).
تتحول النجوم الابتدائية إلى النجوم العادية (star main sequence).
ثم تنفتح متحولة إلى العماليق الحمر (Red Giants).
فإذا فقدت العماليق الحمر هالاتها الغازية تتحول إلى ما يعرف بالسُّدُم الكوكبية (Plantetary Nabulae).
ثم تنكمش السدم الكوكبية على هيئة ما يعرف بالأقزام البيض (White Dwafs)، وقد تتكرر عملية انفتاح القزم الأبيض إلى عملاق أحمر ثم العودة إلى القزم الأبيض عدة مرات.
وتنتهي هذه الدورة بالانفجار على هيئة فوق مستعر من الطراز الأول (Explosion type1 super).
أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم العادي كبيرة (أكثر من 10 مرات قدر كتلة الشمس) فإنه ينتفخ في آخر عمره على هيئة العمالقة الكبار (Super Giants). ثم ينفجر على هيئة فوق مستعر من الطراز الثاني (super explosion type2)، فينتج هذا الانفجار النجوم النيوترونية (Pulsating Neutron stars) النابضة (pulasars) وغير النابضة (Non Pulsating Neutron stars)، أو الثقوب السوداء (Blak Holes)، أو ما نسميه باسم النجوم الخانسة الكانسة (وذلك حسب الكتلة الابتدائية للنجم) فينكدر النجم أو يطمس ضوؤه طمسًا كامًلا، وعند انفجار النجوم تتناثر أشلاؤها في صفحة السماء. (الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، د. أحمد مصطفى متولي، مرجع سابق، ص110).
[3]. النجم النيوتروني: هو عبارة عن نجم أثقل من الشمس بقليل، استنفد وقوده النووي فلم يعد قادرًا على الاشتعال، فبدأ بالانكماش على نفسه وبدأت مادته بالتهاوي والسقوط نحو مركز النجم الأمر الذي يؤدي إلى انضغاطه بشدة كبيرة، وتفكُّك ذراته بفعل الجاذبية الهائلة إلى بروتونات وإلكترونات، ومن ثم تندمج هذه الأجسام متحولة إلى نيوترونات، ولكن النواة تكون في حالة مختلفة؛ حيث تبدأ في داخلها ذرات الحديد بالتشكل، ومن ثم يمكن أن نتخيل كرة ضخمة من الحديد محاطة بسائل كثيف من النيوترونات.
[4]. النيوترونات: هي مكونات دقيقة في داخل الذرة، والذرة ـ التي هي أصغر وحدة بناء في الكون ـ تتألف من نواة فيها جسيمات موجبة وهي البروتونات، وجسيمات عديمة الشحنة هي النيوترونات، وهذه النواة مغلفة بأغلفة إلكترونية (طبقات من الإلكترونات تدور حولها) تمامًا مثل المجموعة الشمسية حيث تكون الشمس في المركز وتدور الكواكب من حولها، فالإلكترون: شحنته سالبة وهو موجود في الغلاف الخارجي للذرة، والبروتون شحنته موجبة وهو موجود في نواة الذرة، وعندما يتحد الإلكترون مع البروتون وينصهر هذان الجسيمان الموجب مع السالب، فإن هذه العملية تحرِّر كمية كبيرة من الطاقة، ويتحول هذان الجسيمان إلى جسم واحد هو النيوترون الذي لا شحنة له، فالإلكترون السالب يتحد مع البروتون الموجب ويندمجان وتختفي الشحنة وينتج جسم لا شحنة له، وهذا مبدأ عمل النجوم النيوترونية )النَّجْمُ الثَّاقِبُ(: وهم أم معجزة؟! عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com). انظر الشكل الآتي:
[5]. المطارق الكونية آية من آيات الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل .comwww.kaheel7.
[6]. النجوم النابضة: عبارة عن نجوم كثيفة وصغيرة جدًّا، وتعرف باسم النجوم النيوترونية، ويصل قطرها إلى 20كم فقط، ويمكننا أن نقيس نبضات دورية منتظمة من الأشعة الكهرومغناطيسية التي ترسلها تلك النجوم في أثناء دورانها المغزلي، وبعضها يدور بسرعة مغزلية عالية جدًّا تصل إلى 1000 دورة في الثانية. [الحركة المغزلية هي أن يدور الجسم حول نفسه مثل المغزل].
[7]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص266- 269 بتصرف.
[8]. المطارق الكونية آية من آيات الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[9]. في الواقع لا تدور النجوم النابضة في اتجاه ما ثم تغيره، إنها تبثُّ تيارًا ثابتًا من الطاقة، وهذه الطاقة مركزة في تيار من الجسيمات الكهرومغناطيسية بسرعة الضوء، ويميل المحور المغناطيسي للنجم النيوتروني بزاوية معينة على محور الدوران، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى الشمال المغناطيسي والشمال الحقيقي للأرض. وعندما يدور النجم حول نفسه، يقوم هذا الشعاع من الطاقة بمسح الفضاء كالشعاع الذي يخرج من سيارة الإسعاف. وفقط في حالة سطوع هذا الشعاع على الأرض نكون قادرين على اكتشاف النجم النابض باستخدام المنظار الفلكي اللاسلكي.
[10].)النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)((الطارق): وهم أم معجزة؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[11]. المطارق الكونية آية من آيات الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[12]. آيات قرآنية في مشكاة العلم، د. يحيى المحجري، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[13].)النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)( (الطارق): وهم أم معجزة؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[14]. الفتق الكوني: حقائق جديدة، عبدالدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل .comwww.kaheel7.
[15]. آيات قرآنية في مشكاة العلم، د. يحيى المحجري، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[16]. تقاس شدة الإضاءة الظاهرية للنجم بكمية الضوء الواصل منه إلى نقطة معينة في وحدة من وحدات الزمن، والقدر الظاهري للنجم قيمة عددية لوغارتمية تعبِّر عن شدة إضاءته الظاهرية بالنسبة إلى غيره من النجوم؛ بمعنى أن الأرقام الأقل تعبر عن درجة لمعان أعلى، ويعتمد القدر الظاهري للنجم على كمية الطاقة المنطلقة منه في الثانية [القدر المطلق]، وعلى بُعْد النجم عنَّا، ويمكن معرفة القدر المطلق للنجم بمعرفة بُعده عن الأرض، وتقسَّم الأقدار النجمية المطلقة إلى 27 درجة، تتراوح بين القدر (ـ 9) في أشدها لمعانًا، و(+ 18) في أخفتها. وتبلغ درجة لمعان الشمس أي قدرها المطلق (+ 5)، بينما يقترب ذلك من أقصى قدر (ـ 9) في كل من العماليق الحمر والعماليق العظام والمستعرات وما فوقها؛ حيث تبلغ شدة إضاءة النجم أكثر من مليون مرة قدر إضاءة الشمس، وتتدنى شدة الإضاءة إلى واحد من ألف من شدة إضاءة الشمس في النجوم المنكدرة، وتنتهي إلى الطمس الكامل في النجوم الخانسة الكانسة.
شكل يوضِّح كيفية استخدام العلاقة بين درجة حرارة النجم ودرجة لمعانه في تحديد عمره
[17]. المطارق الكونية آية من آيات الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[18]. لا بد أن نفرق بين هذه الظاهرة وظاهرة الشهاب (Meteor) الساقط التي تُعدُّ ظاهرة يومية لكثرة حدوثها، فالشهب تدخل يوميًّا في الغلاف الجوي ثم تحترق عندما ترتفع درجة حرارتها لاحتكاكها بالهواء الجوي، وبعضها يسقط على الأرض، وقد جاء ذكر الشهب في أكثر من موضع في القرآن، قال تعالى: )إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)((الصافات)، وقال: )وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)( (الجن).
[19]. المطارق الكونية آية من آيات الله، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث عبدالرحمن بن حنبش رضي الله عنه، رقم (15498). وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع برقم (74).
[21]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص497.
[22]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3878.
[23]. من آيات الإعجاز العلمي: السماء في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص256-257.
[24]. مما يلفت الانتباه أن العلماء يعتبرون هذه النجوم بالذات من عجائب الكون، بل هي من أجمل النجوم في الكون، وهي تبث الأشعة الراديوية بانتظام وبشكل متقطع وتعمل مثل منارات في السماء! ومن هنا ندرك عظمة الله حين أقسم بها، فالله لا يقسم إلا بعظيم.
[25].)النَّجْمُ الثَّاقِبُ(: وهم أم معجزة؟ عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
لماذا لم يحفَظِ اللهُ الكُتبَ السابقةَ كما حفِظَ القُرآنَ الكريم؟
الحمدُ للهِ تعالى وحدهُ، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَ بعدهُ..
يتساءلُ البعضُ عن عدمِ حفظِ ربِّ العالمينَ للكُتبِ السابقةِ؛ كالإنجيلِ والتوراةِ والزبورِ، ولسانُ حالِ بعضِهم يتساءل:
ألم تكُن تلكَ الكُتبُ كلامَ اللهِ كالقُرآنِ الكريمِ؟ فلماذا القُرآنُ دونًا عن غيرهِ محفوظٌ؟
وما ذنبُ أهلِ الكُتبِ السابقة؟
وإن شاءَ ربُّ العالمينَ نحاولُ معًا إزالةَ اللبسِ عندَ المُستشكلينَ محاولينَ تسليطَ الضوءِ على نقاطٍ قد لا ينتبهُ لها البعض..
وجديرٌ بالذكرِ أن بعضَ غيرِ المُسلمينَ -لا سيما أهلِ الكتاب- قد يُثيرونَ تلكَ التساؤلاتِ بغيةَ إحراجِ المسلمِ وقلبَ دعوى تحريفِ تلكَ الكُتبِ عليهِ، وبناءً عليهِ نذكُرُ أن تلكَ التساؤلاتِ والأجوبةَ عليها لا تُشكِلُ فرقًا في ثُبوتِ تحريفِ تلكَ الكُتبِ كما لا تُشكِلُ فرقًا في حقيقةِ حفظِ القُرآن، ويضيقُ المقامُ هنا عن ذكرِ دلائلِ تحريفِ الكُتبِ السابقةِ، وعلى العاقلِ أن يتبعَ ما ثبتَ أنه الحقُ المحفوظُ، ويكونُ سؤالهُ عن عدمِ حفظِ ما سواهُ من بابِ التعلمِ والتأملِ لا الشكِ والتذبذب..
هذا الموضوعُ نتناولُ الردَ عليهِ بإذنِ اللهِ تعالى من خلالِ أربعةِ محاور:
١– لماذا الحفظ؟
٢- لا خوفٌ عليهم.
٣- وإن تتولوا يستبدل.
٤- فلماذا القُرآن؟
أولًا: لماذا الحِفظ؟
قد يتبادرُ للأذهانِ من هذا العنوانِ أنه يتناولُ سببَ حفظِ القُرآن، ولكن حقيقةً هو تساؤلٌ آخر، وصيغتهُ: لماذا يحفظُ اللهُ تلكَ الكُتب؟
لا جدالَ في أنها كلامُ اللهِ العليِّ القدير، ولكن نحنُ في هذهِ الدُّنيا نُبتلى ونُختبر، ومن اختبارِ الأممِ السابقةِ تكليفُهُم بحفظِ كلامِ ربهم، قالَ ربُ العالمين: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: ٤٤}..
فالسؤالُ الصحيحُ: لماذا لم يحفظوا ما أكرمهُم بهِ الله؟
لماذا بدلوا نعمةَ اللهِ كفرًا؟
لماذا افتروا على اللهِ الكذب؟
لا يوجدُ في قوانينِ العقلِ ما يُوجبُ على الخالقِ أن يحفظَ للناسِ الكُتبَ التي كُلِّفوا بحفظِها؛ بل قد آتَاهُم ربُهم الكتابَ، فمنهم من ظلمَ نفسهُ ومنهم من أحسن، وقد ابتلوا، وسيجزيهم اللهُ يومَ القيامةِ بما كانوا يعملون، وماذا عليهم لو آمنوا واتقوا وأحسنوا؟
هؤلاءِ ظلموا أنفسهُم، ولو أحسنوا لوجدوا خيرًا، قالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: ٤٤].
ثانيًا: لا خوفٌ عليهم:
قد يتساءلُ البعضُ عن ذنبِ أولئكَ الذينَ وصلتهم تلكَ الكُتبُ على ما هي عليهِ من تحريفٍ، فما ذنبُهم والحقُ لم يصل إليهم؟
إن اللهَ سُبحانهُ لم يخلُقنا لتلكَ الدنيا، وإنما هي مرحلةٌ قصيرةٌ عابرة، والآخرةٌ هي دارُ القرار، وإن هؤلاءِ لا ذنبَ عليهم، قد قالَ سبحانهُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر: ١٨].
وهؤلاءِ الذين وصلتهُم تلكَ الكُتبُ بين حالينِ، إما جاءهم نبيٌّ، أو بلَغهم الحقُ الذي جاءَ به خاتمُ النبيين، وهؤلاءِ وَجبَ عليهم اتباعُ الحقِ وقد أدركوهُ وأدركهم، وليسَ لمتخلفٍ بعدَ البيانِ حُجة، قالَ تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: ١٦٥]..
وإما يكونونَ من أولئكَ الذينَ لم يأتِهم رسولٌ أو لم يبلغهُم الحق، ولم يكُن لهم سبيلٌ لمعرفتهِ، وفي مثلِ هؤلاءِ قال جلَّ وعلا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رسولًا } [الإسراء: ١٥]..
وهؤلاءِ في اعتقادِنا لهم اختبارٌ خاصٌ يومَ القيامةِ، يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: “وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ: فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَقْوَالٌ؛ أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ: أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ، وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ.”
انتهى، باختصارٍ من “الجوابِ الصحيحِ لمن بدل دينَ المسيح”.
فلا خوفٌ على الناسِ، وإن اللهَ أولى بالعدلِ من خلقهِ، فلا يقلقنَ عبدٌ مخافةَ أن ينالَ الظلمُ أحدًا من الناسِ في الآخرةِ، وقد قالَ سُبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: ٤٧].
ثالثًا: وإن تتولوا يستبدل:
من سُننِ اللهِ أن من تولى عن نصرةِ الحقِ؛ استبدلَ اللهُ بهِ غيره، كما قالَ سُبحانه في سورةِ محمد: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، وقد تولى من كلَّفهم ربهُم بحفظِ كُتبهم، وافتروا على اللهِ الكذبَ، فأرسلَ اللهُ رسولهُ إلى أُمةٍ لا تُبدل؛ بل تنصرُ الحقَ وتبذلُ في سبيلهِ كُلَ غالٍ ونفيس، وإن اللهَ إذا أرادَ شيئًا هيأ لهُ أسبابهُ، وقد كان الصحابةُ سببَ حفظِ كتابِ اللهِ بإذنِ اللهِ وفضلِه، وذلكَ بعدَ أن استشهدَ عددٌ كبيرٌ من القُرَّاء، فجمعَ الصحابةُ القُرآنَ، وقامَ على جمعهِ لجنةٌ من صفوةِ القُرَّاء..
نعم.. اللهُ حفظَ القُرآن، وكان الصحابةُ سببًا، وكذلكَ مَن بَعدهم، والسؤالُ: لماذا لم يفعل السابقونَ مثلما فعلَ الصحابة؟
إن اللومَ على من فرَّطَ وأفرطَ وحرَّفَ وبدَّل، ولننظر معًا إلى حرصِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم على حفظِ القُرآن:
عن زيدٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّه قال: « أرسلَ إليَّ أبو بكرٍ مقتلَ أهلِ اليمامةِ وعندَه عمَر، فقالَ أبو بكرٍ: إنَّ عمرَ أتاني فقالَ: إنَّ القتلَ قدِ استحرَّ -أيِ اشتدَّ وكثُرَ- يومَ اليمامةِ بالنَّاسِ، وإنِّي أخشى أنْ يَستَحِرَّ القتْلُ بالقرَّاءِ في المواطنِ، فيذهبَ كثيرٌ منَ القُرآن، إلَّا أنْ تجمعوه، وإنِّي لأرى أنْ تجمَعَ القرآنَ، قالَ أبو بكرٍ: قلتُ لعمرَ: كيفَ أفعلُ شيئًا لمْ يفعلْه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم؟، فقالَ عمر: هو واللهِ خيرٌ، فلمْ يزلْ عمرُ يراجعُني فيهِ حتَّى شرحَ اللهُ صدري، ورأيتُ الذي رأى عمرُ. قالَ زيد: وعمرُ عندَه جالسٌ لا يتكلَّمُ، فقالَ أبو بكرٍ: إنَّكَ رجلٌ شابٌّ عاقلٌ ولا نتَّهمُك، كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فتَتَبَّعِ القرآنَ فاجمَعْه. فواللهِ لو كلَّفني نقْلَ جبلٍ من الجبالِ ما كانَ أثقلَ عليَّ ممَّا أمرني به مِنْ جمعِ القرآن، قلتُ: كيف تفعلانِ شيئًا لم يفعلْه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟، فقالَ أبو بكرٍ: هو واللهِ خيرٌ، فلمْ أزلْ أراجعُه حتَّى شرحَ اللهُ صدري للذي شرحَ اللهُ له صدرَ أبي بكرٍ وعمر، فقمْتُ فتتبَّعتُ القرآنَ أجمعُه من الرِّقاعِ والأكتافِ والعُسُبِ وصدورِ الرِّجال، وكانتِ الصُّحفُ التي جُمعَ فيها القرآنُ عندَ أبي بكرٍ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عندَ عمرَ حتَّى توفَّاه الله، ثمَّ عندَ حفصةَ بنتِ عمرَ» رواه البخاري.
رابعًا: لماذا القُرآن؟
سبقَ القولُ بعدمِ لزُومِ حفظِ الكُتبِ السابقةِ، وأن من وُكلوا بحفظِها كانَ عليهم أن يفعلوا، فلماذا لم يكُن ذلكَ مع القُرآنِ الكريم؟
١- المسلمونَ اختُبروا في الأمرِ، وقد يسرَ اللهُ تعالى أن يكونوا سببًا لحفظِ كتابهِ، ولو شاءَ اللهُ لأنزلَ ملائكةٍ بنُسخٍ من القُرآنِ لا يقربُها إنسٌ ولا جان، ولكن أن يحفظَها ربنا بجعلِ الناسِ سببًا لهذا دلالةٌ على أن من سبقوا خانوا الأمانة، ولو فعلوا مثلما فعل الصحابةُ لأفلحوا، ولكانَ خيرًا لهم.
٢- كانت تلكَ الكُتبُ لأقوامٍ بعينهم وفي أزمنةٍ معينةٍ، بينما شاءَ اللهُ أن يكون نبينا محمدٌ صلى اللهُ عليهِ وسلم هو النبيُّ الخاتم، والقُرآنُ هو آخرُ الكُتبِ الذي به يصلُحُ كُلُ زمانٍ ومكانٍ إلى أن تقومَ الساعة، ومن ثُم كانَ في حفظِ القُرآنِ إبقاءٌ لوحيِ اللهِ بين الناسِ؛ كي لا تغيبَ حُجةُ اللهِ على خلقهِ، ولا يضيعَ الهدى ويخفى عن الناسِ، وفي ذلك فضلٌ من اللهِ ورحمة، وهو سُبحانهُ العليمُ الحكيم.
خلاصةُ القولِ: على مريدِ الحقِ التفتيشُ عن البراهينِ، ومن ثم يتبعُ الحقَ حين يتبينَ له، ولا يضرهُ تحريفُ كُتبٌ سابقةٍ قد وكَّلَ اللهُ حفظها إلى أُناسٍ حرَّفوا وبدَّلوا ولم يفعلوا مثلَ الصحابةِ الذين بذلوا الوسعَ لحفظِ القُرآنِ الذي وعدَ ربُّ العالمينَ بحفظهِ؛ إذ هو الكتابُ الخاتمُ الذي نزلَ على النبي الخاتم صلى اللهُ عليهِ وسلم.
قالَ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩].
ادعاء تناقض القرآن حول عدد ملائكة المدد في غزوة بدر
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين وجود تناقض بين قوله سبحانه وتعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) (9) (الأنفال)، وقوله سبحانـه وتعالـى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) (123) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125)( (آل عمران). ويتساءلون: كيف يشير القرآن إلى أن عدد الملائكة في غزوة بدر كان ألفا في موضع، ثم يفيد في موضع آخر أن عددهم كان ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف؟ ويرمون من وراء ذلك إلى القول بـبشرية القرآن؛ لأنه لو كان من عند الله لما وجد فيه هذا التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
اختلف المفسرون حول المقصود بمدد الله بالملائكة في سورة آل عمران إلى رأيين:
أن المدد فيها كان لأهل بدر، ويكون المعنى: أن الله أمد المسلمين بألف كما في سورة الأنفال، ثم أتبعهم بمدد آخر، بدليل قوله: )مردفين(.
أنه كان لأهل أحد، ولم يتحقق هذا المدد لعدم تحقق شرطه، وهو الصبر والتقوى.
التفصيل:
من المقصود بمدد الملائكة في سورة آل عمران؟!
يذكر د. أبو النور الحديدي أن المفسرين اختلفوا في وعد الله تعالى للمؤمنين بمدد الملائكة في سورة آل عمران، هل كان في غزوة بدر، أم في غزوة أحد، على قولين:
الأول: أن الوعد بمدد الملائكة كان يوم بدر، وقوله عز وجل: )إذ تقول للمؤمنين( (آل عمران: ١٢٤) ظرف لقوله: (نصركم) أي: نصركم الله وقت مقالتكم هذه، وهو يوم بدر.
الثاني: أنه كان يوم أحد، فالوعد في قوله عز وجل: )إذ تقول للمؤمنين( (آل عمران: ١٢٤)، متعلق بقوله عز وجل: )وإذ غدوت من أهلك( (آل عمران: ١٢١)، أي: بدل ثان من، )وإذ غدوت( والبدل الأول هو قوله عز وجل: )إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا( (آل عمران: ١٢٢)، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم.
وعلى هذا فلا تعارض؛ لأن الإمداد المذكور في الأنفال في يوم بدر، والإمداد المذكور في آل عمران في يوم أحد، على أن الإمداد في أحد لم يحصل، لا بالخمسة آلاف ولا بالثلاثة؛ لعدم توفر شرط الإمداد، وهو صبر المؤمنين وتقواهم، وهم لم يصبروا في مواجهة العدو، بل فروا، ولم يتقوا؛ حيث خالفوا أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فلم يمدوا بملك واحد.
فقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله عز وجل: )بلى إن تصبروا وتتقوا( (آل عمران: ١٢٥) قال: يوم بدر، قال: فلم يصبروا ولم يتقوا، فلم يمدوا يوم أحد، ولو مدوا لم يهزموا يومئذ[1].
وعلى رأي من يرى أن المدد في الموضعين كان لأهل بدر، يمكن الجمع بين آيتي الأنفال التي فيها أن المدد كان بألف، وآية آل عمران، التي تفيد أن المدد بأكثر من ألف بما يأتي:
ما قاله الربيع بن أنس: أن الله تعالى أمد المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف[2]، والنص في آية الأنفال على الألف لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها في سورة آل عمران؛ لقوله فيها: )مردفين( بمعنى: يردفهم غيرهم، ويتبعهم ألوف أخرى مثلهم، ويكون معنى )يمددكم ربكم بخمسة آلاف( (آل عمران: ١٢٥): بتمام خمسة آلاف، وهذا هو القول الأرجح.
ما ذكره بعض العلماء من ضم العدد القليل إلى الكثير، فقال: لأن الله تعالى ذكر الألف في سورة الأنفال، وذكر في سورة آل عمران ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، فيكون المجموع تسعة آلاف.
وما ذهب إليه بعضهم من أن المدد كان بأربعة آلاف، فقد جاء عن الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله: )ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف( إلى قوله ـ عز وجــل ـ: )مسومين( (آل عمران)، قال: فبلغت كرزا الهزيمة، فلم يمد المشركين، ولم يمد المسلمون بالخمسة[3]، وذلك بناء على تعليق الإمداد بالخمسة بمجموع الأمور الثلاثة، وهي: الصبر، والتقوى، وإتيان أصحاب كرز، وقد فقد الأمر الثالث، فلم يوجد الإمداد بالخمسة.
وفي رواية ابن جرير عن الشعبي أنه قال: )ويأتوكم من فورهم هذا( (آل عمران: ١٢٥) – يعني: كرزا وأصحابه – )يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125)( (آل عمران: ١٢٥)، فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة فلم يمدهم، ولم تنزل الخمسة، وأمدوا بعد ذلك بألف فهم أربعة آلاف[4] [5].
الخلاصة:
لا تعارض بين آية سورة الأنفال وآيتي سورة آل عمران؛ لأن المفسرين اختلفوا حول مدد الله بالملائكة في آل عمران، هل كان لأهل بدر، أم كان لأهل أحد؟!
فعلى الرأي الأول يكون المقصود: أن الله أمد المسلمين بألف ملك، كما في سورة الأنفال، ثم أتبع هذا المدد بمدد آخر، كما في سورة آل عمران؛ ويدل على هذا قوله – عز وجل -، مع الاختلاف في عدد الملائكة إلى ثلاثة أقوال:
o أن عددهم كان ألفا، ثم أصبحوا ثلاثة آلاف، ثم أصبحوا خمسة، وهو الأرجح.
o أن عددهم كان تسعة آلاف؛ بضم الألف والثلاثة آلاف والخمسة.
o أن عددهم كان أربعة آلاف بضم الألف والثلاثة معا، ولم تنزل الخمسة آلاف الأخرى؛ لعدم تحقق شرط نزولها.
وعلى الرأي الثاني يكون المقصود: أن المدد في سورة الأنفال كان يوم بدر، والمدد في سورة آل عمران كان يوم أحد، ولكن مدد أحد لم يتحقق؛ لعدم تحقق شرطه، وهو صبر المؤمنين وتقواهم، فقد انتفت النتيجة لانتفاء المقدمات.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 179)، تفسير سورة آل عمران، آية (124)، برقم (7759).
[2]. أخـرجــه ابـن أبـي حاتـم في تفسيـــره (3/ 161)، تفسيـر سـورة آل عمــران (4146).
[3]. أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 173)، تفسير سورة آل عمران، آية (124)، برقم ( 7743)، وابن أبي حاتم (3/ 161)، تفسير سورة آل عمران، (4145).
[4]. أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 174)، تفسير سورة آل عمران، آية (124)، برقم (7744).
[5]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص216 وما بعدها.
المصدر
الزعم أن القرآن الكريم يؤكد فكرة الحلول والاتحاد
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن القرآن يؤكد فكرة الحلول والاتحاد[1]، مستدلين على ذلك بقوله عز وجل: )فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين (30)( (القصص)، قائلين بأن قوله: )من الشجرة( يوحي بأن الله يحل في الشجرة، وإذا كان الله على حد زعمهم يحل في الشجرة، فمن باب أولى أن يحل في البشر – يقصدون عيسى عليه السلام.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القول بحلول الله في بعض الأجسام واتحاده معها هو عقيدة وثنية ونصرانية أبطلها الإسلام، ونهى عن القول بها.
2) الأدلة على بطلان القول بالحلول والاتحاد عقلا ونقلا.
3) طرق تلقى الوحي عن الله – عز وجل – كثيرة، ولا تستلزم الحلول أو الاتحاد، وليس في الآية ما يرشد إلى ما ذكروا.
التفصيل:
أولا. الحلول والاتحاد عقيدة وثنية أبطلها الإسلام:
الذهاب إلى تقديس أنواع من الجماد أو الحيوان أو بعض البشر هو اعتقاد موروث عن المجتمعات البدائية التي لم يهذبها التمدن والحضارة، في عبارات فلسفسة هيأت له أن يشيع في المجتمعات التي عرفت طرفا من المدينة والنظام، على نحو ما نرى النصرانية مع اعتقاد اجتماع اللاهوت والناسوت في شخص المسيح – عليه السلام – وما ظهر في الإسلام من مذاهب باطنية منحرفة ادعت حلول روح الله – عز وجل – في أشخاص بأعينهم.
وفي العصور الأخيرة ظهرت مذاهب هي من جنس الباطنية[2] القديمة، لكن كأنها تلكأت في الزمن فجاءت متأخرة بعد أن أدرك البشرية التقدم العلمي، وأصبح الاعتقاد بمثل هذا ضربا من الجنون والخلل العقلي، وذلك كالبهائية[3] التي خلعت القداسة على مؤسسها البهاء وولده عبد البهاء عباس، وكأن ذلك كله ضرب من عبادة الشيطان الذي حذر القرآن منه من قبل، قال تعالى: )ألم أعهـد إليكـم يا بني آدم أن لا تعبـدوا الشيطــان إنـه لكـم عـدو مبيـن (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)( (يس).
إن الإله الحق لا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، وهو غني عن الخلق، والخلق كلهم محتاجون إليه، وهو – عز وجل – ذو صفات وكمالات مطلقة لا حدود لها، ولا نهاية لها، وحقيقة لا يصل إليها الخلق مجتمعين، فكيف يحل من هذا شأنه في كائن محدود في ذاته وصفاته وعمره وجميع شأنه؟
كيف يحل اللامحدود في المحدود؟ إذن تنقلب الحقائق فيصير اللامحدود محدودا والمحدود لا محدودا، وقلب الحقائق مستحيل عند جميع العقلاء.
ثانيا. الأدلة على بطلان القول بالحلول عقلا ونقلا:
ما ينبغي أن يحل الإله – عز وجل – في عبد من عباده – كما زعمت النصارى في المسيح – وهو سبحانه قد بين حقيقته البشرية، فقال ـ عز وجل ـ: )إنما المسيح عيسى ابـن مريـم رسـول الله( (النساء: ١٧١)، وقال – عز وجل – عنه وعن أمه: )كانا يأكلان الطعام( (المائدة:75)، وهذا من أبين الأدلة النقلية على أنه بشر، وليس من صفات الله – سبحانه وتعالى – مثل هذه الصفات التي من شأنها النقص، تعالى الله عما وصفه به هؤلاء الواصفون.
ولقد تناسوا أن العبد عبد، وأن الإله إله، وشتان بينهما وأن الله – عز وجل – يقول: )لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172)( (النساء)، وغفلوا عن أن العبادة توفيق وأن الهداية منحة، وأن العبد مهما أطاع واتقى متقلب في نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، ولا يملك من أمر نفسه أو غيره شيئا.
ومن قال عن نفسه: إنه الحق!! أو: ما في الجبة إلا الله!! أو: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا، وكذلك من قال:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وديرا لرهبان
وبيتا لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
كل هؤلاء إما مخبولون فقدوا وعيهم وزاغ منهم البصر، وإما منافقون يحملون وثنيات الأمم ويريدون أن يصدوا عن سبيل الله[4].
وعقلا: الإله الحق لا يشبه الخلق، ولا الخلق يشبهونه، وهو غني عن الخلق، والخلق كلهم فقراء إليه، وهو ذو صفات وكمالات مطلقة لا حدود لها، ولا نهاية لها، وحقيقة لا يصل إليها الخلق مجتمعين، فكيف يحل من هذا شأنه في كائن محدود في ذاته وصفاته، وعمره، وكل ما يتصل به؟
إذن تنقلب الموازين والحقائق، فيصير اللامحدود محدودا، والمحدود لا محدود، وهذا قلب للحقائق، وقلب الحقائق مستحيل، عند جميع العقلاء.
هذا موقف الإسلام من تلك العقيدة كما تظهره نصوصه، وهو كذلك موقف تؤيده الدلائل العقلية، والمعتقد النصراني إنما أقر مثل هذا بناء على تصوره الخاص للمسيح – عليه السلام – ولذلك فإن فكرة حلول الإله تبرير للإفك، لكنه تبرير له بإفك أفظع منه، وبما لا يقبله دين صحيح ولا عقل سليم، والقرآن الكريم لم يكن في آية من آياته مقرا لهذا الإفك بحال من الأحوال، ولم تنص المواضع المشار إليها على ذلك الباطل البين.
والآيات تذكر أن الله تعالى نادى موسى عليه السلام: )وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52)( (مريم)، )فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة( (القصص: 30).
ولم تقل الآيات إن الله – عز وجل – تجسد في جماد، أو في شجرة.
إنه سمع النداء وألقى الله في قلبه هذا النداء، ولم تذكر الآيات أكثر من ذلك.
التجسد: تجسد الإله المنزه عن الشبيه في بشر أو شجر، أمر غير مقبول لا عقلا ولا شرعا.
وقد ناقش علماء العقيدة المسلمون منذ القدم هذه الفكرة، فكرة حلوله – عز وجل – في بعض خلقه – وقد تقدم أنها لا تخص النصارى وحدهم، وأنها ظهرت عند طوائف من المنتسبين إلى الإسلام – ناقش المتكلمون ذلك كله وبينوا مجافاته للإدراك العقلي لا للنصوص الدينية وحدها.
وذلك أن المحل الذي يجوز هؤلاء أن ذاته سبحانه وتعالى تحل فيه لا يتصور فيه أن يكون قديما متى تقرر أن الله – عز وجل – هو واجب الوجود القديم الذي لا ينازعه في القدم سواه، ولا يجوز – كذلك – أن يكون محلا حادثا؛ فإن الله – سبحانه وتعالى – إن كان محتاجا إليه كان ذلك نقصا فيه، وإن لم يكن محتاجا إليه لم يكن القول بالحلول أولى من القول بعدمه.
ويضاف إلى ذلك أن المحل المدعى إن كان قابلا للانقسام فما حل فيه كان بمنزلته في التشكل والانقسام، وهو ما لا يليق بجلاله – عز وجل – وإن لم يكن قابلا للقسمة فهو بمنزلة الجوهر [5] الفرد في الصغر والضآلة، وذلك أيضا لا يليق بصفاته عز وجل.
ثالثا. طرق تلقي الأنبياء الوحي من الله عز وجل:
لا يتلقى الأنبياء الوحي من الله تعالى عن طريقة الحلول في النبي أو الرسول – كما زعموا – بل كما قال تعالى: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى). وطرق الوحي إما الرؤية الصادقة، وإما الإلهام والقذف في القلب من غير رؤية، وإما أن يكلم الله نبيه بما يريد من وراء حجاب يقظة أو مناما، وإما بإرسال الملك، والملك إما أن يتمثل في صورة رجل، أو في صورته التي خلقه الله عليها، أو يأتي على صورته الملائكية لكنه لا يرى[6]. ولا يتصور أن يحل الله – عز وجل – في نبي ليبلغه وحيه، والله تعالى منزه أن يحل في مخلوق، لا في نبي ولا في غيره.
والروح التي في الجسد، وتحل فيه ما هي إلا خلق من خلق الله، وليس حلولها يعني أن الله حل في إنسان، وإلا لكان الناس جميعا حلت فيهم آلهة أو إله، بل كل الكائنات الحية التي بها حياة يحل فيها الإله، فهل حل الإله فيها جميعا [7]؟!
وليس في هذه الآية ما يصلح شاهدا في قضية الحلول؛ فإن قصارى ما ترشد إليه الآية أن موسى – عليه السلام – قد سمع صوتا آتيا من قبل الشجرة، لا أن الله حل فيها، ولا أن كلامه عز وجل مخلوق في الشجرة، فذلك وهذا مما لا تفيده الآية، وهما كذلك مما ينزه الله – عز وجل – عنه.
الخلاصة:
إن القول بالحلول أو الاتحاد وهم قديم كانت ذهبت إليه الوثنيات الأولى في صورة عبادة أصناف الجماد أو الكائنات الحية، ثم تحول على العقائد السماوية بعد تبدليها في صورة عبارات مصقولة، لكنها عند التأمل لا تخفي حقيقته.
ولقد جاء الإسلام فهدم هذه العقيدة من أصولها، ثم تابع علماء العقيدة المسلمون تنفيدها بمسالك عقلية تظهر ما بها من ضعف وتهافت.
إيحاء الله – عز وجل – لأنبيائه لا يلزم عنه حلوله – عز وجل – أو جزء منه في ذات النبي، بل للوحي طرق أخرى كثيرة بينها الله – عز وجل – في كتابه، وشوهدت في أحوال نبيه صلى الله عليه وسلم.
(*) البابية والبهائية في الميزان، مجموعة من علماء الأزهر، مطبوعات الأزهر، مصر، 1985م. برنامج “أسئلة عن الإيمان”، القمص زكريا بطرس، قناة الحياة الفضائية.
[1]. الحلول والاتحاد: يقتضي وجود خالق ومخلوق، وبمداومة المخلوق على رياضات روحية معينة حل في الخالق كحلول الزبدة في اللبن أو الماء في الإناء، فهذا هو الحلول، أو اتحد به حتى صار شيئا واحدا، وهذا هو الاتحاد.
[2]. الباطنية: مصدر صناعي من باطن، وهي مجموعة فرق إسلامية مبتدعة، تعتقد أن للدين ظاهرا وباطنا، وأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا.
[3]. البهائية: دعوة أسسها حسين علي نوري الميرزا، المعروف بالبهاء ( 1817م ـ 1892م)، إيراني مستعرب، ويقال: أخذها عن علي بن محمد الشيرازي الملقب بـ “الباب”، ويقول بوحدة الله والكون، وأن لا أسماء، ولا صفات، ولا أفعال له، والبهائية تنادي بوحدة كل الديانات، وتدافع عن الملكية الخاصة، وغايتها المعلنة السلام العالمي الذي يأتي عن طريق اعتناق الديانة البهائية التي ليس لها طقوس ولا رجال دين، من آثار البهاء ما سماه “الكتاب الأقدس” بالعربية، و “الايقان” بالفارسية، و”الهيكل” أكثره بالعربية.
[4]. الإلهيات في العقيدة الإسلامية، د. محمد سيد أحمد المسير، دار الاعتصام، القاهرة، 1999م، ص64.
[5]. الجوهر: حقيقة الشيء وذاته، أو أصله ومادته، وهو ما قام بنفسه، ويقابله العرض وهو ما يقوم بغيره.
[6]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص271: 278 بتصرف.
[7]. انظر: البابية والبهائية في الميزان، مجموعة من علماء الأزهر، مطبوعات الأزهر، مصر، 1985م. الجواب الفسيح لما لفقه عبد المسيح، الآلوسي، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دارالجيل، بيروت، د. ت.
الم ما معنى هذه الحروف المقطعة في بدايات سور القران؟
“الم “ما معنى هذه الحروف المقطعة؟
أقول وأسأل الله توفيقه:
إن القول الوارد عنهم فى هذه الحروف المقطعة الواردة فى أوائل السور على كثرته وانتشاره منحصر فى طرفين أحدهما: القول بأنها مما ينبغى أن لايتكلم فيه ويؤمن بها كما جاءت من غير تأويل
والثانى: القول بتأويلها على مقتضى اللسان وهذا مسلك الجمهور، وهذا الذى نعتقد أنه الحق لأن العرب تحديت بالقرآن وطلبت بمعارضته أو التسليم والانقياد وبمعرفتهم أنه بلسانهم ومعروف تخاطبهم وعجزهم مع ذلك عنه قامت الحجة عليهم وعلى كافة الخلق، وإذا سلم هذا فكيف يرد فى شئ منه خطابهم بما لا طريق لهم إلى فهمه، فلو كان هذا لتعلقوا به ووجدوا السبيل إلى التعلل فى العجز عنه وهذا مبسوط فى كتب الناس وغير خاف وقد انتشرت تأويلات المفسرين وتكاثرت والملائم بما نحن بسبيله ما أذكره مما لم أر من تعرض له وهو اختصاص كل سورة من المفتتحة بهذه الحروف بما افتتحت به منها فهذا ما يسأل عنه ولم أر من تعرض وهو راجح إلى ما قصدته هنا وما سوى هذا مما يتعلق بالسؤال على الحروف كورودها على حرف وعلى حرفين إلى خمسة وتخصيص هذه الحروف الأربعة عشرة وكثرة الوارد منها على ثلاثة إلى غير هذا فليس من مقصدنا فى هذا الكتاب أما الأول فمن شرطنا.
والجواب عنه: أن وجه اختصاص كل سورة منها بما به اختصت من هذه الحروف حتى لم يكن ليرد “الم ” فى موضع “الر ” ولا “حم ” فى موضع “طس ” ولا “ن ” فى موضع “ق ” إلى سائرها، أن هذه الحروف لافتتاح السور بها ووقوعها مطالع لها كأنها أسماء لها بل هى جارية مجرى الأسماء من غير فرق وهذا إذا لم نقل بقول من جعلها أسماء للسور والعرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى المسمى من خلق أو صفة تخصه أو تكون فيه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام والقصيدة الطويلة من الشعر بما هو أشهر فيها أو بمطلعها إلى أشباه هذا وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لغريب قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فى أمرها وتسمية سورة الأعراف بالأعراف لما لم يرد ذكر الأعراف فى غيرها وتسمية سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها وكثر من أحكام النساء وتسمية الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها وان كان قد ورد لفظ الأنعام فى غيرها إلا أن التفصيل الوارد فى قوله تعالى: “ومن الأنعام حمولة وفرشا ” إلى قوله “أم كنتم شهداء ” لم يرد فى غير هذه السورة كما ورد ذكر النساء فى سور إلا ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد فى غير سورة النساء وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة فى غيرها فسميت بما يخصها.
فإن قلت: قد ورد فى سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام ولم تختص باسم هود وحده ـ عليه السلام ـ فما وجه تسميتها بسورة هود على ما أصلت وقصة نوح فيها أطول وأوعب؟
قلت: تكررت هذه القصص فى سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء بأوعب مما وردت فى غيرها ولم يتكرر فى واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام كتكرره فى هذه السورة فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته فى أربع مواضع والتكرر من أعمد الأسباب التى ذكرناها.
فإن قيل: فقد تكرر اسم نوح فى هذه السورة فى ستة مواضع وذلك أكثر من تكرر اسم هود
قلت: لما أفردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ من سورة تضمنت قصته وقصة غيره من الأنبياء عليهم السلام وإن تكرر اسمه فيها أكثر من ذلك.
أما هود ـ عليه السلام ـ فلم يفرد لذكره سورة ولا تكرر اسمه مرتين فما فوقها فى سورة غير سورة هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه ـ عليه السلام ـ.
وتسمية سائر سور القرآن جار فيها من رعى التسمية ما يجاريها فأقول: – وأسأل الله عصمته وسلامته –
إن هذه السور إنما وضع فى أول كل سورة منها ما كثر ترداده فيما تركب من كلمها ويوضح لك ما ذكرت أنك إذا نظّرت سورة منها بما يماثلها فى عدد كلمها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها تلك السور إفرادا وتركيبا أكثر عددا فى كلمها منها فى نظيرتها ومماثلتها فى عدد كلمها وحروفها فإن لم تجد سورة منها ما يماثلها فى عدد كلمها ففى اطراد ذلك فى المتماثلات مما يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد مماثلها لجرى على ما ذكرت لك وقد اطرد هذا فى أكثرها فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الوارد فيها فلو وقع فى موضع “ق ” من سورة “ق ” “ن ” من سورة “ن والقلم ” وموضع ن ق لم يمكن لعدم المناسبة المتأصل رعيها فى كتاب الله تعالى فإذا أخذت كل افتتاح منها معتبرا بما قدمته لك لم تجد: “كهيعص ” يصح فى موضع “حم عسق ” ولا العكس ولا “حم ” فى موضع “طس ” ولا العكس ولا “المر ” فى موضع “الم ” ولا عكس ذلك، ولا “المر ” فى موضع “المص ” بجعل الصاد فى موضع الراء ولا العكس فقد بان وجه اختصاص كل سورة بما به افتتحت، وأنه لا يناسب سورة منها ما افتتح غيرها، والله أعلم بما أراد.
توهم تناقض القرآن هإثبات القوة لله تعالى
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين الآيات التي أثبتت العزة والقدرة المطلقة لله – سبحانه وتعالى -، ومن ذلك قوله عز وجل: )ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )والله على كل شيء قدير (284)( (البقرة)، وبين قوله عز وجل: )يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون(9)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم( (النساء: ١٤٢)، وقوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون (93)( (النحل)، وقوله عز وجل: )إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57)( (الأحزاب). ويتساءلون: إذا كان الله قد أثبت لنفسه العزة والقدرة المطلقة، فكيف يسمح للمنافقين بخداعه وللكافرين بإيذائه هو ورسوله الذي بعثه للناس؟ ألا يعد هذا دليلا على اضطراب القرآن؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن الكريم من الخطأ والاضطراب.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الله – عز وجل – هو الملك وهو على كل شيء قدير.
2) المكر والمخادعة والإيذاء من صفات الضعفاء، ومن يخادع الله يخدع نفسه في الحقيقة.
3) الله تبارك وتعالى لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا، وإنما هم وحكمهم بيده.
4) أمر الله بالشيء يختلف عن إذنه بحدوثه.
5) إيذاء الله ورسوله ليس كإيذاء الإنسان للإنسان، وللعلماء آراء في تفسير معناه تنفي ما ذهب إليه هؤلاء المدعون.
التفصيل:
أولا. الله – عز وجل – هو الملك وهو على كل شيء قدير:
إن الله – عز وجل – إذا أراد أن يقضي أمرا قال له: كن فيكون. قال سبحانه وتعالى: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)( (يس)، وحكم الله – عز وجل – بأن له الملك وله الأمر وله الحكم، وحكم بأنه على كل شيء قدير، فهل خرج من تاريخ الناس من حاول أن يخرق هذه الأحكام؟! وحكم الله – عز وجل – بأنه له العزة ولرسوله وللمؤمنين، فهل كذبت هذه الحقيقة؟!
ثانيا. المكر والخديعة من العبد مع الله تقع على العبد نفسه فهو من باب المجاز وتسمية العقوبة باسم الذنب:
قال علماؤنا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: )يخادعون الله والذين آمنوا( (البقرة: ٩) معنى: يخادعون الله أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجعل خداعهم لرسوله خداعا له؛ لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنوا أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل الخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي. وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
فـقوله: )يخادعون الله( على هذا أي: يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله – سبحانه وتعالى – بالرياء، وكذا جاء مفسرا عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفي التنزيل: )يراءون الناس( (النساء: 142) وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: انخدع الضب في جحره.
وقوله سبحانه وتعالى: )وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون(9)( (البقرة) نفي وإيجاب، أي: ما تحل عاقبة الخداع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح؛ لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه، ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله؛ إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع[1].
أما الخداع من الله، فلا يعني أنه مثل خداعهم، ولكن هو مجازاتهم على خداعهم، فسمى العقوبة باسم الذنب والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قاله ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه وعلى هذا جاء القرآن والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: )ومكروا ومكر الله( (آل عمران: ٥٤)، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يمل حتى تملوا»[2]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا يسأم الله حتى تسأموا»[3]. ومثل هذا: الاستهزاء، والكيد، إذا أضيف إلى الله تعالى فلا يعني إلا الانتقام والعقاب والمجازاة على أعمالهم[4].
ثالثا. الله – سبحانه وتعالى – لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا، وإنما هم وحكمهم بيده:
أما استدلال هؤلاء على قدرة الله بقوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة( (النحل: ٩٣)، فليس صحيحا؛ فسبحانه يعلم أنه بقوته رضي وجود الخلاف، والملك في الدنيا يخيفه أن يختلف أتباعه؛ لأنه لا يعرف كيف يسوسهم، أما لو كانوا فريقا واحدا فتسهل قيادته لهم.
أما ربنا تبارك وتعالى، فلأنه لا يعنيه أن يتفق الناس أو يختلفوا – وإنما أمرهم وحكمهم بيده – شاء ألا يكونوا أمة واحدة، وقد عبرت الآية بـ “لو” التي تفيد الامتناع للامتناع، فامتنعت الوحدة بين الناس جميعا؛ لأنه لم يشأ.
رابعا. أمر الله بالشيء يختلف عن إذنه بحدوثه:
لو فهم هؤلاء المقصود من قوله عز وجل: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة(، لعرفوا أن الله يأمر بما يشاء، ويأذن أن يقع في ملكه ما قدره، فبهذا يبلو إيمان الناس، وقد طلب من الناس الإيمان، وكتب على الكافرين الكفر وإن لم يرضه منهم، لكن الكافرين كفروا لا رغما عن الله؛ ولكن لأن الله لم يشأ لهم الإيمان؛ لعلمه المحيط بأنهم سيستحبون العمى على الهدى.
يقول المفسرون في قوله سبحانه وتعالى: )ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة(، أي: جعل الناس “أمة واحدة” متفقة على الإسلام، )ولكن( لا يشاء ذلك رعاية للحكمة، بل )يضل من يشاء( إضلاله بأن يخلق فيه الضلال فيما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها، )ولتسألن( جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استعلام، )عما كنتم تعملون (93)( (النحل)، تستمرون على عمله في الدنيا، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لإسلام الخلق كلهم ما وقعت، وأنه سبحانه شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر، وتصديق وتكذيب، ووقع الأمر كما شاء الله عز وجل.
وذكر الزمخشري أن المعنى: لو شاء على طريقة الإلجاء[5] والقسر[6] لجعلكم أمة واحدة مسلمة، فإنه سبحانه قادر على ذلك، لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه، ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه سيختار الإيمان، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب.
ومما يدعم ما سبق ذكره، أنه لما كلف سبحانه بني إسرائيل بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنه سبحانه بحكمته الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء[7].
خامسا. إيذاء الله ورسوله ليس كإيذاء الإنسان لغيره من بني البشر:
أما عن مسألة إيذاء الله وإيذاء الرسول، فقد ذكر عقبه أمرين: اللعن، والتعذيب، فاللعن جزاء الله؛ لأن من آذى الملك يبعده عن بابه إذا كان لا يأمر بعذابه، والتعذيب جزاء إيذاء الرسول؛ ولا يقال هذا من يؤذي الله ولا يؤذي الرسول لا يعذب؛ لأنا نقول: إن انفكاك أحدهما عن الآخر محال من هذا الوجه؛ لأن من آذى الله فقد آذى الرسول، وأما على الوجه الآخر، وهو أن من يؤذي النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يؤذي الله كمن عصى من غير إشراك، وكمن فسق أو فجر من غير ارتداد وكفر، فقد آذى النبي – صلى الله عليه وسلم -، غير أن الله – سبحانه وتعالى – صبور غفور رحيم فيجزيه بالعذاب ولا يلعنه.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يؤذون الله ورسوله( (الأحزاب: ٥٧) فالمراد بالإيذاء: إما ارتكاب ما لا يرضاه من الكفر وكبائر المعاصي، ويكون الكلام على سبيل المجاز؛ لأنه سبب أو لازم له. وقيل في إيذائه تعالى: هو قول اليهود والنصارى والمشركين: “يد الله مغلولة، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فالأمر ليس كما ظن هؤلاء الزاعمون؛ أنه لو كان بالله حول وقوة لاستطاع أن يدفع الإيذاء عن نفسه، ولما قدر أحد أن يؤذيه.
كما يجوز كون الإيذاء على حقيقته، والكلام على حذف مضاف: أن يؤذي أولياء الله ورسوله. وقيل: يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى، والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم [8].
الخلاصة:
أثبت الله – عز وجل – لنفسه من الصفات التي تليق به، فهو سيد الكون وهو على كل شيء قدير، وإليه يرجع كل ما في السماوات وما في الأرض، ومن بين هذه الصفات صفة القدرة المطلقة على كل شيء، فلا يعجزه شيء مهما كان شأنه.
خداع المنافقين الله – عز وجل – ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – ليس على سبيل الحقيقة، بل على سبيل المجاز، ومعنى يخادعون الله: يظنون أن حيلهم تنفع مع الله تعالى، بالطبع لا، فهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ لأن الله – عز وجل – لا يخدع مثل البشر.
لا يقع شيء في الكون دون علم الله – عز وجل -، به، فهو يأمر بما يشاء، ويأذن أن يقع في ملكه ما يريد، فهو الذي كتب للمسلم الإيمان، هو الذي كتب على الكافر العصيان؛ لعلمه المسبق بعدم اتباعه سبيل الحق.
اختلف المفسرون حول المقصود بإيذاء الله ورسوله، فمنهم من قال: ارتكاب ما حرم الله ورسوله. ومنهم من قال: إن في الآية حذفا، والأصل: يؤذون أولياء الله ورسوله ومنهم من قال: إن الإيذاء في حق الله – عز وجل – على المجاز، وفي حق رسول الله على الحقيقة، وبناء على هذه التفسيرات – وغيرها – يبطل زعم هؤلاء بنفي العصمة عن القرآن الكريم.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. أسئلة بلا أجوبة، صموئيل عبد المسيح، موقع الكلمة. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص195، 196.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب صوم شعبان (1869)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب صيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير رمضان (2779).
[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نفس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (1869).
[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج1، ص207، 208 بتصرف.
[5]. الإلجاء: الاضطرار.
[6]. القسر: القهر.
[7]. انظر: روح المعاني، الألوسي، دار إحياء التراث، بيوت، عند تفسير الآية.
[8]. انظر تفاسير: روح المعاني، الألوسي. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مطابع النصر الحديثة، الرياض، 1954م. الكشاف، الزمخشري، دار الفكر، بيروت، 1397هـ/ 1997م. مفاتيح الغيب، الرازي، المطبعة البهية المصرية، القاهرة، 1301هـ، عند تفسير الآية.
توهم تناقض القرآن بشأن المفاضلة بين الرجل والمرأة
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين وقوع التناقض في القرآن الكريم بشأن تفضيل الرجل على المرأة والمساواة بينهما، ويستدلون على توهمهم هذا بـقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها( (النساء: ١)، وقوله سبحانه وتعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة( (الروم: ٢١)، وقوله سبحانه وتعالى: )والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة( (النحل: ٧٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم( (النساء: ٣٤).
ويتساءلون: كيف يقرر القرآن في مواضع متعددة مساواة الرجل بالمرأة، وأنهما خلقا من نفس واحدة، ثم يقرر في مواضع أخرى أفضلية الرجل على المرأة، وحقه في ضربها وهجرها؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن الكريم وأحكامه.
وجوه إبطال الشبهة:
1) المرأة جزء من الرجل، وقد خلقها الله من نفس الرجل ليسكن إليها.
2) القرآن سوى بين المرأة والرجل في كافة الأمور إلا ما يقتضي اختلاف الطبيعة فيه غير ذلك، وهو قليل.
3) اشتراك المرأة مع الرجل في الميراث هو عدل وتسوية.
4) الإسلام جعل القوامة للرجل لأسباب فطرية وكسبية.
5) اختلاف وظيفة الرجل والمرأة وفقا لاختلاف طبيعة كل منهما.
التفصيل:
أولا. المرأة جزء من كيان الرجل، وقد خلقها الله ليسكن الرجل إليها:
حواء زوج آدم – عليه السلام -، وهوأول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأة، روي أنه لما انتبه قيل له: من هذه؟ قال: امرأة، قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. وقال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: “ولما أسكن آدم الجنة مشى فيها متوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصري من شقه الأيسر؛ ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي”[1].
وهو معنى قوله: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها( (النساء: ١)، الله – عز وجل – جعل حواء من طبيعة آدم؛ ليكون ذلك أدعى للانسجام والتآلف والتآنس بينهما[2].
ثانيا. تسوية القرآن بين الرجل والمرأة في معظم الأمور إلا ما اقتضى خلاف ذلك؛ لاختلاف الطبيعة:
لقد سوى القرآن الكريم بين الرجل والمرأة في أمور كثيرة، أوجزها د. وهبي سليمان في نقاط منها:
المساواة في الإنسانية: جاء الإسلام ليقرر المساواة الكاملة في الإنسانية بين الرجل والمرأة، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها( (النساء: ١)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق[3] الرجال»[4]. فالرجال كلهم أولاد نساء ورجال، والنساء كلهن بنات رجال ونساء. وكل منهما خلق على فطرة الخير، وهداه الله تعالى النجدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه»[5].
2.المساواة في الخلقة: جاء الإسلام ليقرر أن نفس الرجل والمرأة سواء، يسمو بها إيمان وخلق قويم، ويتضع [6]بها كفر وانحراف، قال سبحانه وتعالى: )ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10)( (الشمس)، وبعض الفروق الجسمية بين الرجل والمرأة لا تؤثر على النفس الواحدة، وهي الأصل كما قال الشاعر:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
3.المساواة في الكرامة الإنسانية: جاء الإسلام ليقرر المساواة بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية، فحرم وأد البنت خوف العار، وحرم قتل الصبي خوف الفقر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أي الذنب أعظم؟ قال: “أن تجعل لله ندا وقد خلقك”، قيل: ثم أي؟ قال: “أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك”، قيل: ثم أي؟ قال: تزاني حليلة جارك»[7].
وقال سبحانه وتعالى: )وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلت (9)( (التكوير)، وقرر الفقهاء أن الرجل يقتل بقتل المرأة عمدا دون شبهة كما يقتل بقتل الرجل على مثل ذلك.
المساواة في الإيمان بالله تعالى والتكاليف الشرعية والجزاء على ذلك: جاء الإسلام ليقرر المساواة بين الرجل والمرأة في الإيمان والعمل والجزاء على ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: )إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)( (الأحزاب)، فالمرأة مخلوق مستقل من حيث المسئولية عن العمل كما أن الرجل كذلك، وكل مكلف استقلالا بتكاليف الشريعة – إلا ما استثنى من أحدهما – وله أجره على قيامه بما أمر الله تعالى دون مضاعفة الأجر لأحدهما دون الآخر، وعليه وزره على إقدامه على معصية الله تعالى دون تسجيل الذنب لأحدهما دون الآخر: )فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة).
المساواة في العلم الواجب العيني والكفائي منه: جاء الإسلام يحض على تعليم المرأة وتعليم الرجل سواء بسواء، فالمرأة مكلفة بالإيمان بالله تعالى وما جاء من عنده، ومكلفة بطاعة الله تعالى في فعل أمره واجتناب نواهيه، ولا يكون ذلك منها إلا بالعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وأيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها وأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران»[8]. ولقد كانت المرأة تحضر الصلوات مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – متسترة غير متبرجة بزينة، وتحضر دروسه وعظاته، تسمع خطبه في الجمع والعيدين، ولئن كانت زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تلقين عنه الكثير من فهم القرآن وأحكامه، وكثيرا من حديثه، وقوله وفعله، فلقد كلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أم الشفاء أن تعلم بعض نسائه الكتابة، ولقد أقبلت المرأة المسلمة على العلم منذ أكرمها الله تعالى بالإسلام، فكثيرة تلك الأحاديث التي روتها أمهات المؤمنين عنه – صلى الله عليه وسلم -، كثيرة تلك الأقوال المنسوبة إليهن في التفسير والفقه والحديث، وكثيرات هن النساء اللاتي حفظن كتاب الله تعالى أو حفظن أكثره، وحفظن الكثير من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكن يحدثن الرجال من وراء حجاب.
المساواة في التربية والتهذيب: جاء الإسلام يحض على تربية البنات وتهذيبهن، كما يحض على تربية البنين وتهذيبهم، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا( (التحريم: ٦)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم له بنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما، إلا أدخلتاه الجنة»[9].
المساواة في الأخلاق من طهارة القلب والقصد واللسان والجوارح: جاء الإسلام يحض المرأة على كمال الأخلاق كما يحض الرجل سواء بسواء؛ لأن المجتمع عنصراه: الرجل والمرأة، وحين غارت عائشة – رضي الله عنها – وقالت في صفية بنت حيي: «حسبك من صفية أنها كذا، تعني: قصيرة، قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم -: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»[10]. فالمرأة مسئولة كالرجل عن قلبها من حيث: الإيمان والنفاق، أو الإخلاص والرياء، وعن لسانها من حيث: الصدق والكذب، وحفظ اللسان، أو التهجم على أعراض الناس به، ومن حيث: الطاعة والمعصية، والوقوف عند حدود الله أو مجاوزتها إلى ما نهى الله عنه.
المساواة في العقوبات المحددة وغير المحددة: لما كانت المرأة مثل الرجل من حيث التكاليف الشرعية، فقد أصبحت في الإسلام مثل الرجل في تحمل مسئولية نفسها في العقيدة والقول والفعل، والإسلام يقوم على كليات خمس هي عموم ما جاء فيه، وما سواها روادف[11] لها ومؤيدات، أو حدود لحمايتها وقيود، وقد فرض الله تعالى عقوبات محددة، وتسمى “حدودا” على من يعتدي على كلية من تلك الكليات، رجلا كان المعتدي أو امرأة، وجعل عقوبة العدوان على غير حدود تلك الكليات إلى رأي الدولة وحكمها، وهي: كالغش في المعاملات، وشهادة الزور، وهي عقوبات تتبدل بتبدل المصلحة في رأي الدولة، وتسمى “تعازير”. وتلك الكليات الخمس هي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال.
المساواة في العمل بالإسلام والعيش به بما يتفق مع خلقتها ووظيفتها في الحياة: ولما كانت المرأة مكلفة بالإيمان بالإسلام، فهي مثل الرجل مكلفة بحفظ الإسلام والعمل به والدعوة إليه، فكان أول من أسلم امرأة، وهي خديجة – رضي الله عنها – التي عملت على حفظ الإسلام حين شدت من أزر النبي – صلى الله عليه وسلم – لما حدثها بالوحي.
وكان أول من قتل في الإسلام ياسر وزوجه سمية، وهناك أمثلة كثيرة منثورة في كتب السيرة تدل جميعها على أن المرأة المسلمة جاهدت في سبيل حفظ الإسلام في قلبها والعيش به، وتبليغه للناس؛ وذلك لأن الإسلام دين الله تعالى، والرجل والمرأة من عباد الله تعالى.
المساواة في الإقرارات والعقود والتصرفات: جاء الإسلام ليقرر المساواة بين الرجل والمرأة في الإقرارات على التصرفات القولية والمالية مثل: التبرع، والصدقة، والدين، والوقف، والبيع والشراء، والوكالة، والكفالة، والقتل، والسرقة… إلخ، لا فرق في شيء من هذه التصرفات بين الرجل والمرأة، فعن أبي شريح – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة»[12]. ومعنى الحرج: أي الإثم لمن ضيع حقهما[13].
وبهذا البيان يتضح لنا أن الإسلام قد قرر مبدأ التسوية بين الرجل والمرأة على أوسع نطاق، مما كان غائبا – بل مختفيا – عند الأديان أو الكتب التي حرفت، مما يدعونا إلى الاعتراف بمدى تسوية الإسلام والقرآن بين الرجل والمرأة ومدى تكريمها قياسا على وضعها المهين لدى الآخرين في غير دين الإسلام.
ثالثا. اشتراك المرأة مع الرجل في حق الإرث هو عدل وتسوية:
وضح العلماء حكمة تقسيم التركة وتوزيع الأنصباء على الذكور والإناث فقالوا: إن اشتراك المرأة مع الرجل في حق الإرث من المتوفى هو عدل وتسوية، بعد أن كانت محرومة تماما في الشرائع والقوانين غير الإسلامية، وحكمة تميز الرجل عليها: أنه يتحمل تبعات الأسرة بحكم رياسته عليها، حتى لو كانت الزوجة غنية، فإن نفقتها على زوجها، على أنه قد توجد صور تتساوى فيها المرأة مع الرجل في الميراث، بل قد تفوقه: كالبنت مع الأعمام، فلها النصف، ولجميع الأعمام النصف الآخر، ولم يتميز الرجل على المرأة إلا في حالة واحدة وهي: أن يكون أخا لها ويرث معها بالتعصيب.
إن الإسلام حين جعل المرأة على النصف من الرجل في الميراث في مثل هذه الحالة، سلك طريقا عادلا، يتبين من الإشارة إلى وضع المرأة في الشرائع الأخرى من هذه الجهة، فقد كان الميراث عند قدماء اليونان والرومان لمن يصلح للقيام بشئون الأسرة ومباشرة الحروب، وللمورث أن يختار في حياته من يقوم مقامه في الحقوق القومية ورياسة الأسرة، سواء أكان من أبنائه، أم من أقاربه، أم من الأجانب، وقبيل ظهور الإسلام أشركوا المرأة مع الرجل في الميراث على التساوي بينهما.
واليهود كانوا يخصون الولد الذكر بالميراث دون البنت، وإن تعدد الأبناء الذكور ورث الابن الأكبر دون الباقين، فقد جاء في سفر التثنية: “إذا كان لرجل امرأتان، إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدتا له بنين، المحبوبة والمكروهة. فإن كان الابن البكر للمكروهة، فيوم يقسم لبنيه ما كان له، لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة بكرا على ابن المكروهة البكر، بل يعرف ابن المكروهة بكرا ليعطيه نصيب اثنين من كل ما يوجد عنده؛ لأنه هو أول قدرته. له حق البكورية”. (التثنية 21: 15 – 17).
والإسلام لم يحرم المرأة من الميراث، سواء أكانت من أصول المتوفى، أم من فروعه، أم مـن حـواشيـه، وسـواء أكانت ترتبط به برابطة الدم، أم برابطة المصاهرة (الزواج)، ولم ينظر إلى كون الوارث يستطيع القيام بمهام رب الأسرة أو لا يستطيع، ففي ذلك ظلم وحرمان لها من خير من تتصل بهم، غير أنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين في حالة الإخوة الذين يرثون بالتعصيب؛ لأنهم في حالات كثيرة يشاركون في تكوين هذه الثروة، كما أنهم بمجهودهم يحافظون عليها من الضياع، وهم أيضا مصدر تنميتها وزيادتها، ولأن الرجل هو الذي يعول الأسرة بما فيها المرأة التي لا يمس نصيبها المفروض لها بسوء، فالتسوية بينهما ليست من العدل، فالمرأة في الإسلام دائما معالة ونفقتها واجبة على الأب حتى تتزوج وعلى الزوج بعد ذلك، فإن مات زوجها فنفقتها واجبة على أولادها حتى تموت، كما أن حرمانها أصلا ليس من العدل، فقد تكون المرأة غير ذات زوج لينفق عليها فتكتفي بما ورثته من الميت[14].
رابعا. الإسلام جعل القوامة للرجل لأسباب فطرية وكسبية:
جعل الله تعالى القوامة في جملة الرجال لا في آحادهم؛ لأن الغالب أنهم أفضل في التدبير والرأي وطلب المعاش من النساء في أحوال كثيرة، وأنهم الذين يتولون الإنفاق، والله تعالى جعلهم بهذا الوصف في مقابلة أنه جعل النساء حافظات للغيب على الرجال مؤتمنات على ما يتصل بتدبير المنزل، فلكل فريق في ذلك من الحظ ما ليس للآخر، والمراد بالقوامة، كما قال الإمام محمد عبده في تفسيره: هو الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرءوس مقهورا مسلوب الإرادة، لا يعمل عملا إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيما على الآخر هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه، أي: ملاحظته في أعماله وتربيته، ومنها: حفظ المنزل وعدم مفارقته.
والمراد بتفضيل بعضهم على بعض في قوله سبحانه وتعالى: )الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض( (النساء: ٣٤). هو تفضيل الرجال على النساء، والحكمة في هذا التعبير هي عين الحكمة في قوله: )ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض( (النساء: ٣٢)، وهي إفادة أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من بدن الشخص الواحد، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، وما به الفضل قسمان: فطري، وكسبي، فالفطري: هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل وأتم، والكسبي: هو أن الرجل أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور، والزوج – كما عبر بعض الكتاب – أشبه بربان السفينة يمخر[15] بها عباب[16] الحياة الزوجية، بأمواج مشكلاتها وأغوار[17] مفاجآتها، ولو قدر لهذه السفينة السير في مياه ساكنة وأمواج هادئة، كسب الربان هذه الفرصة كثيرا، وتقدمت سفينته إلى الأمام في أمان يجعله يقطع من المسافات في طريق السعادة الزوجية ما لا يستطيعه لو هاج البحر وتلاطمت أمواجه وثار غضبه، تلك الحالة التي تقلق الربان وتشوش عليه فكره، وتتطلب منه حزما ويقظة؛ ليحتفظ بتوازن السفينة، وينجو من خطر محقق على الأقل، فوق ما ضاع منه من تقدم إلى الأمام[18].
وبهذا العرض اتضح لنا أن الضرورة تقتضي أن يكون هناك قيم توكل إليه الإدارة العامة لهذه الشركة القائمة بين الرجل والمرأة، وما ينتج عنها من نسل، وقد اهتدى الناس في كل تنظيماتهم إلى أنه لا بد من رئيس مسئول، وإلا ضربت الفوضى أطنابها[19]، والرجل بما يحتوي كيانه من قدرة على الصراع، واحتمال أعصابه لنتائجه وتبعاته، فهو أصلح من المرأة في أمر القوامة على البيت، بل المرأة ذاتها لا تحترم الرجل الذي تسيره فيخضع لرغباتها، بل تحتقره بفطرتها ولا تقيم له أي اعتبار.
خامسا. اختلاف وظيفة الرجل والمرأة وفقا لاختلاف الطبيعة البيولوجية لكل منهما:
تختلف وظيفة الرجل عن وظيفة المرأة وفقا لطبيعة كل منهما، ومن ثم ظن بعض الزاعمين أن هذا ضد المساواة، ولكن الأمر على عكس ما ذهبوا إليه، ويجلي محمد قطب هذه الحقيقة فيقول: إن المساواة في الإنسانية أمر طبيعي ومطلب معقول، فالرجل والمرأة هما شقا الإنسانية وشقا النفس الواحدة، أما وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟! هل في وسع أحد أن يبدل طبائع الأشياء فيجعل الرجل يشارك المرأة في الحمل والولادة والإرضاع؟
واختصاص أحد الجنسين بالحمل والرضاعة يستتبعه أن تكون مشاعر الجنس وعواطفه وأفكاره مهيأة بطريقة خاصة لاستقبال هذا الحادث الضخم، والتمشي مع مطالبه الدائمة، إن الأمومة بكل ما تحتويه من مشاعر نبيلة أو أعمال رقيقة، وصبر على الجهد المتواصل، ودقة متناهية في الملاحظة وفي الأداء، هي التكييف النفسي والعصبي والفكري، الذي يقابل التكييف الجسدي للحمل والإرضاع، فكلاهما متمم للآخر متناسق معه، بحيث يكون عجيبا أن يوجد أحد في غيبة الآخر، وهذه الرقة في العاطفة والانفعال السريع في الوجدان، والثورة القوية في المشاعر التي تجعل الجانب العاطفي – لا الفكري – هو المنبع المستعد أبدا بالفيض، المستجاش دائما بأول لمسة، فكل ذلك من مستلزمات الأمومة؛ لأن مطالب الأمومة لا تحتاج إلى التفكير الذي يسرع أو يبطئ، وقد يستجيب أو لا يستجيب، فهذا كله هو الوضع الصحيح للمرأة حين تؤدي وظيفتها الأصلية، وهدفها المرسوم.
والرجل من جانب آخر مكلف بصراع الحياة في الخارج، سواء كان هذا الصراع مجابهة الوحوش في الغابة، أو قوى الطبيعة في السماء والأرض، أو نظام الحكومة وقوانين الاقتصاد، وكل ذلك لاستخلاص القوت، ولحماية ذاته وزوجه وأولاده من العدوان. هذه الوظيفة لا تحتاج أن تكون العاطفة هي المنبع المستجاش[20]، بل ذلك يضرها ولا ينفعها، فالعاطفة تنقلب في لحظات من النقيض إلى النقيض.
لكن هذا ليس معناه الفصل الحاسم القاطع بين الجنسين، ولا معناه أن كلا منهما لا يصلح أي صلاحية لعمل الآخر، فإذا وجدت امرأة تصلح للحكم أو القضاء، أو حمل الأثقال، أو الحرب أو القتال، وإذا وجد رجل يصلح للطهي وإدارة المنزل، أو الإشراف الدقيق على الأطفال، أو الحنان الأنثوي، أو كان سريع التقلب بعواطفه ينتقل في لحظة من النقيض إلى النقيض، فكل ذلك أمر طبيعي ونتيجة صحيحة لاختلاط الجنسين في كيان بعضهما، ولكنه خلو من الدلالة المزيفة التي أراد أن يلصقها به شذاذ الآفاق في الغرب المنحل أو المشرق المتفكك[21].
الخلاصة:
ليس هناك أي وجه للتناقض بين آيات القرآن الكريم بشأن تفضيل الرجل على المرأة والمساواة بينهما، إذ إن الله – عز وجل – قرر أن المرأة جزء من كيان الرجل، خلقت من ضلعه، وخلقها الله – عز وجل – ليسكن الرجل إليها ويأنس بها.
سوى القرآن الكريم والإسلام العظيم بين الرجل والمرأة في أمور كثيرة منها: الحقوق الإنسانية، الخلقة، الإيمان والتكاليف الشرعية، التربية والتهذيب، العلم العيني والكفائي منه، الأخلاق من: طهارة القلب والقصد واللسان والجوارح، العقوبات المحددة فيها وغير المحددة من أجل: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال، وحفظ العرض، وحفظ الأمن، العمل بالإسلام والعيش به بما يتفق مع خلقتها ووظيفتها في الحياة، حق الميراث، الإقرارات والعقود والتصرفات… إلخ.
مجرد اشتراك المرأة مع الرجل في حق الإرث هو عدل وتسوية، فهو وسط بين من حرمها تماما من الشرائع والقوانين غير الإسلامية، وبين من أعطاها أكثر من حقها، وهذا من الظلم أيضا. وحكمة تميز الرجل عليها أنه يتحمل تبعات الأسرة بحكم رياسته.
الإسلام جعل القوامة للرجل لأسباب فطرية وكسبية، فالفطرية: هي أن مزاج الرجل أقوى وأكمل وأتم، والكسبي: هو أن الرجل أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور.
تختلف وظيفة الرجل والمرأة وفقا لاختلاف طبيعتهما، فاختصاص أحد الجنسين بالحمل والإرضاع يستتبعه أن تكون مشاعر هذا الجنس وعواطفه وأفكاره مهيأة بطريقة خاصة لاستقبال هذا الحدث، وهذه الرقة في العاطفة، والانفعال السريع في الوجدان، والثورة القوية في المشاعر التي تجعل الجانب العاطفي – لا الفكري – هو المستعد أبدا بالفيض المستجاش أبدا بأول لمسة، كل ذلك من مستلزمات الأمومة. والرجل من جانب آخر مكلف بصراع الحياة في الخارج لاستخلاص القوت، ولحماية ذاته وزوجه وأولاده من العدوان، وهذه الوظيفة تحتاج الفكر الغالب على العاطفة والمتأني في اتخاذ قراراته، الذي لا ينفعل سريعا وينقلب من النقيض إلى النقيض.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة، القاهرة، 2003م. نظرات شرعية في فكر منحرف، سليمان الخراشي، مكتبة التوحيد، القاهرة، ط1، 2007م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م ، ج1، ص301.
[2]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2003م، ج2، ص7.
[3]. الشقائق: جمع الشقيقة: وهي الأخت من الأب والأم، والشقيق: المثيل.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ (26238)، وأبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2333).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه (1293)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (6926).
[6]. يتضع: ينحط.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة البقرة (4207)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (267).
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها (4795)، وفي مواضع أخرى.
[9]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب بر الوالد والإحسان إلى البنات (3670)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر وثواب الأمراض والأعراض (2945)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1971).
[10]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4877)، والترمذي في سننه وكتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2502) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2834)
[11]. الروادف: التوابع، جمع رادف.
[12]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (9664)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأدب، باب حق اليتيم (3678)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1015).
[13]. المرأة المسلمة، وهبي سليمان غاوجي، دار القلم، دمشق، ط8، 1999م، ص32 وما بعدها.
[14]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2003م، ج2، ص491: 493.
[15]. يمخر: مخرت السفينة: جرت تشق الماء.
[16]. عباب الشيء: أوله أو معظمه.
[17]. أغوار: أسرار.
[18]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 2003م، ج3، ص24 بتصرف.
[19]. الأطناب: جمع الطنب، وهو الطرف أو الناحية.
[20]. المستجاش: المتدفق.
[21]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص116 وما بعدها.
توهم تناقض القرآن بشأن إيمان بعض الكافرين وعدم إيمانهم
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين وجود شيء من التناقض بين قوله سبحانه وتعالى: )ولا أنتم عابدون ما أعبد (3)( (الكافرون)، وقوله سبحانه وتعالى: )ومن هؤلاء من يؤمن به( (العنكبوت: ٤٧). ويتساءلون: كيف يقرر الله في الآية الأولى على لسان نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن الكافرين لا يعبدون الله، ولن يعبدوه على سبيل التأبيد، في حين تفيد الآية الثانية أن من الكافرين من يؤمن بالله بعد كفره؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن الكريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الخطاب في الآية الأولى لجنس الكفار وليس لأشخاص معينين.
2) وصفت الآية الكافرين بالجملة الاسمية التي تدل على الثبات، وقيل: إن كلمة “تعبدون” مع ما قبلها مصدرية تقديرها “عبادتكم”.
التفصيل:
أولا. الخطاب في الآية الأولى لجنس الكفار، وليس لأشخاص بعينهم:
فقوله عز وجل: )ولا أنتم عابدون ما أعبد (3)( (الكافرون)، يدل ظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا، مع أن المتأمل في الآية يجد أنه خطاب لجنس الكفار، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك؛ لأنهم – حينئذ – مؤمنون وليسوا كافرين، وإن كانوا منافقين، فهم كافرون في الباطن، فيتناولهم الخطاب.
ويرى بعض العلماء أن الآية من العام المخصوص، فالخطاب في خصوص الأشقياء، الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر، وهم المشار إليهم بقوله سبحانه وتعالى: )إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96)( (يونس) [1]، فليس الحكم منسحبا على المخاطبين جميعا، بل على فئة بعينها من الكفار.
فهؤلاء الذين لا يعبدون الله في المستقبل هم الذين حق عليهم قضاء الله وقدره، فإنهم يستمرون على الكفر ويموتون عليه، لا يقع منهم الإيمان بأي حال من الأحوال، فقد سبق عنهم في علم الله ذلك. أما غيرهم من الكفار، فاحتمال إيمانه وارد.
ثانيا. وصفت الآية الكافرين بالجملة الاسمية التي تدل على ثبات صفاتهم:
عبر القرآن على لسان النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجملة الأولى بقوله عز وجل: )لا أعبد ما تعبدون (2)( (الكافرون)، بالفعل المضارع – في كل من الفعلين – الدال على الحال، أي: لا أعبد ما تعبدون بالفعل، ثم قال: )ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عابدون ما أعبد (5)( (الكافرون)، فعبر عنهم بالجملة الاسمية، وعنه هو بالفعلية، أي: ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد، و بعد ذلك قال: )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)، فعبر عنه بأنه ليس متصفا بعبادة ما يعبدون، ولا هم عابدون ما يعبده، فكان وصفه هو – صلى الله عليه وسلم – في الجملتين بوصفين مختلفين؛ بالجملة الفعلية تارة، وبالجملة الاسمية تارة أخرى، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد.
أما هم فلم يوصفوا في الآية إلا بالجملة الاسمية التي تدل بطبيعتها على الثبات والاستقرار، أي: ثبات حال الكافرين، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل[2].
وبهذا البيان اتضح لنا أن الذي تتناوله الآية هو الكافر الثابت على كفره إلى يوم الدين، لا الكافرون عموما.
وقيل: إن “تعبدون” مع ما قبلها مصدرية، أي أن “ما” مصدرية بمعنى: لا أعبد عبادتكم الباطلة، ولا تعبدون عبادتي الصحيحة، ودليل ذلك من السورة قوله سبحانه وتعالى: )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)، فأحالهم على عبادتهم، ولم يحلهم على معبودهم. ومما تبين يتضح لنا أن المقصود بقوله: “تعبدون” إنما هو عبادتكم الباطلة، وليس بمعنى الفعل المضارع الذي من خصائصه التجدد والاستمرار.
الخلاصة:
ليس هناك تناقض بين آيات القرآن الكريم، ففي الموضع الأول يتناول الخطاب جنس الكفار بصفة عامة، وليس أشخاصا بعينهم، وقد يكون هذا الموضع من العام المخصوص، فالخطاب في خصوص الأشقياء الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر، أما غيرهم فإيمانه وارد في المستقبل.
ولم يكن فيما وصف به الكفار جملة فعليه من خصائصها التجدد والحدوث بل خوطبوا بالجملة الاسمية التي تصف الحال ولا تتناول المستقبل، وقيل لفظة “تعبدون” مع ما قبلها مصدرية، أي: “عبادتكم”.
(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص69 بتصرف. البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م، ص94.
[2]. أضواء البيان، الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م ، ج9، ص582، 583.
توهم تناقض القرآن بشأن حرية العقيدة والإكراه عليها
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغرضين تناقض القرآن في قوله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، وقوله سبحانه وتعالى: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: ٢٩)، مع قوله سبحانه وتعالى: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة)، ويتساءلون: كيف يقرر القرآن في الموضع الأول والثاني حرية الاعتقاد، وأنه لا إكراه في الدين، ثم يأمر في الموضع الثالث بإكراه الناس على الدين وقتال الذين لا يؤمنون به؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في القرآن الكريم ووصفه بالتناقض.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الموضع الأول نزل في الأنصار خاصة، ولكن حكمه شامل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2) الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه للعديد من الأسباب النبيلة.
3) شرع الإسلام الحرب والقتال لأهداف محددة ومشروعة، ولم تشرع لمجرد العدوان على الآخرين بدون وجه حق كما يدعي المبطلون.
التفصيل:
أولا. الموضع الأول نزل في الأنصار خاصة، ولكن حكمه شامل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
ورد عن سعيد بن جبير وغيره في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، أنه قال: نزلت في الأنصار خاصة؛ حيث كانت المرأة منهم إذا كانت مقلاتا[1] وولدت ولدا تنذر لتجعلنه في اليهود ملتمسة بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم من هؤلاء النسوة، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم!! فسكت عنهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنزلت: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “خيروا أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم، فأجلوهم معهم”[2]. ولكن حكمها عام شامل الخلق كافة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معروف في الأصول[3].
ثانيا. الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه لكثير من الأسباب:
الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه، وذلك يظهر جليا في العديد من الآيات الكريمة، كقوله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، وقوله سبحانه وتعالى: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)، وقوله سبحانه وتعالى: )فذكر إنما أنت مذكر (21)( (الغاشية).
وهناك العديد من الأسباب التي جعلت الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه، منها أن الإكراه:
يقهر النفس الإنسانية ويذلها.
يولد النفاق وينتج أفرادا يتربصون بالأمة ويسارعون إلى خيناتها وتحطيمها من الداخل.
يحطم الشخصية الإنسانية ويقتلها.
يورث في القلوب الأحقاد، ويزرع في النفوس الضغائن.
ينزع إلى النفور، ويرسخ في النفس ردود الفعل والانفجار حين تسنح الظروف.
يسيئ إلى سمعة الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.
يجعل عمل المرء المكره غير مقبول عند الله؛ لأنه سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا له، والمكره على الإيمان خوفا، لن يتوجه به إلى الله خالصا، وما كان كذلك من الإيمان فهو غير مقبول.
لهذا كله دعا الإسلام الناس إلى الدخول فيه عن إيمان وقناعة واختيار، وأعلن على مسامع الدنيا شعاره الثابت[4]:)لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦).
ثالثا. الإسلام شرع الحرب والقتال لأهداف محددة منها:
يشرح د. البوطي هذه الأسباب ذاكر منها:
الظلم والعدوان عن أرض الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
المحافظة على العهود والمواثيق، فإذا كان بين دولة الإسلام وإحدى الدول الأجنبية عهود أو مواثيق، وأخلت تلك الدولة بتلك العهود، كان ذلك مسوغا لقتالها لقوله سبحانه وتعالى: )وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12)( (التوبة)، ويفهم من هذه الآية أن المشركين إذا نقضوا عهدهم جاز قتالهم.
إزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية، فمن المعلوم أن دعوة الإسلام دعوة عالمية، وأن بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – للناس كافة، ومعنى هذا أنه يجب أن تصل إلى كل أمة وأن تدخل كل بلد، فكل من يقف في طريق الدعوة ويصد عن تبليغها من طواغيت متجبرين وحكام متألهين، يجب أن يزاحوا عن الطريق؛ حتى تصل الدعوة إلى الشعوب نقية صافية واضحة، والشعوب هي التي تقرر مصيرها: إن شاءت أن تدخل في الإسلام عن طواعية واختيار، وإن شاءت أن تبقى على دينها وتدفع الجزية إلى الدولة الإسلامية مقابل حمايتها من العدوان.
ومما يؤكد أن الهدف من القتال هو إزاحة الطواغيت والحكام المتألهين، موقف ربعي بن عامر” مع رستم قائد جيش الفرس حين تحداه، وقال: “إنما بعثنا من أجل أن نخرج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، ولو كان الإسلام يفرض وجوده واعتناقه بقوة السيف والإكراه لما قبل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الجزية من صاحب “أيلة” وهي بلدة بفلسطين تعرف الآن بإيلات، ومن أهل “جرباء”، ومن أهل “أذرح” بعد أن انسحبت أمامه جحافل[5] الروم يوم خرج لقتالهم يوم تبوك، فإن طبيعة النصر تدفع المرء إلى الظفر بأكبر قسط منه، ولكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبى أن يحارب أهل هذه البلاد لما وجد جنوحهم إلى السلم؛ امتثالا لقوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال) [6].
وتحت عنوان “شبهة آية السيف” كتب د. عبد الصبور مرزوق – مفندا هذه المقولات الظالمة في حق الإسلام، ومزيلا شبهة التناقض وحالة الالتباس المثارة في هذا الشأن – فقال: ” كثيرون من المبشرين والمستشرقين الظالمين للإسلام يقولون: إن الإسلام شرع القتال – الجهاد – لحمل الناس على الدخول فيه بالقوة، وإنه انتشر بحد السيف. ويستدلون بأن في القرآن آية تعارف المفسرون المسلمون على أن يسموها “آية السيف”، وأنها نسخت مائة وعشرين آية من القرآن تسمح أو تدعو إلى الرفق والمسالمة. وهنا تكون لنا وقفة:
فقد أشرنا من قبل إلى أن الواقع في بلاد الإسلام يؤكد أنه دخل وانتشر في بلاد لم تدخلها أي جيوش مسلمة ولا حدثت فيها أي معارك قتال. ومنطقة شرق وجنوب شرق آسيا كلها خير شاهد على ذلك وكذلك مناطق وسط أفريقيا وجنوبها الشرقي والغربي، فهذه شهادة الواقع على بطلان هذه المقولة.
ونعود إلى الآية التي سموها “آية السيف”، فقد قال بعضهم: إنها قوله سبحانه وتعالى: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)( (التوبة)، وواضح من منطوقها أنها تدعو المسلمين إلى التعامل مع أعدائهم بالمثل: كما يقاتلونكم فقاتلوهم كذلك. قالوا آخرون: إن هذه الآية هي قوله سبحانه وتعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)( (التوبة)، يقول د. يوسف القرضاوي: وهذه الآية نزلت في مشركي العرب الذين نكثوا العهد وأخرجوا المسلمين من ديارهم وبادروهم بالقتال. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13)( (التوبة).
ويضيف د. القرضاوي: وقبل هذه الآية نقرأ قوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4)( (التوبة)، ويأتي بعدها قوله سبحانه وتعالى: )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)( (التوبة)، فالسياق لا يتحدث عن أي عدوان ولا عن أي قتال، إلا مع الذين نقضوا العهد أو أعانوا الأعداء على قتال المسلمين، ولا أظن أحدا – مسلما أو غير مسلم – ينكر هذا الحق في مواجهة من ينقض العهد أو يساعد العدو، فشأنه في هذه الحالة شأن عدو تجب مواجهته.
ونعود إلى آية السيف – وما زلنا مع بحث د. القرضاوي – فقد قال آخرون: إن آية السيف هي قوله سبحانه وتعالى: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة)، وهذه الآية نزلت بعد غزوة تبوك، التي كانت في قتال مع دولة الروم البيزنطية، وواضح من قوله سبحانه وتعالى: )حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون( أن المراد: حتى لا يعودوا إلى قتالكم مرة أخرى، ويخضعوا للدولة الإسلامية ويدفعوا لها ضريبة حمايتهم.
على أن مما يوضح أن مقولة “آية السيف”، واعتبارها دليل إدانة للإسلام، هي في حقيقتها مقولة ظالمة وتهمة ساقطة، قوله سبحانه وتعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، وبعدها قوله سبحانه وتعالى: )وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال).
وخلاصة القول هي سقوط شبهة ومقولة: إن الإسلام دين السيف، أو إنه انتشر بحد السيف.
ومما تجدر الإشارة إليه أن في القرآن الكريم آيتين في سورة “الممتحنة” تشكلان إطارا عاما متوازنا يحدد علاقة المسلمين بغير المسلمين في رؤية أخلاقية منصفة لطرفي التعامل – مسلمين وغير مسلمين – جوهرها: نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا. والآيتان هما قوله سبحانه وتعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، وأعتقد أنكم ترون – كما أرى – أن هذا الضابط الأخلاقي والإنساني العادل والمتوازن الذي حددته الآيتان السابقتان أعظم شاهد على إنصاف الإسلام لنفسه وللآخرين، لا يرفضه إلا من يكون العدوان بعض طباعهم فيعتدون ويعتدون، فإذا قام المعتدى عليهم برد هذا العدوان صرخوا: هذا إرهابي يمارس الإرهاب، ومن حقنا أن نسحقه ونسقي الأرض من دمه؟!
ألا ترون معي أن الإسلام في تعامله مع الآخرين عادل ومنصف وعظيم، وأنه يحفظ ويرعى حقوق الآخرين، ولا يفرط كذلك في حقه وحق أتباعه، ومعياره في كل ذلك هو رعاية الحق والعدل[7].
الخلاصة:
ليس هناك أي وجه للتناقض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء على زعمهم، معنا وذلك للآتي:
المقصود بالموضع الأول أنه خصوصية للأنصار؛ لأنه كان من أبنائهم وإخوانهم من يعيش بين اليهود؛ ملتمسين بذلك طول بقائه، فلما اعتنقوا الإسلام، أرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك، ونزلت الآية: )لا إكراه في الدين( ورغم ذلك، فإن الآية تنطبق على كافة الخلق؛ لأن حكمها عام وشامل؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
الإسلام لم يكره أحدا على الدخول فيه لأسباب عديدة، منها أن الإكراه:
– يقهر النفس الإنسانية ويذلها.
– يحطم الشخصية الإنسانية ويقتلها.
– يورث في القلوب الأحقاد.
– يجعل إيمان المرء المكره غير مقبول عند الله.
– يزرع النفاق في المجتمع وينتج أفرادا متربصين خونة.
– يسيئ إلى سمعة الدعوة الإسلامية.
– يرسخ في النفس ردود الفعل والانفجارحين تسنح الظروف.
الإسلام شرع الحرب والقتال لأهداف محددة منها:
– رد الظلم والعدوان عن أرض الإسلام.
– المحافظة على العهود والمواثيق.
– إزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية.
(*) الرد على كتاب “أخطاء إلهية في القرآن الكريم”، مجمع البحوث الإسلامية، دار السعادة، القاهرة، 2003م.
[1]. المقلات: هي المرأة التي لا يعيش لها ولد.
[2]. أخرجه الطبري في تفسيره (5/ 409)، تفسير سورة البقرة، آية (256)، برقم (5818)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (6339).
[3]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص27، 28 بتصرف.
[4]. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، مصر ، ط4، 1424هـ/ 2004م، ص31: 33.
[5]. الجحافل: جمع الجحفل، وهو الجيش الكبير.
[6]. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، د. عبد الله ناصح علوان، دار السلام، مصر، ط4، 1424هـ/ 2004م، ص43: 49 بتصرف.
[7]. رسائل إلى عقل الغرب وضميره، د. عبد الصبور مرزوق، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 2006م، ص253: 256.
توهم تناقض القرآن بشأن مصير من اتخذ غير الإسلام دينا
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تناقضا بين قوله سبحانه وتعالى: )وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة( (آل عمران: ٥٥)، وقوله سبحانه وتعالى: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه( (آل عمران: ٨٥). ويتساءلون: كيف يمدح الله الذين اتبعوا عيسى – وهم النصارى – في موضع، مقررا أنه سيجعلهم فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم يثبت في موضع آخر أن من يتخذ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى ادعاء أن القرآن الكريم من صنع البشر.
وجها إبطال الشبهة:
1) الإسلام توحيد الله، وعقيدته عقيدة كل الأنبياء، وشريعة ختمت بها الشرائع السماوية، فوجب على كل أتباع الرسالات السابقة اتباعها.
2) من آمن بعيسى – عليه السلام – واتبعه فهو مسلم، فإذا بعث محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يسعه إلا اتباعه.
التفصيل:
أولا. الإسلام هو دين التوحيد، وعقيدة كل الأنبياء، وشريعة ختمت بها الشرائع السماوية، فوجب على كل أتباع الرسل السابقين اتباعها:
الإسلام هو إخلاص الدين لله بالتوحيد، وهو إسلام الوجه لله تعالى، فلن يقبل الله من أحد دينا غير الإسلام، وهو في الآخرة من الذين وقعوا في الخسران مطلقا قال عز وجــل: )ومن يبتغ غير الإســلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخــرة مــن الخاسريــن (85)( (آل عمران)، فقد رفض الله – سبحانه وتعالى – دين من أراد دينا سوى دين الله، ذلك الدين الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادته وحده لا شريك له، والذي استسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرها، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع[1].
فالإسلام بوصفه عقيدة هو دين جميع الأنبياء والمرسلين قال سبحانه وتعالى: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19)، وقال عن إبراهيم: )وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل( (الحج: ٧٨)، وقال سبحانه وتعالى: )ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)( (البقرة)، وقال سبحانــه وتعالــى: )قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن لــه مسلمــون (136)( (البقرة).
أما الإسلام كشريعة – قواعد وأحكام وآداب -، فقد حوى بعض مضامين شرائع الرسالات السابقة وخالفها في بعض آخر، وهو – بهذا المفهوم – الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد – صلى الله عليه وسلم -، ووجب على الخلق أجمعين من يوم أن تصلهم دعوته أن يؤمنوا به ويطرحوا ما هم عليه من شرائع ومذاهب، وبالتالي فلن يقبل منهم بعد بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – سوى الإيمان برسالته – الإسلام – عقيدة وشريعة، ومن ابتغى غيره باء بالخسران المبين.
فكل من آمن بنبيه وأطاعه فله الجنة، وأما بعد بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد نسخت شريعته الشرائع ونسخ دينه الأديان، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فهذا معنى الآية الأخرى.
ويؤيد ذلك ما جاء عن سلمان أنه قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة)[2]، وقال السدي: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة) نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينما هو يحدث النبي إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله: “يا سلمان، هم من أهل النار”، فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية[3].
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى – عليه السلام – حتى جاء عيسى، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكا، وإيمان النصارى: أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد، فمن لم يتبع محمدا منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا.
وهذا لا ينافي ما جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس)إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)( (البقرة)، فأنزل الله بعد ذلك: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)( (آل عمران)، فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا، إلا ما كان موافقا لشريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد أن بعثه به، فأما قبل ذلك، فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة؛ فاليهود: هم أتباع موسى – عليه السلام – الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم[4]، فلما بعث عيسى وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، فلما بعث الله محمدا خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقا.
ومن النصوص الصريحة في هذا الباب حديث أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»[5].
ثانيا. من آمن بعيسى – عليه السلام – واتبعه فهو مسلم، فإذا بعث محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يسعه إلا اتباعه:
في الآية: )وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة( (آل عمران: ٥٥)، يقول الله – سبحانه وتعالى – لعيسى ابن مريم: إنني ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة، وقيل: إن النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق أو غرب، فهم – أي اليهود – في كل بلد مستذلون، وقيل: إن عيسى مرفوع عند الله، ثم ينزل قبل يوم القيامة، فمن صدق عيسى ومحمد – عليهما السلام – وكان على دينهما، لم يزالوا ظاهرين على من فارقهم إلى يوم القيامة[6].
وذكر أنه لما تأكد لعيسى – عليه السلام – عناد بني إسرائيل وإصرارهم على الكفر، أراد أن يميز بين أنصاره الذين آمنوا به من الكافرين، فقال لهم: من منكم ينصر دين الله، ويساعدني على تبليغ ما أمرت به؟ فقال أصفياؤه وخلصاؤه – وكانوا اثني عشر رجلا، وهم الحواريون -: نحن أنصار الله المخلصون لدعوته والمؤمنون بما جئت به، فاشهد بذلك لنا يوم القيامة، ثم توجهوا إلى الله أن يكتبهم مع الذين شهدوا بوحدانيته، وأقروا بربوبيته، واتبعوا رسول الله، قال سبحانه وتعالى: )فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52)( (آل عمران)، وقد دعا الله أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – أن ينصروا دين الله، كما فعل الحواريون، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (14)( (الصف).
فأمر هؤلاء الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله عيسى – عليه السلام -، فقالوا: آمنا، واشهد بأنا مسلمون لك واشهد يا عيسى بأننا مسلمون لله، قال سبحانه وتعالى: )وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون (111)( (المائدة) [7].
وقيل: إن المراد من قوله سبحانه وتعالى: )وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة( (آل عمران: ٥٥)، أنه جاعلهم فوقهم في كثير من مصالح الدنيا؛ لأن ذلك يصح الاشتراك فيه، دون ما يتصل بأمر الآخرة لأن ذلك مما لا يصح الاشتراك فيه بين المسلم والكافر، ولذلك قال: )ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55)( (آل عمران) [8]. أي يوم القيامة، وقد قال عز وجل: )ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)( (النساء)، فهذا في معنى تفضيل المؤمنين على الكافرين.
الخلاصة:
لا تعارض بين الآيتين؛ إذ الإسلام هو إخلاص الدين لله بالتوحيد، وإسلام الوجه لله – سبحانه وتعالى – هو دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادته وحده لا شريك له، فالإسلام عقيدة، وهو استمرار لعقيدة التوحيد التي تتابع بها الرسل من آدم إلى محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
أما الإسلام شريعة، فقد وافق بعض الشرائع السابقة في بعض الأحكام وخالفها في بعض آخر، وواجب على الخلق أجمعين أن يؤمنوا برسالة الإسلام عقيدة وشريعة – كما جاء بها محمد – صلى الله عليه وسلم – ويدعوا غيرها، ومن ابتغى غير ذلك خاب وخسر.
الذين اتبعوا عيسى – عليه السلام – على فطرته وسنته هم من أهل الإسلام، وهم الذين ناصروه وآزروه، وهم الذين يصدقون عيسى ومحمدا – عليهما الصلاة والسلام – بعد نزول عيسى من السماء، وهم الحواريون المخلصون لدعوته والمؤمنون بما جاء به.
وقيل: إن المراد أن الله جعل الذين اتبعوا عيسى فوق الذين كفروا في كثير من مصالح الدنيا.
(*) موقع المتنصرين. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي. موقع إسلاميات.
[1]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م، ج1, ص378.
[2]. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 165)، تفسير سورة البقرة، رقم (633).
[3]. أخرجه ابن ابي حاتم في تفسيره (1/ 166)، تفسير سورة البقرة، رقم (635).
[4]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/1980م، ج1، ص248.
[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع الناس (403).
[6]. انظر: الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1983م، ج2، ص227.
[7]. دراسات في القرآن الكريم، د. محمد عبد السلام أبو النيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1987م، ص218، 219.
[8]. تنزيه القرآن عن المطاعن، القاضي عبد الجبار، تحقيق: د. أحمد عبد الرحيم السايح، المستشار توفيق علي وهبة، مكتبة النافذة، القاهرة، ط1، 2006م، ص86، 87.
توهم تناقض القرآن حول تبديل كلمات الله
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المغالطين وجود تناقض بين قوله سبحانه وتعالى: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: ٦٤)، وأيضا قوله سبحانه وتعالى: )لا مبدل لكلماته( (الكهف: ٢٧)، وقوله سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر( (النحل: ١٠١). ويتساءلون: كيف ينفي الله تبديل كلماته في موضع، ثم يقر هذا التبديل في موضع آخر؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى النيل من القرآن الكريم والطعن في عصمته.
وجوه إبطال الشبهة:
1) معنى )لكلمات الله(: سنته، وقوانينه الكونية، وقضاؤه بين المخلوقات.
2) المقصود “بالآية”: هي الآية القرآنية، وليست الآية الكونية.
3) المراد بالتبديل: هو تبديل الأحكام التي نزلت بها الآيات مع بقاء رسمها في المصحف.
التفصيل:
في واقع الأمر لا يوجد أدنى تناقض بين آيات الذكر الحكيم، ولو وجد مثل ذلك لما سكت عنه مشركو مكة، منذ نحو ألف وأربعمائة عام، وهم أهل البلاغة والفصاحة، ولم ينتظروا كل هذا الوقت حتى يأتي من ليس له أدنى حظ من تعلم العربية ويقول ذلك، ولم يقتصر الأمر على الجهل بأمور اللغة العربية فقط، بل الجهل أيضا بقواعد المنهج العلمي الصحيح، فالتناقض لا يوجد إلا بين أمرين لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا، فلا بد من وجود أحدهما، وعدم وجود الآخر، والقرآن الكريم، يخلو من مثل هذا التناقض الذي لا وجود له، إلا في عقول المدعين فقط. وللرد على هذا الوهم نقول:
أولا. معنى )لكلمات الله(: سنته وقوانينه الكونية وقضاؤه بين المخلوقات:
إن المراد بقوله سبحانه وتعالى: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: ٦٤)، و قوله عز وجل: )لا مبدل لكلماته( (الكهف: ٢٧): أنه لا تبديل لقضاء الله الذي يقضيه في شئون الكائنات، ولا تغيير في السنن الكونية التي وضعها الله في الخلق، ولن يخرج أحد من خلقه على هذه السنن الكونية الثابتة، وهذا هو إجماع أهل العلم على تفسير هذه الآية، ومعناها أيضا: لا خلف لوعده، ولا تبديل لأخباره، ولا تكون إلا كما قال[1].
ثانيا. المقصود “بالآية” هي الآية القرآنية، وليست الآية الكونية:
المقصود بالآية في قوله سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية( (النحل: ١٠١) أي: الآية القرآنية وليست السنة الكونية، يقول الإمام الطبري في تفسيره: “وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكما آخر – والله أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما يبدل ويغير من أحكامه – قال المشركون: إنما أنت يا محمد مفتر، أي: كاذب تخرص[2] بتقول الباطل على الله.
ويورد الإمام الطبري روايات عن ابن عباس وابن مسعود وأصحابه يفسرون فيها نسخ الآية بإثبات خطها وتبديل حكمها، دون أن يشرحوا معنى كلمة “آية”، وهذا يدل بوضوح على أن المتبادر إلى الذهن من إطلاق لفظ “آية” في القرآن الكريم هو الآية القرآنية، وليست الآية الكونية[3].
ثالثا. المراد بالتبديل هو تبديل للأحكام التي نزلت بها الآيات:
معنى التبديل في قوله سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية( (النحل: ١٠١)، هو تبديل للأحكام التي نزلت بها الآيات، وليس للآيات نفسها، أي: ما ننقل من حكم آية إلى غير فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا، والمباح محظورا، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فإذا حدث مثل هذا التبديل للأحكام، قال المشركون: يا محمد إنما أنت مفتر.
وعن ابن عباس أنه قال: “كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: ما نرى إله محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلى من عند نفسه”.
وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسرون في حاصل معنى الآية، فالمراد من التبديل في قوله تعالى: )بدلنا( مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد مع وضوح الجمع بين محاملها[4].
الخلاصة:
لا تعارض بين قوله عز وجل: )لا تبديل لكلمات الله(، وقوله عز وجل: )وإذا بدلنا آية مكان آية( (النحل: ١٠١)؛ لأن المقصود بكلمات الله في الآية الأولى: سننه الكونية التي قضاها على جميع خلقه. أما المقصود بالآية في الآية الثانية: فالآية القرآنية التي هي جزء من أجزاء القرآن الكريم، وليست الآية الكونية.
المراد بتبديل آية مكان آية: تبديل الأحكام التي نزلت بها الآيات؛ مناسبة للظروف المحيطة بكل آية، مع بقاء رسم الآية في المصحف كما هي دون حذف لها، وكان الكفار يعدون هذا دليلا على أن القرآن من وضع النبي – صلى الله عليه وسلم -.
(*) رد مفتريات على الإسلام، د. عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، ط1، 1405هـ/ 1982م.
[1]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج8، ص359.
[2]. تخرص: تكذب.
[3]. دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/ 1991م، ص279.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د. ت، مج8، ج14، ص281.
توهم تناقض القرآن حول رؤية الله – عز وجل – بالأبصار
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين قوله – سبحانه وتعالى: )وجوه يومئذ ناضرة (22)( (القيامة)، وبين قوله سبحانه وتعالى: )كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15)( (المطففين)، وقوله سبحانه وتعالى: )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)( (الأنعام). ويتساءلون: كيف يصرح القرآن في موضع بإمكان رؤية الله تعالى بالأبصار، بينما ينفي ذلك في موضع آخر؟ ويعتبرون هذا التعارض على حد قولهم دليلا على بشرية القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة حقيقة ثابتة، أما معنى قوله عز وجل: )لا تدركه الأبصار( أي: لا تحيط به وبكنهه جل وعلا، أو لا تدركه في الدنيا، وعدم الإدراك بالأبصار في الدنيا لا ينافي الرؤية في الآخرة، أو أن الآية من العام المخصص.
2) اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – لله – عز وجل – ليلة الإسراء والمعراج، فمنهم من أثبت ذلك، ومنهم من نفاه، والراجح أن رؤية النبي لله ثابتة.
التفصيل:
أولا. حقيقة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة:
رؤية المؤمنين لربهم – عز وجل – حقيقه لا مراء فيها، بيد أن سوء الفهم وخبث الطوية[1]يؤديان بصاحبهما إلى نفي ذلك والوقوف عند ظاهر الآيات، فعن حقيقة الرؤية يقول د. أبو النور الحديدي: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما نطقت بذلك آيات، منها قوله عز وجل: )وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23)( (القيامة)، وقوله عز وجل: )للذين أحسنوا الحسنى وزيادة( (يونس: ٢٦)، والحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله عز وجل: )كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15)( (المطففين)، وهي في حق الكفار، فيفهم أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة عن نبينا – صلى الله عليه وسلم – ومنها ما جاء عن صهيب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»[2].
ولقد أخطأ من زعم أن الله – عز وجل – لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا؛ وذلك أن الرؤية – عندهم – تتوقف على اتصال الأشعة بالمرئي، وتستلزم أن يكون المرئي في جهة، وأن يكون مقابلا للرائي، وكل هذا لا يجوز على الله تعالى.
ويرد على شبههم هذه بما قاله أهل الحق من أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، كما لا يلزم من رؤية الله – عز وجل – إثبات جهة له تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمونه.
وقد ذهب الذين اعتمدوا على اتصال الأشعة بالمرئي، وكونه في جهة حتى يمكن رؤيته إلى قولين كلاهما خطأ:
فسروا قوله سبحانه وتعالى: )وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23)( (القيامة)، بمعنى: منتظرة، وأن المؤمنين ينتظرون ما لهم عند الله من الثواب والنعمة. وهذا التفسير خطأ؛ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا، بمعنى: انتظر، وأن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، وإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته، لا نظرت إليه.
وأما تمسكهم بالآية الكريمة وهي: )لا تدركه الأبصار( (الأنعام: ١٠٣) على أن الإدراك هو الرؤية، فالآية تنفي رؤية الأبصار لله – عز وجل – وهو خطأ إذا حمل على الإطلاق؛ إذ معنى قوله: )لا تدركه الأبصار( يحمل على أحد الوجوه الآتية:
الوجه الأول: نفي الإحاطة بالكنه:
يرد على هؤلاء بأن الإدراك المنفي في الآية هو الرؤية مع إحاطة بالكنه، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك، فمعنى: )لا تدركه الأبصار(: لا تحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما، كما في قوله تعالى عن فرعون: )حتى إذا أدركه الغرق( (يونس: ٩٠) أي: أحاط به من كل جانب.
ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، فالله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة، ولا يدركون كنهه.
الوجه الثاني: لا تدركه الأبصار في الدنيا:
فلا ينافي الرؤية في الآخرة، ورؤية الباري سبحانه في الدنيا جائزة عقلا؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا، وسؤال موسى – عليه وسلم – إياها دليل على جوازها؛ إذ لا يجهل نبي ما يجوز وما يمتنع على ربه.
الوجه الثالث: ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الآية من العام المخصص: فمعنى: )لا تدركه الأبصار( (الأنعام: ١٠٣): لا تدركه جمع الأبصار، وهذا عام مخصوص بما ثبت من رؤية المؤمنين لله – عز وجل – في الدار الآخرة[3].
ثانيا. اختلاف العلماء حول حقيقة رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – لله – عز وجل – في ليلة الإسراء والمعراج:
أمـا وقـوع الـرؤيـة في الـدنيـا، فـقـد اخـتـلـف فـيـهـا، قـال الـقـاضـي عـيــاض – رحـمه الله -: اختلف السلف والخلف: هل رأى نبينا – صلى الله عليه وسلم – ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة – رضي الله عنها – كما وقع في صحيح مسلم.
فقد جاء عن مسروق أنه قال: «كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية[4]، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا، فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني[5] ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: )ولقد رآه بالأفق المبين (23)( (التكوير)، وقال: )ولقد رآه نزلة أخرى (13)( (النجم)، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)( (الأنعام)، أولم تسمع أن الله يقول: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى)؟!
قالت: ومن زعم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كتم شيئا من كتاب الله فقـد أعظـم علـى الله الفريــة، والله يقــول: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتـه( (المائدة: ٦٧)، قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: )قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله( (النمل: ٦٥)»[6].
وقد خالف عائشة ابن عباس – رضي الله عنه – من الصحابة، فعنه أن نبينا – صلى الله عليه وسلم – رأى ربه بعينه[7]، وجاء عنه: «أنه رآه بفؤاده مرتين»[8].
فكيف يكون التوفيق إذن بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؟
يرجح النووي مذهب ابن عباس، ويجيب عن الآيتين اللتين استندت إليهما عائشة فيقول: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء؛ لحديث ابن عباس وغيره، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.
ثم إن عائشة – رضي الله عنها – لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات، ويوضح الجواب عنها بالآتي:
o أما احتجاج عائشة بقول الله سبحانه وتعالى: )لا تدركه الأبصار( (الأنعام: ١٠٣) فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة.
وأما احتجاجها – رضي الله عنها – بقول الله عز وجل: )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)( (الشورى)؛ فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي: الكلام من غير واسطة وهذا الذي قاله هذا القائل وإن كان محتملا، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا: الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما يسمى وحيا.
وأما قوله سبحانه وتعالى: )أو من وراء حجاب( (الشورى: ٥١)، فقال الواحدي وغيره: معناه: غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه – سبحانه وتعالى – من حيث لا يرونه، وليس المراد: أن هناك حجابا يفصل موضعا من موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم[9].
الخلاصة:
من الثابت شرعا وعقلا أن رؤية الله – عز وجل – في الآخرة حقيقة لا خلاف عليها بين أهل العلم، وهذا ما أكدت عليه آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وإجماع أهل العلم من السلف والخلف.
فسر أهل العلم قوله سبحانه وتعالى: )لا تدركه الأبصار( (الأنعام: ١٠٣)، عدة تفسيرات، منها أن:
o الرؤية ثابتة حقيقة، مع عدم الإحاطة بكنه الله – عز وجل – فكل ما خطر ببال المرء عن ذات الله – عز وجل – فهو خلافه: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى).
o لا تدرك الأبصار الله – عز وجل – في الدنيا وهذا لا ينافي رؤيته في الآخرة.
o يرى بعض العلماء أن الآية من العام المخصوص، أي: لا تدركه جميع الأبصار، وهذا عام المخصوص بما تثبت من رؤية المؤمنين له في الآخرة.
اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – لله – عز وجل – ليلة الإسراء والمعراج، ففريق ينفي هذه الرؤية، ويستدل هؤلاء بحديث للسيدة عائشة – رضي الله عنها – تنفي ذلك، وفريق يثبت الرؤية على الحقيقة، ومن هؤلاء ابن عباس وغيره، والراجح أن رؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – لله – عز وجل – ليلة الإسراء والمعراج ثابتة على الحقيقة، وليست من وراء حجاب كما يعتقد بعضهم.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م.
[1]. الطوية: النية.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ريهم سبحانه وتعالى (467).
[3]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89: 94 بتصرف.
[4]. الفرية: الكذب.
[5]. أنظريني: أمهليني.
[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل:) ولقد رآه نزلة أخرى (13) ( (النجم: ١٣) (457).
[7]. انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل: ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) ( (النجم: ١٣) (3/ 4).
[8]. أخرجه مسلــم في صحيحــه، كتـاب الإيمــان، بــاب معنـى قـول الله عز وجل: ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) ( (النجم: ١٣) (455).
[9]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89 وما بعدها.
المصدر
توهم تناقض القرآن حول ما يبلغه الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن ربه
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن هناك تعارضا بين قوله سبحانه وتعالى: )والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وبين بعض الآيات الأخرى التي تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – تكلم ونطق بأشياء من غير وحي له فيها، حتى إن الله تعالى عاتبه على ما صدر منه، كإذنه لبعض المتخلفين عن غزوة تبوك، وقد عاتبه ربه على هذا الإذن في قوله سبحانه وتعالى: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة).
ويتساءلون: كيف يشير القرآن في موضع إلى أن محمدا لا ينطق إلا بوحي من ربه، ثم يعاتبه في موضع آخر على ما صدر منه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض.
وجه إبطال الشبهة:
ينقسم كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قسمين:
ما كان تبليغا عن الله تعالى فهو وحي، ولا يكون عن هوى، وهذا صدق لا كذب فيه.
ما وكل إليه الاجتهاد فيه – مثل ما حدث في غزوة تبوك – أو ما كان في أمور المعاش – كحادثة تأبير النخل[1] – فهو ليس بوحي، وإنما باجتهاد ظهر له – صلى الله عليه وسلم – ولا يوصف هذا بالصدق ولا بالكذب.
التفصيل:
كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – بين الوحي[2] والاجتهاد[3]:
حول كلام النبي وأنواعه كتب د. الحديدي قائلا: ينقسم كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى نوعين:
ما كان تبليغا عن الله تعالى فهو وحي، ولا يكون عن هوى:
يقسم الله تعالى – في سورة النجم – بالنجم إذا هوى أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – ما ضل وما غوى، والضال: هو الجاهل الذي لا يسلك الطريق القويم بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، فهوـ صلى الله عليه وسلم – راشد تابع للحق، فتجنب الباطل، )وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم)، وما يصدر نطقه عن الهوى، لا بالقرآن ولا بغيره، )إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) ما الذي ينطق به إلا وحي من الله تعالى، يوحيه إليه. فهذه الآيات تفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – لا يتكلم إلا عن وحي من الله – عز وجل -.
فما ينطق به الرسول – صلى الله عليه وسلم – إن كان تبليغا عن الله تعالى فهو لا يكون عن هوى، إنما كل ما يبلغه عن ربه فهو وحي منه سبحانه، ولا يقول على الله شيئا من عند نفسه، وفي هذا رد على الكفار الذين زعموا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – افترى هذا القرآن، وقد أقسم الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أنه لم يتكلم إلا بالحق – تبليغا عن ربه – عندما ذكر بعضهم أن بشرية الرسول ربما تجعله يقول عند الغضب كلاما يكون فيه متأثرا بغضبه.
فقد جاء عن عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب – أي: عن الكتابة – فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق»[4].
وعن أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله! قال: فإني لا أقول إلا حقا»[5].
ما وكل إليه – صلى الله عليه وسلم – للاجتهاد فيه فهو ليس بوحي، وإنما باجتهاد ظهر له – صلى الله عليه وسلم -:
أما الآيات الأخرى التي تفيد أنه – صلى الله عيه وسلم – تكلم ونطق بأشياء من غير وحي له فيها، حتى إن الله تعالى عاتبه على ما حصل منه، مثل إذنه لبعض المتخلفين عن غزوة تبوك، فقد عاتبه الله على هذا الإذن، قال – سبحانه وتعالى -: )عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)( (التوبة)، فهذه الآيات تتحدث عن مواقف وكل فيها النبي بالاجتهاد، ومعنى الآية السابقة – كما قال ابن جرير -: عفا الله عنك يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقهم من كذبهم، وما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك، إذ قالوا لك: لو استطعنا لخرجنا معكم، حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره، وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكا في دين الله.
فكل ما ليس تبليغا عن الله تعالى، بل وكل الرسول فيه لاجتهاده – كإذنه – صلى الله عليه وسلم – للمتخلفين عن غزوة تبوك، فلا يكون قوله فيه نطقا عن الهوى؛ حيث لا يخالف نهيا تقدم له، وإنما عن اجتهاد ظهر له فيه أن هؤلاء المعتذرين لا يستطيعون الخروج معه، وكثيرا ما كان المنافقون – مبالغة منهم في إخفاء حقيقتهم – يحلفون بالله على ما يقولون: )اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2)( (المنافقون)، والرسول – صلى الله عليه وسلم – بشر لا اطلاع له على بواطن الناس إلا فيما يطلعه الله عليه منهم، وحتى وقت الإذن لهم في التخلف لم يكن قد أطلعه الله على أنهم منافقون كاذبون.
ومن ذلك أيضا نصحه – صلى الله عليه وسلم – بترك تأبير النخل، وتركه يفسد ثمرتها فتصير شيصا[6]، فعن أنس «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم المدينة وهم يأبرون النخل، فقال: “ما تصنعون”؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: “لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا”، فتركوه فنفضت أو فنقصت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر»[7].
فهذا – كما قال العلماء – رجاء، والرجاء لا يوصف بصدق ولا كذب، وأنه من باب الظن والرأي في أمور المعاش. قال النووي: قال العلماء: لم يكن هذا القول خبرا، وإنما كان ظنا، ورأيه – صلى الله عليه وسلم – في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك.
وعلى هذا، فأقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – التي من باب الاجتهاد وإعمال الرأي في أمور المعاش لا توصف بصدق ولا كذب[8].
الخلاصة:
لا تعارض بين الآيات التي استدل بها هؤلاء على وجود تناقض بين آيات القرآن حول كلام النبي؛ إذا إن كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – ينقسم إلى نوعين:
ما كان وحيا من الله تعالى، ومثل هذا لا يقبل الكذب أبدا؛ لأنه كلام الله الذي لا يغير ولا يبدل.
ما كان اجتهادا منه – صلى الله عليه وسلم – أو كان متعلقا بأمر من أمور الدنيا، وهذا لا يحتمل الصدق ولا الكذب، والنبي في هذا الجانب شأنه شأن بقية البشر.
(*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م.
[1]. تأبير النخل: تلقيحه.
[2]. الوحي: هو إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه بواسطة أو غير واسطة.
[3]. الاجتهاد: بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بالحكم الشرعي.
[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (6510)، وأبو داود في سننه، كتاب العلم، باب في كتابة العلم (3648)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1532).
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (8708)، والترمذي في سننه، كتاب البر والصلة والأداب، باب المزاح (1990)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (202).
[6]. الشيص: تمر لم يتم نضجه لسوء تلقيحه.
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ـ صلى الله عيه وسلم ـ من معايش الدنيا على سبيل الرأي (6276).
[8]. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص70: 73.
توهم تناقض القرآن في تقدير مدة الحمل والرضاع
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك اضطرابا بين قوله سبحانه وتعالى: )حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين( (لقمان: ١٤) وقوله عز وجل: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: 222)، وقوله سبحانه وتعالى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرا( (الأحقاف: ١٥). ويتساءلون: كيف تكون مدة الحمل والرضاع حولين كاملين في الموضعين الأولين، وثلاثين شهرا في الموضع الثالث؟! ألا يخالف هذه معطيات العلم الحديث؟
ويهدفون من وراء ذلك إلى القول بـبشرية القرآن مادام فيه هذا الاضطراب والتناقض.
وجه إبطال الشبهة:
القرآن يفسر بعضه بعضا، ويتفق مع نتائج العلم الحديث، فمدة الرضاع وحده عامان، لكن مدته مع الحمل ثلاثون شهرا؛ إذ أقل الحمل ستة أشهر.
التفصيل:
اتفاق مدلول الآيات القرآنية الخاصة بتحديد مدة الحمل والرضاع مع نتائج العلم:
إن الذي لديه أدنى دراية بالقرآن الكريم، يعلم حق العلم أنه لا يوجد أي تعارض بين آياته الكريمة؛ فبالجمع بين آيتي سورة لقمان وسورة البقرة، وبين آية سورة الأحقاف، يدرك أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر، فقوله سبحانه وتعالى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرا( (الأحقاف: ١٥) لا يعرف منه – بانفراده – أقل مدة للحمل، ولكنه بضم بعض الآيات الأخرى إلى هذه الآية، تعلم أقل مدة للحمل؛ لأن هذه الآية الكريمة صرحت بأن أمد الحمل والفصال[1] معا ثلاثون شهرا، وقوله سبحانه وتعالى: )وفصاله في عامين( (لقمان: ١٤)، وقوله سبحانه وتعالى: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣)، يبين أن أمد الفصال عامان، وهما أربعة وعشرون شهرا، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمدا للحمل، وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم[2].
الخلاصة:
لا يوجد أدنى تعارض بين قوله سبحانه وتعالى: )وفصاله في عامين( (لقمان: ١٤)، وقوله عز وجل: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة( (البقرة: ٢٣٣)؛ وبين قوله سبحانــه وتعالــى: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرا( (الأحقاف: ١٥)؛ لأن العامين أربعة وعشرون شهرا، فعندما تطرح من الثلاثين يتبقى ستة أشهر، فتصبح هي أقل مدة للحمل، ويتفق هذا مع ما استقر عليه رأي الأطباء.
(*) البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. www.islameyat.com
[1]. الفصال: الفطام.
[2]. أضواء البيان، الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م، ج7، ص386.
حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم
هناك ـ بالنسبة للقرآن الكريم ـ من يعتبرون أنه غير صالح لكل زمان، وأنه وقتى، أى أنه جاء لوقت قد مضى، ولا يتلاءم مع العصر الحالى، وأنه يجب أن تتغير تفسيراته بما يناسب هذا الوقت. وعلى سبيل المثال:
ـ إرث المرأة (للذكر مثل حظ الأنثيين) يقولون: إن هذه الآية قد جاءت لزمن معين ويجب أن تتغير، بحيث يتساوى الرجل والمرأة فى الإرث.
ـ وكذلك الأمر بالنسبة لشهادة المرأة حيث يطالبون بمساواة الرجل بالمرأة من حيث الشهادة.. (انتهى) .
الرد على الشبهة:
أما القول بتاريخية ـ أو تاريخانية ـ ووقتية أحكام القرآن الكريم.. بمعنى ” أنها غير صالحة لكل زمان “.. فإن لنا عليها ملاحظات نسوقها فى عدد من النقاط:
أولها: أن هذه الدعوى ليست جديدة، فلقد سبق وتبناها فلاسفة التنوير الغربى الوضعى العلمانى، بالنسبة للتوراة والإنجيل.. فرأوا أن قصصها مجرد رموز، بل ورأوا أن الدين والتدين إنما يمثل ” مرحلة تاريخية ” فى عمر التطور الإنسانى، مثلت مرحلة طفولة العقل البشرى، ثم تلتها ـ على طريق النضج ـ مرحلة ” الميتافيزيقا “، التى توارت هى الأخرى لحساب المرحلة الوضعية، التى لا ترى علمًا إلا إذا كان نابعًا من الواقع، ولا ترى سبلاً للعلم والمعرفة إلا العقل والتجارب الحسية.. وما عدا ذلك ـ من الدين وأحكام شرائعه ـ فهى ” إيمان ” مَثَّل مرحلة تاريخية على درب التطور العقلى، ولم يعد صالحًا لعصر العلم الوضعى ـ اللهم إلا لحكم العامة والسيطرة على نزعاتهم وغرائزهم!.
هكذا بدأت وتبلورت نزعة ” تاريخية وتاريخانية ” النصوص الدينية فى فكر التنوير الغربى العلمانى والنهضة الأوروبية الحديثة..
وإذا كان هذا القول قد جاز، ووجد له بعض المبررات ـ فى الغرب ـ بالنسبة لكتب رسالات خاصة بقوم بعينهم ـ بنى إسرائيل ـ الذين جاءتهم اليهودية والمسيحية، ونزلت لهم التوراة والإنجيل ـ.. ولزمان معين.. وبتفاصيل تشريعات ـ وخاصة فى التوراة ـ تجاوزها تطور الواقع، فإن دعوى تاريخية النص الدينى لا مكان لها ولا ضرورة تستدعيها بالنسبة للقرآن الكريم..
ذلك أن القرآن هو كتاب الشريعة الخاتمة، والرسالة التى ختمت بها النبوات والرسالات، فلو طبقنا عليه قاعدة تاريخية النصوص الدينية لحدث ” فراغ ” فى المرجعية الدينية، إذ لا رسالة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا وحى بعد القرآن.. وإذا حدث هذا ” الفراغ ” فى المرجعية والحجة الإلهية على الناس، زالت حجة الله على العباد فى الحساب والجزاء، إذ سيقولون: يا ربنا، لقد أنزلت علينا كتابًا نسخه التطور، فماذا كان علينا أن نطبق، بعد أن تجاوز الواقع المتطور آيات وأحكام الكتاب الذى أنزلته لهدايتنا؟!.
وثانى هذه النقاط: أن التاريخية والتاريخانية ـ أى وقتية الأحكام ـ لا يقول بها أحد فى أحكام العبادات.. وإنما يقول بها أصحابها فى آيات وأحكام المعاملات. وهم يخطئون إذا ظنوا أن هناك حاجة إليها فى أحكام المعاملات التى جاء بها القرآن الكريم ذلك أن القرآن الكريم ـ فى المعاملات ـ قد وقف عند ” فلسفة ” و ” كليات ” و ” قواعد ” و ” نظريات ” التشريع، أكثر مما فصّل فى تشريع المعاملات.. فهو قد فصل فى الأمور الثوابت، التى لا تتغير بتغير الزمان والمكان، مثل منظومة القيم والأخلاق، والقواعد الشرعية التى تستنبط منها الأحكام التفصيلية، والحدود المتعلقة بالحفاظ على المقاصد الكلية للشريعة.. ونزل تفصيل أحكام المعاملات لعلم الفقه، الذى هو اجتهاد محكوم بثوابت الشريعة الإلهية، ذلك حتى يظل هذا الفقه ـ فقه المعاملات ـ متطورًا دائمًا وأبدًا، عبر الزمان والمكان، ليواكب تغير الواقع ومستجدات الأحداث، فى إطار كليات الشريعة وقواعدها ومبادئها، التى تحفظ على أحكامه المتطورة إسلاميتها، دائمًا وأبدًا..
وهذه ” الصيغة الإسلامية ” الفريدة التى جاءت بالنص الإلهى الثابت ـ أى الشريعة التى هى وضع إلهى ثابت ـ تحفظ إسلامية وإلهية المرجعية والمصدر دائمًا وأبدًا.. بينما وكلت أمر المتغيرات إلى الفقه المتجدد والمتطور ـ والفقه هو علم الفروع ـ.. هذه ” الصيغة الإسلامية ” هى التى وازنت بين ثبات النص وتطور التفسير البشرى للنص الإلهى الثابت.. وجمعت بين ثبات ” الوضع الإلهى ” وتطور ” الاجتهاد الفقهى “.. أى جمعت بين ثبات المرجعية والنص، وبين تطور الاجتهاد الفقهى المواكب لمتغيرات الواقع عبر الزمان والمكان..
ثالث هذه النقاط: تتعلق بالأمثلة التى سيقت وتساق من قبل دعاة تاريخية وتاريخانية النصوص الدينية، للتدليل على ضرورة تطبيق هذه التاريخانية ـ فى زعمهم ـ على أحكام القرآن الكريم فى المعاملات..
ونحن عندما ننظر فى هذه الأمثلة ـ وهى هنا ـ: ” ميراث المرأة وشهادتها ” نزداد يقينًا بخطأ دعوى تطبيق هذه التاريخانية على القرآن الكريم، وعلى الأحكام التشريعية الواردة فيه.. فليس صحيحًا أن توريث المرأة فى الإسلام قد جانب الإنصاف لها، حتى يكون حكمه صالحًا للزمان الماضى دون الزمان المعاصر والمستقبل.. فالأنثى ـ فى الإسلام ـ لا ترث نصف الذكر دائمًا وأبدًا.. والقرآن لم يقل يوصيكم الله فى الوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإنما جعل ذلك فى حالة بعينها هى حالة ” الأولاد “، وليس فى مطلق وكل الوارثين: (يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (1) . أما عندما كان التقعيد عامًا للميراث فإن القرآن قد استخدم لفظًا عامًا هو لفظ ” النصيب ” لكل الذكور والإناث على حد سواء: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا) (2) .
ومعايير التفاوت فى أنصبة الميراث لا علاقة لها بالجنس ـ ذكورة أو أنوثة ـ على الإطلاق ـ على غير ما يحسب ويظن الكثيرون ـ إن لم يكن الأكثرون! وإنما معايير هذا التفاوت ثلاثة:
1 ـ درجة القرابة. فكلما كان الوارث أقرب إلى المورّث زاد نصيبه فى الميراث.
2 ـ وموقع الجيل الوارث فى تسلسل الأجيال وتلك حكمة إلهية بالغة فى فلسفة الإسلام للميراث ـ وكلما كان الوارث صغيرًا من جيل يستقبل الحياة وأعباءها، وأمامه المسئوليات المتنامية، كان نصيبه من الميراث أكبر.. فابن المتوفى يرث أكثر من أب المتوفى ـ وكلاهما ذكر ـ وبنت المتوفى ترث أكثر من أمه ـ وكلتاهما أنثى.. بل إن بنت المتوفى ترث أكثر من أبيه.
3 ـ والعامل الثالث فى تفاوت أنصبة الميراث هو العبء المالى الذى يتحمله ويكلف به الوارث طبقًا للشريعة الإسلامية.. فإذا اتفقت وتساوت درجة القرابة.. وموقع الجيل الوارث ـ مثل مركز الأولاد ـ أولاد المورث ـ مع تفاوت العبء المالى بين الولد الذكر ـ المكلف بإعالة زوجة وأسرة وأولاد ـ وبين البنت ـ التى سيعولها هى وأولادها زوج ذكر ـ هنا يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.. وهو تقسيم ليس فيه أية شبهة لظلم الأنثى.. بل ربما كان فيه تمييز وامتياز لها، احتياطًا لاستضعافها..
وهذه الحقائق فى المواريث الإسلامية ـ التى يجهلها ويتجاهلها دعاة تاريخية آيات الميراث ـ هى التى جعلت المرأة ـ فى الجداول الإجمالية لحالات الميراث الإسلامى ـ ترث مثل الرجل، أو أكثر من الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل فى أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث الإسلامى، بينما هى ترث نصف ما يرث الذكر فى أربع حالات فقط (3) !.
وكذلك الحال مع ” شهادة المرأة “.. ففى الأمور والميادين التى تقل فيها خبرة المرأة عن الرجل، تكون شهادتها أقل من شهادته.. وحتى لا تهدر شهادتها كلية فى هذه الميادين، سمح القرآن بشهادتها، على أن تُدعم بشهادة واحدة من بنات جنسها، تذكرها بما تنساه من وقائع الشهادة.. أما الميادين التى تختص بالمرأة، والتى تكون خبرتها فيها أكثر، فإن شهادتها فيها تكون أعلى، وأحيانًا ضعف شهادة الرجل.. بل إن شهادتها تعتمد حيث لا تعتمد شهادة الرجل فى بعض هذه الميادين.
والذين يظنون أن آية سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الذى عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدِّ الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) (4) .
الذين يظنون أن هذه الآية ـ282ـ تجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل بإطلاق، وفى كل الحالات مخطئون وواهمون.. فهذه الآية تتحدث عن دَين خاص.. فى وقت خاص، يحتاج إلى كاتب خاص، وإملاء خاص، وإشهاد خاص..
وهذه الآية ـ فى نصها ـ استثناء: (.. إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها) .
ثم إنها تستثنى من هذه الحالة الخاصة الإشهاد على البيوع، فلا تقيدها بما قيدت به حالة هذا الدين الخاص.. ثم إنها تتحدث، مخاطبة، لصاحب الدين، الذى يريد أن يستوثق لدينه الخاص هذا بأعلى درجات الاستيثاق.. ولا تخاطب الحاكم ـ القاضى ـ الذى له أن يحكم بالبينة واليمين، بصرف النظر عن جنس الشاهد وعدد الشهود الذين تقوم بهم البينة.. فللحاكم ـ القاضى ـ أن يحكم بشهادة رجلين.. أو امرأتين.. أو رجل وامرأة.. أو رجل واحد.. أو امرأة واحدة.. طالما قامت البينة بهذه الشهادة..
ومن يرد الاستزادة من الفقه الإسلامى فى هذه القضية ـ التى يجهلها الكثيرون ـ فعليه أن يرجع إلى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية [661ـ728هـ/1263ـ1328م] وتلميذه العظيم ابن قيم الجوزية [691ـ751هـ/1262ـ1350م] فى كتابه [الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية] (5) .. ففيه ـ وفق نص ابن تيمية ـ أن ماجاء عن شهادة المرأة فى آية سورة البقرة، ليس حصرًا لطرق الشهادة وطرق الحكم التى يحكم بها الحاكم، وإنما ذكر لنوعين من البينات فى الطرق التى يحفظ بها الإنسان حقه.. فالآية نصيحة لهم وتعليم وإرشاد لما يحفظون به حقوقهم، وما تحفظ به الحقوق شىء وما يحكم به الحاكم شىء، فإن طرق الحكم أوسع من الشاهدين والمرأتين.
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل [164ـ241هـ/780ـ855م] إن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين فيما هو أكثر خبرة فيه، وأن شهادة المرأة تعدل شهادة رجلين فيما هى أكثر خبرة فيه من الرجل.. فالباب مفتوح أمام الخبرة التى هى معيار درجة الشهادة، فإذا تخلفت خبرة الرجل فى الميدان تراجع مستوى شهادته فيه.. وإذا تقدمت وزادت خبرة المرأة فى الميدان ارتفع مستوى شهادتها فيه.. وليس هناك فى الفقه الإسلامى تعميم وإطلاق فى هذا الموضوع، إذ الشهادة سبيل للبينة التى يحكم الحاكم ـ القاضى ـ بناء عليها، بصرف النظر عن جنس الشهود وعددهم.
ولو فقه الداعون إلى تاريخية وتاريخانية آيات الأحكام فى القرآن حقيقة هذه الأحكام التى توهموا الحاجة إلى تجاوزها ـ فقالوا بتاريخية ووقتية معانى نصوصها القرآنية ـ لأدركوا أن وقوف النص القرآنى عند كليات وفلسفات وقواعد ونظريات التشريع، مع ترك تفصيلات التشريع لاجتهادات الفقهاء، هو الذى جعل أحكام القرآن الكريم فى المعاملات ـ فضلاً عن العبادات.. والقيم والأخلاق ـ صالحة لكل زمان ومكان، فكانت شريعته آخر وخاتم الشرائع السماوية، دونما حاجة إلى هذه ” التاريخية ” التى استعاروها من الفكر الغربى، دونما إدراك لخصوصية النص الإسلامى، وتميز مسيرة الفقه الإسلامى والحضارة الإسلامية.. ولو أنهم فقهوا حقيقة الأمثلة التى توهموها دواعى لهذه التاريخية ـ من مثل ميراث المرأة.. وشهادتها ـ لكفونا مئونة هذا الجهد فى كشف هذه الشبهات!..
(1) النساء: 11.
(2) النساء: 7.
(3) لمزيد من التفاصيل، أنظر: د. محمد عمارة [هل الإسلام هو الحل؟] طبعة دار الشروق. القاهرة 1998م. ود. صلاح سلطان [ميراث المرأة وقضية المساواة] طبعة دار نهضة مصر. القاهرة 1999م.
(4) البقرة: 282ـ283.
(5) ص 103ـ104. تحقيق: د. جميل غازى، طبعة القاهرة 1977م.
دعوى بطلان حديث “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين بطلان متن الحديث الذي رواه البخاري في صحيحيه عن عبد الله بن مسعود قال: «حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح…».
ويستدلون على ذلك بأن الحديث يفيد أن الجنين لا يتشكل على صورة الإنسان إلا بعد مرور أربعة أشهر من بدء الحمل، وذلك يتعارض مع بعض الأحاديث الصحيحة التي ذكرت أن الجنين يتشكل بعد أربعين يوما، كما يخالف ما جاء به العلم وثبت يقينا أن الجنين يتشكل ويصبح خلقا آخر (على صورة إنسان) في خلال ستة أسابيع (اثنان وأربعون يوما)، وقد أصبح هذا واقعا علميا، لا ينكره أحد.
كما أن متن الحديث يخالفه مخالفة صريحة ما جاءت به نصوص القرآن الكريم، فالحديث يقول بنفخ الروح في الجنين بعد ثمانين يوما أو مائة وعشرين يوما، علما بأن الجنين فيه الروح منذ مرحلة النطفة، وأنه لم يرد أن الله تعالى نفخ من روحه في أحد سوى آدم وعيسى ابن مريم – عليها السلام – أما باقي البشر فخلقهم جميعا من آدم – عليه السلام – والقرآن يقول بتصوير الجنين لا بنفخ الروح فيه، قال سبحانه وتعالى: )هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6)( (آل عمران).
كما يزعمون أن الحديث لم يذكر مرحلة النطفة التي تعد أولى مراحل التخلق في رحم الأم، بيد أن القرآن قد ذكرها في قوله تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون).
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد جاء حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – عند الإمام البخاري مجملا، وعند الإمام مسلم مفصلا بزيادة صحيحة توضح مجمل رواية الإمام البخاري، وهي قوله: «في ذلك»، فجمع الخلق يتم في أربعين يوما، وذكر العلقة والمضغة يتم من قبيل التفصيل لهذا المجمل، ويدل على ذلك الأحاديث الصحيحة عند الإمام مسلم والإمام أحمد التي تحدد مدة جمع الخلق في اثنين وأربعين يوما، وهذا ما أكده العلم الحديث.
2) الروح سر من أسرار الله تعالى أخفاها عن جميع خلقه، يقول تعالى: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، وقد أثبت العلم الحديث أن الروح تنفخ في الجنين بعد مرحلة التصوير التي ذكرها الحديث، ولم يحدد اليوم الذي تنفخ فيه الروح حتى أربعة أشهر، وهذا يدل على تطابق الحقائق العلمية مع أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحيحة.
3) لم يذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – طور النطفة في الحديث؛ لأنه يتحدث عن مراحل “التخلق”، وهي العلقة والمضغة. أما مرحلة النطفة، فهي تجميع لخلايا البيضة الأنثوية وخلايا الحيوان المنوي الذكوري، وليست مرحلة “تخلق” كالعلقة والمضغة التي يتم فيها تخليق بعض الأعضاء الأولية في جسم الجنين؛ لذلك قال تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)(، ولم يقل عز وجل: “ثم خلقناه نطفة في قرار مكين” كما قال عن المضغة والعلقة: )ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما( (المؤمنون: 14)، وهذا يدل على إعجاز النبي – صلى الله عليه وسلم – في اختيار ألفاظه الدقيقة.
التفصيل:
أولا. لا تعارض بين الأحاديث في أن خلق الجنين يجمع في بطن أمه بعد أربعين يوما؛ إذ لا دلالة قاطعة في نص البخاري على ذلك:
إنه من الثوابت لدى علماء المسلمين في كل زمان أنه إذا صح حديث سندا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يجب تصديقه والأخذ به، والثبوت من صحته متنا على الإطلاق.
ثم نعمل عقولنا بعد ذلك في إدراك الحكمة من وراء هذا الخبر، ومحاولة تفسير ما قد يستشكل علينا، فإن وفقنا الله – عز وجل – إلى فهم الخبر وما يتعلق به من ألفاظ كان بها، وإن قصر إدراكنا وعلمنا عن فهم الحديث، فيجب التوقف مع التصديق والعمل بالخبر مطلقا – حتى يكشف الله عن سر ذلك الحديث حينما يشاء وحده.
وبعد؛ فإن حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – الذي رواه البخاري في صحيحه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح…»[1].
وفي رواية مسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطه أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات…»[2].
وهذا الحديث سنده صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد اتفق عليه الشيخان (البخاري ومسلم) من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – وتلقته الأمة بالقبول والتصديق.
وإذا صح الحديث، فلا يعقل أن يزعم بعض الجهال بشذوذ متنه، فالحديث صحيح سندا ومتنا باتفاق العلماء.
فلا تعارض بين هذا الحديث الصحيح والأحاديث الصحيحة الأخرى، ومنها كما رواه مسلم من حديث ابن مسعود – أيضا – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها…»[3].
فكلا الحديثين رواهما راو واحد وهو عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – ونحن لسنا بحاجة إلى التوفيق بين حديث نبوي وبين قول الأطباء؛ فإن قول النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم، وقولهم عرضة للخطأ، ولكن الحاجة إلى التوفيق بين الحديث المتقدم وبين حديثه المتأخر، والأحاديث الأخرى التي جاءت بنفس المعنى، كحديث حذيفة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتصور عليها الملك»[4].
فقد فسر معظم العلماء قديما هذا الحديث بأن جمع الخلق يكون في أربعين يوما، وأن مرحلة العلقة تكون في الأربعين الثانية، وأن مرحلة المضغة بعد العلقة تكون في الأربعين الثالثة، ثم ينفخ الروح بواسطة الملك بعد الأربعين الثالثة التي هي مائة وعشرون يوما.
وفسروا رواية مسلم بأن اسم الإشارة (في ذلك) يعود على بطن الأم، و(مثل ذلك) إلى مدة الأربعين يوما، كأنه قيل: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك البطن نطفة أربعين يوما، ثم يكون في ذلك البطن علقة أربعين يوما، ثم يكون في ذلك البطن مضغة أربعين يوما، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات…
ومما ساهم في فهم الحديث على النحو الذي أشرنا إليه سابقا هو: وظيفة حرف العطف (ثم)؛ الترتيب والتراخي، فتبعا لوظيفتها على (العلقة) أن تتبع زمنيا (جمع الخلق) وعلى (المضغة) أن تتبع (العلقة).
هذا ما فهمه شراح الحديث النبوي – قديما – من متن هذا الحديث، ومعلوم أن هؤلاء العلماء بشر أمثالنا يصيبون ويخطئون، والمعصوم من الخطأ هو الصادق المصدوق نبينا – صلى الله عليه وسلم – وحده، فهذا اجتهاد منهم وهم مجازون عليه خير الجزاء إن شاء الله.
وهناك اجتهاد آخر يخالف الاجتهاد السابق، وهذا لاحتمالية تفسير الحديث بعدة أوجه، فدلالة هذا الحديث تعد ظنية من حيث المفهوم. فالزيادة في نص مسلم زيادة ثقة، وهي لراو واحد؛ ولم يذكرها نص البخاري، وهو اسم الإشارة«في ذلك»، أي في خلال المدة نفسها، مما يعني أن المراحل الثلاث تتم جميعها في الأربعين الأولى.
ومما يؤيد ذلك ما ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم، قال: “وجوابه أن قوله: «ثم يبعث إليه الملك فيؤذن فيكتب» معطوف على قوله: «يجمع في بطن أمه»، ومتعلق به لا بما قبله، وهو قوله: «ثم يكون مضغة مثله» ويكون قوله: «ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله» معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز موجود في القرآن والحديث الصحيح وغيره من كلام العرب”[5].
فتفسير النص يكون أن جمع الخلق في أربعين يوما، والعلقة يجتمع خلقها في تلك الأربعين، فيكون جمع الخلق في مرحلتين: الأولى العلقة، والثانية المضغة، وكلاهما في أربعين يوما.
وليس جمع الخلق هو مرحلة من المراحل الثلاث كما قال العلماء السابقون – رحمهم الله.
فإذا تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم: «يجمع خلقه» في إطار اللغة العربية نجد أنه بمعنى: يتقن ويحكم، والبيان لهذا المعنى يعطي صورة واضحة لمعنى الحديث؛ حيث يغير مجريات تفسير الجمهور، ولا يفسر الحديث إلا من خلال أطر اللغة العربية التي تحدد المعاني لكل النصوص القرآنية والحديثية.
وبناء على رواية ابن مسعود – رضي الله عنه – فخلق الجنين يجمع خلال الأربعين يوما الأولى من عمره، وأطوار النطفة والعلقة والمضغة تتم وتكتمل خلال هذه الأربعين.
قال ابن الزملكاني: “وأما حديث البخاري، فيدل على ذلك؛ إذ معنى يجمع في بطن أمه؛ أي: يحكم ويتقن، ومنه رجل جميع أي مجتمع الخلق، فهما متساويان في مسمى الإتقان والإحكام لا في خصوصه، ثم إنه يكون مضغة في حصتها أيضا من الأربعين، محكمة الخلق مثلما أن صورة الإنسان محكمة بعد الأربعين يوما، فنصب مثل ذلك على المصدر لا على الظرف، ونظيره في الكلام قولك: إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره، ثم نشرح تغيره، فيقول: ثم إنه يكون رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما ثم يتوفاه الله بعد ذلك، وذلك من باب ترتيب الإخبار عن أطوراه التي ينتقل إليها مدة بنائه في الدنيا.
ومعلوم من قواعد اللغة العربية أن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي بين الخبر قبلها وبين الخبر بعدها، إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنها لا تفيد ذلك، مثل قوله سبحانه وتعالى: )ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153) ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)( (الأنعام).
ومن أن وصية الله لنا في القرآن جاءت بعد كتاب موسى – عليه السلام – فـ (ثم) لا تفيد ترتيب المخبر عنه في الآية، وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين) ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما) مضغة (مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوما)[6].
والذي يؤكد ما ذهبنا إليه من أن اسم الإشارة (في ذلك) في الحديث يرجع إلى العدد أن هناك أحاديث أخرى عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تثبت إرسال الملك الذي يؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ فيه الروح بعد الأربعين.
ذكر الإمام مسلم ثلاث روايات عن حذيفة بن أسيد – رضي الله عنه – وقد ذكرنا منها الرواية السابقة.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يوما – أو أربعين ليلة – بعث الله إليها ملكا، فيقول: يا رب: ما رزقه؟ فيقال له…»[7].
فالنص المجمل يبقى على إجماله، حتى يأتي نص آخر مبين، فيحمل عليه، وهذا ما اتفق عليه علماء الأصول.
فإنه لما كان اسم الإشارة (مثل ذلك) لفظا يمكن صرفه إلى واحد من ثلاثة أشياء ذكرت قبله في الحديث، وهي: جمع الخلق، وبطن الأم، وأربعين يوما – فهو لفظ مجمل يحمل على اللفظ المبين للمقصود من اسم الإشارة في قوله، والذي بين لنا ذلك حديث حذيفة – رضي الله عنه – الذي يمنع مضمونه أن يعود اسم الإشارة على الفترة الزمنية (أربعين يوما)، ولا يصح أن يعود اسم الإشارة على (بطن الأم) لأن تكراره في الحديث لا يفيد معنى جديدا.
فإنه لما كان ذلك تعين – بناء عليه – أن يعود اسم الإشارة في قوله (مثل ذلك) على جمع الخلق لا على الأربعينات[8].
وتقوى حجتنا من خلال النص القرآني الواضح الذي يشير إلى أن خلق العظام يكون بعد طور المضغة، يقول الله تعالى: )فخلقنا المضغة عظاما( وخلق العظام ثابت في الحديث الشريف بعد اثنين وأربعين يوما لما في صحيح مسلم:«إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة…»، فيتبين لنا أن المضغة نشأتها في مدة الأربعين يوما، كما هو مدلول النص القرآني والحديث النبوي الشريف.
إذن، فاتجاهات النصوص الشرعية التي جعلناها دليلا لمسألتنا تفسر نص البخاري في جمع الخلق على النحو الذي فسرناه، وإلا حدث التعارض البين بين النصوص، وشريعتنا منزهة عن مثل هذا التخبط.
فالمجمل لا بد له من مسائل إيضاحية تبين المراحل في الإجمال، وعلى هذا فله وسيلتان:
الوسيلة الأولى: هي وجود نص بين يظهر الإجمال.
الوسيلة الثانية: وجود وسيلة علمية يقينية توضح هذا المجمل.
فالعلم أقر بأن هناك ثلاث مراحل أساسية تحدث في الأربعين الأولى: فالجنين يكون نطفة مؤلفة من خلايا في بادئ الأمر إلى اليوم السابع. ومن ثم تجمع خلايا الجنين ضمن قرص جنيني داخل النطفة ما بين اليوم السابع إلى الثالث عشر. ومن ثم يتحول القرص الجنيني إلى علقة، وتخرج النطفة عن مظهرها ما بين اليوم الخامس عشر إلى الرابع والعشرين. ومن ثم تتحول العلقة إلى مضغة ما بين الخامس والعشرين إلى اليوم الثاني والأربعين تقريبا.
ويتبين لنا – بناء على هذا – أن العلم الحديث يطابق القرآن وحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشكل يقيني، ولا يمكن أن يتعارضا معه، ومن ثم لا يمكن تجاهل الوسائل العلمية اليقينية التي تبين المجمل من النصوص الشرعية، وإن أشكل علينا التوفيق بينها[9].
وخلاصة ما سبق أن حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – صحيح سندا؛ لاتفاق الشيخين على روايته، ومتن الحديث لا يخالف الأحاديث الأخرى؛ فالزيادة الموجودة في رواية مسلم زيادة ثقة، يجب الأخذ بها وحمل النص عليها، وعندئذ يفهم أن خلق الجنين في بطن أمه يتم ويحكم في أربعين يوما، وعلى ذلك فلا تعارض بين الحديث وبين الأحاديث الأخرى في هذا الشأن، وبذلك تسقط شبهتهم بحمد الله.
ثانيا. نفخ الروح ثابت في الجنين، ولا تعارض بين الأحاديث والقرآن في ذلك:
أما ادعاؤهم أن الحديث مردود؛ لأنه يعارض القرآن عندما نص على أن الروح تنفخ في الجنين، علما بأن الجنين فيه الروح منذ مرحلة النطفة، ولذلك فالصواب ما ذكرته الروايات الصحيحة الأخرى في مثل هذا الباب، فهي لا تقول بنفخ الروح؛ وإنما تقول بتصوير الجنين، علاوة على أن الله – عز وجل – لم ينفخ من روحه إلا في آدم وعيسى ابن مريم عليهما السلام.
فهذا ادعاء باطل واستدلال فاسد؛ فنفخ الروح في الجنين ثابت، ولا شك فيه، وقولهم: إن نفخ الروح لم يكن إلا في آدم – عليه السلام، وعيسى ابن مريم – عليهما السلام – قول لا دليل عليه، بل قامت الأدلة على دحضه وبيان زيفه.
ومما يؤكد ثبوت نفخ الروح في الجنين ما أوضحه ابن حجر في شرحه حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: “ومعنى إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل إخراج ريح من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله – سبحانه وتعالى – أن يقول الله: كن فيكون”[10].
يقول ابن القيم: “الجنين قبل نفخ الروح هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟ قيل: كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات، ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة، فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه”[11].
كما أن استدلالهم بأن التصوير هو نفخ الروح استدلال باطل أيضا، فالتصوير غير نفخ الروح، وهذا ما أكده الإمام النووي عندما قال: “لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته”[12].
وهذا ما أكده العلم الحديث؛ حيث يقول د. عبد الجواد الصاوي:
إن هذه القضية كما قلنا لا يفصل فيها العلم الحديث، ولكن تفصل فيها النصوص الشرعية. ولا يوجد فيما أعلم نص صريح وصحيح إلا حديث جمع الخلق الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود قال: «حدثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق – إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد…»
وقد اتفق علماء المسلمين على أن الجنين تنفخ فيه الروح بعد اكتمال طور المضغة، بناء على هذا النص النبوي الصريح. وبما أنه قد ثبت أن زمن المضغة يقع في الأربعين يوما الأولى، بنص رواية الإمام مسلم لحديث جمع الخلق، وحديث حذيفة بن أسيد «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة…»، وتوافق حقائق علم الأجنة الحديث مع هذه الأوصاف الشرعية لأطوار الجنين؛ فالروح – إذن – تنفخ بعد الأربعين الأولى من عمر الجنين ليس قبل ذلك، لكن متى يحدث ذلك بالضبط؟ أبعد شهرين أم ثلاثة أم أربعة أو أقل أو أكثر؟ لا أظن أن أحدا يستطيع أن يحدد موعد نفخ الروح على وجه الجزم واليقين في يوم بعينه بعد الأربعين يوما الأولى! حيث لا يوجد – فيما أعلم – نص صحيح في ذلك. لكن يمكن أن يجتهد في تحديد الموعد التقريبي استئناسا بقول الله تعالى: )ثم سواه ونفخ فيه من روحه( (السجدة: ٩)؛ حيث يمكن أن يفهم منه أن الروح تنفخ في الجنين بعد التسوية، وبما أن التسوية تأتي بعد الخلق مباشرة لقوله تعالى: )الذي خلقك فسواك فعدلك (7)( (الانفطار: ٧). فيمكن القول – بناء على هذا – بأن الروح تنفخ في الجنين بعد مرحلة الخلق؛ أي بعد الأسبوع الثامن من عمره وهي مرحلة النشأة خلقا آخر. وهو استنتاج معظم المفسرين الذين قالوا إن طور النشأة خلقا آخر هو الطور الجنيني الذي تنفخ فيه الروح، والذي لا يكون إلا بعد طوري العظام وكسائه باللحم، كما نصت الآية الكريمة. ويعضد ذلك حرف (ثم) الذي يفيد التراخي في حدوث الفعل، حينما ذكر مع نفخ الروح في حديث جمع الخلق: (ثم ينفخ فيه الروح – كما في البخاري – أو ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح – كما في مسلم).
وحيث إنه لا ينتهي الأسبوع الثامن إلا وجميع الأجهزة الرئيسة قد تخلقت، وانتهى طور المضغة في الأربعين يوما الأولى من عمر الجنين، وتميزت الصورة الإنسانية، وسوي خلق الإنسان في خلال هذه المدة أو بعدها بقليل؛ فيمكن للروح أن تنفخ في الجنين بعد انتهاء عملية الخلق في الأسبوع التاسع أو العاشر، أو بعد تميز الأعضاء التناسلية في الأسبوع الثاني عشر أو بعد ذلك! والله أعلم.
لكن هل توجد علامات تدل على أن الجنين قد نفخت فيه الروح؟ نعم، يمكن أن يكون نوم الجنين علامة على نفخ الروح فيه قياسا على النائم الذي يتمتع بالحياة رغم أن الروح قد قبضت منه مؤقتا، وذلك لقول الله تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42)( (الزمر).
كما يمكن أن تكون الحركات الإرادية دليلا على وجود الروح. وقد أشار إلى ذلك ابن القيم في وصفه الجنين قبل نفخ الروح وبعده، فقال: كانت فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات، ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة، فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه.
وقد أثبتت الأجهزة الحديثة رؤية حركات جسم الجنين في وقت مبكر؛ حيث يمكن أن تصور عند الأسبوع الثامن، أو عندما يبلغ كيس الحمل 3سم، أو يبلغ طول الجنين نحو 15مم. كما يمكن أن ترى الحركات الجنينية التي تعبر عن حيوية الجنين، مثل: حركات التنفس، وحركات الأطراف العليا، وضربات القلب، وحركات عدسة العين، والبلع، وحركات الأمعاء الدودية. كما رصدت الحركات التي تعبر عن نشـاط الجنين، مثل: البلع، وحركة اليد إلى الفم، والمضغ، وحركات اللسان، وحركة اليد إلى الوجه، ومص الأصابع، تلك الحركات التي يمكن أن ترى عند الأسبوع السادس عشر؛ أي قبل مائة وعشرين يوما.
وتعتبر هذه الحركات انعكاسا غير مباشر لحالة الجهاز العصبي المركزي، فكلما كانت هذه الحركات موجودة ومتوازنة؛ كانت حالة الجهاز العصبي نشطة وسليمة.
وهكذا أثبت علماء الأجنة بهذه الأجهزة الدقيقة هذه الحقائق التي تؤكد في مجملها أن أطوار الجنين الأولى من النطفة، والعلقة، والمضغة تحدث كلها في خلال الأربعين يوما الأولى، ويجمع في كل منها خلق أعضاء الجنين وأجهزته في صورته الابتدائية في خلال الأربعين يوما الأولى من عمره، وأن حركات الجنين الإرادية، وبدء عمل وظائف أعضاء الجنين الرئيسية تحدث في الأربعين يوما الثانية من عمره، ومن ثم يبطل الاحتجاج بالجزم بعدم نفخ الروح في الجنين قبل أربعة أشهر.
وعليه، فإمكانية نفخ الروح في الأجنة قائمة في أي وقت بعد الأربعين يوما الأولى؛ في نهاية الأسبوع السابع، أو الثامن، أو التاسع، أو حتى بعد أربعة أشهر.
وإن كان الراجح من النصوص أن الروح تنفخ بعد الأسبوع الثامن من التلقيح؛ لدلالة النصوص الصريحة والصحيحة على ذلك، ولعدم وجود حديث واحد صحيح أو حسن يصرح بأن الروح لا تنفخ في الجنين إلا بعد أربعة أشهر.
ومما يؤكد ذلك الحقائق العلمية الثابتة في علم الأجنة، ومن أهمها رؤية مراحل الجنين المختلفة منذ بداية تكونه واكتمال خلقه وتصويره، وقيام معظم أجهزته بوظائفها، ورصد حركته الذاتية وأنشطته البدنية قبل أربعة أشهر على وجه القطع.
وينبني على ذلك حرمة الإجهاض بعد الأربعين؛ لأن الإجهاض محرم عند جمهور الفقهاء بعد نفخ الروح، ونفخ الروح يكون بعد طور المضغة، وطور المضغة يبدأ ويكتمل وينتهي في خلال الأربعين يوما الأولى. وعليه يرجح القول بحرمة الإجهاض بعد الأربعين يوما الأولى من بداية تلقيح البويضة، وتكون النطفة الأمشاج، وتشتد الحرمة بعد مرحلة التخليق؛ أي بعد ثمانية أسابيع، وهي أشد بعد الشهر الثالث أو الرابع، والله أعلم[13].
وهذا ما أكده د. عبد الدائم الكحيل عندما قال: إن هناك تغيرات جذرية تحدث بعد مرور الاثنين والأربعين يوما الأولى، وفي اليوم الثالث والأربعين يبدأ الدماغ بإطلاق الموجات، ويبدأ الطفل في التفاعل مع محيطه، ويبدأ بالإحساس والشعور، إنه يعني أن الروح قد بدأت تمارس نشاطها في جسد الجنين، ويعني – أيضا – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد سبق علماء الغرب إلى الحديث عن هذه القضية الدقيقة.
ولهذا استدل فقهاؤنا أنه لا يجوز إجهاض الجنين بعد مضي ثنتين وأربعين ليلة من بداية الحمل، ويمكن فعل هذا الأمر إذا كان هناك ضرورة تدعو لذلك. وهذه إشارة نبوية رائعة إلى أن الروح تنفخ في الجنين عند هذا العمر. وقد تم قياس الموجات التي يطلقها الدماغ عند هذا العمر – أي: ثنتان وأربعون ليلة – وكذلك تم تسجيل ضربات القلب، وكأن هنالك علاقة بين الروح وبين عمل الدماغ والقلب[14].
ثالثا. مرحلة النطفة ليست مرحلة تخلق، ولكنها مرحلة تجميع لخلايا الذكورة والأنوثة؛ لذلك لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم:
إن الحديث الوارد في خلق الجنين وتكوينه لم يذكر مرحلة النطفة؛ لأنها ليست مرحلة تخليق، ولكنها مرحلة تجميع بين الخلايا، لذلك لم يذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – في الحديث إلا ما لزم من الأطوار، ويبتعد عن ذكر الأطوار التي ليس لها صلة مباشرة بالموضوع المتناول، أو التي لا ينطبق عليها الوصف المذكور في الحديث. ومن ثم نؤمن بأن الرسول امتنع عن ذكر طور النطفة؛ لأن معنى الحديث يقتضي عدم ذكر طور النطفة. والحديث غايته ليست سرد وترتيب الأطوار التي تحدث فيها ظاهرة “جمع الخلق”.
والمتتبع لمعنى “جمع الخلق” يفهم لماذا لم يذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – طور النطفة، وذلك للسبب الآتي: أن “جمع خلق” الشيء يقتضي – كما رأينا آنفا – جمع خلايا الشيء المقصود في أعضاء مختلفة تعطي هذا الشيء الصورة التي تمليها عليها تسميته، وهذا شرط على أي شيء أن يحققه؛ حتى يحق أن يطلق عليه صفة “مجموع الخلق”، فمثلا: على خلايا “المضغة” أن تجتمع فيما بينها حتى تؤلف أعضاء جديدة لدى “المضغة” تعطيها صورة المضغة، فإن لم يكن هناك جمع للخلايا حتى تؤلف أعضاء مختلفة لم يندرج هذا الطور تحت ظاهرة “جمع الخلق”، وكما رأينا، فإن خلايا القرص الجنيني تنقسم، ومن ثم تتمايز وتجتمع ضمن فلقات هي بدرجة طلائع للعظام واللحم والجلد، مما يعد جمعا أوليا للخلايا التي ستعطي فيما بعد الأعضاء ضمن فلقات تعطي الجنين مظهر “العلقة”، ولذلك يصدق أن نقول عن العلقة “مجموع الخلق”، ومن ثم تتكاثر تلك الفلقات وتتفكك وتهاجر خلاياها تدريجيا، وتجتمع مؤلفة الأيدي والأرجل، وسائر الأعضاء على صورة براعم أولية دون أن يفقد الجنين مظهر الفلقات، فتجتمع الخلايا من خلال هذه العمليات ضمن أعضاء مختلفة مكسبة “العلقة” صورة “المضغة المخلقة وغير المخلقة”، فيحق عندئذ أن يندرج الطور الجديد ضمن ظاهرة “جمع الخلق”[15].
ويؤكد ذلك أيضا د. أحمد شوقي فيقول: قال تعالى: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون)، في هذه الآيات الكريمات إعجاز علمي وبلاغي عجيب، نفهمه إذا علمنا أن أمشاج الذكر وأمشاج الأنثى كانتا منفصلتين إحداهما عن الأخرى – فالبويضة في جسم المرأة، والخلية الذكرية في جسم الرجل – ثم تلاقت البويضة والخلية الذكرية واتحدتا، وكونتا البويضة الملقحة، أو النطفة الأولى. إذن، فما الفرق بين خلق النطفة والعلقة والمضغة؟ خلق العلقة والمضغة هما أطوار في الخلق يعقب بعضها بعضا في نفس الجنين، وفي نفس الرحم، ولا تختلف إحداهما عن الأخرى إلا في درجة التسوية في الخلق.
إذن، هناك فرق واضح بين خلق النطفة من أمشاج ذكر وأنثى، كانت متفرقة في جسمين مختلفين ثم تجمعت، وبين العلقة والمضغة بعد ذلك؛ لذلك نجد التعبير القرآني بالغ الدقة البلاغية والعلمية: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون)، فالجعل في اللغة أشمل من الخلق؛ فالجعل يعني الجمع بعد تفرق، والخلق والأمر. لذلك لم تقل الآية: “ثم خلقناه نطفة في قرار مكين”؛ لأن الله خلق النطفة من مشيجين كانا متفرقين فجمعهما وخلطهما، وخلق منهما نطفة. وهذا النمط في خلق النطفة لم يكن في خلق العلقة والمضغة، لذلك وصف طور خلق النطفة بالجعل، وطور كل من العلقة والمضغة بالخلق[16].
ومما سبق يتبين أن في هذين الطورين هناك خلق أعضاء عن طريق جمع خلايا، وصور جديدة محدثة وفق هذا الجمع. أما في حال نطفة الأمشاج، فليس هناك جمع خلايا يؤدي إلى نشوء أعضاء جديدة لدى النطفة تضفي عليها صورة النطفة، بل هناك تكاثر للخلايا في اتجاهات مختلفة، لا يؤدي في هذه المرحلة إلى تخلق أعضاء تعطيها صورة النطفة. وجمع الخلايا إلى قسمين الذي حصل في داخل غلاف النطفة في نهاية طورها لم يؤد إلى جمع أعضاء للنطفة، بل أدى إلى جمع شيء جديد هو الجنين. وهذا بدوره يؤدي إلى أن مفردات الحديث تتطابق بتفاصيله مع المعطيات العلمية اليقينية[17].
وخلاصة القول في ذلك أنه لا تعارض بين حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – والقرآن الكريم في ذكر نفخ الروح في الجنين بعد أربعين يوما من بدء الحمل؛ فالحديث صريح في ذلك، أما التعبير بالتصوير في القرآن، وفي بعض الأحاديث الصحيحة الأخرى، فالمراد منه هو تصيير الجنين إلى هيئة خاصة، كخلق السمع والبصر، والجلد واللحم والعظم، ولذلك تبطل شبهتهم وتزول.
الخلاصة:
- إن حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – صحيح سندا ومتنا، ولا يقدح في صحته خطأ بعض المفسرين – قديما – في توجيهه؛ فهم بشر يصيبون ويخطئون.
- لا تعارض بين الحديث والأحاديث الأخرى في هذا الباب، بشأن الفترة الزمنية التي يجمع فيها خلق الجنين في بطن أمه (من 40: 42 يوما)، وذلك حسب اجتهاد بعض العلماء في توجيه الحديث توجيها آخر – وهو الصواب إن شاء الله.
- لقد جاءت توجيهات هؤلاء العلماء للحديث على النحو الآتي:
o إن قوله «يبعث إليه الملك فيؤذن فيكتب» معطوف على قوله «يجمع في بطن أمه»، ومتعلق به لا بما قبله، وهو قوله: «ثم يكون مضغة مثله»، ويكون قوله: «ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله» معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه، وذلك جائز في القرآن الكريم والسنة النبوية وكلام العرب.
o لم تكرر الروايات لفظة «أربعين يوما»، بل قالت: (في ذلك… مثل ذلك) والمعنى: في ذلك الوقت أي: الأربعين يوما علقة، أو مضغة مكتملة النمو تامة الإحكام، مثلما تكونت النطفة في الأربعين نفسها مكتملة النمو وتامة الأحكام.
o إن وصف النطفة يكون في الأسبوع الأول تقريبا، والعلقة في الأسبوعين الثاني والثالث، والمضغة في الأسابيع الرابع والخامس والسادس، وهذا ما تؤيده باقي النصوص الصحيحة، ويتفق معه العلم الحديث أيضا.
o إن جميع الروايات لم تتحدث إلا عن أربعين يوما واحدة يكون فيها جمع الخلق، والعلقة يجتمع خلقها في تلك الأربعين وكذلك المضغة، فيكون جمع الخلق في مرحلتين: الأولى العلقة، والثانية المضغة، وكلاهما في الأربعين يوما.
o بضم الحديث إلى الأحاديث الأخرى الصحيحة – أيضا – يتبين أنه يمتنع عود اسم الإشارة (في ذلك) على الفترة الزمنية (أربعين يوما)، وكذلك يمتنع عود اسم الإشارة (في ذلك) على (بطن الأم)؛ لأنه لا يفيد معنى جديدا، ولما كان ذلك تعين عوده على جمع الخلق، لا على الأربعينات.
- الروحسر من أسرار الله التي أخفاها عن خلقه؛ يقول تعالى: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، ونفخ الروح في الجنين حقيقة ثابتة بما ورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذلك بعد أربعين يوما أو اثنين وأربعين يوما.
- لقدأثبت العلم الحديث أن الجنين بعد اثنين وأربعين يوما يصدر منه بعض الحركات، كنبضات القلب والمخ وبعض الأطراف. وهذا يدل على أن الروح قد نفخت، ولكن لم يحدد وقت معين لنفخ الروح في الجنين، وهذا ما ذكره العلم الحديث وأكده.
- يتحدثالحديث الشريف عن “جمع الخلق”، وهي المراحل التي يتم فيها تخلق بعض أعضاء الجنين، سواء في مرحلة العلقة أو مرحلة المضغة، لذلك لم يذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – مرحلة النطفة؛ لأنها مرحلة تجميع بين خلايا الذكر والأنثى، ولا يحدث فيها تخلق.
- أشار القرآن الكريم إلى مراحل تطور الجنين، فوصف مرحلة النطفة بقوله:)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13)( (المؤمنون)، ووصف المراحل الأخرى بقوله: )ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون). وهذا يدل على أن مرحلة النطفة ليست مرحلة تخلق، ولكنها مرحلة تجميع لأمشاج الرجل والمرأة. وهذا يدل على دقة اختيار النبي – صلى الله عليه وسلم – لألفاظه؛ فهي وحي من الله تبارك وتعالى.
(*) دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ/ 1999م. الإسلام وصياح الديك، جواد عفانة، دار جواد، الأردن، ط1، 1427هـ/ 2006م.
[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: خلق آدم ـ عليه السلام، وذريته، (6/ 418)، رقم (3332).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (9/ 3759)، رقم (6599).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، (9/ 3760)، رقم (6602).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، (9/ 3760)، رقم (6604).
[5]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3765).
[6]. البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن الكريم، ابن الزملكاني، ص275، نقلا عن: “أطوار الجنين ونفخ الروح “، د. عبد الجواد الصاوي، مقال بموقع الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. www.nooran.org.com.
[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، (15304). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[8]. انظر: إعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص423 وما بعدها.
[9]. إعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص427: 429.
[10]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (11/ 494).
[11]. التبيان في أقسام القرآن، ابن القيم، تحقيق: طه يوسف شاهين، دار الطباعة المحمدية الأزهرية، القاهرة، ط1، 1388هـ/ 1968م، ص218.
[12]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3764).
[13]. “أطوار الجنين ونفخ الروح”، د. عبد الجواد الصاوي، مقال بموقع الهيئة العلمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
[14]. “الإعجاز في قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة… “، د. عبد الدائم الكحيل، www.kaheel.com
[15]. إعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص430، 431.
[16]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، (2/ 58: 60) بتصرف.
[17]. إعجاز القرآن فيما تخفيه الأرحام، كريم نجيب الأغر، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص431 بتصرف.
الشبهة حول الناسخ والمنسوخ
إيراد باطل
في البداية يجب أن نحرص على التفكير بوضوح، وأن يكون استدلالنا استدلالا دقيقا.
إذا أتى الاعتراض على الناسخ والمنسوخ من ملحد فإن لديه مشكلة منطقية واضحة جدا، إذْ لو رأى الملحد أن القرآن ليس كلام الله لأن فيه ناسخ ومنسوخ فهذا لا ينفي ولا يثبت شيئا في عقيدة الملحد، ولا يفيد إطلاقا في النقاش حول وجود الخالق، وهو الأمر الذي يدور عليه الإلحاد. فالملحد المستدل على عدم وجود الخالق بوجود الناسخ والمنسوخ إما أن لديه لوثة أو أنه يسعى للتلبيس على المسلمين فقط، لأن الاعتراض على الناسخ والمنسوخ يستلزم بالضرورة الإيمان بوجود خالق لا يصح في حقه النسخ، ولهذا فإنه حتى لو لم يتم الرد على هذه الشبهة فاحتجاج الملحد بها باطل.
النسخ ليس تراجعا عن خطأ تشريعي
ولكن سنفترض أن السؤال أتى من شخص يؤمن بوجود الخالق، ونقول: النسخ ليس مأخذا على المشرع، وإنما هو تشريع بحسب الواقع حال التشريع. فمثلا لو تم تحريم الزواج من الأخت منذ نزول آدم لكان آخر البشر هم أبناء آدم. فكان زواج الأخت جائزا ثم كان التحريم لما ارتفعت الضرورة.
وأحكام بني إسرائيل كان فيها تشديد لأنهم كانوا يتجاوزون التشريعات ويلتفون عليها، ولكن لما بعث الله عيسى عليه السلام خفف عنهم الأحكام كما ورد في القرآن على لسان المسيح “ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم”، وهذا من رحمة الله.
ولا يعني النسخ أن الله أنزل حكما خاطئا ثم عدّله بحكم آخر، والدليل على ذلك هو أن القرآن يتحدث عن النسخ في أول سورة مدنية، وهي سورة البقرة، فيقول: “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”.
وأشهر الآيات المنسوخة نزلت بعد نزول هذه الآية، وبينها وبين سورة البقرة أربع سور من حيث ترتيب زمن النزول، وهي من سورة النساء: “وَالَّلاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً”، حيث أتت الآية الناسخة بعدها بتسع سور في سورة النور: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ”. فإذا كان الله يخبرنا أن الآيات يمكن نسخها ثم يأتي بعد ذلك بآيات وينسخها فكيف يمكن اعتبار النسخ تراجع عن خطأ؟
التدرج في الأحكام
ويأتي النسخ أحيانا بهدف التدرج في التحريم، ومثال ذلك تحريم الخمر، فكان التدرج مناسبا لطبيعة الإدمان التي لا تقبل التحريم المفاجئ. ولدينا تجربة شهيرة في التحريم الفاشل للخمور، فقد حرمت الخمور في أمريكا عام 1920 ولم يستمر تحريمها سوى 13 عاما ثم عاد تداولها بمستوى أشد بكثير.
لاحظ التدرج في التحريم من خلال هذه الآيات:
“ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا” [النحل]
“يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما” [ البقرة]
“يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل” [النساء]
“يا أيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون” [المائدة]
وقد لا يعد البعض ذلك نسخا لأنه لا يوجد تعارض بين الآيات.
وهذا مثال آخر على النسخ الذي نزل من أجل التخفيف في الحكم، فقد قال الله تعالى: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا”، وهذا إلزام في حالة القتال حتى لو كانت النسبة بين المسلمين والكفار 1 إلى 10، فلما انصاع المسلمون لأمر الله بعكس اليهود الذين تلكئوا، خفف الله عنهم ونسخ هذه الآية بقوله تعالى: “الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين”، وبهذا أصبح إلزام القتال بنسبة 1 إلى 2 فقط بين المسلمين والكفار.
ولاحظ الحكمة التربوية هنا، بعكس تحريم الخمر، فقد فرض الله الأمر الصعب في البداية ثم جاء التخفيف لترتاح له النفوس.
والمأخذ الذي يأخذه المعترضون على مسألة النسخ من الملحدين والنصارى- كما أسلفنا- هو ادعاؤهم أن الله ينزل حكما فيكتشف خطأه ثم ينسخه، وهذا الادعاء لا يستقيم مع نصوص الآيات، فالآية تقول “الآن خفف الله عنكم”، أي أن الحكم الأول كان مقصودا أصلا لكي يتم التخفيف فيما بعد.
وهذا الادعاء لا يقوم أيضا مع كافة الأمثلة إذا دققنا في النصوص. خذ مثلا الآية المنسوخة التي أوردناها في بداية الموضوع عن عقوبة الزانية، فقد ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: “أو يجعل الله لهن سبيلا”، وهذا تلميح إلى الحكم التالي الذي سوف ينسخ هذا الحكم ويكون فيه تخفيف عليهن.
فمسألة النسخ ليست خطأ في التشريع، وإنما هي مسألة مثبتة تحدث عنها القرآن بلغة صريحة، ويتضح للمتأمل أن لكل منها أسبابا تشريعية كالتخفيف أو التدرج تطلبتها ضرورة المرحلة أو الظروف الراهنة عند نزول الحكم، ولهذا فإننا نجد أن النسخ لم يقع في آيات الأخبار أبدا.
كيف تغرب الشمس في عين حمئة؟
الوصف مشهور في اللغة
قال الله تعالى في وصف رحلات ذي القرنين: “حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة” (سورة الكهف).
هل يعني ذلك أن الشمس على ضخامتها غربت وانغمرت داخل عين حمئة كما تنغمر كرة ثقيلة في الماء؟ طبعا لا!
المسألة ببساطة أن ذا القرنين بلغ نهاية الأرض من جهة المغرب، حتى إذا نظر للشمس وهي تغرب في تلك النهاية كان آخر ما توارت خلفه- بالنسبة للناظر إليها- عيناً حمئةً، أي أنها لم تختفِ خلف جبل أو خلف سهل، بل خلف عين حمئة. ولا تعني الآية أبداً أن الشمس “انغمرت” في داخل عين حمئة!
رجعت إلى كثير من تفاسير السلف لأرى هل فهم منهم أحد أن الشمس انغمرت في عين حمئة، فلم أجدهم فهموا منها ذلك، ولا وقع عندهم استشكال أصلا حتى يبحثوا له عن حل، مع أنهم كانوا في زمن ليس لديهم تصور عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس.
ومن خطر له منهم أن من الناس من قد يفهم هذا الفهم الخاطئ نبه عليه. قال القرطبي: “ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة. بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض” انتهى.
إذن فالمذكور في الآية إنما هو نهاية مدرك البصر للشمس حال الغروب. ولا نحتاج هنا إلى التأول ولا إلى القول بالمجاز بالنسبة لغروب الشمس، بل هذا المعنى ظاهر متبادر من الآية.
فلسنا أمام شبهة تحتاج حلاً! ولا أمام آية يظهر منها التعارض مع العلم حتى نبحث عن توفيق! بل هكذا هو التعبير اللغوي عن غروب الشمس، والمستخدم حتى في غير العربية.
حتى في وكالة ناسا!
حتى في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا يجري استخدام هذه اللغة، وهي المرجع الأول في علوم الفلك. راجع هذا الرابط على موقع ناسا.
التعليق تحت الصورة:
“On May 19, 2005, NASA’s Mars Exploration Rover Spirit captured this stunning view as the Sun sank below the rim of Gusev crater on Mars.”
الترجمة: “في التاسع عشر من شهر مايو عام 2005، التقط تلسكوب تابع لناسا هذه الصورة المدهشة بينما كانت الشمس تغوص تحت حافة فوهة جوسيف على كوكب المريخ.”
هل يفهم أحد أن هذا يعني أن الشمس انغمرت في ذلك المكان أو استقرت فيه حتى يقال إن وكالة ناسا وقعت في خطأ علمي؟
لاحظ أن ناسا استخدمت لفظة “تغوص” بينما النص القرآني استخدم لفظة “تغرب”.
ما هي هذه العين الحمئة؟
يمكن أن نتصور أن ذا القرنين رأى الشمس تغرب في بحر أو محيط كما يراها الشخص الواقف على ساحل البحر المتوسط مثلا. لكن ما قصة العين الحمئة؟ بداية، ما معنى “عين حَمِئَة”؟
معناها عينُ ماءٍ ذاتُ حَمَأَةٍ، أي ذات طين أسود، قال تعالى: “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون”. وهذه العين التي بلغها ذو القرنين، والتي يتشكل عنها مسطح مائي يمكن أن تُرى فيه الشمس غاربةً لم نعهد مثلها في العالم المعروف وقت نزول القرآن، أي في المنطقة التي تعاقبت عليها الحضارات، إنما هي جزء من مجموعة مظاهر طبيعية تسمى geothermal features (المظاهر الأرضية الحرارية)، وتحتوي على العيون الطينية الحمئة (mud pots) والعيون الحارة (geysers)، وهذان المظهران يوجدان عادة بالقرب من بعضهما، وهذا رابط يتحدث عنها:
وهو ينص في بدايته على أن العيون الحمئة والعيون الحارة يوجدان بقرب بعضهما:
In this chapter we look at specific areas in the world where geysers, mud pots, etc. are found. It is usual that all these geothermal features occur in a cluster rather than an isolated feature being present.
الترجمة: “في هذا الفصل سنستعرض مناطق محددة من العالم حيث توجد الينابيع الحارة والعيون الطينية (الحمئة) وأشباهها. المعهود أن تتواجد هذه المظاهر الأرضية الحرارية كلها كتجمعات وليس كل منها على حدة. الذي فاجأني وأنا أُحضر الموضوع هذه الخارطة لأماكن تواجد تلك العيون عالميا:
طبعا هي من موقع أجنبي لا علاقة له بشرح الآية، على هذا الرابط.
تلاحظ في هذه الصورة تواجداً لافتاً للعيون الحارة، ومعها العيون الحمئة في أقصى غرب الكرة الأرضية.
دعونا الآن نستعرض صورة غروب الشمس على إحدى العيون الحمئة في أقصى الغرب:
هذه الصورة هي للغروب على عين حمئة أو حارة في غرب أمريكا. ولكي ترى صورا متنوعة لغروب الشمس على عيون حارة وحمئة افتح صفحة البحث هذه على جوجل.
يبدو والله أعلم أن المنظر الذي رآه ذو القرنين شبيه جدا بهذا المنظر. فلنعد إلى الآية: “حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة”. لاحظ التناسق الكامل! أما عن إمكانية وصول ذي القرنين إلى تلك المناطق البعيدة فهو أمر لا يُستبعد، خاصة وأن الله تعالى مكّن له في الأرض، وآتاه الأسباب من كل شيء، قال تعالى: “إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا”.
قد يقول قائل: لكن الشمس ليس لها مشرق ومغرب، بل هي تشرق على جهة وتغرب عن أخرى على مدار الساعة، والأرض هي التي تدور. فنقول إن تعبير “غروب الشمس” و”مغرب الشمس” و”غربت الشمس”، كلها تعبيرات تعارفت عليها الأمم، وحتى وكالة الفضاء الأمريكية ناسا تستخدمها، ويمكنك أن ترى تعبيرات “تشرق الشمس” و “تغرب الشمس” في موقع وكالة ناسا على هذا الرابط.
هذا ما ظهر لنا في تفسير الآية والله أعلم، لكن على جميع الأحوال لا يوجد – كما يدعي المشككون – خطأ علمي!
د. إياد قنيبي (بتصرف)
القرآن يزداد تألقًا وقوة في وجه الافتراءات
من يستعرض تاريخ القرآن الكريم عبر الزمان والمكان يجد أن من بين خصائص هذا الكتاب التي تصل إلى حد الإعجاز: أنه كلما اشتد الهجوم عليه من معارضيه ومنكريه ازداد القرآن تألُّقًا وقوة؛ فحقائق القرآن الخالدة تدحض الزيف والافتراء وكل ما يثيره أعداء القرآن من شبهات… إنه بحق كما أخبر الله تعالى عنه:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت/42.
وتقوم آيات القرآن على إقناع العقل وطمأنينة القلب وفضح الزيف والافتراء حتى لا يبقى أمام المتمرد إلا أحد أمرين: إما أن يؤمن عن بيِّنة وإما أن يكفر عن بيِّنة.
القرآن وحده هو القادر على محاورة المتمرد.. لأنه خطاب الخالق لخلقه وهو عز وجل أعلم بهم، قال الله تعالى:
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك/14.
وفي القرآن نماذج هادية في محاورة المتمرد، من ذلك الحوار القرآني مع النمروذ، قال الله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البقرة/258.
ولأن القرآن الكريم كتاب هداية {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة/ 185 .. فكل آية، بل كل كلمة، بل كل حرف فيه يحمل سرًّا من أسرار الهداية الربانية التي أودعها الله في آياته، فإذا مست القلب وتأملها العقل وجد فيها الملاذ الآمن والحقيقة الخالدة فأسرع مستجيبًا لهدى الآيات بعد أن ملأه الإيمان والتصديق بها.
و إني لَعَلَى يقين ـ إيمانًا وعقلاً وتجربةً ـ بأن الهجمة المعاصرة على القرآن ستعود لصالح القرآن، كما كانت الغلبة للقرآن فى كل الهجمات السابقة، والنصر دائمًا بالنتائج؛ فهي:
أولاً: تلفت الانتباه إلى القرآن الكريم، فتدفع العقول الرشيدة إلى البحث وإلى التأمل.. وكلما بحثتْ وتأملتْ ازدادتْ قربًا من القرآن؛.لأنه الحق والصدق.. لأنه من الله، تنـزيل رب العالمين، ليس ككلام البشر الذى كلما تأمله الإنسان أدرك ما فيه من نقص وأصابه الملل. إنه كلام الله.. آياته الهادية المعجزة.. إنه الكمال المطلق، لقد أتوا إلى القرآن متشككين، وما لبثوا أن مست الهداية قلوبهم فعادوا مؤمنين. وتبارك من هذا كلامه!!!
وثانيًا: توقظ المسلمين من غفلتهم أن ينصفوا القرآن من أنفسهم، بعد أن هجروا القرآن عملاً وسلوكًا وأخلاقًا.. ويصححوا أحوالهم حتى يكونوا مرآة صادقة لعظمة هذا الكتاب، وتتحقق فيهم الخيرية التي أرادها الله لهم بالقرآن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران/110.
إن إحساس المسلمين بالخطر جعلهم يلوذون بالله ويزدادون تمسكًا بالقرآن ورجوعًا إليه.
وفى كل الجولات السابقة بين القرآن وشبهات المنكرين وافتراءات الحاقدين كانت الغلبة والهيمنة للقرآن. وذلك بداية من لحظة نزوله ومحاولات الكافرين التشكيك فيه ومحاولة صرف الناس عن سماعه، قال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فصلت/26.
وكانت المواجهة الحاسمة من الآيات الإلهية التي أقامت هذا التحدي لهم، قال تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} البقرة/23.
ولَمَّا لم يفلح فرسان البلاغة في التشكيك لجأوا إلى أسلوب آخر هو أسلوب المساومة، فحاولوا مساومة النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبدل هذه الآيات ويأتي بآيات تشبع أهواءهم، قال الله تعالى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يونس/15.
- ولقد عصم الله نبيه ورسوله سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم من نسيان حرف أو كلمة أو طريقة أداء لآية من آيات القرآن الكريم، وتوضح الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا كلَّ الحرص أثناء تلقي القرآن من أخيه جبريل عليه السلام على الترديد، حتى جاءه الأمر الإلهي الذي يحمل فى صحبته البشرى، قال تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} القيامة/ 16 ـ 17.
وقال تعالى:
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} الأعلى/ 6.
و”لا” هنا نافية وليست ناهية بدليل إثبات الياء في آخر الفعل المضارع “تنسى”، والمعنى: أننا سنقرئك قراءة من حسنها وعظمتها وبركتها أنك لا يمكن أن تنسى بعدها أبدًا.
لتؤكِّد الآيات لكل متدبِّر أن الدين ليس شأنًا بشريًّا, ليس صناعة عقلية وإنما هو تنـزيل من رب العالمين.
وكان المشركون يعلنون عن عجزهم عن مواجهة القرآن بقولهم: إنه سحر، كما حدث عندما أرسلوا لسان الفصاحة والحكمة عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا استمع إلى الآيات ومسَّت الهداية قلبه رجع إلى قريش وأخبرهم: إنه ليس بكلام بشر… فقالوا: سحرك يا أبا الوليد!
وتمر السنون بل القرون ويتعرض القرآن لحملة أخرى من الإساءة والتشكيك والافتراءات وإثارة الشبهات وذلك أثناء الحملة الصليبية على الشرق الإسلامي، وقام فريق كبير من المستشرقين بالتأليف ضد القرآن.. فألفوا كتابًا بعنوان “دحض القرآن” وقام فريق آخر بترجمة النص القرآني نفسه “وليس المعاني” إلى اللاتينية ليكون ذلك خطوة إلى التحريف والتغيير فيه والتبديل. وماتت كل هذه الجهود وظل القرآن يزداد تألقًا وقوة وعظمة.
ناهيك عن الأحاديث المختلقة والملفقة التي دسها أعداء الإسلام في السنة النبوية ضد القرآن بصورة مباشرة أو غير مباشرة للإساءة إلى كُتَّاب الوحي، وقد نَبَّهَ عليها علماء السنَّة وكشفوا زيفها.
وفى واقعنا المعاصر يتعرض القرآن لهجمات شرسة على مستوى الأفراد والمؤسسات العلمية والاجتماعية، بل وعلى مستوى الأمة والدولة.. بإثارة الشبهات وتأليف قرآن مزعوم.
ولعلَّ من المناسب فى هذا السياق أن نلفت الانتباه إلى خصوصية من الخصائص التي انفرد بها القرآن الكريم، وهي أنه الكتاب الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يحفظه أهله فى صدورهم عن ظهر قلب، وهذه النسخة الفريدة المحفوظة فى الصدور، والتي يتم تناقُلها بين المسلمين تلاوةً عن طريق التلقِّى شفاهةً، هذه النسخة لا يمكن أن تَمَسَّها يد التحريف والتزييف من الأعداء. وهذه النسخة المتفرِّدة فى صدور الحفظة تبطل كل الجهود التي تُبذَل لتحريف نسخة المصحف المكتوبة. وسبحان الله القائل:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر/9.
ومعلوم أن السر في حفظ القرآن الكريم على هذا النحو المعجز لا يعود إلى جهد البشر،ولا إلى مكانة العرب والمسلمين، فقد مرت الأمة بأزمات عديدة ومراحل انكسار كالمحنة المعاصرة. ولو كان حفظ القرآن منوطا ومرتبطا بهم لذهب القرآن من مئات السنين.. وإنما حفظ القرآن على هذا النحو المعجز الخالد يعود إلى رب القرآن.. إلى الله رب العالمين.. إلى خالق الكون.. عالم السر والعلن.. القادر على كل شيء.. قال تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر/9.
دعوى مخالفة القرآن والسنة الحقائق العلمية المتعلقة بالرعد والبرق
مضمون الشبهة:
هل الرعد ملك من الملائكة؟ سؤال ولج من خلاله الطاعن إلى طعنه في الآيات والأحاديث المتعلقة بالرعد والبرق، ومن ذلك قوله تعالى:)هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)((الرعد). وأخرج الترمذي عن ابن عباس: «أقبلت يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: هو ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله. فقالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: زجره السحاب حتى تنتهي إلى حيث أمرت، قالوا: صدقت».
وبالإضافة إلى السؤال الذي استهلت به الشبهة، يطرح الطاعن أسئلة أخرى مؤداها: كيف يسبح الرعد بحمد الله؟ وهل هو مخلوق حي يتكلم ويتحرك ويسبح الله بلسانه؟ ومم التخويف وهي ظاهرة طبيعية؟
كل هذا يدل ـ والكلام للطاعن ـ على مخالفة صريحة لحقائق العلم؛ ففي حين يصف العلماء الرعد والبرق بأنهما من الظواهر الناتجة عن تصادم الشحنات الكهربائية الموجبة الموجودة في السحب ـ يرجع القرآن هذه الظاهرة إلى أمور غيبية دون أية إشارة إلى كونها ظاهرة طبيعية.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يقل القرآن الكريم إن الرعد ملك، وما جاء في السنة ينبغي أن يفهم على أن للرعد ملكًا، وليس أنه ملك، وتوكيل الله تعالى بعض الملائكة ببعض الأمور أظهر من أن يبرهن عليه. أما تساؤل الطاعن عن كيفية تسبيح الرعد بحمد الله سبحانه وتعالى، فنجيب عنه بتساؤل مفاده: ولماذا جاء في التوراة والإنجيل أن كل شيء في السماوات والأرض يسبح باسم الرب؛ ففي سفر الزبور: [تسبحه السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها]. فالرعد ظاهرة طبيعية، وفي الوقت نفسه واحدة من جند الله، يسبح بحمده. وأخيرًا: لا مجال للقول بأن ثمة تناقضًا بين ما أثبته العلم الحديث وبين آي القرآن فيما يتعلق بظاهرة الرعد والبرق، دليلنا على ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور).
2) أثبت العلم الحديث أن البرق يشكل خطرًا على حياة الإنسان، وذلك عند حدوث التفريغ الكهربي بين الشحنات الموجبة لنقاط الأمطار، كما أثبت أن للبرق والرعد دورًا مهمًّا في القضاء على الآفات التي تصيب المزارع، وأن البرق وسيلة مهمة لحصول الأرض على النيتروجين، الذي لولاه لانعدم نمو النبات، وكل هذا يتطابق مع قوله تعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا((الرعد:12)؛ أي: خوف من عقابه وطمع في رحمته؛ ومن ثم فإن الطاعن قد أخطأ حينما خطأ القرآن وتساءل مم التخويف وهي ظاهرة طبيعية؟!
التفصيل:
أولا. المفهوم الصحيح للآيات والأحاديث المتعلقة بالرعد والبرق:
1) الحقائق العلمية:
إذا ما سمع الرعد من أية عاصفة جوية يمكن أن تسمى هذه العواصف بعواصف الرعد، وقد يحدث الرعد في حالة تكوين الزوابع أو العواصف المدارية، إلا أن تعبير “عواصف الرعد والبرق” بمعناه الخاص يدل على العواصف التي تنشأ بفعل التيارات الهوائية الصاعدة خلال فترة وقتية قصيرة، وتتخذ عواصف الرعد والبرق مراحل أدوارها في السحب الركامية([1]) التي تبدو أعاليها على شكل السندان، وتسقط بسببها أمطار غزيرة جدًّا خلال وقت قصير([2]).
أهم العوامل التي تؤدي إلى نشأة عواصف الرعد والبرق:
- تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة([3])، فيصعد الهواء الانقلابي الساخن الرطب إلى أعلى مؤديًا إلى حدوث ما يسمى بعواصف الرعد والبرق الحرارية.
- تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة الناتجة عن حدوث الحرائق في الغابات، وفي المصانع وصعود الهواء الساخن إلى أعلى وتكوين ما يسمى بعواصف الرعد والبرق الحرارية الصناعية.
- تعرض الهواء الملامس لسطح الأرض للحرارة الشديدة الناتجة عن نشاط الثورانات البركانية المختلفة، وهذا يؤدي إلى تكوين عواصف الرعد والبرق المحلية البركانية.
- تعرض الهواء الساخن الصاعد لكتل هوائية باردة في الطبقات العليا من الجو، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث عواصف الرعد والبرق الباردة.
- قد تحدث عواصف الرعد والبرق على طول نطاق الجبهات الباردة النشيطة في العروض المعتدلة، وتعرف باسم عواصف الرعد والبرق على أسطح الجبهات.
- قد تحدث عواصف الرعد والبرق عند صعود الهواء الساخن فوق السفوح الجبلية، وتعرف في هذه الحالة باسم عواصف الرعد والبرق التضاريسية.
- قد تحدث عواصف الرعد والبرق كذلك عند تقابل كتل هوائية مختلفة الخصائص الطبيعية.
أسباب حدوث الرعد والبرق من وجهة النظر العلمية:
يرى العلم الحديث أن البرق عبارة عن وميض الضوء الذي يحدث نتيجة عمليات الشحن الكهربي في الغلاف الجوي، أما الرعد فهو عبارة عن الصوت الذي يحدث نتيجة للتمدد الفجائي للهواء بفعل الحرارة الشديدة الفجائية الناجمة عن حدوث البرق.
وقد أكدت الدراسات الحديثة أن السحب الركامية عبارة عن مولد كهربي ثابت لها القدرة على بناء ملايين من وحدات الجهد الكهربي خلال وقت قصير؛ فعند انقسام ذرات مياه الأمطار تكتسب الذرات المنفصلة عن الذرات المائية الأصلية شحنات موجبة، في حين تبقى الذرات المائية الأصلية بشحناتها السالبة، والتي تتساوى في مقدارها مع الشحنات الموجبة.
ومن ثم تتمثل معظم الشحنات الموجبة في القسم الأسفل من سحب المزن الركامي، أما في القسم الأعلى منها وعند مستوى نقطة الندى، فإن تساقط حبات الثلج يكسب البلورات الثلجية شحنات سالبة، ويشحن الهواء المحيط بها بشحنات سالبة، وعند صعود الهواء الساخن إلى أعلى فإنه يحمل معه الشحنات الموجبة إلى أعالي المزن الركامي، ونتيجة لاصطدام الشحنات الموجبة مع الهواء الصاعد بالشحنات السالبة المتمثلة عند أعالي السحابة يحدث التفريغ الهوائي داخل هذه السحب، ويتكون البرق والرعد.
وجدير بالذكر أن البرق والرعد يحدثان في وقت واحد تقريبًا بفعل التفريغ الكهربي داخل سحب المزن الركامي، ولكن لما كانت سرعة الضوء 300 ألف كم/ث، وسرعة الصوت في الهواء 330م/ث، وأن سرعة سقوط المطر دون ذلك بكثير ـ فإن المشاهد لهذا النوع من العواصف يرى البرق أولًا، ثم يسمع الرعد ثانيًا، وبعدها بقليل يستقبل هطول المطر.
ويرى البروفيسور “هواردكريتشفيلد”ـ عالم طبيعة إنجليزي له اهتمامات بآلية الرعد والبرق، وقدم عدة دراسات حول هذا الموضوع ـ أن الرعد يحدث في الجو بعد حدوث البرق مباشرة، وبفعل التمدد الفجائي للهواء الذي ارتفعت حرارته بدرجة كبيرة وبصورة فجائية بفعل البرق، ولا يقتصر حدوث التفريغ الكهربي داخل سحب المزن الركامي لعواصف الرعد والبرق فقط، بل قد يحدث ذلك أيضًا داخل نطاق السحب المجاورة لهذه العواصف، وفي هذه الحالة يكون البرق خطرًا على حياة الإنسان والحيوان، بخاصة عند حدوث التفريغ الكهربي بين الشحنات الموجبة لنطاق الأمطار داخل سحب المزن الركامي، وبين الشحنات السالبة على سطح الأرض([4]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
الرعد من الظواهر الطبيعية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، قال تعالى: )ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته((الرعد: 13)، وقد اعترض الطاعنون على هذه الآية، زاعمين أنها تخالف الحقائق العلمية المتعلقة بالرعد، وسنورد فيما يأتي بيانًا لهذه الطعون مع الرد عليها.
- فأول ما يقابلنا مما قاله هؤلاء هو تساؤلهم: هل الرعد ملك من الملائكة؟!
نقول: ليس هناك ما يؤكد أن الرعد ملك، فليس في القرآن ما يدل على أنه ملك، كما أن الأحاديث النبوية تذكر أن للرعد ملكًا، وليس أن الرعد ملك، والفرق واضح([5]).
وتوكيل الله تعالى لبعض الملائكة ببعض الأمور في الكون أمر مشهور، أظهر من أن يبرهن عليه، كتوكيل ملك بقبض الأرواح، وآخر بالرياح والمطر، وآخر بالجنة، وآخر بالنار، وملائكة بحمل العرش، وقد تضافرت آيات القرآن الكريم بإثبات ذلك لله تعالى، قال تعالى: )والنازعات غرقًا (1) والناشطات نشطًا (2) والسابحات سبحًا (3) فالسابقات سبقًا (4) فالمدبرات أمرًا(5)((النازعات)، وقال تعالى: ) والذاريات ذروًا (1) فالحاملات وقرًا (2) فالجاريات يسرًا (3) فالمقسمات أمرًا (4)((الذاريات). وهذه الآيات الكريمات يراد بها الملائكة([6]).
وإذا كان بعض المفسرين قد ذكر أن الرعد ملك من الملائكة، فإن هذا لا يتعارض مع ما جاء عند علماء الطبيعة؛ فأقوالهم عن الرعد والبرق مناسبة لعصرهم، وأفكارهم مبدئية، والتفسير العلمي الذي جاء به العلماء حديثًا لهذه الظواهر إنما يكمل ما بدأه المفسرون القدامى.
وحتى إذا ما افترضنا صحة القول بأن الرعد ملك من الملائكة، فإن التوفيق بين هذا القول والحقيقة العلمية لايزال ممكنًا؛ فالله تعالى هو المؤثر في الحقيقة ـ كما هو صريح عقيدة المسلمين ـ ولكنه تعالى ربط الأسباب بالمسببات كما هو معروف مشهور، فهذا التعليل العلمي هو للأسباب العادية، ولكن التأثير الحقيقي لله عز وجل.
يقول الإمام الألوسي رحمه الله : “وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى، وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة، وبهذا أنا أقول”([7]).
ويقول الشيخ سعيد حوى: “إن بعض الأسباب الحسية ربطها الله بأسباب غيبية كالموت سببه الحسي المرض، وسببه الغيبي سحب الروح من قبل الملك، والجميع بأمر الله وقدرته، فعندما يثبت بالدليل الشرعي أن سببًا حسيًّا مرتبط بسبب غيبي فقد وجب الإيمان في هذه الحالة بكل من السببين: الغيبي والحسي، ولا يجوز نفي أحدهما بحال، ولا يمتنع أن يكلف الله تعالى ملكًا من الملائكة بمباشرة هذه الأمور.
إن للرعد سببًا حسيًّا وللبرق سببًا حسيًّا هو ما يتكلم عنه علماء الطبيعة، ولتصريف السحاب أسباب غيبية، الله أعلم بها؛ فعلماء المسلمين يذكرون أن المكلف بأمر الأرزاق ميكائيل، فإذا ورد حديث صحيح حول موضوع الرعد والبرق وصلة الملائكة به، فإنه محمول على ذكر السبب الغيبي الذي لا ينفي السبب الحسي، فإذا أدركت هذا الموضوع عرفت قاعدة مهمة تستطيع أن تفهم بها كثيرًا من النصوص”([8]).
والطاعن لا يقف عند حد تساؤله: هل الرعد ملك من الملائكة؟ بل يطرح تساؤلا آخر مؤداه: كيف يسبح الرعد بحمد الله؟ وهل هو مخلوق حي يتحرك ويتكلم ويسبح الله بلسانه؟
وقد رجع الطاعن إلى تفسير البيضاوي ونقل عنه ما يأتي: “قال البيضاوي: عن ابن عباس «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال: هو ملك موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب». والملائكة من خيفته، من خوف الله وإجلاله، وقيل: الضمير للرعد. وأخرج الترمذي عن ابن عباس: «أقبلت اليهود إلى محمد فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوقه بها حيث يشاء. قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال: زجره السحاب حتى تنتهي حيث أمرت. قالوا: صدقت». ونحن نسأل: إذا كان الرعد هو الكهرباء الناشئة عن تصادم السحاب، فلماذا يقول: إن الرعد هو أحد الملائكة”([9]).
وردا على ذلك نقول: على فرض أن الطاعن قد طرح هذا التساؤل الأخير ـ هل الرعد ملك؟ والذي سبقت مناقشته ـ بحسن نية، فإنه لايمكن افتراض الشيء نفسه فيما نقله عن البيضاوي؛ ذاك أنه لم يكن أمينًا في النقل عنه؛ إذ أسقط من كلامه قسمًا مهمًّا، وأبقى قسمًا يوافق هدفه في تخطئة القرآن، فلم ينقل الطاعن الخلاف الذي نص عليه الإمام البيضاوي؛ حيث قال :: “ويسبح الرعد”؛ أي: يسبح سامعوه. “بحمده”: ملتبسين به، فيضجون بسبحان الله والحمد لله، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته، ملتبسًا بالدلالة على فضله ونزول رحمته([10]).
هذا هو رأي البيضاوي في معنى تسبيح الرعد بحمد الله، فإما أن يكون المعنى أن الناس الذين يسمعون الرعد يسبحون الله، ويكون تسبيحهم ملتبسًا ومقرونًا بحمد الله، فيقولون: سبحان الله والحمد لله، وإما أن يكون صوت الرعد دالًا على وحدانية الله وكمال قدرته، ملتبسًا بالدلالة على فضل الله ونزول رحمته.
وهذا هو التفسير الصواب لتسبيح الرعد بحمد الله، وهو الذي يقول به البيضاوي. وبعد ما قرر البيضاوي التفسير الصواب أراد أن يذكر قولًا آخر هو عنده مرجوح، فأورد رواية عن ابن عباس رفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها أن الرعد أحد الملائكة، يسوق السحاب وهو يذكر الله ويسبحه.
ونسب الطاعن إلى البيضاوي رواية لم يوردها في تفسيره، وهي التي أخرجها الترمذي في سننه، والتي فيها جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لسؤال اليهود عن أن الرعد أحد الملائكة، وصوت الرعد هو صوت الملك يزجر به السحاب. هذه الرواية لم تذكر في تفسير البيضاوي، وكان الطاعن مفتريًا عندما زعم وجودها في تفسيره([11]).
ولا حاجة هنا لأن نعيد ما سبق أن ذكرناه من أن الذي ينبغي أن يفهم من هذه الأحاديث ـ على الرغم من اختلاف العلماء فيها؛ فمنهم من صححها ومنهم من ضعفها ـ هو أن للرعد ملكًا، وليس أنه ملك، وذلك على حد تعبير فضيلة الدكتور علي جمعة.
ومن ثم يمكن القول: إنه لا شبهة على الآية أصلًا ـ من ناحية كون الرعد ملكًا ـ لأن القرآن لم يقل ذلك. فقط إن كان ثمة شبهة؛ فهي في الأحاديث، وقد تم توجيهها.
ونعود إلى استئناف مناقشة ما بدأناه حول تساؤل الطاعن: كيف يسبح الرعد بحمد الله؟ وفي اعتقادنا أن الرد على ذلك هين؛ خاصة إذا علمنا أنه ورد في التوراة والإنجيل أن كل شيء خلقه الله، فهو يسبحه.
ففي التوراة عن التسابيح لله: “شعب سوف يخلق، يسبح الرب”؛ يقصد شعب محمد صلى الله عليه وسلم (مزمور 102: 18)، وفي سفر الزبور: “تسبحه السماوات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها” (مزمور 69: 34)، وفي سفر الزبور: “سبحوا الرب من السماوات، سبحوه في الأعالي، سبحوه يا جميع ملائكته، سبحوه يا كل جنوده، سبحيه يا أيتها الشمس والقمر، سبحيه يا جميع كواكب النور، سبحيه يا سماء السماوات، ويا أيتها المياه التي فوق السماوات، لتسبح اسم الرب؛ لأنه أمر فخلقت، وثبتها إلى الدهر والأبد، وضع لها حدًّا فلن تتعداه.
سبحي الرب من الأرض يا أيتها التنانين وكل اللجج، النار والبرد، الثلج والضباب، الريح العاصفة كلمته، الجبال وكل الآكام، الشجر المثمر وكل الأرز، الوحوش وكل البهائم، الدبابات والطيور ذوات الأجنحة، ملوك الأرض وكل الشعوب، الرؤساء وكل قضاة الأرض، الأحداث والعذارى، أيضًا الشيوخ مع الفتيان، ليسبحوا اسم الرب؛ لأنه قد تعالى اسمه وحده، مجده فوق الأرض والسماوات” (مزمور 148).
وفي الأناجيل الأربعة: “يسبحون الله بصوت عظيم” (لوقا 19: 37)، “وهم يمجدون الله ويسبحونه” (لوقا 2: 20)، “وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة” (لوقا 2: 13)، وكان عيسى عليه السلام يسبح الله تعالى مع الحواريين؛ ففي مرقس: “ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون” (مزمور 14: 26)، وفي متى: “ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون” (متى 26: 30)، ومن يسبح الله كيف يكون هو الله أو إله مع الله؟ وفي الزبور: “سبحوا اسم الرب. سبحوا يا عبيد الرب” إلى أن قال: “كل ما شاء الرب صنع في السماوات والأرض. في البحار وفي كل اللجج، المصعد السحاب من أقاصي الأرض. الصانع بروقًا للمطر. المخرج الريح من خزائنه…” (مزمور 135) ([12]).
ومن ثم فإن القرآن ليس بدعًا من الكتب السماوية في ذلك الأمر، وقد أسند القرآن إلى الرعد التسبيح، على طريقة القرآن المعجزة في التعبير، وهي التصوير، يعرض فيها الأفكار والمعاني بطريقة مصورة، كان القارئ يرى أمامه صورًا حية متحركة، وليس مجرد كلمات وعبارات([13]).
فلم يخطئ القرآن ـ وهو ليس في حاجة إلى ذلك النفي ـ عندما تكلم عن الرعد بهذه الطريق المعجزة، وعرضه في هذه الصورة الحسية المتحركة، لكن الطاعن لا يعرف ـ أو تجاهل ذلك عمدًا ـ طريقة القرآن في التعبير، ولا يستمتع بما فيه من روائع التصوير.
“فالتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسوسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية؛ ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل”([14]).
فقوله تعالى:)ويسبح الرعد بحمده((الرعد:13)؛ أي: يظهر قدرته تعالى وجبروته وتسخيره لجميع ظواهر هذا الكون، كقوله تعالى:)وإن من شيء إلا يسبح بحمده((الإسراء: ٤٤).
يقول الدكتور عبد الله شحاتة: “والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس حتى اليوم، وعند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها، والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع لتصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر”([15]).
ويقول في كتابه (آيات الله في الكون): “والرعد ذلك الصوت المدوي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله، أيًّا كانت طبيعته وأسبابه، فهو رجع صنع الله في هذا الكون، وهو يحمد ويسبح بلسان الحال للقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من جمال وإتقان.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى أن يجعل صوت الرعد تسبيحًا للحمد؛ اتباعًا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلق سمات الحياة وحركتها على مشاهد الكون الصامتة؛ لتشارك في المشهد كله، وقد انضم إلى تسبيح الرعد بحمد الله تسبيح الملائكة”([16]).
فتسبيح الرعد لله تعالى تسبيح فطرة([17])، فطر الله الرعد عليها، ولا يخرج عن فطرة خلقه قط، منصاعًا إلى أمر ربه جل جلاله، وذلك عين السجود والتسبيح، وتسبيح وسجود الفطرة حال وصفة في كل خلق في السماوات السبع والأرضين السبع، وليس مقصورًا على الرعد والسحاب([18]).
وصفوة القول: إن الرعد ظاهرة كونية طبيعية، واحدة من جند الله، يسبح بحمد ربه، وطريقة تسبيحه هذه لا يعلمها إلا الله خالقه، خاضعًا لأوامره، ضارعًا له مداومًا على ذكره، يشكره اعترافًا لجلاله بالألوهية والربوبية والوحدانية.
وأخيرا: لكي نثبت أن القرآن الكريم ـ ومثله في ذلك الحديث الشريف ـ لايمكنه أن يخالف حقائق العلم البتة؛ بل دائمًا ما تأتي الحقائق العلمية مطابقة للآيات القرآنية، مبرهنة على صدق الكتاب الذي ضم هذه الآيات بين دفتيه ـ دعونا نتوقف قليلا لنتأمل هذا المشهد الكوني الذي يعرضه الخالق سبحانه وتعالى في الآية رقم 43 من سورة النور.
هذا المشهد الذي يمر عليه الناس غافلين، فيه متعة للنظر وغيرة للقلب ومجال للتأمل في صنع الله وآياته، تقول الآية: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور).
إن الله القادر على كل شيء يسوق السحاب بقدرته من مكان إلى مكان، ثم يؤلف بينه ويجمعه بعد تفرقه، فإذا هو ركام بعضه فوق بعض.
فترى الودق ـ أي المطر ـ يخرج من خلاله إذا ثقل، وهذه السحب الركامية تكون على هيئة جبال ضخمة كثيفة، فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة.
ومشهد السحب التي تكون كالجبال يكون جليًّا لراكب الطائرة، وهي تعلو فوق السحب وتسير بينها، فهي جبال حقا ضخمة بارتفاعاتها وانخفاضاتها، إنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الإنسان إلا بعد أن يعلو في السماء بالطائرة وغيرها.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله وفق ناموسه الذي يحكم الكون، ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر، والبرد من يشاء، سواء كان رحمة لهم أو نقمة عليهم، ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم أو ليؤخر عنهم الغيث.
وإذا أمعنا النظر في كلمات هذه الآية العظيمة لرأينا تفصيلًا دقيقًا لظاهرة تكون السحب الركامية، فتوضح أن السحب تتكون ضعيفة في بدايتها، عبر عنها الحق تعالى بكلمة “الإزجاء”، ثم يؤلف بينها ويجمعها، ثم يجعلها متراكبة، ومن المعروف علميًّا أن السحب تتكون بداية من قطيرات صغيرة من الماء…
ويختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بظاهرة البرق: ) يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور)، وتشير هذه النهاية إلى الحقيقة الكهربية التي اكتشفها العلم حديثًا، ودور البرد في توليد الشحنات الكهربية.
فقد ثبت علميًّا أن حركة البرد ترفع من كمية الكهرباء المتولدة على السحب المتراكمة إلى درجة تؤدي إلى حدوث تفريغ كهربي هائل قد تصل شرارته إلى ثلاثة أميال في طولها .
فمن علّم محمدًا ـ النبي الأمي قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا ـ التفاصيل الدقيقة لحقائق علمية لم تكتشف إلا في العقود الأخيرة؟! أليس هذا دليلا قاطعًا على أن القرآن كلام الله، وأن هذه الحقائق الكونية التي يكتشفها العلماء على فترات متباعدة هي في علم الله، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو علام الغيوب([19]).
ثانيا. البرق خوف وطمع:
1) الحقائق العلمية:
البرق، وما يتلوه من رعد يثير الخوف والرعب في نفس الإنسان؛ لما قد يحدثه من صواعق مـخربة في بعض الأحيان، ولكنه في الوقت نفسه يجعل الإنسان يطمع منه بأمطار غزيرة، فالبرق والرعد ـ كما هو معروف ـ ينشئ سحابًا كثيفًا يؤدي إلى هطول أمطار غزيرة مصحوبة عادة بالبرد، وقد تحدث فيضانات وسيول عارمة تملأ الأودية والشعاب، وتسبب في بعض الأحيان الدمار والخراب في المزروعات والممتلكات([20]).
لقد درس العلماء البرق لمدة طويلة ووجدوا أن الغيمة دائمًا ما تكون مشحونة كهربيًّا، وتكون في أسفلها سالبة الشحنة وفي أعلاها موجبة الشحنة، أما الأرض فتكون غالبًا موجبة الشحنة، وعند انطلاق شعاع البرق من أسفل الغيمة وتكون شحنته سالبة باتجاه الأرض ذات الشحنة الموجبة ـ تلتقي الشحنات المتعاكسة ويحدث الصدام وينطلق شعاع البرق ليسير بسرعة تصل إلى أكثر من مئة ألف كيلو في الثانية الواحدة.
ونتيجة للشحنة الكهربية الهائلة التي تشق طريقها في الهواء، فإنه يسخن فجأة في أجزاء قليلة من الثانية لتبلغ درجة حرارته حوالي 20 ألف إلى 30 ألف درجة مئوية؛ وهي درجة حرارة هائلة تزيد على حوالي ثلاث إلى خمس مرات قدر حرارة سطح الشمس([21])، والتسخين الفجائي للهواء لدرجة الحرارة الهائلة تلك يولد موجة صدمية فوق صوتية (Supersonicshockwave) تسمع كأصوات عاتية مرعبة متتابعة بهيئة دمدمة وقعقعة تسمى الرعد (Thunder).
وليست ضربات البرق خطرًا يمكن تجاهله؛ حيث يحدث البرق حوالي 100مرة كل ثانية، وفي اللحظة الواحدة تحدث حوالي 2000 عاصفة رعدية، وفي العام حوالي 6 مليون عاصفة برقية (Lightingstorms)، ويقوم البرق بتفريغ تيار يبلغ أكثر من مئة مليون فولت على الأقل في كل مرة، وقد يصل إلى ألف مليون فولت، فنحن إذًا أمام قوة رهيبة تدخل في صلب العمليات المقدرة لتوزيع المطر على سطح الكوكب، وفي الوقت ذاته قد تكون تلك القوة الرهيبة مصدرًا لدمار لا يدفعه احتياط([22]).
يقول العلماء: “إن الموجة الكهرطيسية الناتجة عن البرق قد تشوش أو تعطل عمل الآلات الإلكترونية والشبكات الكهربية في دائرة قطرها كيلو متر من مصدر البرق، فخلال البرق وفي فترة زمنية لا تزيد عن جزء من المليون من الثانية تتعرض الشبكات الكهربية إلى ارتفاع في التوتر الكهربي يزيد عن مئة فولت”([23]).
وفي إحصائيات تقريبية تقتل الصواعق الناتجة عن البرق مئتي شخص تقريبًا في الولايات المتحدة([24]).
وتقول لنا الإحصائيات كذلك: تحدث في الولايات المتحدة الأمريكية خسارات بمئات الملايين من الدولارات سنويًّا بسبب ما يحدثه البرق من أخطار، كتكسير السيارات والزجاج وأضرار بالناس؛ بل إن هناك بعض الناس يقتلون بسبب هذه الحبات من البرد.
وقد يصحب البرق ما يسمى بعواصف التورنادو الرعدية، التي تبدو بهيئة إعصار فيه نار، وقد استشكل أن تصاحب العواصف والأعاصير أية ظواهر نارية، باعتبار أنها دومات مكونة أساسًا من ماء مثلج وبرد؛ إذ لم يعرف إلا حديثًا جدًّا أن الدور الأساسي في تكوين الشرارة النارية وصدور البرق يرجع إلى البرد.
وتصيب الصواعق المنشآت العمرانية المرتفعة بدرجة أشد منها بالنسبة للمباني المنخفضة القريبة من سطح الأرض؛ فيتعرض مبنى الأمبيرستيت في نيويورك لعشرات من الصواعق في السنة الواحدة؛ وخاصة عند حدوث عواصف الرعد والبرق، ولحماية المبنى من أخطار الصواعق زود بعمود يعمل على امتصاص الشحنات الكهربية السالبة الهابطة أثناء حدوث البرق وسريانها إلى الأرض مباشرة([26])، ومع ذلك كثيرًا ما يشاهد الناس الصواعق حول جوانب المبنى([27]).
وإذا كان البرق مدمرًّا للممتلكات قاتلًا للأنفس، فإنه في الوقت نفسه مبشرًا بنزول المطر والخيرات من السماء؛ حيث ترسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها، لكنها ليست بالكبيرة جدًّا فتتلف الزروع والأراضي، ولا بالصغيرة جدًّا فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض، ثم تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء وتنفذ في ترابها شيئًا فشيئًا فتنبت البذور والحبات، وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف، والتي أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة إلى مركز فعال نابض بالحياة والحركة، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والنبات([28]).
ويقول العلم الحديث: “إن للبرق والرعد تمام العلاقة في القضاء على الآفات التي تصيب المزارع، وإن السنة التي يقل فيها الرعد والبرق تكثر فيها الآفات الزراعية؛ وأكثر من هذا: إن في الرعد والبرق أسمدة كيماوية تصل إلى عشرات الملايين من الأطنان”([29]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآيات الكريمة:
قال عز وجل: )وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور)، وقال عز وجل: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12)((الرعد)، وقال عز وجل:)أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19)( (البقرة)، وقال عز وجل: )يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20)((البقرة).
وهنا يتساءل الطاعن مستنكرًا: مم التخويف وهي ظاهرة طبيعية؟!
نقول: ليس من شك في أن كلا من البرق والرعد ظاهرة طبيعية، ولكن كونها ظاهرة طبيعية جعل الله لها أسبابًا تعرف بها، لا يمنع من كونها تخويفًا وتحذيرًا منه عز وجل، قال تعالى:)وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا (59)((الإسراء)، وهذا من حكمة الله تعالى كي يراجع الناس دينهم إذا طغوا وبغوا قبل أن يحل بهم عذاب ربهم.
يقول الإمام ابن دقيق العيد: “لله أفعال على حسب العادة، وأفعال خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها”([30]).
كما أن الضرر حادث لما يقترن بهذه الظاهرة ـ في الغالب ـ بما يخاف الناس منه مما يضرهم؛ فقد “حدث أن سقط البرد في نبراسكا في يوليو 1928م، وسقط في كانساس في سبتمبر 1970م، وكانت حبات البرد حين تسقط تسبب خسائر اقتصادية خطيرة أحيانًا، فلقد خسرت الولايات المتحدة في إحدى الفترات ما قيمته 300 مليون دولار بسبب سقوط البرد على البلاد، كما ثبت أن النظر إلى البرق [قد] يصيب الإنسان بالعمى المؤقت؛ لشدة ضوء البرق”([31]).
ولذلك قال تعالى: )يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43)((النور) ، فشعاع البرق يسبب العمى المؤقت، ونادرًا ما يذهب بالبصر بشكل كامل، وهذا يتفق مع إشارة القرآن الكريم بلفظ (يكاد)؛ أي: يقرب، ولم يقل: (يكاد البرق يذهب) لأن البرق إذا أصاب الإنسان مباشرة فإنه يحترق على الفور؛ حيث نجد أن الإنسان الذي أصابه شعاع البرق مباشرة سوف ترتفع درجة حرارته بشكل مفاجئ من 37 درجة مئوية إلى 30000 درجة مئوية، فتصوروا هذا الرقم([32])!
يقول د. أحمد شوقي إبراهيم: “ويصاحب البرق الذي يكاد يخطف الأبصار رعد يصم الآذان، ولو شاء الله تعالى لاستمر البرق وقتًا أطول، وأتلف خلايا شبكية العين، وخطف البصر، ولاشتد الرعد قوة وعنفًا ولأصاب الأذن بضرر كبير يذهب بقوة السمع، فذلك قوله تعالى:)ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم( (البقرة:20)، وهذه كناية عن سمع الكفار وأبصارهم التي لا يرون بها إلا ظلمات الجهل والكفر والضلال.
وتصور الآية الكريمة أحوال الكفار تصويرًا بلاغيًّا عجيبًا، فتشبه ما هم فيه من حيرة وخوف وقلق بمشاهد كونية محسوسة، فبعد أن صورت الآية السابقة عليها مشهدًا حافلًا بالحركة السريعة المضطربة المشوبة بعدم الاستقرار، في قوله تعالى:) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق((البقرة:19)، بعد ذلك صورت الآية الكريمة مشهدًا آخر في قول الله عز وجل: ) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم((البقرة:20)، فضربت بالبرق مثلًا بخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم توقفوا وهم في خوف وحيرة )ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم((البقرة:20)، فالكفار لو اطلعوا على نور الهداية الإسلامية، لوضح لهم الطريق الصحيح ولمشوا فيه منبهرين، وإذا رجعوا إلى كفرهم وضلالهم، رجعوا إلى الظلمات التي لا يقدرون فيها على الحركة، والتي لا يرون فيها شيئًا.
وبذلك شبهت الآية الكريمة أحوال الكفار غير المحسوسة، بمشهد كوني واقع محسوس، ومشاهد للعيان، وهذا أسلوب قرآني عجيب في التصوير الفني للآيات القرآنية، التي تتحدث عن أحوال الناس؛ ليزداد قارئ الآية فهما لأحوالهم، وكأنه يراهم أمامه رأي العين”([33]).
ومن ثم فلا مسوغ للطاعن إذ استنكر على القرآن قوله بأن الرعد والبرق يحدثان تخويفًا منه عز وجل؛ لأن ـ من ناحية أولى ـ هذه الظاهرة تلحق أضرارًا بالناس، كما أن القرآن ـ من ناحية ثانية ـ لم يقصر هذه الظاهرة على كونها تخويفًا؛ ولكنه جعل البرق خوفًا وطمعًا، قال تعالى: )هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12)( (الرعد)، فالناس عندما يرون البرق يتعاورهم شعوران، شعور الخوف من البرق وما يحمله من الصواعق والبرد الذي قد يؤذي ويتلف ويدمر، وشعور الطمع بهطول المطر؛ لأن المطر يهطل بعد البرق.
ويقرر العلم الحديث حاجة التربة إلى مادة تعرف بالنيتروجين([34])(الآزوت)، وأن انعدام هذه المادة يؤدي إلى عدم نمو النباتات، وإحدى الوسائل في حصول الأرض على النيتروجين هو البرق([35])، ويتوزع النيتروجين على المناطق حسب حاجتها له، فمن الذي دبر ذلك؟! إنه الله.
فلولا البرق لانعدمت الحياة؛ لأن انعدام البرق يعني انعدام تكون أكاسيد الآزوت في الهواء، ومن ثم انعدام النباتات التي لا تستطيع الحياة دون وجود هذه الأكاسيد في تربتها؛ ومن ثم انعدام الحيوان؛لأنه يعيش على النبات، وأخيرًا انعدام الإنسان لأنه يعيش على الحيوان والنبات([36]).
3) وجه الإعجاز:
ومضات البرق ودمدمة الرعد رسائل لا يغيب مغزاها عن الفطين، تشهد بتقدير مسبق وتدبير واحد، لا تصنعه إلا مشيئة واحدة عليا، وقدرة إذا شاءت جعلت النعمة نقمة، وهي ظاهرة محيرة لم يعرف الإنسان تفسيرها إلا مؤخرًا في عصر العلم، ولكن القرآن قد كشف عنها في قوله تعالى:) هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)( (الرعد)؛ ففي الآية تصريح بالتلازم كما نعرفه اليوم بين البرق وسحاب الركام المعبر عنهبالسحاب الثقال، وهو تعبير وصفي دقيق يلتقي مع المعرفة الحديثة بأن السحاب ثقيل الوزن ترفعه تيارات الحمل من أسفل، وأن سحاب الركام خاصة هو أثقل أنواع السحب، والبرق يلتقطه البصر كومضات خاطفة، فهو إذًا ظاهرة ضوئية مرئية، ناسبها التعبير بالرؤية: (يريكم البرق)، وقد يتحول البرق إلى صواعق تحرق أي شيء تطال من معالم سطح الأرض وتصعق الأحياء؛ نتيجة الشحنة الكهربائية الهائلة([37]).
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com. هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي، ط1، 1994م.
[1]. قام لوك هوارد بوضع تقسيم للسحب يتضمن ثلاثة أنواع:
السحب العالية: يتراوح ارتفاعها بين 8: 14كم؛ حيث الجو شديد البرودة، ويُسمَّى السحاب الموجود على هذه الارتفاعات “سمحاق”(Cirrus)؛ أي: ريشية الشكل، كذيول الخيل، ويعقبه حدوث تقلبات جوية وأعاصير، ومنه سمحاق طبقي، وسمحاق ركامي.
السحب المتوسطة: يتراوح ارتفاعها بين 2: 5 كم، وتُسمَّى “السحب الركامية” (Cumulus)، ويبدأ تكوُّن هذه السحب في فترة الضحى أو قبيل العصر، ويزداد نموها رأسيًّا مع اقتراب المساء، وترتفع حتى يصل سمكها إلى 5 كم، ويصحب هذه السحب حدوث عواصف واضطرابات جوية، كالرعد والبرق، وخصوصًا مع بداية هطول المطر منها، وقد يصحب هذا المطر سقوط برد.
السحب المنخفضة: لا يزيد ارتفاعها على 600م فوق سطح الأرض، وتُسمَّى “السحب الطبقية” أو “السحب البساطية” (Stratifom Clouds)، تتكوَّن هذه السحب في الجو المستقر، ولا يصاحبها حدوث عواصف رعدية، أو سقوط برد. (إعجاز الكتاب في وصف السحاب، د. كارم غنيم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net).
[2]. قد يسقط خلال العاصفة الواحدة نحو ثلث مليون طن من مياه الأمطار.
[3]. خاصة في المناطق القارية هائلة الاتساع خلال فصل الصيف.
[4]. انظر: الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، المكتبة العصرية، بيروت، 1429هـ/ 2008م، ج13، ص111: 118.
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، إشراف: محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص455.
[6]. رد الشبهة حول قوله تعالى: )وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ( (الرعد:13) ، مقال منشور بمنتديات: الجزيرة توك www.aljazeeratalk.net .
[7]. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، مرجع سابق، ج13، ص120.
[8]. الأساس في التفسير، سعيد حوى، دار السلام، القاهرة، 1999م، ج5، ص2747.
[9]. هل القرآن معصوم؟ عبد الله الفادي، مرجع سابق، ص23.
[10]. تفسير البيضاوي المسمَّى “أنوار التنزيل وأسرار التأويل”، البيضاوي، دار الجيل، بيروت، 1329هـ/ 1912م، عند تفسير هذه الآية.
[11]. انظر: القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص44.
[12]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، إشراف: د. محمود حمدي زقزوق، مرجع سابق، ص455، 456.
[13]. القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، مرجع سابق، ص45.
[14]. التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، مرجع سابق، ص36.
[15]. أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن، د. عبد الله شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ج1، ص269.
[16]. آيات الله في الكون، د. عبد الله شحاتة، نهضة مصر، القاهرة، ط6، 2009م، ص90.
[17]. التسبيح على نوعين رئيسيين: تسبيح إرادي “اختياري” للمكلفين من الأحياء، وتسبيح فطري “تسخيري” لغير المكلفين من الأحياء وكل الجمادات ومختلف صور الطاقة المصاحبة لها والناتجة عنها، ومختلف الظواهر والسنن الكونية المحيطة بها والحاكمة لها.
[18]. تسبيح الكون، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2003م، ص109. وللمزيد انظر: صور من تسبيح الكائنات لله، د. زغلول النجار، نهضة مصر، القاهرة، ط7، 2004م.
[19]. الإعجاز العلمي في أسرار القرآن الكريم والسنة النبوية، محمد حسني يوسف، دار الكتاب العربي، دمشق، ط1، 2005م، ج2، ص82: 84.
[20]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج13، ص137.
[21]. تُقدَّر حرارة سطح الشمس بحوالي 6 آلاف درجة مئوية.
[22]. البرق بشير ونذير، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[23]. الآيات العلمية في القرآن الكريم، علي محمد علي دخيل، دار الهادي، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص89.
[24]. المرجع السابق، ص89.
[25]. معجزة تشكل البرد، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[26]. ولما كانت المباني التي تقع على جوانب الأودية العالية أكثر عرضة لتأثيرات الصواعق وأخطارها من تلك التي تقع في بطون الأودية، فإن معظم المنازل يثبت في أعاليها موانع للصواعق وعند مدِّ خطوط كهرباء الضغط العالي وتثبيت الأعمدة الكهربائية لربط الأسلاك الكهربائية فيها وتوصيلها من عمود إلى آخر، فإن أعالي هذه الأعمدة مُزوَّد بأسلاك أرضية لامتصاص الشحنات الكهربائية السالبة عند حدوث الصواعق وإرسالها إلى الأرض مباشرة.
[27]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج13، ص122.
[28]. الآيات العلمية في القرآن الكريم، علي محمد علي دخيل، مرجع سابق، ص84، 85.
[29]. المرجع السابق، ص85.
[30]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج2، ص624، 625.
[31]. إعجاز الكتاب في وصف السحاب، د. كارم غنيم، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[32]. معجزة تشكل البرد، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[33]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2005م، ص78.
[34]. يتكوَّن الهواء من الأكسجين بنسبة 21%، ومن النيتروجين بنسبة 78%، وغازات مختلفة بنسبة 1%، والأرض تحتاج إلى النيتروجين كسماد لها وكعامل مخصِّب، وبدونه لا يمكن أن ينبت أي نبات على وجه الأرض.
[35]. فالتفريغ الكهربائي الناتج عن البرق يؤدي إلى تكوُّن أكاسيد النيتروجين التي يهبط بها المطر والثلج إلى التربة ويستفيد منها النبات، وتُقدَّر كمية النيتروجين التي تحصل عليها التربة بهذه الطريقة في صورة نترات بما يقرب من خمسة أرطال للفدان الواحد سنويًّا، وهو ما يعادل ثلاثين رطلًا من نترات الصوديوم، وهذه كمية تكفي لبدء نمو النباتات، ويلاحظ أن نسبة النيتروجين الناتجة عن البرق تكون في المناطق الاستوائية أكثر منها في المناطق المعتدلة الرطبة، وهذه بدورها تزيد عن الكمية التي تتكون في المناطق الجافة الصحراوية.
[36]. آيات طبيعية في القرآن، د. كمال المويل، دار الفارابي للمعارف، دمشق، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص47، 48.
[37]. البرق بشير ونذير، د. محمد دودح، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.com.
الزعم أن القرآن والسنة غفلا عن ذكر الثلج جهلًا به
مضمون الشبهة:
كثيرًا ما يردد المشككون عبارة “جهل النبي صلى الله عليه وسلم بالظواهر الطبيعية”، ومن ذلك ادعاؤهم أن القرآن والسنة قد غفلا عن ذكر الثلج ـ مع أنه ظاهرة طبيعية ـ وهذا في نظرهم ناتج عن جهل النبي صلى الله عليه وسلم بوجود شيء يسمى الثلج؛ لأنه لم يكن موجودًا في بيئته الصحراوية.
وجها إبطال الشبهة:
1) ليس صحيحًا ما ادعاه الطاعن من أن السنة قد غفلت عن ذكر الثلج كظاهرة طبيعية؛ إذ إن الثلج قد ورد ذكره في الحديث المتفق على صحته: «… اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد»، ليس هذا فحسب، بل نبه النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مغاير لكل من الماء السائل والبرد، وأن لكل منهما خصائص تميزه عن الآخر، وهذا ما أثبتته حقائق العلم حديثًا.
2) ليس مطلوبًا من القرآن أن يكون كتابًا شاملًا لجميع الألفاظ أو مرجعًا في الظواهر الطبيعية، وذلك لا ينتقص من إعجازه شيئًا، ومن ثم فليس ضروريًّا أن يرد ذكر الثلج في القرآن الكريم؛ خاصة وأنه قد ذكر في السنة النبوية؛ فهي وحي من عند الله عز وجل، وبمثابة الشرح والبيان لما جاء به القرآن، وذلك بشهادة القرآن نفسه. هذا فضلًا عن أن القرآن قد أشار إلى الثلج عند حديثه عن ظاهرة البرد؛ فقد أثبت العلم أن البرد ما هو إلا حبات ثلجية تتكون في الجبال الغازية العالية في السحب الركامية.
التفصيل:
أولا. جاء ذكر الثلج كحالة من الحالات المتعددة للماء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم:
1) الحقائق العلمية:
ثبت علميًّا أن الماء يتكون من ذرتين من الهيدروجين مرتبطتين مع ذرة واحدة من الأكسجين برابطة تساهمية قطبية، هذه القطبية (الناتجة من فرق السالبية الكهربية بين ذرات الهيدروجين والأكسجين) تعمل على تجميع جزيئات الماء بواسطة روابط هيدروجينية ضعيفة، تكسبه خصائص فريدة عن المركبات المشابهة له في التركيب، وتسبب تغيرات في خواصه الفيزيائية؛ فدرجة غليانه مرتفعة (100س) والتوتر السطحي له كبير، وغير ذلك.
فالماء الذي اختصه الله عز وجل بقدرة كبيرة على إذابة المواد، يسمى “المذيب العام”، وله قدرة كبيرة على إذابة كثير من المواد الأيونية؛ إذ إن جزيئات الماء القطبية تهاجم بلورة المركب إذا كان أيونيًّا، فيعزل أيوناته المتجاذبة داخل الشبكة البلورية، وتنشأ قوى تجاذب بين جزيئات الماء القطبية والأيونات، حيث تتغلب على قوى التجاذب بين الأيونات في البلورة فتنتشر المادة المذابة بين جزيئات الماء.
وإذا علمنا أن الماء عندما يتجمد يصبح ثلجًا عند درجة الصفر المئوي، وتتغير طريقة ارتباط الجزيئات فتصبح مثل حلقة البنزين، فإن هناك بعض الأوساخ التي لا تزول بالماء أو بالماء والصابون؛ وذلك أن قوى الالتصاق بين هذه البقع والقماش تكون كبيرة، مثل بقع الشمع أو العلك على القماش.
فعند وضع قطعة من الثلج عليها فإن البرودة تعمل على تقارب جزيئات هذه المادة لتنكمش، فتقل قوى الالتصاق بينها وبين القماش؛ مما يؤدي إلى انفصالها.
كما أن البرد يتكون عند درجة حرارة أقل من الصفر المئوي، فإذا كانت هناك أوساخ مستعصية فإن البرد يعمل على انكماش جزيئات هذه الأوساخ بدرجة أكبر من الثلج فتنفصل وتزول.
وعليه نستطيع القول: إن الماء والثلج والبرد هي حالات فيزيائية للماء، لها قدرة كبيرة على التنظيف([1]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم:
إن ما ادعاه الطاعن من أنه لم يرد للثلج ـ مع كونه ظاهرة طبيعية ـ ذكر في السنة النبوية، وزعمه أن ذلك ناتج عن جهل النبي صلى الله عليه وسلم بوجود شيء يسمى (الثلج)؛ لعدم وجوده في بيئته الصحراوية ـ لهو ادعاء باطل وزعم فاسد؛ فقد ورد ذكر الثلج في أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة ـ قال: أحسبه قال هنية ـ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد»([2]).
وفي رواية لمسلم عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد»([3]).
وروى مسلم أيضًا عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم (وصلى على جنازة) يقول: اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد»([4]).
وعن عبد الله بن أبي أوفى روى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد…»([5]).
جاء في (فتح الباري): “قوله: «بالماء والثلج والبرد»، قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال. وقال ابن دقيق: عبر بذلك عن غاية المحو؛ فإن الثوب الذي يتكرر عليه أشياء منقية يكون في غاية النقاء”([6]).
وقال النووي رحمه الله في ذلك: “استعارة للمبالغة في الطهارة من الذنوب وغيرها”([7]).
فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الماء والثلج والبرد مبالغة في الإنقاء؛ لأن ما غسل بالثلاثة أنقى مما غسل بالماء وحده، فسأله أن يطهر التطهير الأعلى الموجب لجنة المأوى. والمراد: طهرني بأنواع مغفرتك([8]).
فعلى عكس ما ادعاه الطاعن، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف الثلج، وذكره في غير حديث صحيح، ولم يكتف بذلك، بل نبه إلى أنه مختلف عنه ومغاير له؛ مما يؤكد درايته صلى الله عليه وسلم به، يستفاد ذلك من عطفه صلى الله عليه وسلم له على الماء بحرف العطف (الواو) الذي يقتضي المغايرة، وكذا البرد مغاير لهما.
ذلك ما أثبته العلم الحديث من خلال حقائق تؤكد أن الثلج حالة فيزيائية للماء، وأن بينه وبين الماء فروقًا واختلافات.
كما أن في استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للثلج في التطهير من المعاصي والذنوب ـ على سبيل الاستعارة ـ لمعجزة عظيمة تؤكد صدق نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الخطايا والذنوب بالأوساخ التي يجب غسلها وتطهيرها بالماء، ثم الذي لا يزول بالماء، يزول بالثلج، ثم بالبرد.
وهذا ما أثبته العلم تماما؛ فقد ثبت أن للثلج قدرة على التنظيف تفوق قدرة الماء السائل، ولو مصحوبا بالصابون، فالبرودة الموجودة في الثلج تعمل على تقارب جزيئات هذه الأوساخ فتنكمش، فتقل قوى الالتصاق بينها وبين القماش، مما يؤدي إلى انفصالها وتباعدها.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف الثلج، وذكره في غير موضع، بل أشار إلى خصائصه وفوائده في التنظيف، وأن ذلك يتفق تمامًا مع حقائق العلم الحديث، فلا مجال إذًا لادعاءات الطاعن وافتراءاته من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جاهلًا بالثلج، حيث لم يرد للثلج ذكر في سنته الشريفة!
فعدم وجود الثلج في هذه البيئة الصحراوية لا يدل مطلقًا على عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم أو العرب آنذاك به، فعلاوة على ورود الثلج في السنة النبوية فإنه قد جاء بمشتقاته في أشعار العرب وكلامهم.
جاء في “لسان العرب”: “الثلج: الذي يسقط من السماء، معروف. وقد أثلج يومنا. وأثلجوا: دخلوا في الثلج. وأرض مثلوجة: أصابها ثلج. وماء مثلوج: مبرد بالثلج، قال: وعليه فإن الثلج بوصفه ظاهرة طبيعية قد علم به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك العرب وقتئذٍ، أما ما أثاره الطاعن من ادعاءات فلا دليل عليها من عقل أو نقل.
3) وجه الإعجاز:
جاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للثلج موضحًا مغايرته للماء والبرد، ودالًا على الاختلاف والتفاوت فيما بينهم، وهذا ما أثبتته حقائق العلم الحديث في ذكرها للخصائص والسمات المميزة لكل من الماء والثلج والبرد، وذلك عندما أكدت أن الثلج هو حالة فيزيائية من حالات الماء، تختلف عن الماء السائل والبرد، وأن له قدرة على إزالة المواد الملتصقة بالأقمشة وغيرها، تلك القدرة التي تفوق قدرة الماء السائل ولو كان مصحوبًا بالصابون.
ثانيا. في حديث القرآن عن البرد إشارة ضمنية إلى الثلج:
يعد القرآن الكريم معجزة المعجزات التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المنهاج المضيء الذي يضيء للبشرية طريقها؛ وصولًا إلى الهداية الربانية. وقد جاء القرآن بتشريعات وأحكام وأخبار للعالمين، فصّل بعضها، وأجمل بعضها الآخر، وترك تبيان ما أجمله للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك؛ فقال تعالى: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ((النحل: ٤٤)، فكانت السنة النبوية شارحة للقرآن ومبينة له.
وتأسيسًا على ما سبق فلا محل لما قاله الطاعن من أن القرآن لم يذكر الثلج مع أنه ظاهرة طبيعية! في محاولة ـ بائسة ـ منه لتشكيك المسلمين في إعجاز القرآن المطلق؛ فإن كان الثلج لم يرد ذكره في القرآن، فيكفي وروده في الأحاديث الصحيحة من السنة، فكلاهما وحي ومصدرهما واحد، وهو العليم الخبير سبحانه وتعالى، الذي أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول ويفعل، فقال تعالى: ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)((آل عمران).
والأدلة من القرآن كثيرة على إثبات أن السنة وحي من عند الله، من ذلك قوله تعالى:)وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)((النجم)، وقوله تعالى:)قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ( (الأنعام: 50)، وقوله تعالى:)وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا (113)((النساء).
فقد قرن الله سبحانه وتعالى الكتاب (القرآن) بالحكمة في الآية السابقة وغيرها، والحكمة معناها هنا: السنة النبوية؛ فقد روي عن قتادة قال: والحكمة، أي: السنة”([10]).
وقال الشافعي: “فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت مَن أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهذا يشبه ما قال، والله أعلم؛ لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز ـ والله أعلم ـ أن يقال الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله”([11]).
وقال الطبري: “والحكمة: السنة التي سنها الله ـ جل ثناؤه ـ للمؤمنين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيانه لهم”([12]).
من ذلك يتضح أن الحكمة التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلمها الأمة إنما هي سنته صلى الله عليه وسلم.
لذلك فالقرآن ليس مطالبًا بذكر كل لفظة لفظتها العرب أو غيرهم، ولم يقل أحد قديمًا أو حديثًا: إن القرآن قد احتوى بين دفتيه على جميع ما ينطق به الإنسان من كلمات وألفاظ، وليس في ذلك نقص أو عيب يلحق بجلاله وكماله، ولا حتى بإعجازه المتناهي.
فإذا كانت السنة النبوية بمثابة البيان والإيضاح لما جاء في القرآن من أمور مجملة، وإذا كانت السنة وحي من عند الله سبحانه وتعالى بشهادة القرآن نفسه في غير موضع ـ فلا عبرة إذًا لافتراء الطاعن عندما ادعى أن القرآن قد غفل عن ذكر الثلج جهلًا به، وكيف يجهل به وقد أشار إلى ظواهر هي أهم من الثلج وأعظم؟!
ناهيك عن أن القرآن الكريم ـ وإن كان غير مطالب بذكر كل لفظة ـ قد أشار إلى الثلج ضمنيًّا، وذلك عندما ذكر البرد ومراحل تكوينه، قال تعالى: )ألم تر أن الله يزجي سحابًا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركامًا فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء((النور: ٤٣).
فالبرد يتركب من حبات مستديرة من الثلج، وتتألف الحبة الواحدة من عدة طبقات ثلجية يتراكب بعضها فوق بعض مثل تركيب البصلة، ولا يظهر ثلج البرد بالصورة المألوفة عن الثلج العادي؛ أي على شكل القطن المندوف، بل يكون في هذه الحالة شديد التجمد، وعلى شكل حبات ثلجية مستديرة الشكل وصلبة، يطلق عليها اسم (حجر البرد)، ويختلف قطر حبة البرد من 0٫2 إلى 2 بوصة.
وقد جاء العلم ليؤكد الإعجاز القرآني في ذكره مراحل تكون البرد؛ فقد عرف العلماء مؤخرًا أن نشأة البرد ترتبط بحركات التيارات الهوائية الصاعدة، ويشيع حدوث البرد في مناطق تكوين سحب المزن الركامي التي تبدو هائلة الحجم، وعند صعود الهواء الرطب إلى أعلى يتعرض بخار الماء للبرودة والتكاثف، فتتكون بلورات ثلجية صغيرة الحجم عند أعالي سحب المزن الركامي تمر بالقسم الأوسط من هذه السحابة، وتصدم البلورات الثلجية بقطرات الماء المبردة، وتتجمع هذه القطرات المائية فوق البلورات الثلجية، وتعمل الأخيرة على تجمدها هي الأخرى (ولكن بدرجة أقل)، وتبدو في النهاية على شكل كرات ثلجية بصلية الشكل تتألف من نواة ثلجية شديدة التجمد، وتغطيها عدة طبقات من الثلج أقل تجمدًا، ويقع بعضها فوق بعض.
من ذلك يتبين أن القرآن الكريم لم يغفل ظاهرة الثلج كما يدعي الطاعن؛ بل أشار إليه عندما ذكر البرد، فما البرد إلا حبات ثلجية تتكون في الجبال الغازية العالية في سحب المزن الركامي، وجاء ذكره في القرآن الكريم عند نزوله منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، ولم يكن يعرف العلم عن نشأة البرد شيئًا([13]).
(*) منتدى: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1]. اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، نادية نايف غنيم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.55a.net.
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، (2/ 265)، رقم (744). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، (3/ 1177)، رقم (1330).
[3]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: التعوذ من شر الفتن وغيرها، (9/ 3816)، رقم (6744).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجنائز، باب: الدعاء للميت في الصلاة، (4/ 1562)، رقم (2199).
[5]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، (3/ 1044)، رقم (1051).
[6]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، مرجع سابق، ج2، ص269 بتصرف.
[7]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، ج3، ص1046.
[8]. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ/ 1990م، ج9، ص328.
[9]. لسان العرب، مادة: ثلج.
[10]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، مرجع سابق، ج3، ص87.
[11]. الرسالة، الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، ص78.
[12]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري، مرجع سابق، ج7، ص369.
[13]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الرياح والمطر والأعاصير والبراكين والزلازل، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ص147، 148.
دعوى خطأ القرآن في ذكر نشأة الجبال وتكوّنها
مضمون الشبهة:
على عادة أعداء الإسلام والمشككين فيه أراد أحدهم تخطئة القرآن في حديثه عن تكوّن الجبال قائلًا: إن القرآن ذكر أن الجبال أتت من الفضاء الكوني الخارجي، مستدلًا على ذلك بقوله تعالى:)وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم( (النحل: ١٥).
وجه إبطال الشبهة:
لقد فسر الطاعن خطأ الفعل “ألقى” في الآية الكريمة؛ إذ فهم أن معنى الفعل هو إلقاء الجبال من خارج كوكب الأرض إلى باطنه، والصحيح أن الجبال تكونت على سطح الأرض عن طريق الإلقاء، ولكن هذا الإلقاء تم جيولوجيا عبر العصور المختلفة من أسفل إلى أعلى؛ حيث لفظت البحار والمحيطات ما بداخلها على مستوى القاع وذلك بفعل البراكين، أو من أعلى إلى أسفل بفعل مجاري الأنهار والترسبات الصخرية، وكذلك فإن حركات طبقات الأرض الكائنة تحت قشرتها تسبب ضغطًا هائلًا من الأسفل إلى الأعلى، ونتيجة هذا الضغط تتكون الجبال.
التفصيل:
1) الحقائق العلمية:
توصف الجبال بأنها أشكال أرضية بارزة فوق سطح الأرض، تتسم بقممها العالية، وسفوحها المنحدرة، وبوجودها على هيئة أطواف، أو منظومات، أو سلاسل، أو أحزمة، أو مجموعات من تلك الأحزمة الجبلية التي تكون عادة متوازية أو قريبة من التوازي مع بعضها البعض، وإن كانت بعض الجبال توجد على هيئة مرتفعات فردية وحيدة بصورة جبل واحد، والمرتفعات الفردية تتكون عادة من الطفوح البركانية.
- تكوُّن الجبال البركانية بعمليات إلقاءمتتابعة للطفوح:
بواسطة عدد من الخسوف الأرضية ـ التي تتراوح أعماقها بين 65 كم في قيعان المحيطات وقيعان عدد من البحار، و150 كم على اليابسة ـ يقسم الغلاف الصخري للأرض إلى اثني عشر لوحًا كبيرًا، بالإضافة إلى عدد أقل من ألواح الغلاف الصخري الصغيرة (اللوحيات).
ولما كانت هذه الألواح تطفو فوق نطاق لَدِن شبه منصهر يعرف باسم “نطاق الضعف الأرضي” فإن البراكين تكثر عند الحدود الفاصلة بين تلك الألواح خاصة عند حدود التباعد بينها. ومعظم هذه البراكين تلقي بحممها من أسفل إلى أعلى، وتظل تلك الحمم تتراكم فوق بعضها البعض لتكوِّن كتلًا جبلية معزولة من الصخور البركانية تصل ارتفاعاتها إلى آلاف الأمتار فوق مستوى سطح البحر؛ لأن معظم هذه البراكين يستمر في نشاطه لفترات تتراوح بين 20: 30 مليون سنة، وإن كان بعضها قد يستمر نشاطه لأكثر من مئة مليون سنة.
ومن أمثلة الجبال البركانية جبل أرارت (5100م) في تركيا، وجبل أتنا (3300م) في صقلية، وجبل فيزوف (1300م) في إيطاليا، وجبل كيليمنجار (5900م) في تنزانيا، وجبل كينيا (5100م) في كينيا، وهذه الارتفاعات كلها فوق مستوى سطح البحر.
- تكوُّن الجبال المطوية بعمليات إلقاء الصخور المتجمعة فوق قيعان المحيطاتإلى حواف القارات:
تمثل سلاسل الجبال المطوية ذروة التطور في تكوُّن النطق الجبلية؛ ولذلك فهي تمثل بالمنظومات الجبلية الكبرى في العالم، وتتكون هذه النظم الجبلية من أنواع مختلفة من الصخور الرسوبية والنارية المتحولة (وكلها تنتج عن عملية إلقاء)، كما تعتريها أنماط بنيوية عديدة من الطي، والتصدع، والتصدع الراكب، والمتداخلات، والطفوح البركانية. ولعمليات الإلقاء من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل في كل نمط من هذه الأنماط البنيوية ـ دور أساسي لا يمكن إغفاله.
وتدل الملاحظات الميدانية على أن تكوُّن الجبال المطوية يسبقه تكوُّن أحواض أرضية عملاقة تقدر أطوالها بمئات الكيلو مترات، ويقدر اتساعها بعشرات الكيلو مترات، وأعماقها بعدة مئات من الأمتار، ولكن قيعانها تهبط باستمرار تحت أوزان ما يجتمع فيها من رسوبيات وطفوح؛ فيؤدي ذلك إلى تراكمات من الصخور الرسوبية المتبادلة مع الطفوح البركانية يزيد سمكها على 1500م. وكل من الفتات الصخري والرسوبيات التي تتكون بطريقة كيميائية أو بطريقة عضوية لتكون هذا السمك الهائل من الصخور الرسوبية ـ تلقى كلها من أعلى ماء البحار إلى قيعانها بعملية إلقاء حقيقية، والطفوح البركانية المتداخلة فيها والمتبادلة معها تلقى أثناء الثورات البركانية من أسفل إلى أعلى، كذلك فإن تلك الأحواض الأرضية تكونت بفعل أعداد من الصدوع الخسيفة العميقة التي تظل في حركة دائبة للهبوط بتلك الأحواض ببطء؛ فيساعد ذلك على تجمع تلك التراكمات السميكة من الصخور الرسوبية والبركانية، وكلتاهما تتكون بعملية إلقاء من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى أو بهما معًا.
وتشير الدراسات الميدانية إلى أن حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض تلعب دورًا مهمًّا في عملية بناء هذه السلاسل والمنظومات الجبلية الشديدة الطي والتكسر؛ فعند اصطدام لوحين من ألواح الغلاف الصخري المكون لقاع المحيط تتكون سلسلة من الجزر البركانية على هيئة أقواس فوق قاع المحيط.
وعندما يصطدم قاع المحيط بإحدى القارتين المحيطتين به ويبدأ في الهبوط تحتها، تتكون أعمق أغوار هذا المحيط، ويتجمع في هذا الغور بالإلقاء من أعلى إلى أسفل كم هائل من الرسوبيات التي تضاف بالتدريج في الصخور الرسوبية، كما يتبادل مع هذه الصخور الرسوبية كم هائل من الطفوح البركانية التي يلقى بها من أسفل إلى أعلى.
وفي بعض الأحيان قد تتحرك إحدى القارات في اتجاه قارة مقابلة لها دافعة أمامها قاع المحيط الفاصل بين القارتين، فيهبط تحت القارة المقابلة بالتدريج حتى يتم استهلاكه بالكامل، فتصطدم القارتان ببعضهما اصطدامًا عنيفًا يكون من نتائجه هبوط القارة الدافعة هبوطًا جزئيًّا تحت القارة الراكبة، وينتج عن هذا الاصطدام تكوُّن أعلى السلاسل الجبلية على حافة القارة الراكبة، وذلك بكشط كل من الصخور الرسوبية والبركانية من فوق قاع المحيط الهابط وإلقائها من أسفل إلى أعلى على حافة القارة الراكبة، مع إلقاء كم هائل من المتداخلات والطفوح البركانية والصخور المتحولة في قلب السلسلة الجبلية المتكونة بالعديد من الطي والتكسر.
وتكثر الصدوع بصفة خاصة على امتداد حواف سلاسل ونظم الجبال المطوية، وبعض هذه الصدوع من النوع العادي، ولكن معظمها من الصدوع التجاوزية (الدسرية) ذات الميول المنخفضة التي تمتد إلى مئات الكيلو مترات دافعة أمامها كتلًا هائلة من الصخور المتباينة كتلة فوق الأخرى لعدة كيلو مترات، وهي صورة من أروع صور الإلقاء([1]).
وقد أسهب العلماء في ذكر أنواع الجبال وطرق تكوينها، ولكن هناك ثلاثة أنواع أساسية من الجبال، وهي:
- جبال جيوسنكلينية:ويطلق عليها أحيانا اسم أحزمة الطيات؛ لكثرة وجود الطيات في داخلها، وهي تتكون نتيجة لرفع وطي الرسوبيات المتراكمة في الأحواض البحرية، وتعرف الحركات الأرضية التي تتحكم في تكوين مثل هذه الجبال باسم: الحركة الأرضية البانية للجبال.
- جبال بركانية:وهي التي تكون سلاسل جبلية مغمورة في قيعان المحيطات، على طول الحدود البناءة، وتتكون هذه الجبال من الانبثاقات البازلتية، والتي تكون قيعان المحيطات أثناء عملية انتشار قاع البحار.
- جبال تصدعية:وتوجد في وسط ألواح قارية ثابتة، وأحيانًا تتكون الرسوبيات التي تؤدي إلى تكوين مثل هذه الجبال في أحواض ترسيبية.
وبهذا يتضح أن الجبال (رسوبية أو بركانية) تتكون مما تلقيه الأنهار والرياح بعد عملية الحت والتعرية في اليابسة وثوران البراكين في قيعان البحار والمحيطات، لتكون بعد ذلك الجبال([2]).
2) التطابق بين الحقائق العلمية وبين ما أشارت إليه الآية الكريمة:
لقد سارع الطاعن إلى تخطئة القرآن الكريم لاستخدامه الفعل “ألقى” مع الجبال، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم( (النحل: ١٥) جازمًا ـ بناء على فهمه ـ بأن القرآن قال بإلقاء الجبال من الفضاء الكوني الخارجي على سطح الأرض.
والحق أن هذا فهم خاطئ، يدل على التسرع والعجلة ومحاولة تخطئة القرآن الكريم بأي شكل من الأشكال دون فهم لمعاني اللغة العربية وتراكيبها.
- الدلالات اللغوية لبعض ألفاظ الآية الكريمة:
قال ابن منظور: “ألقى الشيء: طرحه، يقال: ألقه من يدك، وألق به من يدك”([3]).
وجاء في المعجم الوسيط: “ألقى الله الشيء في القلوب: قذفه، وألقى فلان السمع، وإلى فلان السمع: استمع وأصغى”([4]).
إن الإلقاء لا يكون من أعلى إلى أسفل فقط، وإنما يكون من أسفل إلى أعلى كما سنبين بعد قليل.
- من أقوال المفسرين:
يقول الإمام الطاهر ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: “… وهذه المخلوقات ـ يقصد الجبال ـ لـما كانت مجعولة كالتكملة للأرض وموضوعة على ظاهر سطحها عبر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي الشيء على الأرض. ولعل خلقها كان متأخرًا عن خلق الأرض؛ إذ لعل الجبال انبثقت باضطرابات أرضية كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار”([5]).
- الفعل “ألقى” وحقائق العلم الحديث:
منذ أكثر من ثلاثة آلاف مليون سنة كان سطح الأرض يلتهب بحركة شديدة لأجزائه، البراكين والهزات الأرضية، وما تطلقه الأرض من باطنها من حمم منصهرة وغير ذلك.
وخلال ملايين السنين تبردت هذه القشرة الخارجية لسطح الأرض وشكلت ألواحًا تغطي الكرة الأرضية، هذه الألواح تسمى القشرة الأرضية، وتتحرك بشكل مستمر بحركة بطيئة جدًّا، وعند اصطدامها مع بعضها البعض فإنها تشكل ضغطًا رهيبًا يتجه للخارج بشكل عمودي على سطح الأرض، يؤدي هذا الضغط إلى إلقاء أطراف هذه الألواح للأعلى وبروزها، وبمرور الملايين من السنوات تشكلت الجبال التي نراها اليوم.
وهنا نجد أن كلمة “ألقى” هي الكلمة المثالية للتعبير عن آلية تشكل الجبال؛ لذلك نجد البيان القرآني يؤكد هذه الحقيقة العلمية بقوله تعالى: )وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارًا وسبلًا لعلكم تهتدون (15)((النحل).
ثم تأمل هذه الآية الكريمة التي تحدثت عن مد الأرض وحركتها وكيف ألقيت الجبال نتيجة حركة الألواح، يقول تعالى:)والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون (19)((الحجر).
فالآية تتحدث عن مد الأرض ـ أي حركتها ـ وهذا ما حدث فعلًا، والرجل عندما يمد يده يعني أنه يحركها لتمتد، إذا معنى قوله تعالى: )والأرض مددناها(؛ أي: حركناها حركة بطيئة، وكان من نتائج هذه الحركة لقشرة أو لقشور الأرض هو اصطدام هذه القشور وإلقاء ما بداخل الأرض للأعلى لتتشكل الجبال.
لقد كشفت البحوث الجيولوجية الحديثة أن الجبال كالوتد المغروس في الأرض، والذي قاد هذا الكشف هو وجود جذر للجبل داخل الأرض، فعند رسم مخطط لهذا الجبل نراه كالوتد، منه جزء بارز على الأرض هو الجبل، والجزء الأكبر في عمق الأرض.
وقد درس الباحثون سر تكون الجبال والهدف منها وما هي فائدتها، فتبين أن الجبال تمثل مثبتات للأرض خلال رحلة دورانها؛ فالأرض تدور بسرعة كبيرة تتجاوز الـ 1600 كم/س، وعند هذه السرعة يختل توازن الأرض لولا هذه الجبال التي بمثابة الميزان لهذه الكرة الدوارة([6])!
إذًا “الفعل “ألقى” أكثر خصوصية؛ لأنه ينطبق على نشأة الجبال الرسوبية التي تلقيها الأنهار إلقاء في البحار على مراحل زمنية حتى إذا تراكمت رفعها الله جبالا”([7]).
على أن القرآن الكريم “عبر عن نشأة الجبال أيضًا باستخدام الفعل “جعل” بدلا من “ألقى” كما في قوله تعالى: )وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم( (الأنبياء: ٣١)، وهنا نلاحظ أن الفعل “جعل” يشمل جميع أنواع الجبال الرسوبية والنارية”([8]).
3) وجه الإعجاز:
تتكون الجبال الرسوبية مما تلقيه الأنهار والرياح بعد عملية الحت والتعرية في اليابسة، وثوران البراكين في قيعان البحار والمحيطات، لتكوّن بعد ذلك الجبال، أليس هذا إلقاء؟! أليس هذا دليلًا على عظمة القرآن الكريم، وهو يثبت هذه الحقيقة الجيولوجية الرائعة: )وألقى في الأرض رواسي((النحل:15)، وما الجبال البركانية إلا أجسام ضخمة مؤلفة من صخور، وفتات بركاني قذفتها فوهات البراكين بشدة ثم تساقطت على أطرافها وتراكمت فكانت الجبال، أليس هذا إلقاء ألقاه الله من البحار والبراكين لتتكون الجبال؟!فسبحان من أشار إلى هذه الحقيقة الرائعة وسجلها في كتابه لتكون سابقة في مضمار إثبات الحقائق العلمية([9]).
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
[1]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص252: 255.
[2]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان التفتنازي، مرجع سابق، ص348، 349.
[3]. لسان العرب، مادة: لقي.
[4]. المعجم الوسيط، مادة: لقي.
[5]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، مرجع سابق، مج7، ج14، ص120.
[6]. آيات الله في الجبال، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيلwww.kaheel7.com.
[7]. المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، ص314.
[8]. القرآن الكريم والعلم الحديث، د. منصور محمد حسب النبي، دار المعارف، القاهرة، ص46، 47.
[9]. الإعجاز القرآني في ضوء الاكتشاف العلمي الحديث، مروان وحيد شعبان التفتنازي، مرجع سابق، ص349.
دعوى تعارض القرآن مع الحقائق العلمية بشأن تثبيت الجبال للأرض
مضمون الشبهة:
في سلسلة من الافتراءات يحاول أعداء الإسلام نفي الإعجاز العلمي عن القرآن الكريم في حديثه عن الجبال وما يتعلق بها، فيدعون أن الآيات في هذا الشأن جاءت متناقضة مع حقائق العلم الثابتة، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:)والجبال أوتادًا (7)((النبأ)، وقوله تعالى: )والجبال أرساها (32)((النازعات)، وقوله تعالى:)وجعلنا في الأرض رواسي( (الأنبياء:31)، فالآيات تشير إلى أن الجبال هي المسئولة عن تثبيت الأرض وعدم اضطرابها، في حين أنه قد ثبت علميًّا أن مجموع كتل الجبال على سطح الأرض ـ على ضخامتها ــ لا يساوي شيئًا بالنسبة لكتلة الأرض المقدرة بحوالي ستة آلاف مليون مليون مليون طن.
بالإضافة إلى أن طول الجبال ـ على تعاظمها ـ لا يساوي شيئًا بالنسبة إلى طول نصف قطر الأرض؛ فالفرق بين أعلى قمة جبلية على سطح الأرض، وبين أعمق بقعة في أعماق المحيطات لا يكاد يصل إلى عشرين كم (19٫715 كم)، بينما يبلغ نصف القطر الاستوائي للأرض حوالي (6378٫160 كم). ويتساءلون: كيف يمكن للجبال أن تثبت الأرض وكتلتها وأبعادها بهذه الضآلة إذا ما قورنت بكتلة الأرض وأبعادها؟!
كما يدعون أنه على عكس ما حاول القرآن إثباته، قد ثبت أن الجبال تحدث اهتزازات وزلازل للأرض، فكيف يصفها القرآن بأنها رواسي لها؟!
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يخطئ القرآن الكريم عندما أشار إلى أن وظيفة الجبال هي تثبيت الأرض وعدم اضطرابها، وذلك عندما وصف الجبال بأنها رواسي في حوالي عشرة مواضع، ووصفها أيضا بأنها أوتاد ليؤكد ذلك، وقد أثبتت الحقائق العلمية أن كل نتوء أرضي فوق مستوى سطح البحر له امتداد في داخل الغلاف الصخري للأرض يتراوح طوله بين (10: 15) ضعف ارتفاعه الخارجي؛ مما يتسبب في تثبيت الأرض داخليًّا (تثبيت ألواح الغلاف الصخري) وخارجيًّا (الحفاظ على توازن الأرض ككوكب أثناء دورانها حول محورها).
2) ليس صحيحًا ما ادعاه الطاعن من أن الجبال هي المسئولة عن حدوث ظاهرة الزلازل؛ فالثابت علميًّا أن هناك عدة عوامل تكمن وراء حدوث تلك الظاهرة؛ منها تلك الحرارة المختزنة في باطن الأرض والتي تستخرج بفعل موجات الجذب لكل من الشمس والقمر، فتخرج تلك الحرارة على هيئة زلازل وبراكين، وليست الجبال واحدًا من تلك العوامل، بل الثابت أن الجبال تكونت كنتيجة طبيعية لهاتين الظاهرتين (الزلازل والبراكين)، فكان من الجبال ما هو بركاني، ومنها ما هو رسوبي.
التفصيل:
أولا. تصريح القرآن بتثبيت الجبال للأرض، واتفاق العلم الحديث معه في ذلك:
1) الحقائق العلمية:
ثبت علميًّا أن الغلاف الصخري للأرض ممزق بشبكة هائلة من الصدوع التي تمتد لعشرات الآلاف من الكيلو مترات، وهي محيطة بالأرض إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين 65 كم: 150 كم، فتؤدي إلى تمزيق هذا الغلاف إلى عدد من الألواح الصخرية المعزولة عن بعضها البعض بمستويات تلك الصدوع، وتطفو ألواح الغلاف الصخري للأرض فوق طبقة لَدِنة شبه منصهرة، عالية الكثافة واللزوجة تعرف باسم “نطاق الضعف الأرضي”.
وفي هذا النطاق تنشط التيارات الحرارية على هيئة دوامات عاتية من تيارات الحمل التي تدفع بألواح الغلاف الصخري للأرض متباعدة عن بعضها البعض بسرعات لا تسمح بعمرانها على الإطلاق.
وهذه الحركات لألواح الغلاف الصخري للأرض، لا يهدئ من عنفها إلا تكوُّن السلاسل الجبلية على مراحل متتالية حتى تصل إلى مرحلتها النهائية باستهلاك قاع المحيط الفاصل بين قارتين متباعدتين استهلاكًا كاملًا، وذلك بدفع إحدى القارتين له تحت القارة الأخرى، حتى تصطدم القارتان ضاغطتين الصخورَ المتجمعة بينها على هيئة سلاسل جبلية عظيمة، تمتد بأوتادها لتثبت صخور إحدى القارتين بصخور الأخرى، كما يثبِّت الوتد أركان الخيمة بالأرض.
هذا بالنسبة لتثبيت كتل القارات على سطح الأرض، أما بالنسبة للأرض ككوكب، فمن المعروف أنه نتيجة لدوران أرضنا حول محورها فقد تحول شكلها من كرة كاملة الاستدارة إلى شبه كرة منبعجة قليلًا عند خط الاستواء، ومفلطحة قليلًا عند القطبين، وهذا النتوء الاستوائي للأرض جعل محور دورانها يغير اتجاهه في حركة بطيئة، وهذه الحركة تعرف باسم “الحركة البدارية”، وتعبر عن حركة محور دوران الأرض في الفضاء.
وهذا المحور يترنّح ويتمايل في حركات مختلفة مع حركة كل من الشمس والقمر، والمتغيرات المستمرة في مقدار واتجاه قوتي كل منهما البدارية، ووضع الأرض بالنسبة لكل منهما، ويقلل من عنف هذه الحركات وجود الجبال ذات الجذور الغائرة في الغلاف الصخري للأرض، فتقلل من شدة ترنّح محور دوران الأرض، وتجعلها أكثر استقرارًا وانتظامًا في دورانها حول محورها، وأقل ارتجاجًا وترنُّحا تمامًا كما تفعل قطعة الرصاص حول أطر عجلات السيارات؛ لتقلل من ارتجاجها أثناء دورانها تحت السيارة([1]).
وقد ترسخ لدى جميع علماء الجيولوجيا اليوم أن لكل جبل وتدًا يمتد عميقًا في الأرض، ولولا هذه الأوتاد لما استقرت الجبال ولما استقرت القشرة الأرضية؛ فالوتد مهمته تثبيت الجبل من جهة وتثبيت القشرة الأرضية من جهة أخرى.
وهذه الحقيقة العلمية قد بدأت تستحوذ على اهتمام الباحثين منذ مطلع القرن العشرين، واستغرقت جهود العلماء عشرات السنوات من البحث والتجربة والقياس والتكاليف الباهظة، وكانت النتيجة التي تم إثباتها هي أن جميع الجبال التي نراها لها جذور كالأوتاد تمامًا، تمتد لمسافات تزيد عن 60 كم في باطن الأرض.
وقد جاء بموقع هيئة المساحة والجيولوجيا الأمريكية النص الآتي:
It’s now known that most mountain ranges are underlain by crustal roots floating atop the hot plastically deforming mantle.
أي إنه من المعترف به أن معظم الجبال تمتلك جذورا تمتد داخل الأرض وتطفو عبر الغلاف الصخري بشكل مرن.
ويقول الدكتور“André Cailleux” في كتابه (تشريح الأرض):
The mountains, like pegs, have deep roots embedded in the ground, These roots are deeply embedded in the ground, thus, a mountain have a shape like peg.
أي إن الجبال تشبه الأوتاد فهي تمتلك جذورًا عميقة في الأرض، هذه الجذور ممتدة بعمق في الأرض؛ ولذلك فإن شكل الجبل يشبه الوتد.
وقد قام العلماءR. Carbonell, A. Pérez ـEstaún, J. Gallart, J. Diaz,S. Kashubin, J. Mechie, R. Stadtlander, A. Schulze, J. H. Knapp, Morozovبدراسة عام 1996م حول جذور الجبال، وتركزت الدراسة في جبال الألب في أوربا، ووجدوا أن هذه الجبال تمتد عميقًا في الأرض لعشرات الكيلو مترات (40 ـ 50 كم)([2]).
وقد ثبت في عام 1956م أن الجبل له جذر يخترق طبقات الأرض، ويمتد تحت سطح الأرض حتى يصل إلى طبقة الغطاء (السيما)، وهذا الجذر يعادل من 5: 10 أضعاف ارتفاع الجبل فوق سطح الأرض، وقد تم تصوير هذا الجذر بطريقة الهيلوغرافية.
ولنضرب مثلًا لذلك وهو قمة (إفرست) التي يبلغ ارتفاعها 9 كم، بينما جذورها تمتد إلى عمق 135 كم تحت سطح الأرض، وبما أن طبقة القشرة تكون صلبة حيث توجد الجبال، وبما أن طبقة الغطاء التي تحتها هي طبقة لزجة في أسفلها، فلا بد بسبب دوران الأرض أن يحصل اضطراب وتزلزل وتصدع لطبقة القشرة التي ستنزلق على طبقة الغطاء، فكان لا بد من شيء يربط الطبقتين بعضهما ببعض، لكي يمنع الاهتزازات على طبقة القشرة؛ لذلك جعل الله عز وجل للجبال جذورًا تنزل في أعماق الغطاء بحيث تصبح الجبال أوتادًا، فكما أن الأوتاد تثبت الخيام على الأرض فكذلك الجبال تثبت القارات على الأرض وتمنعها من التحرك([3]).
ولقد كان لبعض العلماء الغربيين ـ غير المسلمين ـ جهود وفيرة في هذا الشأن، وكانت نتيجة ذلك هي التأكيد على الفكرة السابقة وتثبيتها؛ ففي القرن الثامن عشر تنبه “بير بوجر” ـ وكان يرأس بعثة إلى جبال الإنديز ـ إلى أن قوة الجذب المقاسة في هذه المنطقة Gravitional Attraction لا تتناسبمع كتلة هذه الجبال الهائلة، وإنما هي أقل بكثير من المتوقع، معتمدًا على الانحراف في اتجاه القمم البركانية في تلك المنطقة، والملاحظ على قياس الجذب التقليدي الذي معه؛ والمسمى بـ “ميزان البناء”، ونتيجة لهذه الملاحظة الأولية افترض “بوجر” ضرورة وجود كتلة صخرية هائلة غير مرئية ليس لها مكان إلا أسفل تلك الجبال البارزة.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي لم تجد البعثات الجيولوجية البريطانية التي قامت بأعمال المسح الجيولوجي تفسيرًا منطقيًّا لظاهرة الاختلاف الشاذ لقراءات الجاذبية إلى منتصف ذلك القرن؛ حيث أشارت أعمال المسح التي أشرف عليها “جورج إفرست”([4]) أنه لا يمكن تفسير هذه الاختلافات الشاذة لقراءات الجاذبية إلا بافتراض وجود امتدادات منغرسة لهذه الجبال (الهيمالايا) في جوف القشرة الأرضية إلى مسافات عميقة، وأن هذه الامتدادات إما أن تكون من مادة الجبال البارزة نفسها أو أكثر كثافة منها.
وفي عام 1865م تقدم “جورج آيري”([5]) بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساسًا مناسبًا للجبال التي تعلوها؛ وعليه فلا بد للجبال ـ لضمان ثباتها واستقرارها ـ أن يكون لها جذور ممتدة إلى داخل الصخور عالية الكثافة التي تقوم عليها القشرة الأرضية.
وفي عام 1889م قدم الجيولوجي “دتون”([6]) تفسيرًا علميًّا لنظرية “جورج آيري” فيما أسماه نظرية الاتزان Theory of Isostacy، والمتمثل في حوض مملوء بالماء وبه مجموعات طافية من المجسمات الخشبية المختلفة الارتفاعات، وتبين من هذا النموذج أن الجزء المغمور في الماء من المجسمات الخشبية يتناسب طرديًّا مع ارتفاعه، وأسمى هذه الحالة الاتزان المائي الثابتState of Hydrostatic Balance.
2) التطابق بين الحقائق العلمية وما جاءت به الآيات الكريمة:
ادعى المشككون أنه ليس للجبال دور في عملية تثبيت الأرض والحفاظ على توازنها، زاعمين أن القرآن قد أخطأ في ذلك، وأنه قد خالف حقائق العلم الثابتة، والواقع أن ادعاءهم هذا هو الذي يخالف حقائق العلم وليس القرآن الكريم؛ فالثابت علميًّا أن الأرض في حركة مستمرة داخليًّا وخارجيًّا، وأنه لولا وجود تلك الجبال التي تمتد بجذورها إلى عشرات الآلاف من الكيلو مترات داخل طبقات القشرة الأرضية ـ لما حدث توازن واستقرار في باطن الأرض، ولما استطاع الإنسان العيش على سطحها.
- الدلالات اللغوية لألفاظالآيات الكريمة:
أوتادًا: الوَتِد بالكسر، والوتَد والوَدُّ: ما زُرَّ في الحائط أو الأرض من الخشب، والجمع أوتاد. ووَتَدَ الوتد وتدًا: ثَبَتَ([7]).
الأوتاد: قطع من الخشب أو الحديد غليظة الرأس، مدببة النهاية، تثبت بها أركان الخيمة في الأرض بدكها حتى يدفن أغلبها في الأرض، ويبقى أقلها ظاهرًا فوق السطح، فتشد بذلك العمق أركان الخيمة في الأرض فتثبتها وتجعلها قادرة على مقاومة الرياح والعواصف الهوجاء([8]).
أرساها:رسا الشيء يرسو رسوًا وأرسى: ثبت، ورسا الجبل يرسو: إذا ثبت أصله في الأرض([9]).والـمرْسَى هو مكان الرسو أو زمانه، كما يقال للمصدر وللمفعول به، وفي معنى الزمان جاء قول اللهسبحانه وتعالى: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها (42)( (النازعات)؛ أي قيامها وزمان ثبوتها، والمرساة: الآلة التي تُرسى بها السفينة([10]).
- من أقوال المفسرين:
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )والجبال أوتادًا (7)( (النبأ):“أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها، وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها“([11]).
وقال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: “أي: لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها”([12]).
وجاء في ظلال القرآن: “وجعل الجبال أوتادا، يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها”([13]).
وفي تفسير قوله عز وجل:)والجبال أرساها (32)((النازعات)، يقول ابن كثير: “أي: قرها وأثبتها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرءوف بخلقه الرحيم… وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها”([14]).
وجاء في تفسير الجلالين عن قوله تعالى:)والجبال أرساها (32)((النازعات): “أثبتها على وجه الأرض لتسكن”([15]).
أما قوله تعالى: )وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم( (النحل:15) فقد قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: “ثم ذكر تعالى الأرض، وما جعل فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات، لتقر الأرض ولا تميد؛ أي لا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك”([16]).
حقًا، إن القرآن الكريم قد أعجز الجن والإنس عندما أشار إلى بعض الآيات الكونية التي يقف العقل أمامها حائرًا متسائلًا: من أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ تلك الآيات التي من شأنها أن تؤكد الربوبية والتوحيد الخالصين لله وحده، وأن ترسخ نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في النفوس. ومن تلك الآيات التي أشار إليها القرآن الكريم آية الجبال، وجاء حديثه عنها في مواضع كثيرة، والذي نحن بصدده الآن هو بيان القرآن الكريم للوظيفة التي من أجلها خلق الله سبحانه وتعالى الجبال، فالقرآن يؤكد في غير آية على أن وظيفة الجبال الأساسية هي تثبيت الأرض، والحفاظ علىها من أن تضطرب أو تميل، حتى يكفل للإنسان العيش على سطحها في أمان وطمأنينة؛ ليعبد الله سبحانه وتعالى ويشكره على نعمه الوفيرة، فقال سبحانه وتعالى: )وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم( (النحل: 15).
وقال سبحانه وتعالى: )والجبال أرساها (32)( (النازعات)؛ أي: أرسى الأرض بها، وقال:)وجعلنا في الأرض رواسي( (الأنبياء:31). أما قوله تعالى: )والجبال أوتادًا (7)( (النبأ) فهو صريح في أن الجبال بمثابة الأوتاد التي تثبت بها الأرض، تماما كما تثبت الأوتاد أركان الخيمة، وهذا ما تأكد من أقوال علماء اللغة وتفسيرات المفسرين.
أما ما ادعاه المشككون من أن تلك الآيات لم تأت بأي إعجاز، بل إنها بذلك تخالف ما جاء به العلم حديثًا، وأن العقل يأبى ذلك، فلا يعقل ـ في زعمهم ـ أن تكون الجبال مثبتات للأرض وحجمها وكتلتها بهذه الضآلة إذا ما قيست بحجم الأرض وضخامتها ـ فليس من شك في أن ما ادعاه هؤلاء غير صحيح البتة؛ فقد جاءت علوم الأرض في العقود المتأخرة من القرن العشرين بالأدلة المادية التي تثبت أن الجبال تعمل على حفظ توازن الأرض، بعد أن ظل وصف الجبال إلى مشارف التسعينيات قاصرًا على أنها نتوءات فوق سطح الأرض.
فالحقائق العلمية تثبت أن للجبال دورًا مهمًّا في تثبيت ألواح الغلاف الصخري للأرض، ولولا ذلك لما استقامت الحياة على سطح الأرض أبدًا؛ لأن هذه الألواح كانت في بدء خلق الأرض على درجة من السرعة والعنف لا تسمح لتربة أن تتجمع، ولا لنبتة أن تنبت، وكان السبب وراء تلك الحركات المستمرة لألواح الغلاف الصخري هو دوران الأرض حول محورها بسرعة فائقة؛ مما يزيد من سرعة انزلاق ألواح الغلاف الصخري فوق نطاق الضعف الأرضي، مما يسبب ظاهرة اتساع قيعان البحار والمحيطات، ويدفع بملايين الأطنان من الصهارة الصخرية والحمم البركانية المندفعة عبر صدوع تلك القيعان، وبتسارع حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض تسارعت الحركة البانية للجبال، وبتسارع بنائها هدأت حركة هذه الألواح، وهيئت الأرض لاستقبال الحياة.
كما أنه لم يقتصر دور الجبال على تثبيت ألواح الغلاف الصخري للأرض، بل إن للجبال دورًا عظيمًا في تثبيت الأرض ككوكب؛ فوجود تلك الجذور الغائرة للجبال في ألواح الغلاف الصخري للأرض يقلل من شدة ترنح الأرض في دورانها حول محورها، ويجعل حركتها أكثر انتظامًا وسلاسة([17]).
فالوصف القرآني للجبال قد جاء متفقًا تمامًا مع حقائق العلم الحديثة حول الجبال، بل إن في تعريف بعض العلماء للجبال بأن لها جذورًا تشبه الأوتاد التي تثبت بها الخيمة ـ دليلًا قويًّا على دقة الوصف القرآني لها بـ (أوتادًا).
3) وجه الإعجاز:
لقد أشار القرآن الكريم في حوالي عشرة مواضع إلى أن الوظيفة الأساسية للجبال هي تثبيت الأرض وإرساؤها، وقد جاء وصف القرآن للجبال بأنها أوتاد للأرض، وقد ثبت علميًّا أن لكل جبل جذرًا غائرًا في الأرض يتراوح طوله بين (10: 15) ضعف ارتفاعه الخارجي؛ مما يتسبب في إرساء ألواح الغلاف الصخري للأرض، والحد من اضطراب الأرض ككوكب في دورانها حول نفسها، وتلك الحقائق لم تكن معروفة حتى عقود قليلة لا تتعدى القرنين الماضيين.
ثانيا. لا علاقة للجبال بإحداث الزلازل:
هناك مجموعة من العوامل تكمن وراء ثورة الزلازل على سطح الأرض؛ حيث يمكن تقسيمهاإلى عوامل داخلية ترتبط بتكوين الأرض، والتي تتألف من عدة طبقات هي من الخارج للداخل، القشرة ثم الوشاح ثم لب الأرض، ويتكون لب الأرض من كرة صلبة من الحديد والنيكل تتميز بدرجة حرارة تصل إلى عدة آلاف درجة مئوية “قرابة 6000 درجة مئوية”، ولكون طبقات الأرض غير متجانسة تحدث عملية انتقال للحرارة من منطقة لأخرى، سواء بخاصية التوصيل في المناطق الصلبة أو الحمل في المناطق السائلة، أو بخاصية الإشعاع على سطح الأرض، وعندما تتراكم الطاقة الحبيسة في منطقة ما في طبقات الأرض يظهر دور الشمس والقمر من خلال موجات الجذب التي تؤثر بها على الأرض، وهو ما يسمح بتحرير الحرارة المختزنة داخل باطن الأرض على شكل زلازل وبراكين . أيضا تقف ظاهرة اقتران الكواكب وراء حدوث الزلازل والبراكين؛ حيث تكون قوى المد الشمسي والقمري أكبر ما يمكن، وهو ما يساعد على تحرير حرارة الأرض، ويفسر قصر مدة الاقتران الكوكبي صغر المدة التي ينتاب فيها الأرض الهزات الزلزالية.
وتلعب جيولوجيا المكان أيضًا دورًا مهمًّا في حدوث الزلازل؛ حيث يؤثر سمك القشرة الأرضية بما فيها من فوالق وتصدعات وكونها جزرًا في المحيط أو أرضًا صخرية. إضافة إلى أنه كلما كان الكوكب قريبًا من الشمس زادت الجاذبية المؤثرة وتسببت في حدوث زلازل وبراكين ضخمة مثلما يحدث على كوكب الزهرة، وكلما كبرت الكواكب وبعدت عن الشمس تقل الزلازل والبراكين عليها، وتتلقى الأرض طاقتها الحرارية من مصدرين؛ الأول هو الشمس والتي يظهر تأثيرها في المنطقة السطحية، وهو الجزء العلوي من القشرة والذي لا يزيد عن 28 ـ 30م، ويتمثل المصدر الثاني في حرارة باطن الأرض التي تنجم بشكل كبير عن النشاط الإشعاعي لبعض العناصر وخاصة اليورانيوم والثوريوم وغيرها من العناصر شديدة الإشعاع([18]).
وقد حاول كثير من العلماء البحث عن أسباب حدوث الزلازل، فظهرت نظريات كثيرة، وكلها محاولات لإيجاد تفسير لما يحدث في باطن الأرض، وما يترتب على ذلك من هزات أرضية، ومن هذه النظريات:
- نظرية الصفائح التكتونية:
توصلت هذه النظرية إلى أن قشرة الأرض كانت عبارة عن كتلة واحدة متصلة، ثم تعرضت للتفتت والانفصال، فانفصلت إلى أجزاء أو ألواح أو صفائح كما تسمى هنا، وصل عددها إلى اثنتي عشرة صفيحة، وهذه الصفائح تتحرك بالنسبة إلى بعضها بمعدل بطيء جدًّا لا يتعدى سنتيمترات قليلة سنويًّا، وسبب هذه الحركة يكمن في الطاقة الحرارية الناتجة عن التوزيع غير المتساوي للحرارة داخل الأرض؛ ومن ثم يترتب على هذه الحركة اصطدام حواف بعض الصفائح ببعض، أو انزلاق إحداها على الأخرى.
وبناء على هذه النظرية، يتضح لنا أن هناك علاقة بين حواف الصفائح التكتونية ومناطق الزلازل؛ فعندما يحدث تصادم بين الصفائح وبعضها ـ كما هو الحال بين صخور منطقة شبه الجزيرة العربية وصخور المنطقة الأوراسية (الجزء المشترك بين آسيا وأوربا) ـ ترتج الأرض، نتيجة تصادم صخور المنطقتين، ويحدث الكثير من الزلازل التي تتعرض لها جبال زاجروس بإيران.
وأحيانًا، تكون صخور القشرة في إحدى اللوحتين المتقاربتين أثقل من صخور القشرة في اللوحة الأخرى وأقل منها سمكًا؛ فيترتب على هذا انزلاق اللوحة الثقيلة تحت اللوحة الخفيفة، كما يحدث من انزلاق الجزء الشمالي من القارة الأفريقية ـ الذي تغطيه حاليًا مياه البحر الأبيض المتوسط ـ تحت اللوحة الأوراسية في جنوب أوربا، فتنصهر الصخور المنزلقة في الأعماق، وتكون صهيرًا يصعد على شكل براكين بالقرب من مناطق الانزلاق، ويكون صعودها مصحوبًا بزلازل مدمرة شديدة، وذلك مثل الزلازل التي حدثت في إيطاليا أعوام: (1908م، 1980م، 1986م)، وأغلب الهزات التي تحدث في اليابان وأندونيسيا وكل مناطق جنوب شرق آسيا، تنتمي إلى هذا النوع من الزلازل.
- نظرية الارتداد المرن:
تقوم هذه النظرية على أن السبب المباشر للزلازل هو التراكم والاختزان المستمر للطاقة على جزء ضعيف من القشرة الأرضية، وعندما تزيد الضغوط إلى حد يصعب على الصخور مقاومته، فإنها تنكسر إلى جزأين، ثم يستعيد كل منهما الشكل الأصلي له بواسطة الارتداد المرن، وتنطلق الطاقة على شكل موجات زلزالية أو هزات.
وتسمى الزلازل غير المرتبطة بشقوق سطحية باسم: الهزات الأرضية الخفيفة، وتحدث هذه الهزات عندما تنحني الصخور وتتحدب بفعل الضغط، وينتج عن هذا الضغط طيات يصاحبها حدوث العديد من الهزات الأرضية الضعيفة؛ نتيجة للحركة المستمرة للطاقة المختزنة بها، وقد يصل الضغط على تلك الصخور المنحنية إلى درجة كبيرة جدًّا، فتنشق وتنطلق الطاقة المختزنة نحو السطح، وتتحول بدورها إلى مصدر لهزات أرضية عنيفة.
وقد ثبت علميًّا أن للإنسان دورًا أيضًا في إحداث ظاهرة الزلازل والبركين؛ فالإنسان يحدث الكثير من التغييرات في البيئة المحيطة به، مما يساعد على حدوث الزلازل، ومن ذلك:
O إنشاء السدود والبحيرات الصناعية؛ مما يتسبب في إحداث ضغوط هائلة علىالقشرة الأرضية نتيجة لضغط المياه.
O ضخ المياه داخل الأرض؛ مثل حقن الأرض بالمياه لاستخراج البترول، فقدلوحظ أن ضخ المياه في أعماق الأرض في الولايات المتحدة الأمريكية أدى إلى ظهور نشاط زلزالي في مناطق كانت غير نشطة زلزاليًّا من قبل، وعندما توقف الضخ، هدأ النشاط الزلزالي في الحال.
O إجراء التجارب النووية تحت سطح القشرة الأرضية:
ومن سرد الحقائق العلمية السابقة حول أسباب حدوث الزلازل والبراكين، يتبين أن ادعاء الطاعن المتمثل في أن الجبال هي السبب وراء حدوث الزلازل، وعليه بنى زعمه بتخطئته القرآن عندما أشار إلى أن الجبال من شأنها أن تثبت الأرض وتزنها ـ هو ادعاء باطل ترده حقائق العلم في هذا الشأن؛ فالمقرر علميًّا أن الجبال ما هي إلا نتاج الزلازل والبراكين، وأنه لا دخل للجبال في إحداث ظاهرة الزلازل كما يزعم الطاعن، فهناك عدة عوامل تتسبب في وقوع تلك الظاهرة الطبيعة، منها ما هو داخلي مرتبط بتكوين الأرض؛ حيث إن لب الأرض يتميز بدرجة حرارة عالية جدا تصل إلى (6000 درجة مئوية)، ولكون طبقات الأرض غير متجانسة، فإنها تحدث عملية انتقال للحرارة من منطقة لأخرى، وعندما تتراكم تلك الحرارة في منطقة ما في طبقات الأرض يظهر دور الشمس والقمر من خلال موجات الجذب التي تؤثر بها على الأرض؛ مما يسمح بتحرير تلك الحرارة المختزنة على شكل زلازل وبراكين.
كما أن قوى المد الشمسي والقمري تكون أكبر ما يمكن عند حدوث ما يسمى بظاهرة اقتران الكواكب؛ مما يساعد على تحرير حرارة الأرض بدرجة أكبر.
وفي محاولات لاكتشاف أسباب وقوع الزلازل ظهرت عدة نظريات، منها ما يعرف بـ “نظرية الارتداد المرن”، و “نظرية الصفائح التكتونية”، ولم تشر أي منها إلى أن الجبال هي سبب وقوع الزلازل. كما ثبت أيضا أن للإنسان دخلًا في إحداث تلك الظاهرة، من خلال بعض الأعمال التي يقوم بها، مثل: إنشاء السدود والبحيرات الصناعية، وضخ المياه داخل الأرض لأغراض معينة، وإجراء التجارب النووية تحت سطح القشرة الأرضية، وغيرها.
مما سبق يتضح أن هناك عوامل تساعد على حدوث ظاهرتي الزلازل والبراكين، وليست الجبال واحدًا منها فضلًا عن أن تكون هي العامل الرئيس في وقوع هاتين الظاهرتين.
ليس هذا فحسب، بل لقد أثبت العلم الحديث أيضًا أن تكوُّن الجبال مرتبط ارتباطًا وثيقا بحدوث ظاهرتي الزلازل والبراكين؛ فقد ثبت أن الجبال تتكون من صخور تصنعها تحركات عنيفة بالقشرة الأرضية، نتيجة ضغوط هائلة تنشأ في طبقات هذه القشرة في شتى الاتجاهات، وهذه الضغوط تنشأ غالبا من تحول الطاقة الحرارية المختزنة في باطن الأرض إلى طاقة ميكانيكية تؤدي بدورها إلى أحد احتمالين؛ الأول: قوى سريعة أو فجائية. والثاني: القوى الداخلية البطيئة، وهذه الأخيرة تؤدي إلى تكوين القارات والجبال، ولقد أثبتت البحوث أن سطح الأرض لا يزال تنتابه تقلصات والتواءات في أماكن كثيرة منه، يرتفع في مكان، وينخفض في آخر، وأن هذه الالتوائية بطيئة لا نشعر بها، ولكن آثارها تتضح بعد مرور الزمن.
فتلك الالتواءات الناتجة عن القوى الداخلية البطيئة تساهم بالضغوط الجوفية القوية العارمة لرفع وإنتاج نتوءات على هيئة جبال أو هضاب ترتفع لعدة كيلو مترات فوق مساحات تبلغ آلاف الكيلو مترات المربعة بطاقة تفوق الوصف والخيال.
ومما ثبت أيضًا أن الجبال قد تكون بركانية متكونة من مقذوفات البراكين من صخور نارية تخرج من التصدعات والشقوق، وقد تكون الجبال رسوبية تم ترسيب صخورها في أحواض بحرية عظيمة في قديم الزمان في طبقات متراكمة لعدة كيلو مترات في قيعان هذه الأحواض، حتى امتلأت بالصخور الرسوبية التي حملتها الأنهار من منابعها من أعلى الجبال القديمة إلى مصباتها في هذه البحار، وضغطت الرواسب تدريجيًّا لتكوين جذور هذه الجبال الجديدة في قيعان الأحواض، بينما عملت قوى الالتواء الجبارة البطيئة على رفع هذه الجبال الرسوبية عظيمة الارتفاع والامتداد، كمرتفعات الأبلاش، والركي، والألب، والهيمالايا([19]).
من جملة ما سبق نخلص إلى أن افتراء الطاعن بتخطئته القرآن في إشارته إلى أن الجبال هي مثبتات للأرض ـ هو افتراء باطل لا أساس له من الصحة، واستدلاله ـ أي الطاعن ـ على صحة افترائه هذا بأن الجبال هي السبب وراء حدوث ظاهرة الزلازل هو افتراء باطل أيضًا؛ لأنه قد ثبت أن هناك عدة عوامل تتسبب في وقوع ظاهرة الزلازل، وليست الجبال واحدًا منها، بل ثبت أن الجبال ما هي إلا نتاج لهاتين الظاهرتين، ويبقى الإعجاز القرآني بهذا الشأن ثابتًا لا تشوبه شائبة.
(*) موقع: الكلمة www.alkalema.us.
[1]. إرساء الأرض بالجبال، من محاضرات ألقاها د. زغلول النجار في شهر رمضان سنة 1424هـ/ 2003م، مجمع البحوث الإسلامية، ص131: 133.
[2]. الجبال أوتاد، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.
[3]. الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في الجبال والصحاري والغابات وفي النبات والثمار والأزهار والألوان، د. ماهر أحمد الصوفي، المكتبة العصرية، بيروت، 1429هـ/ 2008م، ج9، ص74، 75.
[4]. جورج إفرست (1791م ـ 1866م)، عالم رياضيات إنجليزي، عُيِّن المساح العام في الهند من 1830م ـ 1843م، وسُمِّي باسمه أعلى الجبال في العالم ارتفاعًا “قمة إفرست”؛ حيث يبلغ طوله 8848 م.
[5]. جورج بيدل آيري: فلكي بريطاني تخصص في المغناطيسية والأرصاد الجوية، عاش بين 1801م ـ 1892م، تخرَّج في جامعة كمبردج سنة 1823م، وأصبح أستاذًا لعلم الفلك فيها بين 1826م ـ 1835م، عُيِّن رئيسًا للجمعية الفلكية الملكية ومديرًا لمرصد جرينتش، وقد أعاد تنظيم المرصد كليًّا وعمل على إبرازه، وقاس الجاذبية عن طريق تدلي بندول في أعلى منجم عميق، وهكذا قاس الوسيط لكثافة الأرض التي هي متقاربة في كل بقعة.
[6]. كلارينس إدوارد داتون (1841م ـ 1912م)، عالم الجيولوجيا والزلازل، أمريكي، صاحب مبدأ (Isostasy) والذي يعرف مستوى قشرة الأرض من خلال كثافتها، له أبحاث كثيرة في الزلازل استطاع من خلالها أن يُظهر طريقته المتقدمة في معرفة عمق النقطة البؤرية للزلازل، وكذلك حساب سرعة الأمواج بدقة لم يسبق لها مثيل.
[7]. لسان العرب، مادة: وتد.
[8]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص204.
[9]. لسان العرب، مادة: رسا.
[10]. من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص221.
[11]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص462.
[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج19، ص171.
[13]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج6، ص3804.
[14]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج4، ص468، 469.
[15]. تفسير الجلالين، جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي، دار الحديث، القاهرة، ط1، ص790.
[16]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج2، ص565.
[17]. انظر: من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص228، 229.
[18]. أسباب وقوع الزلازل، مقال منشور بموقع: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة www.ar.wikipedia.org.
[19]. انظر: المعارف الكونية بين العلم والقرآن، د. منصور محمد حسب النبي، مرجع سابق، 449: 453.
دعوى توصل العلم الحديث إلى كيفية إحياء الموتى
مضمون الشبهة:
يشكك بعض الطاعنين في اختصاص الله عز وجل بالقدرة على إحياء الموتى؛ زاعمين أن قوله تعالى: )وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57)( (الأعراف) ـ بعيد عن المنطق العقلي والعلمي؛ لأنه لايمكن إحياء الموتى بالماء، في حين أن العلماء في العصر الحديث قد تمكنوا من إحياء الموتى بالوسائل العلمية الحديثة، وذلك من خلال الاستنساخ من عظام الموتى.
وجه إبطال الشبهة:
إن إحياء الله الموتى بالماء أمر يقيني ومتحقق لا محالة؛ فهو يسير وفق سنن الله تعالى في هذا الكون المعجز، الذي خلق الله عز وجل فيه الأرض، ثم خلق منها الإنسان، ثم جاء العلم الحديث فأثبت أن بينهما تشابهًا كبيرًا؛ إذ إن العناصر التي خلق منها كل منهما واحدة، ليس هذا فحسب؛ بل إن النبات الخارج من الأرض يشبه الإنسان أيضًا في أشياء كثيرة؛ فهما شقيقان، ومن ثم فإن إحياء الموتى سيكون بطريقة إنبات النبات نفسها، وهو ما يتسق مع المنطق العقلي والعلمي أيما اتساق، وليس بعيدًا عنهما كما يزعمون، أما عن استنساخ الموتى فإنه ليس إحياء للموتى البتة كما يتوهمون، ولكنه مجرد خيال علمي، ومع فرض تحققه فإن المستنسخ لن يكون هو المستنسخ منه نفسه، ولكن سيكون شخصًا آخر يختلف عنه في جميع الصفات العقلية والنفسية المكتسبة.
التفصيل:
لا شك أن الخالق العظيم سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن كمال قدرته المطلقة إحياؤه الموتى.
وتعتبر هذه القضية من أخطر القضايا التي ناقشها الإسلام، وقد أكد القرآن على حتمية وقوعها أيما تأكيد، منتهجًا في ذلك منهجًا قويمًا يجمع بين ما فطرت عليه النفوس من الإيمان بما تشاهد وتحس ويقع منها تحت تأثير السمع والبصر، وبين ما تقرره العقول السليمة، ولا يتنافى مع الفطر المستقيمة، وتلك الطريقة قد تميز بها القرآن الكريم، وهذا مما لا تجده في كتب الحكمة النظرية.
ومن ثم فقد أثارت كيفية إحياء الموتى فضول الجميع: المؤمن والكافر، وحتى يقرب الله عز وجل للناس هذه الكيفية ضرب أمثالًا متعددة مما نراه بأعيينا، ونلمسه بأيدينا، ونشتم رائحته بأنوفنا، فيقول سبحانه وتعالى في غير آية من القرآن الكريم:
· )وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57)((الأعراف).
· )يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)((الروم).
· )فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير (50) ((الروم).
· )والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9) ( (فاطر).
· )ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير (39)( (فصلت).
· )والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتًا كذلك تخرجون (11)((الزخرف).
· )رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتًا كذلك الخروج (11)( (ق).
والناظر في هذه الآيات يجد أنها تتحدث في مجملها عن قضية البعث، وليس الحديث ـ كما ترون ـ حديث تحدٍّ؛ أفعل ولا تفعل، بل إنه حديث فكر وعقل وبرهان، فالآيات تتحدث عن إحياء الأرض بعد موتها، وما كان ذلك أن يحدث إلا بوجود الماء، الذي يأتي من خلال السحاب الذي يتراكم ويساق بأمر الله عز وجل، فينزل المطر على الأرض اليابسة، فتنمو فيها كل أنواع الثمار، فتخضر بعد يبس، وتنضر بعد شحوب، وتؤتي أكلها بعد جدب.
وفي جميع الآيات السابقة يعقب الله تعالى بأن الإنسان سيعاد إحياؤه يوم البعث بمثل طريقة إحياء الأرض بعد موتها، حيث كرر سبحانه القول:)كذلك نخرج الموتى((الاعراف:57)،)وكذلك تخرجون(19)((الروم)، )كذلك النشور (9)((فاطر)،)إن الذي أحياها لمحي الموتى((فصلت:39)، )كذلك الخروج (11)((ق).
ومن ثم فإن خروجنا من مراقدنا يوم القيامة لن يكون إلا بهذه البساطة واليسر، )وذلك على الله يسير (7)((التغابن). ولإيضاح هذه الحقيقة نتناول قضية البعث وإحياء الموتى من خلال عقد مجموعة من المقارنات والمقابلات.
وبداية نطرح السؤال الآتي: من أي شيء خلقنا الله؟ وما هو الوسط أو البيئة التي كانت فيها النشأة الأولى للإنسان الأول؟
والجواب عن هذا لا يختلف عليه اثنان: نحن نبتنا من الأرض، وخلقنا الله من التراب؛ قال الله تعالى: )والله أنبتكم من الأرض نباتًا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجًا (18)((نوح)، ويقول: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب( (الحج: ٥).
وبالتحليل العلمي الدقيق لمكونات الأرض أو كما ذكر في الآية الكريمة “التراب” نجد أنه يحتوي على مكونات معدنية مثل:الهيدروجين، النتروجين، الأكسجين، الكربون، الكالسيوم، الصوديوم، الكلور، الماغنسيوم، اليود، الحديد، الفوسفور، النحاس، البوتاسيوم، السليكون، والكبريت.
وليس عجيبًا أبدًا أن يكتشف علماءالكيمياء التحليلية أن مكونات جسم الإنسان المعدنية تكاد تتطابق مئة بالمئة معالمكونات المعدنية للتراب، وليس مستغربًا أيضًا أن نجد تشابهًا بين المكون الصلب والسائل في كل من الأرض والإنسان، فنسبة اليابسة إلى الماء على كوكب الأرض هي 29% يابس، و71% ماء، وهذه النسبة تكاد تتطابق مع نسبة المواد الصلبة إلى نسبة المواد السائلة في جسم الإنسان البالغ، وكأن الإنسان (أي إنسان) ما هو إلا قطعة ممثلة لأصله الأرض، وكما أن الأرض لا تنبت زرعًا ولا كلأ إلا في وجود الماء، فكذلك ابن الأرض ـ الإنسان ـ قد يعيش دون طعام لمدة أقصاها أسبوعان، ولكنه لا يمكنأبدًا أن يعيش لأيام تعد على أصابع اليد الواحدة دون الماء(إكسير الحياة).
وعليه، فإن إحياء الموتى سيكون بالطريقة نفسها التي يخرج الله بها النبات من الأرض تمامًا، وهو ليس بمستغرب ولا مستبعد البتة؛ فإن الإنسان والنبات شقيقان، وكلاهما نبت من الأرض.
ومن الناحية التصنيفية الحديثة التي تعتمد على تكنولوجيات الحامض النووي الريبوسومي([1]) فإن كلًّا من الإنسان والنبات يقعانمعًا تحت مجموعة الكائنات الحية حقيقية النواة (Eukaryota)، كما أن كلًّا من الإنسان والنبات له دورة حياة أقرها القرآن الكريم للإنسان في قوله عز وجل: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5)((الحج).
وقد ذكرها الله عز وجل للنبات أيضًا فقال في سورة الزمر: )ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعًا مختلفًا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرًّا ثم يجعله حطامًا إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب (21)((الزمر).
كما أن احتياجات الإنسان الغذائية لا تختلف كثيرًا عن احتياجات النبات، فربما تختلف من ناحية الشكل، ولكنها تتشابه وتتطابق من ناحية المضمون، بمعنى أن المكونات الأساسية لغذاء الإنسان والنبات واحدة لا تبتعد أبدًا عن العناصر الغذائية التي ذكرناها في مكونات التراب المعدنية، كما يتشابه الهدف من عملية التغذية أيضًا، الغرض الأساسي للغذاء هو الحصول على الطاقة اللازمة ليمارس بها الكائن الحي نشاطاته الحيوية المعتادة؛ مثل: الغذاء والهضم والإخراج وغيرها.
ومما يؤكد ما سبق ويعضده الأحاديث الصحيحة في هذا الشأن:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون، قال: أربعون يوما؟ قال: أبيت([2]) قال: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قال: ثم ينزل الله من السماء ماء؛ فينبتون كما ينبت البقل([3])، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة»([4]).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: «… ثم يرسل الله أو ينزل الله قطرًا كأنه الطل([5]) أو الظل ـ نعمان الشاك ـ فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون…»([6]).
وقد فسر العلماء هذا المطر بأنه: كمنيّ الرجال([7]).
والناظر في الحديث الأول يجد أنه صلى الله عليه وسلم قد تحدث فيه عن كيفية إحياء الله الموتى، أو إنبات الإنسان يوم القيامة، وقد شبه هذا بنبات البقل، الذي يعد أبرز مثال دنيوي يشبه إنباته إنبات الإنسان يوم القيامة؛ وذلك لما يأتي:
يقرر علماء النبات أن بذرة نبات البقل هي كائن جنيني حي، ولكنه في حالة من الكمون أو السكون وليس الموت، فجميع العمليات الحيوية تتم فيه ولكن بمعدلات بطيئة جدًّا؛ بحيث يظل الجنين محتفظًا بحياته لأطول فترة زمنية ممكنة، ويتكون هذا الجنين من الأعضاء الخضرية الأساسية نفسها التي يتكون منها النبات الكبير، وحتى ينبت هذا الجنين فلا بد أن يكون حيًّا، فالجنين الميت لا ينبت أبدًا.
ويحدث الإنبات بتشرب الحبة أو البذرة للماء، فتنتفخ وتتمزق أغلفتها نتيجة للضغط عليها، ثم يظهر الجذير خارج الحبة أو البذرة إلى التربة والماء، ثم تظهر الرويشة أيضًا خارج الحبة أو البذرة، وتتجه إلى أعلى غالبًا، وتعطي الساق التي تحمل الأوراق والأزهار والثمار والأشواك والمعاليق وباقي الزوائد.
الشكل يوضح نمو نبات الفول الذي هو من البقوليات
وهناك شيء آخر يمكن لأي أحد ملاحظته في إنبات نبات البقل وما شابهه من النباتات الأخرى ـ أن بذوره عند انفلاقها، وخروج الساق الجنيني والجذير منها تخترق سطح التربة وتخرج مع الساق لأعلى لعدة سنتيمترات قليلة فوق سطح التربة، أفلا يلفت ذلك نظرنا؟ وأن اختيار الرسول الكريملهذا النبات ليشبه به إنبات الإنسان يوم القيامة كان اختيارًا دقيقًا للغاية، فأية بلاغة هذه؟!([8]).
أما الحديث الثاني الذي رواه الإمام أحمد فإنه يحدد صفات الماء اللازم لعملية إنبات الإنسان يوم البعث والنشور، ثم يتحدث عن البذرة الإنسانية التي سينبت منها البشر جميعًا ـ إلا الأنبياء كما هو معلوم من الشرع ـ يوم القيامة، وهي عظمة عجب الذنب، كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الشيء الوحيد الذي يظل في باطن الأرض، لايفنى؛ لأنه منه خلق الإنسان، وفيه يركب يوم القيامة؛ أي يحيي الله من خلاله الموتى، كما نص على ذلك الحديث الأول الذي في الصحيحين وغيرهما([9]).
ويصور الإمام ابن القيم إحياء الموتى تصويرًا رائعًا فيقول:
وإذا أراد الله إخــراج الـورى
| بعد الممـات إلى المعـاد الثـاني
|
ألقى عـلى الأرض التي هـم تحتها
| والله مـقتـدر وذو سـلطـانِ
|
مـطرًا غليظًـا أبيضًـا متتـابعًا
| عشرا وعشرا بعدهـا عشـرانِ
|
فتظل تنبت منه أجسـام الـورى
| ولحـومهم كمنـابت الريحـانِ
|
حتى إذا مـا الأم([10]) حـان ولادهـا
| وتمخضت فنفـاسهـا متـدانِ
|
أوحى لـها رب السمـا فتشققت
| وبدا الجنين كـأكمل الشبـانِ
|
وتخلت الأم الـولود وأخـرجت
| أطفـالـها أنثى ومن ذكـرانِ([11])
|
وبهذا يتبين لكل مدّعٍ أن إحياء الله الموتى بالماء أمر يقيني سوف يتحقق؛ فهو يسير وفق سنن الله تعالى في هذا الكون المعجز، وهو بذلك يتسق مع المنطق العقلي والعلمي أيما اتساق، وليس بعيدًا عنهما كما يزعمون. فهل استطاع العلماء في العصر الحديث إحياء الموتى عن طريق الاستنساخ من عظام الموتى، كما يدعي دعاة الاستنساخ؟!
نقول: إن من أصول الاعتقاد الصحيح: الإيمان بأن الله تعالى هو وحده الذي يحيي ويميت، ومن ادعى أن غير الله تعالى قادر على الإحياء والإماتة فقد كفر، بل إن المشركين في جاهليتهم لم يعتقدوا ذلك في أصنامهم وآلهتهم؛ قال تعالى:)كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)((البقرة)، وقال تعالى: )ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6)((الحج)،وقال تعالى: )وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور (66)((الحج).
وقد بين الله تعالى عجز الآلهة المزعومة، ليس عن الإحياء والإماتة فقط، بل عن الخلق والرزق أيضًا، قال تعالى: )الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)( (الروم).
قال الشيخ الشنقيطي: “فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:)هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون (40)( (الروم)،يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئًا من ذلك المذكور في الآية، ومنه الحياة المعبر عنها بـ (خلقناكم)، والموت المعبر عنه بقوله: (ثم يميتكم)، والنشور المعبر عنه بقوله: (ثم يحييكم)، وبيّن أنهم لا يملكون نشورًا بقوله:)أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21)( (الأنبياء)، وبيّن أنهم لا يملكون حياة ولا نشورًا في قوله تعالى: )قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34)( (يونس)، وبيّن أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى:)وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا( (آل عمران: ١٤٥)، وقوله تعالى:)ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها( (المنافقون: ١١)، وقال تعالى: )إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر( (نوح: ٤)، وقوله تعالى: )كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم(، وقوله تعالى: )قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين( (غافر: ١١)، إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين”([12]).
وقد يقول قائل: إذا كان ذلك كذلك، فما تقولون في معجزة إحياء عيسى عليه السلام الموتى، والمجادل لإبراهيم عليه السلام في أمر القدرة على الإحياء والإماتة؟!
الجواب:
لقد كان من آيات عيسى ابن مريم عليه السلام البينات أنه يحيي الموتى بإذن الله، ولم يكن عيسى عليه السلام قادرًا على ذلك إلا أن يشاء ربه تبارك وتعالى.
قال تعالى: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله( (آل عمران: ٤٩)، وقال تعالى:)إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلًا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني( (المائدة: ١١٠).
وأما ما وقع من المجادل لإبراهيم عليه السلام بأنه قادر على الإحياء والإماتة فهذا من أسخف الادعاءات وأبطلها، ولهذا لما ناظره إبراهيم عليه السلام انقطع ذلك الكافر، وثبت بطلان دعواه.
قال تعالى: )ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258)( (البقرة).
ومن ثم فلا يستطيع أحد من البشر أن يدعي أنه قادر على إحياء الموتى، ومن ادعى ذلك فهاهم الموتى من الرسل والأنبياء والعظماء فليحيهم إن كان صادقًا في دعواه([13])!
فهل يستطيع العلماء في العصر الحديث استنساخ الموتى؟!
يقول الدكتور حمد الرقعي: القول باستنساخ الموتى قول لا سند له؛ فعودة الموتى بعث، والبعث بيد الله،لم يسلم مفاتيحه لأحد، فبالموت تموت الخلايا، والاستنساخ لا يمكن له أن يتعامل إلا مع ما هو حي، حتى وإن كان هذا الحي دقيقًا لانراه([14]).
ويقول الدكتور سينوت حليم دوس في كتابه “استنساخ الإنسان حيًّا وميتًا”: محاولات للاستنساخ من جثة فرعون، وغير ذلك، ثم وصل إلى نتيجة مهمة، سطرها بقوله: “وفي الوقت الراهن أقرر أن استنساخ الميت حلم لن يتحقق مطلقًا”.
ومما يؤكد هذا أن الخبراء في الاستنساخ من أهل الفن يعلمون أنه ليس هو إخراج حي من ميت؛ فضلًا عن أن يكون إحياء من عدم، بل إن الاستنساخ من ميت أمر مبتوت فيه عندهم أنه لن يكون([15]).
ومن ناحية أخرى يرى بعض الباحثين أن استنساخ الموتى يمكن أن يحدث في ثلاث حالات:
1) في حالة الميت حديث الوفاة؛ أي الذي فارقت روحه جسده منذ بضع ساعات فقط وما زالت بعض خلاياه حية، كما يحدث عند نقل بعض الأعضاء من ميت حديث الوفاة إلى آخر حي يحتاجها([16]).
يقول الدكتور سينوت حليم: إن الزعم باستنساخ الموتى كالزعماء السابقين مستحيل؛ لأن عملية الاستنساخ لا بد أن تتم خلال ست ساعات من بعد الوفاة، فإن الحامض النووي في الخلية يفسد بعد ست ساعات([17]).
2) حالة تجميد خلايا المتوفى ثم نزعها بعد موته بفترة لا تتعدى عشر ساعات، والحفاظ عليها بطريقة الحفظ بالتجميد العميق، كالطريقة المستخدمة في حفظ الأجنة المجمدة.
وفي واقع الأمر فإن هاتين الحالتين لا تعدان من قبيل استنساخ الموتى؛ فقد أثبت العلم الحديث أن كثيرًا من خلايا الجسم تظل حية بعد موت المخ والقلب والرئتين لفترة ما تختلف من عضو لآخر([18]).
3) طريقة نزع الحامض النووي (D.N.A) من خلايا المتوفى الذي مات قديمًا.
وهذه الحالة هي مجرد افتراض نظري أعلن عنه العلماء الروس([19]).
تقول الدكتورة أميمة خفاجي (مدرس الهندسة الوراثية بجامعة قناة السويس): إن الحامض النووي (D.N.A) هو المادة الوراثية المسئولة عن تكوين الكائن الحي وصفاته وسلوكه, ولكي نقوم
بالاستنساخ من خلالها, يجب أن تكون هذه المادة محتفظة بصورتها وخصائصها جيدًا, وألا تكون مصابة بأي تلف أو عطب, ولذلك قد يكون من السهل نسبيًّا الاستنساخ من العظام؛ لأن المادة
العكسية الموجودة حول العظام، وحول الخلايا الداخلة في تكوين العظام ـ تعمل على حفظ المادة الوراثية من التلف, وإن كان ذلك يحدث مع مرور السنين, فيصيبها التلف والعطب, ومن ثم
تستحيل إمكانية استنساخ الكائن نفسه بصفاته نفسها, لكن قد يحدث مع التطور العلمي أن تتوافر لدينا القدرة على اكتشاف أي عطب أو تلف في المادة الوراثية, ثم إصلاحه وإعادة المادة
الوراثية إلى صورتها الأصلية, ومن ثم القدرة على الاستنساخ الكامل.
لكن المادة الوراثية التي يمكن أن نجدها في الدم, تحمل شكًّا كبيرًا بأنها قد تكون سليمة تمامًا, ولم يصبها أي عطب أو تلف, ومن ثم إمكانية التعبير بصورة دقيقة أو مضبوطة عن الكائن الذي سيحملها, وهذه أول مشكلة وأهم عقبة في سبيل تحقيق استنساخ الموتى , على افتراض أن ذلك ممكن من الأصل.
وفي السياق نفسه يؤكد الدكتور عبد الهادي مصباح (أستاذ المناعة والتحاليل) أن الاستنساخ الذي صار واقعًا علميًّا حقيقيًّا يقوم أساسًا على أخذ الحامض النووي من خلية جسدية حية، يكون فيها شريط الجينوم واضحًا وكاملًا بعد برمجته وإدخاله في بويضة منزوعة الكروموسومات داخل رحم امرأة، ولكن لم يتم حتى الآن إجراء تجربة علمية عليه.
فإذا كان هذا هو حال الاستنساخ من البشر الأحياء، فماذا عساه أن يكون من الموتى، لا سيما القدماء كما يزعمون؟!
تقول الدكتورة سامية التمتامي (أستاذ الوراثة البشرية): فإن الاستنساخ في الأصل يتم من خلايا حية قادرة على الانقسام, وليس من خلايا ميتة, ومن ثم أستبعد تمامًا حدوث مثل هذا
الاستنساخ؛ لأن الـ (D.N.A)قديم جدًّا, والأكثر دلالة على ذلك أن عمليات محاولة استنساخ قدماء المصريين من الذين تتوافر مومياءاتهم فاشلة تمامًا, رغم توافر الجسد([20]).
وهذا ما أكده الدكتور أحمد مستجير عندما قال: أغلب الأبحاث التي أجريت على المومياءات القديمة والحفريات (والتي بدأت في ألمانيا منذ سنوات، ثم في إنجلترا، وتتبناها حاليًّا أمريكا) فشلت، ولم تصل إلى درجة عالية من النقاء والحساسية؛ لأن المومياء تتعرض للتلف أو لعوامل التعرية عند خروجها من البيئة التي حفظت بها([21]).
ومع كل ما سبق فلو فرض جدلًا أنه تم استخلاص الحامض النووي ـ أي المادة الوراثية بصورة صحيحة ودقيقة من بقايا أحد الموتى ورفاته، وتم زرعها في بويضة منزوعة النواة داخل رحم أنثى, فإن الكائن الجديد المستنسخ لن يعبر بصورة صحيحة عن الأصل, بل إنه قد يأتي مناقضًا تمامًا له, فالمادة الوراثية حتى لو كانت دقيقة وسليمة تمامًا, فإنها لا تعبر عن نفسها بمفردها, فلا بد من تدخل الظروف الخارجية، والبيئة، والتربية، والمناخ, إلى آخر كل تلك الظروف, وهذه هي أهم نقطة بالفعل, فربما يستطيعون استنساخ صورة جسدية لشخص ما, لكن من المستحيل أن يحمل صفاته نفسها, بسبب تغير العوامل الخارجية, وهذا ينطبق على أية عملية استنساخ.
ويؤكد هذا الدكتور عبد الهادي مصباح فيقول: إن الناحية النظرية للاستنساخ تؤكد أن وجود الحامض النووي وتحليله لا يعني بالضرورة استنساخ صاحبه؛ بسبب أن الصفات الوراثية لن تكون موجودة بأكملها([22]).
وبناء على ما سبق فإن استنساخ الموتى فكرة ما زالت خيالًا علميًّا ـ كما يقول خبراء الهندسة الوراثية([23])، ولكن إن تحققت هذه الفكرة فيما بعد ـ كما قلنا سابقًا ـ فإن ذلك لا يكون ولن يكون بعثًا أو إحياء للموتى كما يتوهمون، ومن ثم فإن المستنسخ في هذه الحالة لن يكون إينشتاين بذاته أو توت عنخ آمون أو رمسيس الثاني… إلخ، ولكن سيكون شخصًا آخر، يختلف عنهم في جميع صفاته العقلية والنفسية المكتسبة؛ لأن هذه الصفات لا تستنسخ، سيكون فقط مشابها للمستنسخ منه في الصفات الجسدية التي خلق بها؛ فقد يكون شخصًا مشابها لإينشتاين في الشكل والطول والحجم واللون… إلخ، ولكنه قد يكون في منتهى الغباء ولا يعلم شيئًا عن نظرية النسبية والعلوم الذرية وغير ذلك، إلا بالقدر الذي سيتعلمه بالمراحل الدراسية التي سيمر بها لو تخصص في المجال العلمي.
ولو استنسخوا شخصًا لرمسيس الثاني أو توت عنخ آمون فلن يكون فرعون مصر، ولن يعلم عن تاريخ الفراعنة أكثر مما نعلم، أما أن يعتقد أحد أنهم سيعيدون رمسيس الثاني مثلًا للحياة من خلال حامض الدنا (D.N.A) الموجود بموميائه ـ فهذا محال؛ لأن ذلك يقتضي رد الروح التي صعدت إلى ربها عند موته مرة أخرى إلى الأرض، ودخولها في المستنسخ وهو جنين في رحم المرأة التي ستحتضنه، وهذا أمر محال ومستبعد، هذا على افتراض نجاحهم في تشكيل نواة من (D.N.A) المتوفى، ووضع هذه النواة في بويضة امرأة، بعد نزع نواة بويضتها، وعلى افتراض أيضًا أن الله سيكتب الحياة لهذا المولود المستنسخ، ويقدر خروجه لهذه الدنيا([24]).
وعليه، فهل بعد كل ما سبق يحق لهؤلاء أن يدّعوا أنهم قادرون على إحياء الموتى بالوسائل العلمية الحديثة؟!
إن الإنسان عاجز تمامًا عن إحياء الموتى؛ لأنه لا يملك هذا العلم، وعقله المحدود عندما خلقه الله سبحانه وتعالى أوقفه عن علم هذا الأمر، ومهما تطور العقل وارتقى فلن يصل أبدًا إلى هذا العلم، ولكن الله عز وجل وحده هو الذي يعلم كيف يحيي الموتى([25]).
وهذه الكيفية تتفق مع المنطق العقلي والعلمي ـ كما أوضحنا ـ وليست بعيدة عنهما كما يزعمون، )كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة).
الخلاصة:
· لا شك أن إحياء الله الموتى بالماء أمر يقيني، وسيتحقق بنص القرآن الكريم الذي أشار إلى ذلك في آيات كثيرة، وبنص السنة النبوية الصحيحة.
· لما كان الإنسان هو ابن الأرض دل هذا على أن بينهما تشابهًا كبيرًا، وهذا ما أثبته العلم الحديث، حين قام بتحليل مكونات الأرض فوجد أنها مثل المكونات والعناصر التي خلق منها الإنسان، كما أن النبات الخارج منها يشبه الإنسان إلى حد كبير؛ فهما شقيقان؛ ومن ثم فإن إحياء الموتى سيكون بطريقة إنبات النبات نفسها تمامًا، وهو بهذا يتسق مع المنطق العقلي والعلمي، وليس بعيدًا عنهما كما يدّعون.
· إن استنساخ الموتى لا يعد إحياء للموتى؛ لأن هذا أمر اختص الله تعالى به نفسه، ولم يسلم مفاتيحه لأحد، كما أن الإنسان عاجز تمامًا عن إحياء الموتى؛ لأنه لا يملك هذا العلم، وعقله المحدود عندما خلقه الله سبحانه وتعالى أوقفه عن علم هذا الأمر.
· لقد ذهب كثير من خبراء الاستنساخ والهندسة الوراثية إلى أن استنساخ الموتى فكرة ما زالت خيالًا علميًّا، ولكن مع فرض تحققها فإن المستنسخ لن يكون هو المستنسخ نفسه، ولكن سيكون شخصًا آخر يختلف عنه في جميع الصفات العقلية والنفسية المكتسبة.
(*) موقع: الملحدين العرب www.el7ad.com. الهندسة الوراثية وخروج دابة الأرض، هشام كمال عبد الحميد، مرجع سابق.
[1]. الحامض النووي الريبوسومي: هو أحد الأنواع الثلاثة للحمض النووي (R.N.A)، وهو يقوم بتسهيل إتمام بناء البروتين المطلوب من خلال الأحماض الأمينية؛ إذ إن جزيئاته تتَّحد مع مواد بروتينية لتكوِّن أجسامًا يوصف بعضها بالوحيدات الكبيرة (Subunits large)، وبعضها الآخر يُعرف باسم الوحيدات الصغيرة (Small subunits)، وترتبط كل وحيدة صغيرة مع وحيدة كبيرة ليكوِّنا ما يعرف باسم ريبوسومة (Aribosome) التي توجد في سيتوبلازم الخلية.
[2]. أي أبيت أن أجزم أن المراد أربعون يومًا أو شهرًا أو سنة؛ بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة.
[3]. البَقْل: كل نبات عشبي يغتذي الإنسان به أو بجزء منه، كالخس والخيار والجزر، ويكثر إطلاقه الآن على الحبوب الجافة لبعض الخضروات، كالفاصوليا واللوبيا والفول والعدس.
[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: )يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)((النبأ)، (8/ 558)، رقم (4935). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، ج9، ص4056، رقم (7280).
[5]. الطلُّ: هو المطر الخفيف يكون له أثر قليل.
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو ب، (10/ 61، 62)، رقم (6555). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[7]. انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج9، هامش ص4057.
[8]. انظر: الماء والبعث وعجب الذنب، د. دسوقي عبد الحليم، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة www.quran-m.com. وموقع الجيولوجيين الكويتيين www.q8qeologist.com. الماء والبعث بعد الموت معلومة مهمة جدًّا لكم، مقال منشور بموقع: بيت حواء www.forum.hawahome .com.
[9]. كيفية إحياء الموتى يوم القيامة بهدي القرآن الكريم، مقال منشور بموقع: البارتي www.pdksp.net.
[10]. الأم: كناية عن الأرض.
[11]. موسوعة خطب المنبر، مفرغة من شبكة: المنبر www.alminbar.net.
[12]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مرجع سابق، ج28، ص18.
[13]. هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى؟ مقال منشور بموقع: الإسلام سؤال وجواب www.islamqa.com.
[14]. الاستنساخ من النعجة دولِّي إلى أين؟ مقال منشور بموقع: مدونة الدكتور حمد الرقعي www.drhamadelraghi.blogspot.com.
[15] الهندسة الوراثية وعلم الاستنساخ، مقال منشور بموقع: منارة أبو قرون www.manartabugroon.com. هل الاستنساخ نفخ للروح وخلق كخلق الله؟ مقال منشور بموقع: الإسلام سؤال وجواب www.islamqa.com.
[16]. هل بالإمكان استنساخ الموتى؟ مقال منشور بموقع: العيادة السورية www.syrianclinic.com.
[17]. هل 2003م هو عام الاستنساخ والشباب الدائم؟ مقال منشور بموقع: مرمريتا www.marmarita.com.
[18]. انظر: جذع المخ بين الحياة والموت، د. رضاء الطيب، بحث منشور بموقع: الجمعية الشرعية www.alshareyah.org.
[19]. هل بالإمكان استنساخ الموتى؟ مقال منشور بموقع: العيادة السورية wwwsyrianclinic.com.
[20]. انظر: المسيخ الدجال وعلاقته بمثلث برمودا، مقال منشور بموقع: كل العرب www.kull-alarab.com.
[21]. بحث عن ملك فرعوني قديم مثل توت عنخ آمون، مقال منشور بموقع: البارود www.foums.b99.com.
[22]. انظر: المسيخ الدجال وعلاقته بمثلث برمودا، مقال منشور بموقع: كل العرب www.kull-alarab.com.
[23]. النشرة الفقهية ليوم الأحد، صفر 1413هـ، مقال منشور بموقع: الفقه الإسلامي www.islamfeqh.com.
[24]. الهندسة الوراثية وخروج دابة الأرض، هشام كمال عبد الحميد، مرجع سابق، ص142، 143 بتصرف.
[25] الموسوعة الكونية الكبرى: آيات الله في خلق الإنسان وبعثه وحسابه، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج9، ص274 بتصرف.
دعوى خطأ القرآن الكريم لتعارضه مع نظرية داروين في النشوء والارتقاء
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين خطأ القرآن الكريم في حديثه عن أصل خلقة الإنسان؛ إذ خلقه الله إنسانًا ونفخ فيه من روحه، في حين ـ على حسب ما يرون ـ أن الإنسان جاء متطورًا من مرحلة الحيوانية (المتمثلة في القرود) إلى رتبة الإنسان الحالي بشكله المعروف، وهذا ما أثبتته نظرية داروين التطورية التي اعتنقها كثير من العلماء والأفراد ودعوا إليها.
وجه إبطال الشبهة:
أثبت العلم الحديث ـ القائم على التجربة والبرهان ـ بطلان نظرية داروين، ولم يقل بصحتها كما زعم مثيرو الشبهة، فقد وصل لنتيجة مفادها “أنها ليست بنظرية علمية على الإطلاق”؛ لتناقضها، وعدم توافر المنهج العلمي فيها، هذا المنهج الذي يعتمد على الملاحظة العلمية وإجراء التجارب وعدم التسليم بالوقائع إلا بعد تمحيصها؛ فنجد علوم البيولوجيا الجزئية، والتكنولوجيا الحيوية، والهندسة الوراثية، وعلم تقسيم الكائنات ـ تدحض افتراءات هذه النظرية وتبطلها. ومن ثم؛ فإن ما أثبته العلم هو صحة ما جاء به القرآن، وذهبت إليه الأديان السماوية كافة من أن الإنسان خلق إنسانًا، ولم يك يومًا متطورًا عن قرد أو خنزير.
التفصيل:
كيف نشأت المادة الحية نفسها، تلك التي تنوَّعت بدورها بعد ذلك إلى أنواع الحياة المختلفة؟ سؤال راود أذهان كثير من المفكرين منذ قرون سحيقة.
ويجدر بنا للإجابة عن هذا التساؤل أن نستعرض نبذة تاريخية عن آراء المفكرين والباحثين في أصل المخلوقات الحية ونشأتها؛ فلقد “بدأ التفكير في أصل المخلوقات الحية ونشأتها ـ النباتية منها والحيوانية ـ منذ بداية قدرة العقل البشري على التفكير للاستقصاء والاستفادة مما حوله، ونجد آثارًا لهذه الأفكار ما زالت باقية في المتناثرات التي بقيت من حضارات الأمم البائدة التي استقرَّت في المناطق الزراعية حول ضفاف الأنهار، مثل: وادي النيل، والرافدين، والهند، والصين، ثم انتشرت إلى المناطق الزراعية في المناطق الأكثر برودة مع المد الحضاري الذي وصل إليها؛ فقد وجد المقيمون في هذه المناطق كثيرًا من الظواهر والمخلوقات تحت أبصارهم، فنشطوا للتفكير فيما يزيد تنظيم حياتهم من كتابة وتأريخ وتقاويم وقوانين وديانات تفكِّر: من أين جاءوا وإلى أين يذهبون؟
ونتجت أفكار كثيرة عن نشأة الكائنات ومنها الإنسان، منها أن بدْء التكوين كان كتلة لزجة بلا شكل أو صورة تحتوي على نفثة([1]) من الخالق، ثم تعرَّضت لتأثير الطبيعة فتطورت في أطوار من النشوء حتى بلغت حدَّها الأخير في الصورة البشرية، وقد آمن ـ أيضًا ـ القدماء بأن النجوم والكواكب لها تأثير على عناصر الأرض وصور الحياة، وأقدم ما وصل إلينا مما عثر عليه إلى الآن من تراث الأقدمين هو ما قاله الفيلسوف الإغريقي “أنتكسمندر” (610ق. م): “إنَّ نشأة الكائنات الحية هو نتيجة تأثير الشمس على الأرض، وتميُّز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة، وأن الأرض كانت في البداية طينية ورطبة أكثر مما هي عليه الآن، فلما وقع فعل الشمس، دارت العناصر الرطبة في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع، وتولَّدت الحيوانات الأولى، غير أنها كانت كثيفة ذات صور قبيحة غير منتظمة، وكانت مغطاة بقشرة كثيفة تمنعها من الحركة والتناسل وحفظ الذات، فكان لا بد من نشوء مخلوقات جديدة، أو بسبب ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيوانات منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد نوعها، أما الإنسان فإنه ظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يَخْل من التقلُّبات التي طرأت عليه، فخلق أول الأمر شنيع الصورة ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحاضرة”.
وهذه الفقرة تحمل معظم مبادئ أصل الحياة والنشوء والارتقاء والانتقاء والتمايز، وتأثير البيئة المحيطة”([2]).
ومن الجدير بالذكر أن هذه الفقرة كانت قد كُتبت منذ ستة قرون قبل الميلاد، الأمر الذي يدل على أن هذه الفكرة ـ فكرة التطور ـ لها جذور تاريخية، وليست مخترعة اختراعًا حديثًا.
كذلك نجد فكرة أخرى لفيلسوف آخر، وهو أرسطو الذي قال: “إن الحياة تبدأ مصادفة بمجرد وجود بعض المواد التي لا حياة فيها، وتكون هذه المواد متلازمة جنبًا إلى جنب في بيئة مبتلَّة رطبة، ومن هنا تبدأ الحياة”([3]).
إلا أن الأمر لم يتوقف عند مثل هذه الأقوال؛ بل إنه في القرن الثامن عشر نجد أن الفكر الأوربي قد بعث الأفكار اليونانية القديمة القائلة بأن الأجناس الحية الحاضرة هي ثمرة عملية طويلة من النمو.
في ذلك الوقت كانت النظرة المقبولة هي نظرة العالم السويدي “لينيوس”([4]) القائل: “إننا نقرُّ بوجود أنواع بعدد الأزواج التي خرجت من يدي الخالق، وأن الأنواع بقيت ثابتة منذ خلقها الذي جاء وصفُه في سفر التكوين، والتغير الوحيد الذي وقع هو زيادة أعدادها لا تغير أصنافها، وأنه ليس هنالك من جنس جديد”.
نظرية التطور عند “لامارك”([5]):
استكمل لامارك وضع نظريته في التطور في كتابه “فلسفة علم الحيوان” عام 1809م، وتتلخَّص نظريته في: أن البيئة تؤثِّر في شكل الحيوانات وتركيب أعضائها، وأن الاستعمال المتكرر أو المستمر لأي عضو يزيد في حجمه، في حين يؤدي عدم الاستعمال إلى ضعفه وصغر حجمه حتى يختفي، وأن الصفات المكتسبة التي تتكوَّن على هذا النحو تنتقل إلى الأجيال بالتوارث، وأن هذه الصفات تتكاثر بمرور الزمن، إلى أن تُحدث نوعًا جديدًا من الحيوانات.
النقد العلمي لنظرية لامارك:
لقد رأى العلماء أن هذه النظرية استحقَّت أن تتوارى في ظلام النسيان؛ إذ إن هذه النظرية ترتكز على انتقال الصفات المكتسبة بالتوارث، وقد أثبتت التجارب الجديدة أن الصفات التي يكتسبها الفرد في حياته لا تتوارث.كذلك؛ فإن هذه النظرية قد أصابها التشويه؛ إذ إنها لم ترتكز على مبدأ انتقال الصفات المكتسبة كما زعمت، بل استندت إلى مجموعة قوانين لم يكن قانون انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة إلا واحدًا منها، كما أنه لم يكن أهمها، وأن القوانين الأخرى يقوم كلٌّ منها بنفسه، ولا تتوقف صحته على صحة الآخر. ويبيَّن العالم الإنجليزي “جراهام كانون” أن لامارك قد وضع بجانب قانون انتقال الصفات المكتسبة بالوراثة قانونَ الانتخاب الطبيعي، والصراع على البقاء قبل أن يذكر داروين عن ذلك شيئًا بنحو خمسين عامًا([6]).
ومن كل ما سبق يتضح لنا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن داروين لم يكن مخترعًا عبقريًّا، وليس خالقًا لمشكلة الاهتمام العام بالتطور؛ بل إنه كان وارثًا لما أُثير قبله من أفكار وآراء تبنَّاها وقام بصياغتها من جديد، ثم ما لبث داروين([7]) أن قام بطرح نظريته في التطور في أواسط القرن التاسع عشر في وقت كانت فيه العلوم والتكنولوجيا على مستوى متدنٍّ؛ فقد كان علماء ذلك القرن يجرون أبحاثهم في معامل بسيطة وبأجهزة بدائية جدًّا لا يمكن للعلماء أن يروا من خلالها البكتيريا، ومن المؤكد أن عدم دقة الأجهزة خلق بعض الاعتقادات الباطلة؛ فنجد داروين قد اعتمد في بناء نظريته على فكرة أن الحياة لها طبيعة بسيطة في أساسها، ولقد اعتنق علماء الأحياء فكرة داروين وناصروها وبنوا أفكارهم على هذا المنطلق، وكان من أهم مناصري داروين في ألمانيا العالم “إرنست هيكل”([8]) وهو الذي اعتقد أن الخلية الحية ما هي إلا “بالونة بسيطة مملوءة بسائل هُلامي”([9])، وهكذا صيغت نظرية معتمدة على مثل هذه التخيلات، الأمر الذي أدَّى إلى خطأ أصحابها مثل هيكل وداروين وهكسلي([10]) حينما اعتقدوا أن للحياة تكوينًا بسيطًا، خُلق بالمصادفة البحتة.
يقول داروين بمبدأ الانتخاب الطبيعي([11])، الذي يُعنى ببقاء الأصلح من الأجناس في الصراع من أجل البقاء والوجود، وبهذا يعطي داروين تفسيرًا آليًّا عن تطوُّر وتحوُّل الكائنات الحية على مدى وجودها على سطح الأرض، وقد ترك داروين في كتابه (أصل الأنواع The Origin of Species) الذي صدر في عام 1859م مسألة أصل الإنسان معلَّقة، ولكنه عاد إليها في كتابه الآخر (أصل الإنسان) الصادر عام 1871م؛ حيث امتدَّت نظريته للتطور لتشمل الإنسان أيضًا، وقد بيَّن داروين ومساعديه: توماس هنري هكسلي، وإرنست هيكل أن الإنسان يشترك مع الشامبانزي (Chimpanzee) والغوريلا (Gorilla) وإنسان الغابة (orangutan)([12]) في صفات تشريحية كثيرة؛ الأمر الذي دعا إلى الاعتقاد بأن الإنسان العاقل (Homosapiens) ربما يكون قد انحدر من سلالة بدائية تشبه القردة؛ نظرًا لهذا التشابه التشريحي.
وفي عام 1899م صدر كتاب بعنوان “لغز العالم” لإرنست هيكل، الذي روَّج فيه لأفكار داروين، وقال: إن التطور الآلي يمتدُّ من الذرة إلى الإنسان. وبهذا؛ فإن الأسلاف المباشرين للإنسان في الحيوانات الثديية العليا هي القرود، وبهذا أصبح الفكر العام منذ ذلك الوقت بأن “الإنسان ينحدر من سلالة تشبه القرود”.
وبعد داروين فقد الإنسان مكانته الخاصة في عالم الأحياء، ولم يعد يبدو أن الله قد خلق الإنسان خلقًا مباشرًا؛ بل بدا أنه نتاج طبيعي للسلالة البيولوجية العامة، وقد تلقَّف الفكر الداروني ـ أو النظرية الدارونية ـ كلٌّ من الجيولوجيين والطبيعيين، وأخذوا في البحث والتنقيب في الأرض لإثبات هذا الفكر أو هذه النظرية([13])، والدفاع عنها بشتى الطرق والأساليب، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن هناك سببًا خفيًّا يكمن وراء كل هذه الاستماتة في الدفاع.
ونظرة فاحصة فيما وراء هذه النظرية نجد أن السبب الرئيسي في الاستماتة في الدفاع عن نظرية التطور طوال قرن كامل، وبإصرار وعناد ـ هو محاولة القيام بتفسير الكون والحياة دون الحاجة إلى خالق؛ لذا فإن من الأصح النظر إلى نظرية التطور على أنها جزء من الدعاية المادية، وليس بوصفها نظرية مستقلة، والحقيقة أن نظرة واحدة إلى كيفية انتشارها تكفي للبيان بأن الموضوع ليس موضوع علم؛ بل موضوع عقيدة وأيدولوجية معينة؛ ذلك لأن نظرية التطور تتبع في انتشارها طرق الدعاية وأساليبها، وليس الطرق العلمية، ومن الممكن مشاهدة جميع عناصر الدعاية عند تقديم هذه النظرية وعرضها:
تتبع نظرية التطور أسلوب انتقاء الأدلة؛ فهي تختار الأدلة التي تراها في صالحها، وتهمل الأدلة المعارضة والمناقضة لها؛ فلم نشاهد حتى الآن أيًّا من التطوريين قام بحساب الاحتمالات حول البروتينات.
وضع اللافتات والعناوين من العادات الملازمة للتطوريين، وهذه من السمات البارزة للدعاية؛ فتهمة الرجعية والتعصُّب تلصق حالًا بكل من يحاول تدقيق مدى صحة هذه النظرية.
تتبع نظرية التطور طريق الابتزاز؛ فالشخص المعرَّض لهذه الدعاية لن يجد أمامه إلا طريقين، فإما أن يكون رجل علم معاصر ورجلًا مستنيرًا، وإما أن يكون رجلًا متخلفًا عقليًّا، فإن قَبِلَ وتبنَّى النظرية فهو مستنير، وإلا فهو شخص متخلف.
ليس هناك محلٌّ للنقاش في نظرية التطور، وإنما هناك عرض وتقديم شيء معين، فبينما يوضِّح العلم للإنسان كيف يفكِّر، نرى أن نظرية التطور تقدِّم للإنسان ماذا يفكر.
ونظرية التطور مثلها في ذلك مثل الدعاية، لا تفتح مجالًا للنقاش؛ فهي تتحدث عن الحقائق العلمية، ولكن إما أنها لا ترى حاجة إيراد الأدلة عن هذه الحقائق أو لا تدخل في أي نقاش حول ماهية الأدلة التي تقدِّمها أو دلالاتها.
وضع الشعارات واستعمالها وتكرُّرها قدر الإمكان، يعدُّ من استراتيجيات نظرية التطور؛ إذ إن الشخص الذي يسمع بـ “الانتخاب الطبيعي” آلاف المرات، لا يرى ضرورة للبحث عن ماهية هذا المفهوم، وعمَّا إذا كان يمكن أن يعمل حقيقةً أم لا.
كما في الدعايات السياسية والأيدولوجية؛ فإن اختراع عدو ووضعه هدفًا، يحقِّق فوائد جمة، فيحقق صاحب الدعاية بذلك وحدة الصف لجماعته، ويوجَّه الانتقادات المصوبة إليه إلى هدف آخر.
فالعدو بالنسبة للتطوريين هو الأوساط الدينية؛ لذا فإنهم لا يملُّون من تكرار الادعاء بأن الانتقادات الموجهة للنظرية تستند إلى أسباب دينية، ولكن الحقيقة على العكس من ذلك تمامًا؛ إذ إن نظرية التطور ليست إلا حربًا حاقدة أُعلنت ضد المعتقدات الدينية.
وفي ضوء النقاط أعلاه، أليس من حقنا أن نتساءل عمَّا إذا كانت مدارسنا مراكز علم أم مراكز دعاية؟ إذ لا يستطيع أحد أن يزعم أن مؤسساتنا التعليمية التي تمنع تدريس أي شيء يخالف رأي داروين ـ مؤسسات تتمتَّع بحياد علمي؛ فالخُلُق العلمي يستوجب استعراض أدلة الآراء المختلفة في موضوع معين، وسردها وتقديمها معًا للطلاب.
أوليس من الغريب ألَّا تُستعرض الأدلة التي لا تُعدُّ ولا تحصى من أن الكائنات كلها مخلوقة من قِبَل الله سبحانه وتعالى، والتي قام بها علماء عظام، أمثال: نيوتن وإينشتاين، من الذين يشغلون مراتب أعلى بكثير من منزلة داروين في دنيا العلم، ولا تُستعرض أفكارهم بجملة واحدة، وتقديم نظرية داروين التي لا تزال منذ مئة عام تلهث وراء الأدلة دون جدوى وكأنها هي الحقيقة الوحيدة؟ وهل يتوقَّع أحد أن تُفلح مثل هذه المؤسسات التعليمية في تخريج جيل يستطيع أن يفكر وأن يبحث؟ إننا نرى استحالة ذلك كاستحالة من يروم قطع المحيطات على ظهر جمل([14]).
نظرية التطور والقصة الملفَّقة للإنسان:
إن من أهم الموضوعات المطروحة للنقاش ضمن نظرية التطور هو بلا شك أصل الإنسان، وفي هذا الصدد تدَّعي الداروينية بأن الإنسان الحالي نشأ متطورًا من كائنات حية شبيهة بالقرد عاشت في الماضي السحيق، وفترة التطور بدأت قبل 4إلى 5 ملايين سنة، وتدعي النظرية وجود بعض الأشكال البينية خلال الفترة المذكورة، وحسب هذا الادعاء الخيالي هناك أربع مجموعات رئيسية ضمن عملية تطور الإنسان، وهي:
أوسترالوبيثيكوس.
هوموهابيليس.
هوموإريكتوس.
هوموسابينس.
يطلق دعاة التطور على الجد الأعلى للإنسان الحالي اسم “أوسترالوبيثيكوس” أو “قرد الجنوب”، ولكن هذه المخلوقات ليست سوى نوع منقرض من أنواع القرود المختلفة، وقد أثبتت الأبحاث التي أجراها كل من الأمريكي البروفيسور “تشارلز أوكسنارد”، والبريطاني اللورد “سوللي زاخرمان” ـ وكلاهما من أشهر علماء التشريح ـ على قرد الجنوب أن هذا الكائن الحي ما هو إلا نوع منقرض من القرود ولا علاقة له مطلقًا بالإنسان.
والمرحلة التي تلي قرد الجنوب يُطلق عليها من قِبَل الداروينيين اسم “هومو” أو “الإنسان”، وفي كلفة مراحل الـ “هومو” أصبح الكائن الحي أكثر تطورًا من قرد الجنوب، ويتشبَّث الداروينيون بوضع المتحجرات الخاصة بهذه الأنواع المنقرضة كدليل على صحة نظريتهم، وتأكيدًا على وجود مثل هذا الجدول التطوري الخيالي، ونقول خيالي؛ لأنه لم يثبت إلى الآن وجود أي رابط تطوري بين هذه الأنواع المختلفة، وهذه الخيالية في التفكير اعترف بها أحد دعاة نظرية التطور في القرن العشرين وهو “إرنست ماير” (ErnestMayer)قائلًا: “إن السلسلة الممتدة إلى “هوموسابينس” منقطعة الحلقات بل مفقودة”.
وهناك سلسلة يحاول الداروينيون إثبات صحتها تتكوَّن من قرود الجنوب (أوسترالوبيثيكوس ـ هوموهابيليس ـ هوموإريكتوس ـ هوموسابينس)؛ أي إن أقدمهم يُعدُّ جَدًّا للذي يليه، ولكن الاكتشافات التي وجدها علماء المتحجرات أثبتت أن قردي الجنوب ـ هوموهابيليس وهوموإريكتوس ـ قد وجدت في أماكن مختلفة وفي الفترة نفسها، والأهم من ذلك هو وجود أنواع من “هوموإريكتوس” قد عاشت حتى فترات حديثة نسبيًّا، ووجدت جنبًا إلى جنب مع هوموسابينس نياندرتاليسيسن وهوموسابينس (الإنسان الحالي).
وهذه الاكتشافات أثبتت عدم صحة كون أحدهما جَدًّا للآخر، وأمام هذه المعضلة الفكرية التي واجهتها نظرية داروين في التطور يقول أحد دعاتها وهو “ستيفن جي كولد” (StephenJayGould) ـ الاختصاصي في علم المتحجرات في جامعة هارفارد ـ ما يأتي: “إذا كانت ثلاثة أنواع شبيهة بالإنسان قد عاشت في الحقبة الزمنية نفسها، إذًا ماذا حصل بالنسبة لشجرة أصل الإنسان؟ الواضح أنه لا أحد من بينها يُعدُّ جَدًّا للآخر، والأدهى من ذلك عند إجراء مقارنة بين بعضها بعضًا لا يتم التوصُّل من خلالها إلى أي علاقة تطورية فيما بينها”.
ومن ثم؛ فإن اختلاق قصة خيالية عن تطور الإنسان والتأكيد عليها إعلاميًّا وتعليميًّا والترويج لنوع منقرض من الكائنات الحية نصفه قرد ونصفه الآخر إنسان ـ ما هو إلا عمل لا يستند إلى أي دليل علمي، وقد أجرى اللورد “سوللي زاخرمان” البريطاني أبحاثه على متحجرات قرد الجنوب لمدة خمس عشرة سنة متواصلة، علمًا أن له مركزه العلمي؛ لأنه اختصاصي في علم المتحجرات، وقد توصَّل إلى عدم وجود أيَّة سلسلة متصلة بين الكائنات الشبيهة بالقرد والإنسان، واعترف بهذه النتيجة على الرغم من كونه دارويني التفكير.
وقد قام زاخرمان بتأليف جدول خاص بالمعرفة أدرج فيه فروع المعرفة التي يعدُّها علمية، وكذلك فروع المعرفة التي يعدها خارج نطاق العلم، وحسب جدول زاخرمان تشمل الفروع العلمية التي تستند إلى أدلة مادية لعلمي الكيمياء والفيزياء، ويليهما علم الأحياء، فالعلوم الاجتماعية أخيرًا؛ أي في حافة الجدول تأتي فروع المعرفة الخارجة عن نطاق العلم، ووضع في هذا الجزء من الجدول علم تبادل الخواطر والحاسة السادسة والشعور أو التحسس النائي، وأخيرًا علم تطور الإنسان، ويضيف زاخرمان تعليقًا على هذه المادة الأخيرة في الجدول كما يلي:
“عند انتقالنا من العلوم المادية إلى الفروع التي تمتُّ بصلة إلى علم الأحياء النائي أو الاستشعار عن بعد، وحتى استنباط تاريخ الإنسان بواسطة المتحجرات ـ نجد أن كل شيء جائز وممكن خصوصًا للمرء المؤمن بنظرية التطور، حتى إنه يضطر أن يتقبَّل الفرضيات المتضادة أو المتضاربة في آن واحد”([15]).
إذًا فالقضية الملفَّقة لتطور الإنسان ليست إلا إيمانًا أعمى من قِبَل بعض الناس بالتأويلات غير المنطقية لأصل بعض المتحجرات المكتشفة.
أسس نظرية التطور:
إن نظرية التطور ترتكز في مضمونها على أسس ثلاثة، وهي: المصادفة، الانتخاب الطبيعي، الطَّفرة، وتفصيلها كالآتي:
1) إن نظرية التطور تستند بأكملها إلى أساس المصادفة، وعبثًا يحاول البعض العثور على نقاط التقاء بين هذه النظرية وبين عقائدهم الدينية؛ ذلك أن صاحب النظرية (تشارلز داروين) يرى أن الكون والحياة هما نتيجتان للصُّدف، والتطور ليس إلا سلسلة من الصدف كذلك، ويتجلَّى تناقض داروين الواضح والصريح في نظريته في رسالته التي بعثها لطالب ألماني كان قد استفسر منه عنها من قبل، فنجد داروين يردُّ عليه ويقع أثناء رده في تناقض منطقي غير خافٍ على كل ذي عقل فيقول: “نستطيع القول: إن مفصل الباب مصنوع من قِبَل الإنسان، ولكننا لا نستطيع الادِّعاء بأن المفصل المدهش الموجود في مصادفة المحار هو من صنع كائن عاقل”، وبهذا يقع داروين في تناقض فادح يندر أن يشاهد مثله في دنيا العلم؛ إذ يذكر أن مفصل أي باب بسيط هو معمول من قِبَل الإنسان، ولكن المفصل الحي الذي يصفه بأنه “مدهش” ليس إلا نتيجة للمصادفة.
2) وبينما تزعم نظرية التطور ظهور هذه الأحياء المتعددة عن طريق المصادفة، فإنها تحاول إيضاح انقسام الأحياء إلى هذه الأنواع الموجودة حاليًّا عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ إذ يرى داروين أن التغيرات التي حدثت في الأحياء هي نتيجة للصدف والظروف المختلفة، وتؤدي هذه التغيرات إلى ظهور أحياء مختلفة، ونتيجة للصراع الموجود في الحياة، فإن الأقوياء يبقون وينقلون صفاتهم إلى أنسالهم عن طريق الوراثة، بينما تضمحل وتزول الأنواع الضعيفة التي لا تثبت أمام هذا الصراع، وذلك بفعل الانتخاب الطبيعي بين الأحياء.
ونجد هنا أيضًا نقطة ضعيفة جدًّا في نظرية التطور؛ ذلك لأننا إذا نظرنا بمنظار الانتخاب الطبيعي فإن من الضروري أن يكون عدد أنواع الأحياء في الماضي أضعاف العدد الموجود حاليًّا؛ وذلك لكي يكون الناتج النهائي بعد عمليات الانتخاب الطبيعي والانقراض هذا العدد الحالي البالغ مليونين تقريبًا، علمًا بأن نظرية التطور لم تستطع تفسير ظهور العدد الحالي عن طريق المصادفة، ولو فرضنا المحال وقلنا: إن احتمال ظهور الأحياء الموجودة حاليًّا عن طريق المصادفة هي بنسبة واحد إلى كذا مليار × مليار × مليار × مليار، فماذا نقول إذن في نظرية تحاول مضاعفة هذه الاستحالة أضعافًا وأضعافًا؟!
يقول مدير معهد علوم الحياة في جامعة باريس البروفيسور EtieneRabavd: لم تعد أفكار داروين صحيحة؛ ذلك لأنه لا وجود للانتخاب الطبيعي في صراع الحياة بحيث يبقى الأقوياء ويزول الضعفاء، فمثلًا: ضَبُّ الحدائق يستطيع الركد بسرعة؛ لأنه يملك أربع أرجل طويلة، ولكن هناك في الوقت نفسه أنواع أخرى من الضب له أرجل قصيرة حتى ليكاد يزحف على الأرض وهو يجرُّ نفسه بصعوبة، أما الثعبان الأعمى ـ الذي هو نوع آخر من الزواحف، التي تملك البنية الجسدية نفسها ـ حتى بالنسبة لأرجلها، وهي كذلك تتناول الغذاء نفسه، وتعيش في البيئة نفسها، والظروف الحياتية نفسها، فلو كانت هذه الحيوانات متكيِّفة مع بيئتها لوجب عدم وجود مثل هذا الاختلاف بين أجهزتها، وبالرغم من تماثل بيئة ضب الحدائق وغذائه مع بيئة الأنواع الأخرى من الضب وغذائها، إلا أنه ـ بالمقارنة معها ـ في وضع أفضل، ويظهر لنا وكأنه يملك قابلية أكثر للعيش، أما الأنواع الأخرى فإنها لم تُمح ولم تُزل من الوجود على الرغم من الصعوبات التي تواجهها من جرَّاء ضعف بعض أعضائها؛ بل استمرت في الحياة والتكاثر، مثلها في ذلك مثل ضب الحدائق الذي هو في مركز متميز بالنسبة لها؛ أي إننا لا نجد في هذا المثال أي دليل أو إشارة للادعاء بأن الأقوياء يتكيَّفون للحياة ويبقون، وأن الضعفاء يزولون نتيجة لضعفهم وعجزهم([16]).
هكذا فنَّد البروفيسور EtieneRabaud خطأ فرضية الانتخاب الطبيعي التي ارتكن إليها داروين في بناء نظريته، وجعلها بمثابة ضلع في وتد خيمته، وإذا ما علمنا أن الخيمة لا تقام على وتد أجوف خالٍ أدركنا مدى خوار هذه النظرية وعدم صلاحيتها.
يقول محمد فتح الله كولن ـ مفكر وداعية إسلامي تركي الجنسية ـ : إن الطفرات إحدى نقاط الارتكاز المزعومة لنظرية التطور، وهي الفرضية القائلة بأن التغيرات الحاصلة في شفرات جينات الكائن الحي عن طريق المصادفات أو عن طريق ظروف البيئة تكون إحدى عوامل التغيير عند الانتقال من نوع إلى آخر.
إن الكروموزومات([17]) الموجودة في نواة الخلية ـ التي تُعدُّ بمثابة مركز القيادة في الخلية ـ تحتوي على الجينات، وكل الخصائص والمواصفات العائدة للكائن الحي موجودة، ومسجَّلة في جينات هذه الكروموزومات على شكل جزيئات D.N.A))،وهذه الجزيئات التي تشكِّل آلية القيادة والأوامر هي بمثابة مخزن جيني للمعلومات، وقد خُلقت بحيث تستطيع استنساخ نفسها؛ لذا فهي مرآة إلهية.
فكما يقوم جهاز الكمبيوتر عند الضغط على زر من أزراره بتقديم المعلومات المبرمجة في ذاكرته من قبل وعرضها أمامنا، كذلك تقوم هذه الآلية بتطبيق البرنامج المدمج فيها بكل كفاءة ودون أي نقص أو قصور؛ بل تقوم بتشفير هذا البرنامج على الدوام، وبواسطة هذه الشفرات تستطيع الحفاظ على خصائص نوعها وتكون حارسة لها عند إصدار الأوامر لتحريك مختلف الفعاليات؛ أي إنه ما من تأثير خارجي يستطيع تغيير هذه الشفرات ولا اجتياز الحواجز والأسوار والموانع التي وضعتها هذه الشفرات، فلا تستطيع لا الطفرات ولا أي شيء آخر تغيير خط سير ذلك النوع.
أما فيما يخصُّ موضوع الإشعاعات والمواد الكيميائية؛ فإننا نعلم أن الإشعاعات والمواد الكيميائية والظروف الأخرى للبيئة تُحدث بعض التغييرات في شفرات جينات الأحياء وفي برامجها، ولكن مثل هذه التغييرات الحاصلة في الشفرات الجينية التي يُطلق عليها اسم “الطفرات” لا تستطيع العمل على إنتاج نوع جديد من الأحياء، ولا تغيير أي كائن حي من نوع إلى نوع آخر.
ولكن على الرغم من كل هذا؛ فإن الداروينيين الجدد يزعمون بأن هذه التغيُّرات تتلاحق وتتجمع؛ الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ظهور نوع جديد، ولكن أيكفي عمر أي فرد لحصول كل هذه التغيُّرات عنده؟ أي: أيكفي عمر الفرد ليتحوَّل إلى نوع آخر بهذه التغيُّرات؟ من الواضح أنه لا يكفي، ولكن لنفرض أنه يكفي، فهل هذه التغيُّرات تكون مفيدة وبمقياس يكفي لتحويله إلى نوع آخر؟
والإجابة العلمية عن هذه الأسئلة دون أي انطباع تأثُّري تكون: “هذا مستحيل”؛ إذ إن هذه التغيُّرات الحاصلة في الفرد تكون من النوع السلبي، مثل: تشوُّه الأعضاء؛ أي من النوع الذي يضرُّ بالنسل، وقد أيَّد علم الجينات هذا الأمر.
إن الأبحاث الأخيرة الجارية حول مرض السرطان تشير إلى أن التأثيرات الضارة، مثل: الإشعاعات وتلوُّث الجو تُعدُّ من الأسباب المؤدِّية إلى تخريب الخلية وتشويهها الأمر الذي يكون سببًا في حدوث مرض السرطان، ثم إنه لم تتم مشاهدة أي تغيُّرات من هذا النوع لا في الإنسان ولا في الأحياء المجهرية من العهود السابقة التي تستطيع الأبحاث العلمية الاستناد إليها.
وقد أجرى العلماء ـ للبرهنة على صحة هذا الزعم ـ تجارب على ذبابة الفاكهة “دروسوفيلا” سنوات عديدة، وحصلوا على أكثر من 400 نوع مختلف من نسلها، وخلاصة هذه التجارب التي قام بها العلماء، والتي أُجريت على أكثر من 400 ذبابة من ذباب الفاكهة أظهرت أنه مع حصول تغيُّرات طفيفة عليها، إلا أنه من المستحيل أن يتغير نوعها أو ماهيتها؛ فقد حدثت تغيُّرات غير ذات أهمية على ذبابات الفاكهة نتيجة تأثير الشروط والظروف البيئية عليها، مثلما يحدث على الإنسان من تغيُّرات بسيطة من ناحية اسمرار الجلد، أو ارتفاع ضغط الدم، وعندما تـمَّت عمليات التناسل بين هذه الذبابات المتعرضة لهذه التغيُّرات لميتم الحصول على نسل جديد؛ أي أصبحت هذه الذبابات عقيمة، بالإضافة إلى ما ظهر عليها من تشوُّهات عديدة([18]).
إن أنصار نظرية التطور حاولوا أن يأتوا بمثال يدل على نماذج لتغيرات مفيدة عن طريق الإشعاعات؛ حيث قاموا بتعريض بعض الذبابات لإشعاعات، وبعد محاولات دامت عشرات الأعوام كانت النتيجة وجود ذبابات مريضة ومعاقة وناقصة.
النقد الموجَّه لنظرية داروين:
طلَّ علينا القرن الواحد والعشرون وقد تقدَّمت العلوم والتكنولوجيا، وخَطَت خطوات شديدة الاتساع في سبيل الكشف عن الحقائق، ومما تعرض له العلم الحديث كانت نظرية داروين، فأخذها ودرسها، وتمَّ التوصُّل لنتيجة مفادها: “تعارض نظرية داروين مع العلم الحديث”.
إن أكبر الاعتراضات الموجَّهة لتلك النظرية من الممكن أن تنحصر في ثلاثة أمور:
أولًا: عدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع كان في الأحياء الأرضية من عهد ألوف عديدة من السنين.
ثانيًا: عدم وجود الصور المتوسطة([19]) بين الأنواع اللازمة لمذهب التسلسل، كأن يوجد ـ مثلًا ـ حيوان أرقى من القرد رتبة واحدة وأدنى من الإنسان رتبة واحدة أيضًا.
ثالثًا: طول الزمان اللازم لحصول الترقِّي بين الأحياء؛ فإن عمر الأرض لا يكفي لإحداث كل ما يرى من هذه الأشكال المختلفة غاية الاختلاف([20]).
ولقد وجَّه العلم الحديث ضربته القاضية للنظرية الداروينية، وذلك من خلال مناقشته للافتراضات الثلاثة التي استندت إليها هذه النظرية؛ حيث تم مناقشتها موضوعيًّا وعلميًّا دون أية مؤثرات أو ضغوط مادية أو عصبية، وذلك كما يأتي:
الافتراض الأول: ومؤدَّاه أن الحياة قد نشأت على الأرض وتطورت مصادفة ودون خالق:
وهذا الافتراض يتعارض مع القوانين الثابتة والحقائق العلمية الآتية:
يكشف لنا العلم الحديث كل يوم أن الكون الذي نعيش فيه، يوجد به نظام بيئي متزن لدرجة متناهية في الدقة، وهذا أمر لا يمكن أن يحدث مصادفة، ولعل ما اكتُشِفَ من دور الكائنات الدقيقة المتخصصة في دورات العناصر وإكساب خصوبة التربة، وكذلك التوازن بين حرارة الجو وما يحتويه من بخار وثاني أكسيد الكربون، وأخيرًا ما تأكَّد حديثًا من دور غاز الأوزون في طبقات الجو العليا في حماية كافة صور الحياة على الأرض من فتك الأشعة فوق البنفسجية ـ كلُّ ذلك لا يمكن أن يحدث مصادفة؛ بل هو دليل على القصد والتدبير في الخلق والإبداع.
إن القول بكون الخلية الحية وُجدت مصادفة وتطورت تلقائيًّا يتعارض مع قوانين الديناميكا الحرارية في الكيمياء الطبيعية التي تنص على أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، كما أنها تقطع كذلك بالاستحالة وجود الماكينة التي تدور تلقائيًّا إلى ما لا نهاية من دون بذل شغل أو طاقة.
وهذا يعني أن عدم إتمام أي تفاعل لبناء أيٍّ من الجزيئات أو الأنسجة الجديدة يقتضي وجود قوة مدبِّرة توفِّر القدر المطلوب من الطاقة كمًّا ونوعًا. وكذلك؛ فإن عليها أن توفر الظروف الـمُثْلَى لإتمام التفاعل وتحديد اتجاهه، فهذه قدرة لم يستطع أحد أن ينسبها لنفسه.
تتميز كثير من الجزيئات البيوكيميائية في الخلايا الحية بأن لها تركيبًا نوعيًّا ونشاطًا ضوئيًّا غاية في الدقة والإبهار، فهل يتسنَّى أن يحدث هذا مصادفة؟!
إن أحدث ما توصَّل إليه العلم في مجال البيولوجيا الجزئية([21]) والتكنولوجيا الحيوية([22]) والهندسة الوراثية([23]) ـ تتم فيه التجارب حاليًّا لنقل صفات وراثية من شريط الجينات من كائن عديد الخلايا إلى بعض البكتيريا، والأمل بناء جزيئات جديدة، ورغم أن علماء الهندسة الوراثية الذين يحاولون بناء الأحماض النووية بعد إلحاق أجزاء مأخوذة من جينات أخرى؛ أي إنهم يستعملون جزيئات حية تامة الصنع في عمليات إعادة البناء، ومع ذلك وبالرغم من أنهم يستخدمون لبنات بناء جاهزة وصلتهم عبر عصور وقرون التاريخ تامة الصنع، فهل يمكن أن يكابر الإنسان في أنها قد تكوَّنت مصادفة من غير صانع؟!
بتطبيق قوانين الاحتمال الإحصائي أمكن حساب احتمال تكوُّن جهاز لدغ الثعبان في الحية الرقطاء دون غيرها من الثعابين بتأثير عامل المصادفة؛ فقد وجد أن هذا الاحتمال في كل 1/10أس (23) من السنوات؛ أي إنه واحد فقط في كل مئة ألف بليون بليون مصادفة.
قام العالم تشارلز إيجين جاي ـ عالم رياضي سويسري ـ بحساب احتمال التكون بعامل المصادفة لجزيء بروتين واحد، فوجد أن هذا يمكن أن يحدث مرة كلما مرت فترة زمنية لا تقلُّ عن 24310 من السنوات، وهذا يزيد على بلايين أضعاف عمر الأرض، وهذا هو احتمال تكون جزيء واحد فقط من البروتين غير المتخصص.
الافتراض الثاني: ومؤدَّاه أن هناك سُلَّمًا للتطور:
تقول نظرية التطور: إن السُّلم قد بدأ بكائنات وحيدة الخلية، وتحت تأثير الظروف البيئية تم التطور إلى كائنات أكثر قدرة وأكثر تعقيدًا بتفوُّق الأصلح في الصراع من أجل البقاء، مع انقراض الأفراد الأقل صلاحية في التنافس والصراع، وهذا الافتراض الثاني تنقضه الحقائق الآتية:
رغم مرور ملايين السنين منذ بدأت الحياة على الأرض فما زلنا نرى كائنات دقيقة وحيدة الخلية وعديدًا من الكائنات التي لم تنقرض رغم أنها ضعيفة بسيطة التركيب، ولا أدلُّ على ذلك من أننا نكتشف فيروسات جديدة كل يوم كما نكتشف أنواع البكتيريا ذاتها في حفريات الفراعنة.
حين أعلن داروين نظرية التطور كان لا يعلم شيئًا عن قوانين مندل للوراثة، وعلم الوراثة علم راسخ الأركان، يقطع بأن الكائنات تتوارث صفاتها الوراثية عن طريق الجينات الوراثية للأبوين بغضِّ النظر عن الظروف البيئية، بينما تُصِرُّ نظرية التطور على القول بأن تطور صفات الكائنات يتم بتأثير ضغط البيئة والتنافس من أجل البقاء.
حاول علماء التطور الاستعانة بحفريات وهياكل الكائنات المدفونة لمحاولة عمل سلم التطور، ولكن رغم الجهود المضنية فما زالت هناك فراغات في السلم لا يتسنَّى ملؤها.
الاهتمام بالحفريات حمل بعض الانتهازيين على تزيف كثير من الهياكل العظمية، ومن أشهر الأمثلة ما حدث عام 1953م من الإعلان عن أن ما سُمِّي ببقايا الإنسان الأول Piltdown قد تبيَّن أنه بقايا عظام مزيفة تمامًا.
أوضح عالم الفيزيقا البيولوجية الأمريكي Morqwitzعام 1979م أن هناك تحدِّيًا رئيسًا يواجه نظرية التطور، وهو أن خلايا الكائنات الحية على وجه الأرض تنقسم إلى نوعين:
الأول يُسمَّى Prokaryotic، وهي كائنات وحيدة الخلية خالية من الأغشية والأجسام الخلوية المتخصصة، ومن أمثلتها: البكتيريا والطحالب الخضراء، والميكوبلازم، وتكون المادة الوراثية فيها متمثلة في حامض نووي منفرد DNA.
أما النوع الثاني فيُسمَّى Eukaraotic، وتتميز بأن خلاياها مُزوَّدة بأجسام متخصصة، مثل: النواة والميتوندريا والليسوسومات والكلوروبلاستيدات… إلخ، كما أن المادة الوراثية تنتظم في كروموزومات تحوي كثيرًا من الجينات، وهذه بدورها تحوي أحماضًا نووية مع البروتينات المتخصصة.
ويشمل النوع الثاني مختلف أنواع النباتات والحيوانات، وكذلك الإنسان والخلايا الفطرية ومعظم أنواع الطحالب، ولا يدخل في ذلك الفيروسات؛ لأنها تمثِّل قسمًا ثالثًا متميزًا بذاته، وموضع التحدي أنه لا توجد أيَّة صورة وسيطة بين النوعين من الخلايا؛ الأمر الذي ينفي نظرية التطور من الكائنات البسيطة إلى الكائنات عالية التخصص.
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن خلايا Prokayotes البسيطة تقوم بوظائف عالية التخصص وبالغة الأهمية في دورات العناصر على سطح الكون، وإكساب التربة خصوبتها، وتحلُّل الكثير من المخلفات العضوية…إلخ، وهذا يلفت النظر إلى أن حقيقة الحياة على الأرض هي أن كل مخلوق له وظيفة في إطار من التكامل والاتزان بالغة الدقة والحساسية.
أعلن العالم الفرنسي “موند جاك” (MonodJack) ـ عالم فرنسي برع في الهندسة الوراثية ـ في الستينيات أن حدوث الطفرات الوراثية هو أداة تحقيق سلم التطور تحت تأثير المصادفة والحاجة، إلا أن البحوث التي أجريت على الدروسوفيلا وغيرها، قد أثبتت أن الطفرة لا تنشئ نوعًا جديدًا ولكنها تعطي انتخابًا محدودًا لأفراد من النوع ذاته بصفات قد تتفاوت، ولكن في حدود الوعاء الوراثي المحدَّد للنوع ذاته (thesamegenetic).
الافتراض الثالث: إن الإنسان من نسل القرود والشمبانزي والغوريلا:
ولعل أول دليل على بطلان هذا الافتراض هو ما ثبت من عدم توافق التكاثر التناسلي بين الإنسان وأنواع القرود والشمبانزي والغوريلا، وهذا معناه ـ في ضوء علم التقسيم ـ أن الإنسان نوع منفرد وراثيًّا.
وقد حاول بعض علماء الأجنة مجاراة نظرية التطور، فزعموا أن جنين الإنسان مزوَّد بفتحات خياشيمية زائدة، وأنها تمثِّل مرحلة تطور الإنسان من الحيوانات المائية مثل الأسماك، إلا أنه في عام 1959م استطاع العالم “راندل شورت” RendleShort ـ أستاذ الجراحة الشهير بجامعة بريستول (1880م ـ 1953م)، الذي قضى حياته في دراسة تشريح جسم الإنسان ـ أن يثبت خطأ هذا التفسير، وأثبت أن ما يُسمَّى بفتحات خياشيمية ليست زائدة بل هي عبارة عن ثنيات في الأنسجة لازمة لتثبيت الأوعية الدموية في جنين الإنسان، وقد كان هذا التفنيد قاطعًا، حتى إن جوليان هكسلي في كتابه عن التطور في صورته الجديدة قد اضطر للتسليم بما أثبته عالم التشريح راندل شورت.
نشر فريق علماء الأنثروبولوجي المكوَّن من عشرة مختصين بقيادة TimWhiteـ الأستاذ بجامعة كاليفورنيا بيركلي عام 1987م ـ نتائج دراساتهم المضنية لفحص 302 من هياكل وعظام الحفريات Fossils، لما سُمِّي ببقايا إنسان ما قبل التاريخ الذي يفترض أنه عاش في جنوب شرق أفريقيا، والذي يُسمَّى HomoHabilis والذي كان يعتقد أن له صلة النسب في التطور بين الإنسان الحالي كما نعرفه وأجداده المزعومين من القرود أو الغوريلا أو الشمبانزي.
وقد أثبتت نتائج دراسة الفريق الأمريكي أن ما سُمِّي بإنسان ما قبل التاريخ يختلف تمامًا مع الإنسان الحالي؛ لأن العظام قد أثبتت أنه يتحرك على أربع، وأنه ليس بمنتصب القوام كالإنسان، كما أن طوله أقصر بشكل واضح، كما أن عظام الرأس وتجويف المخ تختلف تمامًا عن الإنسان الحقيقي، وقد اختتم فريق علماء الأنثربولوجي الأمريكي تقريرهم العلمي في عام 1987م بأن هناك فرقًا شاسعًا يعكس فراغًا واضحًا زمنيًّا وتشريحيًّا من ناحية التطور، بين ما سُمِّي بإنسان ما قبل التاريخ والإنسان الحقيقي.
وأنه من المقطوع به أن هناك تغييرًا دراميًّا ضخمًا قد حدث، نتج منه ظهور الإنسان على الأرض بحيث يصعب تصور ارتباط الإنسان الحقيقي بما يفترض أنه نشأ من نسلهم؛ حيث إن الإنسان الحالي متميز تمامًا ظاهريًّا وتشريحيًّا وسلوكيًّا وعقليًّا وقدرةً وملكات عن أي كائن آخر.
أصل شعار البقاء للأصلح: كان داروين في نظريته يعكس ـ فكريًّا ـ معتقداته الاجتماعية والفلسفية التي اعتنقها كواحد ممن عاصروا وتتلمذوا على الفيلسوف الإنجليزي هربيت سبنسر (HerbtSpencer) ـ فيلسوف بريطاني (1820 ـ 1903م)، وهو صاحب مصطلح البقاء للأصلح ـ، كما كان كلٌّ منهما يدين في فلسفته لفكر الفيلسوف الاقتصادي الإنجليزي توماس روبرت مالتوس (Malthus) ـ باحث سكاني واقتصادي سياسي إنجليزي، مشهور بنظرياته المؤثرة حول التكاثر السكاني (1766ـ 1834م)، وهو من أوائل من تناولوا مشكلة ازدحام السكان وتزايدهم ـ .
وتعبيرات الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح هي تعبيرات من وضع Spencer وذلك لتوضيح فكره في الفلسفة المادية اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وإذا كان Spencerيعتقد أن المجتمعات البشرية تتزاحم بشكل مضطرد، الأمر الذي يضطرها للتنافس من أجل المستقبل، وأن هذا التنافس في نظره من المحتَّم أن يتحوَّل إلى صراع، وأن الفوز في الصراع من أجل البقاء سيكون للإنسان الأقوى والأفضل، كما قام بتطبيق فكرة هذا التنافس الذي كان سائدًا في وقته بين الرجل الأبيض المتقدم والشعوب الملونة المختلفة، وكان من الطبيعي أن يرى أن هذا الفوز في الصراع لا بد وأن يكون للشعوب البيضاء الأوربية على الملونين المتخلفين؛ لأنهم أفضل وأقوى، وهذه هي الفلسفة نفسها التي استخدمها الاستعمار البريطاني والأوربي لتبرير احتلاله وحروبه الاستعمارية وراء البحار.
كما كانت هي نفسها الخلفية الفلسفية عن الصراع من أجل البقاء على سائر الكائنات، وأن يربط بين ما سجَّله من ملاحظات عن أوجه الشبه والخلاف بين الكائنات ونظرية البقاء للأصلح، فكانت نظريته عن أصل الأنواع والنشوء والتطور.
الخصائص الفردية المميزة لكل إنسان: أثبتت دراسات البيولوجيا الجزئية أن كل إنسان متميز عن الإنسان الآخر في صفات فردية لا تتكرر، مثل بصمات أصابع اليدين والقدمين، الحامض النووي DNA الذي أصبح أحد وسائل الأدلة الجنائية، فضلًا عن تركيب الشعر ومجموعة الدم ونوع أجسام المناعة وبصمة الصوت والرائحة، وهي كلها ثوابت لا تتكرر بين بلايين البشر، وهذا يقطع بعدم صحة افتراض أن الحياة والتطور كانا بعامل المصادفة؛ بل هي أدلة عاقلة على أن الإنسان من صنع قوة عاقلة جبارة مبدعة جعلت كل إنسان مستقلًّا ومسئولًا، وميَّزته بملكات وقدرات ؛ ليعمر الأرض ويرفع ويقيم الحضارة الإنسانية.
استُحدث أخيرًا علم جديد وهو: البيولوجيا الاجتماعية SocioBiology، ويقود هذا الاتجاه D.rEyengeSteiner منذ عام 1969م، وهو أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة بيل في أمريكا، وقد أوضح أن الإنسان ليس وليد سلم التطور، بل العلم برهن على أن الإنسان له من المميزات البيولوجية والذهنية والنفسية والروحية التي تمنحه القدرة على الكلام والتفكير، وترتيب الأسباب والاستنتاج المنطقي والمناقشة والتعارف والتعاون وتسخير غيره من الكائنات وصور البيئة لتكوين مجتمعات حضارية، كما أنه يتمتع بملكات الإبداع العلمي والأدبي والفني، وكذلك يتمتع بمشاعر وصور التعبير عنها، كما يستطيع التحكم فيها وفي سلوكه وعواطفه على أسس من النبل والأخلاق والمثل العليا، كما ينفر طبعه عن الشذوذ والسلوك غير الأخلاقي، وهذه كلها صفات مميزة للإنسان من كل الحيوانات والكائنات الأخرى، ولا أثر لها على ما يُسمَّى بسلم التطور الأمر الذي يقطع بعدم صلة النسب بين الإنسان والحيوان.
وفي عام 1977م تبنَّى علماء جامعة كاليفورنيا هذا العلم الجديد، ونشر العالم الأمريكي (EdwardWilson)الأستاذ بجامعة كاليفورنيا كتابه الجديد في هذا المجال، وقد انتهى فيه إلى أن ما نلحظه من تشابه بين الإنسان والحيوان في وحدات التركيب الخلوي والجزيئي ـ رغم التميز القاطع للإنسان ـ هو الدليل الناصع على وجود قوة عاقلة جبارة مبدعة “الله”.
هذا وقد وقف جمع غفير من أكابر العلماء في مختلف المجالات الحيوية بالمرصاد لهذه النظرية وبيان أخطائها وعدم دقتها، ومن هؤلاء العلماء: ألبرت إينشتاين (1879م ـ 1955م) وهو صاحب قوانين النسبية، وكذلك عالم الكيمياء الأمريكي (LinusPauling) وهو الأستاذ بجامعة كاليفورنيا والحائز على جائزة نوبل، وكذلك العالم الأمريكي (Maxwell) وهو الذي ذكر في كتابه “العلم يعود إلى الله” أن نظرية داروين قد استنفدت أغراضها في زمن إعلانها، فضلًا عن أنه يجب مراجعة سريان هذه النظرية لكونها لا تتلاءم مع مستحدثات العلم في القرن العشرين فضلًا عن مطلع القرن الواحد والعشرين([24]).
وهكذا وبأفواه عقول رائدة في شتى المجالات الحيوية نجد أن نظرية داروين، التي كانت إحدى معالم الفكر في القرن التاسع عشر أصبحت غير قابلة للاستمرار والصمود.
ومن ثم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان وصوَّره فأحسن تصويره، وأظهره إلى الوجود بشكل مفاجئ دونما صلة قربى ولا سلاسل تطورية تربطه لا بالقردة ولا بغيرها؛ قال سبحانه وتعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل (102)) (الأنعام)، وقال: (هو الله الخالق البارئ المصور) (الحشر: ٢٤).
أما الآيتان 28، 29 من سورة الحجر، فإنهما تؤكِّدان إرادة الله في إيجاد خلق جديد في الأرض، وأنه خلقه بيديه من صلصال من حمأ مسنون، ولم تشر الآيتان إلى أن الله سيحوِّل قردًا إلى إنسان: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29))(الحجر).
الخلاصة:
إن نظرية التطور لا تتفق مع القرآن الكريم وبخاصة ما تحويه من أمور غيبية.
يجب أن يبقى خلق الإنسان بمعزل عن نظرية التطور؛ لأن الإنسان مُكرَّم ومُفضَّل على كل المخلوقات، واختصَّه الله بأنه صنعه بيديه، ونفخ فيه من روحه، قال سبحانه وتعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)) (الإسراء).
لا يوجد تناقض بين العلم والقرآن، وكل ما يقوله الملحدون حول ذلك غير صحيح، فالانتقادات التي يطلقها هؤلاء المشككون ويدَّعون فيها أن القرآن لا يتفق مع العلم، هي مجرد وهم لا أساس له؛ لأن نظرية التطور تعاني من نقص كبير في المعلومات، فهي لا تُخبر كيف نشأت الخلية الأولى؟ ومن الذي أنشأها؟ كذلك لا تُخبر كيف يحدث التطور من كائن إلى آخر وفق قفزات؟ ولماذا يتم ذلك؟ كما أنها لا تخبرنا متى نشأ الإنسان؟ وأين؟ ومن الذي أنشأه؟ وكيف تطوَّر عن مخلوق آخر؟
إن نظرية التطور هي مجرد نظرية بيولوجية، توفِّر أفضل تفسير يشرح التنوُّع الذي نراه حولنا في الكائنات الحية؛ فهي محاولة للتفسير وليست حقيقة علمية، وإننا نعجب من هؤلاء العلماء الذين يعتقدون بالمصادفة ويؤمنون بالطبيعة، ولا يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذا العالم بما فيه؟!
إنه لا يجوز إقامة أي حكم علمي على هذه النظرية، ولا يجوز أن نعدَّها حقيقة علمية تجاوزها العقل بالقناعة والقبول، وإن في استمرار سلسلة النقد والنقض التي تلاحقها لأبلغ شاهد على ذلك؛ ففكرة التطور وما يتبعها من انتخاب للأصلح لم تتجاوز بعد مرحلة الفرضية، وكل ما قيل أو كتب فيها لا يعدو أن يكون محاولات مبتورة تثير مزيدًا من مشكلاتها أكثر مما تحلُّ شيئًا من معضلاتها.
إن الواقع الذي نشاهده يتنافى مع ما أسماه داروين بالبقاء للأصلح؛ فالأرض بما قطعته من مراحل في عمرها المديد تعجُّ بالأصلح وغيره، ولو كان هذا القانون صحيحًا لكان من أبسط مقتضياته الواضحة ـ بقاء حيوانات مثل الديناصورات حية إلى الآن، وانقراض الحشرات والكائنات الأضعف.
إذا كان التطور دائمًا يتجه نحو الأصلح، فلماذا لا نجد القوى العاقلة في كثير من الحيوانات أكثر تطورًا وارتقاء من غيرها، ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟ ولماذا لم تكتسب القرود العليا من القوى العاقلة بمقدار ما اكتسبه الإنسان مثلًا؟ فالحمار منذ أن عُرف إلى الآن ما زال حمارًا.
والتساؤل الذي يثور: أين الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان؟ لماذا لم يبقَ لها أيُّ وجود أو أثر؟ ولماذ لم تبق كما بقيت تلك القردة؟ لماذا هذا البقاء لغير الأصلح؟ أمَا كانت هي الأحق أن تبقى؛ لأنها كانت هي الأقوى والأفضل والأحسن؟!
ولماذا وقف التطور عند الشكل الإنساني؟ فقد مرَّت آلاف السنين ولم نر أيَّ تطور ما قد حدث في جسم الإنسان؟ أو حتى أيَّة بادرة تشير إلى تغيُّر أي عضو فيه.
(*) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، أبو الأعلى المودودي، تعريب: خليل أحمد الحامدي، دار القلم، الكويت، ط4، 1400هـ/ 1980م.
[1]. نفثة: نفخة.
[2]. أصل الأنواع، تأليف: تشارلس داروين، ترجمة: مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد: 628، ط1، 2004م، ص51- 52.
[3]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص10.
[4]. لينيوس: كارولوس لينيوس، عالم نبات سويدي الجنسية، وكان طبيبًا وجيولوجيًّا ومُربيًّا وعالم حيوان، ألَّف كتاب: النظام الطبيعي (systema Nature) الذي وضع فيه أساس التصنيف العلمي الحديث.
[5]. لامارك: عالم فرنسي في علم النبات والحيوان، (1744م ـ 1829م).
[6]. الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة، د. يحيى هاشم حسن فرغل، دار المعارف، القاهرة، ص22: 25 بتصرف.
[7]. داروين: تشارلز داروين، صاحب النظرية الدارونية (التطورية)، ولد في 12 فبراير 1809م، وهو باحث إنجليزي نشر في سنة 1859م كتابه “أصل الأنواع”، وقد ناقش فيه نظريته في النشوء والارتقاء، معتبرًا أصل الحياة خلية كانت في مستنقع آسن قبل ملايين السنين، وقد تطورت هذه الخلية ومرت بمراحل، منها مرحلة القرد، انتهاء بالإنسان، وهو بهذا ينسف الفكرة الدينية التي تجعل الإنسان منتسبًا إلى آدم وحواء ابتداء.
[8]. إرنست هيكل: فيلسوف وعالم أحياء ألماني، قام باكتشاف الآلاف من الكائنات الحية، (1834م ـ 1919م).
[9]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مرجع سابق، ص10.
[10]. هكسلي: توماس هنري هكسلي، عالم أحياء بريطاني لُقب بـ (Darwin,sbulldog) كلب داروين؛ لدفاعه القوي عن نظرية تشارلز داروين، (1825م ـ 1895م).
[11]. الانتخاب الطبيعي: يعني الاختيار والانتقاء وهو في النظرية التطورية يعني البقاء للأقوى والأصلح، وبهذا تحولت الحياة لصراع مستمر في غابة موحشة.
[12]. إنسان الغابة: نوع من القردة العليا الشبيهة بالإنسان يقطن في كل من بورنيو وسومطرة.
[13]. الحقيقة المطلقة، الله والدين والإنسان، د. محمد الحسيني إسماعيل، مطابع الأهرام، القاهرة، ص506- 507.
[14]. داروين ونظرية التطور، شمس الدين آق بلوت، ترجمة عن التركية: أورخان محمد علي، دار الصحوة، القاهرة، 1406هـ/ 1986م، ص100- 102.
[15]. السلوك الواعي لدى الخلية، هارون يحيى، مرجع سابق، ص107: 110 بتصرف.
[16]. داروين ونظرية التطور، شمس الدين آق بلوت، مرجع سابق، ص14: 20 بتصرف.
[17]. الكروموزومات أو الصبغيات الوراثية: عبارة عن عصيَّات صغيرة داخل نواة الخلية تحمل في داخلها تفاصيل كاملة عن خلق الإنسان.
[18]. الطفرات، محمد فتح الله كولن، مقال منشور بموقع: حراس العقيدة www.hurras.net.
[19]. الصورة المتوسطة: ومن الممكن أن نطلق عليها “الحلقات المتوسطة”، وهي كائنات منقرضة أو معاصرة
تجمع بين صفات طائفتين متتاليتين لتدل على وجود صفة بينهما، وهي دليل التطور في النظرية الداروينية
الحديثة.
[20]. الإسلام في عصر العلم، محمد فريد وجدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، ص804- 805
بتصرف.
[21]. البيولوجيا الجزئية: أو علم الأحياء الجزيئي هو دراسة الأسس الجزيئية من عملية النسخ والاستنساخ والترجمة الجينية.
[22]. التكنولوجيا الحيوية (Biotechnologies): هي تطبيق المعلومات المتعلقة بالمنظومات الحية بهدف استعمال هذه المنظومات أو مكوناتها في الأغراض الصناعية.
[23]. الهندسة الوراثية: هو العلم الذي يبحث في تغيير أو التحكم في الجينات الوراثية للنبات والحيوان بصفة عامة، لمنع انتقال أي عيوب أو نقائص موجودة في الجيل الأول أو الجيل الأصلي إلى الأجيال التالية، وبهذا يمكن الوصول بالسلالات المتولدة عن بعضها بعضًا إلى السلالة الفائقة أو السلالة السوبر.
[24]. نظرية داروين للنشوء والتطور تتعارض مع الكشوف العلمية الحديثة، د. عبد الخالق حامد السباعي، مقال منشور بموقع: كلمة سواءwww.kalmasawaa.com.
استنكار تحريم الإسلام للِّواط
مضمون الشبهة:
بدعوى أنه من قبيل الحرية الشخصية التي يجب ألا يتدخل فيها الدين بحال، يستنكر بعض الطاعنين تحريم اللواط في التشريع الإسلامي، والذي ورد النهي المشدَّد عنه في القرآن الكريم والسنة النبوية، كقول الله تعالى عن قوم لوط:(ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين(80))(الأعراف)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ملعون من عَمِل عَمَل قوم لوط».
وفي هذا الصدد؛ فإنهم يتساءلون: لماذا وصف القرآن عملهم بالفاحشة؟ ولماذا لعنتهم السُّنة؟ إن ما يفعله هؤلاء هو نوع من الحب لا يترتب عليه ضرر، إنهم ليسوا مجرمين؛ بل ـ فقط ـ مَرِيضِين.
وجه إبطال الشبهة:
إن اللواط بما يمثِّله من انحراف عن الفطرة وشذوذ في السلوك ـ لمن أبشع المنكرات وأخطرها على الإنسانية، وقد فعله قوم لوط عليه السلام فعاقبهم الله عقابًا شديدًا، وقد أكدت الشرائع السماوية كلها على تحريم اللواط، والأدلة على ذلك قرآنًا وسنة متضافرة، وقد أثبت الطب والعلم الحديث ما ينتج عن هذا الفعل من أضرار صحية، عضوية كانت أو نفسية، وهذا سبب تحريمه، ومن بين الأضرار المترتبة على ارتكاب جريمة اللواط:
مقت الله سبحانه وتعالى ولعنته، ثم مقت الناس لمن يرتكب هذا الفعل.
اللواط يسبب انصراف الرجل عن المرأة، وعجزه عن مباشرتها، وبهذا تتعطَّل وظيفة الزواج والإنجاب.
اللواط يسبب أمراضًا قاتلة، مثل: الزهري والسيلان والإيدز، كما يسبب أمراضًا ضارة بالمستقيم.
4.اللواط فساد أخلاقي، ومرض نفسي، فصاحبه لا يميز بين الفضيلة والرذيلة، ولا يتحرَّج من ارتكاب الجرائم، واختطاف الأبرياء وإن كانوا صغارًا.
ومن ثم؛ نتوجَّه بتساؤل لمن يستنكرون تحريمه، قائلين: أليس هذا بكافٍ لتحريمه؟!
التفصيل:
لقد حرَّم الله عز وجل الشذوذ بجميع أنواعه، أو ما يُسمَّى الآن بالمثلية الجنسية مثل: إتيان الرجل الرجل، وهو ما يُسمَّى بفعل قوم لوط أو اللواط، وإتيان المرأة للمرأة وهو ما يسمى بالسحاق؛ لأن هذه الأفعال تخالف الفطرة البشرية، بل الحيوانية، فلم يُعرف شيء في التاريخ يجامع مثيله في جنسه؛ لذا فقد اتُّفق على تسمية هذا الفعل شذوذًا أو خروجًا عن القاعدة.
إن عمل قوم لوط جريمة خُلُقية منكرة، وفعلة شنيعة تأباها الفطر السوية، وتمقتها الشرائع السماوية؛ لذا فقد وضع الإسلام حدًّا لمنعها كما هو الحال في حدود الجرائمالأخرى، لكن جريمة قوم لوط لم يكن لها مثيل قبل ذلك، قال تعالى:(ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين(80)) (الأعراف)؛ فهي بدعة جديدة لم تعرفها البشرية من قبل، وقد استنكرها القرآن الكريم أيَّما استنكار؛ فقد وصفهم بألفاظ متعددة: (بل أنتم قوم عادون(166)((الشعراء)،) (بل أنتم قوم مسرفون(81)) (الأعراف)، (إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) (الأنبياء/74)، (فانظر كيفكان عاقبة المجرمين ) (الأعراف/84).
ويقول سبحانه وتعالى عن قوم لوط كذلك:( كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163)وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين(164) أتأتون الذكران من العالمين (165)وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من القالين(168) رب نجني وأهلي مما يعملون(169) فنجيناه وأهله أجمعين(170) إلا عجوزا في الغابرين(171) ثم دمرنا الآخرين(172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين(173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين(174) ) (الشعراء).
إن الله عز وجل عندما أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه يحلُّ الطيِّب ويحرم الخبيث فقال:(ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف:157)، فما من طيِّبٍ إلا وقد أَحَلَّه الله عز وجل ثم أَحَلَّه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وإن كانت النفس تأنفه، وما ترك خبيثًا إلا وقد حذَّرنا منه، وإن كانت النفس تحبه، وما من معصية يفعلها صاحبها إلا وقد جعل الله عز وجل لها بديلًا في الطاعة حلالًا، فالله عز وجل عندما أَحَلَّ لنا الزواج وشرعه، وجعله من الطيبات حرَّم علينا ما يخالف الفطر السليمة من زنا ولواط وسحاق، وغير ذلك من الخبائث.
واللواط من المعاصي التي قضى الله عز وجل بتحريمها في جميع الشرائع السماوية، ثم حرَّمها النبي صلى الله عليه وسلم ولعن فاعلها، ثم جعلت الشريعة حدًّا لهذا الفعل الشنيع، وهو حد القتل، فإذا كانت الشريعة قد وضعت حَدَّ القتل لمعصية، فإلى أي حدٍّ يصل جُرمها وضررها؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يُعْلِنُوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا…»([1]).
في هذا الحديث، يحذِّرنا النبي صلى الله عليه وسلم من خمس خصال هي من البلاء الذي إذا حَلَّ في الأمة سلَّط الله عز وجل عليها أمراضًا، لم تكن في أسلافهم، ومن هذه الخصال انتشار الفاحشة، ولفظ الفاحشة لفظ عام يدخل تحته كل فعل مُنَافٍ لبشرية الإنسان من: زنا ولواطٍ وسحاقٍ، وغير ذلك.
مدى انتشار الشذوذ الجنسي في الغرب اليوم:
على الرغم من توافر النساء وانتشار الزنا انتشارًا ذريعًا، إلا أن الشذوذ الجنسي انتشر أيضًا انتشارًا ذريعًا في المجتمعات الغربية اليوم.
وقد قَنَّـنَت الدول الغربية قوانين تبيح هذا الشذوذ مادام بين بالغين دون إكراه.
وتكوَّنت آلاف الجمعيات والنوادي التي ترعى شئون الشاذين جنسيًّا، وكما تقول دائرة المعارف البريطانية؛ فإن الشاذين جنسيًّا خرجوا من دائرة السِّرية إلى دائرة العلنية، وأصبح لهم نواديهم وباراتهم وحدائقهم وسواحلهم ومسابحهم، وحتى مراحيضهم الخاصة بهم؛ حيث يستطيع الشاذ جنسيًّا أن يلتقي بأمثاله من الشاذين، وتعرف دوائر الشرطة هذه الأماكن، ولكنها تغضُّ الطرف عنهم ماداموا لم يسببوا أي إزعاج للمجتمع.
وتقول الإحصائيات الحديثة: إن عدد الشاذين جنسيًّا في الولايات المتحدة يبلغون
17 مليونًا، ويقدِّرهم بعض الباحثين بعشرين مليونًا، وهناك معابد وكنائس خاصة في الولايات المتحدة تقوم بتزويج الرجال بالرجال والنساء بالنساء في حفلات خاصة.
وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر بتاريخ 27/ 5/ 1980م نقلًا عن وكالات الأنباء العالمية أثناء حملة الانتخابات: “إن السناتور كيندي اجتمع بممثلي الشاذين جنسيًّا، وتعهَّد لهم بأنه سيدافع عن حقوقهم، وسينفِّذ تعهداته إذا ما انتُخب رئيسًا للجمهورية”. وقد خصَّصت بعض الجامعات في الولايات المتحدة منحًا دراسية خاصة للشاذين جنسيًّا، ومن تلك الجامعات جامعة سير جورج وليامز التي تخصِّص كثيرًا من منحها الدراسية للشاذين جنسيًّا، ولا يمكن الحصول على تلك المنحة إلا إذا كان المتقدم مُصابًا بالشذوذ الجنسي.
وفي مدينة لوس أنجلوس فقط يتجمَّع ثلاث مئة ألف شاذ جنسيًّا، وهذا يؤكد ما تقوله دائرة المعارف البريطانية من أن أكبر تجمعات الشاذين جنسيًّا هي في المدن الكبيرة، مثل نيويورك، ولوس أنجلوس، وشيكاغو، ولندن، وباريس، وأمستردام.
ومن أغرب الأنباء أن مجلة اللوطية التي تصدر في بريطانيا، نشرت هجومًا شديدًا على الدين المسيحي؛ لأنه يحرم الشذوذ الجنسي، فَرَدَّ عليها أحد كبار الكرادلة في بريطانيا قائلًا: إن الكنيسة الأنجليكانية هي في حالة مخاض الآن، وأنه عما قريب ستعترف الكنيسة بالشذوذ الجنسي، وأنه شخصيًّا يعدُّ الشاذ جنسيًّا إنسانًا عاديًّا، وأنه لا يُمانع إذا أراد مثل ذلك الشخص أن يكون قسِّيسًا أو أي شيء آخر.
ومن الجدير بالذكر أن الكنيسة قد اعترفت رسميًّا بأن المخاللة ـ أو المخادنة ـ أمر لا تعترض عليه الكنسية، وإنما تعترض الكنيسة حاليًّا على البغاء والعهر؛ أي: التجارة فقط، أما أن يعيش رجل وامرأة كزوجين ودون عقد زواج فهو أمر طبيعي، ولا تعترض عليه الكنيسة أبدًا.
وقد ذكرت “ميل والديلي ميرور” أن (40%) من الرهبان يمارسون الشذوذ الجنسي، وأن (80%) منهم زناة أيضًا، وقد نشرت جريدة المدينة في 21/ 12/ 1403هـ مقالًا للأستاذ سيد أحمد خليفة جاء فيه: “إن ثورة المهدي في السودان بدأت عندما قامت الكنيسة بتزويج رجل وَثَنِيٍّ من رجل آخر في غرب السودان، وقامت بإهدائهما هدايا لتؤكد لهما مباركتها لهذا الزواج غير الميمون”.
وقد كانت جمعيات الشاذين جنسيًّا تمارس نشاطها بشيء من السرية والكتمان، وفي دورات المياه القذرة، كما تسميها الصحافة الغربية (DirtyClosetPractice)، حتى قام أحد ضباط الصف في الجيش الأمريكي (وهو يهودي) بوضع لوحة كبيرة خلف مكتبه، كتب فيها: “أنا شاذٌّ جنسيًّا”، فقام الجيش عندئذٍ بطرده.
ونشرت التايم الأمريكية صورته على صفحة الغلاف باعتباره بطلًا قوميًّا، وأقامت ضجَّة كبرى ضد الجيش الأمريكي الرجعي الديكتاتوري، وقامت كثير من الجامعات والجمعيات بدعوة هذا اليهودي المخنث لإلقاء محاضرات يدعو فيها إلى حريته في ممارسة الشذوذ، وقامت عندئذٍ حملة كبرى في أجهزة الإعلام ضد الاضطهاد الذي يلاقيه الشاذون جنسيًّا، وأنهم يُطردون من أعمالهم إذا أظهروا نزواتهم، وأن هذه الإجراءات القمعية إجراءات لا إنسانية وهمجية وضد حرية الإنسان… إلخ.
ونجحت تلك الحملات المنظَّمة، وظهرت بعدها جمعيات الشاذين جنسيًّا إلى السطح، وأخذت تمارس نشاطاتها في العلن، وظهرت لها المجلات والصحف والكتب والأفلام والبارات والنوادي والشواطئ الخاصة. وتنافس المرشحون لرياسة الجمهورية في الولايات المتحدة في إرضاء قادة هذه الجمعيات والاجتماع بهم والإعلان عن تأييدهم للشذوذ الجنسي، وحق كل شخص في أن يتبع السلوك الجنسي الذي يرضاه مادام لم يعترض في سلوكه على الآخرين بالقوة.
وانتشرت تلك الجمعيات في الولايات المتحدة وكندا وأوربا انتشارًا واسعًا، حتى إن أعضاء هذه الجمعيات أصبحوا من الوزراء، وفي مقاطعة “كوبيك” بكندا ثلاثة وزراء يفخرون بأنهم شاذون جنسيًّا، ورئيس حزب الأحرار البريطاني سابقًا كان يفتخر بشذوذه الجنسي، وقد أُثيرت فضيحة كبرى عام 1979م عندما اتَّهمته الشرطة بقتل المخنَّث الذي كان يفعل به الفاحشة.
وقد قامت أجهزة الإعلام الغربية بهجوم كاسح على الإمام الخميني؛ لأنه أمر بإعدام من ثبتت عليه تهمة اللواط، وقام الإعلام الغربي بالهجوم على الخميني وعلى الإسلام الوحشي الذي يأمر بقتل اللواطية، ورجم الزناة من المحصنين، وقد أعلن رئيس اللواطية في إيطاليا أنه مستعد لدفع مليون دولار لمن يقتل الخميني.
والغريب حقًّا أن يقوم قسيس في الولايات المتحدة عام 1970م بإصدار كتاب أسماه (المسيح شاذ جنسيًّا)، وهذا القسيس كان يهوديًّا، ثم تظاهر بالنصرانية فأصبح قسيسًا، ثم ألَّف كتابًا يتهم فيه المسيح عليه السلام بالشذوذ الجنسي، وهذه طبائع اليهود الذين لعنهم الله وملائكته والناس أجمعين؛ يقتلون الأنبياء ويفترون عليهم الأكاذيب، ويتهمون مريم العذراء بالفاحشة، ويتهمون سليمان عليه السلام بالسحر، ويتهمون لوطًا عليه السلام بمقارفة الفاحشة مع ابنتيه كما هو موجود في التوراة المحرَّفة، ويتهمون إبراهيم عليه السلام بالدياثة فيعطي زوجته سارة لفرعون مصر، ويتهمون إسحاق بالغش والخداع، والتوراة والتلمود مليئة بشتم الأنبياء وقذفهم، فلا غرابة إذًا أن يتهموا المسيح عليه السلام بالشذوذ الجنسي، ولكن الغريب حقًّا ألَّا يتحرَّك مسيحي واحد في الغرب بأكمله ضد هذه الافتراءات على من يدعون أنه ربهم. ولم يكتف اليهود بذلك، بل ألَّفوا كتابًا عن غراميات المسيح ثم جعلوه فيلمًا سينمائيًّا يُعرض في دور السينما، لعنهم الله([2]).
ونظرًا لشيوع أمثال هذه الجرائم وانتشارها، وخاصة اللواط في بلاد المسلمين وغير المسلمين؛ فإن الله عز وجل قد أنزل بالأمة أضرارًا لم يُسْمَع بها قبل ذلك، منها الدينية، ومنها النفسية، ومنها الصحية، ومنها الخُلُقية، وتترتَّب على هذه الأضرار أمراض اجتماعية واقتصادية.
أولًا. الأضرار الدينية:
إن أضرار اللواط من أعظم الأضرار على المرء؛ وذلك لأنه كبيرة من كبائر الذنوب، وله خطر عظيم على توحيد المسلم؛ لأنه ذريعة إلى العشق والتعلُّق بغير الله، وهذا بدوره ذريعة إلى الشرك، ويقود إلى محبة ما أبغضه الله، وبغض ما أحبه الله، بل قد يتمادى الأمر بمرتكبه فيستحله، وهذا كله خطر على عقيدة الإنسان وتوحيده، وقد حدث هذا بالفعل؛ فقد نادى السفهاء بإباحة هذا الفعل وممارسته وأطلقوا عليه “المثلية الجنسية”.
ثانيًا. الأضرار الخلقية:
كثيرة هي تلك الأضرار الخلقية التي يسببها اللواط، ومنها: قلة الحياء، وسوء الخلق، وبذاءة اللسان، وقسوة القلب، وانعدام الرحمة، وقتل المروءة والرجولة، وذهاب الشهامة والشجاعة والنخوة والعزة والكرامة، وحُبُّ الجريمة والجرأة على فعلها، وسفول الهمَّة، وضعف الإرادة، والذلة والصغار، وسقوط الجاه والمنزلة، ونزع الثقة من مرتكبه، والنظر إليه بعين الخيانة، وذهاب الغيرة، وحلول الدياثة، وهذا قليل بالنسبة لوباء قد جعل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم القتل حدًّا له، ثم لعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم صاحبه وطرده الله من رحمته، بل سمَّاه فاسقًا وظالـمًا ومتعدِّيًا ومسرفًا.
ثالثًا. الأضرار النفسية:
التأثير في الأعصاب:
إن هذه العادة تغزو النفس، وتؤثر في الأعصاب تأثيرًا خاصًّا؛ فأحد نتائجها الإصابة بالانعكاس النفسي في خُلُق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده: بأنه ما خُلِق ليكون رجلًا، وينقلب الشعور إلى شذوذ، وبه ينعكس شعور اللائط انعكاسًا غريبًا فيشعر بميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية.
ومن هذا نستطيع أن نتبيَّن العلَّة الحقيقية في إسراف بعض الشُّبان الساقطين في التزيُّن، وتقليدهم النساء في وضع المساحيق المختلفة على وجوههم، ومحاولتهم الظهور بمظهر الجمال، بتحمير أصداغهم، وتزجيج حواجبهم، وتثنِّيهم في مشيتهم، إلى غير ذلك.
ولا يقتصر الأمر على إصابة اللائط بالانعكاس النفسي؛ بل هنالك ما تسبِّبه هذه الفاحشة من إضعاف القوى النفسية الطبيعية في الشخص كذلك، وما تحدثه من جعله عُرضة للإصابة بأمراض عصبية شاذة، وعلل نفسية شائنة، تفقده لذة الحياة، وتسلبه صفة الإنسانية والرجولة، فتُحيي لوثات وراثية خاصة، وتظهر عليه آفات عصبية كامنة تُبديها هذه الفاحشة، وتدعو إلى تسلطها عليه، ومثل هذه الآفات العصبية النفسية؛ الأمراض السارية، والماسوشية، والفيتشزم، وغيرها.
وكذلك يسبب اللواط الخوف الشديد والحزن والقلق المستمر، والرغبة في العزلة والانطواء وتقلُّب المزاج، وضعف الشخصية وانعدام الثقة بالنفس، وكثرة الوساوس والأوهام، والارتباك واليأس والتشاؤم، والملل والتبلُّد العاطفي. كما أن اللواط يصيب فاعله بضيق الصدر والخفقان، وكذلك يصيبه بحالة من الضعف؛ الأمر الذي يجعله عرضة لمختلف العلل والأمراض، وذلك بسبب الوهم والوسوسة.
التأثير على المخ:
أردنا أن نذكر هذا الضرر ضمن الأمراض النفسية، لارتباطه بها أكثر من الأمراض العضوية؛ فاللواط يسبب اختلالًا كبيرًا في توازن عقل المرء، وارتباكًا عامًّا في تفكيره، وركودًا غريبًا في تصوراته، وبلاهة واضحة في عقله، وضعفًا شديدًا في إرادته، وإن ذلك ليرجع إلى قلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية والغدد فوق الكلوية، وغيرها مما يتأثر باللواط تأثيرًا مباشرًا، فيضطرب عملها وتختلُّ وظائفها. علاوة على تعرُّض اللائط للإصابة بالبله والعبط، وشرود الفكر، وضياع العقل والرشاد.
رابعًا. الأضرار الصحية:
الرغبة عن المرأة:
إن من شأن هذا المرض أن يصرف الرجل عن المرأة، وقد يبلغ به الأمر إلى حدِّ العجز عن مباشرتها، وقد يفقد رغبة الرجل وهو بدوره يجعله لا يشتهي النساء فلا يتزوَّج، وينشأ عن هذا أضرار اجتماعية، وتكثر العوانس أكثر مما هي عليه، وينتج عن هذا أضرار أخرى أيضًا مثل عدم القدرة على الإنجاب، وإيجاد النسل وهو أهم وظيفة من وظائف الزواج، وهذا بدوره يؤدي إلى أضرار اقتصادية بها تُعطَّل حركة النمو.
ولو قدَّر الله لمثل هذا الرجل أن يتزوج؛ فإن زوجته تكون ضحية من الضحايا، فلا تظفر بالسكن ولا الولادة، ولا بالحرمة التي هي دستور الحياة الزوجية، فتقضي حياتها معذَّبة معلَّقة لا هي بالمتزوجة، ولا بالمطلقة.
عدم كفاية اللواط:
فهو علة شاذة وطريقة غير كافية لإشباع العاطفة الجنسية؛ وذلك لأنها بعيدة الأصل عن الملامسة الطبيعية، ولا تقوم بإرضاء المجموع العصبي، بل هي شديدة الوطأة على الجهاز العضلي، سيئة التأثير على سائر أجزاء البدن.
ارتخاء عضلات المستقيم وتمزُّقه، والتهاب الشرج المستقيم:
فاللواط سبب في تمزُّق المستقيم، وهتك أنسجته، وارتخاء عضلاته وسقوط بعض أجزائه، وفقد السيطرة على المواد البرازية، وعدم استطاعة القبض عليها، ولذلك تجد بعض الوالغين في هذا العمل دائمي التلوُّث بهذه المواد المتعفِّنة؛ حيث تخرج منهم دون شعور.
التأثير على أعضاء التناسل والإصابة بالعقم:
بحيث يضعف مراكز الإنزال الرئيسية في الجسم، ويعمل على القضاء على الحيوانات المنوية، ويؤثر على تركيب مواد المني، ثم ينتهي الأمر بعد قليل من الزمن إلى عدم القدرة على إيجاد النسل، والإصابة بالعقم؛ الأمر الذي يحكم على اللائطين بالانقراض والزوال وعدم تخليد ذكرهم.
التيفود والدوسنتاريا:
وهو بجانب ما مضى يسبِّب العدوى بالحمَّى التيفودية، والدوسنتاريا وغيرها من الأمراض الخبيثة التي تُنقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزوَّدة بمختلف الجراثيم المملوءة بشتى العلل والأمراض.
السويداء:
إن اللواط إما أن يكون سببًا في ظهور المرض، أو يغدو عاملًا قويًّا على إظهاره وبعثه، ولقد وجد أن هذه الفاحشة وسيلة شديدة التأثير على هذا الداء؛ من حيث مضاعفاتها له، وزيادة تعقيدها لأغراضه، ويرجع ذلك للشذوذ الوظيفي لهذه الفاحشة المنكرة، وسوء تأثيرها على أعصاب الجسم.
أمراض أخرى:
كذلك يسبب اللواط الإصابة بالعديد من الأمراض مثل ثآليل الشرج، وفطريات الجهاز التناسلي، والورم البلغمي الحبيبي التناسلي، والتهاب الكبد الفيروسي، وفيروس السايتو ميجالك الذي يؤدي إلى سرطان الشرج، والمرض الحبيبي الليمفاوي التناسلي، ومرض الأميبا، والديدان المعوية، وغير ذلك من الأمراض التي نسأل الله عز وجل أن يعافينا منها.
إن الأمراض السابقة التي ذكرناها يسببها اللواط فقط، لَكِنْ هناك أمراض تنشأ عن أي علاقة جنسية محرمة؛ فالحديث الذي ذكرناه يحمل في ثناياه ملمحًا إعجازيًّا كبيرًا، وقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة صدق ما ورد على لسان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من انتشار الأمراض التناسلية الفتَّاكة؛ نتيجة لشيوع الفاحشة، والجهر بها في المجتمعات، الأمر الذي عرَّض المجتمع للتفكك والانحلال، والانهيار الأخلاقي والاقتصادي([3]).
يقول د.أحمد عبد الحميد ندا ـ استشاري جراحة المسالك البولية والتناسلية ـ : “إن الأمراض التناسلية المتعدِّدة مُحصِّلة الفوضى الجنسية، وأَقْصِدُ الاختلاط والتساهل والدعارة والبغاء، فالأمراض التناسلية إنما تنتقل أساسًا وبنسبة عالية عن طريق الاتصال الجنسي غير المشروع”([4]).
ويقول الدكتور يسري الزهيري ما ملخَّصه: “تدل الإحصائيات الميدانية على أن السبب وراء حالات الإيدز هو انتشار الشذوذ الجنسي، وهو إتيان الرجل الرجل، الذي أحلَّته بعض المجتمعات الأوربية والأمريكية؛ ففي مجموع الحالات المصابة بأمريكا (75 %) منها توجد بين أصحاب الشذوذ الجنسي، وفي بريطانيا وفرنسا (84 %)، وتزداد الإصابة إذا تكرر إتيان الرجل من دبره من عدة أشخاص مختلفين، كما هو الحال في تلك البلاد، وينتشر بين مدمني المخدرات بنسبة (18%).
وهذا هو المفهوم الخاطئ للحرية ـ كما يريد أن يفهمه بعضهم ـ زواج الذكر بالذكر في البلاد الغربية، ولقد نُشرت صورة للواطيين في مدينة ليون الفرنسية، وقد تفشَّت أعراض المرض على أحدهما بعد سبعة أشهر من بدء المرض، وهذه هي الحرية التي ينادون بها، وهذه هي المثلية الجنسية، والحمد الله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام وكفى بها نعمة.
وكأن الله يريد أن يميز لهم أداة العقاب، فالفيروس المسبب للإيدز يتميز بمميزات بيولوجية تختلف عن كل أنواع الجراثيم التي تصيب الإنسان؛ فهذا المرض وأمثاله عقوبة إلهية لمن انتكست فطرتهم من الخلق فاستبدلوا بالعفة والطهارة فواحش السلوك المحرم من الزنا واللواط، وأعلنوا بتلك الفواحش إباحة ورضى وتفاخرًا.
صورة لشخص مصاب بفيروسالإيدز، ويظهر عليه التهاب حاد في الغددالليمفاوية
كما يوضح لنا الإعجاز العلمي في القرآن عند حديثه عن هلاك قوم لوط، قال تعالى: (كذبت قوم لوط بالنذر(33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر(34) )
(القمر) فأهلكهم الله بالصيحة أولًا، وهي الصوت الشديد المتأتي من ارتجاجات هوائية ذات ذبذبة عالية، وهي من أشد أسباب التدمير فتكًا، كما تبيَّن للخبراء العسكريين اليوم، ثم أُمطروا مطرًا جارفًا مهلكًا، فأصبح هذا الماء ملوَّثًا من كثرة الأمراض المعدية المتفشية فيهم (الإيدز، الزهري، الهربس، السيلان)، فقال تعالى:(وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين(173))(الشعراء)، ثم أرسل الله عليهم أخيرا حاصبا؛ أي: حجارة:(لنرسل عليهم حجارة من طين(33) ) (الذاريات) هي على درجة كبيرة من الحرارة بفعل احتكاكها
بطبقات الجو، فحرَّقت وطهَّرت كل ما في قرية لوط من أوبئة من أثر الممارسات الشاذة، ومن هنا نجد الإعجاز، فالحرارة العالية الجافة هي أقوى أنواع المطهِّرات كما هو معروف في علم التعقيم:(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(21) )(يوسف)”([5]).
ويقول الباحث محمد لجين الزين في بحث له بعنوان “البكتيريا الآكلة للحم البشر والشذوذ الجنسي”: أثبتت دراسة طبية أمريكية أن الرجال الشواذ جنسيًّا أكثر عرضة للإصابة بسلالة جديدة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تُعرف باسم “البكتيريا آكلة لحوم البشر”.
وذكرت ـ أي: الدراسة ـ أن احتمال إصابة الشواذ بهذا النوع من البكتيريا عبر العلاقات الجنسية الشاذة يفوق غيرهم بثلاث عشرة مرة، وأوضحت أن الالتهاب الناتج عن الإصابة يُسمَّى “التهاب بكتيريا ستافيلوكوكّس أوريوس المقاومة للمثيسيلِّين”، ويُعرف اختصارًا ببكتيريا (MRSA)،وهي مقاومة لأغلب المضادات الحيوية المعروفة.
ووفقًا للدراسة؛ فإن هذه السلالة الجديدة من البكتيريا ـ التي كان وجودها في الماضي مقتصرًا على المستشفيات ـ مازالت تُنمِّي مقاومتها لأقوى المضادات الحيوية المعروفة، وانتقلت إلى جماعات يمكن للمرض الانتشار فيها بالاتصال العرضي أيضًا.
وقال مُعِدُّ الدراسة الدكتور “بنه دييب” ـ الباحث بالمركز الطبي لمستشفى سان فرانسيسكو: إن عدوى هذه البكتيريا تصيب غالبًا الشواذ جنسيًّا في مواقع أجسادهم التي يحدث فيها تلامس الجلد بالجلد أثناء العلاقات الشاذة.
والمشكلة التي يخاف منها الأطباء هي أن هذه الجرثومة إن انتشرت بنسبة كبيرة فيصبح من الصعب إيقافها. وقد قام بنشر الدراسة موقع خاص مناهض للشاذين أو ما يُسمَّى بالمثلِيِّين، واسمه “الحقيقة لأمريكا عن المثليين الشاذين”، ومؤسسه أحد الأمريكيين المحافظين.
والمفاجئ أن نسبة الذين يموتون في أمريكا الآن بسبب هذه الجرثومة أكثر من نسبة الذين يموتون بسبب فيروس الإيدز.
وذكر موقع الـ (بي بي سي) البريطاني الموضوع نفسه؛ حيث أشارت الأبحاث إلى ظهور نوع جديد من البكتيريا العنيفة (إم آر إس إيه) أشد فتكًا، ويمكن أن يؤدي إلى الإصابة بمرض الالتهاب الرئوي الحاد التقرُّحي من النوع الذي ينتج عنه تآكل وتلف أنسجة الرئتين، وتتسبَّب هذه البكتيريا في الإصابة بدمامل ضخمة على الجلد، وفي بعض الحالات الشديدة قد تؤدي إلى تسمم الدم الفتاك.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية أنها تنفق عشرات الملايين لتحارب الأمراض الجنسية الناتجة عن الشذوذ الجنسي، ولوقاية الأبرياء الذين تصلهم هذه الأمراض بسبب شذوذ الزوج أو نقل الدم، ونسبة الذين يصابون بالسرطان من الشواذ هي الضعف من الأشخاص العاديين، حتى إن هناك سرطانًا خاصًّا بهم اسمه (Kaposisarcoma)، وقد ظهر حديثًا. ومازالت الدراسات تُجْرى حوله، وهو موجود بكثرة بين المثليين في كاليفورنيا ولوس أنجلوس([6]).
ومما سبق يتبيَّن لنا حكمة التشريع الإسلامي في تحريم اللواط، وتظهر لنا دقة أحكامه في التنكيل بمقترفيه، والأمر بالقضاء عليهم، وتخليص العالم من شرورهم، كما تتجلَّى لنا أوجه الإعجاز الطبي والعلمي في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الظاهر من تاريخ ظهور هذه الأمراض إجمالًا أنها تأتي عقوبة للقوم الذين تشيع بينهم الفاحشة بكثرة؛ ولذلك عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ “توجد”؛ لأنها لا تظهر إلا إذا كثرت.
وفي نهاية حديثنا عن أضرار اللواط الصحية يحسن التنبيه على مسألة مهمة؛ ألا وهي: أن هذه الأمراض قد تظهر سريعًا؛ لذا ينبغي للإنسان ألا يغترَّ بإمهال الله، وبأنه يمارس هذا العمل من زمن، ولم يُصب بشيء من ذلك، أو أن فلانًا من الناس لم يصب بشيء مع أنه يمارس هذه الفعلة منذ زمن بعيد، فالله يمهل ولا يهمل، وأنه ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وأخذ الله أخذ عزيز مقتدر.
الخلاصة:
تظهر الحكمة الربانية والإعجاز العلمي في تحريم فاحشة اللواط في أنه يسبب اختلالًا كبيرًا في توازن عقل الشخص، وارتباكًا عامًّا في تفكيره، وركودًا غريبًا في تصوراته، وضعفًا شديدًا في إرادته، وإن ذلك ليرجع إلى قلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد فوق الكلى، وغيرها مما يتأثر باللواط تأثيرًا مباشرًا.
ومن شأن اللواط أن يصرف الرجل عن المرأة، وبذلك تتعطَّل أهم وظيفة من وظائف الزواج، وهي إيجاد النسل، وكذلك إضعاف القوى النفسية الطبيعية في الشخص، وما تحدثه من جعله عرضة للإصابة بأمراض عصبية شاذة، وعلل نفسية تفقده لذة الحياة، وغير ذلك من الآثار الضارة سواء في الجانب النفسي الاجتماعي أو في الجانب العضوي، وما انتشار الأمراض الجنسية من مثل: الإيدز والزهري والسيلان إلا تحقيق لهذا الإعجاز، وتأكيد للحكمة من تحريم هذه الفاحشة.
(*) اللواط في المجتمع الإسلامي، مقال منشور بموقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.
[1].حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الفتن، باب: العقوبات، (2/ 1332)، رقم (4019). وصحَّحه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4019).
[2].الأمراض الجنسية: أسبابها وعلاجها، د. محمد علي البار، مرجع سابق، ص43- 46.
[3]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص454- 459. موقع الإسلام، المملكة العربية السعودية، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشادwww.al-islam.com. الحصاد الحتمي للإباحية، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.
[4].موقع الإسلام، المملكة العربية السعودية، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد www.al-islam.com.
[5]. الإيدز المرض الجنسي القاتل، د. يسري الزهيري، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (20)، محرم 1426هـ، ص60- 64.
[6]. الحكمة العلمية في تحريم اللواط، محمد لجين الزين، مقال منشور بموقع:www.maktoobblog.com.