تعزيز اليقين وهداية الحيران

الرد على المشككين وشبهاتهم

الرئيسية / بنك المعلومات / الرد على المشككين وشبهاتهم

الكتب

شبهات الملحدين و الإجابة عنها

تركت الشطحات إلى هذا الكتاب، وكان اسمه في بادئ الأمر "الدين والفطرة" ثم تبين لي أن أكثر فصوله أو الكثير منها تلتقي عند الرد على الملحدين، والتصدي لأقوالهم ونقاشها بمنطق هاديء وصارم، فتركت الاسم الأول إلى اسم "شبهات الملحدين والإجابة عنها".. ومهما يكن فليست العبرة بالاسم، بل بما يقع عليه، ولا بالحجم وكثرة الأوراق، بل بالعلم وعدد القراء.
تحميل

صلاة ملحد

يتحدث عن الإلحاد و نقد الفكر الإلحادي.
تحميل

كيفية دعوة الملحدين إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة

لماذا لست ملحدا

هذا الكتاب ليس دفاعاً تقليديّاً عن "الإيمان" و"الدِّين" (الإسلاميَّيْن)، وإنّما هو دعوةٌ إلى تأسيس "الإيمان" على حال التّأمُّل والتّدبُّر بحيث لا يعود "المؤمن" في وَضْع يُظْهِرُه كما لو كان بلا عقلٍ أو يَعْترِي عقلَه نقصٌ بالمُقارَنةً مع الذين يَحْرِصون - بمناسبةٍ أو من دونها - على إدِّعاء التّميُّز بالعقل في تمامه.
تحميل

مناظرة الملحدين

الكتاب يستهدف في الأساس المؤمنين لذلك، استشهد الكاتب _المناظر_ بالآيات القرآنية في مناظراته ليثبت أن الحجة العقلية تتوافق مع القرآن ولا يوجد أى تناقض كما يدعى الملحدين.
تحميل

معاول جديد في جدار الالحاد

الإلحاد أسبابه ومفاتيح العلاج

كتابٌ يسلّط الضوء على ظاهرة الإلحاد؛ من أجل تشخيص الأسباب الّتي تقف وراء ظهورها في المجتمعات الإنسانيّة، وقد سعى الكاتب إلى وضع رؤيةٍ علميّةٍ حول الأسس العامّة لعلاج تلك الأسباب.
تحميل

بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال

حوى الكتاب جوانب مهمة تتعلق بحياة القصيمي مثل أسباب ردته، والحديث عن سلوكياته وأخلاقه ، كما نقل حكم العلماء على القصيمي بالردة والكفر الصراح. - برع المؤلّف في كشف تناقض القصيمي في أغلاله، فربما أثبت ما نفاه، وكذا العكس. - حوى الكتاب على نقد لاذع وهجوم ساخر مقابلةً للقصيمي في سخريته بالدين وأهله.
تحميل

تفنيد الأسس النظرية والعلمية للإلحاد

رد العلامة سعيد فودة على عادل ضاهر، وهو نقد لكتابيه: تأملات في مفهوم الفعل الإلهي، ونقد الصحوة الإسلامية.
تحميل

حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون

– هو عبارة عن حوارات مطولة في السجون المصرية بين الشيوعيين والإسلاميين، وهو مكون من ثلاث وثلاثين حلقة، دار النقاش فيها حول كثير من الأسئلة الإلحادية التي كانت تثيرها المادية الماركسية، وبعضها ما زال يشتغل بها الفكر الآن.
تحميل

خلاصة العتاد في مواجهة الإلحاد

كتاب يتكلم عن أصل الإلحاد وأنواعه وكيفية التعامل مع الملحدين وأفكارهم.
تحميل

معركة النص 1

يناقش المؤلف أكثر الأفكار والروى المعاصرة التي تصادم النص وتناقض الإجماع. لأن أكثر الإشكالات والتأويلات المعاصرة تتجه نحو الأحكام الشرعية السياسية.
تحميل

ابن عربي عارف أم ملحد؟

يحاول الكاتب في هذا الكتاب أن يكشف للمسلمين عن مخاطر البدع التي ضللت طريقهم في إتباعهم الدعوة بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما أدى إلى إنقسامهم وإختلافهم فعصفت الفتن بالأمة وبدأت تأخذ أبعاداً خطيرة مما كان لها تداعيات دينية وسياسية واجتماعية أدت إلى ما عليه حال الأمة اليوم من شتات وخلاف وإنحراف وتخلف.
تحميل

أغير الله يخلق يا قديش

الإلحاد سؤال وجواب

رسالة موجهة للشباب وأولياء الأمور والمربين تحتوي على ردود مختصرة على أشهر الأسئلة التي تدور في أذهان المتشككين بعبارة سهلة. لماذا خلقنا الله؟ لماذا لم يستشرني الله قبل خلقي؟ لماذا ينبغي علينا أن نعبد الله؟
تحميل

تفريغ سلسلة الرد علي الملحدين كاملة

الرد علي الملحدين العلامة محمد سعيد رسلان
تحميل

خرافات الكفر وحقائق الإيمان: فحص أدلة الكفر

الرد على الاثبجي في دفاعه عن المشركين

الحوار المتمدن الإلحاد يتحدي

السيف الحاد لقطع الإلحاد

رد على كتاب توحيد الأديان واتحاد العالم
تحميل

طلاسم نجسة الإلحاد وإهانة الجنس البشري

"الكتاب محاولة لكشف خطورة مايروج له الملحدون الآن .. مايقدمونه كبديل , والذي يمكن تلخيصه في أن الإلحاد هو المعيار الوحيد لصناعة المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي . الكتاب يتطرق للتأثير النفسي والأخلاقي للإلحاد على الأفراد والمجتمعات بدأ من الثورة الفرنسية ومروراً بالشيوعية والنازية , وحتى ظهور الإلحاد الجديد بداية الألفية , كما أنه يوضح الصفات التي يروج لها الإلحاد الجديد...
تحميل

عرض ونقد لكتاب لماذا ليس هناك إله لأرمين ناوابي

الكتاب عبارة عن عرض ونقد لكتاب لماذا ليس هناك إله لأرمين ناوابي
تحميل

عصير كتاب وهم الإلحاد

كتاب الإلحاد

تجميع لمجموعة من المقالات الرائعة التي تتحدث عن ظاهرة الإلحاد وتفند شبهاته بطرق علمية عقلية منطقية وكيف يتم بناء هذه الشبهات من الأساس وهو كتاب جدير بالمطالعة
تحميل

المرفأ الآمن - نظرات نقدية في دعاوى الإلحاد

في هذا الكتاب ادلة نقلية وعقلية لدحض دعاوى اسقاط العلوم العصرية لقضية الدين. كما يحوي بعض وجوه الاعجاز في القران الكريم والسنة النبوية.
تحميل

المُلحد

كانت على مَشارف الثّانية والعشرين من عمرِها، وكان يكبَرُها بخمسِ سَنواتٍ، عِندما وَقَعَتْ عينَاهَا عليهِ لأوَّل مرَّة، تِلكَ النَّظرة الأولى التي كَانَتْ الأساسَ الذي شَيَّدَتْ عليهِ عِمارةَ عائِلَتِها الصّغيرة هذه، عَائلتها التي أصبحَتْ عَالمهَا كلّهُ. مِن يومِهَا غَدَتْ تَثِق بأهمّيَّةِ النَّظرَةِ الأولى، ومَا يُمكِن لَهَا أنْ تفْعَلَه، سواء سَلباً، أو إيجاباً.
تحميل

ملخص كتاب زخرف القول

هذه المقولات تعتمد بدرجة كبيرة على من نمط الحجة الميسرة المباشرة، فإن لها تأثيرا كبيرا جدا في شرائح مجتمعية متنوعة، إذ الجميع بمقدوره إدراك أصل الحجة ولو تفاوتوا في إدراك تفصيلاتها، وهذا النوع من الحجج عميق الأثر، ...
تحميل

نقض الإلحاد تحديدات وتنبيهات وإيضاحات

– استعرض المؤلف في أول الكتاب تاريخا مطول عن التصور عن الإله لدى البشر وعن كيفية معرفته، وناقش نظريات نشأة الدين.  – ثمَّ عرج على الأدلة الفلسفية والعلمية التي يعتمد عليها الإلحاد.  – ثم ذكر معنى الإلحاد عند الغرب وعند العرب أيضا وأشار إلى أصنافه وأقسامه.  – وختم حديثة عن الإلحاد المعاصر. 
تحميل

الرد على الدهريين

رصد مبكر لعملية الغزو الثقافي، وما تحمله في طياتها من عملية تدمير ممنهجة لهوية الشعوب
تحميل

حوار مع صديقى الملحد

هذا الكتاب هو أشهر مؤلفات الدكتور مصطفي محمود، والأكثر رواجًا بين القراء، وفيه يناقش الكثير من أفكار الملحدين والمشككين في الدين الإسلامي، بالحجج المنطقية والعقلية، ويستعرض الكثير من الآيات القرآنية ويفسرها بشكل يجيب عن الكثير من التساؤلات
تحميل

شبهات طال حولها الجدل

شبهات طال حولها الجدل
تحميل

شفاء لما في الصدور

أُقدم بين يديك نَظَرْ أمر الإيمان وحُججه، وقصور الإلحاد عن تفسير ظاهرة وجودنا الإنساني وعجزه، وقد جاء الكتاب على شكل جرعاتٍ متتالية تنقلك من بحث فروض الإلحاد إلى تقريرات الربوبية، ومن أدلة الإيمان إلى عجز الأديان غير الإسلام عن ضبط معنى الوجود. وأنتهي بك إلى عرض أشهر ما يحتج به الملحدة من تخيلاتٍ يزعمونها شبهات
تحميل

كبسولات إسكات الملحدين

كتاب رائع و مختصر في مجال الرد علي الإلحاد
تحميل

لا أعلم هويتي

هذا الكتاب حوار بدأ بسائل يقول: ((أحس بوجود خالق في نفسي، ولكنني ما زلت غير مقتنع))، وانتهى بمؤمن يقرر: ((بحق من رفع السماء بغير عمد إن حلاوة الإيمان ما بعدها حلاوة ! آه على تلك السنوات التي مرت من عمري وأنا بعيد عن طريقكم،.. !)).
تحميل

لن تلحد

الإلحاد في عرف عامة الناس يعني إنكار وجود الله، والتكذيب بشرع الله، وجحد حقائق الغيب. والإلحاد في اللغة يعني الميل والانحراف، ومن عموم المفهوم اللغوي حددت مفهوم هذا السفر، فجعلت الإلحاد يشمل إنكار وجود الله، وجحد حقائق الغيب، والتكذيب بشرع الله .
تحميل

موسوعة الرد على الملحدين العرب

هذه الموسوعة هي موسوعة الرد على الملحدين العرب مكونة من ثلاثة مجلدات كاملة لا غنى عنها لكل باحث متخصص في المذاهب الفكرية ولكل غارق في الشبهات سارح عن الحقيقة الكلية ولكل طالب علم يناظر الملحدين والماديين والربوبيين واللاأدريين وأصحاب السفسطات العقيمة..
تحميل

الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد

كتابٌ للشيخ صالح الفوزان أثابه الله، وهو يشتمل على تقريبٍ لبعض المعلومات في العقيدة، وفيها ربطٌ لواقع الناس اليوم ومُمارساتهم بتلك المعلومات، حتى يتّضِح حُكمُها ويتبيَّن خطأ أصحاب تلك الممارسات لعلهم يرجِعُون، ونصيحة لغيرهم لعلهم يحذَرون‏.
تحميل

الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد

يعتبر هذا الكتاب أحد كتب المعتزلة وهو من الآثار القليلة التي سلمت من الأحتراق وتدمير، صنف هذا الكتاب بسبب مؤلفه أنه وضع للرد علي الرواندي صاحب كتاب فضيحة المعتزلة فأجاب عن كل فصل.
تحميل

تخلَّص من إلحادك

كتاب يتكلم عن الملحدين وكيفية الرد عليهم هدية جميلة يا شبــــاب! هذا كتيب صغير بعنوان: تخلَّص من إلحادك خلاصة أكثر من عشر سنوات من الحوار مع الملحدين.
تحميل

ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان

يعالج هذا الكتاب قضية الإلحاد الجديد على وجه الخصوص والإلحاد عموماً معالجة كلية تتجاوز التفاصيل – على أهميتها_ لكي يقف القارئ على مسافة تأذن له برؤية المشهد كاملاً تاريخياً وفلسفياً. وقد خصص المؤلف لهذا الغرض الرسالتين الأوليين. فالرسالة الأولى تحلل مرتكزين مهمين في سبيل فهم أعمق للإلحاد : المرتكز التاريخي الفلسفي والمرتكز النفسي الوجودي.
تحميل

حوار مع الملحدين في التراث

بأسلوبه المبتكر في تقديم الشخصيات التراثية، يتابع عصام محفوظ، عبر الحوار المتخيل، تقديم هذه الشخصيات، فيختار من التاريخ الإسلامي: ابن الراوندي، أبو بكر الرازي وجابر بن حيان. وبرغم الاختصاصات المختلفة لهذه الشخصيات، فإن الذي يجمعها تصدّيها للموضوع الأكثر حساسية في مجتمعها، كما في كل مجتمع: الدين
تحميل

خطة معرفية للعمل في ملف الإلحاد

معركة النص 2

يناقش المؤلف أكثر الأفكار والروى المعاصرة التي تصادم النص وتناقض الإجماع. لأن أكثر الإشكالات والتأويلات المعاصرة تتجه نحو الأحكام الشرعية السياسية.
تحميل

أسئلة تفكرية للملحدين

145 سؤال لايستطيع أي ملحد الإجابة عنها وعن سبب وقوعها ولو فعل مافعل فلن يجد إجابة لها. و بعد ما يقرأ الملحد هذه الأسئلة فلن يستطع الإجابة عليها ولو استعان بجميع الملحدين على وجه الأرض، فلابد أن يؤمن أن هذا الدين الإسلامي أتى بوحي من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
تحميل

الأكاذيب المؤسسة للإلحاد

تناول المؤلف في كتابه هذا الأكاذيب التي يقوم عليها الإلحاد. وأثبت بأدلة كثيرة أن الإلحاد في أصله كذب ويقوم على الكذب، لأنه مخالف للعلم والعقل والوحي. ثم تتبع المؤلف ما ترتب عن ذلك من أكاذيب أخرى في أصول الإلحاد وفروعه. وقد انتهى المؤلف إلى نتائج مهمة جدا في نقده للإلحاد.
تحميل

تناقضات منهجية نقد رسالة د. عدنان إبراهيم للدكتوراة

هذه الورقات تكشف عما حواه بحث عدنان إبراهيم الموسوم بـ(حرية الاعتقاد في الإسلام ومعترضاتها: القتال، الذمة، والجزية، وقتل المرتد) تكشف عما حواه من اضطراب وتناقض منهجي، وسوء فهم لعبارات العلماء، وتشبع بما لم يعط، إلى غير ذلك مما يستدعي إعادة الأمور إلى نصابها، ورد التقول على صاحبه.
تحميل

تهافت الإلحاد

هذا الكتاب هو خلاصة البحث والاستطلاعات والحوارات الكثيرة مع الملاحدة للتعرف على واقعهم الاجتماعي والثقافي، ولسماع مشكلاتهم وشبهاتهم ودوافعهم نحو الإلحاد من لسانهم، يهدف لتوعية الشباب ولهداية طالب الهداية، ويكشف تهافت الإلحاد، ويسقط الاقنعة التي يتستر خلفها الملاحدة.
تحميل

الرد المبين على الملحدين (الوصايا العشر للملحدين)

كتاب يرد على الوصايا العشر للملحدين من القرآن الكريم والسنة المطهرة للكاتب: كمال محمود جمعه
تحميل

السبي

رد شامل ومستوفٍ لأغلب جوانب فرية السبي والتي هي بمثابة بطاقة ذهبية تضعها النسوية أو العلماني وأيضا الملحد علي منضدة النقاش متي أثبت له حماقة وسخف مذهبه، فتكون عاطفية الشبهة المنجية له من عقلانية إجاباتك، وما هو إلا استغلال لنقص علمك عن الشبهة لا اكثر بسبب كثرة تفرعاتها وقلة إلمام الغالبية الساحقة بها بالاخص ذوي السن الصغيرة
تحميل

السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة

كتاب في التصوف للعارف بالله مصطفى البكري ضمنه ردوداً على مبتدعي الصوفية الذين ينتهكون حرمة الدين الإسلامي الحنيف حيث كذب دعاويهم وافتراءاتهم وصحح ماوقعوا به من أخطاء
تحميل

عجائب الكفر

كتاب باللغة الألمانية
تحميل

عزيزي الملحد؛ أسئلة الملحدين أمام العقل والعلم- الجزء الأول

عزيزي الملحد.. ماذا حقق لك الإلحاد؟؟ هل أنت سعيد مطمئن أم أنك حائر مضطرب؟؟ ما المردود العائد والعائد عليك من الإلحاد؟؟ وما الجزاء الذي تنتظره؟؟ وما ميزاتك في الخير والشر؟؟ثم أذا ما كان الموت الذي لايشك فيه أحد (ملحد أو مؤمن) فوجدت أن الإله حق وأن الجنة حق وأن النار حق فماذا تفعل وقد خسرت كل شيء؟!
تحميل

قصصي مع الملحدين والمشككين والموسوسين مع بيان طرق إقناعهم وهدايتهم

قصصي مع الملحدين والمشككين والموسوسين مع بيان طرق إقناعهم وهدايتهم ..
تحميل

ما هذا يا ملحد

أيها الملحد، الذي يعيش في ( لا ادري ) قبل أن تنتحر لأنك ترى أن هذا العالم بلا معنى، و أن كما قتل ملايين البشر هو مثل قتل البكتيريا عند غسل اليدين توقف ! و ابحث في اعماق قلبك عن سبب وجودك هنا و سبب تغير العديد من الأعراب الغلاظ الشداد دينهم من الوثنية إلى الإسلام إقرأ و تمعن فماذا ستخسر بما أنك لا تؤمن بوجود حياة ابدية
تحميل

الفيلسوف الملحد على سجادة الصلاة

علاوة علي كونه من الكبار الإعلاميين الذبن أعلنوا الحادهم بالكتب ، وتقلب بين الكفر والإيمان .. حتى عاد إلى الفطرة قال عنه الشاعر كامل الشناوى «إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة» أى أنه كان وقتها باحثا عن الله وليس منكرا له سبحانه"
تحميل

ملحد زينب

رواية ملحد زينب للمؤلف محمود عمر
تحميل

نبذ إلحادك

كتاب باللغة الإنجليزية
تحميل

الإلحاد في تهافته

هذا الكتاب هو خلاصة البحث والاستطلاعات والحوارات الكثيرة مع الملاحدة للتعرف على واقعهم الاجتماعي والثقافي، ولسماع مشكلاتهم وشبهاتهم ودوافعهم نحو الإلحاد من لسانهم، يهدف لتوعية الشباب ولهداية طالب الهداية، ويكشف تهافت الإلحاد، ويسقط الاقنعة التي يتستر خلفها الملاحدة.
تحميل

السيف الحاد لقطع الإلحاد

كتاب في الرد على بعض شبهات الملحدين وإبطالها
تحميل

آدم - أبوالبشر حقيقة - لا أسطورة

يتضمن هذا الكتاب رد علمي شامل على كتاب (أبي آدم) قصة الخليقة بين الأسطورة والحقيقة لمؤلفه الدكتور "عبد الصبور شاهين" الذي رأى أن آدم هو أبو الإنسان وليس أبا البشر الذين هم خلق حيواني كانوا قبل الإنسان، فاصطفى الله تعالى منهم آدم ليكون أبا الإنسان.
تحميل

الرد الجميل على المشككين في الاسلام من القرآن والتوراة والإنجيل والعلم

هذه دعوة قرآنية للتخلص من الهوى وسائر المؤثرات الصارفات عن الإخلاص في طلب الحق، ولتحرير العقل في طلبه، ولتحرير الإرادة؛ لتمضي في السبيل القويمة. وهذا وعد موعود بإظهار الإسلام، وهو الحق، وقد صدق الوعد، وسطر على صفحات التاريخ، وبرز في وقائع الدهر شاهد صدق، وآيةً ناطقة، لا تدع شبهة زيغ، لمن أخلص قلبَه لطلب الحق والحقيقة.
تحميل

حقائق وشبهات حول السماحة الاسلامية وحقوق الانسان

يتناول المؤلف في هذا الكتاب مفهوم السماحة في الإسلام، مقررًا أن تاريخ السماحة بدأ بالإسلام، مستعرضًا التطبيق الإسلامي للسماحة، ثم يبرز نصوص الوثائق المقرر لسماحة الإسلام وهي الوثيقة المدنية مع اليهود، ومعاهدة النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران...
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

هزم الملاحدة بسؤال واحد الرد على كل ملحد

تشغيل الفيديو

ظاهرة الالحاد

تشغيل الفيديو

كيف تحاور ملحداً ؟

تشغيل الفيديو

ضعف الخطاب الديني

تشغيل الفيديو

الإلحاد 2 – رأيي بعد سنتين

تشغيل الفيديو

إلحاد – atheism – في 3

تشغيل الفيديو

الدحيح يعترف بنشر الإلحاد

تشغيل الفيديو

السبب الحقيقي وراء هروب شريف جابر من مصر

تشغيل الفيديو

الصواعق المحرقة على مجدد عقيدة أهل الضلال والزندقة

تشغيل الفيديو

القنوات الوثائقية و الالحاد

تشغيل الفيديو

الليبرالية هي نبتة إلحادية

تشغيل الفيديو

حوار الشيخ ابن عقيل الظاهري والملحد عبدالله القصيمي

تشغيل الفيديو

صديقي الملحد أو المسيحي

تشغيل الفيديو

هكذا يغتالوننا

تشغيل الفيديو

وبدأت القوافل تنضم إلى شحرور

تشغيل الفيديو

إذا أردت أن تعرف كل شيء عن الإلحاد وتهدم شبهات أي ملحد

تشغيل الفيديو

جهود علماء الأمة في مواجهة الإلحاد

تشغيل الفيديو

علي دعوة يجيب على أصعب أسئلة الملحدين !

تشغيل الفيديو

كيف يهاجم الملحد وكيف تتعامل معه

تشغيل الفيديو

ذاكر نايك والثعبان المسرسع

تشغيل الفيديو

كشف شبهات الإلحاد

تشغيل الفيديو

مسلمون بالإكراه… والجنة سيدخلها من لا يؤمن بها

تشغيل الفيديو

الحرية.. مفهوم نسبي عبر التاريخ

تشغيل الفيديو

الحرية.. لم تكن شرا محضا في ذاتها

تشغيل الفيديو

الرد على إفتراءات محمد شحتور بإباحة الفطر في رمضان

تشغيل الفيديو

دلائل الطفل الغافل!

تشغيل الفيديو

أسباب وعلاج المثلية لدى الذكور

تشغيل الفيديو

التفريق بين الهداية والإقناع

تشغيل الفيديو

فهم طبيعة السائل ومنطلقاته الفكرية

تشغيل الفيديو

آداب الجدل وقواعده

تشغيل الفيديو

أكثر المغالطات المنطقية شيوعًا

تشغيل الفيديو

كيف تحاور متأثرا بالأفكار الإلحادية؟ 1

تشغيل الفيديو

كيف تحاور متأثرا بالأفكار الإلحادية؟ 2

تشغيل الفيديو

الرد على الدحيح

تشغيل الفيديو

الرد على شبهة سبايا أوطاس || ومقدمة قصيرة عن ملك اليمين

تشغيل الفيديو

هل ينشر الدحيح الإلحاد ؟

تشغيل الفيديو

صدمة مصادر الدحيح

تشغيل الفيديو

هل ينشر الدحيح العلم ؟ أم الإلحاد والخرافات ؟

تشغيل الفيديو

كشف الحقائق

تشغيل الفيديو

كيف تحاور ملحدا ؟!

تشغيل الفيديو

ما القواعد التي يحتاجها المحاور أثناء حواره مع الملحد ؟

تشغيل الفيديو

تهافت الملحد ستيفن هوكينج

تشغيل الفيديو

الحكمة من سجود إبليس لآدم

تشغيل الفيديو

كومبارس الإلحاد | شريف جابر |

تشغيل الفيديو

الرد على التفسير المادي لحروب النبي والصحابة

تشغيل الفيديو

مع إيمان أبوطالب وملف الإلحاد

تشغيل الفيديو

الرد على إبراهيم عيسى وحد السرقة

تشغيل الفيديو

أمان النصارى في شريعة الإسلام دون مداهنة في الدين

تشغيل الفيديو

حوار الإيمان والإلحاد 1

تشغيل الفيديو

حوار الإيمان والإلحاد 2

تشغيل الفيديو

حوار الإيمان والإلحاد 3

تشغيل الفيديو

حوار الإيمان والإلحاد 4

تشغيل الفيديو

بنو قريظة ومن يعلم ليس كمن لا يعلم

تشغيل الفيديو

رد الشبهات عن جهاد الطلب

تشغيل الفيديو

ريتشارد دوكينز بين الحيرة والتردد .. والهذيان !

تشغيل الفيديو

ريتشارد دوكينز ولورانس كراوس الملحدان ينفيان حرية الإرادة

تشغيل الفيديو

الإلحاد و الدياثة

تشغيل الفيديو

عظمة علماء المسلمين والفلك وأسماء الكواكب والنجوم 

تشغيل الفيديو

عقيدة إبراهيم عليه السلام كما ذكرها القرآن الكريم

تشغيل الفيديو

مقارنة بين الفتوحات الإسلامية وجرائم غير المسلمين

تشغيل الفيديو

قصة القرآنيين

تشغيل الفيديو

الرجل ذو السروال الأحمر

تشغيل الفيديو

ممارسة شيطانية منتشرة في بيوتنا من تحت عباءة البوذية

تشغيل الفيديو

الانفجار المعلوماتي الكامبري

تشغيل الفيديو

مايكل كريمو يفضح التلاعب في أعمار الكائنات الحية والإنسان

تشغيل الفيديو

مفهوم الحرية!

تشغيل الفيديو

نفاق العلمانية بين الإسلام والنصرانية

تشغيل الفيديو

الإلحاد || ( درس هام جدا )

تشغيل الفيديو

وداعًا ستيفن هوكينج

تشغيل الفيديو

المنهجية المثالية لإقناع الملحد

تشغيل الفيديو

إجابة أسئلة

تشغيل الفيديو

الملحد ريتشارد دوكينز يقول إنه لا يمكن معرفة أصل الحياة على وجه الحقيقة

تشغيل الفيديو

لماذا يحاسبنا الله على ما كتبه علينا ؟

تشغيل الفيديو

هل من حق الملحد أن يحتج بإرادة الله وقدره على كفره

تشغيل الفيديو

مفهوم السماء في القرآن وما حوله من شبهات

تشغيل الفيديو

ما المقصود بكون السماء سقفا محفوظا في القرآن

تشغيل الفيديو

لماذا الكافر ينبغي عليه البحث عن الدين الحق بينما المسلم لا ينبغي له ذلك

تشغيل الفيديو

ستيفن هوكينج والهراء !!

تشغيل الفيديو

لماذا هاجم الملاحدة أنتوني فلو بهذه الشراسة ؟

تشغيل الفيديو

عقيدة الملحد أنه لا ثمّ إلا المادة

تشغيل الفيديو

ما الرد على من يقول : قدم ورقة علمية واهدم النظرية الفلانية ؟

تشغيل الفيديو

ارجع لفطرتك

تشغيل الفيديو

لقاء مع الحسن البخاري

تشغيل الفيديو

لقاء مع د مهاب السعيد

تشغيل الفيديو

اسئلة واجوبة حول الالحاد

تشغيل الفيديو

دائرة مفرغة من الشك

تشغيل الفيديو

كيف يفكر الملحد

تشغيل الفيديو

مربوب | د مهاب السعيد | 2 إلحاد

تشغيل الفيديو

اسئلة الانسان البدائي للملحدين

تشغيل الفيديو

لقاء مع د هيثم طلعت   

تشغيل الفيديو

هل السنة وحي؟ رد مفحم على المشككين

المقالات

اتهام مريم – عليها السلام – بالزنا

مضمون الشبهة:

يرمي اليهود – عليهم لعنة الله – مريم – عليها السلام – بالبهتان، وأنها حملت بولدها من الزنى، وزاد بعضهم وهي حائض، قال سبحانه وتعالى: )قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28)( (مريم).

وجها إبطال الشبهة:

1)  في كلام عيسى – عليه السلام – في المهد تبرئة لأمه مما رميت به.

2)  طهارة مريم وحفظها لفرجها، وتوضيح معنى نفخ جبريل في درعها وكيفية الحمل، فضلا عن اصطفاء الله لها.

التفصيل:

أولا. البراءة القاطعة لمريم – عليها السلام – في كلام عيسى – عليه السلام – في المهد:

لقد رمى هؤلاء اليهود – لعنهم الله – مريم بالبهتان، وهو الزنا، واتهموها به، قال سبحانه وتعالى: )قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28)( (مريم). وهارون كان أخا صالحا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ، أي ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك. وقولهم: )ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28)( (مريم)، عنوا بهذا الكلام الكناية عن كونها أتت بأمر ليس من شأن أهلها، أي أتت بسوء ليس من شأن أبيها، وبغاء ليس من شأن أمها فهم أرادوا ذمها وأنها مبتكرة الفواحش في أهلها فأتوا بكلام صريح ثناء على أبويها مقتض أن شأنها أن تكون مثل أبويها[1].

فهم يقولون لها: إنك من أهل بيت يعرفون بالصلاح والطهر والعبادة، والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟! وهكذا رموها بالفاحشة بغير ثبت ولا برهان.

وقد رد عيسى – عليه السلام – عليهم فريتهم وبرأ أمه مما نسب إليها من الفاحشة، فقال متكلما في المهد: )قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)( (مريم). وكانت هذه المعجزات عند ولادة عيسى كافية في الدلالة على براءتها من كل عيب.

ثانيا. عفة مريم وطهارتها واصطفاء الله – عز وجل – لها يتنافى مع اتهام اليهود لها:

أكد القرآن براءة مريم – عليها السلام – مما اتهمها به هؤلاء الملعونون، قال سبحانه وتعالى: )ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12)( (التحريم)، وقال أيضا: )والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91)( (الأنبياء)، ومعنى أحصنت فرجها؛ أي: حفظته وصانته، والإحصان: العفاف، وقد أرسل الله جبريل – عليه السلام – إليها في صورة بشر سوي، وأمره الله – عز وجل – أن ينفخ بفيه في جيب درعها فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى – عليه السلام – وبهذا أكد الله – عز وجل – أن إحصانها كان أكثر ما يكون لفرجها، فلم يأتها منه أحد، وصانته عن مقارفة الفواحش، فظلت عذراء لما حملت، وينفرد القرآن بأن ذكر أن الحمل كان بالنفخ في الفرج وليس بالمجامعة والإيلاج؛ لأن الفرج هو الطريق إلى الرحم الذي يكون فيه الحمل، والنفخ هو مجرد أن يتنفس جبريل – عليه السلام – بكلمة )كن( فكان أن حملت، ويقال: إن جبريل تنفس في جيب قميصها فوصل ذلك إلى فرجها، والجيب يسمى فرجا، كما في قوله سبحانه وتعالى: )وما لها من فروج (6)( (ق)، والفرج هو الشق، والجيب شق أو فرج في الثوب.

وبين الله – عز وجل – في آيات أخرى أنه اصطفى مريم – عليها السلام – واختارها على نساء العالمين بطاعتها إياه وفضلها عليهن، وطهرها من الأدناس، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42)( (آل عمران). والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى، وذلك لما لابس مولد عيسى – عليه السلام – من شبهات لم يتورع اليهود أن يلصقوها بمريم الطاهرة، معتمدين على أن هذا المولد لا مثال له في عالم الناس فيزعموا أن وراءه سرا لا يشرف؟!

الخلاصة:

اشتهرت السيدة مريم – عليها السلام – بالعفة والطهارة والإيمان بين قومها، وما كان من الحمل بعيسى، فبأمر من الله لجبريل – عليه السلام – أن ينفح في درعها؛ فنزلت النفخة إلى فرجها، فكان الحمل في رحمها معجزة من الله عز وجل.

أتم الله – عز وجل – معجزة الحمل بغير زوج للسيدة مريم، فأنطق الله وليدها ليبرئ أمه مما رماها به اليهود، فكان ذلك شاهدا حقا على طهارتها وأن ما حدث لها معجزة.

إذا كانت مريم – عليها السلام – كما يدعي هؤلاء، فلم كان اصطفاء الله لها، بأن تكون أما لرسول من بني إسرائيل؟!

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (النساء/ 156، مريم/ 27، 28).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (مريم/ 30، التحريم/ 12، آل عمران/ 42، الأنبياء/ 91).

[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج8، ج18، ص96.

المصدر

ادعاء اليهود أن الكافرين أهدى سبيلا من المؤمنين

مضمون الشبهة:

ادعى اليهود أن الكفار – على ما هم فيه من الجهل والكفر – أفضل وأهدى سبيلا من الذين آمنوا، وأن دينهم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: )ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51)( (النساء).

وجها إبطال الشبهة:

1) بخل اليهود وأثرتهم وشحهم وحبهم لأنفسهم فقط هو الذي جعلهم يقفون مع الباطل ضد الحق؛ ومن ثم فقد لعنهم الله.

2) اليهود يعلمون من كتابهم أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – ومن معه على حق، ولكنهم يكتمون ذلك حسدا وعصبية أن يكون النبي من العرب.

التفصيل:

أولا. شح اليهود وأثرتهم جعلتهم يقفون مع الباطل ضد الحق:

نقض اليهود عهدهم مع النبي – صلى الله عليه وسلم – واتحدوا مع المشركين على استئصال المسلمين، وذلك هو تفضيلهم للمشركين على المؤمنين، وهذا من ضلالهم وجهلهم وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب الله الذي بين أيديهم، فهم يقولون للكفار إنكم أولى بالحق من المؤمنين وإن دينكم أعدل وأصوب من دين المؤمنين، ولهذه الآية سبب نزول وهو ما رواه الطبري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت حبر أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة[1] وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. فأنزل قوله عز وجل: )إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر)، وأنزل: )ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت( (النساء: ٥١).

وبين الله – عز وجل – منذ زمن بعيد أن هؤلاء – عليهم لعنة الله – بعيدون عن رحمته وعنايته، وسوف يكون الانكسار والخذلان حليفهم فلن ينصرهم أحد من دون الله، وهذه سنة الله – عز وجل – في خلقه، ولا سبيل لأحد في تغيير سنته عز وجل، قال عز وجل: )أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)( (النساء).

ثم بعد أن وبخهم الله على إيمانهم بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين يوبخهم الله على بخلهم وشحهم وأثرتهم، قال عز وجل: )أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53)( (النساء)، والمعنى: أنهم ليس لهم نصيب من الملك كما لهم نصيب من الكتاب، بل فقدوا الملك كله بظلمهم وطغيانهم، ثم لو كان لهم نصيب من الملك لسلكوا فيه طريق البخل والأثرة بحصر منافعه ومرافقه في أنفسهم فلا يعطون الناس نقيرا منه، أي:لو شيئا حقيرا تافها صغيرا، وهذا كقوله عز وجل: )قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق( (الإسراء: ١٠٠)، فهؤلاء اليهود أصحاب أثرة شديدة وشح مطاع يشق عليهم جدا أن ينتفع منهم أحد من غير أنفسهم، فإذا صار لهم ملك حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، فكيف لا يشق عليهم أن يظهر نبي من العرب ويكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل؟ وهذه الصفة لازمة لهؤلاء اليهود.

ثانيا. علم اليهود أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه على حق، بيد أنه الحسد وكتمان الحق:

ثم بين الله حقيقة مقولتهم السابقة وتفضيلهم المشركين على المؤمنين مع أنهم يعلمون من كتبهم أن محمدا ومن معه على الحق، وأوضح الله أن قولهم هذا ناشئ عن داعية الحسد والغرور بأنفسهم، فقد كانوا يطمعون أن يكون محمد – صلى الله عليه وسلم – من بني إسرائيل وليس من العرب، قال عز وجل: )أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله( (النساء:54)، والحاصل أن حال اليهود يومئذ كان لا يعدو هذه الأمور الثلاثة:

إما غرور خادع يظنون معه أن فضل الله محصور فيهم ورحمته تضيق عن غير شعب إسرائيل من خلقه.

وإما حسبان أن ملك الكون في أيديهم فهم لا يسمحون لأحد بشيء منه، ولو كان حقيرا كالنقير.

وإما حسد العرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي ظهرت مبادئ عظمته.

وهذا الحسد هو من سماتهم التي أكدها عليها القرآن في غير ما موضع، قال عز وجل: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق( (البقرة: 109).

وهذا الحسد هو من عند أنفسهم فلم يأمرهم الله أن يحسدوا الناس على الإيمان.

قال تعالى: )الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم( (البقرة: 146)، ذكر في الآية السابقة الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن ما جاء به النبي هو الحق من ربهم، ولكنهم ينكرون ويمكرون، وذكر في هذه ما هو الأصل والعلة في ذلك العلم، وذلك الإنكار وهو أنهم يعرفون النبي – صلى الله عليه وسلم – بما في كتبهم من البشارة به، ومن نعوته، وصفاته التي لا تنطبق على غيره وبما ظهر من آياته وآثار هدايته، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولون تربيتهم وحياطهم حتى لا يفوتهم من أمرهم شيء، قال عبد الله بن سلام – رضي الله عنه – وكان من علماء اليهود وأحبارهم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت، فقد اعترف من هداه الله من أحبارهم كهذا العالم الجليل، وتميم الداري من علماء النصارى أنهم عرفوه – صلى الله عليه وسلم – معرفة لا يتطرق إليها الشك: )وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146)( (البقرة)، إنه الحق الذي لا مرية فيه، فماذا يرجى منهم بعد هذا؟ وذهب بعض المفسرين إلى الرسول مع تقدم ذكره في الآيات، ومع ما يعهد من الاكتفاء بالقرائن في مثل هذا التعبير، وقد أسند هذا الكتمان إلى فريق منهم إذ لم يكونوا كلهم كذلك، فإن منهم من اعترف بالحق وآمن واهتدى به، ومنهم من كان يجحده عن جهل ولو علم به لجاز أن يقبله، وهذا من دقة حكم القرآن على الأمم بالعدل[2].

بل إن اليهود كانوا يخبرون أهل المدينة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم – قبل مبعثه – أن هذا مكان وهذا زمان بعثته وهذه أوصافه، ثم لما كان الرسول من العرب كفروا به تعصبا أنه لم يكن من اليهود قال تعالى: )ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)( (البقرة).

الخلاصة:

تفضيل اليهود للكفار على المسلمين مرده إلى أنهما – اليهود والكفار – اتحدا على استئصال شأفة المسلمين، لعلمهما أن دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – حق سوف يقضي على ما هم فيه من العزة والسلطان.

العصبية والبخل والأثرة من أهم صفات اليهود، وهي التي دفعتهم إلى هذا الموقف من المسلمين ورسولهم، فضلا عن حسدهم للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والملك الذي بدت مبادئ عظمته في الظهور.

 (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (النساء/ 51).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (النساء/ 52: 54، الكوثر/ 3، الإسراء/ 100، البقرة/ 109).

[1]. السدانة: خدمة الكعبة.

[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج2، ص20.

المصدر

التشكيك في صيام مريم العذراء

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المتوهمين في صيام مريم العذراء، ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )فكلي واشربي وقري عينا( (مريم: 26)، قائلين: كيف يتفق هذا مع قوله: )فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا( (مريم: 26). ويتساءلون: كيف يستقيم قول مريم إذا مر بها أحد: )إني نذرت للرحمن صوما(، وهي الآكلة الشاربة، فأين هذا الصوم إذن؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  إن الصيام المقصود في كلام مريم، هو صيامها عن التحدث مع قومها؛ إذ حمل الصوم على المعنى اللغوي لا الشرعي.

2)  المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( أي: قولي ذلك بالإشارة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام.

التفصيل:

أولا. الصوم في الآية هو الصوم عن الكلام، وليس عن الطعام والشراب:

فالمقصود بالصوم في الآية: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( هو الصوم بمعناه اللغوي، وهو الإمساك عن أي فعل أو قول كان، وكل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم[1]. فالله – سبحانه وتعالى – يقول لمريم: إنك إذا رأيت أحدا ستدخلين معه في جدل؛ لأن المسألة التي أنت عليها لن تستطيعي أن تأتي بمبررات لها؛ لأن امرأة تحمل وتلد دون أن يمسها رجل كلام غير مقبول عند الناس، ولن يصدقوه، وسيتكلمون معك بسفاهة وجهل، فعليك بالصمت، وإذا رأيت أحدا من البشر، وسألك عما أنت فيه فقولي: إني نذرت لله صوما عن الكلام، فلن أكلم أحدا[2].

ويؤيد هذا المعنى قولها مؤكدة نذرها: )فلن أكلم اليوم إنسيا (26)( (مريم)، وقد ظهرت براءتها، وأعلنت على لسان وليدها – عليه السلام – فإن كانت هي قد أمسكت عن الكلام بأمر الله – سبحانه وتعالى – فقد أنطق الله ابنها ليبرئها ربها عز وجل.

ثانيا. المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما( أي: قولي ذلك بالإشارة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام:

هناك العديد من الأدلة على قيام الإشارة مقام الكلام؛ فمن ذلك ما سمع في كلام العرب من إطلاق الكلام على الإشارة؛ كقول أحد الشعراء:

إذا كلمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدموع البوادر

ومن الأدلة على قيام الإشارة مقام الكلام أيضا، قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فقال – صلى الله عليه وسلم – لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة»[3]. فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات؛ وهو الذي يعصم به الدم والمال، وتستحق به الجنة، وينجي من النار. ومن ذلك ما جاء في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا – ثم عقد إبهامه في الثالثة – فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين»[4]، فهذا الحديث صريح في أنه – صلى الله عليه وسلم – نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث: وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل ذلك[5].

يجوز أن هذه الكلمة (فقولي) هي التي تقطع بها مريم الكلام مع القوم، أو يجوز أن تكون الدلالة بالإشارة، والدلالة بالإشارات أقوى الدلالات وأعمها، ولذلك فالأخرس حين يكون في بيئة تفهمه يستطيع أن يتفاهم مع الناس، ويفهم الناس منه ما يريد قوله عن طريق الإشارات[6].

الخلاصة:

المراد بالصوم المذكور في قوله سبحانه وتعالى: )إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)( (مريم) الصوم بمعناه اللغوي، وهو “الإمساك عن أي فعل، أو قول كان، وكل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم”، وليس المقصود الصوم عن الطعام والشراب، وصيام مريم كان عن الكلام مع قومها؛ لعدم قدرتها على إقناعهم، ولأن ذلك أمر سيطول الجدال فيه.

المراد بقوله سبحانه وتعالى: )فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا(، أي: قولي ذلك بالإشارة المفهمة، فالإشارة تنزل منزلة الكلام، ومن ذلك ما سمع في كلام العرب من إطلاق الكلام على الإشارة كثيرا، وما ورد في السنة النبوية الشريفة، مما يؤيد هذا المعنى المراد.

(*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.Islamiyat.com

[1]. مختار الصحاح، أبو بكر الرازي، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415 هـ/ 1995م، مادة: صوم. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1997م، مادة: صوم.

[2]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص426.

[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (1227).

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2551).

[5]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1992م، ص275: 278.

[6]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص426.

المصدر

دعوى الاكتفاء بما كان عليه الآباء والأسلاف من معتقدات وعبادة ولا حاجة لمعتقدات أو شعائر جديدة

مضمون الشبهة:

ادعى الضالون والكفرة من المشركين أن ما عليه آباؤهم من عبادة الأصنام والأوثان هو المعتقد الصحيح الذي هم به مؤمنون وله متبعون، وعلى آثاره مقتفون، ومن ثم فهم ليسوا في حاجة إلى أية معتقدات جديدة يأتي بها الإسلام ورسوله. قال تعالى: )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا( (البقرة: 170)، وقال تعالى: )بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)( (الزخرف).

وجها إبطال الشبهة:

1)  التقليد على إطلاقه مذموم، فما بالنا إذا كان تقليدا في الجهل والسفه والضلال!، فلا شك أن يكون أشد ذما.

2) القرآن الكريم دائم الدعوة إلى النظر والتأمل والتعقل في المقارنة بين دعوة الرسل وما فيها من الصدق والحق، وما كان عليه الآباء من ضلال وعي.

التفصيل:

أولا. التقليد مذموم، ويكون أشد ذما في تقليد الجهل والسفه والضلال:

هذه شبهة واهية تعلق بها هؤلاء المشركون عندما أمروا باتباع ما أنزل إليهم من ربهم وعدم اتباع أولياء من دونه، فقالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك والعقائد والمذاهب، وحسبنا ما تقلدناه من ساداتنا وكبرائنا وشيوخ علمائنا )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا( (لقمان: 21).

وقد رد الله عليهم مقولتهم هذه وأبان عن فساد مذهبهم بقوله )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة)، وقوله أيضا: )أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)( (المائدة) والمعنى: أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء، ولو كان آباؤهم لا يفهمون شيئا ولا يعقلون شيئا من عقائد الدين ولا يهتدون إليه فكيف يتبعونهم والحال هذه، لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.

وكأن القرآن بذلك أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب ولا يعقل الحجج والدلائل، ولو كان لهؤلاء المقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية لتنفيرهم من التقليد الأعمى للآباء والكبراء، فإنهم في كل ملة، وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألفوه مما وجدوا آباءهم عليه، كما حكى القرآن عن قوم إبراهيم في عبادتهم للأصنام من دون الله: )قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون (22)( (الزخرف)، وكقول قوم موسى لما جاءهم الحق: )فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (36)( (القصص)، ومثل ذلك قول قوم نوح لما أمرهم بعبادة الله وحده: )ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24)( (المؤمنون(.

وحسبك بهذا القول شناعة، إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس، وإن كبر عقله وحسن سيره، فما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، وما من مهتد إلا ويحتمل أن يضل في بعض سيره، فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله إلى اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل، على أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجب أن ينفره عن التقليد قوله سبحانه وتعالى: )أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة)، فإن هذا حجة عقلية لا تنقض.

ولذلك وجدنا القرآن يسفه أحلامهم ويضلل آباءهم حينما ذكروا أنه لا حجة لهم سوى صنيع آبائهم، فقال لهم كما قال إبراهيم – عليه السلام – لقومه مقيما الحجة عليهم: )لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54)( (الأنبياء).

أي أن الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم، ولهذا قال – عز وجل – أيضا: )أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21)( (لقمان).

وهذه الحجة الباطلة شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين قد استووا فيه كما استووا في مثاره وهو النظر القاصر المخطئ، قال عز وجل: )وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)( (الزخرف)، كأنهم قد أوصى بعضهم بعضا بهذه المقولة، كما قال الله في موضع آخر: )أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53)( (الذاريات) أي: بل قد اشتركوا في سببه الباعث عليه وهو الطغيان.

ثانيا. دعوة القرآن لأهل الشرك أن يمعنوا النظر فيما يعتقد آباؤهم وما جاء به النبي عليه السلام:

من ردود القرآن عليهم أيضا أن دعاهم إلى النظر والتعقل فيما اتبعوا فيه آباءهم، لعل ما دعاهم إليه الرسول أهدى منهم، إذ كان عليهم أن يقارنوا بين ما جاءهم به الرسول وبين ما تلقوه من آبائهم، فإن شأن العاقل أن يميز ما يلقى إليه من الاختلاف ويعرضه على معيار الحق، وشأن المقلد أن يغتر بأحوال من سبقوه فلا يتأمل في مصادفة أحوالهم للحق، وفي ذلك يقول الحق – سبحانه وتعالى – لنبيه صلى الله عليه وسلم: )قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون (24)( (الزخرف).

وهذا فيه من نقض حجتهم الواهية ما فيه؟ إذ لو كانوا عقلاء حقا لأقاموا الموازنة بين الأمرين، لكنهم لعنادهم وضلالهم وضعف حجتهم ثبتوا على دين آبائهم لا ينفكون عنه، وإن كان ما جاء به الرسول أرشد وأهدى، وما ذاك إلا بسبب التقليد المذموم.

ولذا يعقب السياق القرآني على موقفهم ذاك تعقيب بما فيه من التعجب والتأنيب )أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)( (المائدة)، وليس معنى هذا الاستنكار لاتباعهم لآبائهم ولو كانوا لا يعلمون شيئا ولا يهتدون أن لو كان يعلمون شيئا لجاز لهم اتباعهم وترك ما أنزل الله وترك بيان الرسول! إنما هذا تقرير لواقعهم وواقع آبائهم أو ما شرعوه لأنفسهم. ولا يركن أحد إلى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله، إلا وهو لا يعلم شيئا ولا يهتدي!

وليقل عن نفسه أو ليقل عن غيره ما يشاء: إنه يعلم وإنه يهتدي فالله سبحانه أصدق، وواقع الأمر يشهد أنه لا يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول! فوق أنه مفتر كفور[1]!

الخلاصة:

الإسلام رسالة التحرر الفكري، والانطلاق الشعوري لا تقر التقليد المزري، ولا تقر محاكاة الآباء والأجداد اعتزازا بالإثم والهوى. فلا بد من سند، ولابد من حجة، ولابد من تدبر وتفكير، ثم اختيار مبني على الإدراك واليقين.

دعا الإسلام هؤلاء المقلدين إلى النظر والعبرة فيما جاء النبي به – صلى الله عليه وسلم – وما يقولونه عن الآباء، فإن شأن العاقل أن يميز بين الغث والسمين – إن كان يريد الصواب – وسوف يجدون أن ما يدعونه باطل لا أساس له.

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 170، المائدة/ 104، الزخرف/ 22، 23، الأنبياء/ 53، المؤمنون/ 24، سبأ/ 43، لقمان/ 21، القصص/ 36).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 170، المائدة/ 104، الأنبياء/ 54، 56، لقمان/ 21، الزخرف/ 23، 24).

[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص991.

المصدر

دعوى أن رغد العيش وسعة المنازل دليل على صحة الدين والمعتقد ورضا الرب عز وجل

مضمون الشبهة:

يحتج الكفار والمشركون على صحة ما هم عليه من الدين – من وجهة نظرهم – بأنهم أحسن مقاما من الذين آمنوا وأجمل منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وأكثر واردا وطارقا وأعظم أثاثا وأحسن صورا، ويقولون: كيف نكون بهذه المثابة وتلك المنزلة الرفيعة ثم يكون ديننا باطلا؟! إن رفعتنا على المؤمنين في هذه الأمور لأكبر دليل على صحة ما نحن عليه من ديننا ومعتقداتنا. وعن رضا الرب – عز وجل – عنا. قال تعالى: )وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35)( (سبأ).

وجوه إبطال الشبهة:

1)  قياس صحة الإيمان بكثرة الأموال قياس باطل، فليس كل من كثر ماله كان دينه حقا.

2) القرب من الله ليس بكثرة الأموال والأولاد، إنما بالتقوى والعمل الصالح، فقد أهلك الله كثيرا من الأمم التي كانت أغنى من مشركي العرب، أهلكهم بذنوبهم ولم ينظر إلى أموالهم وأولادهم.

3) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر امتحانا واختبارا، فضلا عن أنه قد تكون سعة المال استدراجا من الله لهؤلاء المستكبرين، كما حدث مع كثيرين وعلى رأسهم قارون عليه لعنة الله.

التفصيل:

أولا. قياس صحة الإيمان بكثرة الأموال والأولاد قياس باطل، فليس كل من كثر ماله كان دينه حقا:

اغتر المشركون من أهل مكة من السادة والكبراء، والأشراف بكثرة أموالهم وأولادهم وما أعطوا من الترف وسعة العيش، واتخذوا ذلك دليلا لصحة ما هم عليه من باطل، وبطلان ما عليه المسلمون من الإسلام، فقاسوا صحة الدين والمعتقد على كثرة الأموال والأولاد، وهو قياس باطل وزعم مردود، كما استدلوا بالغنى وكثرة الأموال والأولاد التي تقربهم إلى الله – بزعمهم – على انتفاء العذاب عنهم، فحصروا بذلك وسائل القرب من الله في وفرة الأموال، وكثرة الأولاد.

وهذا ليس شأنهم وحدهم، بل هو شأن كثير من الأمم المكذبة بما جاء به الرسل، وحال كثير من المترفين والأغنياء والكبراء، والسادة المعاندين لدعوة الأنبياء، فقوم نوح – عليه السلام – كما حكى عنهم القرآن اعترضوا على الإيمان به بقولهم له: )أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111)( (الشعراء)، وقالوا أيضا: )ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي( (هود: 27)، وقوم صالح من المستكبرين يعترضون على دعوته كما حكى القرآن عنهم قائلين: )للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76)( (الأعراف)، فليس في هذا جديد بل هذه سنة الرسل في أقوامهم أن يكذبهم المترفون ويتبعهم الضعفاء، قال عز وجل: )وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (23)( (الزخرف)، وقال أيضا: )وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34)( (سبأ).

ويحاول هؤلاء المشركون المترفون إبطال حقيقة الإسلام بدليل سوفسطائي مردود؛ حيث يجعلون كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله – عز وجل – ومظنة عناية عنده، وأن ما هم عليه هو الحق، وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين وما هم عليه من ضعف وقلة عدد وشظف عيش ليستدلوا على أنهم غير محظوظين عند الله، وهذا من تمويه الحقائق حيث لم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد، وهذا مبدأ سوفسطائي وهمي خطير يقول به أهل العقائد الضالة ومرجعه قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس يصادف الصواب تارة، ويخطئه تارات أخرى.

وقد رد الله – عز وجل – عليهم شبهتهم هذه بعدة ردود مقنعة لكل ذي عقل ولب سليم، فمن ذلك أنه بين لهم أن الله هو الذي يبسط الرزق ويوسعه أو يقدره ويضيقه ولا ارتباط لهذا التوسيع والتضييق بمسألة الهداية والضلال، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيقه على المطيع، وربما عكس، فلا يغرنكم هذا ولا ذاك فإنكم لا تعلمون، ولذا قال عز وجل: )قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36)( (سبأ)، فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعونها في مواضعها، وهذا الإبطال لدعواهم هذه يسمى في علم المناظرة نقضا إجماليا.

ثانيا. القرب من الله ليس بكثرة الأموال والأولاد وإنما بالتقوى والعمل الصالح:

أما ما توهموه من أن بسط الرزق علامة على القرب عند الله عز وجل، وضد ذلك علامة على ضده، فليس هذا بصحيح، وبهذا أخطأ أحمد بن الراوندي في قوله:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

ولو كان عالما نحريرا حقا لما تحير فهمه وما تزندق، ولكن أداه إلى ذلك ضيق أفقه وعطن فكره.

فأبطل الله مقالتهم هذه، وأوضح أنه لا يقرب إلى الله إلا الإيمان والعمل الصالح، فإن الله يعطي المال والدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، لكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن أحب، قال عز وجل: )وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون (37)( (سبأ).

وهذا ارتقاء في الرد من إبطال الملازمة التي توهموها إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضى عند الله عز وجل، وهذا ما يسمى في علم المناظرة نقضا تفصيليا لإبطال دعوى الخصم.

ثم بعد أن أبطل الله مزاعم المشركين في أن تكون الأموال والأولاد بذاتها وسيلة قرب لدى الله – عز وجل – أبان لهم أن المال إن استعمل في طلب مرضاة الرب بالإنفاق فيما أذن فيه الشرع فإن الانتفاع به ثابت بما يجلبه من الثواب وما يدخره الله – عز وجل – للمنفق، فقال – عز وجل – عقب الآيات السابقة: )قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)( (سبأ).

ثالثا. الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا واختبارا فضلا عن كونه استدراجا للمستكبرين كما حدث مع قارون:

ومن اللفتات الطيبة التي نبه عليها الحق – عز وجل – في كتابه بشأن هذه المسألة في موطن آخر ما أرشد إليه القرآن من أن إعطاء الأموال والأولاد لهؤلاء المغرورين ليس لكرامتهم على الله ولا معزتهم لديه، فليس الأمر كما يزعمون ويتوهمون، لقد خاب رجاؤهم وضل مسعاهم، فإنما يفعل بهم ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء، قال عز وجل: )أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)( (المؤمنون)، وقال أيضا: )إنما نملي لهم ليزدادوا إثما( (آل عمران)، وقال: )ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا (17)( (المدثر)، وقال: )لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197)( (آل عمران)، وقال: )نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ (24)( (لقمان)، وقال أيضا: )ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)( (الحجر)، وقال: )فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)( (التوبة).

وأوضح مثال على ذلك ما حدث مع قارون؛ فقد زعم أنه أوتى المال بمهارته وذكائه وليس من فضل الله وتوفيقه، فقد قال مقولة يقولها كل من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه حيث يقول: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي ما أعطي، ولولا أنه عند الله خصيص وذو حظوة ما خوله هذا، ولولا رضا الله عنه ومعرفته بفضله ما أعطاه هذا المال، كما قال الله – عز وجل – مخبرا عن شأن الإنسان عموما في حال جحوده: )فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم( (الزمر: 49)، وتلك مقولة كثير ممن سلف من الأمم ودعوى يدعيها كل جاحد، قال عز وجل: )قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50)( (الزمر).

وقد رد الله عليه هو وأمثاله ادعاءهم هذا، وأبطل زعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وفطنتهم وتدبيرهم، وبين لهم أن هذا من باب الفتنة فليس ما أنتم فيه من خير نتيجة لمساعيكم، بل ما أوتيتم من نعمة إنما آتاكم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكركم وهو فتنة تختبرون بها، قال عز وجل: )بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49)( (الزمر).

فإن سعة الرزق قد تكون استدراجا ومكرا، وتقتيره قد يكون رفعة وإعظاما، وفي هذا عبرة لمن يعتبر من المؤمنين المتفكرين، قال عز وجل: )أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52)( (الزمر).

ومن ردود القرآن في مواضع أخرى ما أنكره الله على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله – عز وجل – عليه في الرزق فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال عز وجل: )أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)( (المؤمنون)، وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، ولذا قال – عز وجل – عقب ذلك: )فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن (16) كلا( (الفجر).

أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله – عز وجل – يعطى المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في كل من الحالين على طاعة الله، إذا كان الإنسان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر.

ومن هنا يبين القرآن أن الرزق قد جعل الله له أسبابا وسننا في هذه الحياة الدنيا، ولذا قال لمن ادعوا أنهم أوتوا المال على علم: )أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر( (الزمر: 52)، فمن ادعى أن الإعطاء دليل الكرامة والاستحقاق والقرب إلى الله فزعمه باطل مردود، وتأويله فاسد مدحض، ولذا قال عز وجل: )وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا( (سبأ: 37)، وقال: )قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (105)( (الكهف).

فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه، ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة؛ لأن الله – عز وجل – أهان الكافر بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق، وهكذا شأن الله في معاملته للناس في هذا العالم، له أسرار وعلل لا يحاط بها، وأهل الجهالة والضلالة، بمعزل عن إدراك سرها بأقيسة وهمية، والأولى لهم أن يطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله، وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها، وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها، أما العلماء فهم يضعون الأشياء في مواضعها ولا يخلطون ولا يخبطون، ولذا أعقب الله الرد على من ادعوا أنهم أوتوا المال بسبب علمهم وذكائهم وحيلهم فقال: )بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49)( (الزمر)، وقال لقارون: )أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا( (القصص: 78)، والمعنى: أو لم يعلم قارون حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي من الكنوز، أن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال، ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ولرضاه عنه لم يكن يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالا؛ لأن من كان الله راضيا عنه فمحال أن يهلكه الله وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا.

الخلاصة:

غرض هؤلاء المشركين من هذه الشبهة إدخال الشك على المستضعفين من المؤمنين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه، ومن قل ماله دل على أن ما هو عليه من دين هو باطل، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المؤمنين غنيا، ولم يعلموا أن الله – عز وجل – نـحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها.

هذه الشبهة طالما أثارتها كثير من الأمم الضالة المكذبة لرسلها، فقوم نوح يقولون له: )قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111)( (الشعراء) وقوم صالح من المترفين يقولون للمستضعفين منهم: )أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه( (الأعراف: ٧٥)س، ويقولون أيضا له: )إنا بالذي آمنتم به كافرون (76)( (الأعراف)، وأهل مكة يقولون: )لو كان خيرا ما سبقونا إليه( (الأحقاف: 11).

يقصدون بذلك المستضعفين من المؤمنين أمثال بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، ونحوهم – رضي الله عنهم – وقد أبطل الله زعمهم وأبان أنه أهلك قرونا كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا، وأجمل منهم منظرا وأحسن أثاثا، وأجمل صورا ومناظر، فأهلكناهم وغيرنا صورهم، وبدلنا النعمة والبهجة التي كانوا فيها لكفرهم واستكبارهم، فقال عز وجل: )وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا (74)( (مريم).

وقد رد الله على هؤلاء شبهتهم في مواضع كثيرة من كتابه وأبان أنها قائمة على حجة موهومة ودليل سوفسطائي مزعوم؛ إذ لم يفطنوا إلى أن أحوال الدنيا في الغنى والفقر مسببة على أسباب قدرها الله ولا علاقة لها بصحة الدين أو بطلان المعتقد، وقد يرزق الله الإنسان رغدا في العيش وسعة في الرزق استدراجا وإملاء، كما قال عز وجل: )إنما نملي لهم ليزدادوا إثما( (آل عمران: 178)، وقال: )ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)( (الأنعام)، وعلى هذا فمقولتهم تلك ناشئة عن غلط في الفهم وفساد في الفكر وخطأ في القياس، وقد فصلنا الرد على هذه الشبهة عند الحديث عن قوله عز وجل: )وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين (35)( (سبأ)، وكذلك عند قوله عز وجل: )وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه( (الأحقاف: 11).

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (فصلت/ 50، مريم/ 73، الأحقاف/ 11، سبأ/ 35، المؤمنون/ 55، 56، القصص/ 78، الزمر/ 49، الفجر/ 15، 16).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (مريم/ 73، 74، آل عمران/ 178، 196، 197، المؤمنون/ 56، الأنعام / 53، 110، القصص/ 78، الزمر/ 5، 52، الفجر/ 17، التوبة/ 55، 85، سبأ/ 36، 37، 39، الأحقاف/ 11، المدثر/ 11: 17).

المصدر

لماذا أمورُ الكفارِ والعصاةِ ميسرةٌ دونَ الطائعينَ؟

الحمدُ للهِ الذي يبسطُ الرزقَ لمن يشاءُ بحكمتِهِ ويقدِرُ، والصلاةُ والسلامُ على نبيّنَا الذي افترشَ الحصيرَ ورضيَ بالقليلِ ولو شاءَ لسألَ ربهُ الكثيرَ..

تضيقُ الحياةُ على بعضِ المؤمنينَ، فيتساءلُ بعضهُمْ: لماذا أجدُ حالَ من جاهرَ بمعاصيهِ قدْ جاءتهُ الدنيا وأنا في ضيقٍ رغمَ صلاتِي وقرآنِي وأذكارِي؟

وفي هذهِ الكلماتِ نحاولُ معاً بإذن اللهِ تسليطَ الضوءِ على زوايا عدّةٍ تُظهرُ أخطاءً في تلكَ النظرةِ، ولعلَّ الكلماتِ تكونُ نوراً بإذنِ اللهِ تعالى للمؤمنِ، فيرَى موضعَ قلبهِ في تلكَ الحياةِ، ويصبرَ ويشكرَ حتى يلقَى اللهَ، ونبدأُ بسمِ اللهِ..

١- التعميمُ المتسرِّعُ:

يقعُ المتسائلُ هنا في مغالطةِ التعميمِ المتسرعِ، وذلكَ حين يرَى بعضَ أمثلةٍ لمنْ يُتَوَسَّمُ فيهمُ الصلاحُ وقدْ صارُوا في ضيقٍ منَ العيشِ بينما يتقلبُ في الرفاهيةِ من اتخذُوا دينهمْ هزواً ولعباً وغرتهمُ الحياةُ الدنيا، ولا يمكنُ لعاقلٍ أن ينكرَ وجودَ تلكَ الأمثلةِ، ولكنْ منَ الغفلةِ أن ننكرَ وجودَ الصالحينَ المنعَمِينَ، وكذلكَ وجودَ الفاسقينَ البائسينَ.

فإنْ قيلَ: كَثُرَ عددُ الفساقِ أولُو الترفِ، نقولُ: ربمَا، ولكنْ ربما أيضاً يكونُ ذلكَ نتاجَ مجتمعٍ لو بحثنا في فُقَرائهِ لوجدنا فيهم منَ الظلمِ الكثيرِ، فيكثرُ في مجتمعٍ صالحُوهُ في مختلفِ فئاتِهِ، والعكسُ بالعكسِ.

٢- الابتلاءُ بالنعمِ:

ثمّةَ ما هو ملتَبِسٌ على كثيرٍ مِنَّا؛ إذْ يظنُّ كثيرونَ أنَّ الفقيرَ والمريضَ مبتلىً بينمَا لا يُبْتَلَى المعافَى الغنيُّ، والحقُّ أنَّ الصنفَ الأخيرَ مبتلىً بالمعافاةِ والغنَى وما هوَ فيهِ من خيرٍ، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون} [سورة الأنبياء].

وقال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الفجر].

فليسَ معيارُ رضَا أو غضبِ اللهِ عنِ الناسِ ما همْ فيهِ من غنىً وسعةٍ أو ضيقِ رزقٍ، ولكنْ على الناسِ أن يتدبرُوا أحوالهُم، فهلْ همْ يكرمُونَ المبتلينَ من اليتامَى؟ وهل يحثُّونَ بعضهمْ بعضاً على إطعامِ المساكينِ؟

إنَّ رضَا اللهِ يُنالُ بمثلِ هذَا، كما قيلَ قديماً: إذا أردتَ أن تعرفَ مقامكَ فانظرْ فيمَ أقامكَ، والفتنُ خطافةٌ والابتلاءُ بالنعمِ ليسَ هيّناً.

وهذا الأمرُ نجدهُ ظاهراً فيما قالهُ ربنا تعالى حكايةً عن نبيهِ سليمانَ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[سورة النمل].

٣- إنمَا هوَ استدراجٌ:

قالَ نبينَا صلى الله عليه وسلم: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ)، فتلك الدنيا فتنةٌ خاطفةٌ، ولا ينجُو من فتنتِهَا إلا من زكَّى نفسَهُ، والاختبارُ ليسَ بالهيّنِ إذ قدْ يُزَيِّنُ للمرءِ نفسِهِ سوءُ عملِهِ بعدَ رؤيتهِ النعمَ تتوالَى عليهِ تترَا، ولكنْ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ” ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ})..

قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [سورة القلم]، وقال سبحانه: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)}[سورة آل عمران]، وقال سبحانه في السورة نفسها: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}.

وقد قصَّ علينا ربُّنا نبأَ قارونَ وكيفَ تمنَّى قومُه لو كانَ لهمْ مثلَ ما لَهُ، ثم رجعُوا عن قولهمْ بعدَ رؤيتهمُ العاقبةَ، ومن لم ينلْ عقابهُ في الدنيا، فقدْ قالَ تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ}.

٤- لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا:

كمْ منْ مجاهرٍ بالمعصيةِ أو كافرٍ قد نالَ شهرةً ونفوذاً ومالاً وما يحسدهُ عليهِ الناسُ، ثمَّ تابَ إلى ربهِ وصارتْ قصتهُ عبرةً وعظةً لما فيها من ثباتٍ وهجرٍ للملذاتِ؟

كَمْ من صاحبِ مالٍ كانَ مفسداً ثمَّ تابَ وأصلحَ وأنفقَ مالهُ في سبلِ الخيرِ؟

لا ينبغِي للمؤمنِ أن يحكمَ على الأمورِ وعلى الناسِ حكمَ من يعلمُ العاقبةَ والخاتمةَ، ولْيَسْأَلِ اللهَ الهدايةَ لمنْ ضلَّ، ولْيَحْرِصْ على تزكيةِ قلبهِ.

٥- وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ:

لو خلقَ اللهُ الناسَ كلَّهُم بعينٍ واحدةٍ إلا القليلَ لمْ يكنْ لهمْ نصيبٌ في رؤيةِ العالمِ، لمَا اعتبرَ الناسُ الأعورَ مبتلَىً، وكذلكَ لوْ جعلَ اللهُ الناسَ يرونَ خلفَ ظهورِهمْ رؤيتَهُم لِمَا بينَ أيديهمْ، لاعتبرَ الناسُ من لا يَرَى إلا أمامهُ -كما هو حالنَا- مبتلىً قد أصيبَ في الرؤيةِ بمصابٍ عظيمٍ؛ فالمقارناتُ تجعلُ لنَا حَكَمَاً يغفلُ عن النعمِ، فلا يمدُّ المؤمنُ عينهُ إلى ما في أيدي الناسِ، ولو تفكَّرَ في نِعَمِ ربهِ عليهِ؛ لظلَّ يردِّدُ قوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)} [سورة النحل].

٦- بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ:

ربنَا يبسطُ الرزقَ ويقْدِرُ، وليسَ لأحدٍ على اللهِ فضلٌ بصلاةٍ أو صدقةٍ، ولكنْ للهِ الفضلُ كلُّهُ إذ أعانَ ويسَّرَ وهدَى وثبَّتَ، فعلى المؤمنِ أن يَحْذَرَ خطواتِ الشيطانِ، ولا يصيبَهُ عُجْبٌ أو تَسَخُّطٌ ظناً منهُ أنَّ ما يطلبهُ حقٌّ، فالمؤمنُ يعبدُ اللهَ ويرجُو اليومَ الآخرَ، ونعوذُ باللهِ أن تكونَ نيَّتُنَا دُنْيَا إن نلناهَا رضِينَا وإلا سخطنَا.

.. وفي النهايةِ ينبغِي تذكيرُ المؤمنِ أنَّ الدنيا ليستْ هيَ الدارُ التي ينشدُهَا، ولكنَهُ يعملُ من أجلِ يومٍ قالَ اللهُ تعالى عنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وها هوَ خيرُ المرسلينَ يفترشُ الحصيرَ وقدْ كان كسرَى وهرقلُ يَتَنَعَّمَانِ، وانظرْ إلى ما قالهُ الفاروقُ عمرُ فيمَا كانَ بينهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وإنَّهُ لعَلى حَصِيرٍ ما بينَهُ وبينَهُ شيءٌ، وتحتَ رأسِهِ وسادةٌ من أَدَمٍ حشوُهَا ليفٌ، وإنَّ عندَ رجليْهِ قَرْظًا مصْبُوبًا، وعندَ رأسهَ أَهَبٌ معلقةٌ، فرأيتُ أثرَ الحصيرِ في جَنْبِهِ فبكيتُ، فقالَ: (ما يُبْكِيكَ)، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فيمَا همَا فيهِ، وأنتَ رسولُ اللهِ، فقالَ: (أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهمْ الدنيا ولنَا الآخرةُ)).. فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهؤلاءِ قادةُ الكفرِ..

وإنَّ اللهَ قدْ وعدَ المؤمنَ حياةً طيبةً، ولكنْ ما الحياةُ الطيبةُ؟

.. ليستِ الحياةُ الطيبةُ حياةَ الرفاهيةِ، ولكنهَا حياةُ الشاكرينَ في السراءِ الصابرينَ في الضراءِ، وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) رواه مسلم.

 ولو نظرنا لِسِيَاقِ الآياتِ سنجدُ قولَهُ تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ • مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[سورة النحل]، فبالصبرِ والشكرِ تطيبُ الحياةُ، ولنا في أنبياءِ اللهِ أسوةٌ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المصدر

مَا ذَنبُ مَن وُلِدَ فِي أُسرَةٍ غَيرِ مُسلِمَةٍ؟

الحمدُ للهِ المتّصفِ بالعدلِ والمنزهِ عن مطلقِ الظُّلمِ، والصلاةُ والسلامُ على نبيّهِ خاتَمِ المرسلينَ..

يتساءلُ البعضُ عن مصيرِ مَن نشأَ علَى غيرِ الإسلامِ، ومِن ثمَّ اتبعَ أَبَويهِ، وقدْ قالَ نبيُّنَا صلَّى اللهُ عليْهِ وسلمَ: (مَا مِن مولودٍ إلَّا يولدُ علَى الفطرةِ، فأبواهُ يهودانِهِ، أو ينصّرانِهِ، أو يمجسانِهِ) متفق عليه.

أليسَ يتبعُ هؤُلاءِ آباءَهُم كَما يتبعُ المسلمُ ما ورثَهُ مِن دينٍ؟

فَلِماذَا يُؤاخذُ غيرُ المسلمِ علَى انحيازِهِ لدينِ أبَويْهِ بَينَما يدخلُ المسلمُ الجنةَ؟

ومعلومٌ أنَّ السائلَ لَو كانَ غيرَ مسلمٍ فَهُوَ غيرُ مؤمنٍ بِمَا نعتقِدُهُ مِن دخولِ المسلمينَ الجَنّةَ، ودخولِ غيرِهم النّارَ، ومِن ثَمَّ يكونُ سؤالُهُ جَدلِيًّا تشغيبًا علَى المؤمنينَ، ولَكن هَذا السؤالَ يراودُ بعضَ المؤمنينَ بالفعلِ، ولأنَّ السؤالَ يتعلقُ باعتقادٍ إسلاميٍّ فالصوابُ أَن يكونَ الجوابُ مستندًا للرؤيةِ الإسلاميّةِ؛ حتَّى يكونُ التصَورُ للمسألةِ صحيحًا ومِن ثَمَّ يكونُ حكمَ القلبِ واستقبالَهُ للمسألةِ منضبِطًا محكومًا برؤيةٍ أكثرَ شمولًا؛ فالحكمُ علَى الشيءِ فرعٌ عن تصورِهِ.

وَفِي بدايةِ الجوابِ نذكرُ بأنَّ مَن نشأَ علَى غيرِ الإسلامِ لا يخلُو مِن حَالَينِ:

الأولُ: ألَّا يكونَ قد عرفَ الحقَّ أو سمعَ بهِ.

الثانِي: يكونُ قد بلغهُ الحقَّ أو سمعَ بهِ.

أمَّا الصنفُ الأولُ الذِي لمْ يبلغْهُ الحقَّ أو بلغهُ مشوَّهًا علَى غيرِ حقيقتِهِ ولمْ يكنْ لهُ سبيلٌ لمعرفَتِهِ، فحالُهُ مختلفٌ عن حالِ الصنفِ الثانِي، فقَدْ قالَ جلّ وعلَا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:١٥]، وقَد قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمِيَةَ رَحمَهُ اللهُ :

” وَهُنَا أَصْلٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ ، وَهُوَ : أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ.. ثم قالَ: فَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ تَحْرِيفَ الْكِتَابِ ، لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ ، وَعَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَعَانَدَهُ : فَهَذَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ.

وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّطَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ ، مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ ، مُشْتَغِلًا عَنْ ذَلِكَ بِدُنْيَاهُ..

إلى أن قال: وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَعَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ: أنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ ، وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ قَالَ تَعَالَى – لِإِبْلِيسَ- : {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: ٨٥]..

إلَى أنْ قالَ رحِمهُ اللهُ: وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ. فَهَؤُلَاءِ فِيهمْ أَقْوَالٌ، أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ: أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ، وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ.”

انتهَى، باختصارٍ مِن: “الجوابُ الصحيحُ لمَن بدّلَ دينَ المسيحِ”.

وقالَ الإمامُ أبُو حامدٍ الغزالِي رحمهُ اللهُ: “بلْ أقولُ: إنّ أكثرَ نصارَى الرومِ والتُّركِ في هذَا الزمانِ تشملُهُم الرحمةُ، إنْ شاءَ اللهُ تعالَى، أعنِي الذينَ هُم فِي أقاصِي الرُّومِ والتُّركِ، ولمْ تبلُغْهُم الدّعوةُ، فَإنّهُم ثلاثةُ أصنافٍ:

الصنفُ الأوّلُ: لمْ يبلغْهم اسمُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ أصلًا، فهُمْ معذُورُونَ.

 الصنفُ الثانِي: بلغَهُمُ اسمُهُ ونعتُهُ، ومَا ظَهرَ علَيهِ مِن المعجزاتِ، وَهمْ المجاورُونَ لِبلادِ الإسلامِ، والمخالطونَ لَهُم، وَهُم الكُفَّارُ الملحِدونَ.

 الصنفُ الثالثُ: هُم بَين الدرجتَينِ، بلَغهُم اسمُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ولمْ يبلغْهُم نعتُهُ وصِفتُهُ، بَل سمِعُوا أيْضًا منذُ الصِّبَا أنْ كذَّابًا اسمُهُ محمدٌ -نعوذُ مِن ذَلك باللهِ تعالَى- ادَّعَى النبوَّةَ، كَما سمِعَ صِبيانُنا أن كذاباً يقالُ لهُ: المقفعُ بعثهُ اللهُ تحَدِّيًا بالنبُوّةِ، كاذِبًا، فهؤلاءِ عندِي في أوصافِهِ فِي معنَى الصنفِ الأوّلُ، فإنّهمْ معَ أنهُم لمْ يسمَعُوا اسمُهُ، سمعُوا ضدَّ أوصافِهِ، وهَذا لَا يحرِّكُ النظرَ فِي الطلبِ” انتهَى.

وأمَّا الصنفُ الثانِي، فهؤلاءِ الذينَ يثورُ حولَهم الإشكالُ عادةً، ونتناولُ -بإذنِ اللهِ تعالَى- الجوابَ مِن عدةِ محاوِرٍ:

١- قَدْ تبَيّنَ الرُّشدُ مِن الغيِّ.

٢- وماذا عليهمْ لو آمنُوا؟

٣- أَوَلَوْ كَانَ آباؤُهمْ..؟

٤- أفلم يسيرُوا فِي الأرضِ فينظُروا؟

٥- وتنْسَوْنَ أنفسَكُم؟

٦- ربُّهُم أعلَمُ بهِم.

وباللهِ تعالَى أستعينُ فِي البيانِ، ومَا كانَ مِن توفيقٍ فمِن ربنَا الرحمٰنِ، وما كانَ مِن زلَلٍ أو نسيانٍ فمن نفسِي ومِن الشيطانِ..

المحورُ الأوّلُ: قَد تبيَّنَ الرُّشدُ منَ الغَيِّ:

إنَّ اللهَ تعالَى مِن حكمتِهِ وعدلِهِ أنَّه لم يجعلْ الحقَّ والباطلَ سواءً فِي الحُجّةِ، ولمْ يجعلْ اللهَ سبحانَه الأمرَ يرجعُ إلَى عاطفةٍ وذوقٍ نسبِيٍّ، ولكنّها براهينٌ ساطِعةٌ لَا يملكُ المُنْصفَ إلّا الإقرارَ بِها والإذعانَ للِوازِمِها، والحقُّ فِطرِيٌّ يُوافِقُ العقلَ السليمَ، ولَا يستثِيرُ الشكَّ فِي أُصُولِهِ إلّا أن يأتيَ مشغّبٌ مِن الخارجِ ويثيرَ الشبهاتِ مبتدأً بالفروعِ، ثمّ يكونُ دحضُ الشبهاتِ علَى أهلِ العلمِ يسيرًا بفضلِ اللهِ.

يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنِ تيميةَ: “وَكُلَّما كانَ الناسُ إلَى الشَّيءِ أحوجَ كانَ الربُّ بِهِ أجوَدَ، وكذلك كُلمَا كانُوا إلَى بعضِ العلمِ أحوجَ كانَ بهِ أجودَ؛ فإنهُ سُبحانهُ الأكرمُ الذي علّمَ بالقلمِ علمَ الإنسانَ مالمْ يعلم، وهُوَ الذِي خلقَ فسَوَّى والذِي قدَّرَ فهَدَىٰ، وَهُو الذِي أعطَى كُلَّ شيءٍ خلْقَهُ ثمّ هدَى؛ فكيفَ لَا يقدِرُ أن يهدِيَ عبادَهُ إلىٰ أن يعلمُوا أنّ هذا رسولَهُ وأنّ مَا جَاءَ بهِ مِن الآياتِ آيةٌ من اللهِ وهيَ شهادةٌ مِن اللهِ لَهُ بصِدْقِهِ وكيفَ تقتَضِي حكمتُه أن يسويَ بينَ الصادقِ والكاذبِ فيؤيدَ الكاذبَ مِن آياتِ الصدقِ بمثلِ ما يؤيدُ بهِ الصادقَ حتَّى لا يُعرَفُ هذا مِن هذا، وأن يُرسِلَ رسولًا يأمرُ الخلقَ بالايمانِ بِهِ وطاعتِهِ وَلا يجعَلُ لهُم طريقًا إلَى معرفةِ صدقِهِ وهذا كَتكليفِهِم بمَا لا يقدِرونَ علَيهِ ومَالا يقدرونَ علَى أنْ يعلمُوه، وهذا ممتَنَعٌ في صفةِ الربِّ وهو منزّهٌ عنهُ سبحانَهُ؛ فإنّهُ لَا يُكلفُ نفسًا إلّا وُسعَها وقد عُلِمَ من سُنّتِهِ وعادتِهِ أنّهُ لَا يُؤيدُ الكذّابَ بمثلِ مَا أيَّد بهِ الصّادقَ” انتهى..

والباطلُ يحمِلُ دلائِلَ بُطلانِهِ فِي أُصُولٍ مُتناقِضَةٍ، وأشياءَ تخالفُ الفِطرَةَ مِمَّا يُثِيرُ الرَّيبَةَ في قلوبِ أهلِهِ حتَّى وَلَو لَم يأتِ من خارجِ منظومةِ الباطلِ مَن يثيرُ عليهِ شبهةً؛ فالباطلُ ظاهرُ البطلانِ، ويسهلُ ضربِ الأمثلةِ بثالوثِ نصارَى وصلبٍ وفداءٍ وخطيئَةٍ تورَثُ، وهُم يتّفِقون مَع مَا ينسِبُهُ اليهودُ لِلّٰهِ مِن ندمٍ واستراحةٍ، وما ينسِبُونَهُ لِلأنبياءِ مِن موبقاتٍ، وتِلكَ ديانةٌ تقَدّسُ البقَرَ، وديانةٌ ثالثةٌ أقربُ للفلسفةِ لأنّها ليْسَت تألِيهِيّةً، ويضيقُ المقامُ عَنِ التفصيلِ فِي مثلِ ذَلكَ.

قالَ ابنُ أبِي العِزِّ رحمهُ اللهُ: “إنَّ النُّبُوَّةَ إنَّما يَدَّعِيها أصدَقُ الصَّادِقينَ، أو أكذَبُ الكاذِبينَ، وَلا يلتَبِسُ هذا بِهذا إلَّا علَى أجهَلِ الجاهِلينَ، بل قرائِنُ أحوالِهِما تُعرِبُ عنهُما، وتُعرفُ بهِما، والتمييزُ بين الصَّادِقِ والكاذِبِ لهُ طرُقٌ كثيرةٌ فيما دُونَ دَعوَى النُّبُوَّةِ، فكيفَ بِدعوَى النُّبُوَّةِ؟” انتهى..

ومِن ثمَّ فإنَّ المسلمَ الذِي ورثَ الحقَّ مِن أبوَيْهِ ليسَ ملزَمًا بأن يشكَّ في الحقِّ بِلا داعٍ؛ فالحقُّ وافقَ فِطرَتَهُ بَينمَا لا يستطيعُ مَن اعتنقَ الباطلَ الاتّساقَ معَ باطلِهِ، ولكِن مِن رحمةِ اللهِ أنْ لَا يعَذِّبَ إلَّا بعدَ بلوغِ الرسالةِ كَما سبقَ التفصيلُ.

المِحورُ الثانِي: ومَاذا علَيهم لو آمَنُوا؟

إنَّ اللهَ تعالَى خلقَ الناسَ ووَهبَ لهُم قدرةً علَى الاختيارِ بينَ الطاعةِ وبينَ المعصيةِ، وإن كانَتِ البيئَةُ التِي ينشَأُ فِيها المَرءُ مؤثرةً في اختياراتِهِ إلَّا أنّ تأثيرَها ليسَ بالحَتمِيِّ، والواقعُ يشهدُ بِذلِكَ، فكَم مِن مُجرمٍ كانَ ابنُهُ مصلِحًا صالحًا؟

وكَم مِن مُصلِحٍ كانَ ابنهُ مفسِدًا؟

وكثيرًا ما يرَى النّاسُ اجتهادَ أبٍ فِي تربيةِ ابنهِ علَى حُبِّ مهْنتِهِ أو توجُّهِهِ الفكرِيِّ ثمَّ يجدُ الابنَ يُقبلُ علَى غيرِ هوَى أبِيهِ، ولوْ كانَ الأمرُ كذلكَ فِي الاختيَاراتِ الدنيوِيَّةِ، فلِمَاذا يجعلُ الناسَ دينَهُم أهونَ الأمورِ ولا يستمِعونَ لنداءِ الحقِّ إذا جاءَهُم؟

مَاذا علَيهِم لَو آمنُوا؟

المِحورُ الثالثُ: أَوَلَو كَان آبَاؤُهُم..؟

إِنَّ أفعالَ الناسِ ليْسَت مِعيارًا للحقِّ والباطِلِ، ولَو كانَ أغلبُ الناسِ يكذِبونَ فَلا ينبَغِي أن يشكَّ عاقلٌ فِي حُسنِ الصِّدقِ وفِي قُبحِ نقيضِهِ، وكذلك لا ينبَغِي أن نعذُرَ الاتباعَ الأعمَى للآباءِ بِدعوَى أنّ عامَّةَ الناسِ يفعلونَ ذلكَ، ولو سلَّمنا بهذه الطريقِ فِي التفكيرِ لبرَّرنا لكثيرٍ مِن الناسِ جرائمَهُم، وهذا معلومُ البُطلانِ..

وليسَ هذا الإشكالُ بالجديدِ، بل جاءَتْ آياتُ اللهِ ترُدُّ علَى هذِه الدّعوَى، ولَا تدَعُ لمعتذِرٍ بمثلِ ذلكَ عذْرًا، وَلِيبقَ الحقُّ واجبَ الاتباعِ، ويبقَ الهوَى أيًّا كانَ دافعُهُ مذمُومًا إن خالفَ ذلك الحقَّ..

قالَ تعالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:١٧٠]

وقالَ سبحانهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:٢١]

وقالَ جلَّ وعلَا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة:١٠٤]

المحورُ الرابعُ: أفلَم يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَينْظُرُوا؟

مَن يستقرِئُ التاريخَ ويستنطِقُهُ يُخبرهُ عَن أُممٍ غيّرت دينَها، وقد بدَأَ الإسلامُ بِنَبيّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ثمّ أسلمَ العربُ بعدَ عبادةِ أصنامِ، وتحوّلَ عامّةُ القِبطِ إلىٰ الإسلامِ، وكذلكَ فعَلَ التركُ والفرسُ والبَربرُ وغيرُهم الكثيرُ، وَمِن أعجبِ العَجبِ إسلامُ أُمّةِ التتَارِ وقد كَانوا هُم غُزاةَ المسلمينَ..

وكَما يشهدُ التاريخُ فإنّ الواقعَ يشهدُ بذلكَ، وقد أسلمَ ملايينُ النَاسِ في أفريقيَا فِي العقودِ الماضيةِ بفضلِ اللهِ ثمَّ جهودِ بعضِ المسلمينَ، مِثل: الدكتُور عَبد الرّحمٰنِ السميط -رحمهُ اللهُ- وَغيرِه ممَّن جعلَهُم اللهُ سببًا فِي تعريفِ الناسِ بالحقِّ.

وكَما أنّ فِي مثالِ الأُممِ التِي غيَّرَتْ دينَها خيرُ مثالٍ فإنَّ الأفرادَ الذينَ يُسلمونَ أو يغيِّرونَ دينَهم عمومًا دليلٌ علىٰ أنّ النشأةَ ليسَت مُلزِمةً لِلأفرادِ، ومِن المعروفِ بالمنطقِ أنَّ القضيةَ الموجبَةَ الكليّةَ تنتقضُ بالسالبَةِ الجُزئيّةِ؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ وجودَ مَن يتحوّلونَ عَن دينِ الآباءِ ينقُضُ دعوَى العذرِ المطلقِ لِمَن اتبَعَ اتباعًا أعمَى رغمَ بلوغِ الحقِّ لهُ.

المحورُ الخامسُ: وتنسَونَ أنفُسَكُم؟

وهُنا يُمكِنُ أَن نَعجَبَ عجبًا لَو كَان يُمكِنُ كِتابتُهُ لمَا كفَىٰ تِلكَ الأرضُ الإحاطةَ بحدودِهِ، وذلكَ حينَ تجدُ مَن نَشأَ فِي أسرةٍ مسلمةٍ قد ارتدَّ عَنِ الإسلامِ ثُمّ يُثِيرُ مثلَ تلكَ الشُّبهَةِ، ويعيبُ علَى المسلمينَ اعتقادَهُم بهَلاكِ مُخَالفِيهِم، وذلك لِسبَبَينِ:

أُولاهُما: أنّهُ هُو نفسَهُ حُجَّةٌ علَى عدمِ استحالةِ التَّحَوّلِ عن دينِ الآباءِ.

ثَانِيهِما: انحيازُهُ غيْرُ المبرّرِ إذْ يَعذُرُ غيرَ المسلمينَ فِي عدمِ اعتناقِ الإسلامِ لِما يزعُمُهُ مِن سطوةِ الموروثِ، ثُمَّ لا يعذُرُ المسلمَ في اعتقادِهِ بنجاةِ المسلمينَ وَحدِهِم، ولو أنصفَ لقالَ: المسلمُ معذورٌ لأنه اعتقدَ ما يعتقدُهُ أهلُهُ.. ولكنّهُ الانحيازُ غيرُ المُبررِ.

المحورُ السادسُ:  رَبُّهُم أَعلمُ بِهِم:

إنَّ المسلمَ المُستَشكِلَ تلكَ المسأَلةِ دافعُهُ إمَّا الرحمةُ أو السؤالُ عنِ العَدلِ، ومعلومٌ أنَّ واهبَ الكمَالِ أَولَى بالاتّصافِ بِهِ، والذِي وَهبَنا الرّحمَةَ والعدلَ وجعَلَنَا مُستَحسنِينَ لَهُما مُستَقبِحينَ لِنقِيضِهِما، هُو أوْلى بالاتِّصَافِ بالعدْلِ والرَّحمَةِ والتنزُّهِ عنِ الظلمِ، وهوَ الذِي قالَ: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْـًٔا وَلَٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [سورة يونس]

فاللهُ تعالَى أعلمُ بعبادِهِ وأرحمُ منَّا بهِم، وَهُو الذِي لَا يظلمُ مثقالَ ذرَّةٍ، وقدْ قالَ تعالَى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:٢٣]

وقالَ سُبحانَهُ فِي ذاتِ السورةِ: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال:٧٠]

فَربُّنا سبحانَهُ وتعالَى لَا يتْرُكُ مَن علِمَ فيهِ الخَيرَ للضلالِ، بَل اعلمْ -أيُّها المؤمِنُ- أنّ أولٰئِك الذينَ سيدخلُونَ النارَ مِن الكافِرينَ قَدْ عَلِمَ اللهُ تعالَى عنهُم أنَّهُم لَن يُؤمِنُوا وَلوْ عَادُوا إلىٰ الدُّنيَا بَعدَ رؤيتِهِم أهوالِ القيامةِ، فقد قالَ جلَّ وعَلا: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٧﴾ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [سورة الأنعام:٢٧-٢٨]

فَلا تقلقْ أيُّها المؤمنُ علَىٰ عبادِ اللهِ؛ فربُّهُم أعلَمُ بهِم، وَهُوَ سُبحانَهُ أرحَمُ بِهِم، وانشَغلْ بنجاتِك، واحرصْ علَى أن تدفعَك رحمتُك بالناسِ إلَى الاجتهادِ فِي بلاغِهِِم وهِدايَتِهم إلَى الحقِّ، وليسَ فِي مُحاوَلَةِ إِيجادِ الأعذارِ لهُم.

فالحمدُ للهِ الذِي أظهرَ الحقَّ وأرسلَ الرسُلَ وأنزلَ الكتبَ وسخرَ مِن عبادِ اللهِ مَن يُبلِّغُونَ رِسَالتَهُ، وَاللهُ تعالَى أسألُ أَن يستخدِمَنا وَلا يستبدِلَنا، وأن يهديَنا إلَى ما يرضِيهِ، وأن يُعلمَنا مَا ينفعنَا، وأن يهديَنا ويهدِيَ بِنا.

المصدر

ماذا لو تاب الشيطان ؟َ

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

يقولون:

إبليس لم يسجد لآدم عندما أُمر.

إذن لإبليس إرادة حرة، اختار بها عدم السجود.

إبليس من المنظرين إلى يوم القيامة.

والله يقبل التوبة من عباده قبل الموت .

فماذا يحدث لو قرر إبليس أن يتوب ؟

إما أن يقبل الله توبته ، عندئذٍ يبطل القرآن الذي يتوعد إبليس بالنار .

أو أن يرفض الله توبته ، عندئذٍ يبطل العدل الإلهي .

فاختاروا إما فساد القرآن أو ظلم الإله .

هكذا يبنون الشبهة ، وهكذا يلقونها في عقول الشباب. وللإجابة على هذه الشبهة (الفرضية) سنتناول الآتي والله المستعان:

– فساد المقدمات وفساد القياس

– نقض مصدر المقدمة في النتيجة.

– محركات الأفكار

فساد المقدمات وفساد القياس:

من يقول بهذه الشبهة يبدأ من مقدمات أساسية هي الإرادة الحرة لإبليس والحياة الدائمة له حتى يوم القيامة وغفران الله للتائب أبداً. وهذه الأمور الثلاثة لابد من معرفة جوانبها المختلفة، ولا تؤخذ هكذا.

أولا: طبيعة إبليس: إبليس من الجن بنص القرآن {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف : ٥٠]، وما نعلمه عن الجن هو ما ذكر عنهم في القرآن والأحاديث الصحيحة ؛ وهو أنهم من خلق الله ، أنهم مأمورون بعبادة الله كالأنس، أن لهم إرادة للطاعة أو المعصية، أن منهم الصالحين، ومنهم الفاسدين، أنهم يرون بني الإنسان من حيث لا يرونهم ، أن الأشرار منهم هم الشياطين ، أن الشياطين أعداء بني آدم يوسوسون لهم ويضلونهم ، أن لا سبيل لهم على عباد الله الصالحين والمخلصين. {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر : ٤٠]، أنهم يتزاوجون ويتكاثرون ويموتون.

ولأن عالم الجن يختلف عن عالم الأنس ، فإننا لا نعرف تفاصيل ولا طبيعة هذه الخصائص التي ذكرناها ؛ فلا نعرف مثلاً كيف تكون حياتهم ، ولا طبيعة حركتهم ولا كيفية الولادة ولا خروج الروح . وبالتالي فما نعلمه عنهم إنما نقيسه على ما نعلمه في حياة البشر لأن هذه هي حدود معرفتنا . وبالتالي إذا كانت طبيعة البشر مختلفة ، وحياة البشر مختلفة، فكذلك طبيعة الإرادة الحرة عند البشر تختلف عنها عند الجن، وإن اتفقت في أصل المعنى.

ثانيا: حياة إبليس الدائمة. نلاحظ أن اسم إبليس في القرآن لم يذكر بنصه إلا في سياق الإشارة إلى موقف السجود لآدم ، وأما عند الحديث عن الإضلال والإغواء فالقرآن يستخدم (الشيطان، الشياطين، الجنة)، وهذا يعني أن إبليس شخص مخصوص هو من شهد موقف الأمر بالسجود ، لكن هل هو وحده من يوسوس لكل البشر عبر العصور ؟ تخبرنا السنة والقرآن أن للشيطان عرشاً على الماء يرسل منه جنوده كل يوم لإغواء البشر . وهذا يعني أن الأبالسة كثر، وأنهم يموتون ويتكاثرون ، فلا خالد إلا الله ، وكل من عليها فان . وعقيدة المسلم أن إبليس منظر إلى يوم القيامة وسيموت كما يموت باقي الخلق وأنه عدو لله ولبني آدم وأنه بتكبره اختار المعصية والمعاندة. السؤال إذن هل يمكن له أن يتوب؟ نقول إنه من حيث المبدأ يمكن لأي مخلوق من الجن أن يتوب ويرجع إلى الله، وعندئذٍ لا يكون من الشياطين بل يصبح من الجن المؤمنين . أما بالنسبة لإبليس بالذات فالعقيدة فيه أنه لا يفعل ولن يفعل (كما سنرى).

ثالثا: غفران الله للذنب وقبوله للتوبة له شروط في عالم البشر منها رد المظالم وعدم العودة والثبات على الطاعة، فكيف لا يكون له شروط في عالم الجن ؟ فالقول بقبول توبة الله لإبليس لابد فيها من افتراض الشروط المطلوبة لقبول التوبة، ولا يكفي افتراض التوبة وحدها، وقد أغوى إبليس وأهلك ما لا حصر له من البشر منذ بدء الخليقة ، فكيف يكفر عن هذه الذنوب ؟

وبهذا يتبين أن المقدمات التي بني عليها هذا الافتراض فاسدة ، وغير متكاملة .

نقض مصدر المقدمة في النتيجة.

من يقول إن القرآن سيبطل لأنه إذا قبل الله توبة إبليس ستسقط آيات توعد إبليس بالنار، يناقض نفسه. لأننا نسأله ببساطه : كيف عرفت أن إبليس متوعد بالنار؟ وكيف عرفت أن هناك مخلوقاً اسمه إبليس لم يسجد لآدم أساساً ؟ سيقول من القرآن. نقول له إذن معرفتك اليقينية بصدق القرآن أدت إلى معرفتك اليقينية بوجود إبليس وعصيانه، ونفس هذا القرآن الذي اتخذت منه معرفتك اليقينية هو الذي يخبرك بأن إبليس من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وأنه ومن تبعه في جهنم وبئس المصير، فلماذا لم تؤمن بهذه الآيات كما آمنت بالسابقة ؟ وكيف تنقض الأساس الذي عليه وضعت الافتراض ؟ فتقول بفساد آيات القرآن إذا خالفت مجرد تخيل مشوه لما يمكن أن يحدث لو لم تقبل توبة إبليس؟

وزيادة في تأكيد مصداقية القرآن، نقول لصاحب الشبهة: دعك من إبليس الذي لا تعرف طبيعته، وخذ مثال أبي لهب – وهو بشري مثلنا – توعده الله بالعذاب في نار ذات لهب في حياته، والآيات تتلى عليه، وله إرادة حرة، ويمكنه الاختيار، ويمكنه حتى أن يتظاهر بالإسلام ويقول آمنت الآن، إذن القرآن فاسد لأنه يتوعدني بالعذاب. لكن ذلك لم يحدث طوال حياة أبي لهب حتى مماته. فلما تستبعد ألا يحدث مثله من إبليس وهو أضل وأكفر من أبي لهب ؟ وتبقى آيات القرآن شاهدة على أنها من عند الله حقا . بل هناك أثر ضعيف في السنة أن إبليس قال لموسى و اشفع لي عند ربك ليقبل توبتي ، فشفع له موسى ، فأمره الله أن يذهب ويسجد لقبر آدم لتقبل توبته ، فقال أستكبرت أن أسجد له وهوحي أأسجد له وهوميت ؟ ولم يتب .

محركات الأفكار

إن من يقول بهذا الافتراض هو في الحقيقة مشغول بفكرة أكبر ، وإنما اتخذ مثال الشيطان ليخفي وراءه حيرته في فهم إشكالية الجبر والاختيار. فالمشكلة الحقيقية لديه ليست إبليس ولا غيره، إنما هي كيف يحاسبنا الله على أفعالنا وهو خالقنا وعالم بما نفعل ومقدر لأفعالنا ؟ وهل لنا إرادة حقيقية أم نحن مجبرون على ما نفعل ؟

وهذه المشكلة قديمة جداً، ناقشها الفلاسفة والمفكرون ورد عليها علماء الأديان عبر العصور، ولكن التصور الإسلامي هو الوحيد الذي حل المشكلة. فمن يعترض على قدر الله يقول : إذا كان الله يعلم ما سأفعل غداً ، إذن فهو قرر لي ما أفعله من قبل أن أفعله ، وليس لي أن أغيره ، وسيحدث سواء شئت أم أبيت، فلماذا إذن يحاسبني عليه؟

والخلل في هذا التساؤل هو الخلط بين صفات الله سبحانه وتعالى وحدود البشر. والمعترض هنا كأن يعترض على أفعال ملك من ملوك الدنيا وينسى أنه يعترض على خالق السموات والأرض سبحانه المتصف بالكمال العظيم والجلال الكبير الذي يعجز البشر عن الإحاطة به . ولابد عند تصور هذه المسألة من استصحاب الأصول التالية:

الأصل الأول : أن الله كلي القدرة، كلي العلم ، متصف بالكمال . وهذه الصفات تعني أنه سبحانه على كل شيء قدير ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه لا يظلم الناس شيئاً فهو الحكم العدل دائماً . ولابد من الإيمان بهذه الصفات معاً. وعلم الله سبحانه يقتضي منه معرفة كل شيء في هذا الوجود فهو خالقه ومدبره فكيف لا يعلم بما يكون فيه؟

الأصل الثاني : أن علم الله ومشيئته محض غيب للإنسان لا يمكن للإنسان أن يعلم قدر قدرة الله ولا علم الله ، لأن عقل الإنسان محدود وهذه صفات الله سبحانه اللامحدودة ، وأهل السنة يؤمنون أن الله -سبحانه وتعالى-مستعل بذاته ؛ في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه ، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء ، دون تكييف ولا توصيف ، و أن إلى ربك المنتهى .

والطريق الصحيح الذي أرشد إليه النبي ﷺ  في ذلك هو أن نعمل ولا نتكل . فعن عبد الرحمن السلمي عن علي – رضي الله عنه – قال كنا مع النبي – ﷺ  – في بقيع الغرقد في جنازة فقال “ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار ، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل ؟! فقال “اعملوا فكل ميسر”. وإرشاد النبي ﷺ إلى الطريق الصحيح في التعامل مع التقدير السابق، يتحصل في أنه لا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بما قدره الله عليه في العلم السابق ؛ لكون ذلك أمر غيبي محض وسر بعيد الأغوار ، لا يمكنه إدراكه ، ولا الوصول إليه ، فليس من العقل أن يشغل الإنسان نفسه ، ويجهدها في البحث عما كتبه الله له أو لغيره ، فإنه لن يستطيع الوصول إلى ذلك أبدا ، وعليه أن يشتغل بما يدرك ويتيقن بقدرته عليه ، واختياره له . وقد قال علي رضي الله عنه “القدر سر الله فلا نكشفه” ويعني بذلك : فلا تحاول كشفه ومعرفته، فهو ليس مما يقدر عليه أحد ، ويسمي الطحاوي ذلك بالعلم المفقود ، الذي طواه الله عن كل الخلق ، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن : ٢٦ ] ..

الأصل الثالث : أن الله ربط كل شيء في الوجود بأسباب خاصة به لا يتحصل إلا بها ، فجرت سنة الله تعالى الكونية على الترابط السببي بين أحداث الكون ، ولا يستثنى من هذه السنة شيء البتة ، فكما أن أحداث الدنيا الطبيعية ، خيرها وشرها ، لا تحصل إلا بأسباب معلومة محددة ، فكذلك أحداث الآخرة ، خيرها وشرها ، لا تحصل إلا بأسباب معلومة محددة .

ومع أن كل أحداث الدنيا مقدرة مكتوبة، فإن الله ربطها بأسبابها ، وعلق حدوثها بتحقق تلك الأسباب ، فكذلك الشأن في أحداث الآخرة ، فمع كونها مقدرة مكتوبة ، فهي مربوطة بأسبابها.

فقاعدة الأسباب إذن، شاملة لكل الأحداث الدنيوية والأخروية ، ولا فرق بينها.

الأصل الرابع : كما أن الله تعالى علم تفاصيل كل شيء في الوجود وقدره وشاءه ، فإنه أعطى الإنسان الإرادة والاختيار ، فخلقه خلقة مختلفة عن سائر المخلوقات ، بحيث أن كل إنسان يملك إرادة يستطيع بها الترجيح بين الخيارات المختلفة ، وقدرة يستطيع بها التأثير في الأحداث ، وتحقيق الخيار الذي ترجحه إرادته.

والنصوص الشرعية في الإسلام جاءت على هذا الأساس، فتعاملت مع الأفعال الإنسانية على أنها أمور حادثة باختيار الإنسان وإرادته ، وأنها كسب له وعمل من أعماله ، كما قال تعالى :{مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت  ٤٦ ]  وقال تعالى: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدثر :۳۷]، وقال تعالى { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ} [آل عمران: ۱۵۲]

ومن المهم ملاحظة أنه كما أخبر الله  سبحانه بأن الإنحراف والضلال كان بمشيئته ، فإنه أخبر أن إضلاله لمن ضل و انحرف إنما كان عقوبة له على أفعاله الصادرة منه باختياره وإرادته ، كما قال تعالى :

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [ النساء : ١٠٠ ]

وقال تعالى {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}

[ الأنعام: ١١٠ ] وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[ الصف : ٥]

الأصل الخامس : أن الإنسان لا يحاسب إلا على أفعاله الواقعة باختياره وإرادته ، وأما الأفعال التي وقعت منه من غير قصد ، كالأفعال الواقعة منه بالجهل والنسيان والخطأ ، أو الأوصاف التي خلقها الله فيه مما لا يتعلق باختياره ، كالطول والقصر واللون والقوة والضعف والصحة والمرض والعقل والجنون وغيرها ، وكذلك الأفعال التي يقهره عليها الناس ، فإن العبد لا يحاسب عليها ، ولا يعاقب على تركها أو فعلها .

الأصل السادس : ومع كل الأصول السابقة ، فإن الله تعالى لم يترك الناس سدی من غير بيان ولا هدى ، وإنما أبان لهم الحق ، وأنار لهم الطريق ، وأوضح لهم المحجة ، فأرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأقام الأدلة ، ليرشد الناس إلى سبيل الهداية ، ويميزها عن سبيل الغواية . فالهداية الإلهية العامة ، التي بمعنى البيان والدلالة والإرشاد ، ثابتة مستقرة لكل العالمين ، كما قال تعالى : {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [ الشورى : ٥٢ ] وقال تعالى :{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [ النساء : ١٦٥] ، وغيرها من الآيات .

والحمد لله رب العالمين..

المصدر

مفارقة عجيبة عند المهتمين بنشر الشبهات

لقد أصبح قيام الملحد أو المُنصر بعرض الشبهات في الإسلام أمرا مقززا بالفعل!

مقزز لأن نفس المصدر الذي تنقل منه الشبهة يوجد به أدلة لا حصر لها على صحة الرسالة.

فإذا سلمت بالأثر الذي أوردت منه شبهتك فإن عليك التسليم بنفس الأثر التي يؤكد ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم.

فمثلاً في كتاب الله عز وجل تحدى القرآن اليهود أن يتمنوا الموت فلم يفعلوا.. “قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ﴿٦﴾ ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ﴿٧﴾” سورة الجمعة. فما تمنوا الموت أبداً، لأنهم يعلمون أنهم لو تمنّوه لماتوا من ساعتهم، مع الاقتضاء والمطالبة التي تدفع لجواب التحدي. يقول القاضي عبد الجبار: “لا يتمنون ذلك مع خفته وسهولته، ومع علمه صلى الله عليه وسلم بشدة حرصهم على تكذيبه وفضيحته.. ولم يقل هذا من عندي بل قال هذا من عند ربي وإلهي وإلهكم الذي يعلم سركم وجهركم، وهذا أشد على اليهود من تحديه للعرب بمثل القرآن، وهذا مقام لا يبديه النبي صلى الله عليه وسلم إلا مع اليقين. وقد تحير الملاحدة وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لماذا لم يتمنَ اليهود الموت زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُكذبوه بذلك فيستريحون ويُريحون.”

وفي السنة المطهرة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة عمرَ وعثمانَ وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم لن يموتوا على فُرُشِهم أو سواه مما يموت به الناس. فقد صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء ذات يوم هو وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليُ وطلحةُ والزبيرُ، فتحركت الصخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: “اهدأ، فما عليك إلا نبيٌ أو صديقٌ أو شهيد.” رواه مسلم.

فشهد صلى الله عليه وسلم لنفسه بالنبوة، ولأبي بكرٍ بالصديقية، ولعثمانَ وعليَ وطلحةَ بالشهادة وقد كان.

وأخبر صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي في أرض الحبشة في يوم وفاته، وهذا خبرٌ تحمله الركبان يومذاك في شهرٍ. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: “نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى، فصفّ بهم، وكبر أربعاً.ً” رواه البخاري.

أما أحاديث المعجزات التي انتقلت إلينا بالتواتر، وهو أعلى درجات الصحة على الإطلاق بدرجة نقل القرآن الكريم، فهي مما لا تشكيك في صحة نقلها، ومنها حديث نبع الماء بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، فهو من المتواتر الذي شهده جمعٌ كبيرٌ من الصحابة ونقلوه إلى مئات التابعين، فقد توضأ ألف وخمسمائة صحابي وشربوا من الماء الذي نبع بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وقالوا لو كنا مائة ألفٍ لكفانا.

وقد روى الحديث جمعٌ غفيرٌ ممن يُحرمون الكذب ويرونه فاحشة فكيف يجتمعون على الكذب في خبرٍ كهذا؟

أما تكثير الطعام اليسير ليطعم منه الجيش العظيم فقد جاءت به الأخبار المتواترة عن الصحابة ثم من بعدهم.

وذكر البخاري وحده أخبار تكثير الطعام على يديه صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع من صحيحه. تخيل!

وأخبر صلى الله عليه وسلم، والحديث في أعلى درجات الصحة رواه البخاري ومسلم، أم حرام بنت ملحان أن أُناسًا من أمته سيركبون البحر غزاةً في سبيل الله، وستكون هي أول الشهداء في غزاة البحر. وقد كان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، حيث ركبت البحر في خلافة عثمان بن عفان وماتت شهيدةً ودفنت هناك، وجامع أم حرام في قبرص معروفٌ إلى اليوم!

هذه فقط ومضة من أدلة النبوة التي لا تنتهي!

إن مجرد إيراد الملحدين الشبهات على الإسلام يجب أن يكون محيرا لو اعتبرناهم من العقلاء، فكيف لملحد أن يأتي بشبهة وفي نفس المصادر وبأعلى درجات الوثوقية الأدلة القاطعة على صحة الرسالة!

فليتأمل الباحث عن الحق!

الدكتور طلعت هيثم.

المصدر

مقدمة صراع

 ظهر الناقد (د. العظم) في هذا العصر ، ضمن طائفة من الملاحدة الجدليين الذين ينكرون الله واليوم الآخر ، ويكذبون الرسل والأنبياء ، ويجحدون الكتب الإلهية والمعجزات ، ويرتدون أقنعة العلمانية والبحث العلمي المتقدم ، ويستغلون بالباطل كل ثقل التقدم العلمي المادي في الصناعة والتكنولوجيا ، زاعمين للناشئين من أجيالنا أن التقدم العلمي الحديث يدعم مذهب الإلحاد والكفر بالله . مع أن العلم الحق إنما يدعم الإيمان بالله لا الكفر به ، أياً كان نوع هذا العلم ، أما الباطل الذي يلبس ثياب العلمانية فقد يدعم قضية الإلحاد بالله وبآياته ، لأنه باطل يرتدي ثياب زور ، فهو يؤيد باطلاً مثله ، والباطل ينصر بعضه بعضاً.

 لذلك كان لا بد من اللجوء إلى خطة جدال بالتي هي أحسن مع الكافرين والملحدين ، لكشف مغالطاتهم ، وفضح أهدافهم وأهداف سادتهم من نشر الإلحاد في الأرض ، والأكاذيب والمفتريات ، والتلبيس والتدليس ، ولئلا يعيثوا في الأفكار فساداً ، ويلمؤوها ضلالاً وإلحاداً.

 أنتركهم يقذفون أجيالنا – أحفاد المؤمنين الصادقين المخلصين – إلى مواقع الهلاك والعذاب والدمار الماحق . وإلى أوحال المهانة والمذلة والخزي!؟

 لقد رأيت بعد تردد طويل – كما ذكرت في المقدمات – أنه يجب علي وعلى جميع الباحثين من أنصار الحق والخير والفضيلة أن نكشف زيف هؤلاء المضللين ، وأن نُبرز للمفتونين والمخدوعين وجه الحق مؤيداً بدلائل العلم القويم والمنطق السليم ، وأن نناقش جدليات الملحدين مناقشة عقلانية علمية هادئة ، وأن نجادلهم بالتي هي أحسن ، ثم لا يضرنا بعد ذلك أن يُصروا على كفرهم وإلحادهم ، فالله هو الذي يتولى حسابهم وعذابهم ، أما نحن فما علينا إلا البلاغ المبين .

 ورأيت أن من واجبنا أيضاً أن نقيم بينهم وبين أجيالنا سداً منيعاً من المعرفة الرصينة الراسخة بحججها وبراهينها ، حتى لا تنخدع هذه الأجيال بزيف ما يكتبون ، وزخرف ما يقولون ، لا سيما حينما يلبس هؤلاء الملحدون أقنعة العلمانية المزورة ، ويتسترون وراء التقدم العلمي الحديث ، ويستغلون لأنفسهم مظاهر التقدم الصناعي والتكنولوجيا .

 مع أن التقدم الصناعي والتكنولوجي لم يكن ولن يكون في الحقيقة ملحداً بالله ، بدليل أن معظم أئمة التقدم الصناعي والتكنولوجي وأئمة العلوم الحديثة مؤمنون بأن لهذا الكون خالقاً يصرِّف أموره بعلمه وقدرته وعنايته وحكمته .

 من هذا الذي يستطيع أن يثبت حقاً أن علوم الفيزياء والكيمياء والطب ، وعلوم الرياضيات والفلك والأحياء والنباتات ، وعلوم الذرة والصواريخ والمركبات الفضائية ، علوم قائمة على أسس الإلحاد بالله والكفر بقدرته وعلمه وعنايته وحكمته؟

 هل هذه العلوم تثبت ببراهينها أنه ليس لهذا الكون خالق قادر مدبر؟

 إننا إذا وجدنا ملحداً واحداً من علماء هذه العلوم وجدنا في مقابله عشرات المؤمنين بالله من كبار هؤلاء العلماء أنفسهم ، ولو أن علومهم قائمة على قاعدة الإلحاد ، أو تشتمل على براهين تنفي وجود الله لكان الأمر معكوساً تماماً ، ولأظهر لنا هؤلاء العلماء أدلتهم وبراهينهم ، ولأثبتوا لنا ذلك في مكتوباتهم ، بيد أننا نجد في أقوالهم الكثيرة ما يدعم قضية الإيمان بالله .

 إلا أن حركة يهودية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فتسترت بالعلمانية ، ونشطت عناصر منها فبثَّت نظريات من عند أنفسها وضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد ، وكان ذلك ضمن مخطط يهودي شامل ، لإفساد أمم الأرض بالإلحاد والمادية المفرطة ، والانسلاخ من كل الضوابط التشريعية والأخلاقية كيما تهدِّم هذه الأمم أنفسها بأنفسها ، وعندئذ يخلو الجو – بحسب تصورهم – لليهود قلة في العالم ، ومتى خلا لهم الجو استطاعوا – كما يزعمون – أن يحكموا العالم كله حكماً مباشراً ظاهراً .

 علماً بأن هؤلاء اليهود الذين تستروا بالعلمانية والبحث العلمي المحايد لم يقدِّموا نظريات تدعم قضية الإلحاد في العوم البحتة الخاضعة للاختبار والتجربة وتقويم النتائج ؛ وإنما قدموا نظريات أو فرضيات على الأصل في العلوم الإنسانية ذات الاحتمالات الكثيرة ، غير الخاضعة للاختبار والتجربة وتقويم النتائج ، وضمن نظرياتهم التي قدموها في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد وفلسفة النشوء والارتقاء دسوا قضية الإلحاد والكفر بالله ، تحقيقاً للمخطط اليهودي الشامل .

 وهذا يوضح لنا أن قضية الإلحاد بالله قضية سياسية عالمية ، تخدم مصالح خاصة لفئات معينة من الناس ، وهذه الفئات تجند الذين يستجيبون لدعوتها ، ثم تقدمهم وقوداً لدعم سياستها وخدمة مخططاتها .

 هذه في هذا العصر هي حقيقة المذهب الإلحادي المنظم الذي تدعمه قوى سياسية ذات ثقل في العالم ، أما الإلحاد الفردي الذي تدفع إليه دوافع إجرامية فجورية خاصة فهو موجود في كل عصر ، وكذلك نظرات الشك التي قد يتعرض إليها الإنسان في بعض مراحل من حياته ، هي أيضاً ذات طابع فردي غير منظم ولا مدعوم ، وليس لها قوى جماعية كبيرة تنصرها وتنشرها وتدعو الناس إليها ، لأن نظرات الشك في قضية الإيمان لا تحمل أصحابها قضية ذات رسالة تبشيرية ، ولا تستطيع هي في نفسها أن تجد أدلة تدعم قضية الإلحاد والكفر بالله ، وبذلك تبقى قضية الإلحاد قضية ساكنة صامتة في نفوس أصحابها ، لا دوافع تحركها ولا دلائل تدعمها .

 بخلاف قضية الإيمان فإن وراءها دوافع تدفعها إلى الحركة والنماء والانتشار والبيان المستمر ، ومعها مئات الأدلة التي تدعمها ، وإن نظر إليها بعض الناس بشك في بعض مراحل حياتهم .

 إن المؤمنين بالله لهم أدلة لا تحصى على ما آمنوا به ، وكل باحث منهم يتكشف له في موضوع اختصاصه طائفة من هذه الأدلة ، وهي تقدم له القناعة الكافية بأن الله حق .

 أم الملحدون فليس لهم أدلة يمكن أن يعتمدوا عليها في نفس وجود الخالق جل وعلا ، إلا مجرد الارتباط بالمادة المدرَكَة بالحواس الإنسانية ، أو بالأجهزة التي توصل إليها الإنسان في القرن العشرين ، وهذا لا يستطيع أن يقدم أي دليل على النفي .

 نحن نعلم أنه لا خوف على الحقائق الدينية الإسلامية من جدليات الملحدين ، لأنهم يجادلون بالباطل ليُدحضوا به الحق ، ولكن قد تؤثر جدلياتهم المشحونة بالتزييف على الناشئين المطبوعين بطابع الثقافات الحديثة ، الموجهة شطر مبادئ ومذاهب معينة ، وضعت خصيصاً لمحاربة الدين وهدم مبادئه الحقة .

 وليس جدالهم بالباطل بدعاً في تاريخ المبطلين ، بل هي طريقة كل أهل الباطل ، ومن إبليس قائدهم إلى آخر جندي من جنوده ، وأصغر تابع من أتباعه ، كل منهم سائر على سُبُله ومتبع لخطواته .

 وقد وصف الله الكافرين عموماً بأنهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ، فقال تبارك وتعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول):

 {..وَيُجَادِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً}.

 وهي طريقة لا سبيل لهم سواها ، ليؤيدوا أفكارهم ومذاهبهم ، وينصروا باطلهم ، ويُدحضوا الحق ، ما داموا قد التزموا في أفكارهم ومذاهبهم جانب الباطل ، وأصروا بعناد على رفض جانب الحق .

 ولما انغمسوا بكفرهم في رذيلة خلقية خطيرة هي رذيلة جحود الحق ، كان لا غرو أن تجرهم هذه الرذيلة إلى رذائل خلقية أخرى ، منها أن يجادلوا بالباطل ، ويستخدموا كل ذكائهم في تزييف الحق ، ويقوم تزييفهم على اصطناع هياكل وهمية لمذاهبهم ، وهياكل وهمية لمذاهب خصومهم ، ثم يحملون حملاته الهجومية على هذه الهياكل التي اصطنعوها لمخالفيهم ، وعندئذ يسهل عليهم تحطيمها بسرعة ، لأنهم هم الذين اصطنعوا بأنفسهم ،ووضعوا فيها نقاط الضعف التي يسهل عليهم تهديمها من قبلها .

 وقد يحاربون الدين كله من خلال رأي ضعيف قاله بعض الناس المنتسبين إلى الدين .

 أو يحاربون الأديان كلها صحيحها وباطلها ، من خلال ما في بعضها من تحريف عن الأصل الرباني ، أو من خلال الأديان الباطلة التي تحمل اسم دين ، وهي في الحقيقة أوضاع إنسانية مخترعة ، وليست ديناً إلهياً .

 وهذه الطريقة قد استخدمها الناقد (د. العظم) أقبح استخدام فيما زعم أنه نقدٌ للفكر الديني ، قال في الصفحة (21) من كتابه “نقد الفكر الديني”:

 “يجب ألا يغيب عن بالنا أنه مرت على أوروبا فترة تتجاوز القرنين ونصف القرن قبل أن يتمكن العلم من الانتصار انتصاراً حاسماً في حربه الطويلة ضد العقلية الدينية التي كانت سائدة في تلك القارة ، وقبل أن يثبت نفسه تثبيتاً نهائياً في تراثها الحضاري . ولا يزال العلم يحارب معركة مماثلة في معظم البلدان النامية ، بما فيها الوطن العربي ، علماً بأنها معركة تدور رحاها في الخفاء ولا تظهر معالمها للجميع إلا بين الفينة والأخرى “.

 فهو في هذا يحشر الأديان كلها صحيحها وباطلها ويعتبرها جبهة واحدة ضد العلم ،ثم يوجه طعناته ضد ما في بعضها من باطل ، ثم يستنتج من ذلك أنها جميعاً أديان باطلة ، باعتبارها جبهة دينية واحدة ، وقد وجد بعضها باطلاً ، أو وجد في بعضها ما هو باطل .

 فهل يقبل مثل هذه الحجة الساقطة من لديه أبسط قواعد الاحتجاج المنطقي ، التي تعرفها الأوليات الفكرية؟ إنها حجة مرفوضة بداهة شكلاً ومضموناً ، وحينما يعتبرها الملحد طريقة منطقية كافية للاحتجاج فإننا نستطيع أن نستخدمها سلاحاً ضد اتجاهه الذي يزعم أنه اتجاه علماني ، فنقول له : إن أصحاب الاتجاه العلماني جبهة واحدة ، ومن المعروف أن لهم مذاهب شتى متناقضة في معظم القضايا التي بحثوها وفق أصول البحث العملي الذي توصل إليه العلماء ، وفي كثير منها نظريات باطلة ، إذن فالاتجاه العلماني كله باطل .

 مما لا شك فيه أننا لا نقبل هذا الكلام لأنفسنا ، ولكننا نكشف به فساد حجة الملحد الناقد للفكر الديني ، إذ نستخدم سلاحه ضد اتجاهه ، ونحن نرفض مثل هذا الاحتجاج أصلاً.

 وصنيع الملحد في هذا تزييف مفضوح للحقيقة ، وتلاعب شائن في العمليات الفكرية ، واستهانة شنيعة بالمنطق الفكري لأجيالنا الناشئة من مثقفي هذا العصر ، فهل بلغ بهم الأمر أن تنطلي عليهم مثل هذه الحيلة من حيل التزييف الفكري ، حتى بدأ الملاحدة يستخدمونها في تضليلهم؟ أم فقد الملاحدة صوابهم حتى أخذوا يحتجون بما ليس فيه حجة ولا شبه حجة؟ إذ أفلست قواهم المادية في فرض مذاهبهم على الطلائع المثقفة في العالم الإسلامي ، لا سيما حينما وجدوا في هذه الطلائع المثقفة جماهير مؤمنة بالله ، تنصر الإسلام وتعمل له ،وتلتزم بأحكامه وتعاليمه .

 ولعل الأمرين موجودين معاً ، فبعض أجيالنا الناشئة الموجهة ضمن البرنامج الإلحادي قد أمست مرجوجة الأصول الفكرية ، تخدعها الحيل المصبوغة بصبغ الثقافات المعادية للدين ، والمقنعة بقناع العلمانية الأكاديمية ، والمحاطة بهالة مزخرفة من العبارات التي احتلت مركزاً ارستقراطياً بين المجتمعات المثقفة ، على الرغم من أنها عبارات جوفاء ليس لها إلا طنين يخدع صغار العقول ، وبعض أجيالنا الناشئة المثقفة هي – بحمد الله – مؤمنة بالله مسلمة حقاً ، ذات منطق علمي سليم ، تعرف الحق ، وتناقش بالحق ، وتجادل بالحق ، وتناصر الحق حيث وجدته .

 وأرجو أن لا يغيب عن بال سيادة (د.العظم) ومن هم على شاكلته أن كل اتجاه عام في الواقع الإنساني يوجد فيه فئات مختلفة ، ويوجد فيه أفكار متباينة ، فهل يعني وجود هذا الاختلاف بطلان الاتجاه العام من أساسه؟ أم واجب العاقل المنصف التمييز بين المحقين والمبطلين ، وبين الحق والباطل .

 إن دين الله للناس دين واحد ، وهو دين الحق الذي اصطفاه لعباده ، وأنزله على رسله بحسب حاجات الأمم ، التي اقتضت أن ينزل إليها متدرجاً على طريقة التكامل ، وكان ختم هذا الدين بصورته الكاملة التامة في رسالة الإسلام الذي اصطفى الله لحمله للناس محمداً عليه الصلاة والسلام .

 إلا أن الأديان الأولى لم يتوافر لها النقل الصحيح ، ودخل إليها عن طريق بعض أتباعها التحريف والتغيير في النصوص وفي العقائد ، فجعلها غير ممثلة للدين الحق ، غذ دخل إليها كثير من الباطل ، كما أن أدياناً حملت هذا الإسلام وهي صناعة بشرية غير ربانية ، أفتحشر هذه الأديان كلها بما فيها من حق وباطل ثم يصدر بحقها جميعاً أحكام تتناسب ما في بعضها من باطل ، أو أحكام تناسب ما في بعضها من حق؟؟

 هكذا كان عمل (د. العظم) لدعم مذهب الإلحاد بالله وجحود اليوم الآخر .

 ببالغ من التزييف الوقح بدأ الملحدون من أجراء صانعي الهزيمة العربية في عام 1967م يحمِّلون الدين وزور الهزيمة التي اصطنعوها ، وكانوا قبل المعركة وفي أثنائها قد عزلوا الدين عزلاً كلياً عن جميع ساحاتها ، حتى لم يبق له صوت ولا سوط يرتفعان ، ثم يقولون : إن سبب الهزيمة هو وجود رواسب من الذهنيات الدينية الغيبية الاتكالية عند الثوريين الذين قادوا المعركة .

 وكل عارف بالحقيقة يعلم أن معركتهم لم تكن ضد العدو الباغي ، إن معركتهم معه لم تكن إلا معركة صورية أو شبه صورية ، أما معركتهم الحقيقة فقد كانت ضد الدين الذي يتابع كتابهم اليوم محاربته بالتزييف والتضليل ، بعد أن حاربوا دعاته بالتعذيب والتنكيل حرباً لا هوادة فيها .

 لقد أفلست عمليات الاضطهاد في تحقيق كل ما يهدفون إليه ، فلجؤوا إلى أسلحة التضليل الفكري .

 مما لا شك فيه أن معركة الإسلام مع الملاحدة العالميين الذين يتحركون بدفع آلي من القيادات اليهودية العالمية ذات مراحل ، كلما أنجزوا في تصورهم مرحلة منها انتقلوا إلى مرحلة أخرى .

 لقد كانت معركتهم الأولى تهدف إلى إقامة الثورة الاقتصادية والاجتماعية كمرحلة أولى ، مع التزييف الفكري بعدم معارضتها للدين ، بغية تضليل الجماهير المسلمة بأن تغييراتها الاقتصادية والاجتماعية لا تمس جوهر العقائد الدينية التي تؤمن بها هذه الجماهير ، تخديراً لها وتبريداً لمشاعر النقمة التي قد تلتهب ضد ثورتهم ، وحين انتهت فيتصورهم هذه المرحلة وبلغت مداها المرسوم لها أخذوا يحضرون للمرحلة الجديدة ،وهي مرحلة نسف العقائد الدينية التي ظلت راسخة في قلوب كثرة كاثرة من الجماهير العربية ، بغية تغيير الإنسان العربي تغييراً كلياً ، حتى في مفاهيمه وعقائده وعواطفه القومية والتاريخية ، وسائر مشاعره ، وعندئذ يستطيع العدو المحرك من وراء الستار تطويعه وتسخيره واستعباده .

 وهذا يفسر حملة مكتوبات الملحدين الجديدة ، التي تهدف إلى تحضير النفوس والأفكار للمرحلة الآتية من مراحل الحرب المستمرة .

 قال الناقد (العظم) في كتابه في الصفحة (12):

 “ولكن الواقع هو أن حركة التحرر العربي غيرت بعض ظروف الإنسان العربي الاقتصادية والاجتماعية ، ثم وضعت في نفس الوقت كافة العراقيل والموانع الممكنة في وجه حدوث أية تغييرات وتطورات موازية في ضمير الإنسان العربي وعقله ، وفي “نظرته للذات والحياة والعالم” …”.

 ثم ذكر أن حركة التحرر العربي قد وقفت على رأسها بدلاً من قدميها فقال :

 “عبَّرت هذه الوقفة (على الرأس بدلاً من القدمين) عن نفسها في السياسات الثقافية التي اتبعتها حركة التحرر العربي ، كما في أسلوب اهتمامها السطحي والمحافظ جداً بالتراث والتقاليد والقيم والفكر الديني ، مما أدى إلى عرقلة التغييرات المرجوة في الإنسان العربي نفسه ، وفي نظرته إلى الذات والحياة والعالم ، تحت ستار حماية تقاليد الشعب وقيمه وفنِّه ودينه وأخلاقه ، تحوَّل الجهد الثقافي لحركة التحرر إلى صيانة للأيديولوجية الغيبية ، بمؤسساتها المتخلفة ، وثقافتها النابعة من العصور الوسطى ، وفكرها القائم على تزييف الواقع وحقائقه”.

 أقل متأمل في هذا الكلام وأشباهه يتبين له أنه إرهاص واضح بمرحلة جديدة من مراحل الحرب اليهودية الماركسية العالمية ، ضد الإسلام داخل الوطن العربي ، لتحطيم الرصيد الباقي من أمل هذه الأمة في إمكان ظفرها على عدوها ، إذا هي استطاعت أن تتحرر من القيود ، وتستخدم ما لديها من طاقات محركة ، تصلها بدينها وأخلاقها وقيمها .

 إنهم يمهدون بهذا للثورة الثقافية الفكرية التي تريد اقتلاع كل تراث مجيد للمسلمين ، حتى لا يبقى لهم أي أمل بالظفر على عدوهم ، وحتى لا يبقى لديهم أي نزوع لاستعادة مركزهم القيادي في العالم .

 ومما يؤسف له أن العدو القابع وراء الحجب قد استطاع أن يشتري من سلالات هذه الأمة جنوداً مغفلين ، يدفع بهم إلى صف المواجهة ، ويحملهم الأسلحة الفتاكة ضد أمتهم وأقوامهم وأمجادهم ، وأخيراً ضد أنفسهم ، لأن العدو سيتخلص منهم متى استنفد طاقاتهم ، وصاروا في نظره كالثور الذي يأكل كثيراً ، وهو لا يحرث أرضاً ، ولا يسقي زرعاً ، ولا يدفع كيداً ولا يدرّ بِلَبن .

 وماذا ترجو الأمة ممن باع نفسه لعدوه وعدوها ، ورضي بأن يكون سلاحاً نجساً مصلتاً عليها في أيدي الخنازير؟!

 وحين نتساءل : كيف استطاع العدو أن يشتري هؤلاء الجنود ، وأن يسرقهم من أحضان أمتهم ، ليسخرهم هذا التسخير الخبيث الذي لا يرضى به الهمجيون البدائيون ، فضلاً عن المثقفين الذين يدعون التقدمية ، ويلقبون أنفسهم بالطلائع المتحررة؟

 فإن الجواب يأتينا من الواقع بأن العملة التي يشتري بها العدو شباباً من أجيالنا الناشئة . ثم يجندهم في صف المواجهة ضدنا ، هي عملة تبذل للأهواء والشهوات بغير حساب ، أما مادتها فالمرأة الفاجرة ، والشهوة العاهرة ، والخمرة المضلة ، والرشوة المذلة ، ومطامع المال والسلطان ، وأحياناً أوراق مجد علمي تُمنح على صفة شهادات عليا ، ويجري ضمن ذلك كله عمليات تغيير كلي لجهاز التفكير ، وتغيير كلي في المختزنات العاطفية ، وتبديل تام أو ناقص لعناصر الكيان الذاتي التي هي قوام الشخصية .

 وبعد هذا التغيير والتبديل تتم عملية التجنيد الطوعي ، أو التجنيد المسوق بالسلاسل ، والمدفوع بالسياط اللاهبة ، خوف الحرمان والفضيحة ، وأخيراً خوف القتل بأي سبب ظاهر أو خفي .

 وما التقدم والعقلانيات والبحث العلمي والنظرة الأكاديمية إلا ألفاظ وشعارات تستعمل في الأقوال فقط ، وليس لمدلولاتها الحقيقية واقع معتبر لديهم .

 تزييف في الألفاظ ،تزييف في الحقائق ، تزييف في المعارف ، تزييف في الرجال ، تزييف في المؤسسات الصغرى والكبرى ، تزييف في الدول وتكوين الأمم والشعوب ، هذه هي خطتهم .

 وغرضهم الحقيقي تدمير الأمة الإسلامية وفي مقدمتها الشعوب العربية تدميراً يشمل ما يسمونه في مصطلحاتهم : “البنية الفوقية – البنية التحتية – الأصعدة العليا – الشرائح الوسطى ، والجانبية والعلوية والسفلية” إلى آخر هذه المصطلحات الإيهامية ، التي يقذفونها للتغطية حيناً ، وللتهويل حيناً آخر ، وللتظاهر بارتقاء المستوى الفكري أمام الذين لم تتجاوز عقولهم طور مراهقتها ، بغية السيطرة الفكرية عليهم ، وتقييدهم بمصطلحات يتميزون بها ، ويدسون في المراد منها ما شاءوا .

 وجملة هذه المصطلحات تدور حول عقائد المسلمين ومفاهيمهم الإسلامية والأخلاقية والاجتماعية ، وحول مستويات المجتمع الإسلامي على اختلافها ، فهم يشرحونه إلى شرائح وفق مخططهم ، ويوجهون لكل شريحة وسائل تدميرها ، ويركزون معظم طاقاتهم لتدمير العقائد والمفاهيم والأخلاق وسائر القيم والتطبيقات الإسلامية ، ومراكز حماية كل هذه الأثقال التي تقف في طريق تسلطهم الكامل على الأمة الإسلامية وشعوبها المختلفة .

 وانطلت حيلة التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي لا تتعارض مع الدين ولا تمس عقائده ومفاهيمه الأساسية كما زعم أجراؤهم والمنخدعون بهم .

 وتجند لمؤازرتها ومناصرتها فريق الطامعين ، وسارت من ورائهم جماهير العمال والفلاحين وصغار الكسبة ، وقادة المسير صنائع وأجراء من طبقة القيادات المثقفة ، الذين استطاعوا أن يشتروهم أو يغرروا بهم ، إذ وجدوا في نفوسهم مواطن ضعف نؤهلهم لهذه العمالة .

 وقامت الثورة ، ورافق إقامتها حملة عنيفة من ضجيج الوعود الكبيرة بتحقيق النصر المنشود ، وسارت وفق المخطط الذي رسم لها ، وفي الوقت المناسب سيقت إلى خيبة كبرى حملت آلام نتائجها الأمة العربية والأمة الإسلامية من ورائها .

 وأزيح الستار عن الفصل الأول من التمثيلية ، وطلع الملحد العميل يقول : إن الهزيمة قد كانت بسبب وجود رواسب من الذهنية الدينية لدى القيادات الثورية في حركة التحرر العربي ، وبسبب عدم التغيير الشامل في تركيب المجتمع كله ، لأن التغيير الاقتصادي والاجتماعي لا يكفي لتحقيق النصر ، بل لا بد من تغيير يشمل المبادئ والعقائد والتقاليد وسائر المواريث القائمة في المجتمع العربي .

 هلمَّ إذن إلى هذا التغيير ، لتفقد الأمة العربية كل كيانها وكل مقوماتها ، وعندئذ تسقط سقوطاً كاملاً في يد عدوها ، الذي يستعبدها ويسخرها فيما يريد .

 وهذا هو ما يهدف إليه العدو في خطته ضمن حربه الشاملة للإسلام والمسلمين .

 وجاءت حرب رمضان (تشرين أول- أكتوبر) في عام 1973م فأظهرت للناس جميعاً أن الإسلام لما دخل في المعركة دخولاً اسمياً وبصورة جزئية ظهرت في الأمة العربية بطولات حقيقية لم يكن لها وجود مطلقاً في حرب (حزيران-يونية) عام 1967م ،وكان من نتيجتها تحول جزئي لصالح الأمة العربية ، وكان في هذا تكذيب واقعي لمفتريات الملحد الماركسي العميل .

 وقد يبدو عجيباً أن يوجه هؤلاء الملاحدة الماركسيون انتقادهم لحركة التحرر العربي وقياداتها الثورية ، إذ لم تقم بتغيير شامل في مجال سلطانهم ، يتناول كل إرث الأمة العربية ، من عقائد ومبادئ وأخلاق وعادات ومفاهيم ومشاعر نحو أمجادهم وتاريخهم .

 ولكن هذا العجب ينتهي تماماً حين نعلم أن المخططات المرحلية للحروب الحديثة التي يحركها أساطين المكر العالميون لا تهتم بالأشخاص ولا بالمنظمات .

 إن الأشخاص والمنظمات وسائر الأدوات المرحلية هي بمثابة جسور توضع لتنسف متى تم العبور عليها ، حتى لا يعود عائد عن طريقها إلى المنطلق الأول ، وكل من يقدم نفسه جسراً لها من أشخاص أو منظمات فليعلم أنه سينسف بدداً متى استنفد الماكرون أغراضهم ومنه ، وعندئذ لا يجد عاطفة تحنو عليه ، ولا وفاء يستقبله .

 وكل لاحق من هذه الجسور المرحلية لا بد أن يؤدي وظيفة تهديم من سبقه وانتقاد أعماله ، ليقدم تبريراً لمرحلته الجديدة ، وليمحو من الأذهان ما ترسب فيها من مفاهيم كان يقدمها السابق .

 وكل ذلك في ترتيب الخطة العامة أزياء فكرية مرحلية ، يجب تغييرها لدى تنفيذ المرحلة التالية ، إلا أنها تمهيد ضروري لها .

 وليس لها منا مجرد تحليلات ذهنية ، وتقديرات خيالية ، بل مكتوبات العدو السرية تنص عليه بصراحة لا تقبل التأويل .

 مسكينة هذه الجسور البشرية كيف تقدم خدماتها الجلي للشياطين ، لتقدم أنفسها فيما بعد ضحايا لهم ، وليس لها منهم عبر الرحلة القاسية الشاقة إلا الإباحيات المختلفات ، والمواعيد الكاذبات ، وأنواع من المساعدات للتسلط على أمتهم في الأدوار المرحلية .

 ولتحويل الأنظار عن العدو الحقيقي بدأ الملاحدة الماركسيون يهونون من أمر مكايد الاستعمار ، ومكايد الصهيونية العالمية ، ويوجهون كل اهتمامهم لميراث الأمة العربية من قيم وأخلاق ومبادئ وعقائد وعادات وتقاليد ومفاهيم ، ويحملون هذا الميراث وزر تخلف هذه الأمة ، ووزر الهزيمة العسكية التي صنعتها التقدمية العربية بأيديها ، سيراً مع المخطط المرسوم لها .

 ومع أن الماركسيين كانوا مع الذين حملوا شعارات محاربة الاستعمار في الوطن العربي ، إلا أن ذلك قد كان منهم خطة مرحلية ، أما اليوم فالصهيونية العالمية ليست عدوة لهم ، إن عدوهم الأكبر عقائد الإسلام ومبادئه ، ومفاهيمه وتشريعاته ، وما له من رصيد كبير في الجماهير العربية ، لأن هذه هي العدو الأكبر لليهودية العالمية ، ومن يسير في ركابها أو يتأثر بدسائسها .

 قال الناقد (د. العظم) في كتابه “نقد الفكر الديني” في الصفحة (13):

 “قامت حركة التحرر بتجريد العلاقة الاستعمارية في حياة الوطن العربي عن جملة الظروف التاريخية ، والأوضاع الاجتماعية العربية المتشابكة معها ، والمحيطة بها إلى درجة جعلت “الاستعمار” يبدو وكأنه الحقيقة المباشرة الوحيدة الماثلة في مجرى الأحداث في المنطقة والمحركة لها . أي : كان هناك اختلال أساسي في التوازن بالنسبة لنظرة حركة التحرر إلى نفسها وواقع مجتمعها ، وإلى أعدائها والعالم الخارجي المحيط بها ، بصورة عامة . بالغت عملية التجريد هذه في تبسيطها للواقع التاريخي المعقد ، مما جعل (الاستعمار) – أحياناً الصهيونية العالمية – يبدو وكأنه القوة الوحيدة المتحكمة ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، بحركة المجتمع العربي ، وبالبيئة التي تثير ردود فعله . أدى هذا القصور إلى ما يشبه الإهمال التام لأوضاع القوى والمؤسسات والتنظيمات والمجهودات الذهنية الموجودة دوماً في التركيب الاجتماعي (العربي) والفاعلة باستمرار في حياته ، والمهمة أيضاً في تحديد ردود فعله وأنماط سلوكه الجماعية والفردية . إن الوجه الآخر لعملة تجريد العلاقة الاستعمارية على هذا النحو هو التعصب للوهم المثالي الكبير القائل: بأن الأيديولوجيات الغيبية والفكر الديني الواعي الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم وعادات وتقاليد … إلخ هي حصيلة للروح العربية الخالصة الثابتة عبر العصور ، وليست أبداً تعبير عن أوضاع اقتصادية متحولة ، أو قوى اجتماعية صاعدة تارة ونازلة تارة أخرى ، أو بنيات طبقية خاضعة للتحول التاريخية المستمر ، ولا تتمتع إلا بثبات نسبي”.

 ألا يمثل هذا الكلام وقاحة بالغة النهاية ، لا يفعلها إلا أجير ذليل باع نفسه للصهيونية العالمية عن طريق الإلحاد الماركسي؟!

 ولا يشك خبير بحقائق الأمور أن سبب تخلف العالم العربي هو هجره لمفاهيم الإسلام الصحيحة المتقدمة جداً ، ثم تعلقه بوافدات تفد إليه من أعدائه ، الذين يخشون أن يصحو من نومه العميق ، ويستمسك من جديد بإسلامه ، ويثب وثباته المدهشة ، ويحتل قيادة العالم مرة ثانية .

 أما الوافدات الوبائية التي تفد إلى بلاد المسلمين من خارج حدودهم فالذين يحملونها بأمانة تامة للعدو وخيانة تامة لأمتهم وتاريخهم معروفون تماماً ، وأقوالهم وأعمالهم تدل عليهم ،ولئن اختفوا حيناً فلا بد أن يظهروا بعد حين .

 يقول الناقد (د. العظم) في الصفحة (9) من كتابه:

 “تبيَّن أيضاً بعد هزيمة (1967م) أن الأيديولوجية الدينية على مستوييها الواعي والعفوي . هي السلاح (النظري) الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة ، ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن”.

 ويقول أيضاً:

 “يلعب الفكر الديني دور السلاح (النظري) المذكور عن طريق تزييف الواقع وتزوير الوعي لحقائقها : تزييف حقيقة العلاقة بين الدين الإسلامي – مثلاً – والعلم الحديث . تزييف حقيقة العلامة بين الدين والنظام السياسي مهما كان نوعه “.

 إنه في هذا يخص الإسلام بالذكر إعلاناً عن غرضه الذي يهدف فيه إلى تهديم الإسلام وإطفاء نوره ، عن طريق التهجم الصريح المقرون بالشتائم التي يطلقها زوراً وبهتاناً على الدين .

 ونحن لا ننتظر منه ومن كل الملحدين وسائر أعداء الإسلام غير هذا ، فهم يتميزون غيظاً منه كل يوم ألف مرة ، لأنه حق قوي كاشف لزيف المبطلين ، وكما يقول هذا الكاتب نفسه في أول كلامه في المقدمة عن الفكر الديني :

 “من نافل القول أن هذا النوع من الفكر يسيطر إلى حد بعيد على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي ، إن كان ذلك بصورة صريحة وجلية ، أو بصورة ضمنية لا واعية”.

 وقبل أن نفند أقواله عن الدين وعن الفكر الديني الصحيح غير المزيف ، وأمام حملات الكذب والشتائم الوقحة ، نقول ما قال الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

 {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ}.

 أي : يريدون مرادات كثيرة ، ويتخذون أسباباً متعددة ، ليطفئوا نور الله العظيم بأفواههم ، بأكاذبيهم وشتائمهم وأباطيلهم وافتراءاتهم ومغالطاتهم ونظرياتهم العلمية الباطلة ، والله مُتم نورِه رغم كل محاولاتهم الفاشلة ، ولو كرهوا ذلك وتميزوا منه غيظاً .

 أما ادعاؤه “بأن الفكر الديني يلعب دور السلاح (النظري) عن طريق تزييف الواقع ، وتزوير الوعي لحقائقه” ، فمجرد شتائم يطلقها تعبيراً منه ومن رفاقه وسادتهم المديرين لحركاتهم عن مدى غيظهم من الإسلام ، وعن مبلغ حقدهم عليه ، وعلى المسلمين الملتزمين بإسلامهم .

 وأنت خبير أن الشتائم ليس لها في ميادين الجدل المنطقي مقام . فمن قلت له : أنا موجود هنا أخاطبك ، هلُمَّ فناظرني ، فقال لك : هذا تزييف للواقع ، أنت مزور للحقيقة كاذب ، تريد أن تضللني وتزور وعيي ، أنت وهم ، أنت خيال ، أنت ليست شيئاً حقيقياً ، فمباذا ترد عليه؟ وبماذا تجيبه؟

 لا جواب له عند العقلاء إلا الإعراض عنه ، أما الدخول معه في حرب الشتائم فصناعة الغوغائيين ، لا صناعة الجدليين المفكرين الذين ينشدون الحق .

 وهذا هو سبيلنا مع أي عدو من أعداء الإسلام ، أعداء الحق ، حينما يوجه له شتيمة : “تزييف الواقع وتزوير الوعي لحقائقه” دون أن يقدم براهين صحيحة تثبت دعواه .

 ولكنه حينما يقدم ما يراه دليلاً وحجة فإننا لا نسكت عن مناقشتها ونقضها وبيان المغالطات فيها .

 وأما ادعاؤه : “أن الدين هو السلاح النظري الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية ، في حربها المفتوحة ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن”.

 فلا شأن للإسلام حقيقة في هذا ، والحق قد يتستر به المبطلون من كل جانب ، ولا يضير الطود المنيع أن يتستر في ظله من الواديَين فريقان متصارعان متضادان في مذاهبهما .

 أما التقدمية والرجعية والثورية وغير الثورية فألفاظ يطلقونها بأفواههم وفق أهوائهم .

 لقد استخدموا الإباحية الفكرية واللفظية أسوأ استخدام ، فقد يطلقون عبارة التقدمية على أقبح الرجعيات الفكرية والسلوكية ، فالقتل والسحق والتمثيل بالقتلى والتشويه والتعذيب الذي لا يخطر على بال كبار المجرمين ، والسلب والنهب وهتك الأعراض ، وكل الموبقات تقدمية ، مع أنها غاية في الهمجية الممعنة في الرجعية التاريخية ، التي ترجع إلى الوحشية البهمية ، وتجرُّع قوارير (الفودكا) حتى الارتماء على قمامات الشوارع هي في نظرهم تقدمية ، مع أنها في الحقيقة رجعية إلى ما دون مستوى البهائم وأضل سبيلاً ، والكفر بالله والإلحاد به تقدمية في نظرهم ، مع أن الكفر بالله من رجعيات القرون الأولى . أما الصدق والأمانة والمحبة الإنسانية والإخاء وحسن المعاملة وسائر مكارم الأخلاق وفضائل السلوك فهي في نظرهم وتسمياتهم رجعيات ، وهي أمور سخيفة يجب تركها والاستهانة بها .

 أليس هذا التلاعب بالحقائق تنفيذاً للمخطط اليهودي الشامل ، الذي يعمل على تجريد الأمة الإسلامية من كل قواها المقوّمة لكيانها ، حتى تفقد كل مقاومة ضد عدوها ، وتستلم لها استسلاماً كاملاً على ذل وضعة وعبودية؟

 وهؤلاء الملاحدة هم من أخطر جنود تنفيذ هذه الخطة اليهودية العامة ، ولا ضيرإذن أن يكون الإسلام سلاحاً ضدهم لأنهم أعداؤه ، وهم ومبادئهم وأفكارهم ومخططاتهم أسلحة فتاكة مسلطة ضد الإسلام ومبادئه وعقائده وتشريعاته والمؤمنين به .

 وفي كلام الماركسيين عن الرجعة العربية مغالطة قائمة على التعميم ، فحينما يطلقون عبارتي الرجعية والرجعيين فإنهم يقصدون الإسلام والمسلمين ودعاته وحماته ، ويقصدون أيضاً سائر الأنظمة العالمية المخالفة للنظام الماركسي ، وحماة هذه الأنظمة والمستفيدين منها ، وفي ضمن هذا التعميم المقصود يقذفون مغالطاتهم ، إذ يوهمون بأن الإسلام في نظرياته ومفاهيمه وتشريعاته يدعم النظام الرأسمالي مثلاً ، أو يدعم أنظمة الحكم الدكتاتورية ، مع أن موقف الإسلام من الأنظمة الرأسمالية المخالفة له مثل موقفه من الأنظمة الماركسية ، يخالف هذه وتلك ، ويقاوم هذه وتلك ،ولا يدعم هذه ولا تلك ، إن الإسلام نظام غيرهما جميعاً .

 هذه هي حقيقة الإسلام التي تشتمل عليها نصوصه ، ويعترف بها المسلمون الصادقون ، ولكن ما نصنع بالذين يستغلون اسم الإسلام لنصرة مذاهبهم التي تخالف الإسلام وهو لا يعترف بها؟

 هذا عيب في الناس وليس عيباً في الدين نفسه ، ونفاق الناس للمذاهب والأنظمة ، وتسترهم بها ، واحتماؤهم بقواها ، موجود في كل موقع فكري أو جماعي ، ولا يمكن أن يدفعه إلا نظام صحيح ثابت ، له في الأرض قوة تحمي مبادئه بحق ، وتكشف باستمرار المزيفين الذين يستخدمون اسمه وقوة الجماهير التي تنتسب إليه لدعم انحرافاتهم .

 فبالنفاق والتزوير والمخادعة قد يستخدم النظام الماركسي اسم الإسلام سلاحاً لدعم نظامه وحمايته ، إذا وجد جماهير تنخذع بنفاقه وتزويره ، ووجد أجراء وصنائع تزين أمام الجماهير نفاقه وتزويره وتتلاعب بمفاهيم الإسلام وفق أهوائه ، ولا يكون هذا بحال من الأحوال جريرة تلتصق بالإسلام أو عيباً ينسب إليه ، فالإسلام من نفاق المنافقين وتزوير المزورين بريء .

 وبالنفاق والتزوير والمخادعة قد يستخدم نظام رأسمالي اسم الإسلام سلاحاً لدعم نظامه وحمايته ، إذا وجد جماهير تنخدع بنفاقه وتزويره ، ووجد أجراء وصنائع تزين أمام الجماهير نفاقه وتزويره ، وتتلاعب بمفاهيم الإسلام وفق أهوائه ، ولا يكون هذا بحال من الأحوال جريرة تلتصق بالإسلام أو عيباً ينسب إليه ، فالإسلام الحق بريء من نفاق المنافقين وتزوير المزورين وتلاعب المتلاعبين .

فاتهام الإسلام بأنه سلاح في يد الرجعية ، أو في يد بعض الأنظمة التقدمية ، مغالطة قائمة على التعميم أولاً ، إذ يُعمِّم المغالطون اسم الإسلام فيجعلونه شاملاً لدين الله وللمنتسبين إليه بصدق ، وللمنتسبين إليه زوراً ونفاقاً ، وللمستغلين اسمه وهو منهم بريء ، وقائمة ثانياً على تحميل الدين جرائر المنافقين له ، والعابثين أمام بعض الجماهير بمفاهيم ينسبونها إليها ، وهي ليست منه .

 ولكن:

 يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون .

 قال الناقد (د. العظم) في الصفحة (9) من كتابه :

 “يلعب الفكر الديني دور السلاح (النظري) المذكور عن طريق تزييف الواقع وتزوير الوعي لحقائقه : تزييف حقيقة العلاقة بين الدين الإسلامي – مثلاً – والعلم الحديث ، تزييف حقيقة العلاقة بين الدين والنظام السياسي مهما كان نوعه (الاشتراكية – العربية – العلمية الإسلامية – المؤمنة – الثورية) تزييف الحقيقة حول التصنيف الثوري الصارم للأعداء والأصدقاء على مستوى العلاقات بين الدول في المرحلة الحالية الحرجة (مؤتمر القمة الإسلامي) تزييف حقيقة الصراع الاجتماعي القائم في الوطن العربي بين قوى اجتماعية ثورية صاعدة ، وقوى رجعية معطّلة ، بين قوى طبقية مسيطرة ، وقوى متمردة مسحوقة مستغلة (الدعوة لبناء الجسور بين الطبقات باسم الإصلاح والتسامح والمحبة وغيرها من القيم الروحية) ولا شك أن عملية التزييف هذه تعمل في صالح مجموعة مصالح طبقية ضيقة ومسيطرة ، تنزع نحو الاستماتة في المحافظة على نفسها وعلى مواقعها ،وبذلك نحو فرض أيديولوجيتها الدينية ومنظورها الميثولوجي المزيف للواقع على المجتمع بأسره ، وعلى حياته الفكرية والثقافية بكاملها تقريباً “.

 ( أ ) إذا تركنا شتائم (العظم) للفكر الديني في هذا النص ، لأننا عالجناها فيما سبق ، فإننا نلاحظ أن الذي يلعب دور التزييف بكل معانيه وصوره هو الفكر اللاديني الإلحادي ، لا الفكر الديني المؤمن .

 فاللادينيون هم الذين يصنعون هذه التزييفات ويستغلونها لستر واقعهم المعادي لجماهير الأمة ، والكثرة الكاثرة من شعوبها ، ولمبادئ هذه الجماهير وقيمها وأخلاقها وتاريخها ومؤسساتها .

 ( ب ) أما ما زعمه من تزييف حقيقة العلاقة بين الدين الإسلامي والعلم ، فقد كشفنا بطلانه بالشرح العلمي المركز في الفصل الثاني من هذا الكتاب ، وأثبتنا بالبراهين المنطقية أنه لا نزاع مطلقاً بين الدين الصحيح والعلم اليقيني الثابت ، وسنزيد هذا بياناً في جدليات تفصيلية ، نعالج فيها كشف أكاذيبه وتزييفاته في الفصل الثامن من هذا الكتاب ، والواقع أن الملاحدة وكل اللادينيين هم الذين يزيفون حقيقة العلاقة بين اللادين والعلم ، إذ يصورون كذباً وزوراً أن العلم صديق الإلحاد ، أو صديق اللاتديُّن ، ويحاول جهدهم ويكدون كداً لاهثاً ليثبتوا وجود التناقض بين الدين والعلم ، ويصنعون كل ألوان التزييف والتزوير لإثبات هذه الفرية ، ليتوصلوا من ذلك إلى نقض الدين وإبطاله .

 فمن المزيف للحقيقة والواقع ؟؟

 ( ج ) وأما ما زعمه من تزييف حقيقة العلاقة بين الدين الإسلامي والنظام السياسي مهما كان نوعه (الاشتراكية – العربية – العلمية الإسلامية – المؤمنة – الثورية).

 فالمزيفون في الحقيقة هم أصحاب المذاهب والنظم المخالفة للإسلام ، ويستأجرون أجراء للقيام في وسط الجماهير المسلمة بالدعاية لصور التزييف التي يصنعونها ، ستراً لمواقفهم المعادية للإسلام ، وكيداً لجماهير المسلمين ، ويسير وراءهم مخدوعون ، يظنون أنهم يخدمون الدين بما يصنعون . أما الدين ألإسلامي فلا يعترف بأي نظام مهما كان نوعه ، إذا كان يخالف المبادئ الإسلامية الصحيحة ، فللإسلام مناهجه ونظمه الواضحة البينة .

 والمسلمون الصادقون لا يقبلون أية صورة من صور التزييف التي يحاول غير المسلمين مخادعة الجماهير المسلمة بها .

 ( د ) وأما ما ذكره ” من تزييف الحقيقة حول التصنيف الثوري الصارم للأعداء والأصدقاء ، على مستوى العلاقات بين الدول في المرحلة الحرجة (مؤتمر القمة الإسلامية)”.

 وما ذكره من “تزييف حقيقة الصراع الاجتماعي القائم في الوطن العربي بين قوى اجتماعية ثورية صاعدة ، وقوى رجعية معطَّلة ، بين قوى طبقية مسيطرة وقوى متمردة مسحوقة مستغلة (الدعوة لبناء الجسور بين الطبقات باسم الصلاح والتسامح والمحبة وغيرها من القيم الروحية)”.

 فإن الإسلام أشد حرصاً على مقاومة هذا التزييف ، إن المؤمنين الصادقين أحرص من الملاحدة على إيجاد التصنيف الصارم ، وعلى إقامة الحدود الفاصلة بين الأعداء والأصدقاء ، أي : بينهم وبين الكافرين ، ولو كانوا من أبناء جلدتهم ، ويتكلمون بألسنتهم ، ولو كانوا منحدرين من السلالات الإسلامية ، ولو كانوا من أقرب أقربائهم ، فالإسلام لا يعرف مداهنة ولا مصانعة على حساب الدين والعقيدة ، أو على حساب جماعة المسلمين ، ولا يقر مبدأ المساومة في أي أمر من أمور الدين ، فالعدو عدو ولو كان أباً أو ابناً أو أخاً أو أقرب الأقربين في النسب ، والصديق صديق مهما كان بعيداً عن وشائج القرابات ، فالله يقول في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول):

 {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إَنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ منكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ منَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }

 فالأمر في المفهوم الإسلامي ليس بالسهل ولا باليسير ، إنه لعب بمصير الأمة ، ولعب بمصير دينها ، وفيه تمكين عدوها منها ، فليست موالاة أعداء الله من المعاصي الفردية العادية ، إنها خيانة للأمة جميعها ، وخيانة للكيان الإسلامي كله ، ودونها بنسبة كبيرة بعض كبائر المعاصي الفردية ، لأن هذه الموالاة لأعداء الله فرع من فروع النفاق .

 والله تبارك وتعالى يقول في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

 {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

 حشر الناقد (د. العظم) اتجاهاته السياسية المعينة في صلب قضايا يزعم أنها قضايا نقدية علمية بحتة ، فهو بالإضافة إلى أنواع التضليل الذي سلكه في المسائل العلمية ضد الدين ،أخذ يحشر اتجاهاته السياسية ليتابع عملية التضليل ، ويسلك فيها مسلك الغوغائية الدعائية المعروفة في الكتابات الصحفية ، التي يكتبها الملاحدة الماركسيون ، فقال في الصفحة (23) من كتابه:

 “كان الدين في أوروبا حليف التنظيم الإقطاعي للعلاقات الاجتماعية ، ولا يزال على هذه الحال في معظم البلاد المتخلفة وخاصة في الوطن العربي . في الواقع أصبح الإسلام الأيديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه (السعودية ، أندونيسيا ، الباكستان) والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد الذي تقوده أمريكا . كما كان الدين المصدر الأساسي لتبرير الأنظمة الملكية في الحكم لأنه أفتى بأن حق الملوك نابع من السماء وليس من الأرض . ثم أصبح اليوم الحليف للأوضاع الاقتصادية الرأسمالية والبرجوازية ، والمدافع الرئيسي عن عقيدة الملكية الخاصة وعن قداستها ، حتى أصبح الدين وأصبحت المؤسسات التابعة له من أحصن قلاع الفكر اليميني والرجعي . فالدين بطبيعته مؤهل لأن يلعب هذا الدور المحافظ ، وقد لعبه في جميع العصور بنجاح باهر ، عن طريق رؤياه الخيالية لعالم آخر تتحقق فيه أحلام السعادة ، وواضح أن هذا الكلام ينطبق على الإسلام كغيره من الأديان “.

 واضح من هذا الكلام (العظمى) أنه من قبيل الغوغائية الدعائية السياسية ، التي تعمل لنصرة مذهب سياسي واقتصادي معين ، أثبت الواقع فشله في المجالين السياسي والاقتصادي ، وأثبت أنه كان سلاحاً في أيدي الانتهازيين الطامعين باحتلال المواقع الرأسمالية والبرجوازية ، عن طريق النهب والسلب والاستغلال الظالم الآثم ، وأن شعارات هذا المذهب الاقتصادي لم تكن إلا أقنعة للتضليل .

 وقد عمد إلى ذكر بلاد إسلامية معينة لأنها ما زالت نوعاً ما ترعى الإسلام ، وتحمي شعاراته ، وتطبق بعض أحكامه .

 أما قصة الارتباط صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد الذي تقوده أمريكا فقصة أتقن تشييعها أجراء هذا الاستعمار ، وأجراء الصهيونية العالمية ، وغايتهم هدم الإسلام من وراء ذلك ، وهو يعلم أكثر من غيره دور الماركسية الملحدة التي تعمل لصالح الاستعمار الجديد ، وتعمل لصالح الصهيونية العالمية .

 وحرب رمضان عام (1973-1393هـ) ودور الدول الإسلامية فيها ، ودور المملكة العربية السعودية إذ دخلت فيها بكل ثقلها ، ربما يكون قد أغاظه كثيراً ، لأنه جاء على غير هوى سادته ، ولأنه كشف زيفاً كثيراً كان يصدّره هو وكل الذين يلبسون أقنعة التقدمية .

 وأكتفي عند هذه النقطة بهذا القدر لأنه ليس من خطتنا في الدفاع عن الدين وحقائقه أن ندخل معارك سياسية ذات طابع زمني ، وذلك لأن الدين دين الله ، وهو تعاليم ومفاهيم وحقائق فكرية ، ومتى هبطنا بها إلى مستوى الصراع السياسي فإننا تورَّط الدين توريطاً سيئاً ، إذ نجسده في واقع بشري ، مع أن الواقع البشري غير المعصوم قد يخالف الدين في كثير من التصرفات الإنسانية ، والدين لا يحمل جريرتها ، وإنما يحمل جريرتها المخالفون للدين أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الإيمان به والمطبقين لبعض تعاليمه ، ومن الذين يرفعون لواءه ، ويحرصون على نصرته .

 إن أي تجسيد للدين في واقع بشري غير معصوم عن الخطأ أو المخالفة يعتبر تشويهاً للدين ، وتحويراً في مفاهيمه وتعاليمه ، وهذه ليست خطة رشد في الدفاع عن الدين .

 إن الصراع من أجل الواقع البشري عمل سياسي قد يتصل بالمبدأ إلا أن له مجالاً آخر .

 وبالتضليل المقصود لمحاربة الإسلام بوصفه ديناً ربانياً ؛ يحاول أعداء الإسلام من ملحدين وغيرهم التقاط صور معينة عن الواقع البشري للمنتسبين إلى الدين ، ولو كانوا من أئمة المسلمين ومرشديهم ، ثم يأخذون هذه الصور البشرية المعينة ، ويجعلونها من الدين عقيدة ومفاهيم وأنظمة وغير ذلك ، مع أنها في الواقع ليست إلا انحرافات بشرية عن عقائد الدين أو مفاهيمه أو أنظمته ، وليس الدين هو المسؤول عنها ، ولكن أصحابها هم المسؤولون.

 وهذا التضليل من أعداء الإسلام مغالطة خبيثة ماكرة ، يقصدون منها تشويه الصورة الإسلامية من جهة ، واستدراج مغفلين من أنصار الدين ليتورطوا في الدفاع عن الواقع البشري ، فيستغله أعداء الإسلام استغلالاً سيئاً .

 يضاف إلى كل هذا أن المعارك السياسية الزمنية لها وجهات أنظار مختلفة ، ومن العسير جداً تمييز جانب الحق فيها ، وما أكثر ما ترى الغوغائية الجماهيرية رأياً أملته عليها الغوغائية الدعائية التي تنصر مذهباً اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً معيناً ، وتدعم مصالح معينة ، ثم يتبين بعد التجربة أن الرأي المناقض له كان هو الأحق بالاعتبار ، وأن محاربته كان رعونة وطيشاً ، وتورطاً في مزالق سياسية تكبد المنزلقين خسائر فادحة ، وتحمِّلهم مصائب كثيرة ، وقد تدفع بهم على أيدي أعدائهم ضحايا رعوناتهم ، وعندئذ تجد جنود الأعداء الذين دفعوا بهم إلى هذه المزالق يطبلون ويزمرون ويرقصون على أجساد الضحايا .

 أما زعمه : أن الدين أصبح اليوم الحليف الأول للأوضاع الاقتصادية الرأسمالية والبرجوازية ، والمدفع الرئيسي عن عقيدة الملكية الخاصة وعن قداستها … إلى آخر كلامه .

 فالواقع أن هذا الكلام ليس فيه من النقد الفكري شيء ، بل هو لون دعائي سياسي صحفي قائم على التضليل .

 إن أي دارس للنظام الاقتصادي الإسلامي يعلم بداهة أنه نظام فذّ قائم بنفسه ، فلا هو نظام رأسمالي يساير الأنظمة الرأسمالية في العالم ، ولا هو نظام اشتراكي يساير الأنظمة الاشتراكية في العالم ، ولكن قد تتلاقى الأنظمة الرأسمالية معه في بعض الجوانب ، وقد تتلاقي الأنظمة الاشتراكية معه في بعض الجوانب ، وينفرد الإسلام بمفاهيم خاصة وتنظيم كلي خاص ، والشبه الجزئي لا يعني التبعية بحال من الأحوال .

 وأما تحصن الرأسماليين بالإسلام فيشبه تحصن بعض الاشتراكيين به ، وهو ليس حصناً في الحقيقة لهؤلاء ولا لهؤلاء ، ولكن يتحارب الفريقان فيختبئ هؤلاء وراء جانب منه ، ويختبئ أولئك وراء جانب آخر منه ، وتتساقط بعض الضربات من هؤلاء وأولئك على الحصن الإسلامي زوراً وبهتاناً ، ولو كان في الحصن الإسلامي جنود حقيقيون لخرجوا وقاتلوا الفريقين معاً ، ولطردوهما عن جوانب الحصن .

 وأما قوله : “إن الدين قد أصبح المدافع الرئيسي عن عقيدة الملكية الخاصة وعن قداستها”.

 فإننا نقول : ما دامت الملكية الخاصة مكتسبة بطرق مشروعة يوافق عليها نظام الإسلام فاحترامها حق ، واحترام الحق من أسس مبادئ الإسلام العامة ، ولا يضيره في هذا أن توافقه أو تخالفه أنظمة وضعية ومذاهب اقتصادية أخرى ، فالحق أحق أن يتبع .

 وتعلن بإصرار أن النظام الإسلامي هو الأكمل والأصلح للإنسانية ، وستضطر الأنظمة الأخرى أن تتراجع إلى نظامه .

 وهل عيب في النظام الإسلامي أن يحترم الملكية الخاصة المشروعة ، لأنه لا يوافق في هذه الناحية النظام الماركسي؟

 إن العيب والنقص فيما خالف الإسلام ، نقول هذا بكل فخر واعتزاز .

 ثم نتساءل فنقول: هل تتنازل الأنظمة الماركسية عن ملكياتها لصالح دول أخرى ماركسية أيضاً؟

 إنهم يتقاتلون لحمايتها ، فأين بقيت مقومات المذهب؟

 مفتريات وأباطيل ، وخداع وتضليل!!

المصدر

كيف ترد على شبهات الملحدين

يقتات الملحدون في وسائل التواصل الاجتماعي على طرح الشبهات حول الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يناقشون أو يطرحون وجهة نظرهم المتعلقة بالإلحاد، وذلك لأن موقفهم ضعيف جدا. فليس أمامهم إلا أن يهاجموا ويلبسوا على المسلم ليبقى المسلم في موقف دفاعي دائم!

المطاردة والاستجابة

في بعض الأحيان نجد أن المشكلة لا تكمن في الملاحدة، فهم أهل جحود وكبر على أية حال، وإنما المشكلة في بعض الأفاضل ممن يتوهم أنه كلما جاءه ملحد بسؤال: ما تأويل هذه، وما تأويل تلك، فإنه يتعين عليه أن يجد له الجواب المفصل على نحو ما يريد هذا الملحد، وإلا كان الإشكال.

ويجب إدراك أمر مهم، هو أن الإيمان بالخالق وبنسبة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إليه ليس مشروطا عند العقلاء بمعرفة جواب كل شاردة وواردة ترميها الشياطين في خواطر الناس بشأن أفعال الله جل وعلا! فهذا جهل لا يضر، لأن العلم بتلك التفاصيل ليس واجبا في العقل ولا شرطا لازما للتسليم بالقواطع العقلية التي يجحدونها جملة واحدة.

بل ليس لازما للتسليم بشيء مما أخبرنا به الرب من صفاته سبحانه وتعالى! هذا أمر يعلمونه تمام العلم.

ولو جئناهم بعشرات التأويلات والتفسيرات والتعليلات والأجوبة فلن يكتفوا، لأن الغاية عندهم ليست تحصيل المعرفة بالأساس، وإنما البقاء على الإلحاد والتذرع له بكل ذريعة، ولهذا لزمهم تعليق الإيمان بالحق على شرط معرفي باطل لا يشترطه عاقل!

والملاحدة يتواصون دائما باستخدام أسلوب الهجوم والإغراق بالشبهات والأسئلة، وهذه عينة من إحدى الوصايا بينهم:

فهم لا يناقشون موضوع الإلحاد أصلا، بل إنهم أقل الناس مناقشة لهذا الموضوع، وإنما هم في الحقيقة يتحدثون عن الإسلام أكثر مما يتحدثون عن عقيدتهم (الإلحاد).

وهذا أسلوب بائس يدل في حد ذاته على ضعف الطرح الإلحادي، فعندما يطرح الملحد مثلا شبهة (خلق الشر)، فإن طرح هذه الشبهة أصلا يفترض أن هناك خالق وأن هذا الخالق قد خلق الشر! وعندما يطرح شبهة حول نصوص القرآن فإن الهدف من هذا هو التشكيك بأن القرآن وحي من الله، ولننظر إلى النتيجة على افتراض أن هذا هدفه: هل لإثبات عدم صحة القرآن أية علاقة بوجود الخالق؟

فالملحد عموما ليس لديه أي طرح إلحادي، فكيف يكون الرد عليه؟

لا تشغل نفسك أبدا بالرد على شبهته، لأنك إن رددت عليه فسوف يعطيك شبهة أخرى.. ثم أخرى.. وهكذا، حتى يستهلك جهدك، أو يأتيك بشبهة يصعب عليك ردها. لا ترد على شبهته إلا عند الضرورة، وعندما ترى أن الرد مهم جدا.

بماذا ترد عليه؟

عندما يطرح الملحد شبهته أو تعليقه طالع في نبذة الحساب عنده لتتعرف على توجهه بشكل أفضل، ثم استئذنه بطرح بعض الأسئلة فقط إن كان لا ينزعج من الأسئلة، وسأخبرك لاحقا لماذا يجب أن تستأذنه.. فإذا وافق بادره بالسؤال التالي:

هل أنت ملحد أم لاأدري؟

هذا السؤال هو الذي يخص الإلحاد وليس طرح الشبهات والرد عليها.

إن رفض الإجابة فإن لديه إشكاليات قوية ونقاط ضعف يخشى من نقاشها، ويمكنك حصاره وملاحقته في النقاش حتى يجيب.

فإن أجاب بأنه (ملحد)، فهو هنا قد وضع نفسه في موقف بائس، وهو أضعف موقف يمكن أن يضع الملحد نفسه به. بادره فورا بسؤال مثل:

أنت إذن تقول إنه لا يوجد خالق؟ (ملاحظة: الخالق هو الله، لكن دائما ناقشه باستخدام لفظة “الخالق” وليس “الله”، لأنك إذا استخدمت لفظ الجلالة “الله” فإنك تعطيه مخارج يهرب منها في النقاش، كصفات الله.. الخ.)

فإذا أجابك بنعم، أو قال أرجح ذلك، فقد وقع في مشكلة منطقية كبيرة. إذ أنه يتحمل عبء الدليل على هذا الادعاء.. فيمكنك حينئذ أن تسأله بسؤال كهذا:

هل لديك دليل على عدم وجود الخالق أم أنك تؤمن بذلك بلا دليل؟

الملحد المتمرس في النقاش سيهرب أصلا إلى ادعاء أنه لاأدري، فيجعل نفسه بلا موقف لكي لا يلزم نفسه بأي إثبات أو نفي.. ولكن يكفي من هذا أنه لا يمكنه أن يدعي أي شيء، فما عليه سوى الاستماع وطرح الأسئلة. وهنا يمكنك مراجعة تغريداته وستجد فيها عادة ما يدل على إلحاده التام.. ويمكنك حينئذ كشف تناقضه..

ولكن عموما ما دام وصل إلى اعترافه بأنه ملحد فسوف يجيب على سؤالك بقوله: إنه يرى عدم وجود خالق لأنه لا يوجد دليل على وجود الخالق..

وهذا هو المطب المنطقي، لأن هذه مغالطة منطقية شهيرة اسمها مغالطة الاحتكام إلى الجهل fallacy of ignorance، وملخصها هو أن الاحتجاج بعدم وجود دليل لا يصح. بمعنى آخر: إن عدم وجود الدليل لا يعتبر دليلا على العدم. فإذا قلت مثلا إنه ليس لديك دليل على وجود شخص خلف الجدار فلا يصح أبدا أن تدعي بناء على ذلك أنه لا يوجد شخص خلف ذلك الجدار. ولو كان هذا الأسلوب في الاستدلال صحيحا فإن هذا يعني أن القارة الأمريكية لم تكن موجودة قبل ألف عام، لأنه لا أحد لديه دليل على وجودها في ذلك الوقت..

وبهذا تكون قد أسقطت دعواه بعدم وجود الخالق تماما عن طريق إثبات المغالطة المنطقية التي قامت عليها دعواه.

طيب لنفترض أنه لا يعتبر نفسه ملحدا وإنما أجاب على السؤال الأول بأنه لاأدري.. فكيف تتعامل معه؟

هنا تسأله ببساطة:

ما نسبة احتمال وجود خالق وما نسبة احتمال عدم وجوده؟

فإذا قال 50% و 50%، فهذا يعني أنه ليس لديه موقف من ناحية وجود الخالق، ولك أن تلزمه بعدم الاعتراض على وجود الخالق لأنه ليس لديه موقف، وأن الاعتراض يجب أن ينطلق من موقف يتضمن معارضة الآخر المخالف.. فعليه أن يحزم أمتعته ويذهب ليقرر له موقفا واضحا من وجود الخالق وحينها يمكنه أن يعترض أو يوافق. وجواب الـ (50-50) يأتي غالبا من الملاحدة واللاأدريين المتمرسين في النقاش والمطلعين على المغالطات المنطقية.. وإن شئت فإنك تستطيع أن تطالبه بدليل ال 50% التي بنى عليها وجود الخالق، وتدخله في متاهات منطقية، لأن دليل الإثبات لا يتجزأ، إما أن يكون دليلا أو لا قيمة له.

ولكن في الغالب ستجد أن من يناقشك من الملحدين أو اللاأدريين العرب هم من الشباب الغر المغرور الذي ليس لديه أي عمق في النقاش، وإنما هو يردد تلك الشبهات كالببغاء، ويعتقد أن الناس جهال لا يفقهون. وستجد أنه يعطيك رقما يفيد ميله إلى ترجيح عدم وجود الخالق، ويتراوح هذا الرقم من 51% إلى 99%.. وبعضهم لشدة جهله تجده يعطيك احتمالا لعدم وجود الخالق هو 99.99%، وهو بترجيح عدم وجود الخالق يحاول أن يبرر لنفسه الهجوم على الإسلام، ولا يعلم أنه وقع في المغالطة، وأن عليه عبء الدليل لإثبات دعواه.

فإذا اتضح أنه يميل بأية درجة إلى ترجيح عدم وجود الخالق، هنا يمكنك أن تتبع معه نفس الأسلوب مع الملحد، كل ما عليك هو أن تطالبه أن يخبرك بسبب هذا الترجيح.. لابد أن هناك دليلا أو مبررا منطقيا لهذا الترجيح.. فإن عجز عن الإتيان به فمعنى هذا أنه يرجح بناء على هواه ورغبته الشخصية وليس على أساس منطقي أو عقلي.. وهذه ضربة قوية تهدم طرحه كاملا، وتكشف أنه ملحد نفسي.

ستلاحظ عند المناطق المحرجة في النقاش أنه سيتذمر ويطرح شبهات خارجة عن الموضوع، وقد يطالب بطرح الأسئلة مثلك، أو يتهمك بأنك تحقق معه.. ولهذا قلت إن الاستئذان منه ضروري في البداية.. حتى لا يكون لديه مجال للهروب من النقاش.

ستجد مثلا أنه سيطالبك بإثبات وجود الخالق، هنا لا تتجاوب معه، وقل إنك لم تدّع وجود الخالق حتى الآن، وإنما هو الذي ادعى عدم وجود الخالق فعليه عبء الإثبات.. وعندما يحين الوقت مثلا، أو تحتاج إلى إثبات وجود الخالق فإن هذا الموضوع ، وأيضا هذا الموضوع قويان ومفيدان جدا.

طريقة أخرى لنقاش الملحد

قد يسلك الملحد أسلوب الهجوم، ويطرح عليك هذا السؤال: هل من دليل على وجود الله؟

فتسأله إي دليل تبحث عنه؟

فيرد عليك: أُريد رؤيته..

فترد: ماذا لو رأيته؟

فيقول: سأسلم وأؤمن بوجوده.

وهنا يكون التساؤل منك: كيف ستعرف أنه إله؟

هو إذن أقر بإجابته بإمكانية وجود الإله وإمكانية التعرف عليه، فالمشكلة ليست في استحالة وجوده وإنما في رؤيته.

وكأنه بهذا النقاش يقول صراحة: ليس لدي مانع من الإيمان بوجود إله ولكني أريد أن أراه.

هنا تكون أسقطت إنكاره لوجود الإله، ويمكنك بعدها أن تستطرد معه في سؤالك: لو رأيته فكيف تعرف أنه إله.. وسترى كيف يسقط في يده ويحتار.. فالله سبحانه ليس كمثله شيء.

وقد يبدأ الملحد النقاش بسؤاله مثلا: أثبت أنت أن إلهك على العرش في السماء؟

من خلال قوله هذا فهو مؤمن بالله وهو لا يدري.. فكيف يكون ذلك؟

قل له: بما أنك تريد إثباته بتصور محدد فهذا يعني أن مشكلتك في تصوره لا في وجوده، وهذا جيد..

والإلحاد هو “لا إله”، أي لا وجود لله، وليس لا صفات لله! فرفض الصفات هو إيمان مسبق بالإله.

يمكنك أيضا أن تسأله: ما قولك لو أخبرك شخص ما أنه هو إلهك الذي خلق الكون؟

سيخبرك أنه لن يصدقه، ولو سألته لماذا؟ سيقول إن الإنسان لا يستطيع فعل ذلك.

فهو الآن قام بحصر نفسه من حيث لا يدري!

فكونه رفض ذلك الشخص لأنه لا يستطيع يدل على أن استبدال ذلك الشخص العاجز بإله قادر على كل شيء سيكون معقولاً مقبولاً.

ماذا إن كان ربوبيا؟

الربوبي هو الذي يؤمن بوجود الخالق لكنه لا يؤمن بالأديان ولا بالأنبياء، وهو من أغبى خلق الله، حيث يمكنك بسهولة أن تهدم عقيدته. فهو شديد الحيرة في الرد على الأسئلة، ولهذا تجد أكثرهم يدعي أنه لا يهتم بمعرفة شيء عن الخالق لكي يريح نفسه من الرد على الأسئلة المحرجة.

وتكمن الصعوبة في النقاش مع الربوبي في أن لكل ربوبي اعتقاداته الخاصة التي يؤلفها من رأسه، والسبب هو عدم وجود إجابات لديهم على الأسئلة الحاسمة.. اسأله مثلا:

ما هي صفات الخالق؟

فإذا أعطاك أي صفة من الصفات طالبه بالأدلة عليها، وخصوصا الصفات الغيبية.

ويمكنك أن تطرح عليه أسئلة محرجة جدا ولا يوجد لها إجابة إلا عند المسلمين، مثل سؤال وجود الشر، وهل هناك آخرة أم لا؟ وإذا لم تكن هناك آخرة وعقاب وثواب فكيف تتحقق صفة العدل عند الرب والعدل غير متحقق في هذه الدنيا.. الخ. أما إذا كان لا يعرف أي صفات عن الخالق فهو يؤمن بمجهول، وهذا يكفي لإسقاط إيمانه. فمفتاح النقاش مع الربوبي هو إقراره بالغيبيات من دون مصادر، أو جهله بما لا يسعه الجهل به منها.

ويمكنك أيضا أن تنطلق من أسئلة مثل:

هل الربوبية تقوم على وجود الخالق ومعرفته أم يمكن أن تقوم على وجوده والجهل به؟ (الإيمان بوجود مجهول)

هل يكفي العقل لمعرفة الخالق وصفاته والغيبيات الأخرى أم يلزم الوحي؟ (إذا كان الوحي ضروريا فهو موجود حتما فمتنع إنكاره ويجب إيجاده وتحديده، ويلزم أن تكون معايير الاستبعاد في تحديد الوحي الصحيح منطقية. أما إذا ادعى عدم وجود وحي فإن وجود العقل الباحث عن الغيبيات دون توفيرها يناقض اتصاف الخالق بالحكمة وينسب إليه العبث وهذا ممتنع).

لماذا خلقنا؟ (هنا سيشعر الربوبي بالإشكال، فإذا كان الخلق من أجل العبادة أو الإيمان فسوف يسقط أي افتراض لاحق للربوبي أن الخالق قد غرس معرفة صفاته في قلب كل مؤمن، وسيقع الربوبي في إشكالية أخرى هي عبادة إله مجهول، أما إن كان الجواب هو عدم وجود أي هدف من الخلق أو عدم إمكانية الجواب فهذا قول بالعبث في الخلق، وهو يناقض حكمة الخالق أيضا).

ويجب أن نؤكد على السؤال المهم: هل يتفق مع حكمة الخالق أن يهبنا عقلا ليس لديه عن الخالق سوى الأسئلة ثم لا يعطينا مصدرا يخبرنا عن تلك الصفات؟ (لقد خلقَنا الخالق بكل احتياجاتنا ثم وفرها لنا من هواء وماء وطعام وأمن ولباس.. الخ، فمن المنطقي عندما خلق لنا عقولا تسأل أن يوفر لها الإجابة من خلال الوحي، ومن هنا يأتي التكامل: العقل يدرك وجود الخالق والوحي يعرفنا به وبالحساب وبالغاية من خلقنا.. هنا تظهر أهمية الدين).

ماذا بعد الموت؟ (يمكن النقاش هنا بنفس طريقة السؤال السابق، مع إثارة مسألة العدل الإلهي ومعضلة الشر كما أشرنا سابقا)

قد يتذرع الربوبي بأهمية الشك، وهذه إشكالية لديهم، فإذا كان الشك محمودا لديهم فما نقيضه؟ إنه اليقين.. وبالتالي فإن النتيجة هي أن اليقين مذموم.. وهذا انتكاس في العقل والفطرة.

عندما تحيرك شبهة

قد يطرح الملحد أو اللاأدري أو الربوبي شبهة لم يسبق لك أن عرفتها.. وكل شبهاتهم تقوم على المغالطات والتدليس.. فإذا احترت في شبهة فما عليك إلا أن تفتح محرك البحث Google وتبحث عن الردود عليها، فهناك ردود عديدة على جميع الشبهات تقريبا، وهي ردود تكشف المغالطات والتدليس في تلك الشبهات.. اكتب كلمة (شبهة) ثم بعدها وصف الشبهة..

إذا سب أو شتم

غالب بضاعة الملاحدة والربوبيين هي السب والشتائم والسخرية بالله ودينه ونبيه وكتابه.. فإذا لاحظت أن المناقش قد يمارس هذه العادة البذيئة أثناء النقاش نبهه في البداية إلى أن يناقش باحترام، أما إذا لاحظت أنه بدأ بالسخرية والسباب، فلا أنصحك أبدا بمواصلة النقاش، وإنما كل ما عليك هو حظره.. وهو في الغالب يلجأ لذلك عندما يتورط، وهو يعلم أنك ستنهي النقاش وتحظره، وذلك أفضل عنده من انكشاف جهله.

المصدر

كيف يغضب الله وهو يعلم الغيب؟

إذا كان الله يعلم منذ الأزل بوقوع المعاصي فكيف يغضب إذا وقعت؟

هذا السؤال يطرحه الملحد على المسلم، وقد يلتبس الأمر على بعض المسلمين.

مصدر الإشكال

مصدر الإشكال في هذه الشبهة وفي شبهات أخرى تتعلق بصفات الله تعالى هو استحضار الصفات الإلهية في الخيال.. وكأن صفات الخالق هي نفسها صفات المخلوق. والصحيح أن ذات الخالق لا ندركها، وصفاته لا نعرفها إلا من الوحي، والله سبحانه يقول في الوحي: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”.

فلا يصح أن نتخيل صفاته كما نتخيل صفات البشر، بل إن كل ما نتخيله من الصفات فصفات الله خلافها، وإنما نحن نعقل تلك الصفات كما وصف الله بها نفسه أو وصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ونتوقف عند كيفيتها.

غضب الله وغضب البشر

ولكي نعرف صفة الغضب التي يتصف بها الله عز وجل فسوف نستعرض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى غضب الله ونلاحظ أمرا مهما، وهو أن غضب الله نوع من أنواع العقاب يقع على من يستحقه وليس كغضب البشر الذي يقع في أنفسهم فيؤلمهم ويزعجهم، ولهذا فهو صفة كمال في حق الله وصفة نقص في حق البشر.

“… وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون”

“بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين”

“ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله”

“ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما”

“قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه… الآية”

“قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان… الآية”

“إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين”

“ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير”

“من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم”

“كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى”

“والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين”

“والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد”

“ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا”

“ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون”

“يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور”

ثم لاحظ وصف الغضب عند الناس في القرآن، فهو هنا حالة انفعالية يستحسن التخلص منها:

“والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون”

وتأمل في هذه الآية مقارنة واضحة بين غضب الإنسان (موسى) وغضب الله تعالى، الأول صفة نقص بشري مزعجة، والآخر صفة كمال تحل عقوبة بالعصاة:

“فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي”

لم لا يغضب الله قبل المعصية؟

إذا عرفنا أن غضب الله إنما هو عقوبة تقع على مستحقيها، فإن من غير المناسب أن نتساءل: لم لا يغضب الله قبل وقوع المعصية إذا كان يعلم أنها ستقع.. إذ كيف تأتي العقوبة قبل ارتكاب الجرم؟

وكما ذكرنا آنفا، فالإشكال الأساسي يكمن في الاعتقاد أن كيفية الغضب عند الله هي نفسها الكيفية التي يغضب بها البشر، وهذا خطأ فادح يقع فيه الكثيرون عند الحديث عن صفات الله تعالى.. فيجب أن نستحضر دائما في أذهاننا أنه “ليس كمثله شيء”، ويجب أيضا أن نلاحظ نفي التشبيه المضاعف هنا: (الكاف) و (مثل)، فلا تشابه أبدا بين صفات الخالق وصفات المخلوق إلا من ناحية كونها موجودة.

 المصدر

كوزمولوجيا الأكوان المتعددة ونشأة الحياة (1)

بدأ العلماء يدركون على نحو متزايد أن الموارد الاحتمالية للكون المرصود غير كافية لتفسر – بالصدفة وحدها– نشأة أبسط خلية معقدة، أو نظامٍ متكاثر ذاتيًّا من جزيئات الرنا (أو قل حتى: بروتينٍ مفردٍ بطول متواضع)، واستجابةً لذلك سعى بعض العلماء لتفسير نشأة الحياة بالاستدلال بآليات مادية أخرى أو عمليات تنظيم ذاتي، ولكن كما ذكرنا في الفصلين الحادي عشر والرابع عشر؛ فقد تعثّر هذا النوع من النظريات أيضًا، ولذلك تطلَّع بعض العلماء إلى ما وراء كوننا للحصول على موارد احتمالية إضافية تجعل تفسير نشأة الحياة بالصدفة أكثر قبولًا.

وفي الشهر الخامس من عام 2007 نشر يوجين كونين من المركز القومي لمعلومات التقانة الحيوية في معاهد الصحة القومية، مقالًا في مجلة بيولوجي دايركت Biology Direct بعنوان “نموذج التضخم الكوني الأبدي، والانتقال من الصدفة إلى التطور الحيوي في تاريخ الحياة”، واعترف كونين في مقاله أنه لا يمكن تفسير نشأة الحياة بفرضية عالم الرنا ولا بأي فرضية تطور كيميائي مادية، عند أخذ الموارد الاحتمالية في الكون بأكمله بعين الاعتبار، وكما شرح كونين: “رغم الجهد التجريبي والنظري المبذول، فلا يوجد حاليًا سيناريو مقبول لأحداث نشأة عملية تضاعف الجينات وترجمتها إلى بروتينات، وهما العمليتان الرئيسيتان اللتان تشكلان معًا لب الأنظمة الحيوية والمتطلب السابق للتطور الحيوي، قد يعرض مفهوم عالم الرنا أفضل فرصة لحل هذه المعضلة، ولكنه حتى الآن لا يفسر ظهور أنزيم رنا ريبليكاز فعال أو نظام الترجمة”.1

ولمعالجة هذه المشكلة اقترح كونين تفسيرًا لنشأة الحياة يعتمد على مجرد الصدفة، ولكن تفسيره الخاص المعتمد على الصدفة لا يرجع إلى أي عملية تحدث على كوكب الأرض أو حتى ضمن الكون المرصود، بل افترض بدلًا من ذلك وجود عدد لا نهائي من الأكوان التي تتوافق مع الحياة، وجادل بأن وجود هذه الأكوان سيجعل وقوع أغرب الأحداث غير المحتملة (كنشأة الحياة) أمرًا محتملًا، بل قد يجعله أمرًا محتّمًا.

ولتبرير ادعاءه بوجود الأكوان الأخرى استدل بإحدى نماذج نشأة الكون المبنية على نظرية التضخم في علم الكونيات inflationary cosmology والتي وضعها عالم الكونيات ألكسندر فلينكين Alexander Vilenkin تحت مسمى فرضية “العوالم المتعددة في عالم واحد”، إذ أنه وفق علم الكونيات التضخمي حدث لكوننا في أول جزء من الثانية بعد الانفجار العظيم توسع أُسِّيّ مفرط السرعة، ثم عاد التوسع ليهدأ ويسير بسرعة هادئة، وقد جاء علم الكونيات التضخمي أساسًا لتفسير سمتين محيرتين للكون إن نظرنا له من ناحية نظرية الانفجار العظيم في الكونيات، وهما تجانسه uniformity (homogeneity) وتسطحه flatness.

ويعني علماء الكون بالتجانس homogeneity أن الكون يبدو نفسه لجميع المراقبين، بغض النظر عن مكان وجودهم، وإحدى جوانب هذا التجانس هو تماثل إشعاع الخلفية الكوني الذي له الدرجة نفسها في كل الكون القابل للرصد، وهذه مشكلة تواجه نظرية الانفجار العظيم القياسية في علم الكونيات، إذ وفق هذه النظرية كانت الفوتونات في إشعاع الخلفية ترتد عن الإلكترونات في البلازما الساخنة التي ملأت الكون كله، واستمر ذلك حتى 300.000 سنة بعد بداية الكون، وعند تلك النقطة برد الكون بما يكفي لتتشكل الذرات المعتدلة كهربائيًّا، وتحرر إشعاع الخلفية، الذي وصلنا بالنهاية وأعطانا صورة عن الكون في عمر 300.000 عامًا بعد ولادته.

الشيء المحير في هذا الإشعاع هو أن له الحرارة نفسها في كل الاتجاهات إلى درجة جزء من مائة ألف، وهذا يقتضي أن الكون في عمر 300.000 عامًا كان ذا حرارة متجانسة إلى درجة لا تصدق، وهذا بدوره يتطلب شروطًا أولية ­دقيقة بدرجة فائقة، وبالتالي يمكن تفسير التجانس المشهود في إشعاع الخلفية الكوني وفق سيناريو الانفجار العظيم التقليدي بافتراض أن تكون الحالة الأولية للكون متجانسة للغاية في حرارتها وتوزيع البلازما فيها، وهذا يتطلب بدوره انفجارًا أوليًّا مضبوطًا بدقة متناهية.2

يسمى الكون المتجانس homogeneous “مسطحًا” إن كان متوازنًا بين الانهيار الثقالي النهائي eventual gravitational collapse والتوسع الأبدي eternal expansion، وفي هذه الحالة تكون هندسته الفراغية إقليدية تمامًا، ولن يكون الفضاء منحنيًا، ويصل الكون إلى هذا التسطّح عندما تكون كثافته الكتلية الحقيقية قريبة من الكثافة الكتلية الحرجة (الكثافة المطلوبة لإيقاف توسع الكون)، أي عندما تكون النسبة بين الكثافتين الحقيقية والحرجة قريبة من الواحد، وفي كوننا تكون النسبة بين هاتين الكميتين أقل من الواحد بقليل، ونتيجة لذلك سيستمر كوننا بالتوسع دون انهيار ثقالي جديد، ولا يكاد يكون للفضاء أي انحناء إجمالي overall curvature، ووجود ذلك التوازن الدقيق بين هذه القيم هو أمر يثير العجب وفق رؤية نظرية الانفجار العظيم النموذجية بسبب أن هذا التوازن في الكون كان سيحتاج لشروط أولية مضبوطة بدقة فائقة.

يحاول علم الكون التضخمي تفسير مشكلة الأفق (التجانس) باعتبارها غير ناتجة عن هذه الشروط الأولية المضبوطة بدقة (رغم أنه يستدل بشروط محددة خاصة به، انظر أدناه)، ولكنه بدلًا من ذلك يفسر التجانس بأنه نتيجةٌ لتوسع كوني مبكر بمعدل أُسِّي مرتفع، ووفقًا لنموذج التضخم الكوني فقد وجدت درجة حرارة الكون فرصة لتتجانس خلال الأجزاء الأولى من الثانية بعد الانفجار العظيم، ثم وزع التوسع السريع للكون هذا الإشعاع المتجانس عبر كل الكون القابل للرصد، كما دفع أي بقايا من عدم التجانس إلى ما وراء حافة الكون القابل للرصد.3

يبدأ التضخم وفق النماذج الحالية في زمن حوالي 10–37 ثانية بعد الانفجار العظيم ويستمر إلى 10–35 ثانية؛ حيث يتوسع الفضاء نفسه خلالها 10­60 مرة أو ما يقارب ذلك، افترض مثلًا أنه في بداية زمن التضخم كان حجم الكون القابل للرصد تقريبًا حوالي 10–60 مترًا، وكان قطره في نهاية التضخم مترا، ولكن في بداية التضخم كان حجم الأفق (المسافة التي قطعها الضوء منذ الانفجار العظيم) حوالي 10–37 ثانية ضوئية، وهذا أكبر بكثير من الرقعة الصغيرة التي قدر لها أن تنمو لتشكل كوننا المرصود، ولذلك فعملية التضخم الكوني لم توزع فقط إشعاع الخلفية المتجانس عبر الكون المشاهَد، ولكنها وزعت أيضًا أية بقايا لعدم التجانس إلى ما وراء حافة الكون القابل للرصد.

يفسر التضخم حالة الكون القريبة من التسطح كنتيجة للتوسع المفرط أيضًا؛ حيث ازدادت كل مسافات الكون بمقياس 10­60 مرة خلال زمن التضخم، وذلك يعني زيادة قطر الكون القابل للرصد بالمعدل نفسه كذلك، افترض أن للأبعاد الأربعة (الزمان–مكان) في الكون قبل التضخم انحناءً إيجابيًّا، مثل سطح بالون عند تخيل أبعاده الثلاثية، وأن قطر الكون كان جزءًا من مليار جزء من المتر (نانومتر)، فبعد التضخم يكون قطره 10­51 مترًا، أو حوالي 10 مليار مليار ترليون سنة ضوئية، وكما أن نفخ بالون إلى حجم أكبر وأكبر يجعل بقعة صغيرة منه تبدو مسطحة، كذلك تضخم كل الكون يجعل رقعة الكون القابل للرصد [من الزمان–مكان] تظهر أكثر تسطيحًا.

إن علم الكون التضخمي ذو صلة بالجدل حول نشأة الحياة لأن بعض علماء الكونيات يعتقدون أنه يوفر الآلية التي تولد كثيرًا من الأكوان غير كوننا، ولأن أحد علماء البيولوجيا الجزيئية المشهورين قد استدل بهذه الأكوان الأخرى مؤخرًا في محاولة لتفسير نشأة الحياة، ووفقًا “لنموذج التضخم الأبدي الشواشي chaotic eternal inflationary model” السائد حاليًا، فإن التوسع السريع للكون موجه بفعل “حقل التضخم” [وهو حقل ثقالي طارد repulsive]، وبعد المرحلة الأولية من التوسع تفكك حقل التضخم موضعيًّا لينتج كوننا، ولكنه يستمر ليعمل بقوة كاملة خارج منطقتنا المحلية لينتج توسعًا أكبر في الفضاء، وهناك ولدت أكوان أخرى في مواضع أخرى تفكك فيها الحقل التضخمي.

وهكذا فإن علماء الكونيات التضخمية يفترضون تفكك حقل التضخم كآلية يمكن بها نشأة “فقاعات أكوان” أخرى، ويفترضون إمكانية استمرار التضخم إلى أمد غير محدود في المستقبل، ونتيجة لذلك سينتج حقل التضخم الأوسع عددًا لا نهائيًّا من الأكوان خلال تفككه في جيوب محلية من الفضاء المتوسع أكثر وأكثر، ولأن الحقل التضخمي يستمر بالتوسع بسرعة هائلة أكبر من توسع فقاعات الأكوان ضمنه، فلن تتداخل أي من فقاعات الأكوان هذه مع بعضها، وبالتالي يولد الحقل تضخمي فقاعات أكوان لا نهاية لها، “عوالم متعددة في عالم واحد” كما يصفها فلنكين.4

وقام كونين بملاءمة علم الكونيات هذا بما يتفق مع تفسير نشأة الحياة بالصدفة، وجادل متابعًا لفنكين: بما أن الحقل التضخمي قادر على إنتاج عدد لا نهائي من الأكوان الأخرى، فكل حدث في كوننا لابد أنه حدث مرات أخرى لا تحصى في أماكن أخرى، وبذلك تكون الأحداث التي تبدو غير محتملة بدرجة هائلة عند اعتبار الموارد الاحتمالية لكوننا تصبح بالواقع عالية الاحتمال، بل حتمية باعتبار الكثرة الكاثرة من الأكوان الأخرى التي وجدت وستوجد لاحقًا، وكما شرح كونين: “في أكوان متعددة لا نهائية ذات عدد معين من التواريخ الماكروية (وكل منها يتكرر عددًا لا نهائيًّا من المرات) يصبح ظهور أنظمة عالية التعقيد بالصدفة أمرًا ليس ممكنًا فقط بل حتميًّا… ويصبح من المعقول أن المتطلب الأدنى (مرحلة الانطلاقة) لبدء التطور البيولوجي هو نظام تضاعف وترجمة يظهر بالصدفة.

إن وقوع هذا الحادث النادر جدًّا على الأرض وتسببه في الحياة كما نعرفها لا يفسره إلا مبدأ الانتقاء الإنساني فقط”،5 ويقصد كونين بعبارة ” الانتقاء الإنساني” ببساطة أن تصورنا بأن الحياة غير محتملة بدرجة مذهلة ما هو إلا نتيجة خاطئة نتجت عن زاويتنا في الرؤية، ولأننا نشاهد فقاعة كون واحد فقط لا ندرك أن وجود الأكوان الأخرى والآلية التي أنتجت تلك الأكوان تجعل الحياة في كون مثل كوننا حتمية.

فهل حل استخدام كونين لعلم الكون التضخمي مشكلة نشأة الحياة ونشأة المعلومات البيولوجية الضرورية للحياة؟ هل اقترح تفسيرًا لنشأة المعلومات البيولوجية أفضل مما قدمه التصميم الذكي؟ لدينا عدة أسباب لنفي ذلك.

  1. Koonin, Eugene V. “The Cosmological Model of Eternal Inflation and the Transition from Chance to Biological Evolution in the History of Life.” Biology Direct 2 (2007): 15.
  2. تخبرنا الحسابات المستندة إلى كوزمولوجيا الانفجار الكبير التقليدية أن الإشعاع القادم من اتجاهات متضادة في السماء كان من الممكن أصلا فصله، عندما كان عمر الكون 300,000 عام، بنحو 100 مسافة أفق (مسافة الأفق هي المسافة التي يمكن أن يقطعها الضوء منذ بداية الكون). وبالتالي، تشير هذه الحسابات إلى أنه لم تكن هناك فرصة لإشعاع الخلفية في الزوايا النائية من الكون “لتسخينه” أو توصيله إلى حالة التوازن الحراري عن طريق الخلط. بدلاً من ذلك، فإن الطريقة الوحيدة لشرح التجانس في درجة حرارة إشعاع الخلفية بالنظر إلى نموذج الانفجار الكبير التقليدي هي افتراض أن الظروف الأولية للكون تم ضبطها بدقة شديدة. في النماذج الحالية، يبدأ التضخم في حوالي 10-37 ثانية بعد الانفجار العظيم ويستمر حتى 10-35 ثانية، حيث يتمدد الفضاء نفسه بمعامل 6010 أو نحو ذلك.
  3. في بداية عصر التضخم، كان حجم الكون المرئي مثلا يتراوح بين 10-60 مترًا في الحجم، وفي نهايته وصل قطره إلى حوالي متر واحد. ومع ذلك، في بداية التضخم كانت مسافة الأفق (المسافة التي يمكن أن يقطعها الضوء منذ الانفجار العظيم) 10-37 ثانية ضوئية، وهي أكبر بكثير من الرقعة الصغيرة التي كان من المقرر أن تنمو في كوننا المرئي. وفقًا للنموذج التضخمي، ربما بقي بعض عدم التجانس المتبقي في إشعاع الخلفية حتى بعد حدوث التسخين الأولي. ومع ذلك، لو كان موجودًا، لكان موجودًا فقط في أجزاء الكون المبكر التي تقع وراء الرقعة التي من شأنها أن تصبح كوننا المرئي. ومن ثم، فإن العملية التضخمية لم توزع فقط إشعاع الخلفية المتجانس في جميع أنحاء الكون المرئي، بل كانت ستوزع أيضًا كل عدم التجانس المتبقي خارج حافة الكون المرئي أيضًا.
  4. Garriga, Jaume, and Alexander Vilenkin. “Many Worlds in One.” Physical Review D64 (2001): 43511; Vilenkin, Alexander. Many Worlds in One: The Search for Other Universes. New York: Hill and Wang, 2006.

إن نموذج العوالم-المتعددة-في-واحد له نتيجة مفادها أن جميع التسلسلات الماكروية (كبيرة الحجم) للأحداث التي لا تحظرها قوانين الحفظ الفيزيائي لا تحدث فقط في مكان ما في عالم متضخم إلى الأبد، بل تحدث مرارًا وتكرارًا دون حدود حيث ينتج التضخم مناطق متوسعة جديدة من الزمكان بلا نهاية. على سبيل المثال، يقترح النموذج أن هناك عددًا غير محدود من النسخ الماكروية (كبيرة الحجم) المطابقة للأرض وكل ما هو موجود عليها، على الرغم من أن احتمال وجود أي منطقة يمكن ملاحظتها من الكون تحتوي على مثل هذه النسخة؛ ضئيل جدًا.

  1. Koonin, Eugene V. “The Cosmological Model of Eternal Inflation and the Transition from Chance to Biological Evolution in the History of Life.” Biology Direct 2 (2007): 15.

المصدر

كوزمولوجيا الأكوان المتعددة ونشأة الحياة (2)

هل حقول التضخم الكوني موجودة؟

أولًا، هناك أسباب وجيهة لنشك بوجود حقول التضخم Inflation Fields أصلًا، إذ افتُرضت أساسًا لتفسر مشكلتي التجانس في الكون وتسطحه، ولكن كما دلل عدد من الفيزيائيين المرموقين، فقد لا تفسر هذه الحقول هاتين السمتين للكون على الإطلاق، فحتى يفسر الفيزيائيون تجانس الكون بمفهوم حقول التضخم عليهم تبني افتراضات واسعة غير مبررة حول المتفردة singularity التي جاء منها كل شيء، وكما شرح الفيزيائي في أوكسفورد روجر بينروز Roger Penrose: “إن كانت المتفردة شاملةً تمامًا، فسيُنتج التوسع منها الكثير من الأنواع المختلفة من الأكوان غير المنتظمة (غير المتجانسة)، حتى لو حدث التضخم الكوني”6، ولهذا فإن التضخم وحده دون افتراضات إضافية لا يحل مشكلة تجانس الكون، وللحصول على نتائج مفيدة فلابد من فرض القياس الملائم (قياس المسافة) على الزمكان.

بالإضافة إلى ذلك، ذكر ستيفن هوكينج Stephen Hawking ودون بايج Don Page وجود صعوبة في تفسير وجوب العمل المشترك لحقول التضخم الكوني وحقول الجاذبية (كما تصفها نظرية النسبية العامة التي يوجد لدينا أسباب قوية لنقبلها) لإنتاج التجانس في إشعاع الخلفية الكوني وتفسير التسطح في الزمكان في كوننا المرصود، الواقع أن الحقول عندما تُربط، فلا ضمانة حتى لحدوث التضخم،7 بالإضافة إلى أن حقول التضخم الكوني هذه بقدرتها المدهشة على التفكك بالوقت المناسب تمامًا، (بين 10–37 إلى 10–35 ثانية بعد الانفجار العظيم) وبالقياس المناسب تمامًا، لها خصائص لا تصاحب أية حقول فيزيائية أخرى، (بدلًا من ذلك، فإن لها خصائص مخترعة بهدف حل مشكلتي الأفق والتسطح فقط، وهاتان لا يمكن حلهما دون افتراضات وخصائص اعتباطية أخرى في الشروط الأولية).

اعتبارات الكفاية السببية

يوجد سبب آخر يمنع علم التضخم الكوني من تقديم تفسير مقبول أو أفضل من التصميم الذكي لنشأة المعلومات البيولوجية، تعتمد القدرة التفسيرية لعلم الكون التضخمي على القدرات السببية المفترضة لكيان مجهول تمامًا (كيان مطروح فقط لتفسير مجموعة تأثيرات غامضة) وله قدراتُ سببية لم توضَّح أو تُلاحَظ، ولا نعلم هل الحقول التضخمية موجودة حقًّا أم لا، ولا نعلم في حال وجودها ما الذي ستفعله حقيقة، ومع هذا نعلم (من الوعي المباشر للإنسان بنفسه إن لم يكن من شيء آخر) أن العقول الذكية الواعية موجودة ونعلم ما يمكنها فعله.

وبعد فإن فيلسوف الفيزياء روبن كولينز Robin Collins قد جادل بأنه في حال تساوي الظروف، علينا أن نفضل الفرضيات التي “تُعتبر استقراءً طبيعيًّا لما نعرفه مسبقًا” عن القدرات السببية للكيانات المختلفة،8 وفي سياق مختلف قليلًا جادل بأن فرضيات الأكوان المتعددة تفشل في تجاوز هذا الاختبار في تفسيرها للضبط الدقيق للكون الذي يوجه لصالح المبدأ البشري، في حين تتجاوز فرضيات التصميم هذا الاختبار، ولتوضيح هذا يطلب كولينز من القارئ أن يتخيل عالم أحافير يدعي وجود “حقل كهرومغناطيسي منتج لعظام الديناصورات”، في مقابل الديناصورات الحقيقية، كتفسير لنشأة العظام المتحجرة الضخمة، ورغم أن مثل هذا الحقل مؤهل كتفسير محتمل لنشأة العظام المتحجرة، فليس لنا خبرة بهذه الحقول أو بإنتاجها عظامًا متحجرة، ولكننا رصدنا بقايا الحيوانات في مختلف المراحل من تفكك العظم وحفظه في الترسبات والصخور الرسوبية، ولهذا يفضل معظم العلماء –وهم محقون في ذلك– فرضية الديناصور الحقيقي على فرضية الديناصور الظاهري (أي فرضية “الحقل المنتج لعظام الديناصور”) كتفسير لنشأة الأحافير.

وعلى نفس المنوال، لا نملك خبرة سابقة عن أي شيء يشبه حقل التضخم الكوني المولد لأكوان كثيرة لا نهاية لها (أو في هذا السياق، أي خبرة عن أي آلة أو آلية قادرة على إنتاج أي شيء ذي ضبط دقيق مثل كوننا دون أن تكون هي نفسها مصمَّمة)، ولكن عندنا خبرة واسعة بإنتاج الفاعلين الأذكياء آلات دقيقة الضبط أو أنظمة غنية بالمعلومات من شيفرات رقمية أو ألفبائية، ولذلك يستنتج كولنز أن افتراض العقل لتفسير الضبط الدقيق للكون يشكل استقراءً طبيعيًّا لخبرتنا بالقوى السببية للفاعل الذكي، في حين أن افتراض الأكوان المتعددة (بما فيها الناشئة عن حقول التضخم) تفتقد أي أساس مشابه، وبالتالي فالاستنتاج الأقوى هو أن فرضية التصميم تفسير أفضل من تفكك الحقل التضخمي لتعليل نشأة المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، لأنها تعتمد على القوى السببية المعروفة المألوفة لكيانات من خبرة متكررة ومباشرة، ويعتمد علم الكون التضخمي على كيان مجرد لم تشاهد قواه السببية أو تثبت.

عودة مشكلة الإزاحة

هنالك مشكلة إضافية في استعمال الحقول التضخمية لتفسير نشأة المعلومات الضرورية للحياة الأولى، لكي نفسر نشأة سمات محددة من كوننا المرصود، ونفسر (كمكسب إضافي غير مقصود) نشأة الأكوان الملائمة للحياة التي لا تحصى عددًا وتشبه كوننا، فإن على فرضية الكون التضخمي أن تلجأ إلى عدد من المصادر غير المفسرة أو مصادر ضخ معلومات، على سبيل المثال، يجب أن تكون الحقول التضخمية والحقول التي تتزاوج معها مضبوطة بدقة لتُنتج فقاعات أكوان جديدة من النوع الصحيح، وإن “قطع” الطاقة عن الحقل التضخمي (وهو ما يحدث خلال تفككه) لوحده يجب أن يكون مضبوطًا بدقة بين جزء من 1053 وجزء من 10123 (حسب نموذج التضخم المستدل به) لينتج فقاعة كون متوافقة مع الحياة، بالإضافة إلى أن علم الكون التضخمي يعقد أكثر من مشكلة الضبط الدقيق المعقدة أصلًا المتعلقة بالإنتروبية المنخفضة الأولية في كوننا، ووفقًا لحسابات روجر بينروز (الذي يعتبر علم الكون التضخمي نشاطًا علميًّا مشكوكًا به جدًّا) فإن الإنتروبية الأولية لكوننا كانت مضبوطة بدقة أصلًا إلى درجة جزء من 10 إلى القوة 10 إلى القوة 123،­9 ولا يفسر التضخم شيئًا من هذا الضبط الدقيق بل يضاعف المشكلة.

ويجادل بعض علماء الكونيات بالطبع بإمكانية تخطي عقبة هذه الأمور غير المحتملة بوجود عدد من فقاعات الأكوان التي أنتجها حقل التضخم الأصلي، ولكن إلى جانب ضعف هذه الاستراتيجية التفسيرية وافتقادها للبساطة والاقتصاد العلمي، فإن توليد حقل تضخمي أكبر ليعطي النتائج الصحيحة (أي أكوانًا لها خصائص كوننا المرصود) يعتمد نفسه على عدد من الافتراضات المبالغ فيها والشروط الأولية دقيقة الضبط، وكما أشرنا أعلاه، يضع الفيزيائيون عددًا من الافتراضات غير المبررة عن المتفردة الأولى ليتمكنوا من التوفيق بين الحقل التضخمي ونظرية النسبية العامة، على سبيل المثال لجعل التضخم الكوني منسجمًا مع النسبية العامة ينبغي على علماء الكونيات افتراض طريقة خاصة لقياس المسافة في الزمكان (وهي ما يُسمى مقياسًا metric) ورفض كل الطرق الأخرى، بالإضافة إلى وجود عدة نماذج ممكنة من التضخم الكوني، وبعضها فقط (عندما تُدمج مع النسبية العامة) سيتسبب بتضخم الأكوان، ولكي نضمن أن الحقول التضخمية ستنشئ فقاعات كونية، على الفيزيائيين انتقاء بعض النماذج التضخمية وإقصاء نماذج أخرى في افتراضاتهم النظرية، وكل خيار من هذه الخيارات يشكل تدخلًا واعيًا من جانب واضع النموذج، وهو تدخلٌ يعكس وجود معلومات غير مفسرة لابد من وجودها في الشروط الأولية المرتبطة بالمتفردة الكونية.

وفي الواقع إن الحاجة إلى طرح مثل هذه الافتراضات وتقييد الفرضيات النظرية يوحي بأنه كان من اللازم أن تكون المتفردة الأولية نفسها مضبوطة بدقة حتى يستطيع أي حقل تضخمي إنتاج كون مثل كوننا، ولكننا نعلم أن كوننا موجود، ولدينا أسباب وجيهة للاعتقاد بأن النسبية العامة صحيحة، وبالتالي، إنْ وجد حقل تضخم كوني، فلن يعمل بالطريقة التي تصورها علماء الكون التضخمي إلا لو كانت المتفردة نفسها التي ظهر منها الحقل التضخمي مضبوطة بدقة (وغنية بالمعلومات).

وهكذا، وبالاعتماد على علم الكون التضخمي لتفسير المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى، أنشأ كونين مشكلة معلومات في ادعائه محاولة حل مشكلة معلومات أخرى (انظر الفصل الثالث عشر)، وحتى مع افتراض وجود الحقول التضخمية وإمكانية نشأة عدد لا نهائي من الأكوان (وهذا رهان غير مضمون مطلقًا)، فإن كونين يحل مشكلة نشأة المعلومات البيولوجية بإيجاد مشكلة جديدة للمعلومات الكونية، وهي معلومات ضرورية تمامًا في نموذجه أيضًا لتفسير نشأة الحياة، بالإضافة إلى أن كل النماذج التضخمية تفترض أن الحقل التضخمي يعمل ضمن الأكوان وينشئها بنفس القوانين الأساسية والثوابت الفيزيائية التي توجد في كوننا، ولكن قوانين وثوابت كوننا نفسها مضبوطة بدقة شديدة للسماح بإمكانية وجود الحياة، وهذا الضبط الشديد يشكل مصدر معلومات آخر يجب تعليله لنتمكن من تفسير نشأة الحياة في كوننا، ولكن مع هذا تفترض نظرية التضخم الكوني وجوده مسبقًا بدلًا من أن تفسره.

الكلفة الأبستمولوجية

وفي علم الكون التضخمي أيضًا نقطة ضعف أخرى، فبمجرد أن نسمح بهذا العلم كتفسير محتمل لأي شيء، سيُدمر المنطق العملي والعلمي لكل شيء، فعلم الكون التضخمي قادر على تفسير نشأة كل الحوادث مهما كانت غير محتملة بإرجاعها إلى الصدفة، لأن الموارد الاحتمالية التي يُفترض أنه يولّدها لانهائية، وبالتالي فإن كل الأحداث التي نفسرها بأسباب معروفة بناء على الخبرة العادية يمكن تمامًا تفسيرها في علم الكون التضخمي كحوادث مصادفة دون أي مسبب سابق، وبناء على علم الكون التضخمي، فإن كل الأحداث المتوافقة مع قوانينا الطبيعية قد تنشأ في النهاية نتيجة تموج عشوائي في الفراغ الكمومي الناشئ من الحقل التضخمي، وهذا يعني أن الآلة المصممة بدقة أو قصيدة الشعر المؤلفة بإحكام كليهما يتساوى احتمال إنتاجهما بصدفة تموج في الفراغ الكمومي مع احتمال أن يكون قد أنتجها إنسان، كما أن ذلك يعني أن أحداثًا مثل الزلازل أو الظواهر المعتادة مثل تكاثف البخار يتساوى احتمال حدوثها نتيجة صدفة تموجات في الفراغ الكمومي مع احتمالية حدوثها نتيجة توالي أسباب مادية محددة، وباختصار، إن كان علم الكون التضخمي صحيحًا فأي شيء يمكن أن يحدث بلا سبب على الإطلاق، انطلاقًا من تموجات كمومية عشوائية للحقل التضخمي.

والأدهى أن علم الكون التضخمي يوحي ضمنيًّا بأن بعض التفسيرات التي نعتبرها غير محتملة بدرجة هائلة تصبح محتملة الصحة أكثر من التي نقبلها عادةً، ولننظر على سبيل المثال في ظاهرة “دماغ بولتزمان Boltzmann brain” التي درسها علماء الكونيات الكمومية كثيرًا، فضمن علم الكون التضخمي يمكن نظريًّا أن يظهر فجأة دماغ بشري كامل الوظائف تلقائيًّا إلى الوجود نتيجة تموجات حرارية في الفراغ الكمومي ثم يختفي تلقائيًّا مرة أخرى، وسمي هذا الكيان بـ”دماغ بولتزمان”، وتحت الظروف القياسية لتوليد الفقاعات الكونية في علم الكون التضخمي، يُتوقع ظهور دماغ بلوتزمان بقدر حدوث الظواهر الطبيعية في كوننا أو أكثر من ذلك، بل إن الحسابات بناءً على بعض نماذج التضخم الكوني تؤدي في الواقع إلى وضع يكون فيه وجود أدمغة بولتزمان سابحة مستقلة بأعداد لا نهائية تفوق عددًا الأدمغة العادية التي توجد عند أشخاص مثلنا.10

فالمقتضيات الأبستمولوجية لهذا الاحتمال أثارت قضايا لا يمكن لعلماء الكونيات تجاهلها، فلو كانت هذه النماذج الكونية التضخمية دقيقة، فسيكون احتمال أن نكون نحن أنفسنا أدمغة بولتزمان تسبح مستقلة أكثر بكثير من أن نكون أشخاصًا حقيقيين لنا تاريخ من الحياة في هذا الكون الذي عمره 13.7 مليار سنة، حتى أنه في بعض النماذج يكون احتمال ظهور كون كامل مثل كوننا بشكل تلقائي مفاجئ أكثر من احتمال أن يكون كوننا –بشروطه الأولية غير المحتملة بدرجة هائلة– قد تطور بشكل مرتب منتظم عبر مليارات السنين، وهذا يعني أن فرضية العوالم المتعددة في عالم واحد قد أنشأت سخفًا، لأنها تعني احتمال أننا لسنا من نظن أننا نكون، وأن ذاكرتنا وتصوراتنا غير معتَمدة، بل من المحتمل أن صدفة ما قد اصطنعتها من حقول كمومية، وكذلك كوننا نفسه ليس ما يبدو عليه وفق فرضية التضخم الأبدي، باختصار؛ إن الفرضية التي اعتمدها كونين ليحل مشكلة نشأة الحياة جعلت كل التفكير والتفسير العلمي غير معتمد عليه، وبالتالي فإنها تهدد أي أساس لتفسيره كونين نفسه لكيفية نشأة الحياة، إنه لمن العسير أن نخترع فرضية تنقض ذاتها أكثر من هذه!

  1. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57.
  2. Hawking, Stephen, and Donald Page. “How Probable Is Inflation?” Nuclear Physics B 298 (1988): 789–809.
  3. Collins, “The Fine-tuning Design Argument,” esp. 61.
  4. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57, esp. 730, 755.
  5. Dyson, Lisa, Matthew Kleban, and Leonard Susskind. “Disturbing Implications of a Cosmological Constant.” Journal of High Energy Physics 10 (2002): 11.
  6. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57.
  7. Hawking, Stephen, and Donald Page. “How Probable Is Inflation?” Nuclear Physics B 298 (1988): 789–809.
  8. Collins, “The Fine-tuning Design Argument,” esp. 61.
  9. Penrose, “Difficulties with Inflationary Cosmology,” 249–64. Penrose, The Road to Reality: A Complete Guide to the Laws of the Universe, 746–57, esp. 730, 755.
  10. Dyson, Lisa, Matthew Kleban, and Leonard Susskind. “Disturbing Implications of a Cosmological Constant.” Journal of High Energy Physics 10 (2002): 11.

المصدر

الرد على الدحيح

أنا لستُ من متابعي برنامج (الدَّحِّيح) لكن لَفَتت نظري حلقةٌ كَثُرَ الكلام عنها، تابعتُها، ففهمتُ طريقة (الدَّحِّيح) لذلك ردِّي هنا ليس على هذه الحلقة بالذات، بل على طريقته بشكلٍ عامٍّ، والحلقة بعنوان: (يا محاسن الصُّدَفْ)

ليس أي شيءٍ فيه كلمة (نظريَّةٍ) معناه: محترمٌ وله وزنٌ، أنا بيّنتُ بالتفصيل في حلقة: (نظريَّة البان كيك)، وحلقة: (كل الطرق تؤدِّي إلى الخرافة) أنَّ كلمة: (نظريَّة) هذه تُوضَع قبل سخافاتٍ مضحكةٍ لإعطائها: هَيْبةً، مع أنها مجرَّد: خيْبةٍ.

هل تذكرون لويس باستور؟ ومن قبله: فرانسيسكو ريدي في القرن (17) اللّذين أثبتا بُطلان نظريَّة: (النشوءِ التلقائيِّ للكائنات الحيَّة من الجمادات)؟ أي أن المتخلِّفين في أوروبا كانوا يظنّون أنَّ الذُّباب ينشأ تلقائيًا من القمامة، وأنَّ الفئران تنشأ تلقائيًّا من اللحم المتعفِّن.

(لويس) وقَبْلَه (رِدِي) بيَّنَا بُطْلان هذه النظريَّة المتخلِّفة، وأنَّ الكائنات الحيَّة -كالذُّباب- تنشأ في الواقع من كائناتٍ مِجهريَّةٍ كبيوض الذُّباب، فالّذي يقول هذه الأيام: المادة تنشأ من لا شيء، المادة تخلق نفسها بنفسها هو أشدُّ تخلفًا من المتخَلِّفين الأوروبيِّين في القرون الوسطى، لأنه يقول لك: لا، ليست الكائنات الحيَّة تنشأ تلقائيا من الجمادات فقط، بل الجمادات تَنشأ تلقائيًّا من لا شيء، يعني في مثال الغرفة والعجلات، كأنَّ صاحبنا لمَّا سألناه:حسنًا، وأين العجلات والأولاد؟ قال: افترِض أنهم ينشؤون تلقائيًا، وسنسمِّي هذا الافتراض

(نظريَّة العجلات الذاتيَّة) (ونظريَّة الأولاد الذاتِيِّين) فهل هذا علمٌ أم سخافةٌ؟!

لو رأيتَ سيَّارةً تَصلُح لركوب الإنسان، ومليارات المليارات من المَرْكبَاتِ الأخرى المتناسِقة التي أجزاؤها متكامِلةٌ، لكن لا تَصْلُح لركوب الإنسان، فهل سيكون الاستنتاج: أنَّ هذه السيارة والَمركْبَات كلَّها جاءت بالصُّدْفة؟ أم أنَّ وراءَها صانعًا عليمًا؟

(الدَّحِّيح) يكرِّر كلمة (ثوابت فيزيائيَّة) هل هناك -أصلًا- شيءٌ اسمه (ثوابت فيزيائيَّة) دون وجود خالق؟!

يعني حتى لو تجاوزنا أنَّ العدم لا يخلُق المادَّة، هل العدم -اللاشيء- سيجعل المادَّة أيضًا تسير بانتظامٍ دون اضطراب؟

مِنْ أكثر طرائف الملحدين حمقًا أنَّهم يجعلون النظام -الدَّالَّ على وجود إلهٍ منظِّمٍ- بديلًا عن وجود الله.

(الدَّحِّيح) يمارس (التَّسطِيحَ) المضحِك عندما يقيس الكون -بتعقيده الشديد- على مثال ارتفاع سوق الأوراق الماليَّة أو انخفاضها، أو الربح والخسارة.

هل تعرفون -إخواني- ما معنى انضباط الكون؟ تعالوا نأخذ أبسط شيءٍ فيه:

أكثر من (90) عنصرًا طبيعيًا مُكتَشفًا في الأرض، ورُتِّبت النيوترونات في كلٍّ منها -والبروتونات- في أَنْوِيَةٍ محدَّدةِ الحجم بدقَّةٍ تَجذِب إلكترونات في مداراتٍ بالأبعاد اللازمة. هذه العناصر تفاعلت بقوانين كيميائيةٍ ثابتةٍ، لتعطيَ مُرَكَّباتٍ لازمةً للحياة

ومرةً أخرى: هذه القوانين، لا بدَّ لها من فاعلٍ، منظِمٍ، متقِنٍ.

جاذبيَّةٌ أرضيَّةٌ بالمقدار اللازم، بحيث لا نَسْبح في الهواء، ولا تلتصق أقدامنا بالأرض.

أرضٌ تدور بسرعةٍ دقيقة؛ من أجل ليل ونهارٍ يتعاقَبان للنوم والعمل.

بُعْدٌ دقيقٌ عن الشمس: فلا تُحرقُنا ولا نتجمَّد.

درجة تبخُّر الماء، كثافة الهواء، نِسَبُ العناصر في الهواء، كلُّه بما يُناسب حياتَنا.

آلاف المليارات من الكواكب والنجوم، تسير بسرعةٍ مناسبةٍ في مداراتٍ محدَّدَةٍ، بدقَّةٍ شديدةٍ.

هل افتراض أكوان متعدِّدةٍ علمٌ تجريبيٌّ؟ هل الأكوان اللانهائيَّة الصُّدَفيَّة التلقائيَّة هذه هي علمٌ تجريبيٌّ مرصودٌ محسوسٌ مُشاهَدٌ، أو آثاره مُشاهَدة؟ هل يمكن أن تجيبونا يا جماعة الأكوان المتعدِّدة؟

هل يمكن أن تجيبونا: مم تألفت هذه الأكوان؟ ما نوع ذرَّاتها؟ ما عدد عناصرها؟ ما القوانين التي تَصِف نظامها؟

الذرَّاتُ تحتاج إلى ثوابتَ فيزيائيَّةٍ دقيقةٍ جدًّا تربط نيوتروناتها ببروتوناتها وإلكتروناتها، وتلاعبٌ بسيطٌ بالعلاقة بين هذه الجسيمات يعطينا انفجارًا نوويًّا.

هل هذه الضوابط هي نفسُها محفوظةٌ في الأكوان الأخرى؟ وكيف تكون هي نفسُها؟

طيّب، إذا كانت غير محفوظةٍ، فما هي الثوابت البديلة في هذه الأكوان؟

هذه الأكوان، لماذا لا يصطدم بعضها ببعض؟ ولماذا لم تدمِّر كوننا بما أنَّها لانهائيَّةٌ؟ أليست الأكوان تتمدَّد؟ وإذا كانت تتمدَّد لماذا لا يصطدم بعضها ببعض وبكوننا؟

أم ستقولون: أنّ هناك فراغًا ضخمًا جدًا جدًا؟

حسنًا، من أين جاء هذا الفراغ؟ يعني هذا المكان؟ هل (أكوانكم المتعدِّدة) تُجيب عن أيٍّ من هذه الأسئلة؟

إذَن، هل هي علم تجريبيٌّ مرصودٌ محسوسٌ مشاهَدٌ، أو آثار مشاهَدة؟ أم هو ردٌّ غبيّ -من شخصٍ مُحرَج- على سؤال: فمَن أَوجدَ الكَون إن لم يكن الخالق؟!

المصدر

ادعاء اختلاف تصور الإله عند المسلمين عنه لدى سائر الأنبياء

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن الإله الذي يؤمن به المسلمون هو إله خاص بهم وحدهم، مختلف عن الإله الذي دعت إليه كل الرسالات وديانات كل الرسل من قبل؛ فليس هو إله إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، وموسى، وعيسى – عليهم السلام، ومتى تقرر أن وحي الله في جانب العقائد لا يتبدل كان ذلك بمجرده طعنا في الإسلام وعقيدته؛ بما أن تصوره عن الإله لا يكاد يعرف عن أحد من الأنبياء السابقين.

وجها إبطال الشبهة:

1) العقيدة في الله التي بعث بها الأنبياء جميعهم لم يختلف مضمونها منذ بعثة أدم ـعليه السلام – إلى بعثة خاتم النبييين محمد – صلى الله عليه وسلم – وهي الإيمان بوجود الله ووحدانيته.

2) الصورة التي تقدمها الكتب المقدسة لغير المسلمين من اليهود والنصارى للألوهية فيها من التشويه وإثبات صفات النقص ما يتنزه جناب الألوهية عنه، وهو ما لا نجده في التصور الإسلامي عن الإله.

التفصيل:

أولا. العقيدة الصحيحة التي بعث بها الأنبياء عليهم السلام:

إن العقيدة الصحيحة لم يختلف مضمونها منذ بعثه آدم – عليه السلام – إلى خاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – ومضمونها الذي تعاقب الرسل والأنبياء على الدعوة إليه هو: الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار وما إلى ذلك.

فكان كل رسول يدعو قومه إلى الاعتقاد بهذه الأمور، وكان كل منهم يؤكد بذلك دعوة من بعث قبله، ويبشر ببعثة من سيأتي بعده، وهذا وضحه الله – عز وجل – في كتابه المبين في آيات كثيرة، كقوله تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقوله تعالى: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)( (الشورى).

 بل إن من يتتبع آيات القرآن الكريم، يلاحظ أن اسم الإسلام كان هو الاسم القديم والدائم لهذه العقيدة، يقول تعالى: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، وفي قوله تعالى عن سحرة فرعون: )قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيــات ربنــا لمـا جاءتنــا ربنا أفرغ علينـا صبـرا وتوفنـا مسلميـن (126)( (الأعراف) وفي قوله تعالى عن حواريي عيسى عليه السلام: )فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريـون نحن أنصـار الله آمنـا بالله واشهـد بأنا مسلمــون (52)( (آل عمران)، ومن ذلك يتبين أن الدين الحق واحد لم يتعدد، وأن كلمة “الأديان السماوية” التي تتكررعلى ألسنة عوام الناس كلمة خاطئة، فليس ثمة إلا دين حق سماوي واحد تعاقبت الأنبياء والرسل على الدعوة إليه والبعثة به.

وكيف يمكن للدين الحق أو الاعتقاد الصحيح أن يتعدد أو يختلف على ألسنة الأنبياء والمرسلين، وأمور العقيدة تكون دائما من قبيل الإخبار، والخبر الواحد لا يمكن أن ينقل على أشكال ووجوه عديدة متخالفة ثم تكون كلها أخبارا صحيحة سماوية صادقة؟

إن الذي تطور وتغير مع الزمن وعن طريق بعثة الرسل والأنبياء، إنما هو التشريع على اختلافه من عبادات ومعاملات… وغير ذلك. والحكمة في ذلك أن التشريع إنما هو إقامة الأحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة المجتمع والفرد، وبدهي أن يكون للتطور الزمني واختلاف الأمم والأقوام أثر في تطور شرائعهم، ففكرة التشريع – إذا – قائمة على ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وهذه المصالح كثيرا ما تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فقد بعث موسى – عليه السلام – إلى بني إسرائيل، وكان الشأن يقضي – بالنسبة لحال بني إسرائيل إذ ذاك – أن تكون شريعتهم شديدة وقائمة في مجموعها على أساس العزائم لا الرخص، ولما مرت أزمنة وبعث فيهم سيدنا عيسى عليه السلام جاءهم بشريعة أسهل وأيسر، وانظر إلى قول الله تعالى على لسان عيسى – رضي الله عنه – وهو يخاطب بني إسرائيل: )ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50)( (آل عمران)، فقد بين لهم أنه فيما يتعلق بأمور العقيدة، مصدق لما جاء في التوراة، ومؤكد له ومجدد للدعوة إليه، أما بالنسبة للتشريع وأحكام الحلال والحرام، فقد كلف ببعض التغييرات وإيجاد بعض التسهيلات؛ فعمل الرسول بالنسبة للعقيدة ليس سوى تأكيد نفس العقيدة التي بعث بها من قبله دون أي مخالفة أو تغيير.

والذي يدرس شئون العقيدة وبراهينها، إنما يدرس تلك الحقائق التي ألزم الله عباده بالإيمان والاعتقاد بها منذ بعثة آدم عليه السلام إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وتلك هي العلاقة بين العقيدة الإسلامية وكل ما جاء به الأنبياء والرسل – عليهم السلام -، وأهل الكتاب يعلمون هذه العلاقة، ويعلمون وحدة الدين، ويعلمون أن الأنبياء إنما جاءوا ليصدق كل منهم الآخر فيما بعث به، وما كانوا ليتفرقوا إلى عقائد متباينة مختلفة، ولكنهم اختلفوا وتفرقوا فيما بينهم، واختلقوا على الأنبياء ما لم يقولوه على الرغم مما جاءهم من العلم في ذلك، بغيا بينهم، وصدق الله إذ يقول: )إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19)( (آل عمران) [1].

ثانيا. أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا عقيدتهم، أما العقيدة الإسلامية فبقيت على الأصل الصحيح:

جاء الإسلام بالعقيدة الصحيحة المؤكدة لما أرسل الله به رسله من قبل بصورة متكاملة ونظرة متوازنة توافق الفطرة الإنسانية، ويستسيغها العقل البشري، على النقيض من تلك الصورة التي عرضتها اليهودية والنصرانية المحرفتين للإله، فالإله الذي نؤمن به وندين بشرعه هو إله واحد لا شريك له متصف بصفات الكمال، ووضوح هذا التصور يقابله وضوح هذه الشريعة الإسلامية وكمالها ومواءمتها لأحوال الناس، وتميز العقيدة يدل دلالة يقينية على تميز الشريعة، فإن الإله الذي له حق العبودية هو وحده الذي له حق التوجه والعبادة، وهو وحده الذي له حق التشريع.

وإليك تصور الإله عند اليهود والنصارى؛ لتعلم الفرق بين العقيدة الصحيحة التي تتفق مع الفهم الفطري السليم، وبين هذا الانحطاط والسقوط:

  1. الإله عند اليهود:

اتصف اليهود بالطبيعية المادية، فقد كانوا دائما مائلين إلى تشبيه الإله وتجسيمه: )وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)( (البقرة)، وعلى الرغم من بقايا النظرة الصحيحة للإله كإله واحد مستحق للعبودية، طغت طبيعة اليهود الحسية على هذا التوحيد الخالص، وألبست الإله ثوب الخصوصية لهذا الشعب.

فإله اليهود ليس عالـما بكل شئ، كما أنه ليس معصوما من الخطأ. ويهوه إله اليهود يأكل ويشرب ويأمر بالسرقة، يهوه إله قاس ومدمر، متعصب لشعبه، ليس إله كل الشعوب، بل إله بني إسرائيل فقط، وهو بهذا عدو للآلهه الآخرين، كما أن شعبه عدو للشعوب الأخرى، وقد قسم لهم الشعوب قسمين: أمما قريبة، وهؤلاء جزاؤهم التحريم والقتل، وأما الأمم البعيدة فقد جاء النص عليهم بمايلى: “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستبعد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكروها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك”. (التثنية 20: 10 – 14). ولا يمكن أن يقبل عاقل أن تكون هذه الدعوة دعوة رب إله، وإن شاءوا أن يعرفوا دعوة الإله لعبيده فليقرءوا ما خاطب به الإسلام شعوب الأرض إبان الفتوحات الإسلامية.

  1. الإله عند النصارى:

المسيح – كما يدعي المسيحيون – إله النصارى، فالله عندهم هو الذي نزل وظهر كإنسان، وصلب وصعد إلى السماء، فهو ذو طبيعة واحدة، كما يرى الأرثوذكس[2]، أو هو إله ذو طبائع ثلاث فهو آب وابن وروح قدس، وكل واحد، منهم متفرد عن الآخر، ولكنهم ليسوا ثلاثة، بل إله واحد وهو ليس واحدا بسيطا، ولكنه آلهة ثلاثة، والعقلية التي تؤمن وتعتقد هذه العقيدة لا يمكن أن تكون سوية، وما يقال عن النصرانية يقال عن اليهودية من سفاهة العقيدة في الإله، وغباوة التصور العنصري، الذي يرى الإله إلها خاصا لشعب خاص، وباقي شعوب الأرض خلقوا من طينة مختلفة.

  1. العقيدة الإسلامية في الله:

هذه العقيدة يصورها أدق تصوير قوله تعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمـد (2) لـم يلـد ولـم يولد (3) ولم يكن لـه كفـوا أحـد (4)( (الإخلاص)، إنها أحدية الوجود، فليس هناك وجود حقيقي إلاوجوده، وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية، وهي من ثم أحدية الفاعلية، فليس سواه فاعلا في شىء من هذا الوجود أصلا، وإذا استقر هذا التفسير ووضح هذا التصور خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المنفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية، فعندئذ يتحرر العبد من جميع القيود، ويتحرر من الرغبة في غير الله والرهبة من غير الله، وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله، ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا الله؟!

 يلي هذه الدرجة درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شىء ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله، ويصحب هذا نفي فاعليه الأسباب ورد كل شىء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت وبه تأثرت، قال تعالى: )فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)( (الأنفال)، وقال تعالى: )وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126)( (آل عمران)، وقول تعالى: )وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (30)( (الإنسان).

 ومن هنا ينبثق منهج متكامل للحياة: منهج لعبادة الله وحده الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولاحقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته، ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة، وإلا فما جدوى التوجه لمن لا حقيقة لوجوده، ولا حقيقة لفاعليته؟ إنه منهج للتلقي عن الله وحده، تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد، فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير، ومنهج للتحرك والعمل لله وحده ابتغاء القرب من الحقيقة، ومنهج يربط مع هذا بين القلب البشري وبين كل موجود برابط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب[3]. هذه العقيدة الصافية هي التي ترتاح إليها الفطر السوية، وتقبلها العقول السليمة، وهي العقيدة التي جاء بها الرسل جميعا.

الخلاصة:

العقيدة الصحيحة لم يختلف مضمونها منذ بعثة آدم – عليه السلام – إلى بعثة خاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو الإيمان بوجود الله ووحدانيته وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص، والإيمان باليوم الآخر والحساب والجنة والنار…

يس هناك إلادين حق سماوي واحد تعاقبت الأنبياء والرسل على الدعوة إليه والبعثة به، وعمل الرسول بالنسبة للعقيدة ليس سوى تأكيد لنفس العقيدة التي بعث بها من قبله دون أي تخالف أو تغير.

جاء الإسلام بالعقيدة الصحيحة الواضحة بصورة متكاملة ومتوازنة للإله، توافق الفطرة الإنسانية ويستسيغها العقل البشري، ففي حين اتصف اليهود بالطبيعة المادية التي تميل إلى تشبيه الإله وتجسيمه، وزعم النصارى أن المسيح هو الله جاء الإسلام ليقر عقيدة الوحدانية واتصافه – عز وجل – بالكمال والجلال، وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجانب الألوهية، هذه هي العقيدة النقية، وهي التي ترتاح إليها الفطرة السوية، وتقبلها العقول السلمية، وهي العقيدة التي جاء بها كل الأنبياء والمرسلين من آدم – عليه السلام – إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – وبهذا البيان بطل الزعم القائل: إن الإله الذي يعبده المسلمون يختلف عن إله الديانات السماوية الآخرى.

(*) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية: نقد مطاعن ورد شبهات، د. فضل حسن عباس، دار البشير، عمان، الأردن، ط2، 1410هـ/ 1989م.

[1]. كبرى اليقينات الكونية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، دمشق، ط25، 1426هـ/2005م، ص74.

[2]. الأرثوذكس: هي إحدى الكنائس الرئيسة في النصرانية، وقد انفصلت عن الكنيسة الكاثولوكية الغربية، وتمثلت في عدة كنائس مستقلة لا تعترف بسيادة روما عليها، ويجمعهم الإيمان بأن الروح القدس منبثقة عن الآب وحده، وعلى خلاف بينهم في طبيعة المسيح، وتدعى “أرثوذكسية” بمعنى مستقيمة المعتقد مقابل الكنائس الأخرى، ويتركز أتباعها في المشرق؛ ولذلك يطلق عليها “الكنيسة الشرقية”.

[3]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص100: 107.

المصدر

الاستدلال بشيوع الإلحاد على خطأ العقائد الإسلامية

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المفترين أن الإسلام ليس الدين الحق، ويتساءلون: إذا كان في الإسلام ما يرضى الإنسان ويكفيه، فلماذا – إذن – يتركه الناس ويلحدون؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)  معنى الإلحاد إنكار وجود الله – عز وجل – وهو من جهة السلوك حالة من الحرية بلا حدود.

2) أسباب انتشار الإلحاد كثيرة ومتنوعة، ومنها الجهل واللامبالاة والنظرة الإباحية وغيرها، وله – بعد ذلك – عواقب وخيمة، فهو يؤدي إلى الأمراض النفسية والانتحار.

3)  الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا فيه صلاح الفرد والمجتمع.

التفصيل:

أولا. معنى الإلحاد وأساسه النظرى:

الإلحاد يعني الإنكار، والإلحاد من الناحية الفكرية هو إنكار وجود الله – سبحانه وتعالى – وعدم الإقرار به، والإلحاد في مستوى التصور هو حالة الحرية بلا حدود، أما في مستوى العمل والسلوك فيدافع عن الإباحية.

والخاصية الحسية المادية الإلحادية تتجسد في الفكر الفلسفي والأوربي منذ عصر النهضة إلى اليوم، فلقد نادى فلاسفة عصر النهضة بأن “كل العقائد المضادة للخبرة الإنسانية والملاحظة (التجريبية) يجب أن تستبعد، وسخروا من النبوات والمعجزات، والوحي، وكل الشعائر والطقوس الدينية بوصفها خرافة، وشبه “فولتير” (1694 – 1778م) خلق الله للكون بتجميع صانع الساعات للساعة، ثم انقطاع صلته بعد ذلك.

ويزداد إنكار الخالق – عز وجل – في هذه الفلسفة في رفض دافيد هيوم (1711 – 1776م) العقائد الدينية على أساس عدم إمكان البرهنة عليها، لا بالتجربة العلمية، ولا بالعقل الإنساني، وهاجم هيوم رب فولتر نفسه معلنا: “أننا رأينا الساعات تصنع، ولكننا لم نر العالم يخلق”.

وزعم فرويد (1856 – 1939م) أن الدين مصدره اللاشعور، لا الوحي، وزعم استحالة البرهنة على صحة الإيمان الديني، ومن ثم أنكر وجود الله”[1].

ولا تزال الثقافة الأوربية بعيدة عن الإيمان بالله، وكتبه ورسله، وعن الإقرار بأن الوحي مصدر من مصادر المعرفة، ونتيجة لإنكار كل وسيلة معرفية غير الحواس، كالحدس والوحي، أنكرت الفلسفات الأوربية المعاصرة كل وجود غير حسي كوجود الله، والملائكة والروح والشيطان، ووقع التصادم والتناقض التام بينها وبين العقائد الدينية الأساسية[2].

ثانيا. أسباب انتشار الإلحاد:

الجهل: إن أول بيئة ينمو فيها الإلحاد هي البيئة التي يسود فيها الجهل بالدين، ويغيب عنها العلم والإيمان، فكتل الجماهير التي لا تتلقى تربية وتغذية روحية، وقلبية، ستقع – إن عاجلا أو آجلا – في براثن[3] الإلحاد، وإذا لم تتدخل العناية الإلهية فإنها لن تستطيع إنقاذ نفسها، إذا لم تبذل الأمة عناية خاصة في تعليم ضرورات الإيمان لأفرادها.

اللامبالاة تجاه أسس الإيمان، وعدم الاهتمام بها: ومثل هذا السلوك الذي يتسم بحرية التفكير ما إن يجد أية أمارة صغيرة تعين على الإنكار وعلى الإلحاد، حتى ينمو هذا الإلحاد ويزداد، مع أنه لا يستند إلى أي سبب علمي، ولكن إهمالا معينا، أو غفلة معينة، أو تقييما خاطئا، كل ذلك قد يولد الإلحاد.

اعتمادهم الأول على قوانين الطبيعة التي هي أهم أداة في يد الإلحاد: لكن هل يمكن أن تكون هذه الطبيعة الجميلة التي تسحر النفوس والأرواح مثل شعر منظم نتيجة مصادفات عمياء؟

إن كانت الطبيعة تملك – كما يتوهم هؤلاء – قوة قادرة على الإنشاء والخلق فهل نستطيع أيضاح كيف استطاعت الطبيعة الحصول على مثل هذه القدرة؟ أنستطيع أن نقول إنها خلقت نفسها بنفسها؟ أيمكن تصديق مثل هذه المغالطة المرعبة؟

النظرة الإباحية: التي ترى الاستفادة من كل شىء موجود مهما كان ذلك الشيء، أي النظرة التي تستند إلى الفائدة والتلذذ من جميع النعم، وتبذل المحاولات اليوم لصب هذه النظرة في قالب فلسفي وفكري ومنهجي.

غياب النظرة التدبرية في الكون: وهي النظرة المجردة من الأهواء والميول الشهوانية، أو تغييبها، من قبل دعاة الإلحاد، والذين يريدون للعقل ألايتدبر إلا ما يكتبونه، ولا يأخذ إلا بنظرياتهم المادية.

ومساوئ الإلحاد كثيرة ومتعددة، ومن أهمها:

الأمراض النفسية: يقول العالم النفسي الشهير يونج 1875 – 1961م: “طلب مني أناس كثيرون من جميع الدول المتحضرة مشورة لأمراضهم النفسية في السنوات الثلاثين الأخيرة، ولم تكن مشكلة أحد من هؤلاء إلا الحرمان من العقيدة الدينية”.

ويمكن أن يقال: إن مرضهم لم يكن إلا أنهم فقدوا الشيء الذي تعطيه الأديان الحاضرة للمؤمنين بها في كل عصر، ولم يشف أحد من هؤلاء من المرض، إلا عندما استرجع فكرته الدينية”[4]. والشىء الذي فقدوه هو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى.

يحرم الإنسان من كل النعم: ويدعه بلا أمل ولا أمن، ويقبل الإنسان على الدنيا فيصطدم بالآخرين، ويحتدم الصراع، ويتردد الإنسان بين الملل والألم – كما يقول “شو بنهود” – الملل إذا فاز في الصراع وأشبع بطنه وفرجه، والألم من الحرمان إذا انهزم ولم يشبع حاجاته؛ فالإلحاد يهدم الدين، ولا يعطي الناس شيئا بديلا.

انتشار الجريمة والإحساس بالتعاسة، وإدمان الخمر للهروب من الواقع، والانتحار للتخلص من الملل والقلق والغربة النفسية في المجتمعات الملحدة، حتى وصل الانتحار بين الإفريقيين في جنوب إفريقيا إلى (10 – 100.000)، وبين البريطانيين (1 – 100.000) وبين الأمريكيين إلى (11 – 100000).

ثالثا. أثر الإيمان بالله في مواجهة الإلحاد وتحقيق صلاح الفرد والمجتمع:

الإيمان بوجود الله فيه سعادة الفرد والمجتمع، فالثقافة الإسلامية هي التي تبني نظاما أخلاقيا دينيا ثابتا مطلقا، قوامه الإيمان بثواب الله الأخروي، وجوهره الإيثار الذي يتمثل في تقديم حظ الآخرين على حظ النفس بدرجة أو بأخرى؛ طلبا للفوز بالسعادة الأخروية[5].

ويقول جمال الدين الأفغانى: “وأما الاعتقاد بالألوهية وبيوم الجزاء، وفحواه الإيمان بأن للعالم صانعا عالما بكل شىء، وسامي القدرة، وأنه قدر للخير والشر جزاء يوفاه مستحقه في الدار الآخرة، فهذه العقيدة هي الوحيدة التي تقمع الشهوة، وتردع الهوى، فهذان الاعتقادان هما وسيلة إحقاق الحق، والتوقف عن الشرود في السر والعلن.. وذلك أن العلة الغائية لأعمال الإنسان هي نفسه، فإذا لم يؤمن بأن هناك ثوابا وعقابا، فلا يوجد ما يحمله على تحمل الفضائل والابتعاد عن الرذائل، وخصوصا إذا كان في مأمن من الناس[6].

وإن النظر في الحالة الدينية للبلاد التي يشيع فيها الإلحاد يبدي أن القيم الإيمانية قد نحيت رأسا عن إدارة الحياة وعن التكوين النفسي للأفراد؛ فلذلك اجتالتهم المذاهب الإلحادية باسم العلم عن حقائق الدين الكبيرة، وذلك قصاراه أن يعطي معنى أن الدين قد غيب عن الحياة، أو أن الدين المعين لا يرضى الضمير الإنساني والمدارك السوية، فأما الإسلام فهو بمعزل عن هذه التيارات، وبلاده أقل البقاع في ظهور مثل هذه المذاهب.

الخلاصة:

المظهر العقدي للإلحاد هو إنكار وجود الله – سبحانه وتعالى – والمظهر السلوكي له هو النظرة الإباحية على الحياة ومتاعها، وهو يروج لنفسه على المنهج العلمي ويحث على إعماله.

الجهل بالحقائق الدينية الكبرى هو ما هيأ للمد الإلحادي المناخ الملائم للانتشار والرواج، ثم لحدوث نتائجه الطبيعية من الاضطراب النفسي والقلق والانتحار.

لا ينتشر الإلحاد إلا حيثما تغيب القيم الدينية عن الحياة، أو حيثما تكون هذه القيم في رتبة من الضعف والتهافت تجعلها قاصرة عن هداية الفرد أو توجيه المجتمع وجهة صالحة.

(*) أسئلة العصر المحيرة، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2002م.

[1]. نقد الثقافة الإلحادية، د. أحمد عبد الرحمن إبراهيم، دار هجر، القاهرة، ط1، 1406هـ/1985م، ص19.

[2]. نقد الثقافة الإلحادية، د. أحمد عبد الرحمن إبراهيم، دار هجر، القاهرة، ط1، 1406هـ/1985م، ص26.

[3]. البراثن: جمع البرثن، وهو المخلب.

[4]. نقد الثقافة الإلحادية، د. أحمد عبد الرحمن إبراهيم، دار هجر، القاهرة، ط1، 1406هـ/1985م، ص37.

[5]. الفضائل الخلقية في الإسلام، مكتبة دار العلوم، الرياض، 1402هـ، ص269.

[6]. الرد على الدهريين، جمال الدين الأفغاني، ترجمة: محمد عبده، الإسلام العالمية، د. م، 1983م، ص72، 73.

المصدر

كيف ننتقد الكافر المتقدم علميا؟

هل يمنعنا تخلفنا العلمي والتقني من انتقاد الكافر المتقدم علميا؟

وهل تقدم الكافر علميا وتقنيا وتأخرنا عنه في هذا المجال يعني أنه على حق ونحن على باطل؟

هذه الشبهة قديمة، وقد عالجها القرآن فقال: ﴿وَإِذا تُتلى عَلَيهِم آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذينَ كَفَروا لِلَّذينَ آمَنوا أَيُّ الفَريقَينِ خَيرٌ مَقامًا وَأَحسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: ٧٣]

فمعيار الحق والباطل عندهم هو الوضع الاقتصادي والترف!

لقد غرس النبي– صلى الله عليه وسلم- في أصحابه الشموخ بالعلوم الإلهية فوق المدنيات الصغيرة مقارنة بجلال المعرفة الإلهية، ونبّه أصحابه إلى أن التنوير الحقيقي هو نور الوحي، وربّى أصحابه على أن تلك المجتمعات المتمدنة تحتاج إليكم أضعاف ما تحتاجون إليهم، فهم إنما يملكون الوسائل بينما أنتم تعرفون الغايات، وشتان بين منزلة الوسيلة ومنزلة الغاية.

من أجل ذلك لم ينبهر الصحابة بالحضارات التي كانت في زمانهم! بل كانوا يقولون مرارا وتكرارا إنهم جاؤوا لإنقاذ هذه الحضارات من جاهليتها.

انظر إلى الصحابي الجليل ربعي بن عامر – رضي الله عنه – حين دخل على رستم قائد الفرس وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وملابسه الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. فلما دخل عليه ربعي كان يلبس ثيابا صفيقة ومعه سيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وخوذته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك! قال: إني لم آتكم وإِنّما جئتكم حين دعوتموني، فإما تركتموني هكذا وإِلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له! فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّقها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه.

انظر إلى احتقاره لزينة الكافر وبهرجه.. انظر إلى اعتزازه بجواب الأسئلة الوجودية الكبرى التي يحملها، التي تنخرق أمامها كل زينة الدنيا ومتعها!

فنجاح الصحابة المؤكد هو أنهم لم يكونوا يعانون من عقدة النقص التي يعاني منها بعض المعاصرين، بل كانت عزتهم في امتلاكهم أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى، وتأكيدهم على تفاهة الحياة الدنيا وحقارتها مقارنة بالنعيم الأبدي!

فلا يفرح الكافر بأكثر من أن يُبهرك بنمارقه المذهبة وزينته العظيمة، فالانكسار لفتنته يُنهي المعركة قبل أن تبدأ!

ولذلك لم يفت ربعي بن عامر جهل رستم بأعظم مطلوب وهو الله سبحانه فتحولت كل زينته إلى صورةٍ بلا قيمةٍ ولا غايةٍ كما يصف القرآن الكريم “والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام” سورة محمد 12.

فإجابة الأسئلة الوجودية الكبرى ترقى بمالكها وتسقط بمفتقدها.

وعند هذه النقطة لابد من إلماحةٍ هامة ذكرها إبراهيم السكران وهي أن: “هذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية قبيل مبعثه – صلى الله عليه وسلم – ليس ذما لتلك المنجزات لذاتها، وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية، فلم يصلوا إلى الرقي والسمو الحقيقي، وهو مرتبة العبودية، وإنما بقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.

هذا الموقف النبوي من أدق ما يبين أن الانتفاع بما لدى الغير لا يقتضي الانبهار بهم، وأن الذم لواقعهم لا يتعارض مع الاستفادة من الحكمة التي هي ضالة المؤمن.”

د. هيثم طلعت (بتصرف)

المصدر

الزعم أن تقديس الحجر الأسود عبادة وثنية

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغالطين أن تقديس المسلمين للكعبة (بالطواف حولها)، وتقديسهم للحجر الأسود (بتقبيله واستلامه) نوع من الوثنية وعبادة الأصنام؛ لأن الحجر الأسود في ظنهم كان صنما من جملة الأصنام التي كانت في الكعبة، لكنه لم يزل كغيره من الأصنام عام الفتح.

وبهذا التقديس – للكعبة وللحجر الأسود – تستوي عبادة المسلمين للأحجار مع عبادة الكفار الجاهلين الذين كانوا يظنون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وقد أخذ محمد بهذه العادة حينما وضع شعائر دينه، وجعل الكعبة هي مركز هذه الشعائر عند استقبالها في كل صلاة. ويتساءلون: إذا كان الإسلام دين توحيد فلماذا أبقي على تعظيم الكعبة، والحجر الأسود، وسائر طقوس الحج ذات الأصل الوثنى؟!

وجها إبطال الشبهة:

1) الشعائر التي يؤديها المسلمون في الحج هي عبادة الله عز وجل يأتونها امتثالا لأمره، ولا يصرف أحد من المسلمين إلى الحجر أو الكعبة خوفا أو رجاء، فإنما ذلك لله وحده.

2) شرع الإسلام تقبيل الحجر الأسود لما له من منزلة عظيمة، وما يقال من أن أصله صنم جاهلي هو افتراء خالص لا يسنده شىء من حق أو علم.

التفصيل:

أولا. شعائر الحج هي امتثال لأمر الله – عز وجل – لا عبادة للكعبة:

العبادة في المفهوم الإسلامي تشتمل على معنى الخضوع والذل والانقياد والطاعة، فالعبد عندما يكون عابدا لشىء ما، ينبغي أن يخضع ويذل له، ويقف بين يديه ضعيفا ذليلا لا يملك من أمره شيئا، فإن من يعبد شيئا، مهما كانت طبيعته، يعتقد أن له سلطة غيبية ينعكس تأثيرها على الواقع، وبالتالي فإن العابد يتقرب إلى معبوده رجاء للنفع أو دفعا للضرر، وهو في الوقت ذاته يعتقد أن التقصير في حق هذا المعبود، أو ترك عبادته يترتب عليه حصول الضرر ووقوعه كنوع من العقاب، فأمره مستجاب، ونهيه كذلك، بمعنى أنه يأتمر بما يأمره به، ويترك ما ينهاه عنه.

تقدير واحترام لا خضوع وتذلل:

ومما سبق من مفهوم العبادة الموجز نستطيع أن ندرك أن المسلمين لا يعبدون الكعبة، ولا الحجر الأسود، فهم لا يخضعون لهما ولا يذلون، وإنما يقدرون ويحترمون، وهم لا يتلقون شيئا من الأوامر أو النواهي من الكعبة والحجر الأسود؛ لأنهما لا يضران ولا ينفعان ولا يصدر عنهما شىء يمكن أن يكون فيه توجيه أو إرشاد، وإنما كان التقبيل والتقدير لهذا الحجر لتحقيق متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وليس له أدنى تعلق بالعبادة بحال من الأحوال، بل إن المسلمين الذين يقبلون الحجر الأسود يعتقدون أنه لا يملك الضر والنفع غير الله تعالى، فهم ينفون وجود أي سلطة ذاتية في المخلوقات مهما كانت، كما أنهم يعتقدون أن علاقة المخلوق بالخالق علاقة مباشرة ليس فيها وسيط، وأن العباد لا يحتاجون إلى شفيع يقصدونه للتقرب إلى الله – عز وجل – بل إنهم يعدون ذلك من الشرك الأكبر المخرج من الملة.

مناسك الحج هي من ملة إبراهيم – عليه السلام – محطم الأصنام:

الحج من ملة إبراهيم – عليه السلام – فقد بدأ الحج إلى بيت الله الحرام، منذ أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام( (الحج).

فإبراهيم – عليه السلام – هو الذي بدأ الحج، ومثله لا يتهم بعبادة الأصنام؛ لأنه هو الذي حطمها وجعلها جذاذا، وأحيا بذلك الملة الحنيفية ملة التوحيد: )ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)( (النحل).

طقوس وثنية حرمها الإسلام:

وأكثر من ذلك أن أهل الجاهلية حين أدخلوا على الحج بعض الطقوس الوثنية وبعض الشعائر غير المقبولة كالطواف بالبيت عرايا، جاء الإسلام فأبطلها ومنع أن يطوف بالبيت عريان، وكان هذا في العام التاسع للهجرة؛ حين أعلن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: «ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان»[1].

ومن شعائرهم أنه كانت لكل قبيلة تلبية كقولهم: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملكك” يقصدون بهذا الشريك “الأصنام”، فجاء الإسلام وأبقى على جوهر التلبيات جميعا ووحدها في التلبية المعهودة: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»[2].

والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير»[3].

وهذا من مقاصد الإسلام في الحج، حيث قرر تثبيت التوحيد ومحو طقوس الشرك، فكان الحج مخلصا ومطهرا تماما من كل مظاهر الشرك. وكذلك نجد أن الجاهليين كانوا يعتقدون أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله – عز وجل – وتشفع لهم عنده، يقول الله تعالى مبينا ذلك: )والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى( (الزمر: 3)، وقال عز وجل: )ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله( (يونس: 18).

وهذه صورة من التقديس الوثني تنزل عن العبادة الصريحة المباشرة إلى رتبة الاستشفاع بالوثن على سبيل التقرب إلى الله عز وجل والإسلام – مع ذلك لا يقرها ولا يرضى بها وينعي عليهم هذه الصورة من التعظيم الذميم والعبادة الملفقة.

وليس أدل على موقف الإسلام من الوثنية ومحاربته لمظاهرها من كل وجه، من شهادة طائفة من غير المسلمين بهذه الحقيقة، نحو جوستاف لوبون قي قوله: “للإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم”[4].

وصفوة القول أن رحى العبادة تدور على قضيتين أساسيتين: تمام المحبة مع غاية الذل والخضوع، فمن أحب شيئا ولم يخضع له، فليس بعابد له، ومن خضع لشىء دون أن يحبه فهو كذلك ليس بعابد له، ومعلوم أن شعائر الحج تصرف الحب والذل جميعا إلى الله – عز وجل – لا إلى الحجر أو الكعبة المبنية.

ومن المناسب أن نقول: إن من يعبد شيئا فلا شك أنه يرى في معبوده أنه أعلى منه وأفضل، ونعلم أن حرمة المؤمن أعظم من حرمة الكعبة، بل من حرمة الدنيا بأسرها، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال في الكعبة: «ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك» [5]، وهذا جدير بأن يجلي حقيقة الفكرة الإسلامية عن هذه الشعائر ومعنى تأدية المسلمين لها.

ولنقف لنتدبر، ألم يكن العرب في جاهليتهم يتخذون العديد من الآلهة من مختلف الأشياء، وهم مع ذلك لم يتخذوا الحجر الأسود إلها من دون الله، ولكنهم جعلوا له حرمة ومكانة، باعتباره من البقايا الموروثة للكعبة التي بناها إبراهيم، وإسماعيل – عليهما السلام – فإذا كان هذا حال العرب في جاهليتهم، فأين العقل عندما ينسب هذا إلى المسلمين؟!

الحجر الأسود كتلة من الحجر ضارب إلى السواد بيضاوي في شكله، يقع في أصل بناء الكعبة في الركن الجنوبي الشرقي منها، يسن استلامه وتقبيله عند الطواف. وقد روى ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم»[6].

كما أثبتت بعض النصوص الترغيب في تقبيله وبيان أنه يشهد يوم القيامة لمن استلمه بحق، وأنه تحط به الذنوب، ففي الحديث: «إن مسح الحجر والركن اليماني يحطان الخطايا حطا»[7].

وفي الحديث: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق»[8].

ثانيا. حقيقة الحجر الأسود ومنزلته في الإسلام:

لقد اكتسب الحجر الأسود هذه المزية – مزية تعظيمه – لأمر الله تعالى بتقبيله، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن لأحد أن يقوم بتقبيله؛ إذ إن الشرع أمر بإسلام الوجه لله، وقبول ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع التسليم وانتفاء الحرج، قال تعالى: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( (الحشر: 7).

 وقال تعالى: )وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( (الأحزاب: 36)، وقد ورد تقبيل الحجر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو كما قال الله تعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)( (النجم)، فمن الحكمة في مشروعية تقبيل الحجر والطواف والرمي – ابتلاء العباد وإظهار العبودية؛ ليعلم المسلم أنه لا اختيار مع أمر الله وأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – فشرع الله هو الذي حرم عبادة الأحجار والأشجار والأوثان وحرم التقرب إليه بغيرها، وهو الذي أمر بالطواف حول البيت الحرام، وشرع تقبيل الحجر الأسود، ولهذا جاء قول عمر رضي الله عنه «ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك»[9].

تقبيل الحجر لغة رمزية:

وهذا التقبيل هو في حقيقته عمل رمزي، فالحج يتميز بأن فيه اللغة الرمزية، فرمي الجمار – مثلا – رمز لمقاومة الشر الذي يتمثل في الشيطان، والمسلم يقتدي في هذا بإبراهيم عليه السلام حينما رمى إبليس، حينما تعرض له ليثنيه عن ذبح ولده فرماه بالجمار، وكذلك نحن حينما نرمي الجمار نتمثل أننا نرمي الشيطان ونقاوم الشر، بل حتى العوام من المسلمين يكادون يتمثلون أن هذا الذي يرمونه هو إبليس “كأنهم يرونه” ويقولون: هذا إبليس الكبير، وإبليس المتوسط، وإبليس الصغير، فهذه عملية رمزية.

والإنسان بطبيعته وفطرته يحتاج إلى تمثيل المعاني في صورة محسوسة، والله – عز وجل – أعلم بخلقه، ألم يقل: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك)، فتعظيم العبد لله وإعلانه لخضوعه له واستكانته لأمره، جعله – سبحانه وتعالى – في صور محسوسة؛ لكي تكون دلالتها الرمزية تحقق معنى العبودية، وتشبع العاطفة والميل الإنساني للتعبير عن هذه المعاني في صورة حسية.

والكعبة والبيت الحرام وغيرهما صور حسية رمزية لحقائق معنوية، وجعلت الكعبة في العبادة، وفي الصلاة خاصة، مركزا للتعظيم والتوقير والإجلال لا لذاتها، وإنما لعبادة الله، وجعلت واحدة في مكان واحد؛ لتعطى – أيضا – مع معنى التعبد معنى الدلالة على منهج الوحدانية لله عز وجل.

وباختصار شديد ليست العبادة للكعبة، ولا للحجر الأسود وإنما لله، ومن رحمته وحكمته أن جعل بعض معاني هذه العبودية تتجلى في صورة حسية؛ ليتوافق ذلك مع طبيعة وفطرة الإنسان في تعبيره عن المعاني والمشاعر في صور حسية.

وقد يقال – بعد ذلك كله – إن الحكمة في هذا التقبيل تكمن في ذلك الاتصال بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأمته، فهو اتصال من نوع خاص، اتصال روحي وكياني، وكأنه – صلى الله عليه وسلم – قبل الحجر الأسود ليكون هذا بمثابة الاتصال المادي والحسي بينه وبين أمته أليس هو القائل: «وددت أني لقيت إخواني» [10]، وفي رواية: «وددت أنا قد رأينا إخواننا»[11]، غير أن المستشرقين الذين يعدون تقبيل الحجر الأسود من بقايا الوثنية لا يعلمون الحكمة من ذلك، وهي حب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأحبابه الذين لم يرهم ولم يروه، وآمنوا به، والذين سيأتون من بعده، فالصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يرون الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويصافحونه ويسمعون الوحي المنزل عليه من فمه الشريف، أما المؤمنون من بعدهم فإنهم لم يواكبوا هذه الأحداث الملموسة، وآمنوا بها بالرغم من عدم رؤيتهم لها، فربما أراد الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يطبع على جبين كل واحد منهم ما هو بمثابة وسام؛ تكريما لهم على إيمانهم ومحبتهم لهذا الدين من خلال تقبيله الحجر الأسود، فكأنما صار هذا الحجر الواسطة بينهم لنقل هذه المشاعر وتقليدهم هذا الوسام الرفيع.

ومما سبق ندرك أن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ولم يقدسوه، وإنما يتبعون سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيقدرونه ويحترمونه.

الخلاصة:

تشتمل العبادة على معنى الخضوع والذل والانقياد، فالعبد ينبغي أن يخضع ويذل إلى معبوده ويتقرب إليه رجاء للنفع، أو دفعا للضرر، والمسلمون لا يذلون ولا يخضعون للكعبة ولا للحجر؛ لأنهما لا يضران أو ينفعان، وإنما يقدرونها ويحترمونها امتثالا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

بدأ الحج إلى بيت الله الحرام، منذ أمر الله إبراهيم – عليه السلام – أن يؤذن في الناس بالحج، وهو – عليه السلام – الذي بدأ الحج، ولا يمكن أن يتهم إبراهيم بعبادة الأصنام وهو محطمها، وصاحب الملة الحنيفية التي اتبعها الموحدون من بعده.

أدخل أهل الجاهلية على الحج بعض الطقوس الوثنية، فجاء الإسلام وألغاها وأبقى على جوهر التلبية، وكانوا – أيضا – قد اعتقدوا أن الأصنام والأوثان التي يعبدونها تقربهم إلى الله عز وجل فجاء الإسلام فجعل علاقة المخلوق بالخالق علاقة مباشرة ليس فيها وسيط.

اكتسب الحجر الأسود تقديسه لأمر الله – عز وجل – بتقبيله، ولو لم يرد ذلك الأمر لم يكن لأحد أن يقوم بتقبيله، إذ إن تقبيله؛ طاعة لأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى.

تقبيل الحجر عمل رمزي وتواصل روحي وكياني مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكأنه قبل الحجر ليكون بمثابة الاتصال المادي والحسي بينه وبين أمته، فتقبيله لحكمة؛ وهي حبه – صلى الله عليه وسلم – لأحبابه الذين لم يرهم ولم يروه وآمنوا به، ومعنى ذلك – على كل حال – أن المسلمين لم يعبدوا الحجر الأسود ولم يقدسوه، وإنما كان هذا اتباعا منهم لسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وامتثالا لأمر الله الذي أوحى به للنبي صلى الله عليه وسلم.

(*) قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية: نقد مطاعن ورد شبهات، د. فضل حسن عباس، دار البشير، الأردن، ط2، 1410هـ/ 1989م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1543)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (3353).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب التلبية (1474)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب التلبية وصفتها ووقتها (2868).

[3]. حسـن: أخرجــه الترمـذي في سننــه، كتـاب الدعـوات، بـاب في دعـاء يــوم عرفـــة (3585)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1503).

[4]. حضارة العرب، جوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ص125.

[5]. صحيـح: أخرجـه الترمـذي في سننــه، كتـاب البـر والصلـة، بـاب تعظيـم المؤمــن (2032)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3420).

[6]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام (877)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب صفة الركن والمقام (2733)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6756).

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمــر رضـي الله عنــه (5621)، والطبرانــي في المعجــم الكبيــر (12/ 389) برقـم (13438)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2194).

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2215)، والترمــذي في سننــه، كتـاب الصـوم، بـاب الحجـر الأسـود (961)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7098).

[9]. أخرجــه البخـاري في صحيحـه، كتـاب الحـج، بـاب مـا ذكـر في الحجـر الأســود، (1520)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (3126).

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12601)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7108).

المصدر

إنكار ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغالطين ثبوت عقيدة التوحيد في الشرائع السماوية، ويدعون أنها أقرت عقيدة التثليث، مستدلين على ذلك ببعض شعائر المسلمين، كقولهم في الأذان: الله أكبر؛ فاستخدام صيغة أفعل تدل على أن هناك أكثر من إله، هذا أكبرهم. وكذلك قول المسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم؛ كما يقول النصارى: بسم الآب والابن والروح القدس، كما يستدلون على ذلك بقوله تعالى: )فتبارك الله أحسن الخالقين (14)( (المؤمنون) حيث تدل صفة أفعل (أحسن) أيضا على وجود أكثر من خالق، هذا أحسنهم، ويتساءلون: كيف بعد هذا يدعى أن الإيمان في الإسلام مؤسس على التوحيد؟

وجوه إبطال الشبهة:

1) الحقيقة الواضحة في القرآن هي التوحيد الخالص، ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وهذا هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.

2)  التوحيد هو أصل جميع الشرائع، والأنبياء دينهم واحد وإلههم واحد.

3)  ليس في القرآن الكريم ما يسوغ أن يكون إشارة إلى إقرار التثليث ونحوه من صور التعدد.

التفصيل:

أولا. التوحيد الخالص في القرآن الكريم:

إن التوحيد هو الأساس الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في الإسلام، وتصح معه جميع الأعمال، كما قال تعالى: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)، وقال تعالى: )ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65)( (الزمر)، وقال تعالى: )إنا أنزلنا إليــك الكتـاب بالحـق فاعبـد الله مخلصا له الديـن (2) ألا لله الدين الخالـص( (الزمر).

فدلت هذه الآيات الكريمة، وما جاء بمعناها – وهو كثير – على أن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت خالصة من الشرك، والتوحيد ثلاثة أنواع:

توحيد الربوبية[1]:

 وهو الذي أقر به الكفار على زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستحل دماءهم وأموالهم، وهو توحيد بفعله تعالى، والدليل قوله تعالى: )قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميـت من الحي ومـن يدبـر الأمر فسيقولــون الله فقـل أفلا تتقـون (31)( (يونس)، وقال تعالى: )قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتـم تعلمـون (88) سيقولـون لله قـل فأنـى تسحــرون (89)( (المؤمنون).

والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر[2].

توحيد الألوهية[3]:

وهو التوحيد الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والنحر، والرجاء والخوف والتوكل، والرغبة والرهبة والإنابة.

وذلك كما في قوله تعالى: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)( (غافر)، وكل نوع من هذه الأنواع عليها دليل من القرآن.

وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول – صلى الله عليه وسلم – قال تعالى: )وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18)( (الجن)، وقال تعالى: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، وقال تعالى: )له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)( (الرعد)، وقال تعالى: )ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير (30)( (لقمان).

توحيد الذات والأسماء والصفات:

قال تعالى: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص)، وقال تعالى: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)( (الأعراف)، وقال تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى) [4].

مما سبق يتبين أن التوحيد هو أساس العقيدة الصحيحة، ولأهميته كان اهتمام الرسل – عليهم السلام – بإصلاح العقيدة أولا ودعوة الناس إلى توحيد الله – عز وجل – وترك عبادة ما سواه، كما قال تعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وكل رسول يقول أول ما يخاطب قومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 59)، قالها نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وسائر الأنبياء لقومهم.

وقد بقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاما يدعو الناس إلى التوحيد، وإصلاح العقيدة؛ لأنها الأساس الذي يقوم عليه بناء الدين[5].

وقد تبين أن الإسلام نبذ الشرك ونفى تعدد الآلهة، فليس في هذا الوجود من إله إلا الله عز وجل.

ثانيا. التوحيد هو الأصل الذي دعت إليه جميع الشرائع، والأنبياء دنيهم واحد وإلههم واحد:

وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة مثل ما جاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» [6]، ومثل صفته في التوراة: “لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، ففتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا”، ولهذا وحد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى: )اهدنا الصراط المستقيم (6)صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)( (الفاتحة)، ومثل قوله تعالى: )وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( (الأنعام:153).

والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح عليه السلام: )فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، وقال الله عن سحرة فرعون: )ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)( (الأعراف)، وقال عن فرعون: )آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90)( (يونس)، وقال الحواريون: )اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)، وقال يوسف عليه السلام: )توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)( (يوسف)، وقال موسى: )وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس)، وقالت بلقيس: )رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( (النمل: 44)، وقال عن التوراة: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار( (المائدة: 44).

وقد وردت نصوص عديدة في التوراة تدعو إلى التوحيد، وتحذر من صور الشرك، فقد جاء في سفر الخروج: “أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية”. (الخروج 20: 2)، وفي سفر التثنية: “فتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل قوتك، ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك.ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيك، إلى مدن عظيمة جيدة لم تبنها، وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها، وأبآر محفورة لم تحفرها، وكروم وزيتون لم تغرسها، وأكلت وشبعت، فاحترز لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. الرب إلهك تتقى، وإياه تعبد، وباسمه تحلف. لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم، لئلا يحمي غضب الرب إلهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض”. (التثنية 6: 5 – 15)، وكما نهوا عن عبادة الأوثان نهوا عن عبادة النجوم وغيرها كما جاء: “ولئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها “. (التثنية 4: 19).

بل وأمروا أن يعاملوا بالشدة جميع الأمم التي تدين بعبادة الأوثان، كقوله في سفر التثنية: “فإنك تحرمهم، لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم، ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك؛ لأنه يرد ابنك من ورائي فيعبد آلهة أخرى، فيحمي غضب الرب عليكم ويهلككم سريعا، ولكن هكذا تفعلون بهم: تهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم، وتحرقون تماثيلهم بالنار”. (التثنية 7: 2 – 5).

وكما أمروا بالقسوة على الأمم الوثنية أمروا بمثل ذلك في حق من يشرك منهم: فقد أمر موسى – عليه السلام – بني لاوي رهطه بقتل عبدة العجل حين عبد العجل في غيبته، وفي سفر التثنية: “إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما، وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا: لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم، لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون، ووصاياه تحفظون، وصوته تسمعون، وإياه تعبدون، وبه تلتصقون، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل، لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم الذي أخرجكم من أرض مصر، وفداكم من بيت العبودية، لكي يطوحكم عن الطريق التي أمركم الرب إلهكم أن تسلكوا فيها، فتنزعون الشر من بينكم، وإذا أغواك سرا أخوك ابن أمك، أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك أو البعيدين عنك، من أقصاء الأرض إلى أقصائها، فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له ولا تستره، بل قتلا تقتله، يدك تكون عليه أولا لقتله، ثم أيدى جميع الشعب أخيرا، ترجمه بالحجارة حتى يموت”. (التثنية 13: 1 – 10).

وكما أمرت التوراة بعبادة الله وحده ونبذ الشرك وعبادة غير الله، كذلك وجد في الإنجيل ما يدل على أن الله واحد لا شريك له، وما ذهبوا إليه من التثليث وادعاء آلهة مع الله، هو وهم باطل لا دليل عليه من كتابهم، وهذا التوحيد قد بينته نصوص من أناجيلهم على النحو التالى:

إنجيل متى: “وإذا واحد تقدم وقال له: أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية، فقال له: لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله”. (متى 19: 16، 17). فهذا القول يقلع أصل التثليث، وما رضى تواضعا أن يطلق عليه لفظ الصالح. أيضا ولو كان إلها لما كان لقوله معنى، وكان عليه أن يبين، لا صالح إلا الآب وأنا وروح القدس، ولم يؤخر البيان عن وقت الحاجة. وإذا لم يرض بقوله “الصالح”، فكيف يرضى بأقوال أهل التثليث التي يتفوهون بها في أوقات صلاتهم: يا ربنا وإلهنا يسوع المسيح لا تضيع من خلقت بيدك؟

وورد في قول إبليس للمسيح: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك، قال له يسوع: مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك، ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي، حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان! لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد”. (متى 4: 6 – 10).

ويقول المسيح لتلاميذه: “متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء، كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا وأعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير؛ لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد آمين”. (متى 6: 9 – 13).

ويقول: “أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب، ليس الله إله أموات، بل إله أحياء”. (متى 22: 31، 32).

إنجيل مرقس: “فجاء واحد من الكتبة، وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله: أية وصية هي أول الكل، فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى، وثانية مثلها هي أن تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين”. (مرقس 12: 28 – 31).

إنجيل يوحنا: قال عيسى – عليه السلام – في خطاب الله: “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 17: 3)، فبين عيسى – عليه السلام – أن الحياة الأبدية عبارة عن أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي، وأن عيسى – عليه السلام – رسوله. وما قال: إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي. وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله مجسم، فلو كان اعتقاد التثليث مدار النجاة لبينه، وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي لله واعتقاد الرسالة للمسيح، فضدها يكون موتا أبديا وضلالا بينا ألبتة. والتوحيد الحقيقي ضد للتثليث الحقيقي. وكون المسيح رسولا ضد لكونه إلها؛ لأن التغاير بين المرسل والمرسل ضروري.

وهذه النصوص السابقة تدل على أن المسيح – عليه السلام – دعا إلى عبادة الله وحده، ولم يدع أحدا إلى عبادة نفسه، والقرآن يشهد له أنه ما خالف الأنبياء والمرسلين في دعوة التوحيد، قال تعالى: )ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64)( (الزخرف).

ويذكر لنا القرآن صورة لما سيكون يوم القيامة، حين يسأل عيسى – عليه السلام – عما يقوله النصارى من أمرهم أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، فيجيب على ذلك البهت بهذا الجواب المفحم: )سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117)( (المائدة). فتبين أن التوحيد هو أصل جميع الأديان، دعت إليه التوراة ودعا إليه الإنجيل، وإنما طرأت مزاعم التعدد بالتثنية أو الثليث في هذه القصائد في طور متأخر من تاريخها، ولم تكن تعرفها النصوص الأولى التي لم تزل – على رغم تبديلها – تحتفظ بما يشهد للاعتقاد الأول فيها، وهو التوحيد[7].

ثالثا. تهافت المزاعم عن إقرار الإسلام لبعض صور التثليث:

من العجيب – بعد كل ما تقدم – أن يلتمس أناس إشارات إلى التثليث في القرآن الكريم وغيره من العبادات التي يرددها المسلمون في عباداتهم، ويقدمون هذا الفهم الخاطئ لهذه الإشارات التي يتوهمونها على الآيات الصريحة الكثيرة التي تشرح التوحيد خالصا من شوائب الشرك.

ومن ذلك استدلالهم بما يقال في أول القرآن عند التسمية )بسم الله الرحمن الرحيم( بأنه مثل ما جاء في الإنجيل عن عيسى عليه السلام: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. (متى28: 19)، فالمسلمون بهذا في نظرهم يعتقدون بتثليثهم. والجواب: أن التثليث ليس من المسيحية التي أتى بها المسيح، فالمسيح جاء بالتوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وقد تقدم بيان ذلك.

أما زعمهم أن )بسم الله الرحمن الرحيم( هي مثل: الآب والابن والروح القدس، فهذا فهم خاطئ وتحريف؛ لأن الله تعالى في البسملة معناه: الذات الموصوفة بصفات الكمال، ونعوت الجلال، و )الرحمن الرحيم( صفات الله سبحانه وتعالى باعتبار الخير والإحسان الصادرين عن قدرته[8].

فهذا – إذن – ليس تثليثا، والله – عز وجل – كما هو رحمن ورحيم، فهو – أيضا – ملك وقدوس، وسلام ومؤمن ومهيمن… إلخ، فأسماء الله وصفاته كثيرة، لا يعقل أن يقال إن الله يتعدد بتعدد صفاته وأسمائه.

وأما استدلالهـم بقـول الله تعالـى: )فتبـارك الله أحسـن الخالقيــن (14)( (المؤمنون)، فهذا فهم خاطئ، فقوله في هذه الآية: )أحسن الخالقين( أي: المقدرين، والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير، ومنه قول زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ

ض القوم يخلق ثم لا يفري

فقوله: يخلق ثم لا يفرى؛ أي: يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم[9].

فكيف يزعمون ذلك والله تعالى ينفي الخلق عن غير الله، فيقول: )أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17)( (النحل)، ويثبت الخلق لله وحده: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)( (الأعراف: 54)، أي: له الخلق وليس لغيره، ويتحدى الله تعالى أن يكون الشركاء الذين يعبدون من دونه الله يخلقون: )إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)( (الحج).

وأما زعمهم بأن قول المؤذن: “الله أكبر” يقتضي أن هناك مقارنة بين إلهين أكبر وأصغر، فهذا الفهم الفاسد يبرهن على فساده آيات كثيرة، جاءت صريحة قاطعة بأن لا إله إلا الله، حتى أصبحت حقيقة إسلامية يعرفها جميع الناس عن الإسلام دين التوحيد، الذي لا يؤمن فيه المؤمن بإله مع الله.

أما التكبير بهذه الصيغة في الآذان وفي الصلاة، وفي الذكر فهو تنبيه للعاقل بأنه مهما كبر عندك شىء فانتبه إلى أن الله أكبر منه؛ ليترك كل ما في يده مهما كان شأنه عنده، ويقبل على ربه ومناجاته، فليس هناك أكبر من الله تعالى.

من هنا اقتضت الحكمة أن يفتتح بها الآذان ويختتم، وتفتتح بها الإقامة للصلاة وتختتم، وتفتتح بها الصلوات وتتخلل أعمالها، ليكون التكبير تنبيها متواليا يرد المسلم إلى ربه كلما شرد به تفكيره إلى ما يهمه من أمر دنياه.

ومن هنا كان التكبير شعار المجاهدين المنتصرين الفاتحين، فهو مصدر إلهام لهم، وقوة إيمانية لهم، حيث لا يجدون فوق الله كبيرا، وبهذا تتحطم على أيديهم قوى الطغيان والبطش مهما أوتيت، وكيف يكون التكبير اعترافا ضمنيا بإله مع الله، وإن كان أصغر، مع أن كل تكبير في أذان أو إقامة أو صلاة، أو ذكر يعقبه إعلان بأنه: لا إله إلا الله، لا إله غيره، لا إله معه، لا إله إلا هو سبحانه؟!

الخلاصة:

إن توحيد الله – عز وجل – هو الحقيقة الواضحة الجلية التي دعا إليها الإسلام، وتوحيد الله – عز وجل – ونفي ألوهية غير الله، ونبذ الشرك، وتعدد الآلهة أمور يعلمها كل مسلم ولا تخفى على أحد؛ لأن الإسلام جعل التوحيد هو الأساس الذي تصح معه جميع الأعمال.

والتوحيد هو دعوة جميع الأنبياء، وكذلك هو أول ما بدأ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعوته، وظل في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو إليه، التوحيد هو دين جميع المرسلين، أقرته التوراة والإنجيل، على الرغم مما فيها من أمور تتنافى مع العقيدة الصحيحة، كالقول بالتثليث وألوهية غير الله.

وما زعمه هؤلاء من إقرار الإسلام لصور من التثليث هو زعم طائش لا يستند إلى فهم سليم لهذه الإشارات والشواهد التي استدلوا بها، وهو يخالف ما يعرفه المسلمون عن دينهم بالبداهة ويجعلونه أصل إيمانهم.

(*) هذا هو الحق: رد على مفتريات كاهن الكنيسة، ابن الخطيب، المطبعة المصرية، القاهرة، 1979م. الجذور التاريخية والجسور الحضارية بين الإسلام والغرب، د. محمد محمد أبو ليلة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2001م.

[1]. توحيد الربوبية: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ عز وجل ـ رب كل شيء، ولا رب غيره، أو بعبارة أخرى: الإقرار بأن الله هو الخالق لكل شيء، وهو المدبر، وهو الذي يعطي ويمنع، ويحي ويميت، لا يشاركه أحد في فعله سبحانه وتعالى.

[2]. مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى، محمد بن عبد الوهاب، دار الفكر، بيروت، د. ت، ص3، 4.

[3]. توحيد الألوهية: توحيد القصد والطلب، ومعناه: الاعتقاد الجازم بأن الله ـ عز وجل ـ وحده هو الإله المستحق للعبادة، وإفراده ـ عز وجل ـ بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة.

[4]. مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى، محمد بن عبد الوهاب، دار الفكر، بيروت، د. ت، ص4، 5.

[5]. عقيدة التوحيد، د. صالح بن فوزان، مؤسسة الحرمين الخيرية، الرياض، د. ت، ص6، 7.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ( (مريم: ١٦) (3259)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6281).

[7]. انظر: دعوة أهل الكتاب إلى دين رب العباد، د. سعيد عبد العظيم، دار العقيدة، القاهرة، د. ت. إظهار الحق، رحمة الله بن خليل الهندي، دار الحرمين للطباعة، مصر، ط2، 1413هـ/1992م.

[8]. انظر: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، القرافي، تحقيق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م.

[9]. أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1408هـ/ 1988م، ج5، ص781.

المصدر

دعوى انتشار الإسلام بحد السيف وإساءة معاملة الآخر
 
مضمون الشبهة:
 
يدعي بعض المشككين أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأنه أساء معاملة أهل البلاد المفتوحة من اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بما يلي:
 
سبق الجيوش المحاربة قوافل الدعاة، في البلاد المحاربة.
إجبار بعض النصارى على الدخول في الإسلام.
عدم قبوله للتعددية الدينية، والعمل على إقصاء الآخر.
 
ويهدفون من وراء ذلك إلى اتهام الإسلام بالدموية والعنف، وأنه دين غير مقنع بذاته ومبادئه.
 
وجوه إبطال الشبهة:
 
1)  الإسلام وضع قواعد عادلة حكيمة في التعامل مع أهل البلاد المفتوحة، يدلك على ذلك سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الخلفاء الراشدين من بعده الذين طبقوا هذه القواعد الحكيمة بكل ما تحمله من معان، هذا فضلا عن معاملة غير المسلمين المسالمين داخل المجتمع الإسلامي.
 
2)  الأديان السابقة – اليهودية والنصرانية – لا تنكر القتال في كتبها، وقد حاول أهلها مرارا نشر مبادئها بالوسائل القمعية، وهذا واضح من كتبهم.
 
3)  الحرب في الإسلام ضرورة أو وسيلة – وليست غاية – لإزاحة الطواغيت، وإتاحة حرية الاختيار أمام الشعوب المستضعفة، وحماية الدعاة من الأذى، ومن أن يحال بينهم وبين عامة الناس.
 
4)  الوقائع التاريخية تشهد بأن المسلمين لم يكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، بل ويؤيد هذا شهادات غربية على حسن معاملة المسلمين لأهل البلاد المفتوحة.
 
5)  لما ضعفت شوكة المسلمين وتمكن الآخرون منهم، ظهرت العنصرية البغيضة، التي استحلت قتل الكبار والصغار والنساء، وتخريب دور العبادة، والديار العامرة، والتاريخ خير شاهد على ذلك في الأندلس وغيرها من بقاع الأرض.
 
التفصيل:
 
أولا. الإسلام أرسى قواعد عادلة وحكيمة في التعامل مع الآخر، يدلك على ذلك سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الغزوات، وتاريخ الخلفاء في الفتوحات، وهذا يؤكد صلاحية تشريعات هذا الدين عالميا في مقابل محدودية الأديان السابقة:
 
محدودية الأديان السابقة زمانا ومكانا:
 
 بعث الرسل السابقون إلى أقوامهم، وأرسل الأنبياء إلى قبائلهم وعشائرهم خاصة: )ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25)( (هود)، )وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (85)( (الأعراف)، )وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73)( (الأعراف)، )وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50)( (هود).
 
وإلى بني إسرائيل كانت نبوة موسى – عليه السلام – والأنبياء من بعده، وقد أثر عن المسيح – عليه السلام – قوله: “بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة”، والرب ينعتونه عندهم بإله إسرائيل، ويخصون بالذكر من أبناء إبراهيم – عليه السلام – ذرية يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق دون سائر العبريين، وفي سفر الأيام من العهد القديم: “مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل إلى الأبد”[1]، وعلى هذا كانت النبوات السابقة كلها محلية مؤقتة؛ أي محدودة الزمان والمكان.
 
عالمية الإسلام وختمه رسالات السماء:
 
الإسلام هو الصورة الأخيرة للوحي الأعلى، وهو كذلك الصورة العامة التي تستغرق الأجناس كلها والأجيال جميعها على وجه الأرض حتى قيام الساعة، وعلة ذلك أنه قد زود الإنسان بالوصايا الأخيرة للوحي الإلهي، وأرسى دعائم العقيدة والعبادات والمعاملات، وتضمن نصوصا حاسمة تضبط سيرة المرء وتقاليد الجماعة، وهي أسس وتوجيهات لا تختلف باختلاف العصور. أما ما خلا ذلك من شئون فموكول للعقل البشري، يمحو فيه ويثبت مسترشدا بتلك الأصول السماوية الشرعية السابقة، وإجمالا فقد حدد الإسلام المبادئ وحرر الوسائل[2].
 
وعلى هذا فلئن اتفق الإسلام مع الأديان السماوية السابقة في وحدة الأديان ومصدرها الإلهي، فقد اختلف معها وامتاز عنها في كونه الدين النهائي الخاتم لجميع الأديان، وكونه دينا عاما أنزله الله على محمد – صلى الله عليه وسلم – ليقوم بتبليغه إلى الناس كافة عربا وعجما، بيضا وسودا، إنسا وجنا، وتبعا لهذا فقد تميز بالصلاحية لكل زمان ومكان، وهذا مقتضى الختم والعالمية، قال عز وجل: )تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (1)( (الفرقان)، )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)( (الأعراف)، )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)( (التوبة).
 
ولا شك أن خاصية العالمية توجب على حملة هذا الدين إبلاغ دعوته للعالمين؛ أداء للأمانة وإقامة للحجة عليهم، فكيف كانت طبيعة هذا البلاغ؟
 
طبيعة انتشار الإسلام:
 
الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم – ومن ثم في نشر دعوتهم – هو السلم ما لم يطرأ ما يقيد هذا الأصل، وقد أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون أن يدعوا إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)( (النحل)، )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)( (الكهف)، )فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82)( (النحل)، )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)( (البقرة)، )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون).
 
وقد سار النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبه على هذا النهج في دعوتهم، واستمسكوا بهذا الهدي، وأحداث التاريخ تبرهن عمليا – بوضوح – على هذا، فحينما بدأ الرسول – صلى الله عليه وسلم – دعوته بمكة وحيدا، لا قوة تسنده ولا مال يعينه، دخل في دعوته مجموعة من وجوه الناس: كأبي بكر وعثمان وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير، ثم لحقهم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم، فهل يمكن القول بأن هؤلاء في تلك الظروف قد أكرهوا على اعتناق الإسلام تحت حد السيف؟!
 
بل إن مشركي قريش قد اضطهدوا المسلمين طيلة الفترة المكية اضطهادا قاسيا، فهؤلاء إذن – على حد قول العقاد في كتابه “عبقرية محمد” – هم من تعرضوا بإسلامهم لحد السيف، وليس العكس، أي أنهم لم يخضعوا أحدا للسيف ليسلم.
 
وهنا تحدث المفارقة الدالة، ففي الوقت الذي كان المسلمون فيه بمكة مستضعفين، كان بعض رجالات يثرب يسعون نحو الدعوة المطاردة ونبيها – المحاصر من المشركين، المعاند بكل وسيلة من قبلهم -فيعتنقونها ويتبعونه، ويجذبون نحو عقيدتهم الجديدة أهلهم وذويهم. فمن أكره هؤلاء السادة الأحرار على اعتناق هذه العقيدة؟!
 
الإذن بالقتال ومراحله:
 
يذكر التاريخ أن المسلمين قبل الهجرة لم يؤذن لهم بقتال ودفاع عن النفس، مع كل صنوف الأذى والعذاب التي نزلت بهم، وكانوا كلما همت نفوسهم لرد الظلم وتطلعوا للقصاص من الظالمين، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمرهم بالاستمساك بالصبر وانتظار أمر الله مذكرا أنه لم يؤمر بقتال، فلما أسرف أهل الكفر في عنادهم ولجوا[3] في طغيانهم، وألجئوا المسلمين إلى الهجرة مفارقين الولد والأهل والمال والوطن، ثم تابعوا تدبير المؤامرات، ووضع الخطط للقضاء على الدعوة في مهجرها، وعلى الدولة الوليدة الناشئة في مهدها – عندئذ شرع القتال للدفاع عن النفس، والذود عن الحياض والذب عن الحرمات. قال عز وجل: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج).
 
وعند إمعان النظر في هذه الآية يستشعر المتأمل أن الإسلام لم يرغب في القتال كغاية في حد ذاته؛ فقد بني الفعل “أذن” للمجهول لكيلا يقترن الإذن بالقتال بلفظ الجلالة مباشرة عند بنائه للمعلوم، وحذف أيضا نائب الفاعل المأذون به، وهو لفظة القتال حتى لا يذكر صراحة، وذكر بدلا منه سبب الإذن “بأنهم ظلموا” وفسرت المظلومية في الآية التالية: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)( (الحج). ثم نزلت آية أخرى أكثر صراحة في الإذن بالقتال وهي قوله عز وجل: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
 
وألح القرآن من جديد على تحريم الحرب العدوانية، فحرم على المسلمين محاربة من لم يحاربهم ولم يعتد عليهم: )إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)( (النساء).
 
وحتى لا تبقى زيادة لمستزيد – على حد قول المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان – نجد القرآن يستوصي خيرا بالمسالمين للمسلمين من غيرهم: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، هذا هو السياق الطبيعي الحقيقي للآيات المذكورة، الذي يبتر عند المغالطين، وتستل منه هذه الآيات وأشباهها لتستنطق بغير ما تنطق به فعلا[4].
 
ومع كل هذه الضجة حول رفعه – صلى الله عليه وسلم – السيف وخوضه الغزوات، فإن المتأمل للآثار الناجمة عن هذا القتال وأعداد ضحاياه يتبين مدى ضآلة هذه الآثار قياسا إلى الحروب الطاحنة في تاريخ الأديان الأخرى وهذا ما يوضحه الجدول الآتي:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الغزوة
 
 
 
شهداء المسلمين
 
 
 
قتلى العدو
 
 
 
ملاحظات
 
 
 
 
بدر
 
أحد
 
الخندق
 
بنو المصطلق
 
خيبر
 
بئر معونة
 
مؤتة
 
حنين
 
الطائف
 
معارك أخرى
 
 
 
14
 
70
 
6
 
ــ ــ
 
19
 
69
 
14
 
4
 
13
 
118
 
 
 
70
 
22
 
3
 
3
 
ــ ــ
 
ــ ــ
 
14
 
71
 
ــ ــ
 
256
 
 
 
لم يدخل اليهود في هذه الإحصائية؛ لأن لهم حكما آخر بسبب خيانتهم.
 
 
 
 
المجموع
 
 
 
317
 
 
 
439
 
 
 
756 من الجانبين[5].
 
حقا لم تعرف البشرية في تاريخها حامل سيف أعف من محمد صلى الله عليه وسلم، ما غضب لنفسه قط، وما غضب إلا لله وحده، وما استعمل السيف إلا في حينه:
 
قالوا غزوت، ورسل الله ما بعثوا
 
بقتل نفس ولا جاءوا بسفك دم
 
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
 
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
 
هذه المفارقة الواضحة بين حقيقة استعمال السيف في الإسلام، وبين ادعاءات المغرضين، هي ما دعت أحد الباحثين إلى أن يقول: إن الشيء الذي يغيظ أعداء الحقيقة هو أن الإسلام زودته العناية الإلهية بتعاليم تجعله صلب المكسر، لا يستطيع الباطل أن يجتاحه بسهولة، ولا أن ينال منه بيسر، بل نستطيع أن نقول: لقد كان هذا الباطل يزأر في عرصات[6] الدنيا دون تهيب، ويزعج الآمنين في كل قطر دون وجل[7]، فلما ظهر الإسلام واشتبك الباطل معه – على عادته – عاد من هجومه مقصوم الظهر مخضوب الكف، فراح يجأر بالشكوى أن الإسلام دين سيف، وأن الحكم في رحابه جعله صلب العود. نعم هو كذلك، وما عيب السيف إذا رد المعتدين؟ وما عيب الصلابة في الحق إذا استعصت على الفتانين؟! إن السؤال الذي يجب أن تتحدد الإجابة عنه هو: هل كان الحكم في الإسلام أساسا لفتنة غير المسلمين عن دينهم؟ هل كانت الدولة في خدمة الدعوة من حيث استغلال أجهزتها للفتنة والإعنات[8]؟!
 
كتب النبي ورسائله إلى الأمراء والملوك:
 
ومع ذلك فقد استغل الرسول – صلى الله عليه وسلم – هدنة صلح الحديبية ليعود بأمر الدعوة إلى أصله – وهو السلم -، فراسل زعماء الأرض، وأرسل الكتب والرسائل، ولم يبعث الجيوش والكتائب ابتداء، والمعروف أن الإسلام قد بعث أمة العرب بعثا، فقبله لم تكن هناك أمة عربية ذات لحمة متماسكة، بل قبائل عربية متنازعة، هان أمرها على نفسها فهانت على القوى الكبيرة في العالم آنذاك كفارس والروم؛ فلم يقيموا لها حسابا، فلما جاءها الإسلام ودانت غالبيتها به، وتأسست دولة قوية وحدت ديارها داخل شبه الجزيرة، وفوجئ كسرى وقيصر بجرأة النبي – صلى الله عليه وسلم – وإقدامه على مراسلتهما – مع غيرهما من الزعماء والملوك – يدعوهما للدخول في دينه ومعهما قومهما، استشعرا لأول مرة الخطر من جهة بلاد العرب.
 
وعلى الرغم من أن مضامين هذه الرسائل قد صيغت بمنتهى الحكمة واللين، فالرسول فيها سمح يدعو ولا يتهدد، ويتلطف ولا يتوعد، ويخاطب من وجهت إليهم بألقابهم مقرا بسلطانهم في ظل الإسلام، كما يتضح من بعض نصوصها ككتابه إلى كسرى بلاد فارس وفيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، أدعوك بدعوة الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة؛ لأنذر من كان حيا، وليحق القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم كل المجوس”.
 
ورسالته للمقوقس بمصر: “من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك للإسلام، فأسلم تسلم، وإن يسلم قومك يؤتك الله أجرك مرتين: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)”[9].
 
وعلى الرغم كذلك من سماحة الخطاب ووقار الكتاب – نقول: على الرغم مما سبق كله فإن ردود الفعل على هذه المراسلات قد جاءت متباينة؛ فمنهم من رد ردا حسنا وآمن كملوك اليمن وعمان، ومنهم من تلطف في الرد وتوقف في الإيمان كالمقوقس بمصر، والنجاشي في الحبشة – في بعض الروايات – ولهذا لم يتعرض المسلمون لهما ابتداء – تعرضوا لمصر بعد ذلك؛ لأن الروم تجيشت بها بعد فتح الشام وهددت مكانة المسلمين فيها – ولو كان المقصود نشر الإسلام بالقوة لهاجموا بلاد الحبشة؛ فهي أقرب إليهم، وأقل قوة من فارس والروم، ومنهم من أغلظ في الرد ومزق كتاب رسول الله، فدعا عليه بتمزيق ملكه، فحدث ذلك على يد الفاتحين المسلمين بعد سنوات، وهو كسرى فارس، ومنهم من زاد فقتل رسول رسول الله، وهو أمير غساني موال للروم.
 
إذن فقد جاهر الصنفان الأخيران بالعداوة، وصارا طواغيت أعاقت انتشار الدعوة سلما، فكان لا بد أن يتقيد الأصل مرة أخرى – وهو السلم – ليرتفع السيف، لا لإجبار الناس على قبول الدعوة، ولكن لإزاحة العوائق من مجرى نهر الدعوة؛ لينساب انسيابا طبيعيا، وتختار الشعوب المستضعفة لنفسها دون خوف تحت شعار “لا إكراه في الدين”.
 
الجهاد زمن الراشدين:
 
من هنا استؤنف الجهاد وانطلقت موجة الفتح الإسلامي زمن الراشدين نحو جبهتي فارس والروم، اللتين اتخذتا خطوات عملية في سبيل القضاء على الدعوة الإسلامية والدولة الوليدة، ففي السنة السادسة للهجرة أسلم عامل الروم في عمان، فحاول الروم حمله على الارتداد، فلما أبى سجنوه ثم صلبوه.
 
وكانت تجمعات الروم تجول على حدود دولة المسلمين بشكل مستمر، والمسلمون يتوقعون هجومها في أية لحظة، يؤكد ذلك أن صحابيا طرق باب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو نائم ذات ليلة فهب من نومه مذعورا وهو يهتف: أجاءت غسان؟! – حلفاء الروم – وكذلك تحرش بهم الفرس.
 
على أن هذه الحروب لم تكن ضد الشعوب وإنما ضد الطواغيت من القياصرة والأكاسرة وجيوشهم، وحين أزيحت هذه الحواجز فكرت هذه الشعوب في الإسلام وأقبلت عليه تتفيأ[10] ظلال الحرية في كنفه[11]؛ فحركة الفكر الإسلامي إذن كانت بمثابة حركة تحرير لصالح الشعوب المستعمرة المستضعفة، كما قال رسول جيش المسلمين لرستم قائد جيوش الفرس في معركة القادسية: “لقد من الله علينا برسول جاءنا بدين أخرجنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”[12].
 
كانت هذه إذن هي الدوافع النبيلة والمقاصد السامية لحركة الفتح الإسلامي في الأعم الأغلب من فتوحات المسلمين عبر التاريخ، والاستثناء البسيط من تلك القاعدة يؤكدها ولا يلغيها، قارنها بدوافع أية موجة استعمار – استدمار واستخراب على الحقيقة – واحتلال وغزو عبر التاريخ لتقف على البون الشاسع والجهة المنفكة بين الحالتين: الفتح من ناحية، والاحتلال والاستعمار والغزو من ناحية أخرى.
 
سلوك المسلمين العملي وطبيعة جهادهم:
 
على أية حال، اندفعت حركة الفتح بهذه الدوافع، فكيف كان سلوك الفاتحين وممارساتهم خلالها؟
 
 المعروف أن أخلاق الحرب في الإسلام والتي طبقها الفاتحون على أرض الواقع كانت ألا يقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة، وألا يتعرضوا لـمهادن أو رجل دين مسالم، وألا يحرقوا زرعا أو يقطعوا نخلا، وأن يدعوا الخصوم قبل مصارعتهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فإن مالوا للمسالمة قبل المسلمون منهم ذلك، ويؤكد ذلك قوله تعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال)، وقوله: )فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90)( (النساء).
 
وبناء على هذا لم يثبت في حقهم تاريخيا أنهم ارتكبوا جرائم إبادة جماعية أو تطهير عرقي، على عكس ما نضح به سلوك الآخرين تجاه المسلمين حين تمكنوا منهم ــ بدءا بمذابح بيت المقدس ومعرة النعمان زمن الصليبيين، وانتهاء بالبوسنة وكوسوفا وفلسطين في الآونة المعاصرة، مرورا بالأندلس وغيرها ــ بل لم يثبت في حقهم محاولة إحراق مكتبة أو إهدار تراث ما.
 
والمرة الوحيدة التي حاول فيها الشانئون[13] إلصاق تهمة إحراق مكتبة الإسكندرية القديمة بالفاتحين المسلمين وقائدهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، أثبت المنصفون من المستشرقين بالأدلة والبراهين أنها أحرقت على يد الرومان قبل الفتح الإسلامي بقرنين من الزمان، في حين أشرف الكاردينال “كسيمنس” على إحراق كل ما دون بالعربية من التراث الأندلسي – وهو جله – في ساحات غرناطة، وأمر صنجيل الصليبي بإحراق كتب دار العلم بطرابلس، وكانت أكثر من مائة ألف مجلد، وغير هذا كثير من الوقائع مما هو أظهر من أن يشار إليه.
 
فليست هذه الفعال حقا من طبائع المسلمين، إذ إن مبادئ دينهم تمنعهم من ذلك، بل تحضهم على عكسه: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة)، وصدق القائل مخاطبا غير المسلمين من المحتلين والمستعمرين والغزاة، ومعقبا على سلوكهم المناقض لهذه الأخلاقيات، عندما تعلو يدهم، حين قال:
 
ملكنا فكان العفو منا سجية
 
فلما ملكتم سال بالدم أبطح
 
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
 
وكل إناء بالذي فيه ينضح
 
وحين فتح المسلمون حمص بالشام – مثلا – جبوا الجزية من أهلها، ثم خرج منها المسلمون ليلحقوا بإخوانهم في بقية الفتوحات، وتركوا بها حامية صغيرة، فجاءتها الروم في جموع كثيفة، ولهذا اضطرت الحامية للخروج منها، لكنهم قبل أن يخرجوا حرصوا على رد مال الجزية للحمصيين، مما أثار استغرابهم، ففسر لهم المسلمون الأمر بأن الجزية مقابل المنعة والدفاع، أما وقد عجزوا مؤقتا عن الدفاع عنهم، فليردوا إليهم أموالهم ريثما يعودون مع إخوانهم في موجة فتح جديدة، فاستحسن أهل حمص ذلك منهم وأعانوهم في محاولة دفع الروم عن بلدهم.
 
وقد أجملت هذه الأخلاقيات وصية القائد الأعلى للفتوحات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لسعد بن أبي وقاص بطل القادسية، التي تمثل دستورا عاما في أخلاق الحرب والجهاد، ومعاملة أهل البلاد المفتوحة، ومن نصها: “أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل – لما عملوا بمعاصي الله – كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا، وسلوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، وأسأل الله ذلك لنا ولكم.
 
وترفق بالمسلمين في سيرهم ولا تجشمهم مسيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم حتى يبلغوا عدوهم، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة؛ حتى تكون لهم راحة يحيون فيها الأنفس، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ[14] أحد من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، ولا تنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح، وإذا وطئت أرض العدو فأرسل العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمره”[15].
 
مع هذه السياسة السمحة اللينة غير المكرهة على شيء – مما جذب القلوب إليها – تأخر تحول المسلمين إلى أغلبية في كثير من البلاد التي فتحوها كالشام ومصر لقرون، بل بقيت بها أقليات كبيرة العدد حتى الآن على غير الإسلام.
 
ويشهد الواقع التاريخي والتراث الفكري السياسي الإسلامي أن تسامح المسلمين بلغ حد أن صرح فقهاء كبار – كالماوردي في الأحكام السلطانية – بجواز تقليد الذمي وزارة التنفيذ، فينفذ أوامر الإمام ويمضي ما يصدر عنه من أحكام، وقد تولي الوزارة زمن العباسيين والفاطميين عديدون من أهل الذمة، جار بعضهم في حق الرعية المسلمة التي شكت من تسلط اليهود والنصارى بغير حق في شأنها[16].
 
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي:
 
كثر اللغط في هذا الموضوع، وانقلبت الأباطيل حقائق، والحقائق أباطيل، وتجلية للأمر نبدأ بكلام تأسيسي للدكتور يوسف القرضاوي حول دستور العلاقة مع غير المسلمين، إذ يقول: “وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة)، فالبر والقسط مطلوبان من المسلم للناس جميعا، ولو كانوا كفارا بدينه، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته، ويضطهدوا أهله.
 
ولأهل الكتاب من بين غير المسلمين منزلة خاصة في المعاملة والتشريع، والمراد بأهل الكتاب من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي، وإن حرف وبدل بعد، كاليهود والنصارى، الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل، فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى؛ حتى لا يوغر[17] المراء[18] الصدور، ويوقد الجدل واللدد[19] نار العصبية والبغضاء في القلوب، قال تعالى: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (46)( (العنكبوت).
 
ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب، والأكل من ذبائحهم، كما أباح مصاهرتهم، والتزوج من نسائهم المحصنات، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة في قوله: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم).
 
وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام؛ حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته وشريكة حياته، وأم أولاده غير مسلمة، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين، قال تعالى: )وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان( (المائدة:5).
 
وهذا الحكم في أهل الكتاب، وإن كانوا في غير دار الإسلام، أما المواطنون المقيمون في دار الإسلام فلهم منزلة ومعاملة خاصة، وهؤلاء هم أهل الذمة، فما حقيقتهم؟
 
جرى العرف الإسلامي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باسم “أهل الذمة أو الذميين”. والذمة كلمة معناها: العهد، والضمان، والأمان. وإنما سموا بذلك؛ لأن لهم عهد الله والرسول وجماعة المسلمين؛ أن يعيشوا في حماية الإسلام، وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين، فهم في أمان المسلمين وضمانهم، بناء على عقد الذمة بينهم وبين أهل الإسلام. فهذه الذمة تعطي أهلها من غير المسلمين ما يشبه في عصرنا الجنسية السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم.
 
فالذمي على هذا الأساس من أهل دار الإسلام، كما يعبر الفقهاء، أو من حاملي الجنسية الإسلامية، كما يعبر المعاصرون. وعقد الذمة عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم، وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية، ورعايتها، بشرط بذلهم الجزية، والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشئون الدينية، وبهذا يصيرون من أهل دار الإسلام. فهذا العقد ينشئ حقوقا متبادلة لكل من الطرفين: المسلمين وأهل ذمتهم بإزاء ما عليه من واجبات. فما الحقوق التي كفلها الشرع لأهل الذمة؟ وما واجباتهم”[20]؟
 
ثم يعدد هذه الحقوق مثل: حق الحماية من الاعتداء الخارجي، والظلم الداخلي، وحرية التدين، وحرية العمل والكسب. وتلك الواجبات مثل: أداء الجزية، والخراج، والتزام أحكام القانون الإسلامي فيما لا يمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
 
وانطلاقا من هذا الأصل والأساس الشرعي لعلاقة المسلمين بغير المسلمين، واتساقا معه جرت – غالبا – ممارسات المسلمين الواقعية تجاه الآخر عبر تاريخهم. فالتسامح – وهو أساس مكين من أسس بناء الحضارة من المنظور الإسلامي – يكاد يكون خصيصة إسلامية. فبوجه عام يشهد تاريخ المسلمين – فكرا وممارسة – لأهله أنهم حين يمتلكون القوة وتتيسر لهم الفتوح، فإنهم يكونون أكثر تسامحا، وأعظم نبلا، وأرقى إنسانية تجاه الآخر، في مقابل عجرفة[21] هذا الآخر واستبداده وغطرسته وقسوته وعدوانيته حيالهم حين يمتلك أسباب القوة وتنقلب الحال لصالحه.
 
ماذا لدى الآخر؟
 
وحول نظرة الإسلام المنصفة للأديان السماوية السابقة عليه، ونظرة المسلمين المتسامحة تجاهها بالتالي، مقابل نظرة أتباع هذه الديانات الظالمة للإسلام، نتيجة الجهل والتعصب والتعمية والدعاية المغرضة، يقول أحد المنصفين من أبناء الغرب: “فكتاب اليهودية المقدس هو التوراة، وتختلف التوراة عن العهد الجديد المسيحي؛ لأن هذا الأخير قد أضاف عدة أسفار لم تكن موجودة بالعبرية؛ غير أن هذا الاختلاف لا يمس شيئا من العقيدة، لكن اليهودية لا تعترف بأي وحي جاء بعدها. وهكذا فإن المسيحية قد اعتمدت التوراة العبرية، ولكنها زادت عليها بعض الإضافات، غير أن المسيحية لم تقبل كل ما انتشر من كتابات تستهدف تعريف الناس برسالة عيسى؛ ولذلك قامت الكنيسة بإجراءات حذف هامة جدا لعدد كبير من الأسفار التي كتبت لتعريف الناس بحياة السيد المسيح وتعاليمه.
 
وهكذا فإن الكنيسة لم تحتفظ من العهد الجديد إلا بعدد محدود من الكتابات، كان من أهمها الأناجيل الأربعة المعترف بها كنسيا، غير أن المسيحية بدورها لا تعترف بأي وحي جاء بعد المسيح وحوارييه؛ ولذلك فهي تستبعد القرآن.
 
أما القرآن، وقد أتى بعد المسيح بقرون ستة، فإنه يتناول معطيات عديدة جاءت في التوراة العبرية والإنجيل؛ ولذلك فهو يذكر التوراة والإنجيل كثيرا، والقرآن يوصي كل مسلم بالإيمان بالكتب السابقة: )يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)( (النساء).
 
وهكذا فإن القرآن يؤكد المكانة البارزة التي يحتلها رسل الله في تاريخ التنزيل مثل: نوح، وإبراهيم، وموسى، والأنبياء خاصة المسيح الذي يحتل مكانة بارزة، والقرآن مثل الأناجيل يقدم ميلاد المسيح، كفعل خارق يفوق الطبيعة، ويخص بالذكر أيضا مريم، ويطلق على السورة رقم 19 اسمها “سورة مريم”.
 
والواقع أننا ملزمون بملاحظة أن المعطيات الخاصة بالإسلام التي ذكرناها مجهولة عموما في بلادنا الغربية، ولا يدهشنا ذلك إذا تذكرنا الطريقة التي اتبعت في تثقيف الأجيال الكثيرة فيما يتعلق بالقضايا الدينية لدى الإنسان، وكيف فرض الجهل في كل ما يمس الإسلام.
 
وهكذا فإن الاستعمال السائد حتى اليوم في التسميات (الدين المحمدي، المحمديون) ليدل على الرغبة في أن تظل النفوس مقتنعة بذلك الرأي الخاطئ القائل بأن تلك المعتقدات انتشرت بفضل جهاد رجل، وأنه ليس لله (بالمعنى الذي يدركه المسيحيون) مكان في تلك المعتقدات، ولنضف أن كثيرا من معاصرينا المثقفين يهتمون بالجوانب الفلسفية، والاجتماعية، والسياسية في الإسلام دون أن يتساءلوا عن التنظيم الإسلامي بصورة خاصة، كما كان يجب عليهم أن يفعلوه، ويرون من البديهيات أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – قد اعتمد على ما سبقه، وذلك بقصد استبعاد الوحي منذ البدء.
 
وزيادة على ذلك فهناك بعض أوساط مسيحية تحتقر المسلمين، ولقد خبرت هذا حين حاولت إقامة حوار من أجل دراسة مقارنة حول عدد من الأخبار المذكورة في القرآن والتوراة معا في موضوع واحد، ولاحظت أن هناك رفضا باتا للنظر بعين الاعتبار، ولو لمجرد التأمل، فيما يحتويه القرآن فيما يتعلق بموضوع الدراسة المزمعة[22]، كأن الرجوع في ذلك إلى القرآن يعني الاعتماد على الشيطان”.
 
ثانيا. القتال في الأديان السابقة:
 
نود أن نبين كذب مزاعمهم في أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه، وتمقت الحرب وتدعو إلى السلام، من الكلام المنسوب إلى السيد المسيح نفسه – من كتبهم – قال: لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة[23] ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها. (إنجيل متى، 10/ 34 – 38). فما رأي المبشرين والمستشرقين في هذا؟ أنصدقهم ونكذب الإنجيل؟ أم نكذبهم ونصدق الإنجيل؟! وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن تحصى على ما فيها من الصرامة وبلوغ الغاية في الشدة، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين آداب الحرب في الإسلام وغيره من الأديان.
 
دلائل الواقع على افترائهم:
 
وليس أدل على افترائهم من أن تاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث شاهد عدل على رد دعواهم، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد المسيح، خضبها الرومان وخضبتها أمم أوربا كلها، والحروب الصليبية إنما أذكى المسيحيون – لا المسلمون – لهيبها، ولقد ظلت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوربا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل وتحارب وتريق الدماء، وفي كل مرة كان الباباوات خلفاء المسيح – كما يزعمون – يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس والبلاد المقدسة في المسيحية، وتخريب بلاد الإسلام.
 
أفكان هؤلاء الباباوات جميعا هراطقة، وكانت مسيحيتهم زائفة؟! أم كانوا أدعياء جهالا لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟!
 
أجيبونا أيها المبشرون والمستشرقون المتعصبون، فإن قالوا: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام – عندهم – فلا يحتج على المسيحية بها، فماذا يقولون في القرن العشرين، وفي السنوات التي مضت من القرن الحادي والعشرين، وهم يسمون هذه الفترة عصر الحضارة الإنسانية الراقية؟!
 
لقد شهد هذان القرنان من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية، ما شهدت تلك العصور الوسطى المظلمة – عندهم – بل أشد وأقسى! ألم يقف اللورد اللنبي – ممثل الحلفاء: إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأمريكا – في بيت المقدس في سنة 1918م حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلا: اليوم انتهت الحروب الصليبية؟! ألم يقف الفرنسي غورد ممثل الحلفاء أيضا – وقد دخل دمشق – أمام قبر البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي قائلا: لقد عدنا يا صلاح الدين؟! وهل هدمت الديار، وسفكت الدماء، واغتصبت الأعراض في البوسنة والهرسك إلا باسم الصليب، بل أين هؤلاء مما يحدث في الشيشان وفي أفريقيا وإندونيسيا وغيرها؟ وهل يستطيع هؤلاء إنكار أن ما حدث في كوسوفا كان حربا صليبية؟
 
إن الإسلام إنما غزا القلوب، وأسر النفوس بسماحة تعاليمه في العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات، وآدابه في السلم والحرب، وسياسته المتمثلة في عدل الحاكم وإنصاف المحكومين، والرحمة الفائقة والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح، إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس، واستجابت إليه الفطرة السليمة، وتحملت في سبيله ما تحملت، فاستعذبت العذاب، واستحلت المر، واستسهلت الصعب، وركبت الوعر، وضحت بكل عزيز وغال في سبيله[24].
 
طبيعة انتشار الديانات السابقة:
 
رغم محدودية طبيعتها إلا أن بعض الأديان السماوية، وكثيرا من الديانات الوضعية قد حاولت نشر مبادئها، ولكن كيف كانت طبيعة هذه المحاولات؟
 
شهد التاريخ أن العنف والقهر قد صاحبا غالبية هذه المحاولات، فقد فرض “أمنحتب” فرعون مصر على شعبه عبادة إله الشمس “آتون”، وأغلق معابد الآلهة الأخرى وحطم تماثيلها ومحا صورها واضطهد المخالفين، وقريب من هذا حدث مع البوذية والكونفوشيوسية في جنوب شرقي آسيا، وقبل حكم “قباذ” كسرى فارس لم يكن للمزدكية اعتبار، فتبناها وحاول فرضها على شعبه، كما نشر “دارا” الفارسي الزرادشتية حربا.
 
أما بالنسبة للديانات السماوية فقد جاء في العهد القديم: “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما”. (التثنية 20: 10ـ 17).
 
وتطبيقا لهذا فقد حكى العهد القديم أيضا أن موسى – عليه السلام – قد أرسل اثني عشر ألف رجل لمحاربة أهل مدين، فحاربوهم وانتصروا عليهم، وقتلوا كل ذكر منهم، وسبوا نساءهم وأولادهم. وكان داود – عليه السلام – يقتل أعداءه ولا يبقي ذكرا ولا أنثى ولا طفلا، وكان أحيانا يمثل بمن يقتلهم “فكلم موسى الشعب قائلا: جردوا منكم رجالا للجند، فيكونوا على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان. ألفا واحدا من كل سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون للحرب. فاختير من ألوف إسرائيل ألف من كل سبط. اثنا عشر ألفا مجردون للحرب. فأرسلهم موسى ألفا من كل سبط إلى الحرب، هم وفينحاس بن ألعازار الكاهن إلى الحرب، وأمتعة القدس وأبواق الهتاف في يده. فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم: أوي وراقم وصور وحور ورابع أوي. خمسة ملوك مديان. وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم”. (العدد 31: 3 – 11).
 
وفي العهد الجديد لم يهمل الإنجيل الكلام عن الحروب، فقد جاء فيه نص صريح واضح على لسان السيد المسيح – عليه السلام – يقول: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا”. (متى 10: 34).
 
وعلى أرض الواقع فإن المسيحية لم تكن لتنتشر – في البداية – لولا سلطة قسطنطين – الإمبراطور البيزنطي – الذي أراد أن يكون سيدها، وأما شارلمان فقد كان متحمسا للمسيحية، يؤمن أن من واجبه تحويل جيرانه إليها بالقوة، فقد ظل يحارب السكسونيين ثلاثا وثلاثين سنة بعنف ووحشية حتى أخضعهم وحولهم قسرا للمسيحية، وحين اعتنقها بعض المصريين نكلت بهم الدولة الرومانية الوثنية، ونفي كثيرون منهم أو أحرقوا أو ذبحوا قربانا للآلهة الوثنية. وفي سنة 304 م نكل الإمبراطور دقلديانوس بالقبط؛ فنفي بعضهم من مصر، ورمي بعضهم للوحوش الضارية في حلقة الألعاب على مشهد من الناس، وما زال القبط يذكرون هذا العصر ويسمونه “عصر الشهداء” ويتخذونه مبدأ لتقويمهم الخاص.
 
وكان المتوقع أن يستريح القبط من هذا التعنت وهذه الوحشية حين صارت المسيحية دين الدولة الرومانية الرسمي، لكنهم اصطلوا في العهد المسيحي للدولة بمثل ما عانوه في عهدها الوثني، فقد كانت الكنيسة البيزنطية على مذهب يسمى “الملكاني”، وهو يقول بطبيعتين للمسيح عليه السلام: إلهية وبشرية، بينما قالت كنيسة الإسكندرية المصرية بطبيعة واحدة.
 
وقد أصرت السلطة على نشر مذهبها، وأصر القبط على مذهبهم، فنكلت الدولة بهم، وصارت البلاد مسرحا للاختلافات الدينية، واقتتل الناس لأجل ذلك، وتاقت نفوس القبط للخلاص من ضغط الرومان.
 
فلم يكن عجبا أن رحب كثيرون منهم بالفاتحين المسلمين، فلا غرابة في قول المؤرخ المسيحي ميخائيل السوري: إن الله المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء لينقذوا الأمم من عسف الروم[25].
 
وفي روسيا انتشرت المسيحية على يد جماعة اسمها “إخوان السيف”، وقد دخلت المسيحية إليها على يد فلاديمير دوق كييف (985- 1015م)، وكان يضرب به المثل في الوحشية والشهوانية، وقد وصل إلى زعامة الدوقية فوق جثة أحد إخوته، وقد اقتنى من النسوة ثلاثة آلاف وخمسمائة، على أن هذا كله لم يمنع من تسجيله قديسا في الكنيسة في عداد القديسين بالكنيسة الأرثوذكسية؛ لكونه الرجل الذي جعل من الروس شعبا مسيحيا، وهذا كفيل بغفران ذنوبه، إذ أمر بتعميد الروس جميعا في مياه نهر الدنيبر[26].
 
ولم تكن الكشوف الجغرافية الأوربية في مطالع العصر الحديث خالصة لوجه الحضارة والمدنية، فقد ارتكب المنصرون الذين رافقوا هذه الرحلات من الأعمال البشعة مالا يليق بالإنسانية؛ فقد أبادوا – مثلا – الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا، وكذا فعلوا في بقية مستعمراتهم الجديدة، فحين اكتشف الإسبان جزيرة هاييتي بالبحر الكاريبي أبدوا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل، متفننين في تعذيب سكانها؛ بقطع أناملهم، وفقء عيونهم، وصب الزيت المغلي والرصاص المذاب في جراحهم، أو بإحراقهم أحياء على مرأى من الأسرى؛ ليعترفوا بمخابئ الذهب أو ليهتدوا إلى الدين. وقد حاول أحد الرهبان إقناع أحد زعماء سكان الجزيرة بالتنصر مخبرا إياه أنه إن تنصر سيذهب إلى الجنة، فسأله الزعيم الهندي – وكان مشدودا إلى المحرقة -: وهل في الجنة إسبانيون؟ فأجاب الراهب: طبعا، ما داموا يعبدون الإله الحق! فما كان من الهندي إلا أن قال: إذن أنا لا أريد أن أذهب إلى مكان أصادف فيه أبناء هذه الأمة المتوحشة[27].
 
ولعل من قبيل تحصيل الحاصل الإشارة إلى ما ارتكبه الصليبيون – الذين جاءوا إلى الشرق رافعين شعارا دينيا – من مذابح وفواجع، وأفجع منه ما حدث بالأندلس.
 
مصداقا لما سبق نورد شهادة باحث مسيحي، يقول فيها: “الإسلام كديانة سماوية لم يحاول إفناء أصحاب الديانات الأخرى أثناء الحروب معهم، فحينما ظهر المذهب البروتستانتي في أوربا على يد مارتن لوثر قامت الكنيسة الكاثوليكية اعتمادا على تفسير الفقرة (34) من الإصحاح العاشر من إنجيل متى تفسيرا على هواهم، وهي تقول على لسان السيد المسيح: “لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا”، وعلى هذا الأساس ظهرت “نظرية الخلاص” في الملة الكاثوليكية، ومضمونها أن خلاص روح الإنسان لا يكون إلا بالإذعان التام لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية فقط، وعلى أساس هذه النظرية ينظر الكاثوليك لأتباع المذاهب المسيحية الأخرى على أنهم هراطقة وملحدون، ويسمحون بتعذيبهم والتنكيل بهم، وهذا ما حدث في عام 1572م، حيث دعا الكاثوليك البروتستانت ضيوفا عليهم في باريس 24 أغسطس للبحث في تسوية وتقريب وجهات النظر بين الكاثوليك والبروتستانت، وحضر قادة الملة البروتستانتية إلى باريس، فما كان من الكاثوليك إلا أن سطوا على ضيوفهم البروتستانت في ظلمة الليل وقتلوهم جميعا، وجرت دماؤهم في الشوارع، وانهالت التهاني على تشارلز التاسع ملك فرنسا بغير حساب من بابا الفاتيكان، ومن ملوك الدول الكاثوليكية على هذه المجزرة البشرية.
 
ومثل هذا ما حدث للأقباط الأرثوذكس في مصر على يد الكاثوليك الرومان بعد “مؤتمر خلقدونيا” لبحث طبيعة السيد المسيح – وقد اختلفوا في ذلك – لذلك أقيمت المجازر البشرية، وكان يتم وضعهم – أي المخالفين الرومان – في زيت مغلي، ويتم كشط جلودهم وإغراقهم أحياء في الماء؛ لكي يتركوا الملة الأرثوذكسية، ووصل عدد القتلى أكثر من مليون قتيل أو شهيد مسيحي أرثوذكسي رفضوا ترك ملتهم، والانضمام إلى الملة الكاثوليكية”[28]. فالحرب إذن سنة كونية لم يخل منها تاريخ أمة بشرية، ولكن شتان بين مفهومها لدى المسلمين، ولدى غيرهم.
 
ثالثا. الحرب في الإسلام ضرورة وليست غاية لإزالة العقبات التي تحول بين الدعاة وبين عامة الشعب، ومن أهدافها حماية الدعاة من الأذى وحماية المستضعفين:
 
إن المتتبع لنصوص القرآن وأحكام السنة النبوية في الحروب يرى أن الباعث على القتال ليس فرض الإسلام دينا على المخالفين، ولا فرض نظام اجتماعي، بل كان الباعث على القتال في الإسلام هو دفع الاعتداء.
 
وها هنا قضيتان إحداهما نافية والأخرى مثبتة:
 
أما النافية فهي: أن القتال ليس للإكراه في الدين، ودليلها قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، ولقد منع النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلا حاول أن يكره بعض ولده على الدخول في الإسلام[29]، وجاءت امرأة عجوز إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في حاجة لها، وكانت غير مسلمة، فدعاها إلى الإسلام فأبت فتركها عمر، وخشي أن يكون في قوله – وهو أمير المؤمنين – إكراه فاتجه إلى ربه ضارعا قائلا: “اللهم أرشدت ولم أكره”، وتلا قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(، ولقد نهى القرآن الكريم عن الفتنة في الدين، واعتبر فتنة المتدين في دينه أشد من قتله، وأن الاعتداء على العقيدة أشد من الاعتداء على النفس؛ ولذا جاء فيه صريحا: )والفتنة أشد من القتل( (البقرة: 191).
 
وأما القضية الثانية: وهي أن القتال لدفع الاعتداء، فقد نص عليها القرآن أيضا، إذ يقول: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة)، وإن القرآن بمحكم نصوصه جعل الذين لا يقاتلون المؤمنين في موضع البر إن وجدت أسبابه، وجعل الذين يقاتلون هم الذين يعتدون؛ فقد جاء فيه: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).
 
ومع أن القتال شرع لدفع الاعتداء لم يأمر القرآن بالحرب عند أول بادرة من الاعتداء، أو عند الاعتداء بالفعل إذا أمكن دفع الاعتداء بغير القتال؛ فقد جاء فيه: )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127)( (النحل)[30].
 
وتحت عنوان لماذا شرع القتال؟ يقول د. المطعني: لم تكن شريعة الإسلام أوحدية في مشروعية القتال، فالقرآن يقص علينا أن كثيرا من الأنبياء مارسوا هذا الفن بإذن الله، فقال: )وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146)( (آل عمران). والتاريخ النبوي لبني إسرائيل حافل بالمعارك بين الأنبياء ومعارضيهم، فليس القتال إذا مسبة ولا نقيصة لا في الإسلام ولا في غير الإسلام من الرسالات السابقة.
 
ومشروعية القتال في الإسلام من الضرورات التشريعية التي يلجأ إليها المسلمون حين لا يكون من حيلة إلا القتال، وهو لم يشرع في الإسلام ليكون وسيلة للبطش والتجبر والقهر، وحبا في سفك الدماء، ونهب الأموال، والتشفي الأهوج، بل شرع لردع الظلم، وحماية الحق، ورعاية الفضيلة ولرد العدوان، شرع لإقرار التوازن في الأرض، وإشاعة السلام والأمن، والقضاء على الطغيان، وفي هذا الإطار كانت معارك المسلمين في عصر النبوة، وعصر الخلافة الراشدة، ومن سار سيرتهم من ولاة الأمور.
 
ومن الأهداف العليا في مشروعية القتال في الإسلام حماية الدين والعقيدة، ودحر الفتنة، وحماية المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وكل أولئك مقاصد نبيلة، وقيم إنسانية مقدسة يجب أن تحمى وتصان. قال عز وجل: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)( (البقرة)، وقال تعالى: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء). فالقتال في الإسلام ضرورة، وإجراء استثنائي له موجباته ودواعيه، وهو كما قال أمير الشعراء شوقي مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 
الحرب في حق لديك شريعة
 
ومن السموم الناقعات دواء
 
ليس القتال للإجبار على اعتناق الإسلام:
 
ومهما اتفقنا أو اختلفنا حول الأسباب التي أدت إلى مشروعية القتال في الإسلام: إباحة ووجوبا، فليس من بين الأسباب أن القتال شرع لإجبار الناس على الدخول في الإسلام، ونتحدى بأعلى صوت من يدعي ذلك من أعداء الإسلام وعملائهم، ونقول لهم:
 
أمامكم الإسلام قرآنا وسنة وإجماعا وتاريخا وسيرة، فهيا فأتونا بنص من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من إجماع علمائه، أو واقعة من تاريخه وسيرته تدل على أن من أهداف القتال في الإسلام جبر الناس على الدخول فيه كراهية وقسرا.
 
والإسلام كله معروف كالشمس، فليس فيه جوانب علنية وأخرى سرية، فما الذي يعجزهم أن يقوموا بهذه التجربة؟ وصدق الشاعر الذي قال في أمثالهم:
 
يقولون أقوالا ولا يعلمونها
 
وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
 
وليس عقابا على الكفر:
 
وكذلك ليس في مشروعية القتال في الإسلام أن يكون عقابا على كفر من كفر، وإلحاد من ألحد باستثناء حد الردة، ولتوضيح هذا نقول: إن الكفر في تقدير الإسلام نوعان:
 
الأول: الكفر الذي ولد عليه صاحبه ونشأ عليه، أو الكفر الأصلي إذا صح هذا التعبير، وصاحبه لم يسبق له الدخول في الإسلام.
 
الثاني: الكفر الطارئ على صاحبه بعد الدخول في الإسلام.
 
فالنوع الأول لا يقاتل عليه صاحبه ولا يقتل، بل يكتفى بدعوته إلى الإسلام، فإن أسلم فحسن، وإن امتنع ترك وشأنه والله هو الذي يتولى حسابه، فالكافر الأصلي دمه مصون، والاعتداء عليه حرام كالاعتداء على ماله وعرضه.
 
أما النوع الثاني ففيه حد الردة الوارد في السنة وعمل الخلفاء الراشدين مع إجماعهم عليه.
 
ولو كان القتال والقتل عقابا على الكفر في النوع الأول لما تهاون فيه صاحب الرسالة، ولا الخلافة الراشدة من بعده، فكم من الاتفاقات ومعاهدات الصلح التي عقدوها مع الناس مع تركهم على عقائدهم دون أن يكرهوهم أو يقاتلوهم على كفرهم، ومن أوضح الأمثلة تصالح عمر بن الخطاب مع نصارى فلسطين، وامتناعه أن يصلي في الكنيسة حين أذن للصلاة مع دعوة قسيسها أن يصلي فيها، ولكن عمر – رضي الله عنه – امتنع عن الصلاة فيها قائلا: لو صليت لجاء المسلمون وقالوا عمر صلى هنا فأخذوا الكنيسة!
 
ثم تصالح عمرو بن العاص مع قبط مصر، وتركهم على عقيدتهم دون أي إكراه على تركها والدخول في الإسلام، بل إنه ساعد القبط على استقرار شئونهم الدينية باستدعاء البطريرك بنيامين الذي كان مختفيا هربا من بطش الرومان، وأعطاه الأمان ليرعى شئون الأقباط دينيا في مصر.
 
بل إن صاحب الدعوة نفسه – صلى الله عليه وسلم – كان يعقد معاهدات صلح، ويترك أهل البلاد على عقائدهم مهما كانت مخالفة للإسلام أصولا وفروعا، ولا تنس المعاهدة التي عقدها مع اليهود في المدينة عقب الهجرة مع تركهم على يهوديتهم، أحرارا في تأدية طقوسهم الدينية على مرأى ومسمع من المسلمين.
 
وبهذا تتبين لنا جوانب أخرى من سماحة الإسلام، أبرزها جانبان:
 
الأول: أن مع مشروعية القتال في الإسلام لم يكن من أهدافه حمل الناس بالقوة المسلحة على اعتناق الإسلام؛ لأن في القرآن العظيم نصا واضحا وصريحا ومحكما يمنع من هذا الهدف، وهو قوله تعالى: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة:256).
 
الثاني: ومع مشروعية القتال في الإسلام فإنه يخلو – منهجا وسيرة – من أن يكون عقابا على الكفر الأصلي الذي ولد عليه صاحبه ونشأ، فالكفر أعظم الذنوب، ومع ذلك فالأمر فيه موكول إلى الله سبحانه يعاقب عليه في الآخرة بالخلود في النار.
 
أما في الدنيا فليس لأحد أن يعاقب صاحب الكفر الأصلي بالقتال عليه أو القتل، ودم الكافر كفرا أصليا مصون كماله وعرضه، إلا إذا حارب المسلمين، أو انضم لمن يحاربهم، فيكون هو الذي أهدر دم نفسه، ذلكم هو الإسلام، وتلك هي سماحته الرحيمة[31].
 
الحرب لإزالة الطواغيت:
 
فإذا كان طاغية أو ملك قد أرهق شعبه من أمره عسرا، وضيق عليه في فكره، وحال بينه وبين الدعوات الصالحة أن تتجه إليه، فإن حق صاحب الدعوة إذا كان في يده قوة أن يزيل تلك الحجز التي تحول بينه وبين دعوته ليصل إلى أولئك المستضعفين، وتخلو وجوههم لإدراك الحقائق الجديدة، وإعلان اعتناقها إن رأوا ذلك وآمنوا به، ولكن محمدا النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – لم يلجأ إلى ذلك ابتداء حتى لا يظن أحد أنه قاتل ليفرض دينه على الناس، أو ليكرههم عليه؛ ولذلك سلك طريقين:
 
أولهما: أن يرسل الدعوة الدينية إلى الملوك والرؤساء في عصره يدعوهم إلى الإسلام، ويحملهم إثمهم، وإثم من يتبعونهم إن لم يجيبوا دعوته، ولذلك جاء في كتابه إلى هرقل: “أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم الأريسيين: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران)”.
 
ثانيهما: أنه بعد هذه الدعوة الرسمية أخذ يعلن الحقائق الإسلامية ليتعرفها رعايا تلك الشعوب فيتبعها من يريد اتباعها، وقد اتبعها فعلا بعض أهل الشام ممن يخضعون لحكم الرومان، وعرف المصريون وغيرهم حقيقتها، حتى لم تعد مجهولة لمن يريد أن يتعرفها، وتسامعت بها البلاد المتاخمة لبلاد العرب.
 
العوامل التي أدت إلى قتال الروم في العهد النبوي:
 
أن الروم قد ابتدءوا فاعتدوا على المؤمنين الذين دخلوا في الإسلام من أهل الشام، فكان ذلك فتنة في الدين وإكراها للمسلمين على الكفر، وما كان محمد – صلى الله عليه وسلم – ليسكت عن ذلك، وقد جاء لدعوة دينية، وإنه إن كان لا يحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، فلا يمكن أن يسكت عمن يحاولون أن يخرجوا أتباعه من دينهم كرها، إنه لا يريد أن يعتدي، ولا أن يعتدى عليه؛ ولذلك عد هذا العمل من جانب الرومان اعتداء على دينه وعليه؛ لأنه صاحب الدعوة فلا بد أن يزيل هذه الفتنة.
أن كسرى عندما بلغه كتاب الرسول هم بقتل من حملوه، وأخذ الأهبة[32]ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واختار من قومه من يأتيه برأسه الشريف الطاهر، ولكن أنى لكسرى وأمثاله من الطغاة أن يمكنهم الله – عز وجل – من ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم – وقد علم بالأمر – ما كان ليسكت حتى يرتكب كسرى هذا الإثم، بل إنه القوي العادل الحصيف؛ ولذلك كان لا بد أن يصرعه وجيشه قبل أن يصرعه هو.
 
لهاتين الحقيقتين اتجه النبي – صلى الله عليه وسلم – لقتال الرومان والفرس لمنع الفتنة في الدين من أولئك الرومان ومحاربيهم، كما قاتل المشركين لمنع هذه الفتنة، إذ يقول القرآن: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)( (البقرة).
 
ويقول ابن تيمية في قتال النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل الروم: “وأما النصارى فلم يقاتل النبي – صلى الله عليه وسلم – أحدا منهم، حتى أرسل رسله إلى قيصر وإلى كسرى، وإلى المقوقس والنجاشي، وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم الذين حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما، فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون بمؤتة من أرض الشام، واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء الثلاثة – رضي الله عنهم – وأخذ الراية خالد بن الوليد”[33].
 
وبهذا يتبين أن قتال النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن إلا دفعا للاعتداء، والاعتداء الذي حدث في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان على صورتين:
 
أن يهاجم الأعداء النبي – صلى الله عليه وسلم – فيرد كيدهم في نحورهم.
أن يفتن الأعداء المسلمين عن دينهم، ولا بد أن يمنع النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك الاعتداء على حرية الفكر والعقيدة.
 
وفي الصورتين نجد النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يفرض دينه، ولا يكره أحدا عليه، ولكن يحمي حرية الاعتقاد التي هي مبدأ من مبادئه، إذ قد جاءت مقررة في القرآن، حيث يقول: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256).
 
ولما جاءت الخلافة إلى أبي بكر، ثم عمر أرسلا الجيوش إلى كسرى وهرقل بعد أن خمدت الردة، وصارت الكلمة لله ولرسوله وللمؤمنين في جزيرة العرب.
 
رابعا. الوقائع التاريخية منذ عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء من بعده تشهد بأن أحدا لم يكره على الدخول في الإسلام، وقد شهد بهذا العديد من مفكري الغرب من غير المسلمين:
 
تسامح إسلامي فريد عبر التاريخ:
 
واقعيا، وضعت اللبنات الأولى في صرح خصلة [34] التسامح في تاريخ المسلمين في ممارسات صاحب الدعوة نفسه، إلى جانب أقواله الداعية إليها، كموقفه من مشركي قريش، الذين آذوه وأخرجوه هو وآله وأصحابه حين فتح مكة؛ إذ جاءه أبو سفيان فقال: «يا رسول الله، أبيدت خضيراء قريش، لا قريش بعد اليوم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن»[35]. وهذا نموذج وشاهد على تسامحه ورفقه صلى الله عليه وسلم.
 
ويجدر بنا الآن أن نذكر مظاهر تسامح المسلمين مع الآخر، في عصورهم المختلفة، وذلك على النحو الآتي:
 
التسامح في عهد الراشدين:
 
إن في بقية حقب تاريخ المسلمين نماذج ناصعة مشرفة من التسامح والعدالة في معاملة الآخر؛ فحين فتحت مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على يد عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أمن عمرو النصارى على معتقداتهم، وأعاد البطريرك بنيامين إلى زعامتهم، بعد أن كان مختفيا لمدة طويلة فرارا من بطش البيزنطيين حكام مصر في ذلك الوقت، وقد قيل: إن الإمبراطور البيزنطي جستنيان أمر بقتل مائتي ألف من القبط في مدينة الإسكندرية، وإن اضطهادات خلفائه حملت كثيرين على الالتجاء إلى الصحراء.. كما أوكل ابن العاص إلى بنيامين الإشراف على شئون أهل طائفته من القبط[36].
 
ويوضح نص الصلح بين المسلمين والمقوقس – حاكم مصر من قبل البيزنطيين – بعد فتح حصن بابليون ملامح سياسة المسلمين تجاه أهالي البلاد المفتوحة، وما تتميز به من نبل وتسامح، يقول النص[37]:
 
“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر، الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب[38]، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية – إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم – خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم[39]، فإن أبى أحد منهم أن يجيب؛ رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا”.
 
ويرجع النجاح الذي أحرزه الإسلام في مصر – في بعض أسبابه – إلى ما لاقاه المسلمون من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي، فاليعاقبة[40] الذين كانوا يمثلون السواد الأعظم[41] من المحكومين المسيحيين قد عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي من الحكام البيزنطيين، الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق اللذين لم ينسهما أعقابهم حتي الوقت الحاضر.
 
فقد كان بعضهم يعذب ثم يلقى به في اليم، وتبع كثيرون منهم بطريقهم في التخلص لينجوا من الاضطهاد، وأخفى عدد كبير منهم عقائدهم الحقيقية، وتظاهروا بقبول قرارات مجمع خلقدونية بآسيا الصغرى، الذي عقد سنة 451م، واتخذ قرارا بتأكيد القول بطبيعتين للمسيح – لاهوتية: إلهية، ناسوتية: مادية جسدية بشرية – وتكفير أصحاب الطبيعة الواحدة؛ أي: اللاهوتية[42].
 
وقد حاول الإمبراطور البيزنطي هرقل (610 – 641م) بعد انتصاره على الفرس سنة 638م، جمع مذاهب الدولة المتصارعة، وتوحيدها والتوفيق بينها، وتقررت صورة التوفيق في أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان، ولكن عليهم أن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة، أو قضاء واحد، وقد حصل وفاق على ذلك.
 
وصمم هرقل على إظهار هذا المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة له متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل، ولكن نصارى مصر نابذوه العداء وتبرءوا من هذه البدعة – وذلك التحريف – واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة، واستمرت محاولات التوفيق دون جدوى.
 
أما الفتح الإسلامي فقد وفر لنصارى مصر حياة تقوم على الحرية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان، وتركهم المسلمون أحرارا على أن يدفعوا الجزية، وكفلوا لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية، ولم يضعوا أيديهم على شيء من ممتلكات الناس، ولم يرتكبوا أعمال سلب ونهب. وليس هناك شاهد على أن ارتداد بعض القبط مبكرا عن دينهم، ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعا إلى اضطهاد، أو ضغط يناقض مبدأ التسامح الذي درج عليه حكامهم الجدد من المسلمين.
 
فقد تحول كثير من هؤلاء القبط النصارى إلى الإسلام قبل أن يكتمل الفتح الإسلامي لمصر، حين كانت الإسكندرية – حاضرة البلاد في ذلك الوقت – لا تزال تقاوم الفاتحين. وقد سار كثير من القبط بعد ذلك بسنين قليلة على نهج إخوانهم؛ ففي عهد الخليفة عثمان بن عفان (23 – 35هـ) بلغ خراج مصر اثني عشر مليون دينار، ثم نقص في عهد معاوية بن أبي سفيان (41 – 60هـ) إلى خمسة ملايين، وذلك بسبب دخول عدد كبير في الدين الإسلامي من نصارى مصر، ثم أخذ الخراج في النقصان في عهد عمر بن عبد العزيز (99 – 101هـ) حتى إن والى مصر اقترح ألا يعفى من يعتنقون الإسلام بعد ذلك من أداء الجزية، ولكن الخليفة الورع أبى موافقته على طلبه قائلا: إن الله قد بعث محمدا – صلى الله عليه وسلم – داعيا ولم يبعثه جابيا[43].
 
ولكن بعض الولاة الذين جاءوا بعد ذلك خرجوا أحيانا شيئا ما على روح التسامح هذه، ولكن كان هذا بمنزلة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا يلغيها، فقد جاءت فترات – خصوصا في العصرين الفاطمي والأيوبي – ترقى فيها رجال من أهل الذمة إلى أعلى المناصب، فكان منهم الوزراء والكتاب في دواوين الحكومة، وجمعوا الثروات الطائلة. وفي عهد السلطان المتسامح – بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء – صلاح الدين الأيوبي (569 – 589هـ) وخلفائه، نعم النصارى وسعدوا إلى حد كبير؛ فقد خففت عنهم الضرائب، وصار منهم الوزراء والكتاب، والصيارفة؛ رغم ظروف الصراع الإسلامي الصليبي.
 
وهكذا كان الإنصاف والتسامح طابعا عاما للحكم الإسلامي لمصر، فيما عدا بعض الحالات الاستثنائية، التي سرعان ما كانت تزول، والتي لم يتورع مرتكبوها عن التعدي على الرعية من إخوانهم من المسلمين أنفسهم، فهم ظالمون بدافع من ذواتهم وطباعهم، لا بعقيدتهم وتعاليم شرعهم.
 
ومما يؤيد هذا الطابع العام من الإنصاف والتسامح تجاه الآخر، أنه على الرغم من تسارع كثيرين من أهل مصر إلى اعتناق الإسلام منذ لحظات الفتح – كما سلف الذكر – فإن المسلمين لم يصيروا أغلبية بها إلا خلال القرن الرابع الهجري.
 
فلو كان الإسلام لا يقبل الآخر والمسلمون لا يميلون إلى التنوع، ولا يستريحون إلى التعامل والتعايش مع مخالفيهم في العقيدة في البلاد التي لهم فيها شوكة، وبالتالي استعملوا العنف والشدة – بل السيف كما زعم المغالطون – في نشر عقيدتهم – لما احتاج الأمر إلى ثلاثة قرون أو أكثر ليصيروا أغلبية في مصر، بل ربما لم يحتاجوا إلى ثلاث سنوات إذا كان السيف مسلطا على الرقاب.
 
بل زد على ذلك فقل إن بقاء أقلية غير مسلمة – معقولة العدد مستقرة الحال لحد كبير – بهذا البلد بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا على فتح المسلمين له لدليل قوي على تسامحهم تجاه الآخر، بل التفاعل معه، وذلك بدافع من تعاليم دينهم: )ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8).
 
وقد كان المسلمون الفاتحون يخيرون خصومهم بين ثلاث خصال: الإسلام، أو الجزية، أو القتال – كما هو معروف – فإذا أسلموا طواعية فهم إخوة لنا في الدين، لهم ما لنا وعليهم ما علينا من الحقوق والواجبات، وإذا أبوا الدخول في الإسلام، وقبلوا دفع الجزية قبلت منهم، وتركوا وشأنهم، ومنحوا أمانا على أموالهم وأنفسهم وعقائدهم، فإذا رفضوا الأمرين كان معنى ذلك أنهم مصرون على الحرب والعناد.
 
وحين كان المسلمون ينتصرون لم يكونوا – في الغالب – يستخدمون ما يسمى بحق الغالب في فرض شروطه على المغلوب، فلم يكونوا يكرهون الناس على اعتناق الإسلام، فهؤلاء المهزومون، بعد هزيمتهم: بين مسلم برغبته ورضاه، وبين ذمي يعطى عهدا.
 
وقد توسع المسلمون في معنى الذمي فجعلوه يشمل أهل الكتاب من اليهود، والمسيحيين، وجميع أهل الشرك من المجوس، وعبدة الأوثان، وعبدة النيران والحجارة، والصابئة[44]، فكل هؤلاء يعاهدون وتؤخذ منهم الجزية، فقد أخذ الرسول – صلى الله عليه وسلم – الجزية من مجوس هجر[45] – شرق شبه جزيرة العرب -، وأخذها عمر بن الخطاب من مجوس فارس[46]. – والجزية كما صار واضحا ومستقرا في الأذهان مبلغ بسيط، دلالة على بذل الولاء للسلطة القائمة مقابل حمايتها لأهل ذمتها، وليست جزاء للمخالفين في الدين، وإلا فهل يعاقب المسلم على إسلامه بدفع الزكاة؟! وإذا قبل هؤلاء جميعا دفع الجزية كان من حقهم البقاء على عقائدهم وأحوالهم السابقة.
 
وهاك نماذج لبعض المعاهدات التي نظمت العلاقات والالتزامات بين المسلمين وغيرهم. فقد جاء في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لأهل إيلياء – بيت المقدس – ما يلي: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن، وعلى أن يخرجوا منها الروم واللصوص؛ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم.
 
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان”[47].
 
تسامح صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين بعد فتح بيت المقدس:
 
ماذا صنع السلطان صلاح الدين الأيوبي بالصليبيين الذين كانوا ببيت المقدس حين حررها من أسرهم؟
 
لقد تم التسليم على أن يعطي كل رجل من الصليبيين عن نفسه عشرة دنانير مصرية، وكل امرأة خمسة دنانير، وكل صغير أو صغيرة دينارين، وقد عومل الأسرى من الشيوخ والنساء والأطفال معاملة تنطوي على كثير من السخاء والكرم والشهامة والسماحة؛ فقد من السلطان على ملكة مسيحية كانت مترهبة بالقدس بمن معها وما معها من المال والمجوهرات، كما سمح للبطريرك الأعظم أن يحمل معه ما قيمته مائتا ألف دينار من تحف ثمينة ومجوهرات كنسية، على حين بخل هذا البطريرك على بعض أتباعه ببعض هذا المال لفكهم من الأسر.
 
وأمر السلطان المنادين بالمناداة في شوارع المدينة بمعافاة العاجزين عن الدفع، وأنهم طلقاء يذهبون أنى شاءوا، فاتجه بعض هؤلاء نحو إمارة طرابلس الصليبية؛ فأغلقها أميرها في وجوههم، واتجه بعض آخر نحو صور؛ فرفض حاكمها المركيز كنراد إدخالهم حتى لا يتحمل عبء إطعامهم وحمايتهم، ورغبت جماعة ثالثة في الانحدار إلى أوربا؛ فاعتذرت سفن التجار الإيطاليين عن حملهم بدون أجر، لولا إرغام السلطات الإسلامية لها على حملهم، وقد اجتمعت نسوة الفرسان الصليبيين المأسورين والمجروحين يسألن السلطان الرحمة والإشفاق والإنفاق عليهن، فأطلق لهن أزواجهن الأسرى، ومن فقدت زوجها خصص لها نفقة، ولم يضرب الرق في النهاية سوى على خمسة عشر ألفا من مجموع حوالي مائة ألف صليبي كانوا بالمدينة المقدسة[48].
 
لك أن تقارن هذا بصنيع الصليبيين الشنيع بالمسلمين بالقدس حين احتلوها، تقارن هذه السماحة العظيمة، والإنسانية الرحبة بتلك المجازر البشرية سابقا، وبما يحدث الآن من أهوال بفلسطين المحتلة على أيدي الصهاينة؛ لتدرك مدى سماحة المسلمين – بدافع من مبادئ دينهم الحنيف بالأساس – على مسيرة تاريخهم تجاه الآخر، مقابل إساءة هذا الآخر وعدوانيته عندما تمكنه الفرصة، ولتعلم – دون مبالغة أو تعصب – أنه مهما قيل عن بعض ما في تاريخ المسلمين من مثالب – لكونهم بشرا كالبشرـ فإنه يسمو نبلا ويرقى إنسانية عن كل تواريخ الملل والأمم الأخرى عند المقارنة، والشواهد على ذلك موفورة في كل عصر.
 
ولم تقتصر السماحة على الشعوب المسلمة قديمة العهد بالإسلام، التي تشبعت نفوسها بتعاليمه السامية، وإنما تمثلت أيضا في سلوكيات تلك الشعوب حديثة العهد به، التي كثيرا ما توصف بالعنف والشراسة والقسوة، كالمغول والترك؛ فعلى الرغم مما أظهره أوزبك خان (712 – 742 هـ /1313 – 1342م) – سلطان دولة مغول القبجاق، التي حكمت في أعالي بحر قزوين وجنوب روسيا الآن – من التحمس في نشر الإسلام، وتفانيه في الإخلاص له، فقد كان كثير التسامح نحو رعاياه من المسيحيين، فقد منحهم الحرية التامة في إقامة شعائرهم الدينية من غير أن يتعرض لهم أحد بسوء.
 
ومن أهم الوثائق التي تسترعي الانتباه عن التسامح الإسلامي، ذلك العهد الذي منحه أوزبك خان للمطران بطرس سنة 1313م، وقد جاء فيه: “بمشيئة العلي القدير وعظمته ورحمته من أوزبك إلى أمرائنا كبيرهم وصغيرهم، إن كنيسة بطرس مقدسة لا يحل لأحد أن يتعرض لها، أو لأحد من خدامها، أو قسيسيها بسوء، ولا أن يستولي على شيء من ممتلكاتها، أو متاعها، أو رجالها، ولا أن يتدخل في أمورها؛ لأنها مقدسة كلها، ومن خالف أمرنا هذا بالتعدي عليها فهو أثيم أمام الله، وجزاؤه منا القتل، ولندع المطران ينعم بالأمان والبهجة، ولندعه يقرر نظم كل المسائل الكنسية بقلب سليم، وفؤاد عادل قويم. وإننا نعلن في حزم أننا نحن وأولادنا وأمراء دولتنا وولاة أقاليمنا لن نتدخل بأي حال في شئون الكنيسة، ولا شئون المطران، ولا في شئون المدن، والمراكز، والقرى، والأراضي المخصصة للصيد في البر والبحر، ولا في الأراضي، والمراعي، والصحاري، ولا في المدن والأماكن الداخلة في أملاكها الخاصة، ولا في الكروم والطواحين، ولا في مراعي الشتاء، ولا في أي شيء من ممتلكات الكنيسة وأمتعتها. ولندع بال المطران في راحة دائمة خاليا من كل تعب أو نصب، ولندع قلبه سليما قويما، ولندعه يصلي لله من أجلنا، ومن أجل أولادنا وأمتنا، حتى إذا وضع يديه على شيء مقدس ثبتت عليه التهمة، وباء بغضب من الله، وكان جزاؤه القتل، حتى يلقي مصيره الرعب والفزع في قلوب الآخرين. وإذا فرض الخراج أو غيره من الضرائب، كالرسوم الجمركية، والمكوس، وضرائب الطرق، والأراضي غير المزروعة، أو إذا أردنا حشد الجنود من بين رعايانا، فلا يجمع شيء بالقوة والإكراه من الكنائس التابعة للمطران بطرس، أو لأي أحد من رجال الدين التابعين له.
 
وكل ما يؤخذ من رجال الدين بالقوة والإكراه يرد إليهم أضعافا ثلاثة، ولتكن شرائعهم، وكنائسهم، وأديارهم، ومعابدهم محل الاحترام والتعظيم، وكل من يتهم أو يحط من شأن هذا الدين فلن يقبل منه أي عذر ولا أن يطلب العفو، بل يكون جزاؤه القتل. وسوف يتمتع إخوة القسيسين والشمامسة الذين يجلسون إلى مائدة واحدة وفي دار واحدة، بنفس هذه المزايا والحقوق”.
 
ويمكن أن نستدل على أن هذا المرسوم لم يكن مجرد كلمات جوفاء، أو مجرد حبر على ورق، وأن التسامح الذي وعد به هؤلاء المسيحيون قد أصبح حقيقة واقعة، بهذه الرسالة التي بعث بها البابا يوحنا الثاني والعشرون سنة 1318م إلى الخان يشكر فيها الأمير المسلم على ما أظهره من عطف على رعاياه المسيحيين، ويثني على هذه المعاملة الطيبة التي كان أوزبك يعاملهم بها[49].
 
ولا شك أن هذا التشابه الكبير – بل شبه المطابقة – بين نصوص كتب العهود الممنوحة لغير المسلمين من قبل الفاتحين المسلمين ومضامينها، إنما يعبر عن سياسة ثابتة للمسلمين في هذا الشأن، فهي تنص صراحة على تأمين الناس على أنفسهم وأموالهم، ومللهم وشرائعهم، وعلى حمايتهم من الاعتداء عليهم. وقد أشاعت هذه المعاهدات العادلة جوا من الطمأنينة والأمان عند السكان، وأزالت عن نفوسهم الخوف الذي يشعر به المغلوب في مثل هذه الظروف، ففي فتوح الإسلام الأمر مختلف، فالمسلمون – غالبا – لم يفتحوا البلاد ليدمروها ويذلوا أهلها، وإنما ليعمروها ويعزوا أهلها، ويحرروهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فهم أصحاب رسالة خالدة تحمل للناس العدل والإنصاف، وتحقق لهم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
 
ولكن الناس في البلاد المفتوحة – لأنهم لم يشهدوا فتحا كالفتح الإسلامي من قبل – كانوا في حاجة إلى وقت ليعرفوا أهداف المسلمين الحقيقية، فلما تكشفت لهم حقيقة الإسلام أسرعوا إلى اعتناقه بأعداد كبيرة، وقد حرص المسلمون على الوفاء بكل ما التزموا به، ولم يكن هذا من حسن السياسة فقط، وإنما هو واجب ديني يفرضه الإسلام على المسلمين، فالوفاء بالعهد ليس منة من المسلمين، ولكنه مسئولية واجبة عليهم؛ إعمالا لقوله تعالى: )وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا (34)( (الإسراء)، ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة»[50].
 
التسامح في زمن العثمانيين:
 
حين قيض الله – سبحانه وتعالى – للدولة العثمانية أن تحمل لواء الجهاد الإسلامي في شرقي أوربا إبان القرن السابع الهجري، لم يكد القرن العاشر ينتصف حتى دانت كل أمصار أوربا الشرقية لسطوة العثمانيين، وأصبح البحر المتوسط بحيرة شبه إسلامية، بعد أن كان مركزا للحضارة الهيلينية، وارتفع المد الإسلامي في ظل هذه الدولة، وبلغ حدا لم يبلغه من قبل في أية حقبة من حقب التاريخ الإسلامي، غير العصر الأموي تقريبا.
 
وعندما فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية سنة 857هـ / 1453م، أعلن في الجهات كافة أنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم، وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين وأعطاهم نصف الكنائس، ثم جمع أئمة دينهم، فانتخبوا بطريركا لهم اختاروه وأقام له حفلا مهيبا، ووفر له حرسا من الإنكشارية[51] ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية، بأنواعها كافة بين أهل ملته، وعين معه في ذلك مجلسا مشكلا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقساوسة، واستثنى أئمة الدين من الالتزامات المادية.
 
وقد كان لهذا الفتح المبين من الآثار العسكرية والسياسية، ما جعل المؤرخين يعدونه نقطة تحول في مجرى تاريخ العالم، ووضعه مؤرخو أوربا حدا فاصلا بين العصور الوسطى والعصور الحديثة. لكن ما يعنينا هنا هو أثره في انتشار الإسلام في سماحة ويسر، فالفتح العسكري في حد ذاته لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا إذا أعقبته سياسة حكيمة تقوم على الترغيب لا الترهيب، وهذا ما سلكه الفاتح؛ فقد أعلن عن حرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية التملك، وضمان حقوق الملكية، وحين طلب من القساوسة انتخاب رئيس لهم انتخبوا أحد القساوسة الفارين من اضطهاد الأباطرة السابقين – إخوته في الدين أعدائه في المذهب – وكان مختبئا في إحدى بقاع البلقان، فاستحضره لهم.
 
وكان لهذه السياسة أثرها في عودة من هجر المدينة منذ عهد الأباطرة، وعاد معظمهم ليعلن إسلامه، وشهدت السنوات التالية للفتح عمليات إشهار إسلام جماعية تحدث لأول مرة في العهد العثماني، وذلك حين جاء بعض أهالي البوسنة إلى السلطان الفاتح ليعلنوا إسلامهم ورغبتهم في العمل في خدمة الدولة، فسر السلطان بذلك وألحقهم بخدمة الجيش، وظل هؤلاء البوسنيون على ولائهم للدولة حتى النهاية[52].
 
وقد كان نظام الملل – غير المسلمة – هذا، وإدارتها شئونها الداخلية بنفسها حلا عمليا متبعا في العصر العثماني لمشكلات الأقليات الدينية. وإلى جانب هذا القدر من الحرية والتسامح الديني، كان العثمانيون مهرة في إدارة شئون الحياة المدنية: اقتصادية، وعمرانية، مما أنتج ازدهارا كبيرا في المناطق التي تخلصت من يد الحكم البيزنطي السابق، واكتسب العثمانيون احترام رعاياهم وتقديرهم.
 
شهادات منصفة:
 
نكتفي في هذا بذكر بعض شهادات واضحة لمستشرقين وقادة غربيين منصفين، أدى الإنصاف ببعضهم إلى اعتناق الإسلام والتحول للدفاع عنه.
 
يقولالباحث الروسي أليكس جورافسكي: “ومن الآراء غير الصحيحة التي نصادفها بين حين وآخر، الرأي الذي مؤداه أن الإسلام دين التعصب وعدم التسامح، وهما سمتان ملازمتان أبدا له، واعتراضنا على مثل هذه الدعوى أن التعصب يمكن أن يبرز في مرحلة تاريخية معينة وفي أي دين، بل ليس في الأديان فقط، وإنما في النظريات والعقائد والحركات السياسية والاجتماعية المختلفة، وفي الوضع الذي نناقشه هنا، فإن متابعة النواحي التاريخية والاجتماعية والعقائدية – القرآن والسنة – للإسلام لا تتيح لأي باحث ومراقب موضوعي الحديث عن التعصب الإسلامي.
 
وقد نجد بعض المسببات والدوافع النفسية والحالات الاجتماعية الطارئة بين الحين والآخر أو في بلد ما، ولكن ذلك لا يعطي الحق في التعميم إطلاقا”.
 
ويقول هوبير ديشان حاكم المستعمرات الفرنسية بأفريقيا: “إن انتشار دعوة الإسلام بأفريقيا لم يقم على القسر، وإنما قام على الإقناع الذي كان يقوم به دعاة متفرقون لا يملكون حولا ولا طولا إلا إيمانهم العميق بدينهم، وكثيرا ما انتشر الإسلام بالتسرب السلمي البطيء من قوم إلى قوم، فكان إذا ما اعتنقته الأرستقراطية – وهي هدف الدعاة الأول – تبعتها بقية القبيلة. وقد يسر انتشار الإسلام أمر آخر: أنه دين فطرة بطبيعته، سهل التناول، لا لبس ولا تعقيد في مبادئه، سهل التكيف والتطبيق في مختلف الظروف، ووسائل الانتساب إليه أيسر وأيسر؛ إذ لا يطلب من الشخص لإعلان إسلامه سوى النطق بالشهادتين حتى يصبح في عداد المسلمين، وقد حبب الإسلام إلى الأفريقيين مظاهره البعيدة عن التكلف، مثل: الثوب الفضفاض والكتابة العربية والوقار الديني وشعائر الصلاة، مما يضفي على المسلم مكانة مرموقة وجاذبية ساحرة، فالذي يدخل في الإسلام ــ ولو في الظاهر ــ يشعر بأنه أصبح ذا شخصية محترمة، وأنه قد ازداد من القوة والحيوية. ينضاف إلى هذا السعي للتحرر من الاستعمار، فالجموع والجماهير المسلمة هي التي حملت راية الجهاد ضد المستعمر في أفريقيا وآسيا”[53].
وأخيرا يجمل القضية – إلى حد كبير – المفكر الألماني المسلم مراد هوفمان حين يقول عن انتصارات المسلمين الباكرة: “وطبيعي أن تلك الانتصارات جنحت بالإنسان الغربي المسيحي إلى الزعم أن الإسلام دين عدواني، فصار يتشبث بالادعاء أن الإسلام إنما انتشر بحد السيف فحسب.
 
والحق أن شعوب البلاد المغلوبة أو المفتوحة – سواء النصاري أو الفرس – لم يستطيعوا الصمود أمام بأس المسلمين الأوائل المستميتين في زحفهم، وقد أشعل الإيمان حماستهم وحميتهم، لكن الحق أيضا أن تلك الفئة قليلة العدد والعدة ما كانت لتستطيع فتح تلك الأقطار والممالك الشاسعة لو لم تدخل شعوبها في الإسلام أفواجا.
 
لقد كان ثمة أسباب أو حوافز مختلفة لاعتناق تلك الشعوب الإسلام، لكن واحدا منها بعينه على جانب عظيم من الأهمية – وإن لم يتفق مع مفاهيم الغرب المسيحي ولم يناسبها – ألا وهو اعتناق كثير من النصارى أنفسهم للإسلام، نعني الهراطقة[54] الخارجين على إجماع الكنيسة الغربية من نصارى المغرب والمشرق العربيين، ومنهم النصارى المعروفون بـ “الأريسيين والدوناتيين”، فقد اعتنقوا الإسلام لأنه يتفق مع اعتقادهم في رفض الطبيعة الإلهية للمسيح ورفض التثليث”[55].
 
هذه – إجمالا – فلسفة الحرب في الإسلام ومفهوم الفتح الذي كان لا بد أن يعمل المسلمون – كتكليف شرعي – على نشر عقيدته، إما سلما على الأصل أو حربا إن عاند المعاندون وتصلب الطواغيت. وبالأحرى فإن الفتح الإسلامي ديانة تنتشر وعقيدة تتغلغل، فالشعوب نفسها هي التي تحولت غالبيتها للإسلام طوعا، وليس المسلمون دخلاء في البلاد المفتوحة – كما زعم المتعصبون -، أما الاحتلال والغزو فأرض تغتصب وموارد تنهب وشعوب تستعبد.
 
وإذا كان الإسلام انتشر بحد السيف، فكيف ينتشر والمسلمون لا سيف لهم في أيام المحن والنكبات قديما وحديثا؟!
 
لقد أوضح رولاندأوليفر[56] أن الإسلام لم يأخذ طريقه خلف الصحراء الكبرى بأفريقيا إلا بعد انحلال دولته الكبرى بالمغرب، وكانت وسيلته لهذه البقاع هي الثقافة والفكر والدعوة، وقد انتشر الإسلام بكثافة في جنوب شرقي آسيا، خاصة في أندونسيا، ولم يسمع أحد عبر التاريخ عن جيش فاتح توجه نحو هذه البلاد ولا غاز رفع فيها سيفا، بل نشر الإسلام فيها قوافل التجار والدعاة والطرق الصوفية، وقد هجم المغول على مشرق العالم الإسلامي كالإعصار المدمر، وبعد هلاك جنكيز خان انقسمت إمبراطوريته الكبيرة إلى أربعة فروع، تحول ثلاثة أرباعها في أواسط آسيا وغربها والقوقاز وجنوب روسيا إلى الإسلام، ومن السخف القول بأن هؤلاء قد أكرهوا على الإسلام، فقد كانوا الرعاة، والمسلمون هم الرعية المستضعفة، ولكن الإسلام هو الذي جذبهم نحوه وصهرهم في بوتقته ومزجهم بحضارته، فتحولوا إلى بناة حضارة ورعاة بشر بعدما كانوا هادمي مدنيات ورعاة أغنام وبقر[57].
يقول العالم الفرنسي جوستاف لوبون[58]: “إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين مالم يروا مثله من سادتهم السابقين”.
 
ويقول في موضع آخر: “وبين لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يعامل به العرب الفاتحون الأمم المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامة، فلم يرد عمر أن يدخل معه مدينة القدس غير عدد قليل من أصحابه، وطلب من البطريرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى لأهلها الأمان، وقطع لهم عهدا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بيعهم، ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر بأقل رفقا من ذلك؛ فقد عرض على المصريين حرية دينية تامة وعدلا مطلقا”[59].
 
بل إن تسامح المسلمين مع المسيحيين أغرى علماءهم بالدفاع عن معتقداتهم بحرية كاملة، مع اعتقاد المسلمين ببطلانها، بل امتد الأمر بزعماء النصارى الدينيين إلى الهجوم على الإسلام وتعاليمه، وهم تحت حماية المسلمين المتسامحين معهم.
 
وهذا مايعترف به دون كوبيت Don Coppitt المحاضر في الإلهيات وعميد كلية عمانوئيل، جامعة كمبردج – ببريطانيا إذ يقول[60]: “استعمل عالم اللاهوت المشرقي يوحنا الدمشقي (675 – 749م) مرة جدلا غريبا جدا في سياق دفاعه عن الأيقونات، ومن السخرية أن ذلك راجع لمعيشته في حماية المسلمين، فاستطاع يوحنا الدفاع عن الأيقونات من داخل بلاد الإسلام في وقت لم يكن أحد آمنا في الدفاع عنها داخل الإمبراطورية المسيحية”!!
 
 وكان هذا التسامح وتلك المعاملة الحسنة قاعدة إسلامية وضعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عدد من أحاديثه؛ حيث أوصى أصحابه والمسلمين جميعا بحسن معاملة أهل الذمة من اليهود والنصارى، ما داموا ملتزمين بالعهد الذي بينهم وبين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهدا، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[61].
 
وقد تابع الخلفاء الراشدون بعد ذلك السياسة نفسها مع النصارى وجددوا لهم عهود الأمان، وعاملوهم معاملة حسنة يسودها التسامح والوفاء والإخاء ما لم يخلوا بعهدهم مع المسلمين؛ فلم يحدث أن أكره المسلمون مسيحيا – أو ذميا على وجه العموم – على الدخول في الإسلام، فقد كانوا ملتزمين بالقاعدة الإسلامية: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، وكانت سياستهم مع أهالي البلاد المفتوحة أن يخيروهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، ولو كانت سياسة إكراه أهالي البلاد المفتوحة على الدخول في الإسلام هي ديدن المسلمين لما خيروهم بين هذه الثلاثة.
 
إن الوفاء بالمعاهدات من جانب المسلمين هو السياسة الثابتة، حتى عندما كان ينقض أهل إقليم من الأقاليم المعاهدات من جانبهم، كان المسلمون ــ غالبا ــ يكتفون منهم بالعودة إلى الطاعة، وأداء الواجبات والالتزامات المقررة، ولا يحملهم الانتقاض على الانتقام، فحين نقض أهل أذربيجان عهدهم غزاهم الوليد بن عقبة في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصالحهم على ثمانمائة ألف درهم، وهو المبلغ الذي كانوا قد صالحوا عليه حذيفة بن اليمان سنة 22 هـ، ولم يكن هذا مثلا وحيدا، بل تكرر كثيرا[62].
 
ومما سبق تبين لنا أن سياسة المسلمين منذ بداية الفتوحات كانت واسعة الأفق والمرونة؛ بحيث أدركوا أن استتباب الأمن وسير الأمور سيرا حسنا في البلاد المفتوحة، بما يحقق خير أهلها ومصالحهم، يكمن في الأسلوب الإداري الذي سيسيرون عليه، فلم يترددوا لهذا في الاحتفاظ بالنظم الإدارية التي وجدوها في البلاد المفتوحة، سواء كانت خاضعة للبيزنطيين؛ مثل الشام ومصر، أو خاضعة للفرس ؛كالعراق وإيران، وقد بقي الموظفون من أهل البلاد المفتوحة في مناصبهم الإدارية – في الغالب -.
 
وقد وصل هؤلاء في ظل الحكم الإسلامي إلى مناصب رفيعة كانوا محرومين منها في ظل حكومات ما قبل الإسلام، كما هو الحال في مصر، فقد كان البيزنطيون يستحوذون على معظم المناصب الإدارية والعسكرية العليا، ولا يتركون للمصريين إلا أقل القليل. وحين كان المسلمون يعجزون أحيانا عن حماية المكاتبين كانوا يردون عليهم ما أخذوه منهم، فقد رد أبو عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – ما كان أخذه من أهل حمص، وكتب إليهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، فرددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا وبينكم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم[63].
 
ويعلق المستشرق أرنولد على هذه الحادثة الفريدة في تاريخ البشرية بقوله: “وبذلك ردت مبالغ طائلة من أموال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم – أي على الروم -، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئا، وأخذوا كل شيء بقي لنا”[64]. وقد بلغ عدل المسلمين ورحمتهم بأهل الذمة أنه لم يكن يعفى فقراؤهم من الجزية فحسب، بل كانوا يفرضون لهم عطاء دائما من بيت مال المسلمين، فقد فرض عمر بن الخطاب لليهودي الذي وجده يطلب الصدقة رزقا دائما من بيت المال[65].
 
خامسا. لما ضعفت شوكة المسلمين في البلاد التي فتحوها، وتمكن الآخرون منهم فعلوا بهم من الأفاعيل ما يندى له الجبين، ولم يراعوا أي خلق أو دين في معاملتهم:
 
الصليبيون وبيت المقدس:
 
إن الصليبيين حين تمكنوا من اقتحام بيت المقدس في 22 شعبان سنة 492هـ، لم ينج ممن كان به سوى قائد الحامية الفاطمية، وعدد من رجاله، وأعقب ذلك مذبحة فظيعة هائلة، وأبيحت المدينة للسلب والنهب والقتل عدة أيام، وفاض الدم وظلت الجثث مطروحة في الشوارع عدة أيام. وفي هذا الجو الكئيب الموحش اجتمع الصليبيون في كنيسة القيامة؛ لأداء صلاة الشكر، وعندما هدأت شهوة القتل لديهم كانت أولى المهمات التي واجهتهم هي مواراة الجثث التي فاحت منها الروائح النتنة في كل أرجاء المدينة، أو التخلص منها بطريقة ما[66].
 
وقد أسفرت هذه الجريمة البشعة في القدس وحدها – حول الأقصى وبداخله – عن مقتل ما يزيد عن سبعين ألفا، حتى خاضت الخيول في دماء القتلى إلى ركبها، وأرسل الصليبيون إلى البابا رسالة بشري بما صنعوه بالكفار (يقصدون المسلمين)[67].
 
العثمانيون والآخرون بعد ضعف المسلمين:
 
في ظل تقهقر العثمانيين وانسحابهم شرقا – لعوامل عديدة – انسحبوا من بين ما انسحبوا منه من بلاد البلقان – بشرقي أوربا – بما فيها البوسنة والهرسك، ونتيجة لهذا وقعت لأول مرة أعداد كبيرة من المسلمين تحت حكم غيرهم، فهاجر الكثير منهم إلى الأناضول والبلاد الأخرى التي بقيت تحت الحكم العثماني، وبالطبع كان الحكم المسيحي العائد قاسيا على من بقي من المسلمين، منعوتا بالتشريد والاضطهاد ومحاولة فرض التنصير بكل سبيل.
 
وعقب الحرب العالمية الأولى تأسست الدولة اليوغسلافية في البلقان، وكانت فرحة المسلمين كبيرة بهذا الحدث؛ حيث كان هدفهم التخلص من الاستعمار النمساوي السابق، ولكن الأرثوذكس الصرب غدروا بالمسلمين بعد قيام يوغسلافيا، وتحت شعار الإصلاح الزراعي صادروا جميع أراضي المسلمين ومنحوها للفلاحين الأرثوذكس، فأدى ذلك إلى إفقار المسلمين وتأخرهم بعد أن كانوا طليعة التقدم.
 
ولنأخذ مدينة بلجراد – عاصمة الصرب الآن – مثالا لما حدث للمسلمين في يوغسلافيا، فقد فتحها المسلمون سنة 856هـ / 1452م، ودام حكمهم فيها مدة 358 عاما، كانت خلالها مدينة إسلامية زاهرة، يبلغ سكانها مائة ألف نسمة، ثلاثة أرباعهم مسلمون، وكانت تضم مائتين وسبعين مسجدا، تقام في ثلاثة وثلاثين منها صلاة الجمعة، وبها سبع عشرة تكية، وثمانية مدارس ثانوية إسلامية، وتسع دور حديث، ومائتين وسبعين كتابا.
 
وبعد أن انحسر الحكم الإسلامي عن المدينة قضى المسيحيون على المدارس والكتاتيب والمساجد كلها الواحدة تلو الأخرى، فهذا مسجد جعل ميدانا لسباق الخيل، وآخر بني على أنقاضه المسرح المركزي، وثالث صار مقرا للبرلمان، ورابع حول فندقا.
 
وهكذا، وقد استمرت الحال على هذا المنوال حتى بلغ السيل الزبى، ووقعت كارثة نهاية القرن العشرين الأخيرة، التي حدثت على مرأي ومسمع من العالم المتحضر، ومنا نحن المسلمين، والتي خلفت ما يقارب من نصف مليون قتيل في البوسنة وكوسوفا، فضلا عن مئات الآلاف من المشردين واللاجئين بعد هدم المدن وتدمير القرى، واستباحة أعراض النساء في حالات اغتصاب جماعية، وذبح الأطفال تحت شعار التطهير العرقي[68].
 
والغريب أن البعض – ومن بينه كثير من وسائل إعلامنا – ما يزال يصرعلى أنها حرب عرقية لا دينية، فبم نسمي ذبح المسلمين – المسلمين فقط – بالسكاكين، والتمثيل بجثثهم حتى بعد قتلهم ورسم الصلبان الأرثوذكسية عليها، إن لم تكن حربا صليبية؟! وبم نسمي تصفية الشباب المسلم – والمسلم فقط – وبتر أعضائهم التناسلية، وإلقائهم أحياء في الماء المغلي، وذبحهم للشواء شي الذبائح، إن لم تكن حربا دينية صليبية؟! وبم نسمي اغتصاب المسلمات – المسلمات فقط – وتقطيع أثدائهن، وبقر بطون الحوامل منهن للتمثيل بالأجنة، إن لم تكن حربا دينية صليبية[69]؟
 
مأساة الأندلس:
 
ونصل بك أيها القارئ بعد هذا التطواف التاريخي إلى المصاب الفادح، والنموذج الصارخ لذلك التناقض في علاقة المسلمين بالآخر وعلاقة الآخر بهم، أو سلوك كل تجاه الآخر. تلك هي مصيبة الدهر وفاجعة الفواجع، وهي إبادة المسلمين في الأندلس وطرد بقاياهم منها.
 
ففي أواخر القرن الأول الهجري ــ أوائل القرن الثامن الميلادي ــ دخل الإسلام إلى إسبانيا، وفي أواخر القرن التاسع الهجري ــ أوائل القرن السادس عشر الميلادي ــ أصدر الملكان الإسبانيان فرناندو وإيزابيلا مرسوما يقضي بإلغاء شعائر الدين الإسلامي في جميع أرجاء البلاد، وبين التاريخين – كما يذكر المستشرق أرنولد – كتبت إسبانيا الإسلامية صفحة من أنقى الصفحات وأسطعها في تاريخ أوربا في العصور الوسطى، امتد تأثيرها إلى الممالك الأوربية الأخرى، وأتت بنهضة جديدة في الشعر والثقافة، ومنها تلقى طلاب العلم المسيحيون من الفلسفة اليونانية والعلوم ما أثار في نفوسهم النشاط العقلي حتى جاء عصر النهضة الحديثة.
 
وقد كانت إسبانيا قبل دخول المسلمين إليها قد شهدت صراعا رهيبا بين مذاهب وطوائف المسيحية، أما تسامح المسلمين الفاتحين فقد كان نموذجا رائعا للرقى الحضاري، وله أكبر الأثر في استيلائهم على البلاد، وقد أدت هذه السياسة، وحرية الاختلاط بين أهل الديانتين إلى شيء من التجانس والتماثل وكثر التصاهر بينهم، وطوال عهود المسلمين بالأندلس لم تكن الحوادث النادرة المناقضة للتسامح إلا استثناء لهذا الطابع المتسامح الذي عرف به أمراء المسلمين في إسبانيا في معاملتهم لرعاياهم المسيحيين.
 
فماذا حدث حين قضي على الحكم الإسلامي في الأندلس في آخر معقل له في غرناطة سنة 897هـ / 1492م؟ عندما استسلم أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة، ووافق على تسليم البلاد للملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، ظل كثير من المسلمين موجودين بهذه البلاد، يمثلون عنصرا مهما من عناصر السكان في الدولة المسيحية الجديدة، تنظم حقوقه وواجباته اتفاقية وقعها الجانبان الإسلامي والمسيحي، وقد قدم الجانب المسيحي المواثيق والأيمان المغلظة، وتعهد بضمان احترام بنود تلك المعاهدة بكل ما يتصور من وسائل.
 
لم يمض على ذلك سنوات معدودة حتى نقضت – من قبل الطرف المسيحي – مواد هذه الاتفاقية واحدة وراء الأخرى، وتعرض المسلمون لمعاملة قاسية وعنيفة، وأهينوا وعذبوا، وصودرت أموالهم، واغتصبت ممتلكاتهم، وأهدرت حقوقهم، وأقيمت لهم محاكم التفتيش، وفرض عليهم فرضا أن يتنصروا، وعرفوا في المجتمع المسيحي باسم خاص بهم هو “المورسكيون”، والمورسكي تصغير لكلمة “مورور” بمعنى المسلم، والغرض الإهانة والتحقير، وقد أصبحت علما على هؤلاء الذين حملوا على الدخول في النصرانية، كما أطلق عليهم كذلك “المسيحيون الجدد”.
 
وهكذا خرقت المعاهدة، واستلبت الحقوق والضمانات، وأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم، أضف إلى ذلك أن نفوس رجال الكنيسة  كانت تفيض برغبة عارمة تبغي القضاء على كل ما هو إسلامي.
 
وكانت الإدارة الإسبانية أداة في يد الكنيسة، والأحبار لا يفتئون يطلبون من الملك بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد – صلى الله عليه وسلم – من إسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء إما التنصر أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس في ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل فيه إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة؛ لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون مع النصارى – لاحظ أيها القارئ بوضوح هنا من يقبل الآخر ومن يلفظه!! – أو يحافظوا على ولائهم للملوك ما بقوا على الإسلام الذي يحثهم على مقت[70] النصارى أعداء دينهم!
 
ولذا استدعي الكاردينال خمينيس دي سيتسيروس ليقوم بمهمة تنصير المسلمين، واتخاذ أنجح الوسائل لتحقيق ذلك، فجمع الفقهاء والأعيان بغرناطة، وطلب منهم أن يتنصروا حتى يكونوا قدوة لغيرهم، وتهدد وتوعد، ورغب ورهب[71].
 
كان من أثر هذه الضغوط الرهيبة أن تنصر معظم أهل غرناطة وامتنع قوم عن التنصر، واعتزلوا النصارى، فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى ومواضع، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا إلا أهل مواضع يسيرة، فإن الله أعانهم على عدوهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخرجوا على الأمان إلى بر المغرب بما عليهم، وما خف من أموالهم دون الذخائر، وكان من أظهر التنصر يعبد الله خفية ويصلي، فشدد عليهم النصارى البحث والمراقبة، حتى إنهم أحرقوا كثيرين منهم بسبب ذلك[72].
 
وقد دفعت هذه الإجراءات العنيفة والانتهاكات الصارخة أحد المسلمين المطرودين إلى الاحتجاج بقوله:
 
“هل حاول أسلافنا المنتصرون ــ ولو مرة واحدة ــ أن يستأصلوا المسيحية من إسبانيا حين كان في مقدورهم أن يفعلوا ذلك؟! ألم يسمحوا لآبائكم بأن يتمتعوا بحرية استعمال رسومكم الدينية؟! ألم يوص نبينا بأن نترك الحريات الدينية لأهالي البلاد التي يفتحها العرب بحد السيف، مهما بلغت آراؤهم من حمق وخرق؟! إن يدنا مبسوطة دائما لتلقى كل من وهب الله له نعمة التدين بديننا، لكن كتابنا المقدس ــ وهو القرآن الكريم ــ لا يجيز لنا أن نتحكم في ضمائر الناس”[73].
 
وقد زاد المجرمون على ذلك وأربوا[74]، فارتكبوا عارا تاريخيا يعد وصمة – على الدوام – في جبين الأمم المتخلفة المتبربرة، ففي 12 يناير سنة 1501م ارتكب الكاردينال خمينيس أمرا إدا، إذ أمر بجمع كل الكتب العربية من كل مملكة غرناطة، وكومت أكداسا مكدسة، وأضرم فيها النيران[75].
 
هذه الوحشية التي تعرض لها المسلمون، وهذا النقض للمعاهدات، دفع شاعرا مسلما أن يكتب قصيدة ويوجهها للخليفة العثماني بايزيد الثاني (1481 – 1512م) يصف فيها ما حل بالمسلمين في الأندلس، وما يواجهونه من إهانات وتعذيب وإكراه على التنصر، ويطلب نجدة الخليفة وغوثه، ومنها:
 
سلام عليكم من عبيد تخلفوا
 
بأندلس بالغرب في دار غربة
 
أحاط بهم بحر من الروم زاخر
 
وبحر عميق ذو ظلام ولجة
 
سلام عليكم من عبيد أصابهم
 
مصاب عظيم يا لهـــــا من مصيبـــــة
 
سلام عليكم من شيوخ تمزقت
 
شيوبهم بالنتف من بعد عزة
 
سلام عليكم من وجوه تكشفت
 
على جملة الأعلاج[76] من بعد سترة
 
سلام عليكم من بنات عواتق
 
يسوقهم اللياط[77] قهرا لخلوة
 
سلام عليكم من عجائز أكرهت
 
على أكل الخنزير من لحـــم جيفـــة
 
وأبدى لنا كتبا بعهد موثق
 
وقال لنا هذا أماني وذمتي
 
فكونوا على أموالكم ودياركم
 
كما كنتم من قبل دون أذية
 
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم
 
بـــــدا غدرهم فينـــا بنقض العزيـــمة
 
وخان عهودا كان قد غرنا بها
 
ونصرنا كرها بعنف وسطوة
 
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف
 
وخلطها بالذبل[78] أو بالنجاسة
 
وكل كتاب كان في أمر ديننا
 
ففي النار ألقوه بهزء وحقرة
 
ومن صام أو صلى ويعلم حاله
 
ففي النار ألقـــــوه على كل حـالـــــة
 
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم
 
يعاقبه اللياط شر عقوبة
 
ويلطم خديه ويأخذ ماله
 
ويجعله في السجن في سوء حالة
 
وفي رمضان يفسدون صيامنا
 
بأكـل وشـرب مــــرة بـــعـــــــد مــــرة
 
إلى غير هذا من أمور كثيـــــــرة
 
قباح وأفعـــــال غــــــــــــزار رديــــــــة[79]
 
وقد بدلت أسماؤنا وتحولــــــــــت
 
لغيــــر رضــــــا منــا وغيــــــــر إرادة
 
فها نحن يا مولاي نشكو إليكم
 
فهذا الذي نلناه من شر فرقة
 
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا
 
كما عاهدونا قبل نـقــض العزيـــــمة
 
وإلا فيجلونا جميعا من أرضهم
 
بأموالنا للغرب دار الأحبة
 
فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا
 
على الكفر في عــــــــــز على غير ملة
 
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم
 
ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة[80]
 
وليت الأمر كان قاصرا على حقب التاريخ الغابرة[81]، وإنما امتدت هذه الروح المتعصبة الحاقدة تجاه الإسلام والمسلمين إلى التاريخ الحاضر؛ حيث الشعارات البراقة والعبارات الرنانة التي يطلقها الغرب حول الإخاء الإنساني، وحقوق الإنسان في ظل العولمة. بينما تحدثنا الأخبار بغير ذلك على أرض الممارسة والواقع الحقيقي في عقر دار الغرب نفسه، حول هذا اقرأ مثلا الخبرين الآتيين:
 
o سكان لندن يرفضون مئذنة مسجد:
 
اعترض سكان مدينة أكسفورد البريطانية على مشروع بناء منارة مسجد سترتفع بين أبراج المدينة التاريخية. إن الأكاديميين والسكان في مدينة أكسفورد ثائرون ويرون أن هذا المشروع سيكون ــ على حد وصفهم ــ نشازا على البيئة المعمارية والطبيعية للمدينة، ويشوه الجمال المعماري للمدينة، في حين أيد الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا – الذي وصف بأنه من دعاة الانفتاح على الإسلام في المجتمع البريطاني – هذا المشروع[82].
 
o النازيون الجدد يعتدون على المساجد، ويهددون المسلمين في ألمانيا والحكومة صامتة:
 
قامت مجموعة من المتطرفين اليمينيين الألمان بمهاجمة جامع في مدينة جيرا بولاية ثورنجن في ألمانيا الشرقية حسبما أوردت الشرطة.
 
ونقلت صحيفة زوددويتشه الصادرة بمدينة ميونيخ عن مسئولين في البوليس السري بولاية سكسونيا، أن جماعات من المتطرفين اليمينيين الألمان يستخدمون مراكز تدريب عسكرية، كانت سابقا تخص جيش ألمانيا الشرقية؛ للتدريب على استخدام الأسلحة.
 
نكبات المسلمين في القوقاز:
 
ونعود إلى مغول القبجاق – حيث القوقاز الآن – لنرى ماذا حل بالمسلمين – مقابل تسامحهم العميم السابق – على أيدي القياصرة الروس، ثم الزعماء البلاشفة السوفيت حين ضعفت القوى الإسلامية هناك، وانقلبت الحال لصالح أعدائهم.
 
فقد تعرض مسلمو القوقاز – على نحو ما تعرضت له دار الإسلام منذ مطالع العصر الحديث – لأطماع استعمارية شرسة، حمل لواءها الروس الذين تمكنوا في ذلك الوقت من جعل موسكو – تلك الإمارة الصغيرة الناشئة في البداية، والتي خضعت للتتار المسلمين ودفعت لهم الجزية مدة قرنين ونصف قرن من الزمان – عاصمة لدولة لهم.
 
وقد شهدت هذه الدولة في القرن التاسع الهجري ــ الخامس عشر الميلادي ــ ظهور مجموعة من حكامها القياصرة، الذين رسموا سياستهم على أساس التوسع الرهيب على حساب القوى الإسلامية المجاورة لهم في كل من مناطق نهر الفولجا شمالي بحر قزوين، وبلاد القوقاز في غربي هذا البحر، وآسيا الوسطى شرقي البحر نفسه.
 
وقد بدأ التمهيد للطغيان الروسي على القوقاز حين تولى قيصرية روسيا سنة 885هـ/ 1480م حاكم عدواني هو القيصر إيفان الثالث، الذي قاد حملة ضد التتار المسلمين، وأخرجهم من موسكو بعد أن دامت في أيديهم 240 عاما، وبذا انتقل من التبعية لإمارة المسلمين في قازان التترية على نهر الفولجا، إلى العدوان على تلك الإمارة نفسها، وإنزال الهزائم بقواتها العسكرية.
 
فقد فتح هذا العدوان الروسي السبيل لهدم السور الإسلامي ببلاد الفولجا، الذي كان يقف سدا منيعا يحمي بلاد القوقاز من خطر الشمال، ثم تولى فاسيلي الثالث، وقد توطدت العلاقة بينه وبين البابا الذي طلب منه أن يعجل بطرد المسلمين إلى سيبيريا وتشتيتهم، واعدا إياه بالقسطنطينية التي كان السلطان العثماني محمد الفاتح قد فتحها 857هـ / 1453م.
 
ولكن أخطر هؤلاء القياصرة هو إيفان “الرهيب”، الذي أطلق المسلمون عليه هذا اللقب لحرب الإبادة الشاملة التي شنها ضدهم؛ فقد فرض عليهم أن يتنصروا أو يتركوا أوطانهم ويهاجروا، واستولت قواته الروسية على إمارة قازان الإسلامية 960هـ / 1553م، وفرض على أهلها المسلمين أشد ألوان الطغيان؛ وهو حملهم على ترك دينهم، أو ترك وطنهم والهجرة إلى خارج البلاد. وطبق إيفان السياسة الطاغية ذاتها على المركز الإسلامي الثاني على نهر الفولجا، وهو إمارة استراخان، وصارت القوات الروسية الباغية على مداخل بلاد القوقاز.
 
عد بذاكرتك – أيها القارئ – وقارن هذه الأفاعيل بعهود الأمان التي منحها المسلمون لأهالي القوقاز، كعهد السلطان أوزبك لكنيسة القديس بطرس – السابق ذكره – ولك أن تعجب، ثم تتعظ بعد ذلك.
 
وفي عهد بطرس الأكبر (1092 – 1138 هـ / 1682 – 1725م) تجددت سياسة أسلافه، ففرض على المسلمين التنصير أو الفرار من أراضيهم وأوطانهم.
 
وسارت الإمبراطورة حنا (1738 – 1755م) على نهج إيفان الرهيب، ففرضت التنصير في المجرى الأوسط لنهر الفولجا، وصادرت الأوقاف، وغلقت المساجد، وأصدرت أمرا بإعفاء التتار المرتدين عن الإسلام إلى النصرانية من الضرائب والخدمة العسكرية، ومعاملتهم معاملة حسنة؛ ليحذو بقية المسلمين حذوهم، وبالمقابل ازداد الضغط على المسلمين الصامدين على دينهم، وأثقلوا بالضرائب الفادحة، وأجبروا على الخدمة في أخس الوظائف، ومنعوا من ممارسة شعائرهم الدينية، وأغلقت جميع مدارسهم ومساجدهم، وصودرت أوقافهم الدينية، واختطفت منهم أبناؤهم الصغار، وأدخلوا المدارس التبشيرية حتى ينشئوا على النصرانية الأرثوذكسية، أما المسلم الذي كان يدعو للإسلام، حتى بين إخوانه المسلمين، فكان يحكم عليه بالإعدام[83].
 
وبقيام الثورة البلشفية الشيوعية في أكتوبر 1917م تعرض مسلمو القوقاز لخديعة كبرى، ومعاناة شديدة؛ ففي بداية الثورة تطلع قادتها – وعلى رأسهم لينين – وهم يقودون القتال ضد خصومهم إلى الحصول على تأييد مسلمي القوقاز المشهورين بالشجاعة، ومعهم سائر المسلمين في البلاد الأخرى حول نهر الفولجا ووسط آسيا، وأصدر لينين – جريا على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة – في بداية توليه السلطة بيانا إلى مسلمي القوقاز، وإلى غيرهم من المسلمين داخل روسيا وخارجها يبشرهم بوعود خلابة قوامها تحرر المسلمين داخل روسيا من حكم القياصرة البغيض. وقد بادر مسلمو القوقاز إلى انتهاز تلك الوعود التي قدمها لينين لهم، وأعلنوا استقلالهم 1918م، غير أنه سرعان ما تبين لهم خداع لينين، وذلك حين قام هو بنفسه بقيادة الحملة على المناطق الإسلامية بروسيا في أبريل 1918م.
 
وأخذت بلاد القوقاز تشهد مع غيرها من بلاد المسلمين في روسيا طغيانا شيوعيا رهيبا، اتجه إلى الهجوم مباشرة على الدين الإسلامي في مظهرين خطيرين:
 
أولهما: إغلاق المساجد والمدارس الدينية، وتشريد من كان بها من المعلمين.
 
ثانيهما: شن حملة من الدعاية الضخمة ضد الإسلام، حيث شارك في ذلك الأجهزة الروسية كافة من صحافة، وإذاعة، وتليفزيون، وسينما، ومسرح.
 
وتركزت الحملات ضد الإسلام بصفة خاصة على موضوع المرأة المسلمة، وعقيدة اليوم الآخر، والجنة والنار بوصفهما من الأمور الغيبية التي يخدر بها الشعور، وأن الدين الإسلامي مع غيره من الأديان ــ وجريا على الدعوة الإلحادية الروسية – أفيون الشعوب.
 
وقد شهدت فترة حكم ستالين التي دامت حتى عام 1953م ألوانا من القهر، والسخرة في العمل، وتعرض المسلمون خلال تلك الفترة لصنوف من القهر والتعذيب، والتشريد، والتهجير الإجباري، وإلى تقسيم أراضيهم والاقتطاع منها، وتهجير الروس والأوكرانيين إليها، بغية تغيير التكوين الديموغرافي والعرقي والديني لهذه الأقاليم، وفرضت عليهم اللغة الروسية لغة رسمية، ولغة للتعامل في كل نواحي الحياة، فانفصل معظم المسلمين عن كتاب الله وسنة رسوله، وعن كتب الفقه التي لم تكن مكتوبة باللغة الروسية، وصار من بقي من علماء المسلمين المسنين يعلمون الإسلام لمن تيسر له ذلك سرا.
 
تجاه هذا التسلط الروسي بدأت الصحوة الإسلامية ببلاد القوقاز في المجالات المختلفة مدنيا، وعسكريا، وحمل لواءها ومنحها طابعها ومفهومها الإسلامي قادة من المتصوفة المجاهدين العظام، وسقط معظمهم شهيدا في ميدان الجهاد، بدءا بالشيخ منصور أشرمة الذي استشهد سنة 1794م في السجن، ومرورا بالإمام حمزة الذي استشهد سنة 1834م، والمجاهد الأشهر الإمام شامل توفي 1871م في منفاه بالمدينة المنورة، حتى وصلنا إلى الفترة الحالية حيث جوهر دوداييف، وأصلان مسخادوف، وأمير خطاب – رحمهم الله – وشامل باساييف[84].
 
ولعل أصدق ما يعبر عما أصاب المسلمين في هذا الدور الأخير من أدوار المقاومة والجهاد، من بطش وتنكيل وتدمير لا مثيل له ــ ما جاء في مقال للأستاذ فهمي هويدي قال فيه: “ما يحدث في شيشينيا من اجتياح وتدمير وقتل منظم لا جديد فيه بالنسبة لي، حيث أحسبه تكرارا لمشهد وقعت عليه من قبل حين زرت جروزني عام 1995م، في أعقاب اجتياح القوات الروسية لها في عام 1994م، ونشرت في هذا المكان آنذاك مقالا تحت عنوان “مشاهد القيامة في جروزني”، حيث كان انطباعي حين رأيت ما رأيت أن ما شاهدته أشبه بما يمكن أن يحدث يوم القيامة، يوم تزلزل الأرض زلزالها، وتفنى الدنيا بعد أن تنقلب رأسا على عقب، آنذاك وجدت جروزني قد تحولت إلى مدينة من الأشباح، أبرز ما فيها تلال المخلفات المسكونة بالكلاب الضالة والفئران.
 
كان كل شيء يشهد بقسوة الجيش الروسي، ويعبر عن رغبته في الانتقام والتدمير، الأمر الذي أصابني بالدهشة والحيرة حتى تساءلت آنذاك: إذا كانت روسيا تعتبر هذه البلاد جزءا من أراضيها، فلم تنتقم من شعبها بتلك الصورة المروعة؟ وهل يمكن بعد الذي جرى أن يغفر الشيشانيون أو ينسوا؟ ويقبلوا بالعيش راضين في ظل الاتحاد الروسي.
 
كان واضحا أن الروس لا يريدون كسر شوكة الشيشانيين فحسب، وإنما كسر إرادتهم أيضا، عبر إذلالهم وتمريغ أنوفهم في الأوحال، وهم الذين يعرفون أكثر من غيرهم ما الذي تعنيه انتفاضة الشيشانيين الذين دوخوا – هم وأشقاؤهم الداغستانيون تحت قيادة الإمام منصور – جيوش القياصرة في أواخر القرن الثامن عشر، ثم تحت قيادة الإمام شامل حتى منتصف القرن التاسع عشر.
 
وحين جاءت الشيوعية فإن ستالين ظل متشككا في ولائهم حتى نفى ألوفا منهم إلى سيبيريا، إبان الحرب العالمية الثانية، كان بينهم كل شعب الأنجوش المسلم، وظل هؤلاء منفيين طيلة ثلاثة عشر عاما إلى أن أعادهم خروتشوف إلى ديارهم في عام 1956م، لكنهم لم ينسوا أحزانهم ولا ثأرهم، فاهتبلوا أول فرصة لاحت لهم بعد سقوط الشيوعية، فخرج قائدهم جوهر دوداييف عام 1991م وأعلن مواصلة مسيرة الإمام شامل، مجسدا حلم بلاده في الاستقلال، والخروج من أسر الهيمنة الروسية، ورغم أن الرجل دفع حياته ثمنا لذلك، فإنه فتح الطريق لاعتراف موسكو بحكومة الشيشان المنتخبة بعد الاجتياح الذي تم في عام 1994م، ومن ثم أصبحت شيشنيا شبه مستقلة من الناحية العملية، وإن كان قد تم الاتفاق مع موسكو على بحث الوضع النهائي لجمهورية الشيشان في وقت لاحق.
 
البطش الروسي كان واحدا حقا، لكنه اختلف في الحملة الراهنة عن سابقتها التي تمت في عام 1994م من زاوية الإخراج فقط، في المرة السابقة كانت حملة القمع والسحق مكشوفة سافرة؛ ولذلك فإنها صدمت الرأي العام في داخل شيشنيا وخارجها، وكسب الشيشانيون تعاطفا واسع النطاق آنذاك، ولكن الروس استوعبوا الدرس، فاختلف الإخراج هذه المرة”.
 
بعد هذا يشير الكاتب إلى أن الحملة الأخيرة سبقت بسلسلة من التفجيرات شهدتها موسكو، نسبت – مباشرة ودون تحقيق – لمن أسموهم “إرهابيين شيشانيين”، وانطلقت الصحف تعبئ الرأي العام ضد الإرهاب الإسلامي الأصولي القادم من شمال القوقاز، وبذلك ظهرت روسيا هذه المرة وكأنها لا تقمع شعبا ينادي بالاستقلال كغيره ممن استقلوا ممن كان ضمن الاتحاد السوفيتي السابق، وإنما بدت كأنها تلاحق إرهابا أصوليا ادعت أنه يهددها، ونجحت – باستخدام مصطلحي الإرهاب والأصولية – في إخفاء الوجه القبيح للحملة، وكسب الرأي العام في الداخل والخارج إلى جانبها؛ ولذا فإن أحدا، حتى من بين الدول العربية والإسلامية – إلا نادرا – لم يعترض على مبدأ الحملة، وإنما فقط على شكل الأداء.
 
ثم يقول الكاتب: “الآن تجاوز عدد القتلى 50 ألفا، وزاد عدد اللاجئين الذين يعانون الأمرين وسط الثلوج – الآن – على مائتي ألف، وكل الذي فعله المجتمع الدولي لم يزد على كلام وتصريحات أطلقت في الهواء”.
 
ثم يجري الكاتب مقارنة مغرية بين هذه الحالة ونقيضها، حين هب الغرب مؤيدا بالقوة والضغوط استقلال تيمور الشرقية، حين قال: “قامت قيامة الغرب غيرة على مقتل 50 شخصا في تيمور الشرقية، بينما تراضى الجميع ومطوا شفاههم أسفا، ثم دعوا إلى ضبط النفس حين قتل خمسون ألفا في شيشنيا. لماذا؟!
 
ببساطة لأن التيموريين كان لهم ظهر في الغرب، تمثل في البرتغال – المستعمر السابق – التي حملت لواء الدفاع عن التيموريين، وفرضت قضيتهم على جدول أعمال الاتحاد الأوربي، والأمم المتحدة، إن شئت مزيدا من الدقة فقل: إنها الكنيسة البرتغالية التي حركت المشهد كله، بعدما نجحت خلال ثلاثة قرون من الاحتلال في تحويل نسبة غير قليلة من التيموريين إلى الكاثوليكية، وتعهدت هؤلاء بالرعاية حتى استنفرت الفاتيكان الذي جند طاقاته لصالح انتزاع استقلال تيمور الشرقية، وتحرير مواطنيها الكاثوليك من الحكم القمعي الذي مارسته أندونيسيا”[85].
 
وبهذا يتبين لنا موقف الإسلام من الآخر مقابل موقف الآخر من المسلمين، حيث وجدنا ثمة اختلافا بينا بين معاملة المسلمين لأهالي البلاد التي فتحوها، سواء في مصر أو الشام أو الأندلس أو القوقاز أو القسطنطينية، حيث وجد أهل هذه البلاد تسامحا غير مسبوق حتى من إخوانهم في الدين، مما ساعدهم على الدخول في الإسلام طواعية ودون إكراه حسبما قرر القرآن: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، وقرر النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «ألا من ظلم معاهدا، أو كلفه فوق طاقته، أو انتقصه، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه – فأنا حجيجه يوم القيامة»[86]. أما ما فعله الآخر بالمسلمين في البلاد التي ضعفت فيها القوة الإسلامية، فنجد الإيذاء والتعذيب والاضطهاد، والإكراه على التنصير، والقتل والتشريد صفة ملازمة لهذا الآخر، والأمثلة على ذلك كثيرة، إذ لا يغيب عن أذهاننا ما فعله الصليبيون بالمسلمين في بيت المقدس، وما فعله الإسبانيون بالمسلمين في الأندلس، وما فعله الروس بالمسلمين في القوقاز كالشيشان وغيرها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى قسوتهم في معاملة الآخر، وخاصة المسلمين. وبناء على هذا فإن الذي انتشر بحد السيف هو التنصير لا الإسلام كما يدعون.
 
الخلاصة:
 
القاعدة الإسلامية في التعامل مع أهل الذمة وأهل البلاد المفتوحة أنه: )لا إكراه في الدين(.
إن أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – أوصت المسلمين بحسن معاملة أهل الذمة من اليهود والنصارى، وحذرتهم من ظلمهم ما داموا ملتزمين بالعهد، وكذلك كانت سياسة الخلفاء معهم، حيث استعملوهم في دواوين الدولة الإسلامية وولوهم عددا من الوظائف الإدارية العليا كالوزارة والكتابة وغيرها.
ولقد سار النبي وصحابته على هذا النهج، وأحداث التاريخ تبرهن عمليا – بوضوح – على هذا، ومن ثم فقد أثمرت الفتوحات الإسلامية – على عكس موجات الاستعمار – نتائج مثمرة في البلاد المفتوحة، ولتكن الأندلس نموذجا، والتي تحولت – باعتراف الغربيين أنفسهم – إلى كعبة علم ومنارة حضارة، أما الاحتلال فأرض تغتصب، وموارد تنهب، وشعوب تستعبد، كما يحدث على أيدي غير المسلمين حينما تكون لهم الغلبة.
لم يؤذن للمسلمين طوال الفترة المكية بقتال رغم صنوف الظلم والعذاب التي نزلت بهم، ولكن لما لج أهل الكفر في عنادهم وألجئوا المسلمين إلى الهجرة جاء الإذن بالقتال، ومع ذلك لم ينس القرآن أن يستوصي بالمسالمين للمسلمين من غيرهم: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)((الممتحنة).
على الرغم من هذه الضجة حول رفعه – صلى الله عليه وسلم – السيف وخوضه الغزوات، فإن المتأمل للآثار الناجمة[88]عن هذا القتال، وأعداد ضحاياه يتبين مدى ضآلة هذه الآثار قياسا على الحروب الطاحنة في تاريخ الأديان الأخرى.
ليس أدل على أن دعوة الإسلام قائمة على السلم من استغلال النبي – صلى الله عليه وسلم – لصلح الحديبية ليعود بالدعوة إلى أصلها – وهو السلم – فأخذ يكاتب زعماء الأرض برسائل صيغت بمنتهى الحكمة واللين؛ إذ إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – سمح يدعو ولا يتهدد، ويتلطف ولا يتوعد، ويخاطب الملوك مقرا بسلطانهم ومعترفا بمكانتهم.
وعلى الرغم من سماحة الخطاب ووقار الكتاب إلا أن الردود جاءت متباينة، فمنهم من تلطف، ومنهم من أغلظ في الرد ومزق الكتاب، وجاهر بالعداوة، وصار طاغوتا يقف في سبيل نشر الدعوة، الأمر الذي دعا إلى استئناف الجهاد، وانطلاق موجة الفتح الإسلامي نحو جبهتي فارس والروم اللتين اتخذتا خطوات عملية في سبيل القضاء على الدعوة والدولة الوليدتين، ولم تكن هذه الحروب ضد الشعوب، وإنما كانت ضد الطواغيت من القياصرة والأكاسرة وجيوشهم.
لقد كانت النبوات السابقة محلية مؤقتة، محدودة الزمان والمكان، حيث كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، ورغم محدودية طبيعة هذه النبوات إلا أن بعض الأديان السماوية، وكثيرا من الديانات الوضعية قد حاولت نشر مبادئها بالعنف والقهر اللذين صاحبا غالبية هذه المحاولات، ويكفي للتدليل على هذا ما قام به “أمنحتب”، حيث فرض على شعبه عبادة إله الشمس “آتون”، وأغلق معابد الآلهة، وحطم صورها، واضطهد المخالفين.
من يطالع نصوص الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يجد نصوصا صريحة تدلل على صحة ما ذهبنا إليه، ولم يقتصر الأمر على المخالفين في العقيدة، بل شمل أبناء العقيدة الواحدة، مثل ما حدث للبروتستانت على يد الكاثوليك في باريس، وما حدث للأرثوذكس في مصر على يد الكاثوليك الرومان بعد “مؤتمر خلقدونيا” لبحث طبيعة المسيح؛ حيث وصل عدد القتلى إلى أكثر من مليون قتيل أرثوذكسي.
ولم تكن الكشوف الجغرافية الأوربية في مطلع العصر الحديث خالصة لوجه الحضارة والمدنية، فقد ارتكب المنصرون الذين رافقوا هذه الرحلات من الأعمال البشعة ما لا يليق بالإنسانية، فقد أبادوا مثلا الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا، وكذا فعلوا في بقية مستعمراتهم الجديدة، فحين اكتشف الإسبان جزيرة هاييتي في بحر الكاريبي أبدوا من ضروب الوحشية ما لم يسبق له مثيل، متفننين في تعذيب سكانها بقطع أناملهم، وفقء عيونهم، وصب الزيت المغلي والرصاص المذاب في جراحهم، أو بإحراقهم أحياء على مرأى ومسمع من الأسرى؛ ليعترفوا بمخابئ الذهب، أو ليهتدوا إلى الدين.
لما ضعفت شوكة المسلمين في الأندلس والقوقاز والبلقان وغيرها أبدى النصارى حقدهم وعنصريتهم تجاه المسلمين، ففعلوا بهم ما يندى له الجبين، فسيف الإسلام الطاهر أم هذه الهمجية العنصرية؟!
فالحرب إذن سنة كونية لم يخل منها تاريخ أمة بشرية، لكن هناك فرقا بين أن تكون استبدادية استعمارية، وبين أن تكون شرعية جهادية.
 
 
 
(*) المسيحية والإسلام والاستشراق، محمد فاروق الزين، دار الفكر، دمشق، ط3، 2003م. تاريخ الشعوب العربية، ألبرت حوراني، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1997م. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتيين دينيه (سليمان الجزائري)، ترجمة: عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1986م. التبشير العالمي ضد الإسلام، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة النور، القاهرة، 1413هــ / 1992م. بين الإسلام والمسيحية، أبو عبيدة الخزرجي، تحقيق: محمد عبد الغني شامة، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1975م. الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، القرافي. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/2000م. قضايا إسلامية: مناقشات وردود، محمد رجب البيومي، الوفاء للطباعة، مصر، 1984م. المستشرقون والقرآن، إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410هـ/ 1990م. القرآن والرسول ومقولات ظالمة، عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2002م. آثار الحرب في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، 1998م. التعصب الصليبي، عمر عبد العزيز قريشي، دار الاستقامة، القاهرة، 1996م. المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1420هـ/ 1999م. صورة الإسلام في الإعلام الغربي، محمد بشارى، دار الفكر، دمشق، 2004م. الغرب والإسلام: أين الخطأ وأين الصواب، محمد عمارة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2004م. قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ. الإسلام دين عام خالد: تحليل دقيق لمبادئ الإسلام، محمد فريد وجدي، مجلة الأزهر، القاهرة، 1426هـ. القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث، كارين أرمسترونج، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1998م. الإسلام بين الحقيقة والادعاء، مجموعة علماء، الشركة المتحدة للطباعة والنشر، مصر، 1996م. الإرهاب صناعة غير إسلامية، نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، القاهرة، 2002م. الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، 1987م. بنو إسرائيل من التاريخ القديم وحتى الوقت الحاضر، محمد الحسيني إسماعيل، مكتبة وهبة، القاهرة، 2002م. رد مفتريات على الإسلام، عبد الجليل شلبي، دار القلم، الكويت، 1402هـ/ 1982م. الإسلام وأوربا: تعايش أم مجابهة، إنجي كارلسون، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2003م. الإسقاط في مناهج المستشرقين والمبشرين، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط2، 1419هـ. الإسلام الأصولي في وسائل الإعلام العربية من وجهة أمريكية، برنارد لويس، دار الجيل، 1994م. الإسلام والحرب في الشريعة الإسلامية، محمود محمد طنطاوي، 1996م. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م. سر المؤامرة الكبرى، محمد عبد الحليم عبد الفتاح. ظلام من الغرب، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، 2003م. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد، مطبعة مصر، القاهرة، 1376هـ/ 1957م. هيمنة القرآن المجيد على ما جاء في العهد القديم والجديد، مها محمد فريد عقل، 2002م.
 
[1]. عالمية الإسلام، رجائي عطية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مصر، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص12، 13.
 
[2]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص9.
 
[3]. لجوا: صاحوا واختلطت أصواتهم.
 
[4]. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ألمانيا، ط1، 1993م، ص233.
 
[5]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وزارة الأوقاف، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص440.
 
[6]. العرصات: جمع عرصة، وهي الموضع الواسع الذي لا بناء فيه، أو وسط الدار، والمقصود من عبارة “يزأر في عرصات الدنيا دون تهيب”: أي يعيث فسادا فيها.
 
[7]. الوجل: الخوف.
 
[8]. سماحة الإسلام، د. عمر قريشي، مكتبة الأديب، الرياض، ط1، 2003م، ص181، 182.
 
[9]. صبح الأعشى، القلقشندي، تحقيق: يوسف علي الطويل، دار الفكر، دمشق، ط1، 1987م، ج6، ص364.
 
[10]. تتفيأ: تستظل.
 
[11]. الكنف: الناحية أو الظل.
 
[12]. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، النهضة المصرية، القاهرة، ط13، ج1، ص456 وما بعدها. روح الإسلام، عطية الإبراشي، الهيئة المصرية العامة للكناب، القاهرة، 2003م، ص110 وما بعدها.
 
[13]. الشانئون: الحاقدون.
 
[14]. يرزأ: يصاب.
 
[15]. نظرات في تاريخ الخلفاء الراشدين، حلمي صابر، طبعة خاصة، 2001م، ص159.
 
[16]. نظرات في تاريخ الخلفاء الراشدين، حلمي صابر، طبعة خاصة، 2001م، ص159.
 
[17]. يوغر: يغيظ.
 
[18]. المراء: الجدال والشك.
 
[19]. اللدد: الخصومة الشديدة.
 
[20]. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، طـ3، 1992م، ص6: 8.
 
[21]. العجرفة: جفوة في الكلام، وخرق في العمل.
 
[22]. المزمع: أي الشيء الذي انعقد العزم على القيام به.
 
[23]. الكنة: امرأة الابن أو الأخ، والجمع كنائن.
 
[24]. www. ebnmaryam. com.
 
[25]. الإمبراطورية البيزنطية، ترجمة: د. حسين مؤنس، محمد زايد، ص107. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص112.
 
[26]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص113، 114 بتصرف يسير.
 
[27]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط6، 1425هـ/ 2004م، ص115، 116 بتصرف.
 
[28]. الإرهاب صناعة غير إسلامية، نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، القاهرة، 2002م، ص86، 87.
 
[29]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/1985م، ج3، ص280.
 
[30]. نظرية الحرب في الإسلام، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1425هـ/2004م، ص12، 13.
 
[31]. سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله والعلاقات الإنسانية منهاجا وسيرة، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/1993م، ص148: 151.
 
[32]. الأهبة: الاستعداد الكامل.
 
[33]. رسالة القتال، ابن تيمية، مجموع الرسائل النجدية، دار المعرفة، بيروت.
 
[34]. الخصلة: هي خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة، والجمع خصال.
 
[35]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب فتح مكة (4724).
 
[36]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د. حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص123.
 
[37]. تاريخ الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، طـ5، 1987م، ج4، ص109. معالم تاريخ مصر الإسلامية، د. عبد الفتاح فتحي، د. جمال فوزي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1999م، ص40: 42.
 
[38]. النوب: سكان البلاد الواقعة في جنوب مصر وشمال السودان.
 
[39]. اللصوت: اللصوص.
 
[40]. اليعاقبة: فرقة من النصارى، وهم أتباع يعقوب البراذعي الذي عاش في الشام في القرن السادس عشر الميلادي، يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت، ويعرفون بـ “أصحاب الطبيعة الواحدة”.
 
[41]. السواد الأعظم: معظم الناس.
 
[42]. انظر: محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص143: 177. تاريخ العصور الوسطى، نورمان كانتور، ترجمة: د. علي الغمراوي، د. قاسم عبده، مكتبة سعيد رأفت، 1: 265.
 
[43]. الطبقات الكبير، ابن سعد، الطبقات الكبير، ج7، ص373. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص123، 124.
 
[44]. كتاب الخراج، أبو يوسف، تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا، دار الإصلاح، القاهرة، ص265.
 
[45]. فتوح البلدان، البلاذري، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، النهضة المصرية، القاهرة، ص97. كتاب الأموال، ابن سلام، تحقيق: محمد خليل هراس، دار الفكر، 1981م، ص35.
 
[46]. فتوح البلدان، البلاذري، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، النهضة المصرية، القاهرة، د. ت، ص98. العالم الإسلامي في العصر الأموي: دراسة سياسية، د. عبد الشافي عبد اللطيف، ط1، 1984م، ص373.
 
[47]. تاريخ الطبري، ابن جرير الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، طـ5، 1987م، ج3، ص609.
 
[48]. التاريخ الحربي المصري في عهد صلاح الدين، د. نظير سعداوي، النهضة المصرية، القاهرة، 1957م، ص192، 193.
 
[49]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، 271: 273. المسلمون في القوقاز والبلقان زمن العثمانيين، د. جمال فوزي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001، ص29، 30.
 
[50]. صحيح: أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم ( 18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).
 
[51]. الإنكشارية: فرقة كان لها مركز ممتاز بين فرق الجيش العثماني، وكانوا ينشئون على الولاء للسلطان ويدربون تدريبا عسكريا قويا، ظفرت هذه الفرقة بسلطة كبيرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر تجاوزت دورها العسكري.
 
[52]. تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد، ص59: 61. الحروب العثمانية الفارسية وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوربا، محمد هريدي، دار الصحوة، ط1، 1987م، ص35.
 
[53]. موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1982م، ج1، ص46: 63 بتصرف.
 
[54]. الهراطقة: المبتدعون في الدين عند المسيحيين.
 
[55]. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ط1، 1993م، ص22.
 
[56]. Short history of Africa، رولاند أوليفر، نقلا عن : موسوعة التاريخ الإسلامي، د. أحمد شلبي، النهضة المصرية، القاهرة، ط6، 1982م، 1/ 640، 641.
 
[57]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص71.
 
[58]. حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، ترجمة: عبد العزير جاويش، وعبد الحميد العبادي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1994م، ص127، 128.
 
[59]. حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، ترجمة: عبد العزير جاويش، وعبد الحميد العبادي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1994م، ص135.
 
[60]. أسطورة تجسد الإله في السيد المسيح، ص211.
 
[61]. صحيح: أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).
 
[62]. العالم الإسلامي في العصر الأموي: دراسة سياسية، د. عبد الشافي عبد اللطيف، طبعة خاصة، ط1، 1984م، د. ت، ص377، 378.
 
[63]. العالم الإسلامي في العصر الأموي: دراسة سياسية، د. عبد الشافي عبد اللطيف، طبعة خاصة، ط1، 1984م، د. ت، ص382، 383.
 
[64]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، ص79.
 
[65]. العالم الإسلامي في العصر الأموي: دراسة سياسية، د. عبد الشافي عبد اللطيف، طبعة خاصة، ط1، 1984م، د. ت، ص379.
 
[66]. الكامل في التاريخ، ابن الأثير، دار الفكر، بيروت، د. ت، ج8، ص189. ماهية الحروب الصليبية، د. قاسم عبده، عالم المعرفة، ص129.
 
[67]. إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى، السيوطي، تحقيق: د. أحمد رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1982م، ج1، ص247.
 
[68]. البوسنة والهرسك: من الفتح إلى الكارثة، د. محمد حرب، المركز المصري للدراسات العثمانية، القاهرة، 1993م، صفحات متفرقة. صرب يوغسلافيا وحرب إبادة المسلمين، مقال بمجلة الوعي الإسلامي الكويتية، العدد 332. البوسنة والهرسك أكبر سجن للحرية، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 337، رمضان 1414هـ.
 
[69]. البوسنة والهرسك: من الفتح إلى الكارثة، د. محمد حرب، المركز المصري للدراسات العثمانية، القاهرة، 1993م، ص191.
 
[70]. المقت: البغض.
 
[71]. المسلمون المنصرون، د. عبد الله جمال الدين، دار الصحوة، ط1، 1991م، صفحات كثيرة متفرقة.
 
[72]. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب المقري، دار الفكر، بيروت، ج4، ص527.
 
[73]. الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد، ترجمة. د: حسن إبراهيم وآخرين، النهضة المصرية، القاهرة، 1970م، 167، 168.
 
[74]. أربوا: زادوا.
 
[75]. المسلمون المنصرون، د. عبد الله جمال الدين، دار الصحوة، القاهرة، ط1، 1991م، ص45.
 
[76]. الأعلاج: جمع علج، وهو كل جاف وشديد من الرجال، والعلج يأتي بمعنى الحمار أيضا.
 
[77]. اللياط: جمع الليطة، وهي قشرة القصبة والقوس والقناة، وكل شيء له متانة.
 
[78]. الذبل: الجفاف واليبوسة التي تصيب النبات أو الزرع.
 
[79]. الردية: القبيحة، أو المهلكة.
 
[80]. المسلمون المنصرون، د. عبد الله جمال الدين، دار الصحوة، القاهرة، ط1، 1991م، ص41: 43.
 
[81]. الغابرة: البعيدة في الزمن.
 
[82]. جريدة الأيام القاهرية، عدد 17130، 2000م.
 
[83]. المسلمون في القوقاز، د. إبراهيم العدوي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1996م، ص40 : 43. المسلمون في القوقاز والبلقان زمن العثمانيين، د. جمال فوزي، دار الثقافة العربية، 2001، ص39 : 42. المسلمون في آسيا الوسطى والقوقاز، مصطفى كسبة، هدية مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1414هـ، ص130 : 133.
 
[84]. الجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا، د. أحمد عبد القادر الشاذلي، طبعة خاصة، 1994م، ص69 وما بعدها. الغرب والإسلام في أوزبكستان، منروف، بيروت، طـ1، 1996م، ص395، 401 وما بعدها.
 
[85]. هل نعلن موت الأمة؟! فهمي هويدي، مقال بجريدة الأهرام القاهرية، بتاريخ 14/ 12/ 1999م.
 
[86]. صحيح: أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).
 
[87]. مقال: هل نعلن موت الأمة؟ فهمي هويدي، مقال بجريدة الأهرام القاهرية، بتاريخ 14/ 12/ 1999م.
 
[88]. الناجمة: المترتبة أو الناتجة.

هل الإسلام انتشر بالسيف، ويحبذ العنف؟

الرد على الشبهة:

وهى من أكثر الشبه انتشارًا، ونرد عليها بالتفصيل حتى نوضح الأمر حولها:

يقول الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1) .

إن هذا البيان القرآنى بإطاره الواسع الكبير، الذى يشمل المكان كله فلا يختص بمكان دون مكان، والزمان بأطواره المختلفة وأجياله المتعاقبة فلا يختص بزمان دون زمان، والحالات كلها سلمها وحربها فلا يختص بحالة دون حالة، والناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم فلا يختص بفئة دون فئة؛ ليجعل الإنسان مشدوها متأملاً فى عظمة التوصيف القرآنى لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) رحمة عامة شاملة، تجلت مظاهرها فى كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تجاه الكون والناس من حوله.

والجهاد فى الإسلام حرب مشروعة عند كل العقلاء من بنى البشر، وهى من أنقى أنواع الحروب من جميع الجهات:

1- من ناحية الهدف.

2- من ناحية الأسلوب.

3- من ناحية الشروط والضوابط.

4- من ناحية الإنهاء والإيقاف.

5- من ناحية الآثار أو ما يترتب على هذه الحرب من نتائج.

وهذا الأمر واضح تمام الوضوح فى جانبى التنظير والتطبيق فى دين الإسلام وعند المسلمين.

وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة، إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامى الحنيف، والإصرار على جعله طرفاً فى الصراع وموضوعاً للمحاربة، أحدث لبساً شديداً فى هذا المفهوم ـ مفهوم الجهاد ـ عند المسلمين، حتى شاع أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنه يدعو إلى الحرب وإلى العنف، ويكفى فى الرد على هذه الحالة من الافتراء، ما أمر الله به من العدل والإنصاف، وعدم خلط الأوراق، والبحث عن الحقيقة كما هى، وعدم الافتراء على الآخرين، حيث قال سبحانه فى كتابه العزيز: (لِمَ تَلبِسُونَ الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (2) .

ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربى كبير هو توماس كارليل، حيث قال فى كتابه ” الأبطال وعبادة البطولة ” ما ترجمته: ” إن اتهامه ـ أى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها ” (3) .

ويقول المؤرخ الفرنسى غوستاف لوبون فى كتابه ” حضارة العرب ” وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام فى عهده صلى الله عليه وسلم وفى عصور الفتوحات من بعده ـ: ” قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التى قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار فى الهند ـ التى لم يكن العرب فيها غير عابرى سبيل ـ ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً فى الصين التى لم يفتح العرب أى جزء منها قط، وسترى فى فصل آخر سرعة الدعوة فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا فى الوقت الحاضر ” (4) .

هذا وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عاماً، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل فى الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة عظيمة يغرى بها هؤلاء الداخلين، ولم يكن إلا الدعوة، والدعوة وحدها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمَّل المسلمون ـ لاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم ـ من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسى عن تحمله، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة فى الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتدّ سخطاً عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين فى النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء، وسنتكلم هنا على الجانبين التنظيرى والتطبيقى، ونقصد بالتنظيرى ما ورد فى مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) ، ونعنى بالتطبيقى ما حدث عبر القرون ابتداء من الحروب التى شارك فيها النبى صلى الله عليه وسلم، وانتهاء بعصرنا الحاضر، ثم نختم ببيان هذه النقاط الخمسة التى ذكرناها سابقاً.

أولاً: الجانب التنظيرى

ورد فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية آيات وأحاديث تبين شأن الجهاد فى الإسلام، ويرى المطالع لهذه الآيات والأحاديث، أن المجاهد فى سبيل الله، هو ذلك الفارس النبيل الأخلاقى المدرب على أخلاق الفروسية العالية الراقية؛ حتى يستطيع أن يمتثل إلى الأوامر والنواهى الربانية التى تأمره بضبط النفس قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة، فقبل المعركة يجب عليه أن يحرر نفسه من كل الأطماع، وألا يخرج مقاتلا من أجل أى مصلحة شخصية، سواء كانت تلك المصلحة من أجل نفسه أو من أجل الطائفة التى ينتمى إليها، أو من أجل أى عرض دنيوى آخر، وينبغى أن يتقيد بالشروط التى أحل الله فيها الجهاد، وأن يجعل ذلك لوجه الله تعالى، ومعنى هذا أنه سوف يلتزم بأوامر الله، ويستعد لإنهاء الحرب فوراً، إذا ما فقدت الحرب شرطاً من شروط حلها أو سبباً من أسباب استمرارها، وسواء أكان ذلك الفارس منتصراً، أو أصابه الأذى من عدوه، فإن الله يأمره بضبط النفس، وعدم تركها للانتقام، والتأكيد على الالتزام بالمعانى العليا، وكذلك الحال بعد القتال، فإنه يجب عليه أن يجاهد نفسه الجهاد الأكبر؛ حتى لا يتحول الفارس المجاهد إلى شخصٍ مؤذٍ لمجتمعه أو لجماعته أو للآخرين، وبالرغم من أن لفظة الجهاد إذا أطلقت انصرف الذهن إلى معنى القتال فى سبيل الله. إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسماه بالجهاد الأصغر، وسمى الجهاد المستمر بعد القتال بالجهاد الأكبر؛ لأن القتال يستمر ساعات أو أيام، وما بعد القتال يستغرق عمر الإنسان كله.

وفيما يلى نورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التى تحدثت عن هذه القضية، ثم بعد ذلك نستخرج منها الأهداف والشروط والضوابط والأساليب، ونعرف منها متى تنتهى الحرب، والآثار المترتبة على ذلك:

أولاً: القرآن الكريم:

1- (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (5) .

2- (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) (6) .

3- (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (7) .

4- (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) (8) .

5- (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) (9) .

6- (ولا تحسبن الذين قُتِلُوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرْزَقُون) (10) .

7- (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا فى سبيلى وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم) (11) .

8- (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيُقتل أو يَغِلب فسوف نؤتيه أجرا عظيماً) (12) .

9- (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيراً) (13) .

10- (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) (14) .

11- (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولوكره المجرمون) (15) .

12- (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (16) .

13- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) (17) .

14 (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) (18) .

15- (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (19) .

16- (يا أيها النبى قل لمن فى أيديكم من الأسرى إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم) (20) .

17- (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (21) .

18- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فَيَقتُلُون وَيُقتَلُون) (22) .

19- (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُون بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا رَبُّنَا الله) (23) .

ثانياً: الأحاديث النبوية الشريفة:

1- عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ” تكفل الله لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد فى سبيله وتصديق كلمته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ” (24) .

2- عن وهب بن منبه، قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبى صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: ” سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ” (25) .

3- عن سعد بن زيد بن سعد الأشهلى أنه أهدى إلى رسول صلى الله عليه وسلم سيفاً من نجران فلما قدم عليه أعطاه محمد بن مسلمة، وقال: ” جاهد بهذا فى سبيل الله فإذا اختلفت أعناق الناس فاضرب به الحجر، ثم ادخل بيتك وكن حلساً ملقى حتى تقتلك يد خاطئة أو تأتيك منية قاضية. قال الحاكم: فبهذه الأسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع على ـ رضى الله عنه ـ وقتال من قاتله ” (26) .

4- عن سعيد بن جبير قال: ” خرج علينا أو إلينا ابن عمر فقال رجل كيف ترى فى قتال الفتنة فقال وهل تدرى ما الفتنة كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس كقتالكم على الملك ” (27) .

5- عن عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنى أريد الجهاد فقال: ” أحى والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد ” (28) .

ويتضح من هذه الآيات والأحاديث أن هدف الحرب فى الإسلام يتمثل فى الآتى:

1- رد العدوان والدفاع عن النفس.

2- تأمين الدعوة إلى الله وإتاحة الفرصة للضعفاء الذين يريدون اعتناقها.

3- المطالبة بالحقوق السليبة.

4- نصرة الحق والعدل.

ويتضح لنا أيضا أن من شروط وضوابط الحرب:

(1) النبل والوضوح فى الوسيلة والهدف.

(2) لا قتال إلا مع المقاتلين ولا عدوان على المدنيين.

(3) إذا جنحوا للسلم وانتهوا عن القتال فلا عدوان إلا على الظالمين.

(4) المحافظة على الأسرى ومعاملتهم المعاملة الحسنة التى تليق بالإنسان.

(5) المحافظة على البيئة ويدخل فى ذلك النهى عن قتل الحيوان لغير مصلحة وتحريق الأشجار، وإفساد الزروع والثمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت.

(6) المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان وعدم التعرض لهم.

الآثار المترتبة على الجهاد

يتضح لنا مما سبق أن الجهاد فى الإسلام قد اتسم بنبل الغاية والوسيلة معا، فلا غرو أن تكون الآثار والثمار المتولدة عن هذا الجهاد متناسقة تماما فى هذا السياق من النبل والوضوح؛ لأن النتائج فرع عن المقدمات، ونلخص هذه الآثار فى النقاط التالية:

(1) تربية النفس على الشهامة والنجدة والفروسية.

(2) إزالة الطواغيت الجاثمة فوق صدور الناس، وهو الشر الذى يؤدى إلى الإفساد فى الأرض بعد إصلاحها.

(3) إقرار العدل والحرية لجميع الناس مهما كانت عقائدهم.

(4) تقديم القضايا العامة على المصلحة الشخصية.

(5) تحقيق قوة ردع مناسبة لتأمين الناس فى أوطانهم.

يقول الله سبحانه وتعالى فى سورة الحج:

(الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) (29) .

قال الإمام القرطبى عند تفسيره لهذه الآية:

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) أى لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة. فالجهاد أمر متقدم فى الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أذن فى القتال، فليقاتل المؤمنون. ثم قوى هذا الأمر فى القتال بقوله: (ولولا دفع الله الناس) الآية؛ أى لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق فى كل أمة. فمن استشبع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقى الدين الذى يذب عنه. وأيضاً هذه المواضع التى اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أى لولا هذا الدفع لهُدمت فى زمن موسى الكنائس، وفى زمن عيسى الصوامع والبيع، وفى زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. ” لهدمت ” من هدمت البناء أى نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل فى تأويل الآية ” (30) .

ثانياً: الناحية التطبيقية

(1) حروب النبى صلى الله عليه وسلم:

(أ) الحرب ظاهرة اجتماعية:

الحرب ظاهرة إنسانية قديمة قدم الإنسان على ظهر هذه البسيطة، فمنذ وُجد الإنسان وهو يصارع ويحارب، وكعلاقة من العلاقات الاجتماعية الحتمية نشأت الحرب، فالاحتكاك بين البشر لابد وأن يُوَلِّد صداماً من نوع ما، لقد جبل الإنسان على غريزة التملك التى تدعوه إلى التشبث بما يملكه، حيث إن هذه الغريزة هى التى تحفظ عليه البقاء فى الحياة، وهى بالتالى التى تتولد عنها غريزة المقاتلة، فى أبسط صورها دفاعاً عن حقه فى الاستمرار والحياة، وقد تتعقد نفسية الإنسان وتصبح حاجاته ومتطلباته مركبة، فلا يقاتل طالباً للقوت أو دفاعاً عنه فقط، وإنما يقاتل طلباً للحرية ورفعاً للظلم واستردادا للكرامة. ويُفَصِّل العلامة ابن خلدون هذه الحقيقة فى مقدمته فيقول: ” اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة فى الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان؛ إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعى فى البشر، إما غيرة ومنافسة وإما عدوان وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعى فى تمهيده ” (31) .

(ب) الحرب فى الكتب المقدسة قبل الإسلام:

إذا ما تجاوزنا الأمم والحضارات البشرية، وتأملنا فى الكتب السماوية المقدسة (التوراة ـ الإنجيل) ، نرى أن هذه الكتب المقدسة قد تجاوزت الأسباب المادية الغريزية التى يقاتل الإنسان من أجلها إلى أسباب أكثر رُقِيًّا وحضارة، فبعد أن كان الإنسان يقاتل رغبة فى امتلاك الطعام أو الأرض، أو رغبة فى الثأر الشخصى من الآخرين، أو حتى ردا للعدوان، نرى أن الكتب المقدسة قد أضافت أسباباً أخرى، أسباباً إلهية تسمو بالبشرية عن الدنايا وظلم الآخرين، إلى بذل النفس إقامة للعدل، ونصرة للمظلوم، ومحاربة للكفر والخروج عن منهج الله، لقد حددت الكتب السماوية المناهج والأطر التى يُسْمَح فيها بإقامة القتال وعبرت بالإنسان مرحلة بناء المجد الشخصى المؤسس على الأنا، إلى مرحلة التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية العليا، التى تعمل فى إطار الجماعة البشرية لا فى محيط الفرد الواحد.

الحرب فى العهد القديم:

وردت أسباب الحرب فى ست وثلاثين آية تقع فى ثمانية أسفار من أسفار العهد القديم هى: (التكوين ـ العدد ـ التثنية ـ يوشع ـ القضاة ـ صموئيل الأول ـ الملوك الثانى ـ حزقيال) .

(1) ففى سفر العدد ـ الإصحاح الثالث عشر، ورد ما يفيد أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد خروجه بقومه من مصر بعث رسلا يتحسسون أمر أرض كنعان ـ فلسطين ـ ليستقروا فيها:

” فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بنى إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبرًا وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التى أرسلتنا إليها وحقا إنها تفيض لبناً وعسلاً وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن فى الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً وأيضا قد رأينا بنى عناق هناك ” (32) .

(2) وجاء فى سفر صموئيل الأول ـ الإصحاح الخامس والعشرون:

” فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزى ومائى وذبيحى الذى ذبحت لجارى وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه وتقلد داود سيفه وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجل ومكث مائتان مع الأمتعة ” (33) .

(3) وفى سفر الملوك الثانى ـ الإصحاح الثالث:

” وكان ميشع ملك موآب الثانى صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك موآب على ملك إسرائيل وخرج الملك يهورام فى ذلك اليوم من السامرة وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك موآب، فهل تذهب معى إلى موآب للحرب؟ ” (34) .

(4) جاء فى حزقيال الإصحاح الواحد والعشرون:

” وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم وتكلم على المقادس وتنبأ على أرض إسرائيل وقل لأرض إسرائيل هكذا قال الرب هأنذا عليك وأستل سيفى من غمده فأقطع منه الصديق والشرير من حيث إنى أقطع منك الصديق والشرير فلذلك يخرج سيفى من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال فيعلم كل بشر أنى أنا الرب سللت سيفى من غمده لا يرجع أيضاً ” (35) .

(5) وجاء فى سفر يوشع الإصحاح الثالث والعشرون:

” وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هو المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التى قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون أرضهم كما كلمكم الرب إلهكم ” (36) .

(6) وجاء فى سفر القضاة الإصحاح الأول:

” وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل “.

(7) وفى سفر القضاة الإصحاح الثامن عشر:

” فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذى له وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن فضربوهم بحد السيف وأحرقوا المدينة بالنار ولم يكن مَنْ ينقذ لأنها بعيدة عن صيدون ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهى فى الوادى الذى لبيت رحوب فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذى ولد لإسرائيل ولكن اسم المدينة أولا: لايش ” (37) .

(8) وفى صموئيل الأول الإصحاح الرابع:

” وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا فى أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل واشتبكت الحرب فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضربوا من الصف فى الحقل نحو أربعة آلاف رجل ” (38) .

(9) وفى التكوين الإصحاح الرابع والثلاثون:

” فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب شمعون ولاوى أخوى دينة أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما فى البيوت ” (39) .

(10) وفى سفر التكوين الإصحاح الرابع عشر:

” فلما سمع إبرام أن أخاه سبى جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التى من شمال دمشق واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب ” (40) .

(11) وفى سفر العدد الإصحاح الواحد والعشرون:

” فقال الرب لموسى لا تخف منه لأنى قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن فى حبشون فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبق لهم شارد وملكوا أرضه ” (41)

(12) وفى سفر العدد الإصحاح الخامس والعشرون:

” ثم كلم الرب موسى قائلا ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التى كادوكم بها ” (42) .

(13) وفى سفر العدد الإصحاح الثالث والثلاثون:

تطالعنا التوراة، أن الله قد أمر موسى ـ عليه السلام ـ أن يشن حرباً على أقوام قد عبدوا غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ: ” وكلم الرب موسى فى عربات مو آب على أردن أريحا قائلا: ” كلم بنى إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وتمحون جميع تصاويرهم وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتخربون جميع مرتفعاتهم ” (43) .

(14) وشبيه به ما ورد فى سفر صموئيل الإصحاح السابع عشر آية 45: 47

” فقال داود للفلسطينى: أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم 000 فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل ” (44) .

(15) وفى سفر صموئيل الأول الإصحاح الثالث والعشرون:

” فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم وضربهم ضربة عظيمة وخلص داود سكان قعيلة ” (45) .

(16) فى سفر المزامير المزمور الثامن عشر:

يسبح داود الرب ويمجده لأنه يعطيه القوة على محاربة أعدائه: ” الذى يعلم يدى القتال فتحنى بذراعى قوس من نحاس.. أتبع أعدائى فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلى تمنطقنى بقوة للقتال تصرع تحتى القائمين على وتعطينى أقفية أعدائى ومبغضى أفنيهم ” (46) .

هذه بعض من حروب بنى إسرائيل التى سجلتها نصوص كتبهم وأسفارهم، فمفهوم الحرب والقتال، ليس مفهوماً كريهاً من وجهة النظر التوراتية، وكأنها حروب مستمدة من الشريعة الدينية التوراتية، وهى كانت دائما تتم بمباركة الرب ومعونته وكأن الرب ـ حسب تعبير التوراة ـ قد استل سيفه من غمده فلا يرجع (47) .

الحرب فى العهد الجديد:

كذلك نرى الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية، بل جاء نص واضح صريح، لا يحتمل التأويل ولا التحريف يقرر أن المسيحية على الرغم من وداعتها وسماحتها التى تمثلت فى النص الشهير ” من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر ” ـ إلا أنها تشير إلى أن السيد المسيح ـ عليه السلام ـ قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الظروف لذلك؛ فجاء فى الإنجيل على لسان السيد المسيح:

” لا تظنوا أنى جئت لأرسى سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسى سلاماً، بل سيفاً، فإنى جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها والكنة مع حماتها وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته ” (48) .

ولعلنا نلاحظ التشابه الكبير بين هذه المقولة وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده] (49) .

مما سبق يتبين لنا واضحاً وجليا أن الحرب والقتال سنة كونية سرت فى الأمم جميعاً، ولم نر فى تاريخ الأمم أمة خلت من حروب وقتال، ورأينا من استعراض الكتب المقدسة ـ التوراة والإنجيل ـ أنه سنة شرعية لم تخل شريعة من الشرائع السماوية السابقة على الإسلام من تقريره والقيام به كما مر.

لقد كان هذا القدر كافيا فى إثبات أن محمداً صلى الله عليه وسلم سائر على سنن من سبقه من الأنبياء، وأن الجهاد لتقرير الحق والعدل مما يمدح به الإسلام؛ لا مما به يشان، وأن ما هو جواب لهم فى تبرير هذه الحروب وسفك الدماء كان جواباً لنا فى مشروعية ما قام به النبى صلى الله عليه وسلم من القتال والجهاد.

ولنشرع الآن فى تتميم بقية جوانب البحث مما يزيل الشبهة ويقيم الحجة ويقطع الطريق على المشككين، فنتكلم عن غزوات النبى صلى الله عليه وسلم، ممهدين لذلك بالحالة التى كانت عليها الجزيرة العربية من حروب وقتال وسفك للدماء لأتفه الأسباب وأقلها شأناً، حتى يبدو للناظر أن القتال كان غريزة متأصلة فى نفوس هؤلاء لا تحتاج إلى قوة إقناع أو استنفار.

الحرب عند العرب قبل الإسلام

سجلت كتب التاريخ والأدب العربى ما اشتهر وعرف بأيام العرب، وهى عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التى نشبت بين العرب قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم، وليس يعنينا سرد هذه الملاحم وتفاصيلها ولكن الذى يعنينا هنا أن نقف على بعض الجوانب التى تصلح للمقارنة (الأسباب ـ الزمن المستغرق ـ الآثار التى خلفتها هذه الحروب) .

قال العلامة محمد أمين البغدادى: ” اعلم أن الحروب الواقعة بين العرب فى الجاهلية أكثر من أن تحصر، ومنها عدة وقائع مشهورة لا يتسع هذا الموضع لذكرها ولنذكر بعضاً منها على سبيل الإجمال ” (50) .

وقد ذكرت كتب التواريخ أياماً كثيرة للعرب (البسوس ـ وداحس والغبراء ـ يوم النسار ـ يوم الجفار ـ يوم الفجار ـ يوم ذى قار ـ يوم شعب جبلة ـ يوم رحرحان 000 إلخ) والمتأمل فى هذه الملاحم والأيام يرى أن الحماسة الشديدة والعصبية العمياء وعدم الاكتراث بعواقب الأمور والشجاعة المتهورة التى لا تتسم بالعقل، كانت هى الوقود المحرك لهذه الحروب، هذا فضلاً عن تفاهة الأسباب التى قامت من أجلها هذه المجازر، والمدة الزمنية الطويلة التى استمرت فى بعضها عشرات السنين، والآثار الرهيبة التى خلفتها هذه الحروب، وعلى الرغم من أننا لم نقف على إحصاء دقيق لما خلفته هذه الحروب إلا أن الكلمات التى قيلت فى وصف آثارها من الفناء والخراب وتيتم الأطفال وترمل النساء 000 إلخ لتوقفنا على مدى ما أحدثته الحرب فى نفوس الناس من اليأس والشؤم، ويصف لنا الشاعر زهير بن أبى سلمى طرفاً من ذلك فى معلقته المشهورة وهو يخاطب الساعين للسلام بين عبس وذبيان:

تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

فهو يقول للساعين للسلام: إنكما بتحملكما ديات الحرب من مالكما، أنقذتما عبسا وذبيان بعدما يأسوا، ودقوا بينهما عطر منشم، ومنشم هو اسم لامرأة كانت تبيع العطر يضرب بها المثل فى التشاؤم، دليل على عظم اليأس الذى أصاب نفوس الناس من انتهاء هذه الحرب (51) .

هذه إطلالة سريعة ومختصرة على الحروب وأسبابها لدى العرب قبل الإسلام والآن نشرع فى الكلام على تشريع الجهاد فى الإسلام ثم نتبع ذلك بتحليل موثق لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم.

الجهاد فى شرعة الإسلام:

لما استقر النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأسس حكومته النبوية بها، بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة إلى الله وتحمل الأذى والعذاب فى سبيل ذلك تخللتها ثلاث هجرات جماعية كبيرة ـ هاجت ثائرة قريش وحقدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحرزه من استقرار ونجاح لهذه الدولة الوليدة ـ دون ظلم أو استبداد أو سفك للدماء ـ ولذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم مقصوداً بالقتل، إذ ليس معقولاً أن تنام أعينهم على هذا التقدم والنمو، ومصالحهم قائمة على الزعامة الدينية فى جزيرة العرب، وهذه الدولة الجديدة قائمة على أساس دينى ربما يكون سبباً فى زوال هذه الزعامة الدينية الوثنية الموروثة. وإذا كان الإسلام ديناً بلغت الميول السلمية فيه مداها فى قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام) (53) إلا أن الميول السلمية لا تتسع لمنع القائمين بهذا الدين الجديد من الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم الذى أنزله الله للإنسانية كافة، فى عالم يضيع فيه الحق والعدل إن لم يكن لهما قوة تحميهما، فكان لا مناص من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذى يشهره خصومهم فى وجوههم، ولذلك كان التعبير بقوله تعالى: (أُذِنَ للذين يُقَاتَلُونَ بأنهم ظُلِمُوا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز) (53) .

أقول: كان التعبير بالإذن الذى يدل على المنع قبل نزول الآية يدل على طروء القتال فى الإسلام وأنه ظل ممنوعاً طيلة العهد المكى وبعضاً من العهد المدنى.

” هذا ولم يغفل الإسلام حتى فى هذا الموطن ـ موطن الدفاع عن النفس والدين ـ أن ينصح لأتباعه بعدم العدوان؛ لأن الموضوع حماية حق لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات الصدور، وهذا من مميزات الحكومة النبوية، فإن القائم عليها من نبى يكون كالجراح يضع مشرطه حيث يوجد الداء لاستئصاله، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة، ومقصده استبقاء حياة المريض لا قتله، والعالم كله فى نظر الحكومة النبوية شخص مريض تعمل لاستدامة وجوده سليماً قوياً.. إن طبيعة هذا العالم مبنية على التدافع والتغالب ليس فيما بين الناس فحسب، ولكن فيما بينهم وبين الوجود المحيط بهم، وبين كل فرد والعوامل المتسلطة عليه من نفسه، ولا أظن أن قارئاً من قرائنا يجهل الناموس الذى اكتشفه دارون وروسل ولاس ودعوه ناموس تنازع البقاء وبنوا عليه كل تطور أصاب الأنواع النباتية والحيوانية والإنسان أيضاً ” (54) .

” ألم تر كيف تصدى خصوم الدين النصرانى للمسيح، وما كان يدعو إلا للصلاح والسلام حتى إنهم استصدروا أمراً بصلبه فنجاه الله منهم، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون فى الأرض لا تجمعهم جامعة، إلى أن حماهم من أعدائهم السيف على يد الإمبراطور قسطنطين الذى أعمل السيف فى الوثنيين من أعدائهم.. أفيريد مثيرو هذه الشبهة أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية فى عالم مبنى على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية لطمس معالم الحق ودك صروح العدل “؟

” يقول المعترضون: وماذا أعددتم من حجة حين تجمع الأمم على إبطال الحروب وحسم منازعاتها عن طريق التحكيم، وهذا قرآنكم يدعوكم إلى الجهاد وحثكم على الاستبسال فيه؟

نقول: أعددنا لهذا العهد قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) (55) .

” هذه حكمة بالغة من القرآن، بل هذه معجزة من معجزاته الخالدة، وهى أدل دليل على أنه لم يشرع الحرب لذاتها، ولكن لأنها من عوامل الاجتماع التى لابد منها ما دام الإنسان فى عقليته ونفسيته المأثورتين عنه، غير أنه لم ينف أن يحدث تطور عالمى يتفق فيه على إبطال الحرب فصرح بهذا الحكم قبل حدوثه ليكون حُجة لأهله من ناحية، وليدل على أنه لا يريد الحرب لذاتها من ناحية أخرى، ولو كان يريدها لذاتها لما نوه لهذا الحكم ” (56) .

ثانياً: نظرة تحليلية لغزوات النبى صلى الله عليه وسلم:

إذا تتبعنا هذه الغزوات وقسمناها حسب الطوائف التى ضمتها، أمكننا التعرف على القبائل التى حدثت معها هذه المعارك وهى كالآتى:

(1) قريش مكة:

وهى القبيلة التى ينتمى إليها النبى صلى الله عليه وسلم، حيث أن قريش هو فهر بن مالك، وقيل النضر بن كنانة، وعلى كلا القولين فقريش جد للنبى صلى الله عليه وسلم، وكانت معهم الغزوات: سيف البحر ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.

(2) قبيلة بنو غطفان وأنمار:

غطفان من مضر، قال السويدى: ” بنو غطفان بطن من قيس ابن عيلان بن مضر، قال فى العبر: وهم بطن متسع كثير الشعوب والبطون ” (57) ، قال ابن حجر فى فتح البارى: ” تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق ” (58) ، أما أنمار فهم يشتركون فى نفس النسب مع غطفان، قال ابن حجر: ” وسيأتى بعد باب أن أنمار فى قبائل منهم بطن من غطفان ” (59) ، أى أن أنمار ينتسبون إلى مضر أيضاً ونسبهم كالتالى: أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر (60) .

والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذى أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة (61) .

(3) بنو سليم:

قال السويدى: ” بضم السين المهملة قبيلة عظيمة من قيس عيلان والنسبة إليهم سلمى، وسليم من أولاد خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر (62) ، والغزوات التى خاضها صلى الله عليه وسلم مع بنى سليم هى: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم (63) .

(4) بنو ثعلبة:

ثعلبة هو ابن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (64) ، نسبه الدكتور على الجندى إلى مر بن أد هكذا: ثعلبة بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر (65) ، والغزوات التى غزاها صلى الله عليه وسلم معهم هى: غزوة ذى القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى (66) .

(5) بنو فزارة وعذرة:

قال فى سبائك الذهب: ” بنو فزارة بطن من ذبيان من غطفان، قال فى العبر: وكانت منازل فزارة بنجد ووادى القرى، ونسب فزارة: فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر.

أما بنو عذرة: بنوه بطن من قضاعة، ونسبهم هكذا: عذرة بن سعد بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحافى بن قضاعة (67) . ونسبهم إلى قضاعة أيضاً الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم هكذا: عذرة بن سعد بن أسلم بن عمران بن الحافى بن قضاعة (68) ، وعلى هذا فبنو عذرة ليسو من مضر وإنما كانوا موالين لبنى فزارة وهم من مضر. وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية:

سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح (69) .

(6) بنو كلاب وبنو مرة:

أما بنو كلاب فهم: بنو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وبنو مرة هم أبناء كعب بن لؤى فيكون كلاب بطن من مرة، وهذه نفس سلسلة النسب التى ذكرها الدكتور على الجندى معتمداً على أنساب ابن حزم (70) ، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك (71) .

(7) عضل والقارة:

قال فى سبائك الذهب: “عضل بطن من بنى الهون من مضر”، ونسبهم هكذا: عضل بن الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما القارة فلم يذكرها السويدى فى السبائك ولا الدكتور الجندى، إلا أن الأستاذ الشيخ محمد الخضرى نسبها إلى خزيمة بن مدركة، وذكر الفارة بالفاء الموحدة لا بالقاف المثناة (72) وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى غزوة الرجيع (73) .

(8) بنو أسد:

قال السويدى: ” بنو أسد حى من بنى خزيمة، ونسبهم هكذا: أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر (74) ، والغزوات التى غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل (75) .

(9) بنو ذكوان:

قال السويدى: ” بنو ذكوان بطن من بهتة من سليم، وهم من الذين مكث النبى صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت فى الصلاة يدعو عليهم وعلى رعل (76) ونسبهم هكذا: ذكوان بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة خصفة بن قيس عيلان بن مضر (77) ، ولم يغزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.

(10) بنو لحيان:

من المعروف أن بنى لحيان من هذيل، وهذيل هو: ابن مدركة بن مضر (78) ، وغزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوة واحدة هى: غزوة بنى لحيان (79) .

(11) بنو سعد بن بكر:

نسبهم: سعد بن بكر بن هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (80) ، وقد أرسل لهم النبى صلى الله عليه وسلم سرية واحدة هى سرية فدك.

(12) بنو هوازن:

بنو هوازن بطن من قيس عيلان، ونسبهم هكذا: هوازن بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (81) ، وقد غزاهم صلى الله عليه وسلم غزوة ذات عرق.

(13) بنو تميم:

بنو بطن من طابخة، قال فى العبر: ” وكانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة واليمن، ونسبهم هكذا: تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ” (82) .

(14) بنو ثقيف:

بنو ثقيف بطن من هوازن اشتهروا باسم أبيهم ثقيف، ونسبهم: ثقيف بن منبه بن بكر بن بهتة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر (83) ، وقد غزاهم النبى صلى الله عليه وسلم غزوتين هما: غزوة حنين ـ غزوة الطائف.

ونستطيع من خلال هذا التتبع أن نقول: إن هذه القبائل كانت جميعها تنتسب إلى مضر وهو جد النبى صلى الله عليه وسلم أو من والاهم، وبالمعنى الأدق كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده، أما اليهود فقد كانوا مع قريش حسب معاهدتهم معهم، وبذلك ظهر جلياً أن الغزوات والسرايا التى خاضها أو أرسلها النبى صلى الله عليه وسلم، كانت موجهة فى نطاق ضيق هو نسل مضر، فلا يمكن أن يقال حينئذ: أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، ولو كان الأمر كما يقولون لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أى قبيلة من مئات القبائل العربية، وهذه الحقيقة تحتاج إلى مزيد من التعمق والتحليل فى بعض خصائص القبائل العربية؛ إذ قد يقول قائل أو يعترض معترض: إن هذا الذى توصلنا إليه بالبحث ـ ألا وهو انحصار القتال مع المضريين ـ لم يحدث إلا اتفاقاً، والأمور الاتفاقية لا تدل على شىء ولا يستخرج منها قانون كلى نحكم به على جهاد النبى صلى الله عليه وسلم، إذ كان من الممكن أن يقاتل النبى صلى الله عليه وسلم ربيعة بدلاً من مضر، أو يقاتل ربيعة ومضر معاً، أو يقاتل القحطانية بدلاً من العدنانية أو يقاتلهما معاً، وهكذا.

ذلك المتوقع أن تزيد الألفة والمودة بين أفراد وقبائل الجد الواحد لا أن تشتعل نار الحرب والقتال بينهم، فما الذى عكس هذا التوقع وقلب الأمر رأساً على عقب؟!

وللإجابة على هذه الشبهة نقول:

كان من أشهر الأمثلة العربية المثل المشهور ” انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ” وقد كان العرب يطبقون هذا المثل تطبيقاً حرفياً ـ دون هذا التعديل الذى أضافه الإسلام عليه ـ فكانوا ينصرون إخوانهم وبنى أعمامهم نصراً حقيقياً على كل حال فى صوابهم وخطئهم وعدلهم وظلمهم، وإذا دخلت قبيلتان منهم فى حلف كان لكل فرد من أفراد القبيلتين النصرة على أفراد القبيلة الأخرى، وهذا الحلف قد يعقده الأفراد وقد يعقده رؤساء القبائل والأمر واحد فى الحالين.

بينما هم كذلك فى بنى أبيهم وفى حلفائهم، إذ بك تراهم حينما تتشعب البطون قد نافس بعضهم بعضاً فى الشرف والثروة، فنجد القبائل التى يجمعها أب واحد كل واحدة قد وقفت لأختها بالمرصاد تنتهز الفرصة للغض منها والاستيلاء على موارد رزقها، وترى العداء قد بلغ منها الدرجة التى لا تطاق، كما كان بين بطنى الأوس والخزرج، وبين عبس وذبيان، وبين بكر وتغلب ابنى وائل، وبين عبد شمس وهاشم، 000 إلخ، فكانت روح الاجتماع سائدة بين القبيلة الواحدة، تزيدها العصبية حياة ونمواً، وكانت مفقودة تماماً بين القبائل المختلفة؛ فكانت قواهم متفانية فى قتالهم وحروبهم ونزاعاتهم.

وقد علل الشيخ محمد الخضرى بك هذه الحقيقة العجيبة بأمرين:

الأمر الأول:

التنافس فى مادة الحياة بين بنى الأب الواحد، إذ أن حياتهم كانت قائمة على المراعى التى يسيمون فيها أنعامهم، والمناهل التى منها يشربون.

الأمر الثانى:

تنازع الشرف والرياسة، وأكثر ما يكون ذلك إذا مات أكبر الإخوة وله ولد صالح لأن يكون موضع أبيه، فينازع أعمامه رياسة العشيرة ولا يسلم أحد منهما للآخر، وقد يفارق رئيس أحد البيتين الديار مضمراً فى نفسه ما فيها من العداوة والبغضاء، وقد يبقيا متجاورين، وفى هذه الحالة يكون التنافر أشد كما كان الحال بين الأوس والخزرج من المدينة، وبين هاشم وأمية من مكة، وبين عبس وذبيان من قيس، وبين بكر وتغلب من ربيعة. ومتى وجد النفور بين جماعتين أو بين شخصين لا يحتاج شبوب نار الحرب بينهما إلى أسباب قوية، بل إن أيسر النزاع كاف لنشوب نار الحرب وتيتم الأطفال وتأيم النساء؛ لذلك كانت الجزيرة العربية دائمة الحروب والمنازعات (84) .

هذه الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن نار الحرب سريعة النشوب بين أبناء الأب أو الجد الواحد ـ تدعم ما توصلنا إليه من أن الحرب إنما كانت نتيجة غضب إخوته من أجداده، وإذا كان الخلاف محصوراً فى السببين السابقين، فأى سبب هو الذى أجج نار الغيرة والحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل السبب هو التنافس فى مادة الحياة الدنيا، أم الخوف من انتزاع الشرف والسيادة التى تؤول إلى النبى صلى الله عليه وسلم إذ هم أذعنوا له بالرسالة والنبوة؟

أما عن السبب الأول فليس وارداً على الإطلاق، فلقد ضرب كفار مكة حصاراً تجويعياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فانحازوا إلى شعب أبى طالب ثلاث سنوات كاملة، عاشوا فيها الجوع والحرمان ما لا يخطر ببال، حتى إنهم من شدة الجوع قد أكلوا ورق الشجر وكان يسمع من بعيد بكاء أطفالهم وأنين شيوخهم، ومع ذلك فقد التزم النبى صلى الله عليه وسلم الصبر والثبات، ولم يأمر أصحابه أن يشنوا حرباً أو قتالاً لفك هذا الحصار، والخبير يعلم ما الذى يمكن أن يفعله الجوع بالنفس البشرية، إن لم يصحبها نور من وحى أو ثبات من إيمان.

كان السبب الثانى إذن كفيلاً بإشعال هذه النار فى قلوب هؤلاء وعلى حد تعبير الأستاذ العلامة محمد فريد وجدى: ” كان مقصوداً بالقتل من قريش، وليس يعقل أن تغمض قريش عينها، ومصلحتها الحيوية قائمة على زعامة الدين فى البلاد العربية، وعن قيام زعامة أخرى فى البلاد كيثرب يصبح منافساً لأم القرى، وربما بزها سلطاناً على العقول، وكر على قريش فأباد خضراءها وسلبها حقها الموروث ” (85) ، والذى يؤيد هذا ويقويه ذلك الحوار الذى دار بين الأخنس بن شريق وبين أبى جهل؛ إذ قال له الأخنس: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ ـ يعنى القرآن ـ فقال ما سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسى رهان قالوا منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذا؟! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.

ليست الصدفة إذن ولا محض الاتفاق هما اللذان دفعا النبى صلى الله عليه وسلم لقتال أبناء أجداده من مضر دون ربيعة أو غيرها من العرب، بل الطبيعة العربية المتوثبة دائماً، لمن ينازعها الشرف والسيادة من أبناء الأب الواحد ـ على ما بيناه آنفاً ـ كانت هى السبب الرئيسى لاشتعال هذه الحروب ولولاها لما اضطر صلى الله عليه وسلم للقتال بعد ثلاثة عشر عاماً من الدعوة والصبر تخللها من المشاق والعنت ما الله به عليم، ومع ذلك فقد كان هجيراه ـ بأبى هو وأمى ـ ” اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون “.

وثمة أمر آخر ينبغى الإشارة إليه، يتعلق بالآثار الناجمة عن هذا القتال، من حيث أعداد القتلى التى نجمت عن هذه الغزوات والجدول الآتى يعطينا صورة بيانية عن هذه الآثار كالآتى:

الغزوة / شهداء المسلمين / قتلى المشركين / الملاحظة

بدر / 14 / 70 /

أُحد / 70 / 22 /

الخندق / 6 / 3 /

بنو المصطلق / ـ / 3 /

خيبر / 19 / لم يدخل اليهود فى هذه الإحصائية لأن لهم حكم آخر بسبب خيانتهم، فهم قُتلوا بناء على حكم قضائى، بسبب الحرب.

بئر مونة 69 / ـ /

مؤتة / 14 / 14 /

حنين / 4 / 71 /

الطائف / 13 / ـ /

معارك أخرى / 118 / 256 /

المجموع / 317 / 439 / 756 من الجانبين.

وبعد فقد بدا للناظرين واضحًا وجليًا أن الإسلام متمثلاً فى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن حمل الناس على اعتناق الإسلام بالسيف، وهو الذى قال صلى الله عليه وسلم لأعدائه بعدما قدر عليهم: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء ” هكذا دون شرط أو قيد، أقول حتى دون اشتراط الإسلام.

والنتائج الحقيقية:

(1) تحويل العرب الوحوش إلى عرب متحضرين، والعرب الملحدين الوثنيين إلى عرب مسلمين موحدين.

(2) القضاء على أحداث السلب والنهب وتعزيز الأمن العام فى بلاد تفوق مساحتها مساحة فرنسا بضعفين.

(3) إحلال الأخوة والروحانية محل العداوة والبغضاء.

(4) إثبات الشورى مكان الاستبداد (86) .

هذا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضوابط وقيود كان من شأنها أن تحدد وظيفة الجهاد فى نشر الإسلام فى ربوع المعمورة، دون سفك للدماء ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

ومن هذه الضوابط قوله تعالى: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) (87) .

فإن كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضى الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوى علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.

ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم بل علم ذلك.

ودل مفهوم الآية أيضاً على أنه إذا لم يخف منهم خيانة بأن يوجد منهم ما يدل على عدم الخيانة، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته (88) .

انتشار الإسلام

أـ معدلات انتشار الإسلام:

الذى يؤكد على الحقيقة التى توصلنا إليها ـ وهى أن انتشار الإسلام كان بالدعوة لا بالسيف ـ أن انتشار الإسلام فى الجزيرة العربية وخارجها، كان وفق معدلات متناسبة تماماً من الناحيتين الكمية والكيفية، مع التطور الطبيعى لحركة الدعوة الإسلامية، ولا يوجد فى هذه المعدلات نسب غير طبيعية أو طفرات تدل على عكس هذه الحقيقة، والجدول الآتى يوضح هذه النسب:

السنوات بالهجرى / فارس / العراق / سورية / مصر / الأندلس

نسبة المسلمين مع نهاية أول مائة عام / 5%/ 3%/ 2%/ 2%/أقل من 1%

السنوات التى صارت النسبة فيها 25% من السكان/ 185/ 225/ 275/ 275/ 295

السنوات التى صارت النسبة فيها 50% من السكان/ 235/ 280/ 330/ 330/ 355

السنوات التى صارت النسبة فيها 75% من السكان/ 280/ 320/ 385/ 385/ 400

* حسبت السنوات منذ عام 13 قبل الهجرة عندما بدأ تنزيل القرآن الكريم.

وتوضح معلومات أخرى أن شعب شبه الجزيرة العربية كان الشعب الأول فى الدخول فى الإسلام، وقد أصبح معظمهم مسلمين فى العقود الأولى بعد تنزيل القرآن الكريم.

وهكذا كان عدد العرب المسلمين يفوق عدد المسلمين من غير العرب فى البداية، ومهدوا الطريق للتثاقف الإسلامى والتعريب من أجل المسلمين غير العرب، ولم يمض وقت على هؤلاء فى أصولهم من أديان ومذاهب متعددة من كل الأمم والحضارات السابقة.

كان على هؤلاء جميعاً أن يوظفوا بشكل موحد عمليات توأمية للتقليد والابتكار فى وقت واحد وذلك حسب خلفياتهم الأصلية تحت التأثير الثورى والمتحول الأكثر عمقاً للفكر الإسلامى ومؤسساته، وقاموا عن طريق عملية التنسيق المزدوجة بتنقية تراثهم من علوم وتكنولوجيا وفلسفات عصر ما قبل القرآن الكريم وذلك إما بالقبول الجزئى أو الرفض الجزئى، وقاموا كذلك بالابتكار من خلال انطلاقهم من أنظمتهم الفكرية الحسية وتراثهم فى ضوء القرآن الكريم والسنة.

ومن هنا ولدت العلوم الإسلامية والتكنولوجيا الإسلامية والحضارة الإسلامية الحديثة متناسبة مع الأيدولوجية والرؤية الإسلامية الشاملة (89) .

خصائص ذلك الانتشار:

ـ عدم إبادة الشعوب.

ـ جعلوا العبيد حكاماً.

ـ لم يفتحوا محاكم تفتيش.

ـ ظل اليهود والنصارى والهندوك فى بلادهم.

ـ تزاوجوا من أهل تلك البلاد وبنوا أُسراً وعائلات على مر التاريخ.

ـ ظل إقليم الحجاز ـ مصدر الدعوة الإسلامية ـ فقيراً إلى عصر البترول فى الوقت الذى كانت الدول الاستعمارية تجلب خيرات البلاد المستعمرة إلى مراكزها.

ـ تعرضت بلاد المسلمين لشتى أنواع الاعتداءات (الحروب الصليبية ـ الاستعباد فى غرب إفريقيا ـ إخراج المسلمين من ديارهم فى الأندلس وتعذيب من بقى منهم فى محاكم التفتيش) ونخلص من هذا كله أن تاريخ المسلمين نظيف وأنهم يطالبون خصومهم بالإنصاف والاعتذار، وأنهم لم يفعلوا شيئاً يستوجب ذلك الاعتذار حتى التاريخ المعاصر.

1 ـ سرية سيف البحر ـ رمضان 1 هجرية ـ 30 راكب ـ حمزة بن عبد المطلب ـ 300أبو جهل ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لدراسة أحوال مكة ووجد الأعداء أن المسلمين منتبهون فانصرفوا عنهم.

2 ـ سرية الرابغ ـ شوال سنة 1 هجرية ـ 60 ـ عبيدة بن الحارث ـ 200 عكرمة بن أبى جهل أو أبو صيان ـ انصرف المسلمون بدون قتال ـ بعثت هذه السرية لتفقد أحوال أهل مكة فرأت جمعاً عظيماً من قريش بأسفل ثنية المرة.

3 ـ سرية ضرار ـ فى ذى القعدة سنة 1 هجرية ـ 80 سعد بن أبى وقاص ـ خرج حتى بلغ الجحفة ثم رجع ولم يلق كيداً.

4 ـ غزوة ودان وهى غزوة الأبواب ـ صفر 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ عاهد عمرو بن مخثى الضمرى على ألا يعين قريش ولا المسلمين.

5 ـ غزوة بواط ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 200 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 100 ـ أمية بن خلف ـ بلغ إلى بواط ناحية رضوى ثم رجع إلى المدينة لقى فى الطريق قريشاً وأمية ـ رضوى اسم جبل بالقرب من ينبع.

6 ـ غزوة صفوان أو بدر الأولى ـ ربيع الأول 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ خرج فى طلب العدو حتى بلغ صفوان فلم يدركه ـ كان كرز بن جابر قد أغار على مواشى لأهل المدينة.

7 ـ غزوة ذى العشيرة ـ جمادى الآخرة 2 هجرية ـ 150 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ وادع بنى مذلج وحلفائهم من بنى ضمرة ـ ذو العشيرة موضع بين مكة والمدينة من بطن ينبع.

8 ـ سرية النخلة ـ فى رجب 2 هجرية ـ 12 ـ عبد الله بن جحش ـ قافلة تحت قيادة بنى أمية ـ أطلق الأسيران وودى القتيل ـ أرسلوا لاستطلاعن قريش فوقع الصدام.

9 ـ غزوة بدر الكبرى ـ رمضان 2 هجرية ـ 313 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ 1000 ـ أبو جهل ـ 22 ـ 70 ـ 70 ـ انتصر المسلمون على العدو ـ بين بدر ومكة سبعة منازل وبين بدر والمدينة ثلاثة منازل لما علم بخروج قريش إلى المدينة ارتحل دفاعاً عن المسلمين.

10 ـ سرية عمير بن العدى الخطمى ـ فى رمضان 2 هجرية ـ 1 ـ عمير ـ 1 ـ عصماء بن مروان ـ 1 ـ قتل عمير اخته التى كانت تحض قومها على الحرب ضد المسلمين.

11 ـ سرية سالم بن عمير الأنصارى ـ فى شوال 2 هجرية ـ 1 ـ سالم ـ 1 ـ الخطمية أبو عكفة ـ كان أبو عكفة اليهودى يستفز اليهود على المسلمين فقتله سالم.

12 ـ غزوة بنى قينقاع ـ فى شوال 2 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة بنى قينقاع ـ تم إجلائهم ـ أتوا بالشر فى المدينة حين كان المسلمون فى بدر فأجلوا لذلك.

13 ـ غزوة السويق ـ فى ذى الحجة 2 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 200 ـ أبو سفيان ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى طلبه فلم يدركه ـ بعث أبو سفيان من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها فحرقوا فى أسوال من نخل ووجدوا بها رجلين فقتلوهما.

14 ـ غزوة قرقرة الكدر أو غزوة بنى سليم ـ محرم 2 هجرية ـ 70 ـ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ كرز بن جابر الفهرى ـ 1 ـ خرج العدو يغزو المدينة فانصرف حين رأى جمعاً من المسلمين ـ أسر عبد اسمه يسار فأطلق سراحه.

15 ـ سرية قررة الكدر ـ 2 هجرية ـ 1 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ قبيلة بنى غطفان وبنى سليم ـ 3 ـ قتل من الأعداء وفر الباقون ـ بعثت هذه السرية إكمالاً إذ اجتمع الأعداء مرة أخرى.

16 ـ سرية محمد بن مسلمة ـ ربيع الأول ـ 3 هجرية ـ محمد بن مسلمة الأنصارى الخزرجى ـ 1 ـ كعب بن الأشرف اليهودى ـ 1 ـ 1 ـ كان كعب بن الأشرف يحرض القبائل من اليهود ضد المسلمين ودعا قريشاً للحرب فوقعت غزوة أحد.

17 ـ غزوة ذى أمر أو غزوة غطفان أو أنمار ـ فى ربيع سنة 3 هجرية ـ 450 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثعلبة وبنو محارب ـ اجتمعت بنو ثعلبة وبنو محارب للإغارة على المدينة فانصرفوا حين رأوا جمعاً من المسلمين ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم فى أصحابه حتى بلغ نجد وهنا أسلم وعثود الذى هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

18 ـ سرية قردة ـ فى جمادى الآخرة سنة 3 هجرية ـ 100 ـ زيد بن حارثة ـ أبو سفيان ـ 1 ـ خرج زيد بن حارثة فى بعث فتلقى قريشاً فى طريقهم إلى العراق ـ أسر فراء بن سفيان دليل القافلة التجارية فأسلم.

19 ـ غزوة أُحد ـ شوال 3 هجرية ـ 650 راجل ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2800 راجل ـ 200 راكب أبو سفيان الأموى ـ 40 ـ 70 ـ 30 ـ لحقت خسارة فادحة بالمسلمين ولكن فشل الكفار نتيجة لرعب أصابهم ـ بين أحد والمدينة ثلاثة أيمال كانوا الأعداء زحفوا من مكة إلى أُحد.

ـ غزوة حمراء الأسد ـ فى 7 من شوال المكرم سنة 3 هجرية ـ 540 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2790 ـ أبو سفيان ـ 2 أبو عزة ومعاوية بن المغيرة ـ خرج النبى صلى الله عليه وسلم مرعباً للعدو ـ لما آن الغد من يوم أُحد خرج المسلمون إلى معسكر العدو لئلا يغير عليهم ثانية ظاناً بهم ضعفاً، أسر رجلان، وقتل أبو عزة الشاعر لأن كان وعد فى بدر بأنه لا يظاهر أبداً على المسلمين ثم نقض عهده وحث المشركين على المسلمين.

21 ـ سرية قطن أو سرية أبى سلمة المخزومى ـ فى غرة محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 150 أبو سلمة المخزومى ـ طلحة وسلمة ـ لم يتمكنوا من الإغارة على المدينة بمظاهرة قام بها المسلمون ـ هو رئشيس قطاع الطريق أراد الإغارة على المدينة ولكن المسلمين تظاهروا فوصلوا إلى قطن وهو مسكنه فتفرق جمعه.

22 ـ سرية عبد الله بن أنيس ـ فى 5 من محرم الحرام سنة 4 هجرية ـ 1 ـ عبد الله بن أنيس الجهنى الأنصارى ـ 1 ـ سفيان الهذيلى ـ 1 ـ سمع عبد الله بأن سفيان استنفر قوماً ضد المسلمين بعرفى فوصل عليها وقتل بها أبا سفينان.

23 ـ سرية الرجيع ـ فى صفر 4 هجرية ـ 10 عاصم بن ثابت ـ 100 ـ من عضل والقارة ـ 10 ـ استشهاد عشرة قراء.

24 ـ سرية بئر معونة ـ 70 ـ منذر بن عمر ـ جماعة كبيرة ـ عامر بن مالك ـ 1 ـ 69.

25 ـ سرية عمر بن أمية الضميرى ـ ربيع الأول 4 هجرية ـ 1 ـ عمر بن أمية الضمرى ـ 2 قبيلة بنى كلاب.

26 ـ غزوة بنى النضير ـ ربيع أول 4 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قبيلة النضير ـ تم إجلائهم بأنهم هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.

27 ـ غزوة بدر الأخرى ـ ذى القعدة 4 هجرية ـ 1510 النبى صلى الله عليه وسلم ـ 2050 أبو سفيان ـ لم تحدث مواجهة ـ خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل بناحية الظهران أو عسفان ولما علم النبى صلى الله عليه وسلم خرج إليه فرجع أبو سفينان رجع النبى أيضاً.

28 ـ غزوة دومة الجندل ـ سنة 5 هجرية ـ 1000 النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل الدومة ـ رجع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليها ولم يلق كيداً.

29 ـ غزوة بنى المصطلق ـ 2 شعبان 5 هجرية ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق ـ 19 ـ 10 ـ انهزم العدو وأطلق الأسرى كلهم.

30 ـ غزوة الأحزاب أو الخندق ـ شوال 5 هجرية ـ 3000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 أبو سفيان ـ 6 ـ 10 ـ انقلب العدو خاسراً.

31 ـ سرية عبد الله بن عتيك ـ ذى القعدة 5 هجرية ـ 5 ـ عبد الله بن عتيك الأنصارى ـ 1 ـ سلام بن أبى الحقيق ـ 1.

32 ـ غزوة بنى قريظة ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو قريظة ـ 4 ـ 200 ـ 400 ـ من الأعداء من قتل ومنهم من أسر ـ قتلهم كان حكماً قضائياً بسبب الخيانة وكان هذا الحكم موافقاً لنصوص التوراة التى كانوا يؤمنون بها.

33 ـ سرية الرقطاء ـ 30 ـ محمد بن مسلمة ـ 30 ـ ثمامة بن آثال ـ 1 ـ أثر ثمالة فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كان ثمامة سيد نجد، وأسلم بعد أن أطلق سراحه من الأسر.

34 ـ غزوة بنى لحيان ـ 6 هجرية ـ 200 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو لحيا من بطون هذيل ـ تفرق العدو حين علم بمقدم المسلمون إليه ـ كانت الغزوة لتأديب أهل الرجيع الذين قتلوا عشرة من القراء.

35 ـ غزوة ذى قردة ـ 6 هجرية ـ 500 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ خيل من غطفن تحت قيادة عيينة الفزارى ـ امرأة واحدة ـ 3 ـ 1 ـ أغاروا على لقاح لرسول الله فخرج المسلمون ولحقوا بهم.

36 ـ سرية عكاشة محصن ـ 40 ـ عكاشة بن محصن الأسدى ـ بنو أسد ـ تفرق الأعداء ولم تحدث مواجهة ـ كان بنو أسد قد أجمعوا الإغارة على المدينة فبعثت إليهم هذه السرية.

37 ـ سرية ذى القصة ـ 6 هجرية ـ 10 ـ محمد بن مسلمة ـ 100 بنو ثعلبة ـ 1 جريح ـ 9 ـ استشهد تسعة من الدعاة وأصيب محمد بن مسلمة بجرح ـ كان عشرة من القراء ذهبوا للدعوة وبينما هم نائمون قتلهم بنو ثعلبة وذو القصة اسم موضع.

38 ـ سرية بنى ثعلبة ـ 6 هجرية ـ 40 ـ أبو عبيدة بن الجراح ـ بنو ثعلبة ـ 1 ـ انصرف العدو وغنم المسلمون ما كان لهم من متاع.

39 ـ سرية الجموم ـ 6 هجرية ـ زيد بن حارثة ـ بنو سليم ـ 10 ـ أسر مجموعة رجال وأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم.

40 ـ سرية الطرف أو الطرق ـ 6 هجرية ـ 15 ـ زيد بن حارثة ـ بنو ثعلبة ـ هرب الأعداء وأصاب المسلمون عشرين بعيراً ـ بعثت هذه السرية لمعاقبة المجرمين بذى القصة.

41 ـ سرية وادى القرى ـ 12 ـ زيد بن حارثة ـ سكان وادى القرى ـ 1 جريح ـ 9 ـ قتل من المسلمين تسعة رجال وجرح واحد ـ كان زيداً ذاهباً للجولة فحملوا عليه وعلى أصحابه.

42 ـ دومة الجندل ـ 6 هجرية ـ عبد الرحمن بن عوف ـ قبيلة بنى كلب ـ الأصبغ بن عمرو ـ تحقق نجاح ملموس فى مجال الدعوة ـ أسلم الأصبغ بن عمرو وكان نصرانياً وأسلم معه كثير من قومه.

43 ـ سرية فداك ـ 6 هجرية ـ 200 ـ على بن أبى طالب ـ بنو سعد بن بكر ـ هربت بنو سعد وأصاب المسلمون مائة بعير وألفى شاة ـ بلغ النبى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يمدوا يهود خيبر فقام علىّ رضى الله الله عنه بالمظاهرة عليهم.

44 ـ سرية أم فرقة ـ 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو فزارة تحت قيادة أم قرفة ـ 2 ـ انهزم العدو ـ كانت بنو فزارة قد أغاروا على قافلة زيد بن حارثة.

45 ـ سرية عبد الله بن رواحة ـ 6 هجرية ـ 30 ـ عبد الله بن رواحة ـ 30 ـ أسير بن رزام اليهودى ـ 1 ـ 30 ـ وقع اشتباك لسوء فهم الفريقين فقتل اليهود جميعاً.

46 ـ سرية العرنيين ـ 6 هجرية ـ 20 ـ كرز بن جابر الفهرى ـ رجال من عكل وعريننة ـ 1 ـ 8 ـ قتلوا الراعى واستاقوا الإبل فأسروا ومثل بهم ـ استوخموا المدينة فشربوا من ألبان الإبل وأبوالها فصحوا ثم قتلوا يسارا راعى النبى صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل.

47 ـ سرية عمرو بن أمية الضمرى ـ 6 هجرية ـ 1 ـ عمرو بن أمية الضمرى ـ كان عمرو قد جاء إلى مكة ليقتل النبى صلى الله عليه وسلم ثم أسلم من حسن خلقه الشريف ثم ذهب إلى مكة يدعو أهلها.

48 ـ غزوة الحديبية ـ 6 هجرية ـ 1400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ أهل مكة ـ سهيل بن عمرو القرشى ـ تم الصلح بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين ريش عشر سنوات ـ كان النبى قد خرج معتمراً فصدته قريش عن البيت فى الحديبية.

49 ـ غزوة خيبر 7 هجرية ـ 100 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ 10000 ـ يهود خيبر كنانة بن أبى الحقيق ـ 50 جريحاً ـ 18 ـ 93 ـ فتح الله للمسلمين فتحاً مبيناً ـ كان اليهود قد قاتلوا المسلمين فى أُحد والأحزاب ونقضوا عهدهم مع النبى صلى الله عليه وسلم فأفسد خططهم العدوانية.

50 ـ غزوة وادى القرى ـ المحرم 6 هجرية ـ 1382 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ اليهود من وادى القرى.

51 ـ غزوة ذات الرقاع ـ 7 هجرية ـ 400 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو غطفان وبنو محارب وبنو ثعلبة وبنو أنمار ـ تفرق العدو ـ كانت بنو عطفان قد جمعوا جموعاً من القبائل للإغارة على المسلمين فلما قام المسلمون بحشودهم تفرقوا جميعاً.

52 ـ سرية عيص ـ فى صفر 7 هجرية ـ 72 ـ أبو جندل وأبو بصير ـ قافلة قريش ـ 9 ـ أخذ أموال العدو ثم ردها إليهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم.

53 ـ سرية الكديد ـ صفر 7 هجرية ـ 60 ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ بنو الملوح ـ 1 ـ وقع اشتباك ـ كانت بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سويد فبعثت إليهم هذه السرية للتوبيخ.

54 ـ سرية فدك ـ فى صفر سنة 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل فدك ـ قتل ناس من العدو.

55 ـ سرية حسمى ـ فى جمادى الآخرة 7 هجرية ـ 500 ـ زيد بن حارثة ـ 102 ـ الهنيد بن عوض الجزرى ـ 100 ـ 2 ـ انتصر المسلمون وقتل الهنيد مع ابنه وأطلق الباقون بعد توبتهم ـ كان دحية الكلبى محملاً ببعض الهدايا من قيصر فقابله الهنيد فى ناس وقطع عليه الطريق.

56 ـ سرية تربة ـ فى شعبان سنة 7 هجرية ـ عمر بن الخطاب ـ أهل تربة ـ تفرق العدو ـ بين تربة ومكة منزلان كان أهل تربة قد اصطلحوا مع بنى غطفان فقام المسلمون بالمظاهرة فى محالهم.

57 ـ سرية بنى كلاب ـ فى شعبان 7 هجرية ـ أبو بكر الصديق رضى الله عنه ـ بنو كلاب ـ انتصر المسلمون سبى من الأعداء جماعة وقتل آخرون ـ كانوا أجمعوا الهجوم على المسلمين مع بنى محارب وبنى أنمار.

58 ـ سرية الميفعة ـ رمضان 7 هجرية ـ غالب بن عبد الله الليثى ـ أهل الميفعة ـ وقع اشتباك ـ كانوا حلفاء أهل خيبر.

59 ـ سرية خربة ـ فى رمضان 7 هجرية ـ أسامة بن زيد ـ أهل خربة ـ بينما أسامة وأصحابه يمشون فى الطريق إذ هبط إليهم رجل من الجبل فقتله أسامة بعد أن قال لا إله إلا الله.

60 ـ سرية بنى مرة ـ شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو مرة بالقرب من فدك ـ وقع اشتباك كانوا حلفاء أهل خيبر.

61 ـ سرية بشير بن سعد الأنصارى ـ فى شوال 7 هجرية ـ 30 بشير بن سعد ـ بنو فزارة وعذرة ـ جرح جميع المسلمين وأسر منهم رجلان ـ كانت بنو فزارة وعذرة قد ساعدوا اليهود فى خيبر فبعثت إليهم هذه السرية للترويع.

62 ـ سرية ابن أبى العوجاء ـ 7 هجرية ـ 50 ـ ابن أبى العوجاء ـ بنو سليم ـ 1 ـ 49 ـ أصيب ابن أبى العوجاء بجرح واستشهد الباقون ـ قام المسلمون بحشد قواهم فى محالهم لأنهم كانوا يجمعون للإغارة على المدينة.

63 ـ سرية ذات أطلح ـ 8 هجرية ـ 15 ـ كعب بن عمير الأنصارى ـ أهالى ذات أطلح بنو قضاعة ـ 14 ـ استشهد المسلمون جميعاً وبرأ واحد منهم ـ كانوا يجمعون فى عدد كبير للإغارة على المسلمين فبعث إليهم كتيبة لتخوفيهم فاستشهد المسلمون جميعاً.

64 ـ سرية ذات عرق ـ فى ربيع الأول 8 هجرية ـ 25 ـ شجاع بن وهب الأسدى ـ بنو هوازن أهالى ذا عرق ـ كانت هوازن قد مدّوا يد المعونة لأعداء المسلمين مراراً ثم اجتمعوا على مشارف المدينة فاحتشد المسلمون لتخويفهم.

65 ـ سرية مؤنة ـ فى جمادى الأولى سنة 8 هجرية ـ 3000 ـ زيد بن حارثة ـ مائة ألف ـ شرحبيل الغسانى ـ 12 ـ لم نعرف عدد المفقودين ـ انتصر المسلمون ـ كان شرحبيل قد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعت لذلك الحرب وهزم ثلاثة آلاف مائة ألف.

66 ـ سرية ذات السلاسل ـ جمادى الآخرة 8 هجرية ـ 500 ـ عمرو بن العاص القرشى ـ بنو قضاعة ساكنوا السلاسل ـ هرب الأعداء بمظاهرة المسلمين ـ كانت قضاعة قد تجمعت للإغارة على المدينة.

67 ـ سرية سيف البحر ـ فى رجب 8 هجرية ـ 300 ـ أبو عبيدة ـ قريش ـ أقام المسلمون على الساحل أياماً ثم انصرفوا ـ كان الغرض من هذه السرية تشتيت همم قريش.

68 ـ سرية محارب ـ فى شعبان 8 هجرية ـ 15 ـ أبو قتادة الأنصارى ـ بنو غطفان ـ هرب العدو خائفاً وأصاب المسلمون أنعاماً ـ تجمع بنو غطفان بخضرة فأرسلت إليهم سرية مكونة من خمسة عشر رجلاً للاستطلاع.

69 ـ غزوة فتح مكة ـ رمضان 8 هجرية ـ 10000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ قريش مكة ـ 2 ـ 12 ـ انتصر المسلمون ـ لم يتعرض للمسلمين أحد إلا كتيبة واحدة ثم دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة وجعل الناس كلهم طلقاء ولا تثريب عليهم.

70 ـ سرية خالد ـ فى رمضان 8 هجرية ـ خالد بن الوليد ـ الصنم العزى ـ كانت العزى صنم بنى كنانة فحطمها خالد رضى الله عنه.

71 ـ سرية عمرو بن العاص ـ 8 هجرية ـ عمرو بن العاس ـ الصنم سواع ـ كانت سواع صنم بنى هذيل فحطمها عمرو بن العاص رضى الله عنه.

72 ـ سرية سعد الأشهلى ـ رمضان 8 هجرية ـ سعد بن زيد الأشهلى الأنصارى ـ الصنم مناة ـ كانت مناة صنماً للأوس والخزرج فهدمها سعد الأشهلى رضى الله عنه.

73 ـ سرية خالد بن الوليد ـ شوال 8 هجرية ـ 350 ـ خالد بن الوليد ـ بنو جذيمة ـ 95 ـ قتل خمسة وتسعون رجلاً من بنى جذيمة ممن كانوا أسلموا فكره الرسول صلى الله عليه وسلم قتلهم وودى بهم الدية ـ كان خالد بن الوليد بعث داعياً وكانت بنو جذيمة قد أسلموا من قبل فشك خالد فى إسلامهم وقتل منهم رجالاً.

74 ـ غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف وبنو هوازن وبنو معز وبنو أحسم ـ 6 ـ 6000 ـ 71 ـ انتصر المسلمون ـ أطلق النبى صلى الله عليه وسلم سراح جميع الأسرى وأعطاهم الكسوة كذلك.

75 ـ غزوة الطائف ـ شوال 8 هجرية ـ 12000 ـ النبى صلى الله عليه وسلم ـ بنو ثقيف ـ جمع كثير ـ 13 ـ جمع كثير ـ رجع النبى صلى الله عليه وسلم بعد محاصرة دامت شهراً ـ لما رفع النبى صلى الله عليه وسلم عنهم الحصار قدموا عليه وأسلموا.

76 ـ سرية عيينة بن حصن ـ فى محرم 9 هجرية ـ 150 ـ عيينى بن حصن الفزارى ـ قبيلة بنى تميم ـ 62 ـ تم القضاء على الثورة ـ قامت هذه القبيلة بإغراء القبائل التابعة لها ومنعتها عن أداء الجزية ولما خرج إليهم عيينى أسر منهم 11 رجلاً و21 امرأة و 20 ولداً فأطلقهم النبى صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه سيدهم.

77 ـ سرية قطبة بن عامر ـ فى صفر 9 هجرية ـ 20 ـ قطبة بن عامر ـ قبيلة خثم ـ أكثر من النصف ـ أكرهم ـ تفرقوا وانتشروا ـ كانوا يدبرون مؤامرة ضد المسلمين فجاء قطبة ببعضهم أسيراً فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

78 ـ سرية الضحاك ابن سفيان الكلابى ـ ربيع أول 9 هجرية ـ الضحاك رضى الله عنه ـ قبيلة بنى كلاب ـ بعث المسلمون إلى بنى كلاب داعين فاعترض لهم الكفار فوقع اشتباك.

79 ـ سرية عبد الله بن حذافة ـ ربيع أول 9 هجرية ـ 300 ـ عبد الله بن حذافة القرشى السهمى ـ القراصنة من الخثعميين ـ هربوا ـ كانوا قد اجتمعوا فى ساحل جدة يريدون الإغارة على مكة فتفرقوا حين رأوا هذه السرية.

80 ـ سرية بن طىء ـ 9 هجرية ـ 150 ـ على رضى الله عنه ـ بنى طىء ـ أسرت سفانة بنت حاتم وغيرها من الناس.

81 ـ غزوة تبوك ـ 9 هجرية ـ 3000 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ هرقل قيصر الروم ـ قام النبى صلى الله عليه وسلم بالتجمع مع أصحابه وأرهب الأعداء ثم رجع إلى المدينة.

82 ـ سرية دومة الجندل ـ 420 ـ خالد بن الوليد ـ أكيدر أمير دومة الجندل ـ أسر أكيدر وقتل أخوه ـ أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراح أكيدر وعقد الحلف مع حكومات نصرانية أخرى.

أكذوبة الظلم في الميراث

الأنثى ترث نصف الذكر!

نقول إن هذه أكذوبة عندما نعلم أن هناك حالات عديدة جدا ترث فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، ثم نختار هذه الحالة الوحيدة التي يرث فيها الرجل مثل حظ الأنثيين ونجعله هو المعيار في مسألة تقسيم الميراث بين الذكر والأنثى.. هنا مقطع فيديو للدكتور محمد عمارة يوضح هذه النقطة:

لماذا التفاضل هنا؟

كما يتضح من كلام الدكتور عمارة فإن الحالة التي يرث فيها الرجل مثل حظ الأنثيين هي عندما يتطابق المعيارين الأساسيين وهما: معيار القرابة ومعيار موقع الجيل الوارث من استقبال الحياة، وهي عندما يكونان ابن وبنت، وهنا يجب علينا أن نعرف سياق الحياة ونظام المجتمع لهذين الأخوين ابن وبنت المتوفى.. الابن مسئول عن زوجته وأبنائه وبناته، وهو الذي يدفع المهر عندما يتزوج ويوفر المسكن والمأكل والمشرب والملبس وأسباب العيش للأسرة، بل إنه ملزم بتوفير ذلك كله لأخته إذا كان هو وليها.

أما أخته فهي لن تدفع مهرا عندما تتزوج، بل إنها ستأخذ المهر، ولن تتحمل مسئولية أسرتها ومصاريفهم وعيشهم وسكنهم، وهي ليست ملزمة بدفع أي شيء من ذلك عن زوجها إلا إن رغبت بمساعدته. بل إنها ليست ملزمة بدفع أي شيء من لوازمها هي. وعلى ذلك فإن التفاوت بين الأخوين الذكر والأنثى في الميراث هو غاية العدل.

كتاب “إتحاف الكرام”

أصدرت دار الحكمة للطباعة والنشر كتابا بعنوان “إتحاف الكرام بمئة وأربعين حالة ترث المرأة فيها أضعاف الرجل في الإسلام” للباحث الأزهري علي محمد شوقي، ويقع الكتاب في 233 صفحة.

إتحاف الكرام

وبعد المقدِّمة وضع الكاتب تمهيدًا لكتابه في نحو 60 صفحة، قام فيه باستقراء أبواب علم المواريث، ووقف على المسائل التي كُرِّمت فيها المرأة أو رُجِّحت على الرجل أو انفردت بها من دون الرجل.

ثم شَرَع المؤلف بعد ذلك في ذكر 147 حالة ترث فيها المرأة ضعف الرجل وأحيانًا أضعافه، ولم يسرد الكاتب الحالات سردًا بل قسَّم بحثَه فيها إلى ثلاثة مباحث:

  • المبحث الأول: البنات وبنات الابن، مقارنة بمن يرث معهنَّ من الرجال
  • المبحث الثاني: الأخوات الشقيقات أو لأب، مقارنة بمن يرث معهنَّ من الرجال
  • المبحث الثالث: الأم والأخت لأم، مقارنة بمن يرث معهما من الرجال

نماذج وأمثلة من الكتاب

الحالة الأولى:

لو مات شخص وترك (أمّا، وزوجة، وأبا، وبنتا، وابن ابن)، فإن للأم سدس التركة (4 من 24)، وللزوجة ثمن التركة (3 من 24)، وللأب الذي هو أبو الميت سدس التركة (4 من 24)، ولبنت الميت نصف التركة (12 من 24)، ولابن ابن الميت باقي التركة (1 من 24).

فهنا احتوت المسألة على تكريمات للمرأة:

أولا: لو قارنت بين نصيب بنت الميت (12) وبين نصيب أبي الميت (4) لوجدت أن البنت قد ورثت ثلاثة أضعاف الأب.

ثانيًا: لو قارنت نصيب زوجة الميت (3) وبين نصيب ابن ابنه (1) لوجدتها ورثت ثلاثة أضعافه.

ثالثًا: لو قارنت بين نصيب أم الميت (4) وبين نصيب ابن ابنه (1) لوجدتها قد ورثت أربعة أضعافه.

وذكر كذلك: لو مات شخص وترك (أم، وزوجة، وبنت، وأخ شقيق)، فللأم سدس التركة = 4 أسهم من 24 سهم، وللزوجة ثمن التركة = 3 أسهم من 24، وللبنت نصف التركة = 12 سهم من 24، وللأخ الشقيق الباقي تعصيبًا = 5 أسهم من 24 سهم.

وعند المقارنة بين نصيب بنت الميت (12) ونصيب أخيه الشقيق (5) نجد أنها قد ورثت ضعفه، بل وزادت على ميراثها الضعف 2 سهم، وكذلك لو كان بدل الأخ الشقيق: ابن ابن الميت، أو الأخ لأب، أو ابن الأخ الشقيق، أو ابن الأخ لأب، أو العم الشقيق، أو العم للأب، أو ابن العم الشقيق أو ابن العم للأب، ففي كل هذه الصور سترث المرأة متمثلة في البنت ضعف الرجال المذكورين وستزيد على الضعف بسهمين.

الحالة الثانية:

لو مات شخص وترك (أمّا، وزوجة، وأختا شقيقة، وأخا لأب)، فللأم سدس التركة (2 من 12)، وللزوجة ربع التركة (3 من 12)، وللشقيقة نصف التركة (6 من 12)، وللأخ لأب باقي التركة (1 من 12). وعند المقارنة بين نصيب الأخت الشقيقة (6) ونصيب الأخ لأب (1) نجد أن الأخت الشقيقة قد ورثت ستة أضعاف الأخ لأب، وكذلك إذا قارنت بين نصيب أم الميت (2) وبين نصيب الأخ لأب (1) وجدتها قد ورثت ضعفه، ولو قارنت بين نصيب زوجة الميت (3) وبين نصيب الأخ (1) لوجدتها قد ورثت ثلاثة أضعافه.

الحالة الثالثة:

لو ماتت امرأة وتركت (زوجا، وأمّا، وأبا)، وهي من المسائل المشهورة جدًّا عند علماء المواريث، وكان لابن عباس رضي الله عنه فيها رأيًا فقهيًا معتبرًا وهو أن الأم ترث في هذه الحالة ضعف الأب؛ حيث سيأخذ الزوج نصف التركة (3 من 6)، وتأخذ الأم ثلث التركة (2 من 6)، ويأخذ الأب باقي التركة وهو (1 من 6).

وقد ناقش الكاتب المخالفين والمتهمين للإسلام بظلم المرأة وخاصة في قضايا الميراث بنقاش علمي متسائلا: فما قولكم في 147 حالة ترث المرأة فيها ضعف بل وأضعاف الرجل في الإسلام؟

كما ناقش الكتاب قضية المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث- مع كون هذا موجودًا في الإسلام أصلًا- وقال المؤلف: فماذا ستفعلون في كل هذه الحالات؟ هل ستنادون بالمساواة فيها بين الرجل والمرأة كذلك؟

ثم ذكر المؤلف أن الظالم للمرأة في الحقيقة هو من يطالب بالمساواة؛ لأنه ينادي بالمساواة مطلقًا بين الرجل والمرأة؛ أي أنه ينادي بحرمان المرأة من 147 حالة- تزيد ولا تقل- ترث فيها ضعف وأضعاف الرجل! فمن الظالم إذن؟

وأكد الباحث أن توزيع الميراث في الإسلام قائم على العدل، وليس فيه ظُلْمٌ أو محاباة لجنس على حساب جنس، فلئِن كانت المرأة ورثت نصف ما يرث الرجل في مواضع، فلقد ورثت ضعفه، وثلاثة أضعافه، وأربعة أضعافه، وستة أضعافه، وثمانية أضعافه، واثني عشر ضعفه، في مواضع أخرى، فهل ستقولون إنها إذا ورثت ضِعْفَه فقد ظُلِم الرجل؟ أم ستقولون هو مقتضى العدل؟

  • فإن قلتم: ظُلِمَ الرجلُ، فقد تناقضتم؛ لأنكم تقولون بظُلم المرأة دون الرجل.
  • وإن قلتم: هو مقتضى العدل، قلنا: إذن فعندما ورث الرجلُ الضِّعْفَ كان مُقتضى العدل كذلك، وإلا فهل تقولون بالتفريق بين الجِنْسين؟

ما هو نصف حد زنا المحصنة؟

هناك شبهة يثيرها بعض الملاحدة حول حد الزنا لملك اليمين، وملخصها أنه إذا كان القرآن ينص على أن حد الزنا لملك اليمين هو نصف حد الزنا للمحصنة، وإذا كان حد المحصنة هو الرجم، فكيف يكون النصف؟ إما أن حد الرجم غير صحيح أو أن الآية غير صحيحة، لأن حد الرجم حتى الموت لا يمكن أن ينصف.

الآية 25 من سورة النساء تقول: “وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.

والإشكالية في هذه الشبهة تقوم على الجهل بمعنى كلمة “المحصنات” الواردة في الآية. والصحيح هو أن الإحصان يأتي في الشرع على ثلاثة معان: الإسلام والزواج والحرية.

والمقصود بلفظة “المحصنات” الواردة في الآية هو “الحرائر” وليس “المتزوجات”. ولكي ننطلق من النص القرآني نفسه لنثبت هذا الاستخدام، سنجد ذلك في بداية الآية نفسها: “ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم”. فلفظة “المحصنات” لا يمكن أن تعني “المتزوجات”، لأن المعنى لا يصح، وإلا كيف يكون الزواج من المتزوجات؟

والمقابلة في النص واضحة بين الحرائر وملك اليمين.. فإذا كان المعنى المقصود للمحصنات في بداية الآية هو “الحرائر” فلماذا يقوم هذا الملحد الذي يثير الشبهة ويلبس على الناس بتحريف معناها في آخر الآية إلى “المتزوجات”؟

بقي أن نعرف عقوبة الحرة التي يمكن أن تتنصف.. هل هي الجلد أم الرجم؟

الجواب: الجلد.. فتكون عقوبة الأمة الزانية سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة هي نصف عقوبة الجلد للحرة الزانية غير المتزوجة.

من جانب آخر، نلاحظ أن الآية تتحدث عن الحد بلفظة “العذاب”، وعقوبة العذاب تختلف عن عقوبة القتل، كما ورد في الآية 21 من سورة النمل: “لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ”، فإذا كان الرجم قتلا، فإن الجلد عذاب. والأية التي تثار حولها الشبهة تصف الحد بالعذاب.

القرآن نص متماسك يشرح بعضه بعضا، ويجب دائما للخروج من أية شبهة تثار حوله أن ندرس النص والسياق جيدا.

ما ذنب من لم يقتنع بالإسلام؟

وصلني هذا السؤال: ما ذنب من لم يقتنع بالإسلام أن يدخل النار؟

قناعة أم عدم قناعة؟

ليس الحساب على القناعة وعدم القناعة، وإنما الحساب هو على الإيمان والأقوال والأعمال. وتعبير السائل فيه مغالطة، فمن يقول “أنا غير مقتنع بالإسلام” يقصد بالضرورة أنه مقتنع بعدم صحته (لاحظ الفرق بين “غير مقتنع بالصحة” و”مقتنع بعدم الصحة”)، ولكنه صاغ اعتقاده على أسلوب اللاأدريين، فهو “مقتنع” أن الإسلام غير صحيح، ويهرب من عبء الدليل بنفي ادعاء “القناعة”!

ويلزم من عدم القناعة بالإسلام القناعة بضده، لأنه لا يمكن أن يبقى العاقل بلا قناعات. وما دام مقتنعا بعدم صحة الإسلام فعليه أن يثبت قناعته تلك كما يقول القرآن في عدة مواضع للرد على غير المسلمين: “قل هاتوا برهانكم”، وإلا فادعاؤه لا قيمة له.

هل هي مسألة قناعات؟

ثم إن المسألة ليست مسألة قناعات وإنما هي مسألة حق وباطل. القناعات تداخلها الأهواء بسهولة، والناس ليسوا على حد سواء من التجرد للحق. ولهذا تختلف قناعاتهم وتتناقض كثيرا. ولو أخذنا قناعات الناس معيارا للصحة أو للمحاسبة فسوف ندخل في إشكالات عقلية ومنطقية؛ ولأن قناعات الناس تتناقض حول الأمر الواحد، فمن المستحيل منطقيا أن يكونوا جميعا على حق، والقاعدة المنطقية تقول إن الحق لا يناقض الحق، وهي القاعدة مطّردة حتى على مستوى المنطق الرياضي. وعلى ذلك فلا قيمة للقناعات الشخصية في موازين الحق والباطل، وإنما المناط هو الحجة التي يسميها القرآن “البرهان”، وعند طرح البرهان يتضح الأمر إن كان صاحب القناعة ذا هوى أم متجردا منه.

كيف خلق الله العقل ولم يقبل قناعاته؟

الحاصل هو أن العقل نفسه قد تكون قناعاته مشوبة بانحرافات الهوى والتأثير، وليس شرطا أن تكون النتيجة التي تخلص إليها عقول البشر كلهم سليمة. يقول الله تعالى: “وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ” (النازعات 40-41)، لاحظ الشرط هنا. فالله أعطانا هذه الأداة (العقل) وترك لنا استخدامها بطريقة سليمة أو بطريقة منحرفة مع أهوائنا ورغباتنا.

هل السؤال مهم؟

هذا السؤال (ما ذنب من لم يقتنع بالإسلام أن يدخل النار؟) هو سؤال خال من المعنى ولا قيمة له لسبب بسيط، وهو أنه من غير المناسب لأحد أن يطرحه، فإن طرحه مسلم فالمسلم لا خوف عليه لأن الأمر خاص بالكافر فقط ولا يخص المسلم ولا يضيره، وإن طرحه كافر فهو كذاب لأنه لا يؤمن أن أحدا سيدخل النار أصلا. كيف لكافر أن يشتكي من دخول النار بسبب كفره؟ وهل يريد أن يدخل الجنة مثلا؟ إنه لا يؤمن بالنار ولا بالجنة!

 

نحن نفعل الخير لأنه خير وأنتم تبحثون عن الأجر

يقول بعض الملحدين إنهم يفعلون الخير لأنه خير وليس رجاء في الجزاء كالمسلمين، ولذا فهم أبعد عن المصلحة في فعل الخير.

عبارة “يفعل الخير لأنه خير” هي عبارة خادعة، فلا يوجد أي عمل يقوم به أي شخص إلا بمقابل. هذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها. فمن يعتقد أنه “يعمل الخير لأنه خير” إنما يعمله لأنه يشبع عنده رغبة فطرية سليمة تميل إلى عمل الخير، فعمل الخير يعطيه شعورا بالسعادة، ولهذا يسعى إليه.. وإلا لو كان عمل الخير يؤذي مشاعره ويزعجه لما عمله. فالنتيجة النهائية هي تحقيق رغبة واستمتاع بمشاعر مريحة ومفرحة عند هذه الشخصية الطبيعية.

لكن لماذا مثلا يقوم الماسوشي بتعذيب نفسه؟ أي خير في أن يعذب نفسه؟ الجواب هو أنه يشعر بالمتعة في ذلك لأنه لديه اضطراب نفسي. فتعذيب نفسه في معياره خير شخصي له.

بل حتى المنتحر لا يقدم على الانتحار إلا عند شعوره أن الفناء أفضل له من البقاء أو البقاء أسوأ من الفناء.

قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى (المجلد الثامن):

“الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله، إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لقصده الحمد والثواب بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان، فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمده لأجله، أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء، لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء، وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة، كان عابثاً.”

والقدرة على إصدار الأحكام بالخيرية تدخل فيها عوامل نفسية بالطبع فتفسدها وتكون الأحكام بدورها فاسدة.

تأمل مثلا ما الذي يجعل السادي يستمتع بتعذيب الآخرين.. نفس المعيار: اضطراب نفسي يجعله يستمتع بذلك الفعل الذي لا يحمل أي خير.. سوى خير وحيد يشعر به هو: المتعة!

فالحاصل هو أن هناك معايير مختلفة لتحديد وقياس الخيرية، وهذه المعايير ذاتية للغاية وغير موضوعية أبدا لأنها تخضع للذات والمشاعر.

فهل نترك الأمر لكل شخص أن يحدد الخيرية بلا معيار موضوعي محدد؟ هذا لا يستقيم لمصلحة حياة البشر.

إذن كيف نحصل على بوصلة واضحة ودقيقة ومضبوطة لا تتأثر بأية مؤثرات ذاتية؟

هذه البوصلة الواضحة والدقيقة للغاية هي معيار الثواب والعقاب الذي يحدده الوحي. فالوحي ينهاك عن إيذاء نفسك وإلا سينالك العقاب، وينهاك عن الاعتداء على الآخرين وإلا سينالك العقاب.. وهو في الوقت نفسه يأمرك بالإحسان للآخرين حتى تنال الثواب..

هنا صارت هذه البوصلة ضابطا دقيقا وواضحا لا مجال فيه للمراوغة.

قد يقال إن الأنظمة والقوانين تكفي في هذا الجانب.. لكن الواقع أنها غير كافية، ففيها ثغرات كثيرة، منها على سبيل المثال أن من السهل للمنحرف أن يرتكب الجرم إذا ضمن عدم اكتشافه ومحاسبته. بل إنه إذا توفرت الفرصة عند الملحد لسرقة المال دون أن تعود عليه السرقة بأي ضرر على الإطلاق، فإن عدم استغلاله لهذه الفرصة يعتبر بالمعيار المادي سلوكا أخرقا، ولا يمكن لأي ملحد أن يجادل في ذلك.

ومن هذه الثغرات أن المنحرف قد يؤذي نفسه، فأي قانون يستطيع أن يحاسبه؟ بل إنه قد يرتكب جريمة كبرى بحق نفسه وهي الانتحار، فأي قانون في الدنيا يستطيع أن يعاقب المنتحر؟

بينما كل هذه الثغرات غير موجودة عند وجود ضابط الثواب والعقاب الأخروي كما ورد في الوحي.

فعندما يقوم المؤمن بعمل الخير فهو أولا يشبع فطرته السوية التي تدعوه لذلك، ويحقق شعورا بالسعادة المضاعفة، أولا من تحقيق نزعته الفطرية للخير وثانيا من أمله في الثواب الأخروي.. أما إذا كان لديه اضطراب يفسد ميوله الفطرية إلى الخير فإن الضابط الأخروي يضمن استقامة سلوكه وتصرفاته وعدم خضوعها لذلك الاضطراب.

ولهذا فإن المؤمن يتسم بالسمو، وسلوكه تحركه قواه العقلية السامية التي تميزه عن البهائم، وهي التي تسيطر على عواطفه ومشاعره التي قد يعتريها الهوى والميل.

الاعتراض على ذبح الأنعام

شعور مختلف

بعض الناس قد تأخذه شفقة مبالغ فيها في ذبح الحيوانات، والعلمانيون والملاحدة يجمعون بطبيعتهم الأفكار الشاذة فيروجون لهذه القضية.

الحيوان شعوره مختلف تماماً عما نتصور، فهو يساق للذبح في هدوء وسكينة حتى صارت سكينته لحظة الذبح مضرب المثل في الوداعة: “كشاةٍ تساق للذبح”.

وشكل الاستجابة للألم عند الحيوان هو شكل انقباضي آلي لا يحمل توجعا شعوريا مستقبليا ولا تأملا استرجاعيا للألم فيما بعد. بل إن حقيقة افتراس الحيوانات بعضها لبعض غير مؤلم كما نتخيل بالقياس على طبيعتنا نحن البشر.

تقول عالمة الإثولوجيا البريطانية جين غودال Jane Goodall: “إن افتراس الحيوانات الضارية للضحايا غير مؤلم كما نتخيل.” (Innocent killers, P.13)

وتقطيع أجزاء ضخمة من سمك القرش أثناء اشتباكاته قد يكون لطيفًا وغير مؤلم بالمرة، وأغلبها لا تعاني اضطرابا يُذكر ولا تدرك أن خطرًا كبيرًا أصابها. (H. David Baldrige, shark attack, p.222)

هذه حقيقة يُسجلها العلم، فالحيوان لا يراكم الألم ولا يسترجعه ولا يتأمله. الحيوان تجاربه آنية وقتية لكنه يوفر إدراكًا لاشعوريا يسيرا في ذاكرته يجعله يتفادى تكرار نفس الأمر في المستقبل. (Leslie Pearce Williams, a life in natural history, p.245)

لكن قد يقول قائل: إذا كان ألم الحيوان بسيطًا ويسيرًا فلماذا يتألم بالأساس؟ الألم البسيط هي شيء جوهري أودعه الله في الحيوان كآلية لتوليد إدراك شعوري يحميه مستقبلاً من تكرار نفس الحادث، فالحيوان الذي تلسعه النار لن يقترب منها مرة أخرى، والذي يقع في حفرة سيكون حذرًا في المرات القادمة.

تحريم تعذيب الحيوان

نادى الإسلام بالرحمة مع الطير والحيوان، فلا يجوز تعذيب الحيوان أو تجويعه أو تكليفه ما لا يطيق، ولا اتخاذه هدفا يرمى إليه، بل حرم الإسلام لعن الحيوان، وهو أمر لم ترق إليه البشرية في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في عصرنا الحاضر.

لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ ذوات الأرواح غرضا يُتعلم فيه الرمي، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا”. رواه مسلم.

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يحول أحد بين حيوان أو طير وبين ولده، فقال صلى الله عليه وسلم لمن أخذوا فرخين لطائر: “من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها”. رواه أبو داود.

ونهى صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة بالحيوان، وهو قطع قطعة من أطرافه وهو حي، ولعَن من فعل ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن “النبي صلى الله عليه وسلم لعن من مَثَّل بالحيوان”. رواه البخاري.

ثواب الرحمة بالحيوان

وفي المقابل للرحمة بالحيوان في الإسلام عظيم الأجر، فقد دخلت بغي من بغايا بني إسرائيل الجنة في كلب سقته، ودخلت امرأة النار في هرة أجاعتها كما في صحيح مسلم.

ومن صور رحمته صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإحسان إلى البهيمة حال ذبحها، وأثنى على من فعل ذلك، بل ونهى أن تُحد آلة الذبح أمامها.

قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”. رواه مسلم.

وعن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنهما أن رجلا قال: “يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: والشاة إن رحمتها رحمك الله”. رواه أحمد.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أتريد أن تميتها موتات، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها”. رواه الحاكم.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة.” رواه الطبراني.

تناقض الملحد

أما الملحد الذي يرفض أن يأكل اللحوم لأنها كائنات حية مثلنا على نفس شجرة التطور فمصيبته مصيبة؛ لأنه جمع كل غباء البشر! فكل مأكول في الأرض هو نتاج حياة.

ثم لماذا يأكل هذا الملحد النبات ويرفض الحيوان؟ هل نزع الحياة عن النبات؟ وهل جَهِل أن الذي يعطي الحيوان حقوقًا تطورية يضطر إلى أن يعطي نفس الحقوق للنباتات؟

سويسرا تفرض قانونا يمنع إهانة النباتات!
فهل جهِل أن النبات درجة من درجات التطور؟ أم أنه يؤمن ببعض الإلحاد ويكفر ببعض؟
وهلا توقف عن التبرز لئلا يقتل الطفيليات التي تموت بالتبرز؟
وهلا توقف عن الاستحمام لئلا يقتل المستعمرات البكترية التي تهلك بالاستحمام؟
حين تخالف الدين ينهار عليك سقف العقل!

د. هيثم طلعت

شبهة حجاب الإماء

كتبه: حسام الدين حامد

مباعث الاشتباه

الحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده، وأنّ محمدًا رسوله وعبده، وبعدُ..

فإنّ موضوع حجاب الأمة رغم اندراس أسباب نقاشه، يُعدّ من المواطن التي تُشكِل على كثيرٍ من الناظرين، فمتصبّرٌ يرجو أن يقف على الحكمة والتعليل، ومتعجّل يبادر بالإعراض والتشكيك، وهو من المواطن التي تشارك طوائف مختلفةٌ في اتخاذها موضعًا لشبهةٍ تتخطّف القلوب لغاياتٍ شتّى، فيتخذها العلمانيون والليبراليون والجمعيات النسوية الحداثية كسبيلٍ للطعن في الحجاب، ويتخذها الملحدون والمشككون كسبيلٍ للطعن في حكمة التشريع، ويتخذها العقلانيون كسبيلٍ للطعنِ في المنقول، من أجل ذلك عزمتُ على تفصيل القول في هذه المسألة، بالرغم من أنّها لا يندرج تحتها عملٌ في أيامنا هذه، والله أسأل أن يلهمني رشدي ويرزقني الإخلاص والقبول والسداد!

إنّ الأزمة في النظر في مسألة حجاب الأمة تنبع من عدة جهات:

الجهة الأولى: الخلط بين المقصد وتفاصيل الأحكام

إن الشريعة الإسلامية أتت بمقاصد عامة منها ستر الأبدان لحفظ الأعراض، والعقل يحكم بحسن هذا المقصد إجمالًا، أمّا التفاصيل فلا يمكن الوقوف عليها بالعقل وحده، وذلك كمثل حكم العقل بحسن الزواج لحفظ النسل والعرض، لكن تفاصيل أحكام الزواج ليس للعقل أن يقف على أحسن ما تكون به، فمثلًا: ما قول العقل في زواج الأقارب؟ وما حد الأقارب الذين لا يحسن الزواج بهم؟ وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في التحسين والتقبيح العقلي، أنّ العقل يعرف الحسن والقبح إجمالًا، لكن الوقوف على التفاصيل لا يكون إلا بالشرع.

وسبب الإشكال هو ما يلجأ إليه كثيرٌ من الدعاة من تضخيم قضية الحجاب(1)، فرغم أهمية القضية إلّا أنّ بعض الدعاة قد رفعها فوق قيمتها، حتى أوشك أن يُلحقها بقضايا العقيدة من حيث الأثر، فخطاب بعض المطويات والملصقات على الجدران لنساء المؤمنين قد يصل حدّ قولهم “البسي حجابك لتتحرر القدس!”، وهذه قصة تُذاع أن امرأةً منتقبةً قد ضاع ابنُها فنصحها الناس أن تكشف وجهها ليعرفها ابنها فقالت “يضيعُ ابني ولا يضيع حيائي!”(2)، وما شابه ذلك من القصص والتوجيهات التي تضع الحجاب والنقاب بكافة تفاصيله في مقام الأصول الكبار، ليس بصريح العبارة ولكن بالاهتمام وتضخيم الأثر.

أورث ذلك المسلمين عمومًا والمتابعين والمتأثرين بالخطاب الدعوي خصوصًا، أورثهم خلطًا لاشعوريًّا بين قيمة الستر والحشمة وتفاصيل الحجاب، فتجد أحدهم مثلًا ينفي وقوع الخلاف في تغطية المرأة لوجهها ويدّعي الإجماع على وجوبه، وتجد من ينفي أن تكون هناك امرأةٌ على خلق كاشفةً لشعرها، هذه الأحوال هي التي تجعل الواحد من أولئك المتأثرين يحسب أن أيّ تغيير في تفاصيل الحجاب لا يمكن أن توجد في الشرع، وأنّ أية إباحةٍ لكشف شيءٍ من جسد المرأة مهما كانت حال تلك المرأة، حتى لو كانت تلك الإباحة في شريعةٍ سابقة، يشعر هذا المتأثر أن التغيير هو نقضٌ للمبدأ وليس تغييرًا في التفاصيل!

وقبل هذا التضخيم وما أورثه من خلط، كان فقهاء المسلمين يتناولون مسألة حجاب الأمة بهدوءٍ واختصار، دون أن يعد أحدهم قوله أو ترجيحه من الدعوة لانحلال المؤمنات. كان فقهاء المسلمين يتكلمون عن جواز كشف الأمة لشعرها دون أن يستشعر أحدهم أنّه يدعو لنشر الفاحشة، معقولٌ جدًّا أن ترى امرأةً تكشف شعرها وهي في نفس الوقت محتشمةٌ ومحافظةٌ وعلى خلق، ترى ذلك في شوارع أوربا لا تنكره، وتراه في نساء النصارى في بلادنا فلا يكون كشف شعورهن في حد ذاته قرينةً على الانحلال، بل فيهن المحافظة والعفيفة بلا جدال. هناك فرقٌ بين الفاسدة ذات الخلق المنحل والمحافظة وإن كانت كاشفةً لشعرها، نعم.. تكون عاصيةً إن خالفت أمر الله، ولا تكون آثمةً إن كان الأمرُ لم يرد بالتغطية، لكن كشف الشعر في حد ذاته ليس دليلًا على زوال حسن الخلق والحشمة والستر وزوال كل جميل.

بكلماتٍ أو أسطرٍ قليلة يقرّر الفقيه القديم ويرجّح، ولا يلجأ لإبطال قولٍ من جهةٍ أخلاقيةٍ إلا إن شعر أن هذا القولَ يُنافي مبدأ الستر أصلًا، كقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقًا على نسبة القول بأنّ عورة الأمة هي السوءتان فحسب للإمام أحمد بن حنبل، هنا قال رحمه الله: “وقد حكى جماعةٌ من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهو غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، فإنّ هذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم، و كلام أحمد أبعد شيءٍ عن هذا القول، وإنما كان يفعل مثل هذا أهلُ الجاهلية، حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد، وسمّى فعلهم فاحشة”(3). وماعدا ذلك من التفاصيل لا يبطلها الفقهاء بالتشنيع الأخلاقي عليها كما سيأتي بيانه. وهكذا لو أنّ النفوس تخلّصت من إسار مبالغات الخطاب الحالي واعتقال الوهم المبثوث، لأمكن لهذه الأنفس ألّا ترى في تغيير تفاصيل الحجاب بما لا يضرُّ بالستر شبهةً أو أزمةً كما سيأتي.

الجهة الثانية: التزام المساواة

وهذه الجهة هي مبعث الشبهة من قِبل الليبراليين والعلمانيين، فهم لا يمانعون أن تكشف الأمة أو الحرة شعرها وكثيرًا غير ذلك، ويذرون لها تمام الحرية في ذلك الباب، وإنما مبعث شبهتهم عدم المساواة بين الحرة والأمة، يتخذون عدم المساواة سُلّمًا للطعن في الحكم كله، والصواب أنّ المساواة ليست شرطًا في حسن التشريع، بل الطعن يأتي من التفريق بين المتماثلين، أمّا إن وقع الاختلاف فالمنطقي أن يكون هناك تفريق، وأنت ترى أنّ هناك فرقًا بين عورة المرأة وعورة الرجل، ومع ذلك لا يثير عدم المساواة بين الرجل والمرأة كثيرًا من الاعتراض، ذلك أنّ الاختلاف بين الرجل والمرأة اختلافٌ ظاهر، وبالتالي فالتفرقة بينهما معقولةٌ مقبولة. وعلى ذلك فلو أنّ المعترض وعى الاختلاف بين الأمة والحرة لعرف سر التفرقة، ولقبل الفرق بينهما كما يقبل الفرق بين الرجل والمرأة.

وليست مسألة الحجاب هي المسألة الوحيدة التي وقع التفريق فيها بين الأمة والحرة، بل عدّ بعض أهل العلم المسائل التي وقع فيها الفرق بين الحر والعبد فزادت على الخمسين مسألة(4)، ومن تلك المسائل مثلًا تخفيف حد الزنا على الإماء بقوله تعالى “فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحصَنَاتِ مِنَ العذاب” (النساء: 25)، فليس عليهن رجم، وعلى من زنت من الإماء نصف حد الجلد لتكون على النصف من الحرة، فهناك من يرفض هذه التفرقة نفسها حتى ولو كانت تخفيفًا على الإماء، وهذا اعتراض من لا يفقه شيئًا من طرائق الشرائع والقوانين، لأن التفرقة في حد ذاتها ليست نقصًا في التشريع، بل التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتماثلين هي محل النقص والانتقاد، وما من تشريعٍ إلا ويفرّق بين الجرائم في العقوبة، وبين الرعايا في الواجبات والحقوق وفقًا لما يناسب الأحوال. ولذلك فوجود الفرق بين الأمة والحرة بما يفسّر سبب التفرقة في الحجاب ينفي الشبهة من هذه الجهة، لأن مجرد التسوية لا فضيلة فيها ولا نقص دون اعتبارٍ بحال المكلفين.

الجهة الثالثة: عدم تصوّر واقع الإماء في المجتمع

ذلك أنّ عصر الإماء والعبيد قد انقضى منذ زمان، وكلّ المتكلمين في المسألة ما عايش حياة الإماء والعبيد، وأغلبهم لم يقرأ شيئًا يصوّر له هذه الحياة ويقرّبها قبل أن ينتهض للاعتراض، وسوء التصور هذا يورث غلطًا في الفهم والاستقبال ولا شك، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ومن ذلك قوله تعالى “وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ” (النساء: 25)، فيتصور من لا يدري أن في هذا انتقاصٌ من الأمة المؤمنة، مع أنّ الله عز وجل قال “وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ” (البقرة: 221)، ومع أنّ القضية أنّ المسلم لو تزوج أَمةً فسيكون ابنه عبدًا لسيد الأمة(5)، في حين أنه لو لم يتزوجها وأنجبت من صاحبها فسيكون ابنها حرًّا وتصير هي أمّ ولدٍ لا يُفرّق بينها وبين ولدها، وإن لم يُعتقها أبو ولدها فإنّها تصير حرةً بوفاته، ولو شُرع أن تكون حرةً بمجرد زواجها لعضلها سيدها ومنعها من الزواج.

يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسيره: “وقوله (من فتياتكم) للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفع عن نكاحهم وإنكاحهم، وكذلك وصف (المؤمنات) وإن كنا نراه للتقييد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب… ومن تلك المعاني أنه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعلها حليلة، ولكن يقضون منهن شهواتهم بالبغاء، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات جزاءً على إيمانهن، وإشعارًا بأنّ وحدة الإيمان قربت الأحرار من العبيد”. وقال في بيان تقديم الحرة على الأمة في النكاح: “إذا استطعتم الصبر مع المشقة إلى أن يتيسر له نكاح الحرة فذلك خيرٌ لئلا يوقع أبناءه في ذل العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة، ولئلا يوقع نفسه في مذلة تصرف الناس في زوجه”، فانظر كيف يؤدي عدم العلم بالواقع إلى قلب الإحسان في الآية إلى شبهة وانتقاص!

يتصور أحدهم أن الأمة مثلها مثل الخادمة في أيامنا هذه، وأنّ اللاتي يضطرهن الحال للعمل في خدمة البيوت هنّ كمثل الإماء قديمًا، وفي عدد غير قليلٍ من الأسئلة التي تُوجه لجهات الإفتاء وأهل الفتوى تجد خلطًا بين الخادمات والإماء، وهذا التصور البئيس يلعب دورًا رئيسًا في إثارة الشبهة المتعلقة بحجاب الإماء، وسوف أضع تقريبًا لوضع الإماء ييسر للقارئ تصور حالهن والقدرة على تفهّم الأحكام المتعلقة بهن.

الجهة الرابعة: الانسياق لأثر الغيرة مطلقًا

وذلك أنّ جلّ من يتكلم في موضوع حجاب الأمة من المتدينين، يتصور تلك الأمة من نساء بيته، فيغار ويرفض خروجها إلا أن تكون مستورةً كالحرة، يريدها أن تغطي كل جسمها، فهو لا يريد أن تكشف الأمة شيئًا يزيد على ما تكشفه الحرة من جهة غيرته عليها. يقول ابن عثيمين رحمه الله في توصيف هذا الواقع: “وكثيرٌ من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ”(6)، وفي الحديث “إنَّ من الغَيْرة ما يحبُّ الله ومنها ما يكره الله؛ فالغَيْرة التي يحبُّها الله الغَيْرة في الريبة، والغَيْرة التي يكرهها الله الغَيْرة في غير ريبة” (رواه أبو داود والنسائي وحسنه ابن حجر والألباني).

والشرع الحنيف يُراعي هذه الغيرة في أحكامه، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد أن تُحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنّه قال لرسول الله: احجب نساءك! فلم يفعل صلى الله عليه وسلم. وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلًا إلى ليل قبل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأةً طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة! حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، فعاد الفاروق يريد أن يزيد الأمر عن الحجاب في الملبس، فتحجب النساء في البيوت، إذ خرجت سودة بنت زمعة- كما في الصحيح- ليلًا فرآها عمر فعرفها، فقال: إنّك والله يا سودة ما تخفين علينا! فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وهو في حجرة عائشة رضي الله عنها يتعشى وإن في يده لعرقا، فأنزل الله عليه فرفع عنه وهو يقول: “قد أذن الله لكنّ أن تخرجن لحوائجكن”.

هكذا يخالف الشرعُ في الجانب الذي يؤدي إلى التضييق على النساء، ومن تلك المخالفة لظنون الغيرة وآثارها نهيه صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا يتخونهم أو يطلب عثراتهم (رواه مسلم)، ومن تلك المخالفة كذلك ما رواه مسلم أنّ سعد بن عبادة الأنصاري قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. قال ابن عبد البر رحمه الله معلقًا: “يريد- والله أعلم- أن الغيرة لا تبيح للغيور ما حرم عليه، وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله، وأن لا يتعدى حدوده، فالله ورسوله أغْيَر”.(7)

وهكذا نرى أن الشريعة قد أتت بمراعاة المحمود من هذه الغيرة كما وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض مراده، وأتت أيضا برد المذموم منها وإلجامه بالأدلة المحكمة. ومن أفضل ما يفيد في مقامنا ما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنعها، فقال بلال: والله لنمنعهن! فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًّا سيئًا ما سبّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن؟ (متفق عليه)

فكون المرء يغار لا يمنحه الحق في أن يحكم على فعله بالصواب، بل قد تؤدي الغيرة إلى بغي على الناس، وتضييقٍ على النساء، واضطرابٍ في العلاقات الأسرية، وهذه الغيرة لا تصلح منطلقًا لتقويم الأحكام، وإنّما ندعو الله أن يذهب بكل غيرةٍ لا تنضبط بأحكام الشرع وتؤذي الخلق، كما قالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبها إنّ لها بنتًا وإنّها غيور، فقال: “أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة”. (رواه مسلم)

وبعد بيان هذه المباعث الأربعة والتي تؤثر في النظر، فيحسب المرء أن هناك شبهة في الحكم، أرجو أن يتخلص القارئ من أية صورةٍ مغلوطةٍ عن الإماء بناها على تخيلاتٍ محضة، وأن يدع عنه التهويل الخطابي لقضية الحجاب ليتم وضعها بكل تفاصيلها في مصاف الأصول الكبار من جهة الأثر، وأن يدع عنه الغيرة المذمومة والانسياق لها، ويكتفي بما يستصحبه من حسن الحياء والحشمة والستر في الجملة، لننظر في الحكم ومناسبته للمكلّف دون توهمٍ أنّ المساواة مطلبٌ من مطالب التشريع ومعيارٌ من معايير الحكم بالصواب، وإنما الشأن في مناسبة الحكم لمقتضى الحال، وهذا الذي سنراه قد وقع في حكم حجاب الإماء إن شاء الله.

أقوال العلماء

اختلفت أقوال أهل العلم في عورة الأمة وحجابها، وقد يخلط بعضنا بين كلام الفقهاء عن عورة الخلوة والصلاة والنظر، وخصوصًا الأخيرين. والذي يعنينا في هذا المقال هو عورة النظر. أقول إن أقوال الفقهاء قد اختلفت على عدة أقوال، سأذكرها مع التعليق عليها بما يناسب المقام، وهو هنا دفع الشناعة الأخلاقية عن فقهاء المسلمين جيلًا بعد جيل، أمّا مسألة التفريق بين الأمة والحرة فسيأتي الرد عليها ببيان الفرق بين الأمة والحرة.

ومما لا يخفى أنّ المسلمين لا يعتقدون العصمة في قول أحدٍ من البشر إلا الأنبياء والرسل، ولذلك فما يورده أيّ معترض من فعلِ أو قولِ فلانٍ، يمكن ردّه بسهولة أنّه ليس بحجةٍ، وأنّ كلّ قائلٍ يُؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنّ هذا المقال يتجاوز هذه الطريقة في الرد، ليرفع عن علماء المسلمين نقيصة يريد المعترض أن يلحقها بهم، ليس من باب التنزل في الرد، ولكن لأنّه لا يصح التهجم على تخطئة جمهور علماء المسلمين، الذين يرجّحون ويرجعون للدليل من الكتاب والسنة، لا يجوز التهجم على تخطئتهم ورميهم بالموافقة على شيوع الفاحشة والعري في الذين آمنوا، هذا لو قلنا إنّ ترجيحهم كان خطأ، فإنّ تخطئة الترجيح من ناحية علمية، لا تعني القبول بتخطئتهم من ناحية أخلاقية.

وقد اختلف الفقهاء في حد عورة الأمة في باب النظر على عدة أقوال هي:

القول الأول

ما بين السرة والركبة (رواية في المذهب الحنبلي، وقولٌ عند الشافعية، وقول محمد بن مقاتل من الحنفية، وقول المالكية).

القول الثاني

ما بين السرة والركبة مع الظهر والبطن (المشهور عند الحنفية).

والذي يقرأ هذين القولين يتصور أنّ القائلين به يدعون لخروج الإماء إلى الطرقات كاشفاتٍ عن صدورهنّ أو أظهرهن، وهذا التصور يبطل من عدة وجوه:

  1. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم قالوا إنّ عورة الرجل ما بين السرة والركبة، ورغم ذلك لم يكن ديدنهم في أنفسهم ولا في الناس الدعوة لخروج الرجال ساترين لما بين السرة والركبة فحسب.

  2. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم هم من يقررون أن عورة المرأة أمام محارمها كأخيها هي ما بين السرة والركبة، ولم يفهم أحدٌ من ذلك ولم يحدث أنّهم دعوا لتطبيق ذلك فحسب، وإنما الكلام في القدر الواجب ستره، وهذا لا يمنع من استحباب ستر ماعدا ما بين السرة والركبة مما لا يظهر غالبا، كما لا يمنع أنّ العمل بين الناس والمشتهر كان ستر المرأة لما لا يظهر منها غالبًا أمام محارمها.

  3. أنّ هذا الترجيح في حد ذاته لا يلزم منه أن يكون ذلك هو المعمول به في ديار المسلمين، قال في الواضحة: “وما رأيت أمةً تخرج وإن كانت رائعةً إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعرٍ محمم، لا تلقي جلبابًا لتُعرف الأمة من الحرة”(8) ، ولو كانت الإماء يكشفن أكثر من ذلك لذكره، أما وقد اكتفى بكشف الشعر ففي ذلك إشارة قوية إلى أنّهن لا يكشفن ما هو أعظم من الشعر كالصدر والظهر.

  4. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم يقررون أنّه لا يحل النظر للأمة بشهوة، قال ابن عبد البر في الكافي: “وعورة الأمة كعورة الرجل إلا أنه يكره النظر إلى ما تحت ثيابها لغير سيدها، وتأمل ثديها وصدرها وما يدعو إلى الفتنة منها، ويستحب لها كشف رأسها، ويكره لها كشف جسدها”(9) ، وقال النووي رحمه الله- وهو شافعي- في المنهاج: “والأصح حل النظر بلا شهوةٍ إلى الأمة إلا ما بين سرةٍ وركبة” وقال الخطيب الشربيني معلقًا: “أما النظر بشهوة فحرامٌ قطعًا لكل منظورٍ إليه من مَحرم وغيره غير زوجته وأمته”(10)، ويقول الشيخ أحمد الصاوي المالكي “واعلم أنّه لا يلزم من جواز الرؤية جواز الجس، فلذلك يجوز للمرأة أن ترى من الأجنبي الوجه والأطراف ولا يجوز لها لمس ذلك”(11).

  5. أنّ هؤلاء الفقهاء أنفسهم كانوا يقررون أن ستر الصدر والظهر والساق مستحب، ومن أمثلة ذلك قول العلامة المالكي أبو عبد الله محمد الخرشي في شرح مختصر خليل “لما قدّم تحديد عورة الأمة الواجب سترها أشار لحكم ما عداها، المعنى أنّ الأمة ومن فيها بقية رقّ من مكاتِبة ومبعضَة غير أم الولد- بدليل ما يأتي- لا تطلب لا وجوبًا ولا ندبًا بتغطية رأس، بخلاف ستر جميع الجسد فمطلوبٌ لها”(12)، هذا والمعتمد عند المالكية أنّ العورة ما بين السرة والركبة لكنهم أنفسهم يقررون أن “ستر جميع الجسد- ماعدا الرأس- مطلوب”، ويتناقلون قول الإمام مالك رحمه الله وقد سئل: أتكره أن تخرج الجارية المملوكة متجردة؟ فقال: نعم، وأضربها على ذلك. قال محمد بن رشد: يريد متجردة مكشوفة الظهر أو البطن(13). ويقول أبو الحسن الماوردي الشافعي في بيان ما على الزوج من نفقة لكسوة خادم زوجته: “وإن كان الخادم أمةً كساها قميصًا وقناعًا ولم يقتصر بها على المئزر وحده وإن ألفوه، لأنّه يُبدي من جسدها ما تُغَضُّ عنه الأبصار وإن لم تكن عورة”.(14)

وعليه فثمّ فرقٌ بين القول ومقصد القائل منه، فقد تختلف مع القول وترى أنّه خلاف الصواب من خلال النظر في أدلته وحسب، ولكن لتحكم على القائل يلزمك- إنصافًا- أن تنظر في سائر أقواله وأفعاله وسيرته مما له تعلق بهذا القول، فالقول بأنّ عورة الأمة هي ما بين السرة والركبة، لا يلزم منه الدعوة للاكتفاء بذلك، ولم يكن عليه العمل في المجتمع الإسلامي في القرون الأولى، ولا يجوز النظر للأمة بشهوة، وتغض عنها الأبصار، ولا يجوز لمسها، والمنقول عن هؤلاء الفقهاء أنّ ستر ما عدا السرة والركبة مستحب ومطلوب إلا الرأس، ويجعلون توفير ما يستر ذلك مما يلزم من عليه نفقة الأمة. وسئل مالك رحمه الله عن خروج الأمة متجردة كاشفةً لبطنها وظهرها فقال إنه يكرهه ويعاقبها إن فعلت ذلك، ولا شأن لنا بعد ذلك بصورٍ تتداولها بعض المواقع يزعمونها لإماء في بلاد المسلمين في القرون المتأخرة، إذ العبرة بكلام أهل العلم وتطبيقهم المنتشر في القرون الأولى.

القول الثالث

أنّها كالحرة (وهو قولٌ عند الشافعية والحنابلة، وهو قول أهل الظاهر).

قال النووي رحمه الله “قد صرّح صاحب البيان وغيره بأنّ الأمة كالحرة، وهو مقتضى إطلاق كثيرين، وهو أرجح دليلًا والله أعلم”(15) ، وقال “والأصح عند المحققين أن الأمة كالحرة والله أعلم”(16)، وقال ابن حزم رحمه الله مشددًا في رفض الفرق بين الحرة والأمة “وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله تعالى واحد، والخلقة والطبيعة واحدة، كل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيءٍ فيوقف عنده”(17) ، ثمّ أطال رحمه الله في إيراد أدلة المفرّقين والرد عليها، وهذا هو قول الشيخ الألباني رحمه الله من المتأخرين.

وعلى هذا القول بعدم التفرقة فلا إشكال أصلًا من الناحية الأخلاقية، وإن كان هذا القول مرجوحًا كما سيأتي بيانه عند تناول الأدلة إن شاء الله.

القول الرابع

كلها عورة إلا ما يظهر غالبا، فقيل إلا الرأس، وقيل إلا الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، وقيل: الرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى أنصاف الساقين (قولٌ عند الحنابلة وقول عند الشافعية).

قال ابن تيمية رحمه الله: “والثاني- أي ما لا يظهر غالبًا- هو عورة، قاله القاضي في الجامع وابنه أبو الحسين وذكر أنه منصوص أحمد، وهو اختيار أبي الحسن الآمدي، وهو أشبه بكلام أحمد وأصح، لأن عليًّا رضي الله عنه قال تصلي الأمة كما تخرج، ومعلومٌ أنّها لا تخرج عارية الصدر والظهر، ولأن الفرق بين الحرة والأمة إنما هو في القناع ونحوه كما دلت عليه الآثار، ولأنهن كن قبل أن ينزل الحجاب مستويات في ستر الأبدان، فلما أمر الحرائر بالاحتجاب والتجلبب بقي الإماء على ما كنّ عليه، فأما كشف ما سوى الضواحي- أي الأطراف التي تظهر غالبا- فلم يكن عادتهن ولم يأذن لهن في كشفه فلا معنى لإخراجه من العورة، ولأن الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، وقميص الأَمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار، ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء تكميلًا للتزين بستر المنكب، فكيف يأذن للأمة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بأن انكشاف ذلك منها أشد قبحًا و تفاحشًا من انكشاف منكب الرجل”.(18)

وهذا القول بستر ما لا يظهر غالبًا وعدم ستر الرأس واليدين والقدمين، لا يحمل شناعةً أخلاقية، وأنت ترى أنّ هذا هو الأصل في ثياب المحافظين من غير أصحاب الدين، يسترن جميع الجسم إلا الوجه والشعر واليدين وأسفل الساقين، لا يرى أحدٌ حتى من غير أصحاب الدين أنّ هذا ينافي الستر أو الحشمة أو التحفظ في الثياب مطلقًا، وقد كان عرب الجاهلية أصحاب مروءة ونخوة وكانوا يسمحون لنسائهم بالخروج كاشفاتٍ عن رؤوسهن وأيديهن دون حرج، فليس في هذا القول أية نقيصة أخلاقية لذاته.

القول الخامس

التفريق بين الإماء بحسب أحوالهن، فالخفرة- أي التي لا تكثر الخروج ويغلبها الحياء- ليست كالبرزة- التي تُكثر الخروج، والجميلة ليست كالقبيحة، وإماء التسري لسن كإماء المهنة، وهو قول بعض المحققين من أصحاب المذاهب أو المستقلين، وهو رواية عن الإمام أحمد كذلك.

في مسائل الإمام أحمد “قلتُ لأحمد: تكره للأمة أن تخرج متقنعة؟ قال: أما إذا كانت جميلة تنتقب!”(19). وقال الشيخ على العدوي رحمه الله ناقلًا عن القاضي عياض قوله “ولا ينبغي اليوم الكشف مطلقًا لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ويلزم الإماء بهيئة تميزهن من الحرائر”(20). وقال عبد الملك بن حبيب المالكي رحمه الله: “وما رأيتُ بالمدينة أمَة تخرج وإن كانت رائعةً إلا وهي مكشوفة الرأس في ضفائرها أو في شعر محمم لا تلقي على رأسها جلبابًا لتعرف الأمة من الحرة، إلا أن ذلك لا ينبغي اليوم لعموم الفساد في أكثر الناس، فلو خرجت اليوم جاريةٌ رائعةٌ مكشوفة الرأس في الأسواق والأزقة، لوجب على الإمام أن يمنع من ذلك ويلزم الإماء من الهيئة في لباسهن ما يعرفن به من الحرائر”(21).

وقال ابن تيمية رحمه الله “فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمَة والنظر إليها فتنة وجب المنع من ذلك”(22)، وقال ابن القيم رحمه الله إنّ “الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسري اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين أباح الله ورسوله لهن أن يكشفن وجوههن في الأسواق والطرقات ومجامع الناس وأذن للرجال في التمتع بالنظر إليهن؟ فهذا غلطٌ محضٌ على الشريعة “(23).

قال القرطبي رحمه الله في التفسير: “وقد قيل: إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء، وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل”.

وهذا القول يراعي الناظر فيه أنّ الوضع تغيّر عن زمان النبوة، إمّا من جهة حسن الإماء، فقد كانت الإماء في القرون الأولى غير حسان في الجملة، فكان التشريع مناسبًا لتلك الحال، فمن نظر إلى هذه الجهة رأى أن الجميلة تكون كالحرة، وأما بتغير الحال من جهة الناس، فقد كان الغالب على مجتمع النبوة الصلاح، ولما تغير الحال وفسد الزمان وكانت الفتنة تقع سريعًا بين الناس رأى بعض أهل العلم أنّ الأولى أن تكون الأمة كالحرة، وذلك من باب أن “بعض الأحكام الشرعية قد يكون مبنيًا على عرف الناس وعاداتهم، فإذا اختلفت العادة عن زمانٍ قبله، تتغير كيفية العمل بمقتضى الحكم، وأما أصله فلا يتغير”(24)، فأصل حكم الحجاب ثابت ولكن ما تعلق منه بوضع الإماء أو أحوال المجتمع ثم تغير العرف بخصوص الإماء أو بخصوص المجتمع فيتغير الحكم ليناسب العرف الحادث مع بقاء حكم الحجاب.

وهذا القول ليس فيه أية نقيصة أخلاقية أو منافاةٍ للستر، ففيه أنّ الجميلة وقليلة الخروج من الإماء تكون كالحرة، في حين تكشف كثيرة الخروج ومن ليست جميلةً عمّا يظهر منها غالبًا لمراعاة حالها حتى لا تقع في الحرج بتكليف ما يشق عليها، وهذا ليس فيه شيء كما سبق بيانه في التعليق على القول الرابع، ولكن يبقى الإشكال بالتفرقة بين الحرة والأمة أو بين الإماء وبعضهن، فهذا سيأتي جوابه في الكلام على مناسبة هذه التفرقة لحال الإماء والحرائر إن شاء الله.

القول السادس

وهو رواية في المذهب الحنبلي، وقد ردّ نسبتها للإمام أحمد بن حنبل شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: “وقد حكى جماعةٌ من أصحابنا رواية إن عورتها السوءتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهو غلطٌ قبيحٌ فاحشٌ على المذهب خصوصًا وعلى الشريعة عمومًا، فإن هذا لم يقله أحدٌ من أهل العلم وكلام أحمد أبعد شيءٍ عن هذا القول، وإنما كان يفعل مثل هذا أهل الجاهلية حين كانت المرأة الحرة والأمة تطوف بالبيت وقد سترت قبلها ودبرها، تقول: “اليوم يبدو بعضُه أو كله، وما بدا منه فلا أحله”، حتى نهى الله تعالى عن ذلك وأمر بأخذ الزينة عند المساجد، وسمّى فعلهم فاحشة، وإنما وقع الوهم فيه من جهة إن بعض أصحابنا قال عورة الأمة كعورة الرجل بعد أن حكى في عورة الرجل الروايتين، وإنما قصد أنها مثله في المشهور في المذهب”(25).

فهذا القول ليس إلّا رواية ضعيفة في المذهب الحنبلي لم يقُل برجحانها أحدٌ من فقهاء المذهب الحنبلي، وقد استظهر بعض أهل العلم الإجماع على أنّ فخذ الأمة عورة، فقال الشيخ علي العدوي المالكي رحمه الله “والظاهر أن النظر لفخذ الأمة عورةٌ بلا نزاع”(26)، وأنكر نسبة هذه الراوية للإمام أحمد محققٌ بثقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ هو فعلٌ جاهليٌّ وقولٌ لم يقل به أحدٌ من أهل العلم.

وهكذا.. فليست كلمة علماء المسلمين متفقةٌ على قولٍ واحدٍ في حجاب الإماء، والقول الأخير الذي يمثّل فحشًا منكرٌ ولم يرجّحه أحد، وبقية الأقوال إمّا تقول بالتسوية بين الإماء والحرائر أصلًا أو بمراعاة تغير الزمان، أو تقول إنّ الأمة عورتها ما لا يظهر غالبا- ماعدا الرأس واليدين والرجلين- وهذا لا يحمل شناعةً أخلاقيةً وعليه العمل عند المحافظين في سائر الأمم، أو تقول بعورة ما بين السرة والركبة مع استحباب وطلب ستر بقية الجسد مما لا يظهر غالبًا وإلزام من في رقبته نفقتها بتوفير ذلك، وإن وُجد بعد ذلك قولٌ يستلزم التشنيع الأخلاقي فهو قولٌ شاذ ليس قول جماهير علماء المسلمين ولا قول مذهبٍ من مذاهبهم، فضلًا عن أن يكون منصوصًا عليه في الشرع، وشرع الله حسنٌ كلّه ليس فيه ما يُنتقص.

أسئلة المقاصد

لنتصور أنّ ثمّ منطقة يكثُر فيها الفسّاق من الشباب، يجتمعون ليلًا يتمازحون ويخوضون، يؤذون النساء أثناء مرورهن في تلك المنطقة بالكلام تارة، وبالأيدي تارة، ثمّ أردتَ أن تنصح النساء لتفادي هؤلاء السفلة الذين يتلذذون بالمعاكسة والتحرش..

  • سأنصح النساء بعدم المرور من هذه المنطقة التي اشتهرت بهذا الأمر حتى لا يؤذين.

فما العمل مع النساء اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة؟

  • سأنصحهن بعدم الخروج ليلًا قدر الإمكان لغلبة وجود هؤلاء الشباب ليلا، حتى لا يؤذين.

فما العمل مع اللاتي يسكنّ في هذه المنطقة ويعملن على قوتهنّ ولابد لهن من الخروج ليلا؟

  • يمكنك أن تنصحها بالاستعانة برجلٍ من عائلتها أثناء عودتها لبيتها ليلًا، حتى لا تؤذى.

فما العمل إن لم يتيسر لها وجود رجلٍ يرافقها عند عودتها ليلًا؟ هل عليها شيء تفعله؟

  • لو وصلنا لهذه النقطة فليس عندي ما أنصحها به، لا أريد أن أكون خياليًّا وأطلب منها أن تغير محل سكنها، ولن أضيّق عليها وأطالبها بعدم الخروج مطلقا، وسوف أراعي في النصيحة حال كلّ فردٍ بما يناسبه، لكنّ هناك نطاقا سأكتفي به في محاولة منع هؤلاء الفساق الذين يؤذون النساء، بنهيهم عن الأذية ومعاقبتهم على أفعالهم.

المقصود أنّ مقصدك وهو “حماية النساء من الأذية” لم يكن هو الحاكم الوحيد على توجيهاتك ونصائحك، فكان من ضمن ما وضعته في حسبانك عند النصيحة وضع المرأة وظروفها، فربما أردتَ حمايتها فأتيت على حساب راحتها فضيّقت عليها، أو أتيت على حساب سعيها فمنعتها من رزقها، ولذلك من الحكمة أن يكون مقصدك “حماية النساء من الأذية” و”عدم التضييق على النساء” بمراعاة العادة الغالبة في أحوال المجتمع، وهذا لا يعني أن قولك للنساء اللاتي لا يسكنّ في المنطقة “لا تذهبن لهذه المنطقة حتى لا تؤذين”.. لا يعني قولك هذا رضاك بأذية النساء من أهل المنطقة، ولكنه خطابٌ يراعي عدم أذية النساء من خارج المنطقة ويراعي في الوقت نفسه عدم التضييق على النساء من أهل المنطقة.

الناظر في آيات الحجاب في كتاب الله تعالى سيجد عدة مقاصد مذكورة في الآيات الكريمة، ففي قوله تعالى: “وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى” أعقبه قوله: “إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا”. وقوله تعالى: “وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ” أعقبه قوله تعالى: “ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ”. وقوله تعالى: “يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ” أعقبه قوله تعالى: “ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ”. وقوله تعالى: “وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ” أعقبه قوله تعالى: “لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون”. وقوله تعالى: “فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ” أعقبه قوله تعالى: “وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ”.

فنحن أمام عدة مقاصد للتكليف بالحجاب وهي “ذهاب الرجس” و”طهارة القلب” و”مراعاة غيرة المحارم” و”قطع سبل الإيذاء” و”الفلاح” و”العفة”، وبمراعاة هذه المقاصد مع مراعاة الواقع وعدم التضييق على النساء تأتي التوجيهات، فنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرن ألّا يكلمن الرجال في بيوتهن إلا من وراء حجابٍ ولا تبرز شخوصُهن وإن كنّ بحضرة محارمهن، وهذا الحكم خاصٌّ بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه يوافق كمال طهارة القلوب وذهاب الرجس ومراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لو طُرد هذا الحكم على كافة نساء المؤمنين لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق نساء المؤمنين دون أن يعني ذلك أن تحقيق طهارة القلب ليست مقصدًا في حق الجميع.

وكذلك نساء المؤمنين الحرائر أُمِرن إن خرجن أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وهذا الحكم خاصٌّ بالحرائر لأنّه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة المؤمنات ليشمل الإماء لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق الحرائر دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع.

تمامًا كما تقول للنساء- كما أسلفنا- لا تذهبن إلى تلك المنطقة المليئة بسفلة الشباب، وهذا النصح خاص بالنساء من خارج المنطقة لأنه يقطع عذرًا للفاسدين في إيذائهنّ، لكن لو طُرِد هذا الحكم على كافة النساء ليشمل أهل المنطقة لكان فيه مشقةً وتضييقًا عليهن، فرُوعي ذلك في حق النساء من خارج المنطقة دون أن يعني ذلك أن منع أذية المجرمين ليست مقصدًا في حق الجميع.

إذن..

  • هل التمييز واقع بين النساء الحرائر والإماء في الحكم، كما وقع بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبقية النساء، كما وقع بين نساء المنطقة السكنية ومن هنّ خارجها؟

نعم، التمييز واقع.

  • فلماذا هذا التمييز؟

مراعاةً لعدم التضييق على النساء، فالحكم الذي لا يضّيق عليهن ولا يسبب عنتًا يُطالبن به، وما سبب الضيق والعنت لم يؤمر به، وأُمِرنا بالسعي في تحقيقه بطرقٍ أخرى بعيدة عن النساء كنصوص منع الأذى ومعاقبة المفسدين.

  • هل هذا التمييز يعني عدم رعاية مقاصد مراعاة غيرة المحارم والطهر والعفاف وذهاب الرجس وسد ذريعة الأذية في حق النساء جميعًا؟

لا يعني ذلك، كما لا يعني اختصاص نساء النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام الحط من سائر النساء، فلا يعني مجرد اختصاص الحرائر ببعض الأحكام الحط من الإماء، لأنّ المقصد يكون أكثر إلحاحًا أو مراعاته أيسر في حق بعض النساء دون بعض، فمراعاة عدم أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ في حق نساء النبي، وإدناء النساء من جلابيبهن في حق الحرائر أيسر منه في حق الإماء.

وهنا ينبغي التنبيه على عدة نقاط:

النقطة الأولى

يخطئ بعض الناظرين حين يزعم أنّ الحجاب إنّما شُرع للتمييز بين الحرة والأمة فحسب، وإنّما الصواب أنّ تشريع الحجاب يحقق عدة مقاصد وردت منصوصًا عليها في الآيات الكريمات كما سبق، ومنها سد ذرائع أذية النساء بقطع حجة من حجج المؤذين أنّهم حسبوها أمَة، فشُرع ما يميّز بين الاثنين قطعًا لهذه الذريعة، مع العلم أنّ هذا المميّز يصعب على الإماء الالتزام به، فلو كلّفن به لاجتمع عليهن مشقة التكليف واحتمالية وقوع الأذى في كل حال، فناسب في حقهنّ منع الإيذاء بالطرق الأخرى.

النقطة الثانية

أنّ إدناء الجلابيب يحقق المعرفة بالحرية وحسب، ولا يمنع من معرفة الشخص، فقد خرجت سودة بنت زمعة رضي الله عنها بعد الحجاب وقد أدنت عليها من جلبابها فعرفها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشخصها، ولما خرجت إحدى الإماء متقنعة عرفها عمرُ رضي الله عنه. قال الشوكاني رحمه الله في التفسير: “أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء، ويظهر للناس أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله “ذلك أدنى أن يعرفن” أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء، لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر”اهـ.

فحتى لو لبست الأمة وأدنت عليها من الجلباب فهذا لا يمنع أن يعرفها أحد المؤذين بشخصها فيؤذيها، فالإدناء لا يمثّل ضمانة تامة لمنع الأذية. ونحن في أيامنا نرى المحصنات المتسترات تمامًا قد يتعرضن للأذية من سفلة المتسكعين في الشوارع! نعم.. يقل ذلك الإيذاء والتعرض في حق صاحبات الحجاب ولكنّه موجود على أية حال، ويجب منعه بردع هؤلاء المتسكعين وعقوبتهم ليكفوا أذاهم عن عباد الله.

النقطة الثالثة

أن رغبة بعض الناظرين في المساواة تُعميه عن ملاحظة ظروف الأمَة التي تعمل في مهنة البيت وتنظيفه وما شابه، كما أنّها تظهر أمام مولاها وأضيافه، وتخرج لمختلف الحاجات كالشراء ورعاية الغنم وغيره، تُعميه الرغبة في المساواة فيطالب بتكليفها بإدناء الجلباب عليها ليزيدها مشقة التكليف فوق خشية الإيذاء، ولك أن تتخيل امرأةً تخرج وتدخل في اليوم أكثر من عشرين مرة، تطالب في كلّ مرة أن تدني عليها من جلبابها، مع العلم أنّ الجلباب ليس ضمانةً ألا تُعرف بشخصها فضلا عن أن تعرف أنّها أمَة، ولا يمثل ضمانةً تامةً في منع الأذى، وإنما هو وسيلة لقطع إحدى اعتذارات الذين يؤذون النساء، يطالبون- من أجل رغبتهم بالمساواة- أن يُعنت الشرع الأمَة التي قد تخرج وتدخل أكثر من عشرين مرةٍ في اليوم!

ألا ينظر أحدهم إلى المرأة العاملة في مجتمعنا هذا، خصوصًا التي يضطرها عملها للخروج ليلًا والتعامل مع الرجال، مع شدة حاجتها للمال في كثيرٍ من الأحيان، مثل النساء العاملات بمهنة التمريض والبيع في المحلات؟ ألا ينظر أحدهم فيقف على شيءٍ من الجهد الذي تبذله لتحافظ على حجابها وحيائها وتفرض حاجز الحشمة بينها وبين الرجال؟ هذا وهنّ ملتزماتٌ بساعاتٍ قليلةٍ في العمل تصل إلى ثماني ساعات في الغالب! ألا ينظر أحدهم فيعلم مقدار الجهد الذي ستبذله الأمة وهي التي في هذه الحال طوال اليوم- تخدم مولاها وأضيافه وتخرج وتشتري- لو كلّفت بإدناء الجلباب أو تغطية الوجه؟ أم أنّهم لا يعرفون شيئًا عن حال هؤلاء العاملات ولا يبالون إلّا بالاعتراض على ما لا يتصورونه من أحكام الشريعة التي تأتي مناسبةً للأحوال؟

النقطة الرابعة

أنّ هذا الذي ذكرناه من حال الأمَة وعملها هو الذي التمس به علماء المسلمين الحكمة في اختصاص الحرائر بزيادة التستر الواجب، وهذا التمييز إنّما كان لمناسبة حال الأمَة، ولم يكن الحجاب لمجرد التمييز بين الحرة والأمة، وإنما للتخفيف على الأمة، وبيان ذلك من وجوه:

  1. لو كانت علة التفرقة هي في كونها أمةً فحسب، لكان هناك فرقٌ في عورة الرجل بين العبد والحر، وليس في الشريعة هذا الفرق.

  2. قال ابن تيمية رحمه الله: “الأصل إن عورة الأمة كعورة الحرة كما إن عورة العبد كعورة الحر، لكن لما كانت مظنة المهنة والخدمة، وحرمتها تنقص عن حرمة الحرة، رخص لها في إبداء ما تحتاج إلى إبدائه وقطع شبهها بالحرة”(27). فالتخفيف عن الأمة في شأن الحجاب جاء مراعاة لشأنها وعملها مع ما عُلِم من ضعف غيرة الرجال عليها، فكان الأنسب لها التخفيف عليها.

  3. أنّ عورة الأمة مع الرجال أشبهت عورة الحرة مع محارمها، وعورة الحرة مع محارمها راعت عملها في مهنة بيتها وحركتها فيه وتعاملها مع محارمها، فكذلك عورة الأمة مع الرجال راعت غلبة خروجها وحركتها في الشارع وتعاملها مع الرجال، قال شيخ الإسلام برهان الدين المرغيناني الحنفي: “لأنّها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادةً فاعتُبر حالها بذوات المحارم في حق جميع الرجال دفعًا للحرج”، وعلّق عليه ابن الهمام الحنفي رحمه الله قائلًا: “المسقط لحكم العورة حتى تبعته هي في السقوط: الحرج اللازم من إعطاء بدنها كله حكم العورة مع الحاجة إلى خروجها ومباشرتها الأعمال الموجِبة للمخالطة”(28).

  4. يرى الفقهاء أنّ الستر في حق الإماء أمام الأجانب أولى منه في حقّ الحرة أمام محارمها. يقول العلامة الزيلعي رحمه الله في الاستدلال بقياس الأولى على أنّ ظهر الأمة عورة: “ولهذا لو جعل امرأته كظهر أمّه الأمة كان مظاهرًا منها، والظّهار لا يكون إلا بما لا يحل النظر إليه، فإذا حرُم على الابن فعلى الأجنبي أولى أن يحرُم، ويدخل في هذا الجواب أم الولد والمُدبّرة والمكاتبة والمستسعاة عند أبي حنيفة”(29)، فكما ترى أنّ الحكمة التي التمسها العلماء كانت من طبيعة حياة الأمة، وأنزلوها منزلة عورة المرأة مع محارمها مع جعل شأنها أمام الأجانب أولى بالستر.

  5. أنّ هذا التشريع كما يراعي منع الحرج الذي سيقع على الإماء لظروف عملهن، يراعي فقرهن وعدم المشقة على من تلزمه نفقتهن، وفي الصحيح أنّ أم عطية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج للعيد قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها من جلبابها.

  6. بالإضافة إلى أنّه يراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية فإنه يراعي الحالة الدينية، فالغالب في وسط الإماء ضعف الوازع الديني، فتراعي الشريعة فيمن هذا حاله ألا تشدد عليه بالتكاليف، ولذلك فمثل هذا لو أخطأ تكون العقوبة في حقه أخف، وهذا من حسن وجمال الشريعة الإسلامية. ومن ذلك أن الأمة لو زنت فعليها نصف الحد الذي على الحرة، لقوله تعالى: “فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَات مِنَ العَذَاب”، قال ابن عاشور رحمه الله عند تعرضه لأحد المذاهب في التخفيف على الإماء في الحد لطبيعة مهنتهن وظروف حياتهن: “أن فيه للمتبصر بتصريف الشريعة عبرةً في تغليظ العقوبة بمقدار قوة الخيانة وضعف المعذرة”.

  7. لو كانت العلة في العبودية والحرية لما قال بعض فقهاء المسلمين إنّ الأمة لو خلت من غلبة المهنة عليها فإنّها تصير كالحرة كما في القول الخامس أعلاه.

  8. أن من الحرائر من تكون عورتها- على قولٍ لبعض أهل العلم- أمام الأجانب كعورة الأمة أمامهم، وذلك بمراعاة انقطاع الشهوة فيهن، ولو كان الحجاب متعلقًا بالحرية فحسب لالتزمت به الحرة وإن بلغت من العمر أرذله، قال تعالى: “وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (النور: 60).

  9. لو كان محل النظر هو الحرية والعبودية في الحجاب، لما كان في الفقهاء من علّق الحكم بجمال الإماء أو بفساد الزمان، كما هو القول الخامس من أقوال أهل العلم الذي سبق بيانُه أعلاه، فقول هؤلاء نفسه قرينة على أنّ العبرة لم تكن بالحرية أو العبودية في تشريع الحجاب.

  10. أن الشرع الإسلامي أتى بأقصى الممكن في حسن معاملة الإماء والعبيد مع فتح أبواب العتق على مصراعيها، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم”. أفيُقال في هذا الشرع أنّه جاء للتمييز بين الأمة والحرة في الحجاب من أجل التمييز وحسب؟ لا والله! بل جاء لرفع الحرج عن الإماء إن كُلّفن به!

النقطة الخامسة

أنّ المقصد من الستر في الصلاة ليس هو كالمقصد من الستر في باب النظر فيما يتعلق بمراعاة الغيرة ودفع الشهوة وتزكية القلب وذهاب الرجس، فإن المقصد في الستر في الصلاة هو اتخاذ الزينة لقوله تعالى: “يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ”، والمقصد في الستر في الخلوة هو الحياء من الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن عورة المرء خاليا: “الله أحق أن يُستحيا منه من الناس”.

فرغم أن عورة الرجل ما بين السرة والركبة في باب النظر إلا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء” (متفقٌ عليه واللفظ لمسلم). وبينما نُقل الإجماع على ترك المرأة تغطية وجهها في الصلاة إن لم تكن تصلي بحضرة الرجال الأجانب، فقد اتفق العلماء على استحباب تغطية الوجه في باب النظر خارج الصلاة.

فالعورة في الصلاة تراعي تحقق الزينة وتراعي الحياء من الله وتراعي عدم المشقة في التكليف، فلا ضير أن تكون عورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها بكشف ما يظهر غالبا، لأنّ هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها. ولا ضير أن تكون عورة الحرة جسدها ماعدا الوجه والكفين، لأن هذا بالنسبة لها زينة ويراعي الحياء الذي اعتادته ولا يشق عليها. فعورة الأمة في الصلاة كعورتها خارجها، وعورة الحرة في الصلاة كعورتها خارجها عند القائلين بأنّ الوجه والكفين ليسا بعورة.

قال علي رضي الله عنه: “تصلي الأمة كما تخرج”، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فإنّ الأمة إذا كانت تخرج مكشوفة الرأس، فأن تصح صلاتها هكذا كان أولى وأحرى، فإن ما تستره المرأة عن الناس أشد مما تستره في الصلاة، ولأنه إذا لم يكن الاختمار واجبًا عليها ولا كانت عادة إمائهن ذلك فمعلومٌ أنهم لم يكونوا وقت الصلاة يضعون لهن خمرًا، ولا يغيرون لهن هيئة، وهذا مما لا نعلم فيه خلافًا”(30). وقال رحمه الله: “الله تعالى أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، وقميص الأَمة ورداؤها من زينتها بخلاف الخمار، ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى الرجل أن يصلي في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء تكميلًا للتزين بستر المنكب، فكيف يأذن للأمة أن تصلي وظهرها وصدرها مكشوف مع العلم بأن انكشاف ذلك منها أشد قبحًا وتفاحشًا من انكشاف منكب الرجل؟”(31)

فالمقصود أنّ مفهوم الزينة والحياء عند الأمة والحرة مطلوبٌ وثابت، ولكن تحققه وضبطه في الصلاة متروكٌ للشرع ليس لا للعقل فيه مدخل، لأنّ الصلاة اصطاف المرء بين يدي ربه، والله هو الذي شرع تفاصيل الحجاب، ومثل هذا لا يُعترض عليه بالعقل، طالما روعي اختلاف الوسط والقدرة المالية والسيرة العملية في الحياة.

النقطة السادسة

يخطئ كذلك من يجعل الحجاب قضية مرتبطة بالقبيلة ومقصورة على زمان النبوة، إذ النصوص الواردة في الحجاب قد أتت كلّها مصرّحة بقيمٍ تتجاوز تراتيب القبيلة وحدود مجتمعها، فلا يُقال فيما شُرِع للطُهر وإذهاب الرجس وسد ذريعة الأذى ومراعاة غيرة المحارم والعفة والفلاح، كل هذه القيم والمبادئ لا يمكن ربطها بالقبيلة ولا وجود الإماء، وإنّما هي مقاصد أو مثل عليا تُراعى أو يُسعى إليها في كل حين.

النقطة السابعة

أنّ النظر المقاصدي- الذي يُراعي مقاصد الشريعة- لموضوع الحجاب يرجّح كِفة الالتزام والتمسك بالحجاب، ولذلك فدعوة العقلانيين لتقييد الحجاب والاكتفاء بالإلحاح على الإشارة للمقاصد العامة للشريعة، هذا الكلام يخالف مقتضى النظر المقاصدي الذي يدّعون غلبته عليهم في سائر القضايا، إذ التكليف بالحجاب كما هو ظاهر يمتد ليشمل عدة مقاصد ويحول دون الاستغراق في تحقيق هذه المقاصد مراعاة حال النساء، فكمال طُهر القلب ودفع تأذي الزوج والمحارم يتأتى بخطاب الرجال في البيوت من وراء حجاب عند وجود الحاجة حتى في حالة وجود محرم. ولما كان هذان المقصدان أشد إلحاحا في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمرن بذلك، ولو أمر بهن سائر النساء لشقّ ذلك عليهن، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو تيسر لامرأة من النساء أن تتستر من الرجال بشخصها فلتفعل، بينما النظر التوقيفي- الملتزم بالنص- يلتزم بخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو تيسر فعله لمن سواهن.

وكذلك تميز الحرائر بالإدناء عليهن من جلابيبهن حال الخروج حتى لا يؤذين، ولو أمر به الإماء لشقّ عليهن كما سبق بيانه، فمقتضى النظر المقاصدي أنّه لو كانت أمةٌ تستطيع الالتزام بهذا الإدناء ولا يشق عليها فإنّها تفعله وهذا هو القول الخامس من أقوال أهل العلم التي أوردناها، ومقتضى النظر التوقيفي الملتزم بالنص أنّ يلتزم بخصوصية الحرة مقابل الأمة وهذا هو مدار النظر في الأقوال الأربعة الأولى المذكورة أعلاه، ولذلك فأنا متردد في الترجيح بين القول الرابع والخامس من جهة ترجيح النظر المقاصدي والنظر التوقيفي، والمقصود أنّ النظر المقاصدي يقتضي الالتزام بالحجاب بعكس ما يروج له العقلانيون.

النقطة الثامنة

ليس من شرط اعتبار المقصد شرعًا أن ينفرد التشريع بمراعاته، فقد يراعي التشريع مقصدًا فيأتي بما يناسب كمال تحقق هذا المقصد، ثمّ يأتي تشريع آخر أو نفس التشريع فيراعي هذا المقصد ويتنازعه مقصد آخر فيأتي بما يناسب تحقق المقصدين جميعًا دون أن ينفي ذلك إرادتهما للشارع. فغض البصر مثلًا أتى ليحقق كمال تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله ألا يخرج الرجال من بيوتهم مثلًا لأنّ هذا لا يناسب السعي وعمارة الأرض. كذلك الحجاب يراعي تحقق العفة والطهر وذهاب الرجس ومراعاة غيرة المحارم ودفع الأذى على أكمل تحقق ممكن، لكن لم يأمر الله نساء المؤمنين بمخاطبة الرجال من وراء حجاب حتى في وجود المحارم وإنما خص به نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر تعالى الإماء بالإدناء عليهن من جلابيبهن وذلك مراعاةً لعدم التكليف بما لا يُطاق ورفع العنت، وهذا من مقاصد الشريعة كما قال تعالى: “وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ” (محمد: 36-37).

وأخيرًا..

  • الأمَة والحرة يُتعرض لهنّ بالأذى.. فما العمل؟

أتخذ كافة السبل لمنع الأذية..

  • فإن كان هناك سبيلٌ يصلح للحرة دون الأمة؟

سألجأ إليه في حق الحرة، حتى لا أشق على الأمَة.

  • فإن فهم أحد بلجوئك إليها أنّك تؤيد أذية الأمَة؟

هذا من سوء فهمه، وإلا فالنصوص الصريحة في منع الأذية وعقوبة المؤذين، وإجماع العلماء على عدم جواز إيذاء الأمة، ومنع السيد من إيذاء أمته، ومنع المسلمين من التعرض للنساء المشركات في الحرب، كل هذا يقطع شبهة الرضا بالأذية في حق الأمة.


الهوامش

  1. المقصود هو بيان تضخيم قضية الحجاب وأثرها في الشبهة، وليس المقصود التعرض لدراسة أسباب هذا التضخيم والبحث في كونه كان ردّ فعلٍ لدعاوى التغريب والتحرر أم كان إنشاء فعل، ولا المقصود البحث في مناسبته كرد فعل لدعاوى التحرر، فكل هذا خارج محل البحث.

  2. ولستُ أورد هذه القصة عاتبًا على المرأة، وإنما الشأن في كون هذه القصة حدثت أصلا أو لا، وفي استعمال هذه القصة لبيان التقصير الذي تقع فيه بعض النساء بكشف الوجه، والحياء ليس قيمة مطلقة حاكمة على ما سواها لا يقف أمامها شيء، بل قد تتنازعه قيمٌ أخرى فتغلب عليه، والله عزّ وجل “حيي كريم” وفي الآية “إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ”، وأم سليم رضي الله عنها لما جاءت تسأل عن غسل المرأة قدّمت بقولها: “إن الله لا يستحي من الحق” كما ثبت في الصحيح.

  3. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272،273).

  4. جلال الدين السيوطي- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية – صفحة 226 فما بعدها.

  5. وقد راعى الإسلام في هذا المقام هذا المولود، فجعل الزواج بالأمة آخر الاختيارات بعد الزواج بالحرة والقدرة على الصبر ثم يأتي الزواج بالأمة، ومراعاته هي الأساس في توجيه الأمر في الآية الكريمة كما يتضح من كلام ابن عاشور رحمه الله في تفسير الآية، فإن أبى أحدهم ولم يجد ولم يصبر ثم تزوج بأمة، فما العمل؟ لو قلنا تصير الأمة حرة بمجرد الزواج سيعضلها سيدها ويمنعها من الزواج، ولو قلنا تبقى أمة ويصير ابنها حرا ستكون تلك تفرقة بين الأم وابنها، وعلوًا للابن على أمه. وهاهنا تظهر معضلة: هل يعلو على أمّه ويُلحق بأبيه لحريته أم يكون عبدًا له حسن المعاملة وإمكانية المكاتبة؟ لا أحسب أن الإجابة على سؤال كهذا سهلا، نعم هي مسألة معضلة والتعامل معها شائك، لكن لا يُقال إن اختيار أحد الاختيارين من الوضوح والسهولة بمكان من الناحية الأخلاقية بحيث لا نفكر مائة مرة قبل اتخاذ الحكم، ولذلك فالمقصود أنّه في الجملة لا يوجد في التعامل الإسلامي مع قضية العبودية شيءٌ واضح البطلان من الناحية الأخلاقية، وإنما ستجد الحيرة العقلية متعلقة ببعض الأمور المعضلة فعلا، وهنا يمكن مطالبة الخصم- حتى لو كان ملحدًا- بالتسليم مادمنا وصلنا لنقطة محيرة مشكلة، مثل مقارنة مقام الأمومة المستقيمة بمقام الحرية مثلا.. الحكم ليس سهلا نعم، لكن لا نستطيع أن نتهم أيًّا من الاختيارين بالبطلان، ويمكننا أن نحكم من خلال الأثر بالنظر إلى شهادات من رأى التعامل مع الإماء والعبيد في ديار المسلمين من غير المسلمين وأعجب بحسن المعاملة، وفي النهاية فهذا مثال يدل على ما يؤدي إليه سوء تصور وضع الإماء إلى سوء فهم النصوص وإن كانت علاقته بموضوع حجاب الإماء الذي هو محل المقالات بعيدة.

  6. مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين- 10:732.

  7. التمهيد لابن عبد البر – تحقيق: سعيد أحمد أعراب- 21:256.

  8. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة – (2: 189).

  9. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة – (2: 186).

  10. الخطيب الشربيني – مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج – 3:175.

  11. الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب مالك ومعه حاشية الصاوي – 1:290.

  12. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 248.

  13. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة – (2: 189).

  14. أبو الحسن الماوردي – الحاوي الكبير – تحقيق: علي معوض وعادل عبد الموجود – 11:431.

  15. الإمام النووي – روضة الطالبين وعمدة المفتين – 7:23.

  16. الإمام النووي – منهاج الطالبين وعمدة المفتين – 1:204، وقد نسب إلى البلقيني رحمه الله أنّه قال في التصحيح: “وما ادعاه المصنف أنّه الأصح عند المحققين لا يُعرف، وهو شاذ مخالف لإطلاق نص الشافعي في عورة الأمة ومخالف لما عليه جمهور أصحابه”اهـ.

  17. أبو محمد ابن حزم رحمه الله – المحلى – صفحة 306.

  18. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 274،275).

  19. مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية برواية إسحاق بن منصور المروزي – صفحة: 4706.

  20. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 248.

  21. بواسطة: الحطاب الرعيني أبو عبد الله المغربي – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ الخليل – نسخة مصورة – (2: 189).

  22. ابن تيمية – مجموع الفتاوى – 15: 374.

  23. ابن القيم – إعلام الموقعين عن رب العالمين– 3:284.

  24. يعقوب الباحسين – قاعدة العادة محكمة: دراسة نظرية تأصيلية تطبيقية – 226.

  25. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272،273).

  26. شرح الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي – المطبعة الخيرية 1307 هـ- نسخة مصورة – 246.

  27. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 :275).

  28. فتح القدير لابن الهمام الحنفي على متن شرح الهداية لشيخ الإسلام برهان الدين – المطبعة الكبرى الأميرية 1325 هـ – نسخة مصورة- صفحة 183- 184.

  29. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي رحمه الله – نسخة مصورة – 1:97.

  30. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 272).

  31. ابن تيمية – شرح العمدة في الفقه – مكتبة العبيكان – (2 – 274،275).

 

لماذا لم يخلق الله الذكور مختونين؟ هل هذا عيب في الخلقة؟

 

يتلمس الملحدون الشبهات تلمسا لإثارتها على المسلمين.. وفي الغالب نجد أن أكثر هذه الشبهات لا علاقة له أصلا بوجود الخالق! ولهذا فإنني أنصح المسلم دائما عندما يثير عليه الملحد شبهة في دينه أن يكون متنبها ويقظا ويتساءل: وماذا بعد؟ هل قيام هذه الشبهة يناقض وجود الخالق؟

لا تدع الملحد يختطفك فتكون مدافعا في منطقة لا تحتاج فيها إلى دفاع! قم دائما بإعادة الملحد إلى أصل موضوع الإلحاد..

حقيقة الشبهة

إذا كان الله يأمرنا بقطع هذا الجزء من الجلد فلماذا يخلقه أصلا؟ كيف يخلق شيئا لا فائدة منه ثم يطالبنا بالتخلص منه؟ ألا يبدو هذا ضربا من العبث؟

يقوم السؤال على فرضية مسبقة بأن خلق جزء من الجلد ثم الأمر بقطعه عند الولادة إما أنه يدل على عيب مستمر في خلق البشر؛ وهو ما يناقض الآية في سورة التين “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ”، وإما أنه تشريع لأمر يناقض الخلق؛ وهذا يعني أن هناك تناقض بين الخالق والمشرّع! ومعلوم أن الحكم الشرعي في ختان الذكور عند الجمهور هو الوجوب.

مشكلة الملحد هي أنه يفترض وصول العلم إلى غايته في كل شيء.. فكم صدعوا رؤوسنا بأن الزائدة الدودية لا وظيفة لها، وأنها من مخلفات التطور، ثم اكتشف العلماء أن لها أكثر من وظيفة، والعصعص مثال آخر على ذلك.. فالنقاش على افتراض وصول العلم إلى منتهاه غير صحيح كما ثبت بالتجربة!

إزالة الشبهة

لقد خلق الله سبحانه وتعالى جلدة الختان (القلفة) للجنين منذ أن كان في بطن أمه، حيث يبدأ تكون العضو الذكري بعد ستة أسابيع من بداية الحمل. ولهذا العضو وظيفتان: إخراج البول والتزاوج. ومن أجل قيامه بالوظيفة الثانية كان لابد أن يحوي نسيجا من الألياف العصبية المتشابكة شديدة الحساسية، وهي تكون في طور النمو خلال حياة الجنين في الرحم، ومن دون تلك القطعة الواقية من الجلد ستكون عرضة للاحتكاك في تلك المرحلة خصوصا مع الحركة المتواصلة للجنين داخل الرحم، فيؤدي ذلك إلى توترات عصبية وتنبه عام في الجملة العصبية مع أن الأجهزة العصبية لازالت في مرحلة التكوين والبناء، وهذه التوترات لجهاز لم يكتمل تؤدي إلى عرقلة نموه وتوقف نضجه. ولهذا فإن اكتمال خلق هذا العضو وتكامله مع النظام العصبي يتطلب وجود هذا الجلد الذي يمثل حائلا وحاميا له عن الاحتكاك بكل ما يجاوره.. وبالتالي يستمر النماء المتكامل فيولد الجنين سليما صحيحا كامل البنية.

فوجود هذه (القلفة) لم يكن عبثا كما يدعي الملحدون. والسؤال الآن.. مادام وجودها ضروريا قبل الولادة وخلال مرحلة التكوين فلماذا يأمر الإسلام بإزالتها بعد الولادة؟ ما الضرر من بقائها؟

الجنين بالطبع لا يتضرر أبدا من وجود تلك القطعة من الجلد مادام في بطن أمه، لأن المحيط غير قابل للتلوث، ولكن بعد ولادته واكتمال أجهزته الحيوية، فإن تلك الأجهزة تبدأ بالعمل، ومنها الجهاز البولي.. وهذا يجعل المكان عرضة للتخرش والتعفنات والمشاكل الصحية المتعددة، ولا نريد الاستفاضة في شرح تلك المشاكل الصحية فهي معروفة، وهذا بعض منها منشور في موقع صحي أجنبي متخصص.

ولهذا أمر الإسلام بالختان بعد الولادة لسببين واضحين: السبب الأول هو انتهاء الحاجة لتلك القطعة من الجلد بعد اكتمال النمو، والسبب الثاني هو الأضرار الصحية المترتبة على بقائها.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خمس من الفطرة: الاستحداد (حلق العانة) والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر.” رواه البخاري ومسلم.

مناقشة الشبهات حول حديث سجود الشمس تحت العرش

روى البخاري رحمه الله عن أبي ذر: قال النبي ‏ﷺ‏ ‏حين غربت الشمس: ‏أتدري أين تذهب؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.

الشبهات التي تثار حول هذا الحديث هي من عدة جوانب، وسوف أناقش كل جانب على حدة هنا.

الشبهة الأولى: دوران الشمس حول الأرض

درج في جميع اللغات تعبيرات مثل “غروب الشمس” و “شروق الشمس” وكل ما يتعلق بها مما يشابهها، كالمشرق والمغرب وطلوع الشمس وغيابها.. الخ. وكثيرا ما يأخذ الملاحدة مثل هذه العبارات من النص القرآني ليتهموا القرآن بأنه يخالف العلم، على اعتبار أن هذه العبارات تدل على أن الشمس تدور حول الأرض بينما الصحيح هو أن الأرض هي التي تدور حول نفسها ليتعاقب الليل والنهار وتدور حول الشمس لتتعاقب فصول السنة. ولو أنهم دققوا في ألفاظهم لوجدوا أنهم أنفسهم يستخدمون مثل هذه العبارات، فلا يقولون مثلا: “عندما نبتعد عن ضوء الشمس” وإنما يقولون “عندما تغيب الشمس” أو “عند الغروب”.. إلخ.

هذه لغة الناس التي يتداولونها، والقرآن نزل بلغة الناس، ويحدثهم بلغتهم، وليس معنى هذا أنه يوافقهم في الخطأ، لأن هذه التعبيرات نزلت على خلق يعيشون على الأرض وهم جزء منها، وليس موجها لكائنات تعيش على حافة المجموعة الشمسية! واستخدام هذه التعبيرات النسبية لا خطأ فيه. والقرآن عموما يحدثهم بما يرونه بأعينهم ويدركونه بحواسهم، فهو مثلا لا يقول إن الأرض مسطحة، وإنما يقول: “أفلا ينظرون… وإلى الأرض كيف سطحت”، ولا يقول إن الشمس “إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين” وإنما يقول “وترى الشمس إذا طلعت تزاور ذات اليمين.. الآية”، ولا يقول إن الشمس تغيب في عين حمئة، وإنما يقول “وجدها تغرب في عين حمئة.. الآية”، فهو يتحدث عما يراه الناظر أمامه، فإذا كان الناظر يرى الشمس تغرب أمامه بفعل ارتباطه بالأرض وكونه جزءا منها وعدم قدرته تبعا لذلك على إدراك دورانها، فإنه لا يستقيم أن تصف ما يراه وصفا يخالفه. وهذا موجود ومتعارف عليه عند كل البشر.. بل عند وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، وهي أهم مرجع علمي في علوم الفضاء، فهي تتحدث في موقعها كثيرا عن غروب الشمس sunset وعن شروقها sunrise، وتستخدم هذا التعبير في صيغة الفعل مثل “تشرق الشمس” و “تغرب الشمس”. وهذه روابط من موقع ناسا فيها مثل هذه التعبيرات:

والأمثلة كثيرة جدا في الموقع.

الشبهة الثانية: حركة الشمس

يظن البعض أنه على اعتبار أن الأرض هي التي تدور حول الشمس فإن الشمس ثابتة، وهذا خطأ.. الشمس ثابتة بالنسبة للأرض ولكنها ليست ثابتة بالنسبة للمجرة، فهي تسير بسرعة كبيرة جدا مع المجموعة الشمسية. والوصف القرآني واضح في ذلك تماما: “وكل في فلك يسبحون” (الأنبياء- 33).

الشبهة الثالثة: سجود الشمس

الحديث في هذه الشبهة موجه للمسلم الذي يشتبه عليه أمر الحديث، أما الملحد فهو أصلا لا يقبل الاحتجاج بالنصوص الشرعية. سجود الكائنات كلها وارد في القرآن الكريم، ومن ضمن هذه الكائنات الشمس والقمر. فقد قال تعالى: “ألم تر ان الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس” (الحج-18)، وقال تعالى: “ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون” (النحل-49).

فهذا السجود العام لا إشكال فيه، وهو سجود لا نعرف كنهه ولا طريقته، فهو خاص بتلك المخلوقات، ولا علاقة له بالسجود الاصطلاحي الذي نقوم به نحن البشر. مثله في ذلك مثل تسبيح الكائنات الذي قال الله تعالى فيه “… ولكن لا تفقهون تسبيحهم”. فنحن نعلم بتسبيح الكائنات وسجودها ولكن لا نفقههما. وإيماننا بهذا التسبيح وهذا السجود قائم على أنه من مصدر موثوق صحيح عندنا هو الوحي.

أما السجود الخاص الوارد في الحديث أنه يحصل في لحظة معينة من اليوم، فهو أيضا من النص الشرعي (الوحي) ولا يصح رفضه بلا علة ما دام سنده صحيحا كما هو واضح. فإن حجية السجود العام للكائنات هي بالضبط نفس حجية السجود الخاص، والاختلاف هو أن الأول مصدره نص القرآن والثاني مصدره نص الحديث الصحيح. وكلا المصدرين يؤخذ منهما الإيمان بالغيبيات.

الاعتراض الحاصل عند البعض على السجود الخاص الوارد في نص الحديث هو أنه يخالف العلم، وهذا غير صحيح. فالشمس تجري كما أوضحنا وهذا ثابت علميا، واللبس الحاصل سببه القياس على البشر في سجود الشمس واستئذانها.. الخ. بينما الصحيح أن كل ما ورد من سلوك الشمس هو مثل السجود والتسبيح، لا يمكننا أن نفقهه، لأنه من الغيبيات، والقاعدة المعروفة هي أن عدم فقه الشيء ليس حجة مقبولة لقبوله ولا لرفضه.

الشبهة الرابعة: تحت العرش

الاعتراض على أن سجودها يحصل تحت العرش هو اعتراض لا قيمة له لسبب بسيط، وهو أن العرش غيب وموقعه غيب. فلا يمكننا مثلا أن نحدد موقع العرش فلكيا لنرى إن كانت الشمس تسجد تحته أم لا، ومعنى هذا أنه لا يتوفر لدينا العلم الكافي لحسم الأمر، وبالتالي فإن عدم توفر العلم لدينا يمنعنا من القطع فلكيا في هذا الأمر، فلا نستطيع فلكيا أن نؤكده أو ننفيه. والنفي يصح فقط إذا كان هناك دليل على استحالته، ولا يوجد دليل على ذلك.

أما كوننا لا نستطيع أن نتصور الأمر، من كون الشمس كل 24 ساعة تمر على مكان يقع تحت العرش، أقول إن عدم قدرتنا على تصوره لا يعطينا الحق على نفيه، وهذا هو المنهج العلمي الصحيح، لا يقوم النفي إلا بدليل ولا يقوم الإثبات إلا بدليل.. هذا من الناحية العلمية، لكن عند المسلم الإثبات قائم ليس بدليل علمي وإنما بدليل نصي، والنص الصحيح هو مصدر موثوق عند المسلم.

فهناك فرق كبير جدا بين عدم إمكانية التصور وعدم إمكانية الحدوث، والخلط بين الأمرين هو مصدر الإشكال في كثير من الشبهات التي يدعي فيه الناس معارضة النص الشرعي للعلم.

والقاعدة عموما بين تعارض النص مع العلم هي كالتالي: إذا تعارض قطعي الدلالة من أحدهما مع ظني الدلالة من الآخر فإنه يقدم قطعي الدلالة سواء كان نصا أو علما. وبالطبع لا يمكن تعارض قطعي الدلالة من النص الشرعي الصحيح مع قطعي العلم. هذا محال لسبب بسيط، أن خالق الكون هو نفسه منزل الوحي.

دعوى مقدرة العلم الحديث على خلق الكائنات الحية

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن العلم الحديث قد توصل إلى سر خلق الكائنات الحية، من خلال خلق أحماض أمينية، واستنساخ كائنات حية، كالنعجة دُولِّي.

وهم يزعمون أن فكرة الاستنساخ هي الفكرة نفسها التي ادعت الأديان أن الله خلق بها حواء من ضلع آدم، ومن ثم فالعلماء ـ في ظنهم ـ لا يقِلُّون مقدرة عن الله في الاستنساخ، وخلق حواءات كثيرة من خلية واحدة، يأخذونها من جسم الإنسان أو الحيوان.

كما يدّعون أن خلق عيسى عليه السلام ليس معجزة؛ فالعلماء قد استطاعوا ،بعد التطور الهائل للعلم، الاستغناء عن الأب، واستنساخ مولود من الأم فقط.

وهم بذلك يتهكمون قائلين: هل استطاع العلم الحديث أن يقول للشيء كن فيكون؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  إن التوصل إلى سر خلق الكائنات الحية لمضاهاته ضرب من التوهم والخيال؛ فخلاصة ما قام به العلماء ـ حديثًا ـ أنهم أجروا تفاعلًا كيميائيًّا من العناصر الطبيعية التي خلقها الله، فنتجت عنه أحماض أمينية، لكنها أحماض ميتة ليس لها القدرة على التفاعل، فهل هذا خلق؟! أما عن استنساخ النعجة دولي وغيرها فإنه لا يعد ـ أيضًا ـ خلقًا؛ إذ إنهم قد بدلوا نواة البويضة بنواة خلية أخرى مأخوذة من الجسم، ليس إلا، كما أن هذه الخلية وتلك البويضة هما من خلق الله تعالى، فهل يستطيعون خلق خلية حية أو بويضة؟! لقد تحداهم الله عز وجل بخلق ما هو أصغر من ذلك بكثير، وهي الذرة ـ التي هي أصل هذا الوجود ـ فعجزوا!

2)  إن خلق حواء من أحد أضلاع آدم إعجاز إلهي خاص، وليس استنساخًا بالمعنى العلمي؛ فقد خلقت من ذكر دون أنثى، أما الاستنساخ فلا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد، فلو كان خلقها بهذه الكيفية استنساخًا لجاءت حواء ذكرًا وليست أنثى؛ علاوة على أن الله تعالى خلقها دون ولادة أمٍّ لها، وهذا يخالف الاستنساخ الذي لا يتم إلا بذرع البويضة المخصبة في الرحم، تمامًا كالتناسل الطبيعي المعهود. كما أن خلق عيسى عليه السلام من أمٍّ دون أب معجزة إلهية خاصة به، وليس استنساخًا؛ فإنه عندما ولد كان طفلًا؛ أي لم يكن بعمر أمه، كما هو الحال في الاستنساخ الذي لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد كما ذكرنا، هذا بالإضافة إلى وجود أسرار في خلق حواء وعيسى ـ عليهما السلام ـ لا يعلمها إلا الله عز وجل.

التفصيل:

أولا. التوصل إلى سر خلق الكائنات الحية ضرب من التوهم والخيال:

لقد دأب العلماء حديثًا في أقصى الأرض وأدناها ـ وعلى مدى قرون عدة ـ على تصنيع مواد عضوية حيوية، فكان الفشل حليفهم.

ومنذ أن اكتشف العالمان الأمريكيان “جيمس واتسون” و”فرانسيس كريك” الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (D.N.A )([1]) الذي يعتبر مادة الحياة في الجسم البشري ـ والعلماء منكبون على دراسة (الدنا) وتركيبه، وفك الشفرة الإلهية الكامنة في جزيئاته وتحليلها؛ بغية الوصول إلى سر الحياة؛ ومن ثم إنتاج كائنات حية تضاهي خلق الله ـ في ظنهم وتوهمهم ـ ولكنهم فشلوا في تركيب (الدنا) كما فشلوا في تركيب قاعدة نيتروجينية واحدة من ملايين القواعد التي يتركب منها([2]).

تركيب الحامض النووي (D.N.A)، وترتيب القواعد النيتروجينية، جوانين (G)، أدينين (A)، تايمن (T)، سينوزين (C)، والتي تكون درجات السلم الحلزوني

واستمر الحال هكذا حتى قام عالم يدعى “ستانلي ميلر” بتجربة سميت باسمه، وقال: إن جو الأرض البدائي كان مُكوَّنًا من غازات الميثين والآمونيا والنيتروجين والهيدروجين، وأن المادة البروتوبلازمية والحامض النووي (D.N.A) خلقت في البحار البدائية، نتيجة مرور شرارات البرق في الغلاف الجوي البدائي.

فقام بتجربة في المعمل خلط فيها تلك الغازات الأربعة في قارورة، ومرر فيها شرارات كهربائية، وكان في القارورة قدر من الماء، وبعد أسبوع حلل الماء في القارورة فوجد فيه بعض الأحماض الأمينية([3])، فزعم بعض العلماء أنهم عثروا على سر بدء الخلق وسر بدء هذه الحياة في هذه الأرض.

والجواب العلمي عن هذا هو ما يأتي:

لماذا لا يسأل هؤلاء العلماء أنفسهم: من خلق تلك الغازات في جو الأرض البدائي؟

ومن الذي خلق الشرارات الكهربائية والبرق، والسحاب المكهرب؟ بل من الذي خلق الماء في الأرض؟!

إن هذه الأشياء لم تخلق تلقائيًّا؛ بل لم تخلق نفسها، إذًا فلا بد أن خالقًا عليمًا قديرًا قد خلقها؛ إنه الله عز وجل.

كما أن هذه الأحماض الأمينية التي نتجت عن التجربة كانت أحماضًا ميتة، ليس لها القدرة على التفاعل، إنه مركب كيميائي ميت، فكيف يقولون إنهم توصلوا إلى سر بدء الخلق، وسر بدء الحياة، والذي توصلوا إليه لا حياة فيه؟!

إنهم لم يتوصلوا إلى شيء! إن كل ما فعله “ستانلي ميلر” هو مجرد إجراء تفاعل كيميائي بين بعض العناصر، أدى إلى تكون عنصر جديد، تمامًا مثل: اتحاد الكلور مع الصوديوم؛ فيتكون ملح الطعام، ومثل: اتحاد غازي الأكسجين والهيدروجين، فيتكون الماء… إن كل ذلك من سنن الله الكونية، ونظام الخلق الذي قدره الله تعالى في هذا الكون([4]).

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قد جنح بعض العاملين في علم الهندسة الوراثية([5])، كما جنح غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى عن المسار الإنساني، وراحوا يعبثون بمادة الحياة بعد أن فشلوا في تصنيعها وإنتاجها.

لقد كشف الخالق الكريم سبحانه وتعالى بعض أسرار خلقه لعباده؛ ليروا عظيم صنعه وعلمه وقدرته، وليتعرفوا على آياته الرائعة في كل ما خلق وفلق وبرأ، وليدركوا وجوده؛ فيصبح إيمانهم يقينًا راسخًا، قال جل وعلا:)سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)(  (فصلت).

ولكن هؤلاء راحوا يعبثون بما انكشف أمامهم من أسرار الخلق؛ حتى تمخض هذا العبث عن استنساخ بعض الحيوانات، كالنعجة دولي التي أحدثت دويًّا على مستوى العالم؛ خاصة في أوربا([6])؛ حتى وصل الأمر بـ “إيان ويلموت” ـ الذي قام بإجراء هذه التجربة هو وزملاؤه في معهد روزلين بإسكتلندا ـ أن يقول: لا يوجد سبب نظري يمنع استنساخ الإنسان([7]).

وقد أدت هذه التجارب والأبحاث ببعض العلماء إلى الوصول إلى حالة من الفجور العلمي؛ فصرح بعضهم بأنه أصبح في استطاعة الإنسان الآن أن يتدخل أو يشترك مع الخالق في خلق الإنسان، وسائر المخلوقات الأخرى.

والجواب عن هذا فيما يأتي:

ما الذي قام به “إيان ويلموت” وزملاؤه حتى نجحوا في استنساخ النعجة دولي؟ لقد تـمت هذه التجربة بالطريقة الآتية:

أخذت خلية من ثدي نعجة من منطقة فين دورست، عمرها ست سنوات، ثم نزعت نواتها بعد وضعها في بيئة غذائية ذي تركيز منخفض للغاية بحيث يتم تجويعها؛ لتتوقف عن الانقسام.
أخذت بييضة غير مخصبة من رحم نعجة إسكتلندية، من منطقة بلاك فيس، ثم نزع نواتها عنها.
وضعت نواة النعجة الأولى مع البييضة منزوعة النواة ـ في أنبوب اختبار ـ في مجال كهربائي، لتحفيزهما على الاندماج، فاندمجتا مكونتين بييضة مخصبة.
بعد مرور ستة أيام غرست البييضة المخصبة في رحم نعجة ثالثة من منطقة بلاك فيس.

في نهاية الحمل خرجت نعجة صغيرة تامة الخلق في شهرها السابع عام 1996م، وهي نسخة طبق الأصل من أمها التي أخذت نواة خلية من إحدى خلايا ضرعها.

وهذه التجربة لم تنجح من أول مرة، بل كررت حوالي 277 مرة أو يزيد، على مدى عدة سنوات؛ حتى ثبت الحمل وتمخض عن ولادة هذه النعجة الشهيرة، التي أعطوها اسم أجمل فنانة أمريكية “دُولِّي”؛ ليزيدوا من شهرتها، وليلفتوا أنظار البشر إلى إنجازهم الذي كان ظاهره علميًّا وباطنه تحديًا مزعومًا لعظمة الخالق سبحانه وتعالى([8]).

ولكن كما ترى عزيزي القارئ فإن مكونات هذه النعجة وأصولها التي أنتجت منها هي من صنع الخالق العظيم عز وجل، ولم يأت هؤلاء العلماء بشيء من عندهم أو من صنع أيديهم أو مختبراتهم؛ فالبويضة من خلق الله، وهو سبحانه وتعالى الذي قدر فيها القدرة على الانقسام عندما يتواجد في داخلها ضعف عدد كروموسوماتها([9])، وهذه البويضة مأخوذة من جسم نعجة من إبداع الله في خلقه، ونواة الخلية الجسدية ـ التي زرعت فيها ـ وما تحتويه من كروموسومات وجينات هي ـ أيضًا ـ من صنع الله عز وجل([10]).

هذا هو الأصل، وما عملية الاستنساخ إلا صورة فوتوغرافية لهذا الأصل، فهل نستطيع الحصول على هذه الصورة بدون الأصل([11])؟!

ومن ثم فما الذي فعله “ويلموت” وزملاؤه؟! لقد عملوا بالأسباب التي وفرها الله لهم وكشف لهم حجاب الغيب عنها: )ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم (255)( (البقرة).

لقد قاموا بالأسباب تمامًا كما يقوم الأزواج من بني آدم بأسباب الإنجاب؛ ليحافظوا على جنسهم من الفناء والانقراض، كما أمرهم الله ورسوله. فهل يمكن لقوم أن يدعوا أنهم هم الذين خلقوا أبناءهم؟!

قال الله سبحانه وتعالى: )نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)(  (الواقعة).

إذًا فالنعجة دولي ـ وغيرها مما تم استنساخه ـ من خلق الله تعالى، وليست إنتاج علماء، كما أن الأسلوب الذي تم به استنساخها ليس فيه أي تحدٍّ لكبريائه وعظمته وقدرته سبحانه وتعالى؛ لأنه وحده مقدر هذا النوع من التخليق في البويضة، ويوضح هذا ما يأتي:

كلنا يعلم أن خلايا الجسم البشري تشيخ وتتقاعس؛ لذا مكنها الخالق الحكيم قبل أن تموت نهائيًّا من تجديد نفسها بنفسها؛ أي إنها تستنسخ نفسها في كل آنٍ وحين؛ لأن لكل خلية عمرًا افتراضيًّا تموت بعده، ولولا هذا التجدد والاستنساخ لكان عمر الإنسان ـ وجميع المخلوقات كافة ـ محدودًا جدًّا.

وقد اكتشف علماء معهد روزلين سرًا آخر من أسرار الخلق كان الأساس الذي اعتمدوا عليه فيما بعد في تجارب الاستنساخ؛ لقد تبين لهم أن من بين الجينات التي تحملها كروموسومات كل خلية جينات مسئولة عن إنتاج أجنة كاملة؛ أي إنها بإذن من الله سبحانه وتعالى لتستنسخ الجسم بأكمله، كما تبين لهم أن هذه الجينات مقهورة ومثبَّطة بقدرة ومشيئة العليم الخبير، وفي الوقت نفسه تحمل هذه الجينات صفة غير مقهورة أو سائدة، فبرزت هذه الصفة كوظيفة أساسية للخلية الجسدية الحية، وهذه الصفة أو الوظيفة هي قدرة الخلية على الانقسام وتجديد نفسها؛ أي نسخ نفسها بنفسها كلما شاخت أو ضعفت أو أوشكت على الهلاك، وبذلك فإنها تخلف بديلًا عنها خلية فتية نشطة قبل أن تنفق؛ وخير مثال على ذلك هو أن خلايا الكبد تتجدد كل أربعة أشهر؛ علمًا بأن عددها من 200 ـ 300 مليار خلية، وخلايا البشرة تتجدد كل خمسة وسبعين يومًا، وكرات الدم الحمراء تتجدد كل مئة وعشرين يوما… وهكذا.

وقد تم اكتشاف هذه الحقيقة الإلهية المذهلة من خلال التقنية المتطورة المتوفرة بين أيديهم (الأسباب)، وبأسلوب علمي تمكن هؤلاء العلماء من تثبيط الجينات المسئولة عن نسخ الخلية لنفسها، ثم حرضوا الجينات المثبطة أو المتنحية، والتي إن نشطت فإنها ستنتج جنينًا أو مخلوقًا كاملًا، هذا بجانب الخطوات التي تم بها استنساخ النعجة دولي (السالفة الذكر).

ويتلخص هذا الاستنساخ في أنهم بدّلوا نواة البويضة بنواة خلية أخرى مأخوذة من الجسم، ليس إلا([12]). فهل هذا يعد خلقًا؟!

إن كلمة (الخلق) بمشتقاتها تستعمل في اللغة العربية ونصوص الشريعة الإسلامية بمعنيين:

الإيجاد من العدم والإبداع على غير مثال سابق: وهذا خاص بالله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أي أحد، كائنًا من كان، وقد جاء ذكر هذا في القرآن الكريم في (254) موضعًا، من ذلك قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا(  (البقرة: ٢٩)، وقوله تعالى: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) ((الأعراف)، وقوله جل شأنه: )إن ربك هو الخلاق العليم (86)((الحجر)، وقوله عز وجل: )الله خالق كل شيء(.
الصنع؛ أي التحويل في الصفات والعناصر التركيبية من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن هيئة إلى هيئة، ومن خصائص إلى خصائص، دون زيادة شيء على المادة الأولى من العدم، وهذا في مقدور البشر؛ كما قال سبحانه وتعالى على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام: )أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله(  (آل عمران: ٤٩)([13]).

وهذا المعنى الثاني للخلق ـ فقط ـ هو ما ينطبق على استنساخ النعجة دولي ـ وغيرها مما تم استنساخه ـ تمام المطابقة، فهل هذا يعد خلقًا كخلق الله تعالى الذي يوجد من العدم، ويبدعه على غير مثال سابق؟!

يقول الله سبحانه وتعالى: )هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين (11)( (لقمان).

ليس هذا فحسب؛ فقد تحداهم الخالق العظيم في قرآنه الكريم أن يخلقوا أحد أضعف مخلوقاته؛ فقال عز وجل: )يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73)((الحج).

هذا مَثلٌ ما زال معجزًا للعلم والعلماء بعد ألف سنة من تطور العلم والتكنولوجيا؛ فمن يستطيع أن يخلق ذبابة على هوانها وتفاهتها؟! وإذا سلبتك الذبابة حياتك بمرض تنقله إليك، فمن يستطيع أن يرد لك تلك الحياة؟! بل إنها لو سلبتك ذرة من (النشا) من طعامك فإن عباقرة الكيمياء لو اجتمعوا لا يستطيعون استرداد هذه الذرة من أمعائها؛ لأنها تتحول فورًا إلى سكر بفعل الخمائر الهاضمة، فما أضعف الطالب والمطلوب([14])!

وبالرغم من هذا فقد ظن مجموعة من الباحثين في عديد من الدول المتقدمة أن العلم بأدواته الحديثة المذهلة قد يتيح لهم خلق ذبابة؛ ففي إحدى التجارب الحيوية التي أحيطت بجو من الكتمان استمر أكثر من عشر سنوات، اشترك أكثر من ثلاثين عالـمًا جيولوجيًّا من الدول المتقدمة في مشروع حيوي لإنتاج ذبابة، وكان مركز المشروع روسيا، وبعد أكثر من عشر سنوات ـ بذل خلالها العديد من الجهد والوقت والمال ـ اجتمع الثلاثون باحثًا أو يزيد في روسيا وأعلنوا فشلهم الذريع في المشروع الحيوي لإنتاج ذبابة، وهذا مصداق قوله تعالى:)إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له((الحج:73)، فأي إعجاز إلهي هذا([15])!

ويضيف الدكتور النشواتي فيقول: لقد فشلوا في خلق ما هو أدنى من الذبابة وأبسط، لقد فشلوا في خلق أميبا صغير، على الرغم من أنه يتألف من خلية واحدة، كما فشلوا في صناعة قاعدة نيتروجينية واحدة، علمًا بأن (الدنا) يتكون من مليارات القواعد النيتروجينية، لقد فشلوا وسيبقى الفشل حليفهم؛ لأن الذي فشل في خلق خلية واحدة حية حتمًا سيفشل في خلق كائن حي يتكون من مليارات من الخلايا.

لذلك أعلنوا في أحد مؤتمراتهم عام 1959م في نيويورك أن المواد الحية لا يمكن تصنيعها، وأن الحياة تأتي من الحياة بالتزاوج والتناسل، ولا سبيل إلى غير ذلك؛ فالخلق كل الخلق لله وحده لا شريك له سبحانه القائل: )هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) ( (يونس)([16]).

ولم يقف التحدي الإلهي عند خلق الذبابة، بل تعدى ذلك إلى خلق ما لا يرى بالعين المجردة، كالذرة؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو شعيرة»([17]).

وهذا أمر تعجيز وتحدٍّ قائم إلى يوم القيامة، كما يقول أهل العلم([18]).

ومن ثم فلن يستطيع علماء البشر ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذرة، مع أنها متناهية في الصغر؛ فقطرها لا يزيد عن نصف مليون من المليمترات؛ بمعنى أننا لو وضعنا خمسة ملايين ذرة في خط مستقيم لكان طول هذا الخط مليمترًا واحدًا، كما أن الذرة هي أصل الوجود، فكل الأجسام والمواد في هذا الوجود مكونة من ذرات.

وفي خلق هذه الذرة أسرار عجيبة تنطق بقدرة الله تعالى المطلقة في هذا الكون؛ فالبروتونات في نواة الذرة موجبة الشحنة، والإلكترونات سالبة الشحنة، ومعلوم أن الموجب يجذب السالب بقوة هائلة، ولو انجذب الإلكترون (السالب) إلى البروتون (الموجب) لما قامت للذرات قائمة، ولانتهى خلق كل خلق، ولانطبقت السماء على الأرض، ولانتهى هذا الوجود، ولكن الله عز وجل قدر أن يمسك الذرات أن تزول؛ فجعل الإلكترونات تدور حول نواة الذرة بسرعة تفوق تصور العقل البشري، تعطيها قوة طرد مركزية تتساوى مع قوة الجذب([19]).

وقد يسأل سائل هنا ويقول: قد علمنا التحدي الإلهي في الذرة، فماذا عن الحبة أو الشعيرة في الحديث النبوي؟!

إن حبة القمح أو الأرز ـ أو أي حبة نبات ـ يمكن أن تصنع، ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله تعالى، وكذلك حبة الشعيرة يمكن أن تصنع وتصور شكلا آخر، لكن يعجز أي أحد أن يجعل فيها الحياة، فمثلا حب القمح أو الشعير أو الأرز، أو نحو ذلك مما صنعه الله، ينبت إذا وضع في الأرض، أما ما صنعه المخلوق فإنه لا تكون فيه حياة؛ فالأرز الصناعي مثلا الذي يؤكل، لو رمي في الأرض لما خرج منه ساق، ولما خرج له جذر، ولما كانت منه حياة، وأما الذي يكون من خلق الله عز وجل فهو الذي أودع فيه سر الحياة في ذلك الجنس من المخلوقات؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا على وجه التعجيز؛ فالذي يخلق كخلق الله عز وجل هذا من جهة ظنه، أما من جهة الحقيقة فإنه لا أحد يخلق كخلق الله؛ ولهذا صار ذلك الشخص مشبهًا نفسه بالله سبحانه وتعالى فصار أظلم الخلق([20]).

وعليه، فهل بعد كل ما سبق يحق لهؤلاء الواهمين أن يدعوا أنهم قد توصلوا إلى سر الخلق من خلال اكتشافهم للأحماض الأمينية، واستنساخ النعجة دولي وغير ذلك؟!

قال الخالق العظيم:)والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون (20)( (النحل).

ثانيا. خلق حواء وعيسى ـ عليهما السلام ـ إعجاز إلهي وليس استنساخًا:

لا شك أن الله تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛
فهو يخلق ما يشاء كيفما يشاء وفي أي وقت شاء: )إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون (82) ((يس).

ومن ثم فقد خلق الله عز وجل حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه السلام، كما أشار القرآن الكريم إجمالا فقال:)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء(  (النساء: 1).

وقد جاءت السنة الصحيحة ففصلت هذا الإجمال؛ من ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء»([21]). وهذا ما عليه جمهور المفسرين وشرّاح الحديث([22]).

وخلق حواء بهذا يعد إعجازًا إلهيًّا، فيه إثبات لقدرة الخالق عز وجل المطلقة، وتحدٍّ آخر للبشر، وذلك لما يأتي:

أنها خلقت من ذكر دون أنثى بكل صفاتها الشكلية المرئية وغير المرئية، بما فيها الخلية الجنسية المكونة للمشيج الأنثوي (Oogonium) في المبيض، والخلايا الجنسية هي بداية أمشاج الذرية في الأصلاب([23]).
أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقها طفلة صغيرة ثم طورها إلى الكبر؛ بل خلقها على هيئتها التي عاشت عليها كبيرة طويلة؛ مناسبة لطول آدم عليه السلام([24]) ـ وهو ستون ذراعًا ـ ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الخالق سبحانه وتعالى .
أن في خلقها من الضلع ـ تحديدًا ـ سرًّا، وهو أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام بقدرته المطلقة أودع فيه السر البشري، وهو الشفرة الوراثية (D.N.A) التي تحفظ النوع البشري إلى يوم القيامة، وجعل مخزنها في نقطتين رئيسيتين هما: الصلب: وهي عظام الفقرات في أسفل الظهر، وبشكل خاص في عظم العصعص الذي ورد في الحديث النبوي([25]) باسم عجب الذنب، والترائب: هي عظام الأضلاع؛ ومن ثم فقد أثبت الطب حديثًا أن الفقرات والأضلاع هي المسئولة بشكل أساسي عن تركيب الدم في الإنسان في مرحلة ما بعد الحياة الجنينية([26]).

وعليه، فهل خلق حواء بهذه الطريقة الإعجازية العجيبة التي لم تتكرر في تاريخ الخليقة ـ كالاستنساخ؟!

إن خلق حواء من أحد أضلاع آدم عليه السلام ليس استنساخًا بالمعنى العلمي؛ لذلك فإنه خلق أنثى من ذكر، أما الاستنساخ فلا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد: أنثى من أنثى، أو ذكر من ذكر، كما أن حواء ليست صورة مطابقة لآدم في الصفات التشريحية أو الفسيولوجية، أما الاستنساخ فلا ينتج إلا مولودًا طبق الأصل من المستنسخ منه شكليًّا([27])؛ علاوة على أن الله تعالى قد خلق حواء دون ولادة أمٍّ لها، وهذا مخالف للاستنساخ؛ فضلًا عن التناسل الطبيعي، فأي إعجاز إلهي هذا؟!

هذا عن خلق حواء، فماذا عن خلق عيسى عليه السلام؟

لقد زعم مثيرو الشبهة أن خلق عيسى عليه السلام ليس معجزة؛ فالعلماء قد استطاعوا، بعد التطور الهائل للعلم، الاستغناء عن الأب، واستنساخ مولود من الأم فقط.

والجواب عن هذا ما يأتي:

إن ولادة عيسى عليه السلام من أم بلا أب تعد معجزة دالة على قدرة الله؛ فهو عليه السلام لا يعجزه أي شيء، وإن قانون الأسباب والمسببات من وضعه، يخرقه متى يشاء. وهذه ليست المرة الأولى التي يخرق الله فيها هذا القانون الذي وضعه ليظهر للناس قدرته على كل شيء؛ فقد خرقه من قبل عندما خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وحواء من ذكر دون أنثى.

وقد أوضحت السيدة مريم ـ عليها السلام ـ هذه الحقيقة بقولها لابن عمها: فمن خلق الإنسان الأول؟!

وفي ذلك يقول الله عز وجل: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59)( (آل عمران)([28]).

وقد حكى الله الخالق سبحانه وتعالى قصة ميلاد المسيح عيسى عليه السلام كاملة في سورة مريم فقال تعالى:)واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا (16) فاتخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًّا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًّا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًّا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًّا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيًّا (21) فحملته فانتبذت به مكانًا قصيًّا (22) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًّا (24) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًّا (25) فكلي واشربي وقري عينًا فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًّا (26)( (مريم)، ثم تواصل الآيات الكريمة حديثها عن ذهاب مريم بوليدها إلى قومها، وكلام عيسى عليه السلام في المهد… إلخ.

يقول الشيخ الشعراوي: “فخلْق عيسى عليه السلام من أم بدون أب شيء هين على الخالق سبحانه، والحق سبحانه يريد أن يجعل خلق عيسى عليه السلام آية للناس، والآية: تعني: الأمر العجيب الذي يخرج عن مألوف العادة والأسباب”([29]).

وقد لخص الله عز وجل كيفية هذا الخلق في جزء من آية فقال:)يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه(  (النساء: ١٧١).

يقول الشيخ السعدي معلقًا: “قوله: )وكلمته ألقاها( (النساء: ١٧١)؛ أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى، ولم يكن تلك الكلمة، وإنما كان بها، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم.

وكذلك قوله: )وروح منه( (النساء: ١٧١)؛ أي: من الأرواح التي خلقها وكملها بالصفات الفاضلة والأخلاق الكاملة ، أرسل الله روحه جبريل عليه السلام فنفخ في فرج مريم ـ عليها السلام ـ فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلام”([30]).

وبناء عليه، فإن قصة خلق عيسى عليه السلام تزخر بآيات الإعجاز وأسرار الخلق المبدع التي يحار فيها أولو الألباب، وكيف لا تكون كذلك وهي إحدى المعجزات الأربع في الخلق([31])، التي لا يحيط بكل أسرارها إلا خالق البشر سبحانه وتعالى([32]).

يقول صاحب الظلال: “وإذا كان مولد عيسى عليه السلام من غير أب عجيبًا في عرف البشر، خارقًا لما ألفوه ، فهذا العجب إنما تنشئه مخالفة المألوف. والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود، والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله، فالله يخلق السنة ويجريها ، ويصرفها حسب مشيئته، ولا حد لمشيئته”([33]).

وعليه، فهل يستطيع العلم الحديث بما أوتي من قوة أن يحاكي بالاستنساخ هذا الخلق العجيب المعجز؟!

يقول الشيخ عبد المجيد الزنداني: إن عيسى عليه السلام حالة خاصة جاءت بأمر الله الذي قدر الفطرة وخلقها؛ فقدر فطرة جديدة، وسننًا جديدة فطرية أخرى خاصة بعيسى عليه السلام.

ولذلك فإنه عندما ولد سيدنا عيسى عليه السلام كان طفلًا، ولم يكن بعمر أمه (كما هى الحال في الاستنساخ) هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ذكرًا ولم يكن أنثى؛ فهي حالة خاصة كما قلنا([34]).

ناهيك عن أن هذا الاستنساخ ـ وغيره من ابتكارات الهندسة الوراثية ـ لا يعد خلقًا ـ كما أوضحنا في الوجه الأول ـ فإن الله سبحانه وتعالى هو الخلاق العليم، يخلق ما يشاء كيفما يشاء، وفي أي وقت شاء.

ونخلص مما سبق إلى أن خلق حواء وعيسى ـ عليهما السلام ـ كانا ضمن المعجزات الأربع في الخلق، والتي لا يحيط بكل أسرارها إلا الخالق سبحانه وتعالى: )ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54)((الأعراف).

الخلاصة:

لا شك أن الله عز وجل هو وحده الخلاق العليم الذي يخلق من العدم ما يشاء، وفي أي وقت شاء، فكيف يدعي علماء الهندسة الوراثية أنهم توصلوا إلى سر خلق الكائنات الحية، ومحاكاة خلق الله؟!
قولهم بالقدرة على خلق أحماض أمينية قول عار عن الصحة مطلقًا؛ فهم قد أجروا تفاعلًا كيميائيًّا من العناصر الطبيعية التي خلقها الله، فنتج عنه أحماض أمينية، لكنها أحماض ميتة ليس لها القدرة على التفاعل، فهل هذا خلق؟!
إن استنساخ النعجة دولي وغيرها لا يعد خلقًا بحال؛ فإنهم قد بدلوا نواة البويضة بنواة خلية أخرى مأخوذة من الجسم، ليس إلا، كما أن هذه الخلية الحية وتلك البويضة هما من خلق الله تعالى، فهل يستطيعون خلق خلية حية واحدة أو بويضة واحدة؟!
لقد تحدى الله عز وجل البشرية ـ وما زال التحدي قائمًا ـ بخلق ذبابة فعجزوا؛ حتى إن مجموعة من العلماء قد ظنوا أنهم يستطيعون خلق ذبابة، لكنهم أعلنوا فشلهم بعد عشر سنين من الأبحاث والتجارب ؛ وهذا مصداق قوله تعالى:(إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له ((الحج: ٧٣)، بل لقد تحداهم بخلق ما هو أصغر من ذلك، وهو الذرة ـ التي هي أصل هذا الوجود، والتي لا ترى بالعين المجردة ـ فعجزوا، وسيظلون عاجزين إلى قيام الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا ذرة…».
لا شك أن خلق حواء من أحد أضلاع آدم عليه السلام إعجاز إلهي خاص، وليس استنساخًا بالمعنى العلمي؛ فهي قد خلقت من ذكر دون أنثى، أما الاستنساخ فلا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد: أنثى من أنثى، أو ذكر من ذكر، علاوة على أن الله تعالى قد خلق حواء دون ولادة أمٍّ لها، وهذا يخالف الاستنساخ الذي لا يتم إلا بذرع البويضة المخصبة في الرحم، تمامًا كالتناسل الطبيعي المعهود.
كما أن خلق عيسى عليه السلام من أمٍّ دون أب معجزة إلهية، اختصه الله بها، وليس استنساخًا بالمعنى العلمي؛ فإنه عندما ولد كان طفلًا؛ أي: لم يكن بعمر أمه، كما هي الحال في الاستنساخ، كما أنه كان ذكرًا ولم يكن أنثى، وهذا مخالف أيضًا للاستنساخ الذي لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد.

 


(*) موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم،مرجع سابق. ماذا ترك العلم لإله السماء؟! كامل النجار، مقال منشور بموقع: الحوار المتمدن www.ahewar.org. نحو اجتهاد يضبط قضية الاستنساخ، مقال منشور بموقع: أون إسلام www.onislam.net.

[1]. هو الحمض النووي الذي يحتوي على التعليمات الجنينية التي تصف التطور البيولوجي للكائنات الحية، ومعظم الفيروسات، كما أنه يحوي التعليمات الجنينية اللازمة لأداء الوظائف الحيوية لكل الكائنات الحية، ومن ثم فهذا الحمض يحتوي على الشفرة الوراثية للجسم؛ أي بمثابة بنك معلومات له.

[2]. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص123 بتصرف.

[3]. الأحماض الأمينية: مواد كيميائية بسيطة تنتج من تكسير البروتينات بالجسم، يصل عددها إلى حوالي عشرين حمضًا في أي كائن.

[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج4، ص81، 82 بتصرف.

[5]. علم يهتم بدراسة التركيب الوراثي للمخلوقات الحية، من نبات وحيوان وإنسان؛ بهدف معرفة السنن التي تتحكم في الصفات الوراثية لهذه المخلوقات، على أصل التدخل في تلك الصفات تدخلًا إيجابيًّا، وتعديلها أو إصلاح العيوب التي تطرأ عليها.

[6]. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، مرجع سابق، ص126 بتصرف. وانظر: الهندسة الوراثية وخروج دابة الأرض، هشام كمال عبد الحميد، دار البشير، القاهرة، ص52.

[7]. إعجاز القرآن في بيان استنساخ الإنسان، محمد الشنواتي، مطابع الوليد، القاهرة، 2007م، ص50 بتصرف.

[8]. انظر: من آيات الإعجاز العلمي: الإنسان من الميلاد إلى البعث في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، مرجع سابق، ص454: 456. الهندسة الوراثية وخروج دابة الأرض، هشام كمال عبد الحميد، مرجع سابق، ص83: 85. الاستنساخ البشري هل هو قادم؟ د. حسان شمسي باشا، مقال منشور بموقع: www.drchamsipasha.com. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، مرجع سابق، ص128.

[9]. الكروموسومات (الصبغيات الوراثية): هي عبارة عن عصيَّات صغيرة داخل نواة الخلية، تحمل في داخلها تفاصيل كاملة عن خلق الإنسان.

[10]. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، مرجع سابق، ص128 بتصرف.

[11]. الاستنساخ البشري هل هو قادم؟ د. حسان شمسي باشا، مقال منشور بموقع: www.drchamsipasha.com.

[12]. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، مرجع سابق، ص129: 131 بتصرف.

[13]. انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، ج3، ص255. صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق، ج1، ص90، 91 بتصرف

[14]. القرآن والتفسير العصري، د. عائشة عبد الرحمن، دار المعارف، القاهرة، ص161 بتصرف.

[15]. موسوعة الإشارات العلمية في القرآن الكريم والسنة النبوية، د. عبد الباسط الجمل ود. داليا صديق الجمل، دار غريب، القاهرة، 2000م، ص155، 156 بتصرف.

[16]. الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان، د. محمد نبيل النشواتي، مرجع سابق، ص135 بتصرف يسير.

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: )وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون (96) َ((الصافات) ، (13/ 537)، رقم (7559). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه… (8/3234)، رقم (5439).

[18]. انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، مرجع سابق، ج8، ص3238. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني،مرجع سابق، ج13، ص544. إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح بن فوزان الفوزان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1423هـ/ 2002م، ج3، ص463.

[19]. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج4، ص82: 97.

[20]. التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار التوحيد، الرياض، 1424هـ/ 2003م، ج2، ص290 بتصرف.

[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته، (6/ 418)، رقم (3331). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الرضاع، باب: الوصية بالنساء، (6/ 2287)، رقم (3583).

[22]. انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ج9، ص131. روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن، محمد بن علي الصابوني، مكتبة الغزالي، دمشق، ج1، ص422. سلسلة التفسير، مصطفى العدوي، دروس صوتية قام بتفريغها موقع: الشبكة الإسلامية www.islamweb.net، عند تفسير قوله تعالى: )الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا( (النساء:1). خلق حواء في ضوء النصوص الشرعية، مقال منشور بموقع: جامعة الإيمان www.jameataleman.org.

[23]. حديث القرآن والسنة عن الحامض النووي في الأمشاج ، د. محمود عبد الله إبراهيم نجا، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[24]. قصص الأنبياء، قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية بجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، دار المشاريع، بيروت، ط4، 1421هـ/ 2000م، ص23، 24 بتصرف.

[25]. عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركَّب» [صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ما بين النفختين، (9/ 4057)، رقم (7281)].

[26]. القرآن والطب، د. فواز القاسم، مقال منشور بموقع: أطباء سوريا www.doctorsyria.com.

[27]. انظر: مناقشات حول التطور، مقال منشور بموقع: الملحدين العرب www.el7ad.com.

[28]. مدرسة الأنبياء: عبر وأضواء، محمد بسام رشدي الزين، دار الفكر، دمشق، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص330 بتصرف.

[29]. قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص422.

[30]. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مرجع سابق، ج1، ص216.

[31]. خلق آدم عليه السلام، وحواء، وعيسى عليه السلام، وخلق سائر البشر.

[32]. من أسرار طينة النشأتين: خلقة سيدنا عيسى عليه السلام نموذجًا، عبد الرحمن الرفاعي، صالون غازي الثقافي العربي، القاهرة، ط1، 1430هـ/ 2009م، ص31، 32 بتصرف.

[33]. في ظلال القرآن، سيد قطب، مرجع سابق، ج2، ص816.

[34]. الموسوعة الفقهية للأجنة والاستنساخ البشريمن الناحية الطبية والشرعية والقانونية، د. سعيد منصور موفعة، مرجع سابق، ج2، ص502، 503 بتصرف.

دعوى أن آدم عليه السلام ليس أبًا للبشر

مضمون الشبهة:

يتوهَّم بعض المفكرين أن آدم عليه السلام ليس أبًا للبشر، ولم يكن أول بشر خلقه الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض، ولا هو أوَّل مخلوق عاقل من غير الملائكة والجن، وإنما هو أبو الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى خلق قبله من جنسه خلائق كثيرين عاشوا قبل آدم هذا ملايين السنين، وكانوا في تلك الأزمان خاضعين للتصرف الإلهي من التسوية والتعديل والتهذيب ثم انقرضوا جميعًا بعد أن انتخب الله آدم من أب وأم منهم، كما انتخب ـ حواء زوجة آدم ـ من أب وأم كذلك من آخر أجيال البشر الأولين، وأن آدم وحواء وحدهما هما اللذان بقيا ليكونا أبوين لنوع جديد من ذلك الجنس الذي انقرض.

ويستدلون على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة:)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء(  (البقرة: ٣٠)، فالملائكة لا يعلمون الغيب، فكيف عرفوا أن أولاد آدم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، لو لم يروا ذلك من قبل آدم من جنسه. كما يستدلون على زعمهم هذا ببعض الحفريات القديمة التي ترجع إلى أكثر من مليون عام، الأمر الذي يدل على وجود بشر قبل الإنسان الذي لا يتجاوز عمره على الأرض أربعين ألف سنة.

ويحاولون التفريق بين لفظي بشر وإنسان في القرآن الكريم؛ لإثبات هذه الفكرة، فالبشر هو السابق على خلق الإنسان الذي جاء من آدم عليه السلام والبشر قوم أقلُّ إدراكًا وعلمًا وعقلًا وتكليفًا؛ وتم انتخاب آدم وحواء منهما بعد انقراضهم، وجاء الإنسان من آدم وحواء أكثر علمًا وإدراكًا.

ويخلصون من هذا إلى إثبات أن آدم ليس أبًا للبشر، وليس أوَّل مخلوق منهم على وجه الأرض.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  على الرغم من أن قضية خلق الإنسان تُعدُّ من أكثر القضايا غموضًا وخفاء في سبيل البحث العلمي؛ حيث تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، إن لم تخرج من دائرة الوعي التاريخي ذاته، ويُعتمد في تحديدها على مجموعة من الفرضيات العلمية التي تفتقد الدليل القاطع على صدقها ـ إلا أنها جاءت واضحة في القرآن الكريم، وقريبة من الفهم المنطقي والقانون العقلي لها؛ حيث تُعرض القضية واضحة؛ إذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم من طين، ثم سوَّاه ونفخ فيه من روحه وخلق منه حواء، وأنزلهما إلى الأرض ومنهما تكاثر الخلق، وازداد النسل بصورته الطبيعية بين الذكر والأنثى، وهذه بداية الخلق، ولم يكن هناك قبله بشري على الأرض.

أما عن قول الملائكة لله سبحانه وتعالى: ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة: ٣٠)؛ فإنه لا يصح دليلًا على وجود بشر قبل آدم عليه السلام؛ فقد يكون قياس الملائكة على خلق آخر سكن الأرض قبل الإنسان وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء مثل الجن، أو أن الله سبحانه وتعالى أخبر الملائكة بفساد هذا الخلق الذي يخلقه. ومن ثم؛ قالوا ذلك، أو أنهم فهموا من لفظ خليفة أن هذا يقع فيهم؛ لأن الخليفة هو الذي يأمر بالإصلاح.

2)  إن الحفريات القديمة قريبة الشبه بالإنسان، التي تعود لأكثر من مليون سنة لا تدلُّ بحال على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام؛ لأنها لا تميز بصدقٍ الأصلَ الوراثي لهذه الحفرية؛ فقد تكون لمخلوق قريب الشبه بالإنسان مثل بعض القرود، فلا يمكن للحفرية أن تثبت أن هذا المخلوق هو الإنسان، وبذلك فإنها لا تصحُّ دليلًا قاطعًا في هذا الصدد.

3)  إن قضية التفريق بين لفظي بشر وإنسان من ناحية مدلولهما على الخلق، وإثبات أن هناك بشرًا عاش على الأرض قبل آدم عليه السلام ـ قضية ضعيفة تفتقد الدليل المنطقي على إثباتها؛ فلفظا بشر وإنسان مدلولهما واحد ولا فرق بينهما في المعنى، وقد استخدم القرآن الكريم اللفظين في دلالة واحدة، وعبَّر بالصفات نفسها فيهما من الخلق من الطين والإدراك والفهم والتكليف، وبهذا لا تصح هذه التفرقة بين لفظي البشر والإنسان لإثبات وجود بشر قبل آدم عليه السلام.

التفصيل:

أولا. آدم هو أبو البشر جميعًا:

لم تشغل قضية من القضايا  فكر الإنسان منذ أن نشأ على هذه الأرض مثل شغله بقضية الخلق، وخلقه خاصة، كيف بدأت هذه العملية؟ وكيف كانت طبيعتها الأولى؟ وكيف تكاثر الخلق على هذا النحو؟ وإلى أي مدى يرجع هذا الخلق؟

تساؤلات عديدة تدور بخَلد الإنسان حول قضية خلقه، وتتضارب الآراء حينًا وتغوص في خيال العقل حينًا، وتفتقد الدقة والتحديد أحايين، ويبقى الدليل العلمي فيها قائمًا على بعض الترجيحات والتوقعات التي لا ترقى لدرجة اليقين العلمي، والقول الحاسم.

والمسألة بين أيدينا تقوم على جانبين؛ جانب نصي أخبر القرآن الكريم به، وجانب علمي بحثي، أخبرت به الحفريات والأبحاث العلمية الحديثة.

وأمر خلق البشر يرتدُّ في أذهاننا جميعًا إلى آدم عليه السلام الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بيديه وكرمه، وخلق حواء من جنبه، وأنزلهما إلى الأرض، ومنهما تكاثرت البشرية، وجاء الخلق على هذا النحو، وأن آدم هو أول مخلوق بشري على وجه الأرض، ولم يسبقه بشر آخرون، وهذا ما ظهر واضحًا من خلال النصوص الشرعية في حديثها عن هذا الخلق؛ حيث تُرجع خلق البشر جميعًا إلى آدم عليه السلام الذي خلقه الله في الجنة، ثم أنزله الله إلى الأرض، وجعله فيها خليفة، وخلق منه حواء، ومنهما تكاثر الخلق وحدثت الزوجية.

ولم يأت في النصوص الشرعية ما يخالف ذلك، أو يبين أن هناك بشرًا خُلق قبل آدم عليه السلام، وهذا توضِّحه الآيات، قال سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)(  (البقرة)، وقال سبحانه وتعالى: )وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36)((البقرة)، وقال سبحانه وتعالى:)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( (النساء: ١)، وقال سبحانه وتعالى:)هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها( (الأعراف: ١٨٩)، وقال سبحانه وتعالى:)يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم( (الحج: 5)، وقال سبحانه وتعالى:)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة( (المؤمنون).

آيات قرآنية كثيرة في هذا السياق تتحدَّث عن خلق الإنسان وتُرجع هذا الخلق إلى أصل واحد، ذلك الخلق الذي خلقه الله سبحانه وتعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه، وخلق منه زوجه، وخلق ذريته من بعده على طريقة التناسل المعلومة من اجتماع الرجل والمرأة.

هذه هي الفكرة التي يعرضها القرآن الكريم على صفحاته عن بداية خلق الإنسان، ونزوله إلى الأرض وتكاثره؛ فقد خُلق من نفس واحدة وخلق منها زوجها، ومنهما خلق الناس رجالًا ونساء، وهي فكرة منطقية لا غبار عليها، ولا يعترض عليها العقل البشري في شيء.

وعلى هذا؛ فإن آدم هو أبو البشر جميعًا وهو أصلهم الذي يعودون إليه، هذا ما جاء به القرآن وما يتضح من خلال آياته الكثيرة في هذا الشأن.

ولكن يبقى السؤال: هل كان آدم أول إنسان ظهر على الأرض أم كان قبله بشر آخرون؟

لقد طرح بعض العلماء هذا السؤال وحاولوا الإجابة عنه، وبعضهم حاول أن يأتي بأدلة على أن آدم لم يكن أول بشر ظهر على هذه الأرض، بل كان قبله بشر آخر، وهذه الأقوال لا تخرج عن كونها مجازفة لا تجد الدليل العلمي على صحتها.

وقال بعض العلماء: إن الدليل على وجود بشر قبل خلق آدم عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم وأخبر الملائكة بذلك، قالوا) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة:30)، إنهم لا شك قاسوا ذلك على ما شاهدوه من بشر خلقهم الله قبل آدم، وكانوا من ذرية آدم آخر.

وظهر من المفكرين من قال: إنهم وجدوا الدليل على هذا من خلال ما اكتُشف من الأحافير القديمة، لعظام وجماجم بشرية، منها أحفورة إنسان سابيان وعمرها 130 ألف سنة، وأحفورة إنسان روديسيا وأحفورة إنسان هيدلبرج، واكتشفت أحفورة إنسان كينيا وقُدِّرَ عمره بنحو مليون وتسع مئة ألف سنة.

في عام 1972م نشر ريتشارد ليكي أحد علماء الأنثروبولوجي (علم الإنسان) أنه اكتشف في كينيا بقايا جمجمة، يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف المليون من السنين، وهو أقدم أثر لبني البشر، وزعم تشارلز داروين في القرن التاسع عشر أن الإنسان الحالي انحدر من سلالة القردة وأنه كان يمشي على أربع منذ مليون سنة مضت، ثم انتصب على قدميه بعد ذلك، إلا أن نظرية ريتشارد ليكي عارضته بشدة، وأكَّدت أن الإنسان كان يمشي منتصب القامة منذ مليونين ونصف المليون من السنين، وندرك نحن من قراءة القرآن الكريم وقصص الأنبياء فيه أن آدم لا يتجاوز الثلاثين ألف سنة مضت.

وزعم قوم آخرون أن ما قالته الملائكة لربهم عند خلق آدم يدلُّ على أنهم شاهدوا آدم آخر من قبل، وشاهدوا نسله منتشرين في الأرض، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، ويدعم هذا الرأي ـ في نظر بعض المفكرين ـ أن الأحافير القديمة مثل أحفورة جاوة أو أحفورة روديسيا وغير ذلك من الأحافير القديمة تشير إلى أكثر من آدم ظهر على هذه الأرض، قبل آدم الذي جاء ذكره في القرآن الكريم، وأن آدم الذي نعرفه ليس هو أول البشر([1]).

هذا نوع من الآراء والأدلة التي يعرضها بعض المفكرين في سبيل إثبات وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام.

وهذه الأقوال مردودة بما يأتي:

إن قول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: ) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)،لا يلزم منه وجود بشر سابقين على آدم عليه السلام قاموا بالقتل والإفساد في الأرض، وعليه قال الملائكة قولهم، فلعل هذا القول يرجع إلى فعل الجن، وقياس الملائكة هذا المخلوق على فعل الجن من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، أو أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرهم عما سيفعله هذا المخلوق في الأرض من هذه الأفعال، أو يرجع لتوقُّع الملائكة معنى خليفة، وهذا ما ذهب إليه جُلُّ المفسرين عند تفسير الآية، ولم يذهب واحد منهم إلى أن ذلك راجع لخلقٍ من البشر قبل آدم سكنوا الأرض، وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقاس الملائكة المخلوق الجديد آدم على أفعالهم.

يقول ابن كثير: “فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردُّ عنهم المحارم والمآثم ـ قاله القرطبي ـ أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك”.

ويقصد ابن كثير بـ “من سبق” الجن؛ حيث إنه أورد أقوال المفسرين ورواياتهم في أن الجن لما أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء بعث الله إليهم إبليس فقتلهم ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه الأرض؛ ولذلك قالت الملائكة: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء( (البقرة:30) ، قياسًا على الجن([2]).

وقال الإمام القرطبي عند تفسير هذه الآية: قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أُعْلِمت ولا تَسْبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة؛ لأن قوله: )لا يسبقونه بالقول( (الأنبياء:27) ،خرج على جهة المدح لهم، فكيف قالوا)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، فقيل: المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد؛ إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد، لكن عمَّموا الحكم على الجميع بالمعصية، فبيَّن الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد، فقال تطييبًا لقلوبهم: )قال إني أعلم(  (البقرة: ٣٠)، وحقق ذلك بأن عَلَّم آدم الأسماء، وكشف لهم عن مكنون علمه.

وقيل: إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء؛ وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال، فحينئذٍ دخلته العزة، فجاء قولهم: ) أتجعل فيها((البقرة:30)على جهة الاستفهام المحض: هل هذا الخليفة على طريقة من تقدَّم من الجن أم لا؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب، وقال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة([3]).

هذا ما ذهب إليه المفسرون في تفسير هذه الآية، وتوضيح معنى قول الملائكة:) أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، ولم يقل أحد منهم إن الملائكة رأوا ذلك من بشر كانوا قبل آدم عليه السلام؛ فقالوا ذلك عن الخلق الجديد.

وعلى هذا؛ فالآية لا تدل بمضمونها على ضرورة وجود بشر قبل آدم أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء. ومن ثم؛ قال الملائكة عن آدم وذريته أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وقاسوا على هذا البشر المتقدم؛ فقد عاين الملائكة هذا من الجن في الأرض قبل البشر، وربما فهموا ذلك من معنى لفظ خليفة، وربما أخبرهم الله سبحانه وتعالى أن هذا الخلق سيكون منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وليس شرطًا أن يكونوا رأوا ذلك من بشر آخرين قبل آدم؛ بل هي من الأدلة على أن آدم أوَّل البشر على الأرض.

ثانيًا. الأحافير القديمة لا تدل على وجود بشر قبل آدم عليه السلام:

إن بعض المفكرين الذين ذهبوا إلى وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام، مثبتين ذلك بوجود بعض الأحافير القديمة التي يرجع عمرها لأكثر من مليون ونصف المليون سنة ـ أيضًا يعوزهم اليقين العلمي في إثبات هذا الأمر، ويظل رأيهم حول هذه المسألة حبيس النظر أو الخيال العلمي الذي لايخرج إلى حيز الواقع أو الإثبات العلمي؛ وذلك لأن الأحفورة لا تثبت يقينًا ـ بحال من الأحوال ـ أنها لبشر كان قبل آدم على الأرض، فربما ترجع هذه الأحفورة لحيوان آخر أو لنوع من القرود وليس بالضرورة لإنسان.

فالأحافير القديمة لا تدل على وجود آدم آخر قبل آدم الذي نعرفه؛ لأن الأحافير هي أشكال صخرية أو معدنية لمخلوقات طُمرت في الأرض زمنًا طويلًا، فاستُبْدِل السيلكون أو أملاح معدنية أخرى في الصخور بالمواد العضوية في الجسم المطمور. ومن ثم؛ لا يمكن أن نقطع برأي علمي عن الأصل الوراثي للأحفورة، إن كانت لإنسان أو لنوع من القرود قريب الشبه بالإنسان.

ويتعرف العلماء على نوع الأحفورة من شكلها الخارجي فقط، ولكن هذا التعرف ليس مؤكَّدًا علميًّا؛ إذ يستحيل على العلم أن يتعرَّف على جنس المخلوق ونوعه إلا بفحص شفرته الوراثية الموجودة في نواة خلية من خلاياه، ولما كانت الخلايا قد تحلَّلت تمامًا واختفت، وحلَّ محلها عناصر من صخور الأرض؛ فإن العثور على أحفورة وفحصها لا يعيننا أبدًا على التعرف على خلقها علميًّا أو تحديد نوعها وراثيًّا.

ومن هنا تبدو حقيقة لا أدري لماذا خفيت على كثير من الباحثين؛ وهي أن العثور على أحفورة تشبه جسم الإنسان لا يمكن أن نثبت علميًّا أنها لإنسان أو لقرد أو لمخلوق آخر يمشي على أقدامه؛ لذلك ينبغي أن يدرك أي عالم من العلماء أن الأحافير التي اكتشفها العلماء، ومنهم “كوينجسفالد” سنة 1941م عن اكتشافه لقطعة من الفك السفلي لمخلوق إنساني عملاق ـ هو اكتشاف لأحفورة، لا يمكن أن نقطع علميًّا بأنها لإنسان؛ إذ يستحيل علينا أن نفحص الحامض النووي فيها، وقال العالم “جوهانز هورذلر” سنة 1856م أنه عثر على فك إنسان يرجع تاريخه إلى عشرة ملايين سنة، ومن أين عرف أنه إنسان؟

وفي سنة 1972م اكتشف “ريتشارد ليكي” ـ أحد علماء الأنثروبولوجي (علم الإنسان) في كينيا بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف المليون عام، وقال إنها أقدم أثر من نوعه للإنسان الأول.

ولكن من أدراه أنها جمجمة إنسان؟! لا يقطع بذلك إلا علم الوراثة، وعلم الوراثة لا دخل له مطلقًا في تحديد جنس الأحافير، لذلك يمكننا القول بأن تلك الجمجمة هي لمخلوق يشبه الإنسان في الشكل الخارجي، ولم يكن إنسانًا؛ إذ لا يمكننا أن نصدق أن آدم عاش قبل عشرة ملايين سنة أو حتى مليونين من السنين([4]).

وعلى هذا؛ فإن الأحافير العلمية لا تثبت بيقين وجود بشر قبل آدم عليه السلام، ولا تفي بدليل قاطع على ذلك، وأن الأحفورات التي تم اكتشافها، وترجع إلى ملايين السنين ليس بالضرورة أن تكون أحفورات بشرية، كانت موجودة في هذا الزمن البعيد، فربما تكون لمخلوقات أخرى أو لجنس من الحيوانات الشبيهة بالإنسان كأنواع القرود والشمبانزي، فلا تدل بيقين على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام.

ثالثًا. البشر هو الإنسان:

إن بعض المفكرين حاولوا التفرقة بين لفظي بشر وإنسان، وحاولوا إثبات أن آدم أبو الإنسان، وهو مصطفًى من البشر الذين عاشوا على الأرض من قبله، وهو لأب وأم منهم، وحاولوا إثبات الفروق بين البشر والإنسان، وأن الإنسان أكثر إدراكًا وعلمًا من البشر؛ فقد جاء بعد مرحلة من التسوية والتهذيب والتعديل لهؤلاء البشر على الأرض، ثم انقرض هذا الجنس البشري، وبقي آدم وحواء ومنهما جاء الإنسان وتكاثر إلى هذه الساعة.

 وأهم الفروق عندهم بين البشر والإنسان هي:

1.  البشر قوم همجيون لا سمع ولا بصر لهم ولا عقل؟!

2.  الإنسان هو النوع المنتخب المهذَّب الراقي، له سمع وبصر وعقل.

3.  البشر لم يرسل الله فيهم رسولًا، ولم يكونوا من أهل التكليف الإلهي، فلا إيمان بالله، ولا أوامر ولا نواه كلَّفهم الله بها؛ لأنهم بمثابة مشروع إلهي تحت التنشئة، ينتقلون بصنع الله من طور إلى طور آخذين في الصعود نحو الرقي والكمال، وهذا هو ما قاله دعاة نظرية النشوء والارتقاء أو الانتخاب الطبيعي من قبل، وأن البقاء للأصلح.

4.  البشر مخلوقون من تراب أو طين.

5.  الإنسان مخلوق من ماء أو من علق أو من نطفة([5]).

هذه دعوى أخرى قال بها بعض المفكرين، وهي دعوى غريبة وتحتاج إلى أدلة قاطعة عليها، وإلا عُدَّت وهمًا من الأوهام، والأدلة في هذا المجال لا ثبوت لها، لأنه مجال الغيب، وخارج عن ذاكرة الوعي التاريخي، وهو أشد الأمور الغيبية غموضًا، وكل حديث عنه يخوض فيه الباحثون، إنما هو رجم من الغيب، وضرب من الظنون والأوهام التي لا تغني عن الحق شيئًا.

إن قوام هذه الفكرة يعود إلى تطور خلق الإنسان؛ فكان في بداية الأمر عبارة عن بشر مخلوق من تراب ثم انقرض تمامًا إلى إنسان مخلوق من ماء، وهو الذي أسجد الله له الملائكة، وكلَّفه بعبادته وأرسل إليه رسله.

وقد حاول هؤلاء الباحثون الرجوع إلى آيات القرآن الكريم واستنطاقها، لإثبات هذه الفكرة على نحو ما دارت بعقولهم.

ونجيب عن هذه الفكرة بما يأتي:

أولًا: خلق البشر من طين والإنسان من ماء:

تمثَّلت هذه الفكرة عند أصحابها في أن البشر خلقهم الله قبل خلق الإنسان، وأن البشر همج لا سمع لهم ولا بصر ولا عقل .

أما الإنسان فإن الله أوجده عن طريق الانتخاب أو البقاء للأصلح بعد أن محا وجود البشر من على ظهر الأرض، وأن البشر مخلوق حيواني بحتٌ من تراب، أما الإنسان فهو نوع مهذب من الخلق، وأبوهم آدم المولود من أب وأم من آخر سلالة البشر قبل انقراضهم، فآدم أبو الإنسان ليس مخلوقًا من تراب؛ بل المخلوق من تراب هو أبو البشر الذين انقرضوا.

ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) ( (ص) ([6]).

إن التفرقة بين البشر والإنسان على هذا النحو تفرقة غير منطقية ولا دليل عليها؛ فلفظ البشر والإنسان لهما مدلول واحد هو ذلك الخلق الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بيده، وهو آدم عليه السلام، فهو أوَّل بشر وأوَّل إنسان على السواء، ولا فرق بينهما.

فكلمة بشر مرادفة لكلمة إنسان بشكل لا لبس فيه، ويتبيَّن هذا من معاجم اللغة، وهو معلوم من اللغة بالضرورة.

كما أن الدليل الذي حاولوا أن يثبتوا به هذه الفكرة لا يدل بحال من الأحوال على هذه التفرقة، بل يدل على عكس ذلك؛ فالحديث بين الله والملائكة هنا بصيغة المستقبل؛ فالآية تدل على الحال أو الاستقبال أو هما معًا، والدليل على هذا أن اسم الفاعل “خالق” عَمِل عمل فعله المضارع ونصب المفعول بعده وهو بشرًا، فمعناه في الآية: يخلق، أما إذا كان بمعنى الفعل الماضي فلا يعمل بل يضاف إلى مفعوله ويُجرُّ مفعوله بالإضافة([7]).

وعلى هذا فدلالة المعنى أن الله لم يخلق البشر بعد، وأن جواب الملائكة بقولهم:)أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة:30)، لا يعود على البشر قبل آدم، بل يعود على الجن أو غيره كما سبق أن ذكرنا.

كما أن الأدلة من القرآن واضحة على أن آدم خلق من تراب أو طين، وليست تفرقة هنا بين البشر وآدم عليه السلام في مادة الخلق؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى:(آل عمران).

 فهذا يدلُّ بوضوح على أن الله خلق آدم خلقًا مباشرًا من الطين وهو أبو الإنسان على حدِّ زعمهم، فأين الفرق بين البشر والإنسان في هذا الخلق، كما قال الله عز وجل:)خلق الإنسان من صلصال كالفخار (14) ((الرحمن).

وهي آية صريحة في النص على أن الإنسان خُلق من صلصال كالفخار، وهو الطين اللزج له صوت رنين، وعلى هذا فالبشر هو الإنسان لا فرق، وكلاهما خلق من طين.

وكلمة “بشر” فيالقرآن الكريم استعملت في المعاني الآتية:

                ‌أ-بمعنى رجل: ومن الشواهد على هذاالمعنى ما ورد في قوله سبحانه وتعالى:)قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر( (آل عمران: 47)، وهو المعنى الذي نجده في الآيات:

1.   )وقلن حاش لله ما هذا بشرا(  (يوسف: ٣١).

2.   )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)(  (النحل).

3.   )فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) ( (مريم).

4.   )قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) (  (مريم).

5.   )فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)((مريم)، ونلاحظ هنا كلمتي “البشر” و “إنسيا”، فهما يدلان على شيء واحد ولا فرق بينهما.

فهذه الآيات دلَّت على أن لفظ البشر يطلق على الإنسان بل على معنى الرجل، فكيف تصح التفرقة بين اللفظين هنا، كما أن هذه الآيات تدل على أن البشر على درجة من التطور والتأهيل لتلقي العلم والتفكير والتذكُّر وغيرها من طرق الإدراك العقلي والعلمي؛ الأمر الذي يكذِّب أيَّة تفرقة بين البشر والإنسان في الخلق.

فلفظ “البشر” يرد في مجال التكليف كقوله سبحانه وتعالى:)وما هي إلا ذكرى للبشر (31)((المدثر)، وقوله: )نذيرا للبشر (36)((المدثر)، فهذا يدل على أن البشر “يُنذَرون” و”يُذكَّرون”، وهو مما يدل على اكتمال مؤهلاتهم العقلية واللغوية أيضًا، وأنهم وصلوا إلى مرحلة التكليف التي تدل على مستوى “الإنسان” في اعتقاد هؤلاء المفكرين. لذلك؛ فإن تمييزهم بين الكلمتين باطل عاطل لا معنى له.

بل إن كلمة “بشر” لا يمكن أن تفهم في بعضالآيات إلا على أنها تدلُّ على “الرجل”، وذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: )قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) ((مريم)، فمنالواضح أن مريم عليها السلام تستغرب أن تلد غلامًا من غير أنيمسَّها رجل؛ إذ لا يمكن أن تخاف من أن تمسها امرأة في هذا السياق.

يضاف إلى ذلك أنهذه الآية تصوِّر حدثًا وقع في زمن يدخل فيما يطلق عليه “زمن التكليف”؛ أي إنه وقع في طور “الإنسان”، لا طور “البشر”، إذا استعملنا مصطلحاتهم. فاستخدام كلمة “بشر” في هذه الآية ينفي المعاني التي يراها المفكرون لهذه الكلمة؛ وهي بذلك دليل ضد فرضيتهم التي تحصر مفهوم كلمة “بشر” على الطور الذي سبق الإنسان المكلف. كما أن الآيات الكريمات الأخرى تدل دلالةأكيدة على أن المقصود إنما هو الإنسان الذَّكر؛ أي الرجل.

             ‌ب-    بمعنى “نبي” أو “أنبياء”: حيث تأتي كلمة “بشر” كذلك في سياق الحديث عن الأنبياء عليهم السلام؛ وذلكفي وصف الله سبحانه وتعالى للأنبياء بأنهم من جنس الإنسان. كما تأتي في وصفالأنبياء لأنفسهم بأنهم من بني الإنسان وإنما فُضِّلوا على غيرهم بالاختصاص بالرسالة. وتأتي كذلك في الدلالة على استنكار أقوام الأنبياء أن يرسل الله سبحانه وتعالى رجالًا منهم أنبياء. وقد حدث كل ذلك في الفترة التي يمكن أن تُسمَّى بفترة طور “الإنسان”، وذلك كما في قوله سبحانه وتعالى:)ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79)( (آل عمران).

             ‌ج-     وهذا هو المعنى الذي نجده كذلك في الآيات الآتية:

1.   ) وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91)((الأنعام)، فموسى هنا من جنس البشر.

2.   )قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)( (إبراهيم).

3.   )قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11) (  (إبراهيم).

4.   )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)((الكهف) .

5.    )لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) (  (الأنبياء).

6.   )وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34)(  (الأنبياء).

7.   )فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين (24) ( (المؤمنون).

8.   )ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) (  (المؤمنون).

9.   )ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين (154) ( (الشعراء).

10.   )وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) (  (الشعراء).

11.   )قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15)( (يس).

12.   )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6)( (فصلت).

13.   )وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51) ( (الشورى).

14.   )ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد (6)((التغابن).

15.   )فقالالملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) ( (هود).

16.   )أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93) (  (الإسراء).

17.   )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) ( (الإسراء).

18.    )ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) ( (المؤمنون).

19.   )فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون (47) ( (المؤمنون).

20.   )فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) (  (القمر).

وتأتي كلمة “البشر” في الدلالة على آدم؛ أو على عموم أفراد بني الإنسان، فيما يتصل بالخلق، كما في قوله سبحانه وتعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) ( (الحجر)، وهو المعنى الذي في الآيات:

1.   )قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33) (  (الحجر).

2.  )إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين (71) (  (ص).

3.  )وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54) ((الفرقان).

4.  )ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20)(  (الروم).

 ه- وتأتي في الدلالة على بني الإنسان عمومًا فيما لا يتصل بالخلق، كما في قوله سبحانه وتعالى:)وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) ((المائدة)، وهو المعنى الذي في الآيات:

1.  )إن هذا إلا قول البشر (25)( (المدثر) .

2.  )وما هي إلا ذكرى للبشر (31)(  (المدثر) .

3.  )نذيرا للبشر (36)( (المدثر) .

ومن الواضح أن كلمة “بشر” منكَّرة ومعرَّفة، في هذه الآيات الكريمات إنما تنصرف إما إلى “الرجل” أو إلى أفراد من جنس الإنسان في الطور الذي يمكن أن يُسمَّى بطور التكليف.

هذه الكلمة في بعض الآيات لا تدل إلا على “الإنسان” في الفترة التاريخية لبني الإنسان، ومن أوضح الآيات دلالة في هذا المعنى الآية التيوردت في سورة مريم، وهي قوله سبحانه وتعالى:) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) ((مريم).

وكما هو واضح في هذه الآية؛ فإن مريم عليها السلام تستطيع رؤية”البشر”، وهو ما يعني أنهم الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة التاريخية، ثم إنه لما لم يكن لكلمة “البشر” مفرد من لفظها؛ فقد استعمل القرآن الكريم وصفًا من المادة اللغوية التي جاء منها لفظ “الإنسان” وهو “إنسي”، وما دام أن كلمة “إنسي” استخدمت وصفًا لـ “البشر”؛ فإن هذا يدل دلالة أكيدة على أن “البشر” مرادف لـ “الإنسان”، وأنفرضية المؤلف التي تقوم على التمييز بينهما في الدلالة لا تصح.

ويدَّعي هؤلاء المفكرون أن الإنسان “تطور” عن البشر، ونقول: إن لفظ “الإنسان” وردفي حديث القرآن عن قصة الخلق مسبوقًا وملحوقًا بالكلمات نفسها التي وردت مع اللفظ “بشر”، وذلك في مثل قوله سبحانه وتعالى: )ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون (26)( (الحجر), )وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) (  (الحجر).

وهذا يدل بوضوح على اتفاق كلمتي البشر والإنسان على مدلول واحد؛ ولا يصح بحال من الأحوال التفرقة بينهما، وليس في اختلاف اللفظين دليل على وجود خلق قبل آدم عليه السلام([8]).

وعلى هذا تبقى قضية خلق الإنسان المتمثلة في صورتها المنطقية الموضحة في القرآن الكريم من أن الله خلق آدم بيده من طين، وخلق منه حواء، وأهبطهما إلى الأرض، ومنهما تكاثر الخلق، وانتشرت البشرية ـ هي المقبولة عقلًا وشرعًا وتبقى الفرضيات الفكرية خارج هذه الحقيقة ضربًا من الظنون والأوهام التي تفتقد الدليل المنطقي عليها، ولا تثبتها حجة مقنعة.

الخلاصة:

·      ليس هناك أدلة قاطعة على وجود بشر على الأرض قبل آدم عليه السلام، وقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء((البقرة: 30) لا يلزم منه وجود بشر سابقين على خلق آدم؛ فلعل الإفساد وسفك الدماء يرجع إلى فعل الجن على الأرض قبل وجود الإنسان؛ ومن ثم قاس الملائكة فعلهم على ذلك المخلوق الجديد، وربما أخبرهم الله بما سيكون من هذا الخلق، أو لفهمهم من لفظ خليفة أنه الذي يفصل في المنازعات والإصلاح وترك الإفساد.

·      كما أن الأحافير القديمة لا تدل على وجود خلق بشري قبل آدم عليه السلام؛ لأن الأحافير العلمية لا تثبت بيقين حقيقة الأصل الوراثي لها؛ فقد تكون لنوع من القرود قريبة الشبه بالإنسان، فليست بالضرورة أن ترجع للإنسان في هذا الزمن، وإنما يتعرَّف العلماء على الأحفورة من خلال شكلها الخارجي فقط، فهذا التعريف ليس مؤكدًا علميًّا؛ إذ يستحيل على العلم أن يتعرف على جنس المخلوق ونوعه إلا بفحص شفرته الوراثية الموجودة في نواة خلية من خلاياه، وهذا ما لا يوجد على الإطلاق في الأحافير. ومن ثم؛ لا يمكن بحال الوصول إلى يقين في تحديد جنس الأحفورة ونوعها وراثيًّا، وهكذا لا تصح الأحفورة دليلًا علميًّا على وجود بشر قبل آدم عليه السلام؛ فقد تكون هذه الأحافير راجعة إلى حيوانات شبيهة الشكل بالإنسان كبعض أنواع القرود.

·      وكذلك؛ فإن محاولة التفرقة بين لفظي بشر وإنسان لإثبات وجود خلق بشري قبل آدم عليه السلام، كان أقل إدراكًا وعقلًا ثم انقرض هذا الخلق واصطفى الله منه آدم وحواء ومنهما جاء الإنسان المدرك الواعي ـ هي محاولة ضعيفة تفتقد الحجة والدليل المنطقي؛ حيث إن لفظي البشر والإنسان كلاهما يدلَّان على شيء واحد هو المخلوق البشري، ولا تصح التفرقة بينهما في هذه الدلالة؛ فقد ذكر القرآن الكريم كثيرًا من الصفات والميزات التي اشترك فيها لفظا البشر والإنسان على السواء، فكلاهما مخلوق من طين صلصال كالفخار، واستعملت كلمة بشر في معنى رجل وفي معنى النبي، وقد دلَّت أيضًا على آدم نفسه، ودلت على بني الإنسان عمومًا؛ فهذا يدل بوضوح على أن مفهوم اللفظين واحد، ولا فرق في هذه الدلالة على خلق من البشر دون خلق.

(*) الكون والقرآن، محمد علي حسن الحلي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 2010م. أبي آدم: قصة الخليقة بين الخيال الجامح والتأويل المرفوض، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1419هـ/1999م.

[1]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج2، ص31- 32.

[2]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، مرجع سابق، ج1، ص69.

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج1، ص274.

[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ج2، ص32- 33.

[5]. أبي آدم: قصة الخليقة بين الخيال الجامح والتأويل المرفوض، د. عبد العظيم المطعني، مرجع سابق، ص8.

[6]. المرجع السابق، ص23.

[7]. المرجع السابق، ص24 بتصرف.


[8]
. الرد على الدكتور عبد الصبور شاهين، الزيف الاشتقاقي ونظرية داروين والقرآن الكريم، يحيى رضا جاد أبو المجد، مقال منشور بمنتدى: التوحيد، قسم الحوار عن المذاهب الفكرية www.eltawhed.com.

دعوى تعدد آباء البشر

 

مضمون الشبهة:

يدَّعي المغالطون وجود آباء عدة للبشر، وليس أب واحد كما أخبرت بذلك الأديان السماوية، وخاصة الإسلام في مصدريه: القرآن والسنة، ويستدلُّ هؤلاء على دعواهم تلك بوجود أربعة أجناس كبرى من البشر هي:

1. الزنجي.       2. القوقازي.           3. المنغولي.            4. الهندي الأحمر.

ويرون أنه من المستحيل أن تكون هذه الأجناس جميعًا من أب واحد؛ وذلك للفروق الجسدية الواضحة بين هذه الأجناس، كما يرون أن انتماء البشر جميعًا لأب واحد من خرافات الإسلام التي تناقض العلم.

وجها إبطال الشبهة:

1.  لقد ظهرت عدة نظريات حاول أصحابها تصنيف البشر إلى أجناس، بناء على خصائصهم الجسدية، ولكن العلماء نبذوا ـ في النهاية ـ هذه النظريات ـ بعدما ثبت لهم أن هذه النظريات لا تقوم على أساس علمي ولا تحقِّق غرضًا مفيدًا، وأن ما بين البشر من فروق جسدية نشأ نتيجة عوامل بيئية، وطفرات جينية، وأن كل الدلائل العلمية تؤكِّد الأصل المشترك للبشر جميعًا.

2.  لقد أثبتت دراسات الوراثة البشرية ـ بفضل التقدم التقني الهائل ـ أن الحمض النووي الذي تكتب به الشفرة الوراثية (D.N.A)يتطابق بنسبة (99,9%) بين البشر جميعًا، الأمر الذي يؤكِّد أن البشر جميعًا ينتمون إلى أصل واحد وأب واحد، لا إلى أجناس مختلفة، وآباء متعدِّدة كما يزعم المدَّعون.

التفصيل:

أولا. نبذ العلماء لنظريات تصنيف البشر إلى أجناس لعدم قيام أيٍّ منها على أساس علمي:

يعتقد معظم علماء علم الإنسان (الأنثروبولوجيين) أن البشر نشأوا في أفريقيا، ثم انتشروا تدريجيًّا في أرجاء الأرض، فقد لاحظوا أن جماعات الآدميين الذين عاشوا في أنحاء معينة من الأرض عدة آلاف من السنين يجنحون إلى الاختلاف عن جماعات أخرى عاشت في أماكن أخرى من العالم، فالعيش في مناطق تضمُّ بيئات مختلفة أحد أسباب اكتساب الناس مظاهر مختلفة. فعلى سبيل المثال؛ يميل الأقوام الذين عاش أسلافهم أجيالًا عديدة في المناطق الشمالية من العالم ـ كشمالي أوربا أو شمالي اليابان ـ لأن يكون لون بشرتهم فاتحًا، أما أولئك الذين يعيشون بالقرب من خط الاستواء ـ كأواسط أفريقيا أو جنوبي الهند ـ فيميل لون بشرتهم لأن يكون قاتمًا، وأما أولئك الذين يعيشون في بيئات بين هذين الطرفين، فيميل لون بشرتهم لأن يكون وسطًا بين الفاتح والقاتم (القمحي).

ونحن نلاحظ أحيانًا أن خصائص جسمانية معينة تميل إلى التجمع؛ فنحن قد نربط مثلًا بين الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين والبشرة البيضاء وأهل الدنمارك والنرويج والسويد، كذلك نربط أيضًا بين الشعر الأحمر والعينين الخضراوين والبشرة ذات النَمَش والإيرلنديين، ومع ذلك يوجد في الواقع كثير من الناس في هذه الدولالأربع شعورهم وعيونهم بُنِّية اللون، ولون بشرتهم بُني فاتح، ويُظهِر لنا هذا المثال بعضَ المشكلات التي تجابه علماء علم الأحياء البشري الذين يحاولون تصنيف البشرأجناسًا.

ويعرِّف علماء الأحياء العرق بأنه قسم من أحد أنواع النبات أو الحيوان، ويتشابه أفراد النوع الواحد في كثير من النواحي الأساسية، وعلى الأخص في التزاوجفيما بينهم وإنجاب الذرية الكثيرة، أما أفراد الأنواع المختلفة فلا يمكنها أنتتزاوج وتنجب ذرية؛ فالدببة الشهباء والدببة السوداء في أمريكا الشمالية، مثلًا، دببة وثيقة القرابة، ولكن على الرغم مما بينها من تشابه لا يتزاوج أفراد أيٍّ من المجموعتين مع أفراد المجموعة الأخرى؛ وذلك لأنهما ينتميان إلى نوعين مختلفين.

ويمكن تقسيم كثير من أنواع النبات والحيوان إلى مجموعات يختلف بعضها عن بعض، أُطلقت عليها أسماء مختلفة: أجناس أو نُوَيْعات، أو عشائر طبيعية، أو سلالات، أوأصناف؛ وينتمي جميع البشر إلى النويع”هومو سابينز”، ولكن العشائر البشرية تختلف من منطقة إلى أخرى، ولقد استخدم العلماء هذه الاختلافات لتصنيف الناس أجناسًا مختلفة. ومن ثم؛ ابتدعوا أقسامًا عرقية للبشر بناء على الخصائص الطبيعية، مثل: لون الشعر وملمسه، وشكل العينين.

بَيْد أن بعض الأفراد الذين يُلحقون بالجنس الواحد نفسه ـ بل بعض أفراد الأسرة الواحدة ـ يختلفون عن خصائص جنسهم اختلافًا واسعًا، وعلى مرِّ السنين، اختلف العلماء حول عدد الأجناس التي يُصنَّف البشر تحتها، وحول الأفراد الذين يُلحقون بكلٍّ منها؛ ولهذا السبب انتهى كثير من علماء علم الإنسان إلى الاعتقاد بأن إلحاق أية جماعة من البشر بجنس من الأجناس مسألة اعتباطية، ولذا فالأمر مفتوح للحوار.

وقد ظل معظم العلماء أعوامًا كثيرة يعتقدون أنه قد كانت هناك أجناس نقية من البشر في وقت ما من عصور ما قبل التاريخ، وأن تلك الأجناسالنقيةقدتكوَّنت منعزلة انعزالًا تامًّا عن بعضها، وأن أفراد كل جنس منها اتصفوا بخصائص لم تكن لتوجد في أفراد سائر الأجناس.

بَيْد أن معظم علماء الإنسان الطبيعيين (أي العلماء الذين يدرسون الاختلافات الجسمانية للبشر وتطوُّرهم في عصور ما قبل التاريخ) يشكُّون في أنه كانت هناك أجناس نقية في أي وقت من الأوقات، وهم يشيرون إلى أن من المحتمل أن الناس كانوادائمًا يتخذون أزواجهم من عشائرهم أو من خارجها، وأنه بازدياد وسائل الانتقالوالتواصل يُسرًا ـ ازداد اختلاط العشائر البشرية أكثر فأكثر، ولهذه الأسباب لا يُحْسِنُ التعريف الأحيائي للجنس وصف العشائر البشرية، ويتجنَّب معظم علماء الإنسان الآن تصنيف الناس أجناسًا، ولكنهم ـ عوضًا عن ذلك ـ يحاولون أن يزدادوا معرفة بالتنوُّع البشري؛ وذلك بدراسة تباين الخصائص البشرية في أنحاء العالم، وعلى الرغم من أن الافتقار إلى نظام تصنيف للأجناس مطلوب وصحيح نظريًّا، إلا أن الناس يعدُّون ـ بصفة عامة ـ أولئك الذين يتخذون مظهرًا مخالفًا لهم أفرادًا منتمين إلى جنس آخر، ونتيجة لهذا ظل مفهوم الجنس البشري ذا أهمية ولكن بمدلول اجتماعي؛ فالمجتمعات تمضيفي تصنيف أفرادهاأجناسًا، على الرغم من أن المعايير والأسماء المستخدمة قد تختلف من مجتمع إلى آخر.

وكثيرًا ما أساء الناس فهم فكرة الجنس (العرق) البشري، بل إن المصطلح قد أُسيء استخدامه في بعض الأحيان عن عمد، وكثيرًا ما خلط الناس أيضًا بين المفهوم الأحيائي للجنس والحضارة أو اللغة القومية أو الدين، فالفروق الجسدية قد أدَّت ببعض الناس إلى الانتهاء إلى نتيجة خاطئة، وهي أن أفراد الجماعات المختلفة يولدون وبهم اختلافات في الذكاء والمواهب والقيم الأخلاقية، ولقد اتُّخذ الجنس أساسًا رئيسيًّا للتمييز في المعاملة؛ أي معاملة كل جماعة للجماعات الأخرى على أنها ذات مستوى أدنى منها.

مشاكل تواجه العلماء في محاولتهم تصنيف البشر إلى أجناس:

دأب العلماء منذ بداية تدوين التاريخ على تصنيف البشر بطرق مختلفة، وقد تباين عدد الأقسام التي يعتمدها كلُّ واحد من هذه النظم، ولقد تأثَّر تطوُّر نظم تصنيف الأجناس بثلاث نظريات رئيسية:

 1- نظرية الأجناس الثلاثة.         2- نظرية التطور.      3- نظرية الجنسالجغرافي.

نظرية الأجناس الثلاثة:كان المصريون القُدامى والإغريقوالرومان على صلة بأقوام ذوي بشرة قاتمة وشعر أجعد يعيشون في أفريقيا، كما أنهم كانوا يتَّصلون بأقوام يُسمَّون بذويالبشرة الصفراءفي آسيا؛ لأن لمعظمهم ثنية منجلد جفونهم تمتدُّ إلى الركن الداخلي (الموق) لعيونهم، وهكذا كانت المعلومات المحدودة عن سكان العالم في ذلك الزمان توحي بوجود ثلاثة أجناس من البشر: الأوربي أو الأبيض، الأفريقي أو الأسود، الآسيوي أو الأصفر.

ثم أصبحت هذه المجموعات تُعرف في النهايةبالقوقازية والزنجية والمغوليةعلى التوالي، وقد دأب العلماء سنين كثيرة على محاولة تصنيف جميع العشائر البشرية؛ وفقًا لهذه الأجناس الثلاثة، أو بعض الصور المحوَّرة منها، فقد كانوا يعتقدون أن جميع الناس ينتمون إلى عدد محدود من الأجناس، وأن خصائص كل جنس ثابتة لا تتغير.

وقد أدَّت الحقبة الرئيسية للكشوف الأوربية فيما وراء البحار، التي بدأت في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ـ إلى زيادة الاتصال بأقوام من حضارات شتَّى، حتى أصبح من الواضح في القرن التاسع عشر الميلادي أنه ليس من اليسير إلحاق معظم سكان العالم بنظام الأجناس الثلاثة.


 


 

الخصائص المغوليةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة صفراء، وشعرًا خشنًا مرسلًا أسود اللون، وكذلك كان يُظن أن وجود ثنية من الجلد تمتد عبر الركن الداخلي للعين من الخصائص المغولية

الخصائص الزنجيةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة لونها بني قاتم أو أسود،وشعرًا خشنًا جعدًا أسود اللون، وكذلك كان يُظن أن العينين البنيتين والأنف العريضوالشفتين الغليظتين من الخصائص الزنجية

الخصائص القوقازيةكان يُعتقد أنها تشمل: بشرة شقراء، وشعرًا ناعمًا فاتحاللون،  إما مُرسلًا أو متموِّجًا، وكذلك كان يُظن أن زرقة العينين ودقة الأنف ورقَّة الشفتين من الخصائص القوقازية

ظل العلماء سنوات عديدة يصنِّفون جميع العشائر البشرية في واحد من أجناس ثلاثة: القوقازي، والزنجي، والمغولي، وتظهر هذه الصور الثلاث الخصائص الجسمانية التي كان يُعتقد أنها تمثِّل الطراز المميَّز لأفراد كل جنس من هذه الأجناس

نظرية التطور: لما اتَّجه بعض البيولوجيين (علماء الأحياء) إلى تقبُّل نظرية التطور (النشوء والارتقاء) التي نادى بها عالِم الغرب داروين ـ بدأ الرأي القائل بإمكان تصنيف البشر أجناسًا على أساس خصائص جسمانية ثابتة، بدأ هذا الرأي في التغيُّر تغيُّرًا جوهريًّا؛ وذلك أن معظم البيولوجيين ـ خصوصًا في المجتمعات الغربية ـ كانوا في أوائل القرن التاسع عشر يعتقدون أن جميع أنواع النبات والحيوان ظلت ثابتة على حالها من جيل إلى جيل، بيد أن الجيولوجيين (علماء طبقات الأرض) وجدوا أحافير لنباتات وحيوانات تختلف عن الأنواع المعاصرة، فقدَّموا بذلك الدليل المبدئي على أن الأنواع لم تكن ثابتة.

ولما تفهَّم الخبراء الغربيون نظرية التطوُّر، بدءوا يدركون صعوبة محاولتهم استخدام الخصائص القابلة للتكيُّف لتصنيف الناس في عدد محدود من الأجناس البشرية الرئيسية. ومن ثمَّ؛ شرع الأنثروبولوجيون (علماء علم الإنسان) الطبيعيون في البحث عن خصائص غير قابلة للتكيف أو طبيعية؛ أي خصائص جسمانية سوف تثبت وتبقى في عشيرة ما من البشر، ولو انتقلت العشيرة إلى بيئة مخالفة. ومعنى هذا أنهم نظروا إلى الجنس البشري على أنه شيء ثابت وغير متغيِّر، وأرادوا أن يكتشفوا خصائص هي أيضًا غير قابلة للتغيُّر، وعكف علماء علم الإنسان على مقارنة كثير من الخصائص والعمليات الخاصةبوظائف الأعضاء في أقوام يعيشون في بيئات مختلفة.

 نظرية الجنس الجغرافي:ابتدع بعض علماء الإنسان فيالخمسينيات من القرن العشرين نظامًا جديدًا لتصنيف الأجناس، وذلك في محاولتهم التوفيق بين نظرية التطوُّر والتباين المشاهَد بين العشائر البشرية في العالم الحديث؛ حيث قسَّموا البشر أقسامًا رئيسية، أسموهاأجناسًا جغرافية، وكانت هذهالأجناس مجموعات من العشائر التي تسودها مميِّزات متشابهة، وقد اعتمد نظام شائعالاستخدام من تلك الأنظمة تسعة أجناس جغرافية:

 1.الأسترالي.     2. الآسيوي.     3. الأفريقي.     4. الأوربي.    5. البولينيزي.    
6. الميلانيزي.      7. الميكرونيزي.        8. الهندي.               9. الهنديالأمريكي.

ويمكن القول: إن تلك الأجناس الجغرافية كانت تنتشر على امتداد مساحات قارية رئيسية وسلاسل جزرية كبرى، ولكنها لم تناظر القارات مناظرة دقيقة. فعلى سبيل المثال؛ شمل الجنس الجغرافي الأوربي، عشائر منتشرة في أوربا، وفي الشرق الأوسط، وشمالي الصحراء الكبرى في أفريقيا، كما شمل أيضًا أقوامًا منحدرة من تلكالعشائر في مناطق أخرى من العالم؛ مثلالبيضفي أمريكا الشمالية وفيأستراليا.

 

دور لون البشرة في تصنيف الأجناس وفقًا لنظرية الأجناس الجغرافية،ينتمي الأفراد في الصف العلوي من الصور إلى الجنس الأوربي، في حين ينتمي الأفرادفي الصف السفلي إلى الجنس الأفريقي، بَيْد أن لون البشرة يتباين تباينًا واسعًا في كلٍّمن هاتين المجموعتين

وكان من المعتقد أن الأجناس الجغرافية قد نشأت بسبب الانعزال الناجم عن الحواجز الطبيعية، مثل: المحيطات والجبال والصحاري، واعتمد هذا الرأي على أن هذه الحواجز قد فصلت جماعات من البشر بعضها عن بعض آلافًا عديدة من السنين، وهذا جعل العشائر تتطور في اتجاهات مختلفة.

وقد استخدم علماء علم الإنسان مصطلحالأجناس المحليةلوصف الأقسامالفرعية المتميزة من الأجناس الجغرافية، وكان بعض تلك الأجناس المحلية يضمُّ ملايين الأفراد، في حين كان بعضها الآخر يضم جماعات قليلة العدد، وقد استخدم بعض علماء علم الإنسان مصطلح الجُنيْسات أو الأجناس الصغرى للأقسام الفرعية من العشائر التي تعيش في داخل الأجناس المحلية.

وقد مثَّل هذا النظام التصنيفي المفصَّل والموسَّع تغييرًا جوهريًّا في النظرة إلى الأجناس البشرية، ولكن لم يكن من المستطاع تقدير المعايير الجنسية بوضوح؛ وذلك لأن أفراد الأجناس المختلفة يمكن أن يتَّصفوا بالخصائص الجسمانية نفسها.

نبذ العلماء لفكرة التصنيف الجنسي (العرقي) وتبنِّيهم لفكرة الأصل المشترك للبشر جميعًا:

أقام العلماء إذًا التصنيف الجنسي في الماضي على أساس مجموعات من الخصائص الجسمانية، كان يُفترض أنها تمثِّل الفردالنموذجي من كل جنس، ولكن كثيرًا من الأفرادالذين كانوا يُصنَّفون في جنس ما لم تظهر فيهم جميع الخصائص التي كانت تُنسب إلى ذلك الجنس، هذا فضلًا عن أن العلماء الذين أقاموا نظم التصنيف لم يتفقوا دائمًا علىماهية الخصائص التي ينبغي عليهم الاعتداد بها ولا على عددها.

ويمكننا أن نتخذ لون البشرة مثالًا لكي نتفهَّم المشكلات المرتبطة بتعريفنا الأجناس باستخدام الخصائص النموذجية، ثمَّة صبغة تُسمَّى الملانين تحدِّد لون البشرة؛ فالبشرة القاتمة تحوي من الملانين مقدارًا يفوق ما تحويه البشرة الفاتحة، وقد استُخدم لون البشرة خاصيةً تصنيفية أساسية في جميع نظم الأجناس؛ فعلىسبيل المثال عُدَّ لون البشرة البني الفاتح نموذجيًّا للأفراد من الجنس الجغرافي الأوربي، ولكن لون بشرة بعض أفراد ذلك الجنس أفتح كثيرًا من ذلك اللون النموذجي، كما أن أفرادًا آخرين لون بشرتهم أكثر قتامة، ومما يزيد الأمور اختلاطًا أن بعض ذوي البشرة القاتمة من أفراد الجنس الجغرافي الأوربي يماثلون في لون بشرتهم بعضَ ذوي البشرة الفاتحة من أفراد الجنس الجغرافي الأفريقي، ونظرًا لهذه التعقيدات أصبح من العسير إلحاق بعض الناس بجنسٍ ما؛ اعتمادًا على لون البشرة وحده.

ولم تُسْفر زيادة عدد الخصائص المستخدمة في تعريف الأجناس إلَّا عن إضافة مشكلات جديدة، فشكل الشفتين وحجمهما ـ مثلًا ـ يتباينان تباينًا واسعًا بين أقوام كانوايُعدون أعضاءً من الجنس نفسه، ثم إن شكل الشفتين أظهر ذلك اللون من التداخل بين ما يُفترض أنهم أعضاء أجناس مختلفة، كما حدث في حال لون البشرة.

وقد قادت هذه المشكلات كثيرًا من علماء علم الإنسان إلى نتيجة مؤدَّاها: أن التصنيف المبني على الخصائص الجسدية ليس صحيحًا علميًّا ولا يحقِّق غرضًا مفيدًا، وهم يجدون أن دراسةالتنوُّع البشري أجْدَى من مجرد وضع علامات جنسية محددة على جماعات البشر([1]).

ثانيًا. تطابق (DNA) بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%) يؤكد أصلهم المشترك:

1)  الحقائق العلمية:

الخلية ودورها في الوراثة:

تتكوَّن أجسام الكائنات الحية ـ الراقية منها والأولية ـ من وحدات لا تُرى إلا بالمجهر وهي الخلية، التي يبلغ عددها في جسم الإنسان البالغ نحو ثلاثين تريليون خلية، ومن بين محتويات الخلية النواة التي تعدُّ أهم المكونات الحيوية للخلية، والتي تحتوي على أجسام صغيرة تُعرف باسم الصبغيات أو الكروموسومات، وهي المسئولة عن حمل المعلومات الوراثية جميعها، والتي تحدِّد الصفات المميَّزة لكل كائن حي.

ويتميَّز كل كائن بأن خلاياه تحتوي على عدد ثابت من الصبغيات؛ فالإنسان تحتوي كل خلية من خلاياه ـ عدا الخلايا الجنسية ـ على ستة وأربعين صبغيًّا، وهي على نوعين:

الأول: صبغيات جسدية، وعددها أربعة وأربعون صبغيًّا.

الثاني: صبغيان جنسيان، ويُرمز له عند الذكر (XY)، وعند الأنثى (XX).

وهذه الصبغيات مُصنَّفة كأزواج، كل زوجين يحملان صفات وراثية متماثلة، نصفها جاء من الأب والآخر من الأم، فالحيوان المنوي والبييضة يحتوي كل منهما على ثلاثة وعشرين صبغيًّا، منهما اثنان وعشرون صبغيًّا جسديًّا، وصبغيٌّ واحد يحدِّد الجنس.

تنتقل هذه الصبغيات بما تحمله من معلومات وراثية، دون أي تغيير من خلية إلى أخرى أثناء انقسام الخلية، لكنه إذا حدث أي خلل في عملية الانقسام نتيجة التعرُّض لأشعة معينة أو عقاقير أو مواد كيميائية ـ فإن هذا يؤدي إلى انقسام غير طبيعي في الخلية،الأمر الذي ينشأ عنه ما يعرف بالطفرة التي قد تسبِّب أمراضًا وراثية، أو تشوُّهات خلقية، أو أورامًا سرطانية، وهذه الطفرات التي تحدث لا تنتقل إلى الأجيال التالية، هذا بالنسبة للطفرات الحاصلة للخلايا الجسدية. أما الخلايا التناسلية؛ فإن الطفرات تُورَّث إلى الجيل اللاحق، وهناك طفرات محمودة العواقب تحدث أثناء عملية الانقسام للخلايا التناسلية؛ حيث يحدث تقاطع بين أجزاء صبغي الأبوين بما يعرف بالعبور، وهذا ضروري في تنوُّع الكائنات الحية.

إن الصبغيات هي التي تحمل المورِّثات التي تحدِّد صفات الكائن الحي، سواء أكان إنسانًا أم حيوانًا أم نباتًا أم فيروسًا… إلخ، فهي تحدد تركيب الخلايا والأنسجة والأعضاء، والصفات من طول أو قصر أو لون العينين، وشكل الوجه… إلخ، فالمورِّثات إذًا هي الجزيئات المكوِّنة للصبغيات، التي تحمل الخصائص الوراثية للكائن الحي.

هذه المورِّثات عبارة عن قطاع من قطاعات ما يُعرف بالحمض النووي (DNA) اختصارًا لكلمة (DeoxyRibonucleicAcid) المكون للصبغيات؛ فالحمض النووي يحمل إذًا الآلاف من المورِّثات، وقد قدَّر العلماء عدد المورثات في الخلية الإنسانية الواحدة بمئة ألف مُورِّث، والحمض النووي عبارة عن سلم حلزوني ذي جانبين متوازيين ومتعاكسين ملتفين حول نفسيهما بصورة لولب مزدوج، ويتكوَّن الجانب أو الشريط من وحدات تُسمَّى نيوكليوتيد التي تتكوَّن من السكر ومجموعة فوسفات، وواحدة من أربع قواعد نيتروجينية، اثنان منهما تنتميان إلى مجموعة البيورين وتُسمَّى الأدينين (A) والجوانين (G)، واثنتان تنتميان إلى مجموعة البايريميدين وتُسمَّى الثايمين (T) والسيتوزين (C)، ودرجات هذا السلم تتكوَّن من هذه القواعد النيتروجينية؛ حيث تلتقي فيه إحدى القواعد المنتمية إلى المجموعة الأولى مع أخرى من المجموعة الثانية؛ حيث يلتقي الأدينين (A) بالثايمين (T) والجوانين (G) بالسيتوزين (C)، فمثلًا تتابُع AGT على أحد جانبي السلم يلتقي بتتابع TCAعلى الجانب المقابل وهكذا، وهذه السلالم أو السلاسل الموجودة في خلايا جسم الإنسان لو وُضعت في خط مستقيم لبلغ طولها المسافة الواقعة بين الأرض والشمس؛ حيث يُقدَّر طولها في الخلية الواحدة ما يقرب المتر، وقد قدَّر علماء الوراثة أن الثروة الوراثية للإنسانية جميعها يمكن احتواؤها بالشكل الذي وضعها فيه سبحانه وتعالى ـ أي: بالشكل اللولبي ـ في مكعب حجمه سنتيمتر مكعب واحد([2]).

 

رسم يبيِّن شريط الشفرة الوراثية داخل الخلية

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ونحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية هو: كيف توصَّل العلماء إلى هذه الحقائق حول الخلية البشرية؟

الطريق إلى معرفة الجينوم البشري:

يمكننا القول بأن تاريخ التقدم العلمي الذي غيَّر علم الوراثة خلال القرنين الماضيين قد مرَّ بمراحل مميَّزة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل، يمكن الحديث عنها بإيجاز فيما يلي:

 المرحلة الأولى (1839 ـ 1941م):

تميزت بوصفها الدقيق للظواهر العلمية، وبدأت بالوصف الرائع لبنية الخلية الدقيقة على يد العالم (تيودو شوان) Schwon في عام 1839م، وقد تضمنت أيضًا وصف الصفات الوراثية، وكيفية انتقالها من جيل لآخر من قِبل العالم (مندل)  Mendelفي عام 1865م، وتم اكتشاف الصبغيات من قِبل العالم فليمنغ (Fleming) في عام 1877م، وفي عام 1927م استطاع العالم مولر (Muller) أن يشرح آلية حدوث الطفرات الوراثية، وفي عام 1946م اقتُرحت النظرية القائلة: إن كل إنزيم في الخلية يقابله مورث معين.

المرحلة الثانية (1942 ـ 1969م):

تميزت هذه المرحلة بدراسة المادة الحية على المستوى الجزيئي، وتجلَّى ذلك بالوصف الدقيق والرائع لذرات المادة الحية، وفي هذه المرحلة أُثبت لأول مرة أن الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (D.N.A) هو المادة الوراثية، وكان ذلك في عام 1944م من قِبَل العالم آفيري (Oswald T.Avery)، ولقد شهد عام 1953م أعظم تطور علمي، وقد جاء على يد العالمين واتسون Watson)) وكريك Crick). وهذا يُعدُّ أهم اكتشاف جديد في القرن العشرين ـ برأي العلماء ـ حيث قدَّم العالمان (واتسون وكريك) وصفًا دقيقًا ومتكاملًا للبنية التركيبية ثلاثية الأبعاد لجزيء الـ (D.N.A)، ومُنحا جائزة نوبل لعام 1962م تقديرًا لجهودهما في هذا الاكتشاف، وقد أسهمت البنية المقترحة لجزيء الـ  (D.N.A) في توضيح الآلية التي يجري من خلالها تضاعف وتناسخ جزيئات لجزيء الـ (D.N.A)، وعملية حفظ المادة الوراثية من جيل لآخر.

وفي عام 1961م تم اكتشاف ما يُسمَّى بالحمض النووي الريبوسومي (R.N.A)، وهو المادة التي يجري نسخها من الـ (D.N.A) ليقوم بنقل الرسالة الوراثية، ذلك بفرض الصبغة التي يتشكَّل منها البروتين.

 

 

رسم يوضِّح الحمض النووي البشري (D.N.A)

 

المرحلة الثالثة (1970م ـ 1996م):

وتُسمَّى بمرحلة تأشيب الـ (D.N.A)، وتتميز هذه المرحلة بتطوُّر التقنيات المتعلقة بطرق تحليل الأحماض النووية (D.N.A)و(R.N.A).

وفي عام 1997م توصَّل العلماء (Gilbert / Maxam/Sanger) إلى اختراع طريقة جديدة لقراءة الحروف الكيميائية التي يتألَّف منها الـ (D.N.A)، وباستخدام هذه التقنية أصبح ممكنًا قراءة السلسلة الكيميائية التي تتركَّب منها المورِّثات المختلَّة.

وخلال الثمانينيات اكتُشفت تقنية جديدة قادرة على تركيب أو نسخ المادة الوراثية بواسطة جهاز صغير، بعد تأمين المادة الأولية التي تتكوَّن منها المادة الوراثية. وهكذا؛ فإنه قد أصبح ممكنًا بشكل اصطناعي تركيب أيَّة مورثة بهذه الطريقة.

المرحلة الرابعة (1997ـ الآن):

وتُسمَّى بعصر المورِّثات أو الحقبة الجينية، وأهم ما يميز هذه المرحلة هو الاكتشافات المتزايدة لعدد كبير من المورثات، وقد بدأت هذه المرحلة باستنساخ النعجة دُولِّي عام 1996م من قِبل الباحث (إيان ويلموت).

أما التطور الآخر الذي تحقَّق في هذه الفترة، فهو الإنجاز المذهل الذي أُعلن في السادس والعشرين من يونيو عام 2000م، والذي تضمَّن اكتشاف الخريطة الوراثية للإنسان، وفي الرابع عشر من أبريل عام 2003م أُعلن الانتهاء الكلي من قراءة الجينوم البشري([3]).

 

انتهى مشروع الجينوم البشري.. وتم فك شفرته الوراثية..

فهل انتهى البحث العلمي  الخاص بالجينات البشرية؟

 

لعل من عرضنا السابق لتاريخ قراءة الجينوم البشري يتبيَّن مدى الدقة التي توصَّل لها العلماء سواء على المستوى الطبي أو المستوى التكنولوجي، والمتتبِّع للآثار والنتائج المترتبة على قراءة العلماء للجينوم البشري يجدها من الكثرة حيث لا يسعها مقام حديثنا، وكل خلية تتألَّف من نواة داخلها، وكل نواة تحتوي على شريط الحامض الأميني النووي (DNA) وهو ملفوف بشكل لولبي، ويحمل الثروة الوراثية للإنسان والمؤلَّفة من مواد كيميائية، ويقدِّر العلماء أنه لو فردت جميع الشرائط التابعة لجسم إنسان

واحد بشكل خط مستقيم لبلغ طولها 150 مليون كيلو متر؛ أي المسافة بين الأرض والشمس([4]).

هذا؛ وقد أثبتت دراسات الوراثة البشرية أن الحمض النووي الذي تُكتب به الشفرة الوراثية (DNA) يتطابق تركيبه الكيميائي بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%) لا فرق في ذلك بين أحد من البشر أسود أو أبيض أصفر أو أحمر، كما أن عدد الخلايا واحد في جميع البشر رغم اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم، ومن طلاقة قدرة الله المبدعة أن تعطي لكل فرد ـ لا لكل جنس ـ من بلايين البشر بصمة وراثية مميزة له من الفارق في تركيب الحمض النووي الذي لا يتعدَّى (0,1%).

2)  التطابق بين حقائق القرآن والسنة وحقائق العلم:

من الحقائق التي لا يتطرَّق إليها شك في الإسلام؛ بل لا نبالغ إذا قلنا إنها من المسلَّمات فيه ـ أن البشر جميعًا ينتمون إلى أصل واحد، وأب واحد هو آدم عليه السلام، وأم واحدة هي حواء عليها السلام.

ولقد وردت هذه الحقيقة في كثير من آيات القرآن الكريم وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن آيات القرآن الكريم قوله تعالى:)وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)(  (الأنعام).

وقد أجمع المفسرون جميعهم على أن المقصود بالنفس الواحدة التي أنشأ الله تعالى منها البشر جميعًا في الآية الكريمة هي آدم عليه السلام، ولم يخالف أحد منهم هذا الرأي.

أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي نصَّت على الأصل المشترك للبشرية؛ فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب»([5]).

هذه النصوص الصريحة في القرآن الكريم والسنة تشير إلى حقائق علمية لم تدرك المعارف المكتسبة شيئًا عنها إلا حديثًا، حين أتمَّ العلماء قراءة الجينوم البشري، وتبين لهم أن الحمض النووي الذي تكتب به الشفرة الوراثية يتطابق تركيبه الكيميائي بين البشر جميعًا بنسبة (99,9%)، وأن عدد الخلايا واحد في كل البشر، ثم كان ما كان في إثبات انقسام الصبغيات باستمرار لتكرار ذاتها، الأمر الذي يؤكد حقيقة الأصل المشترك والأب الواحد لجميع البشر مهما تعددت ألوانهم أو خصائصهم الجسمانية.

3)  وجه الإعجاز:

لقد أثبتت الدراسات العلمية في مجال الهندسة الوراثية، التي امتدَّت لقرابة قرنين من الزمان إلى عدة نتائج لا تحتمل الشك، وهي أن عدد الخلايا في جسم الإنسان البالغ مليار خلية، وهذا العدد واحد في كل البشر على اختلاف بيئاتهم وأجناسهم وألوانهم، كما أثبتت تلك الدراسات أن الحمض النووي (D.N.A) يتطابق بنسبة (99,9%) بين البشر جميعًا، لا فرق في ذلك بين أوربي أو أفريقي أو آسيوي، أو أبيض أو أسود، وأن الفارق في تركيب الحمض النووي الذي لا يتعدَّى (0,1%) هو ما يعطي لكل فرد من بلايين البشر بصمة وراثية مميزة له، ولا يعني اختلاف الأعراق والأجناس، وكل هذا يشير إلى الأصل الواحد لجميع البشر، ويزيد هذه الحقيقة تأكيدًا ما أثبته العلماء من انقسام الصبغيات باستمرار لتكرار ذاتها، الأمر الذي يرجع البشر جميعًا إلى شفرة واحدة كانت في صلب أبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه، ويبطل أي ادعاء بوجود أربع آباء للبشرية كما يزعم المدعون.


 

(*)الكون والقرآن، محمد علي حسن الحلي، مرجع سابق.

[1]. الأجناس البشرية، مقال بموقع: الموسوعة العربية العالمية www.mawsoah.net. وانظر: )وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)((الروم)، صبحي رمضان فرج، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي www.quran-m.com.

[2]. الهندسة الوراثية بين معطيات العلم وضوابط الشرع، د. إياد أحمد إبراهيم، مرجع سابق، ص17- 19.

[3]. انظر: العصر الجينومي، د. موسى خلف، مرجع سابق، ص22: 31.

[4]. الموسوعة الكونية الكبرى:آيات الله في خلق الإنسان وبعثه وحسابه، د. ماهر أحمد الصوفي، مرجع سابق، ج14، ص82- 83.

[5]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: فضل اليمن، (10/ 317)، رقم (4215). وحسَّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3956).

الطعن في تشريع الإسلام الاغتسال من الجنابة

مضمون الشبهة:

في غمار حملة التشكيك في تشريعات الإسلام العظيمة يذهب هؤلاء المشككون إلى أن التطهر أو الاغتسال من الجنابة موضوع أثبت العلم عدم صحته، وأنه ليس ذا قيمة علمية، وإنما هو فقط يحمل قيمة ونزعة دينية.

ويقولون ـ على حد زعمهم ـ: إن الأفضل أن يظل الإنسان بعد الجماع دون اغتسال؛ لأن الرجل والمرأة تتحسَّن صحتهما على هذا الحال، ويزدادا نضارة وشبابًا.

رامين من وراء هذا الافتراء إلى أن تشريعات الإسلام ليست صائبة في نظر الطب الحديث.

وجه إبطال الشبهة:   

لقد أوجب الإسلام على أتباعه الاغتسال من الجنابة، وهذا يتفق تمام الاتفاق مع ما توصل إليه العلماء حديثًا من أن الاغتسال بعد العملية الجنسية ضروري للغاية؛ حيث يعيد للجسم نشاطه بعد

إصابته بالفتور والخمول من جراء هذه العملية، ويزيل الإفرازات السامة التي تخرج من كل غدد الجسم أثناء عملية القذف، والتي تكون طبقة بلاستيكية على الجلد، وعدم الاغتسال يؤدي إلى امتصاص

الجلد السموم التي خرجت منه مرة أخرى، كما يؤدي إلى تفاقم الروائح الكريهة، والأمراض الجلدية، وتحويل الكائنات الحية الدقيقة المتعايشة إلى كائنات ممرضة.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن استخدام القرآن للفظة الجنابة يعد إعجازًا علميًّا آخر؛ إذ إنه مصطلح يُعبِّر بدقة عن هذه الحالة؛ فالمعنى اللغوي للجنابة ـ وهو مأخوذ من تجنيب الشيء عن مكانه ـ يتفق مع خروج الإفرازات أثناء عملية القذف لتُجَنَّب على الجلد من الخارج.

التفصيل:  

1)  الحقائق العلمية:

أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن الاغتسال بعد العملية الجنسية (الجماع) أمر مهم جدًّا، وأن ترك الجسم بعد الجماع دون اغتسال ينتج عنه أضرار كثيرة، ويسبب مشكلات صحية عديدة؛ لذلك ينصح الأطباء المتخصصون بتعميم الجسم بالماء بعد العملية الجنسية في أسرع وقت ممكن.

فحالة الجسم الفسيولوجية عند المواقعة الجنسية تختلف عن حالته في الظروف العادية، فالمواقعة الجنسية تتطلَّب جهدًا جسميًّا يمارسه الرجل والمرأة، وهذا الجهد الذي يمارس أثناء المواقعة الجنسية يختلف عن ذلك الجهد الذي يمارس في الظروف العادية، كالجهد الذي يمارس في التمارين الرياضية وغيرها؛ ففي المواقعة الجنسية يفرز الجسم هرمونات مختلفة معظمها جنسية وذلك أثناء وبعد المواقعة، وتلعب هذه الهرمونات دورًا مهمًّا كي تحقق الاستجابات الجنسية الأربع، المعروفة بمرحلة الإثارة والتهيج (excitation)، ومرحلة الاستقرار (plateau)، ومرحلة الإنزال (orgasm)، ومرحلة الخمود (resolution)، ومن المعروف أن عموم الهرمونات بعد أن تؤدي وظيفتها في الجسم فهي لا تبقى على تركيبها في الدم؛ بل تتعرض إلى عمليات التأيُّض، ويخرج ما تخلَّف من تأيضها عن طريق وحدات الإخراج المختلفة ومنها العرق. فعلى سبيل المثال؛ فإن الهرمون المثير للدورة النزوية والمعروف باسم الإستروجين (estrogen) يحمل بواسطة النظام الوريدي الطحالي (splenicvenoussystem) إلى الكبد، وفي الكبد يتأيض هذا الهرمون.

ويزداد إفراز هرمون الإدرينالين أثناء المواقعة الجنسية فينتج عن ذلك زيادة في ضربات القلب، وسرعة التنفس، وارتفاع ضغط الدم، ويقوم هرمون الإدرينالين بتهيئة الجسم لمقابلة الإجهاد؛ حيث يقوم بتسريع تحويل الطعام إلى طاقة في العضلات.

وتصل تأثيرات هرمون الإدرينالين ذروتها عند القذف؛ فيفقد الإنسان 6 كيلو سعر حراري في الدقيقة عند الإنزال، ثم يفقد نحو 4,5 كيلو سعر حراري في الدقيقة بعد الإنزال.

من هنا تبرز لنا مهمة ووظيفة الوحدات الإخراجية المنتشرة على جميع بشرة الإنسان في حالة المواقعة الجنسية، وخاصة تلك الكبيرة منها التي يتركَّز وجودها في مناطق محدَّدة من الجسم كفرجي المرأة والرجل، ومنطقة الإبطين وحول الحلمتين، التي لا تثار لتنتج إفرازاتها عن طريق المثيرات والمنبهات الحرارية، وإنما ترتبط إفرازاتها بالأمور الجنسية، وتعمل جميع هذه الوحدات الإخراجية على إخراج السموم وما تولَّد في الجسم من مركبات سامة لتستقر على سطح البشرة، ولا يعني هذا أن تكون الإفرازات والسوائل التي تخرج من وحدات الغدد العرقية مرئية للعين، فالناس يعرقون في الجو البارد مثل ما يعرقون في الجو الحار، وأن العرق في الحالة الأولى يتبخَّر مباشرة فور خروجه، ولهذا تسمَّى هذه العملية بـ “التعرق غير الملموس”، ويتبخر ماء هذه الإفرازات وتبقى السموم والمواد الكيميائية على سطح البشرة، كما أن الإفرازات التي تفرزها الغدد العرقية البعيدة ـ الكبيرة([1]) ـ هي غير مرئية أصلًا مثل العرق العادي؛ لأن هذه الإفرازات عند خروجها تشكل طبقة غير مرئية تشبه المادة البلاستيكية. 

وعليه ندرك أن السموم التي تخرج بواسطة الغدد العرقية الصغيرة([2]) أو الكبيرة لا تذهب عن الجسم وإنما تجنَّب عليه فقط؛ حيث تنتقل من موضعها الداخلي إلى موضعها الخارجي؛ أي: إنها لا تزال موجودة على جسم الإنسان. 

قطاع في الجلد يوضح تركيب الشعرة والغدد العرقية والدهنية، ويبيِّن أن الغدد العرقية في

أعلى جرابات الشعر لتخرج إفرازاتها تحت الشعر مباشرة

وإذا كان خالق الكون جلَّت قدرته قد خلَّصنا نحن البشر من هذا الأذى بخروجه من داخل الجسم إلى خارجه ـ فينبغي على كل عاقل مدرك ألا يتركه على الجسم ليتراكم ويسبب مشكلات صحية محتملة سنذكرها فيما بعد، أو يتركه ليعود ثانية إلى داخل الجسم عن طريق إعادة الامتصاص، خاصة عندما يتراكم على الجسم وتزداد كميته، وينتشر على جميع أجزاء البشرة؛ إذ تدل نتائج الدراسات أن للجلد قدرة على امتصاص كثير من العناصر والمركبات الكيميائية التي تتصل به بشكل مباشر، وله قدرة أيضًا على إعادة امتصاص بعض العناصر والمعادن التي تخرج منه وتبقى عليه.

فالمعادن السامة التي تخرج عن طريق هذه الوحدات كالرصاص مثلًا عندما تبقى كثيرًا على الجلد تترك فرصة لإعادة امتصاصها، وتدل الدراسات على أن زيادة كمية المعادن الثقيلة الضارة، وزيادة مدة بقائها على الجلد ـ يؤدي إلى زيادة تأثيرها السام على الجسم؛ ولذلك ينبغي إزالتها عن الجسم بالغسل([3]).

ومن الفوائد الصحية للاغتسال من الجنابة أن الجماع ـ وقذف المني بأيّ سبب كان ـ يؤدي إلى فتور وارتخاء يعلَّل طبيًّا بوهن شديد في الجملة العصبية عند وصول شريكي الجماع إلى اللذة والقذف؛ وذلك بسبب حصول توسع في الأوعية الدموية المحيطة؛ الأمر الذي يؤدي بصاحبه إلى فقدان قسط كبير من نشاطه العضلي والذهني، والاغتسال عند ذلك ينبه الشبكات العصبية الحسية لتوقظ الجهاز العصبي من سباته، وليسترجع البدن بذلك حيويته ونشاطه، كما ينشط الدوران الدموي، ويعيد إليه توازنه([4]).

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن إنزال المني يترك رائحة في جميع أجزاء الجسم، خاصة الثنايا؛ نتيجة للإفرازات التي تفرزها الغدد العرقية الموجودة تحت الإبط, وحول السرة, وحول الأعضاء التناسلية, وإذا تركت هذه الإفرازات اللزجة على الجسم فإنها تلتصق بالملابس, ثم تأتي البكتيريا فتحللها وتخرج منها رائحة غير مستحبة.

وإلى جانب ما ذكرناه من فوائد الاغتسال؛ فإن العملية الجنسية تلقي بظلالها على جلد الإنسان، وهذا الجلد يؤدي وظيفة مهمة جدًّا, وهي: إفراز العرق من آلاف غدد العرق الموجودة فيه, ويحتوي العرق على مواد دهنية وأملاح, فإذا كان الجلد قذرًا من تراكم هذه الأملاح والمواد الدهنية عليه ـ انسدت مسام الغدد العرقية, وينتج عن ذلك أن عملية العرق لا تؤدَّى كما يجب، كما أن وجود القذارة على الجلد قد يؤدي إلى حدوث عدوى الأمراض المعدية، ونظافة الجلد بالاغتسال من أهم لوازم الصحة الشخصية([5]).

ومن الاكتشافات الطبية الحديثة فيما يخص فوائد الغسل من الجنابة ما اكتشفه طبيب سعودي وتداولته مواقع الإنترنت المختلفة، وهذا الاكتشاف مفاده أن تأخير الغسل بعد الجماع يتسبب في آلام الظهر؛ حيث إن فقرات الظهر بينها سائل المحِّ المغلف بغضروف، وهذا السائل يحتاج لتدفق الدم إليه حتى يظل محتفظًا بمرونته الدائمة، وإذا أجنب الإنسان ولم يبادر بالاغتسال؛ فإن ذلك يحدث له ارتخاء وفتورًا يسبِّب ضعفًا في الدورة الدموية؛ الأمر الذي يؤدي إلى جفاف هذا السائل، ومن ثم تآكل الغضروف المحيط بهذا السائل وتفطره، وبالتالي الضغط على فقرات الظهر ضغطًا متواصلًا مسببًا الألم([6]).

  • المشكلات الصحية المحتملة من تراكم إفرازات الغدد العرقية:

توجد على جميع بشرة الإنسان أجناس وأنواع مختلفة من الكائنات الحية الدقيقة يطلق عليها اسم الفلورا الميكروبية، وتحمل كل منطقة من الجلد فلورا ميكروبية خاصة بها؛ إذ تعيش معظمها على الطبقة السطحية من الجلد وفي الجزء العلوي من جراب الشعرة، وهناك نوعان من الفلورا الميكروبية التي توجد على الجلد؛ النوع الأول يعرف بالفلورا الميكروبية المقيمة، وهي التي توجد بصورة دائمة على الجلد، وتتكون من أنواع بكتيرية محددة، ويختلف نوع البكتيريا المقيمة على الجلد وعددها باختلاف مناطق الجسم، ومنها المكورات العنقودية المختلفة، ويحمل كثير من الناس نوعًا من المكورات البكتيرية تسمَّى “المكورات العنقودية الذهبية” (Staphylococcusaurous)، هذا النوع لا يعتبر من ضمن الفلورا الطبيعية في جسم الإنسان؛ ولذلك يشكل خطورة على من يحملها وعلى المجتمع، كما يستوطن الجلد بعض البكتيريا العصرية، أما النوع الثاني من الفلورا الميكروبية فيعرف بالفلورا الميكروبية العابرة، وهي التي تستوطن الجلد لمدَّة زمنية محددة دون أن تتكاثر عليه، هذا النوع من الميكروبات ربما يكون من النوع غير الممرض أو من النوع الممرض، ويحدِّد زمن بقائها على الجلد عوامل عديدة، منها وجود الفلورا الميكروبية المقيمة، وحالة الجلد الصحية، وقوة المقاومة في الجسم.

وتعدُّ المواد السكرية والمواد الدهنية والمواد البروتينية – التي هي في الأصل من محتويات إفرازات الغدد العرقية- من أهم العوامل التي تعمل على زيادة تكاثر ونمو الكائنات الحية الدقيقة الموجودة بصورة طبيعية على بشرة الإنسان؛ الأمر الذي يسبب له مشكلات مختلفة أقلها تأثيرًا هي تلك التأثيرات الشكلية التي تتمثل في الروائح الكريهة.

على أية حال؛ فإن أهم المشكلات التي تنتج من تراكم إفرازات وحدات الغدد العرقية تتمثل في عدد من الأمور، أهمها المشكلات الآتية:

1.  الروائح الكريهة :

إن جميع الإفرازات التي تنتجها الغدد العرقية هي في الأصل إفرازات عديمة الرائحة، لكن البكتيريا التي توجد في جرابات الشعر، وعلى سطح الجلد في حالة الغدد العرقية البعيدة ـ تقوم بتحليل هذه الإفرازات لتنتج أحماضًا دهنية من النوع قصير السلسلة، وتنتج الأمونيا ومواد أخرى ذات روائح كريهة، كما أن الغدد العرقية الصغيرة التي توجد تحت الإبطين تعمل على إصدار الروائح الكريهة عن طريق إمداد البكتيريا الموجودة في هذه الأماكن ببيئة رطبة تؤدي إلى تكاثر البكتيريا المسببة لانبعاث هذه الروائح.

وقد تتسبب الغدد العرقية ـ وخاصة الكبيرة منها ـ التي تكثر في مناطق العانة وتحت الإبطين وحول السرة ـ خاصة بعد المواقعة الجنسية ـ في انبعاث الرائحة الكريهة، وعدم إزالة هذه الإفرازات بالغسل يعمل على تراكم هذه الإفرازات في هذه المناطق، وتعمل عندئذٍ البكتيريا على تحليل هذه الإفرازات لتنبعث من الشخص الروائح الكريهة التي تجعل من حوله ينفر منه، ولا يطيق الاقتراب منه ومجالسته، أو على الأقل تجعل الزوجين ينفران من بعضهما أثناء المواقعة الجنسية؛ لكثرة صدور الروائح الكريهة من مناطق الملاعبة الجنسية، ولذلك نرى أن الغالبية العظمى في المجتمع الغربي يقومون بالاغتسال قبل المواقعة الجنسية؛ هروبًا من هذه الروائح الكريهة التي تنبعث من مواقع الملاعبة الجنسية في أجسامهم.

2.   إعادة امتصاص السموم والعناصر الضارة:

سبق أن أشرنا إلى أن الغدد العرقية الصغيرة والكبيرة تعمل على إخراج إفرازاتها التي تحتوي على المواد السامة من المعادن الضارة والمركبات الكيميائية المؤذية التي دخلت في الجسم، أو السموم التي تولدت داخل الجسم؛ نتيجة تأيُّض المواد الغذائية أو تأيُّض الهرمونات وغيرها من مركبات الجسم، وأشرنا إلى أن الغدد العرقية الكبيرة لا تثار بالحرارة، ولكنها تثار بالمثيرات العاطفية نتيجة إفراز الهرمونات المختلفة، خاصة في حالة المواقعة الجنسية التي تكون فيها حالة الجسم الفسيولوجية مختلفة عن حالته في الظروف العادية المتعلقة بإجهاد الجسم عن طريق العمل الشاق أو التمارين الرياضية مثلًا. لذا؛ فإن بقاء السموم على البشرة مدّة زمنية طويلة يعمل على إعادة امتصاص بعضها ودخولها في الجسم من جديد، فيسبب الإنسان لنفسه بذلك إعادة احتمال حدوث المشكلات الصحية التي تنتج عادة من هذه السموم بعدما كانت قد جُنِّبَت على بشرته، ولم يبقَ على ذهابها من جسمه تمامًا إلا القيام بعملية يسيرة سهلة منشطة، ألا وهي الاغتسال، كما أن تراكم الإفرازات على البشرة من شأنه أن يسبب المشكلات الصحية الأخرى.

3.   تحويل الكائنات الحية الدقيقة المتعايشة إلى كائنات ممرضة:

يلعب تراكم إفرازات الغدد العرقية على بشرة الإنسان دورًا مهمًّا في الإصابة بالأمراض؛ فعندما يضعف الجهاز المناعي في الجسم أو يحدث اضطراب مثلًا في إحدى وسائل الدفاع؛ فإن الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش بصورة طبيعية على الجسم تنتهز فرصة ضعف مقاومة الجسم، وتأخذ في التكاثر بشكل مضطرد، وتغزو بعض الأنسجة أو الأعضاء مسببة مشكلات مختلفة.

ومن العوامل التي تهيِّئ هذه الفرصة لهذه الكائنات الحية الدقيقة تعاطي العقاقير المثبطة للجهاز المناعي مثل الكورتيزون، والعقاقير السامة للخلايا، وتعاطي المضادات الحيوية لفترات طويلة، وتلعب المكورات البكتيرية العنقودية (الفطريات) التي توجد على الجلد بصوره طبيعية ـ دور الكائنات الانتهازية في حالة ضعف المقاومة في الجلد؛ لتكون سببًا في حدوث الأمراض.

4.   تسهيل فرصة العدوى للبكتيريا الانتهازية:

ربما تسبب المكورات العنقودية الذهبية التي يحملها بعض الأشخاص على أجسامهم أضرارًا صحية بالغة، إذا وجدت الفرصة للتكاثر والدخول في أنسجة الجسم وفي الدورة الدموية؛ إذ تظهر الأمراض التي يسببها هذا النوع من البكتيريا على هيئة أمراض سطحية وأمراض جهازية، وتتمثل الأمراض السطحية في التهابات الجلد، والجروح المختلفة، والحصف الجلدي، وجرابات جزيئات الشعر، والدمامل والـخُرّاج، أو تسبِّب تسمُّم الدم أو عطب البدائل الطبية المزروعة في الجسم، خاصة عندما تستوطن المناطق المزروعة.

ولا يحدث ذلك غالبًا إلا عندما تضعف مقاومة الجلد؛ فقد جعل المولى سبحانه وتعالى الجلد سدًّا منيعًا يحول دون دخول الميكروبات في الجسم، وفي الوقت نفسه جهازًا يقوم بقتل الميكروبات التي تصيبه، فالجلد يستطيع أن يقتل البكتيريا السبحية في يوم واحد، والمكورات العنقودية في ثلاثة أيام، كما يستطيع أن يقضي على الفطريات أيضًا، غير أن إهمال النظافة وقلة الاغتسال تؤدي إلى ضعف مقاومة الجلد للكائنات الحية الدقيقة الموجودة عليه بصورة طبيعية أو الممرضة التي تسقط عليه، وتستطيع هذه الكائنات عندئذٍ أن تهاجم الجلد وتسبب الأمراض الجلدية المختلفة، أو أنها تتمكن من الدخول في داخل الدورة الدموية، وتكون عندئذٍ أشد خطورة على الجسم.

5.   تفاقم مشكلات الأمراض الجلدية:

يسبِّب تراكم إفرازات الغدد العرقية تفاقم مشكلات الأمراض الجلدية المصاب بها الإنسان؛ فهي تسهِّل عملية حضانة الكائنات الحية الدقيقة، وتعمل في الوقت نفسه كمواد مغذية لهذه الكائنات, فتعمل على زيادة فلورا الكائنات الحية الدقيقة على الجلد، كما أنها تعدُّ مذيبًا يقوم بمهمة استخراج المواد المسببة للحساسية، أو المواد المسببة لإثارة الجلد وتهييجه من أنسجة القماش أو المجوهرات التي تتصل بشكل مباشر بالجلد لتؤذيه وتضره, وذلك عن طريق إضعافه أو بطريقة أخرى لم يتم تحديدها حتى الآن، فتضر بالطبقة القرنية. ومن ثم؛ تزيد من مشكلات التهاب جرابات الشعر، والحصف الجلدي، والقوباء، وحب الشباب، والثآليل، والدخنية، وهو التهاب جلدي يتسم بالحك والتعرق المفرط، ومرض الشري، وهو طفح جلدي ذو بثور حكاكة([7]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما جاء به القرآن الكريم:

أمر الله عز وجل بالاغتسال من الجنابة فقال سبحانه وتعالى:)وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)((المائدة).

وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا(43)( (النساء).

فتبيَّن من هاتين الآيتين أن الغسل واجب على كل مسلم إذا أجنب، فأخذ المشككون ذلك، وزعموا أن تشريع الإسلام الغسل بعد الجنابة ليس ذا قيمة علمية، وإنما هو يحمل قيمة ونزعة دينية، فهل أوجب الإسلام الغسل بسبب ذلك أم هناك أسباب أخرى؟ وهل أثبت العلم أنه ليس ذا قيمة علمية؟ هذا ما سنعرفه من خلال ما يأتي:

· من الدلالات اللغوية:

الجنابة:تعود لفظة الجنابة إلى مادة (جنب)، فتقول مثلًا: جنَّبت الشيء؛ أي: أبعدته، ونقلته من موضعه إلى موضع آخر في ناحية أو في جانب من المكان نفسه.

ذكر الجوهري في الصحاح: الجنْب معروف، فنقول: قعدت إلى جنب فلان أو إلى جانب فلان، والجنب والجانب يعني: الناحية، فنقول: جنَبته، وجنَّبته الشيء؛ أي: نحيته، ورجل جنب من الجنابة([8]).

وذكر ابن منظور في لسان العرب: الجنْب والجنْبة والجانب: شق الإنسان وغيره، فتقول مثلًا: قعدت إلى جنب فلان وإلى جانبه، وجنَّب الشيء وتجنَّبه وجانبه وتجانبه واجتنبه؛ أي: بعد عنه، وجنَبه الشيء وجنَّبه إياه وجنَبه يـجنـُبه وأجنبه؛ أي: نحّاه.

وذكر أن الجنابة هي المني؛ استنادًا إلى قول ابن الأثير: الجنُب الذي يجب عليه الغسل بالجماع وخروج المني([9]).

والجنابة في الشرع هي مخالطة الرجل والمرأة، وتعني: خروج المني بشهوة في النوم أو اليقظة من ذكر أو أنثى([10]).

والغسل: تمام غسل الجسد كله([11]).

· من أقوال المفسرين:

ذهب المفسرون إلى أن الآيتين أوجبتا الغسل على الجنب صراحة؛ فقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: )ولا جنبا((النساء:43): أي: “لا تصلوا وقد أجنبتم”، وقال في قوله تعالى: )حتى تغتسلوا((النساء 43): “نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال معنى معقول، ولفظه عند العرب معلوم”([12]).

وقال الطاهر ابن عاشور: “والمعنى: لا تصلوا في حال الجنابة حتى تغتسلوا”([13]).

ويقول الشعراوي في تفسير قوله تعالى: ) ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ( (النساء:43): “ومعروف ما هي الجنابة: إنها الأثر الناتج عن التقاء الرجل بالمرأة، ويقال: إنها اللذة التي يغيب فيها الفكر عن خالقه، وهذه لذة يسمُّونها “جماع اللذات”؛ لأنها تعمل في البدن تلك الرعشة المخصوصة التي تأخذ خلاصات الجسم؛ ولذلك قيل: إنه نور عينيك ومخ ساقيك فأكثر منه أو أقلل، أنا أعطيك هذا القدرة وأنت حر، ونحن نغتسل لنعيد النشاط إلى النفس البشرية، وليس لأحد شأن بهذه المسألة ما دامت تتم في ضوء شريعة الله، وشأننا في ذلك أن نأتمر بأمر ربنا ونغتسل من الجنابة، سواء فهمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نفهم”([14]).

وقال القرطبي في تفسير سورة المائدة: )فاطهروا((المائدة:6)، أمر بالاغتسال بالماء([15])، أما الشعراوي فقال فيها: “وهناك فرق بين إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي، وبين إخراج ما يُمتع؛ فإنزال المني أو حدوث الجماع يقتضي الطهارة بالاغتسال، ونعلم أن الإنسان حين يستمتع بطعام أو يستمتع برائحة، أو بأي شيء هو محدود بوسيلة الاستمتاع به، أما الاستمتاع بالجماع فلا يعرف أحد كيف يحدث؛ الأمر الذي يدل على أن جميع ذرات التكوين الإنساني مشتركة فيها، ومادام الأمر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل الإنسان كل جسمه”([16]).

ويجيب ابن القيم رحمه الله عن سؤال مهم، وهو: لماذا أوجب الله الغسل من المني دون البول؟ فيقول: “هذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة؛ فإن المني يخرج من جميع البدن، ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى “سلالة”؛ لأنه يسيل من جميع البدن، وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة، فتأثُّر البدن بخروج المنى أعظم من تأثره بخروج البول، وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المني أنفع شيء للبدن والقلب والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن، فإنها تقوى بالاغتسال، والغسل يخلف عليه ما تحلَّل منه بخروج المني، وهذا أمر يعرف بالحس، وأيضًا فإن الجنابة توجب ثقلًا وكسلًا، والغسل يحدث له نشاطا وخفة، ولهذا قال أبو ذر: لما أغتسل من الجنابة كأنما ألقيت عني حملًا.

 وبالجملة؛ فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم وفطرة صحيحة، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة، فإذا اغتسل زال ذلك البعد، ولهذا قال غير واحد من الصحابة: إن العبد إذا نام عرجت روحه، فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جنبًا لم يؤذن لها، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب إذا نام أن يتوضأ، وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، ويخلف عليه ما تحلل منه، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح، وتركه مضر، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه، وبالله التوفيق.

على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة، تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه”([17]).

إن من الدلالات اللغوية لهاتين الآيتين وأقوال المفسرين فيهما يتبين أن في هاتين الآيتين ـ اللتين شرعتا الغسل من الجنابة ـ إعجازًا علميًّا من جانبين:

الأول: لفظة “الجنابة”؛ حيث إن اختياره سبحانه وتعالى لهذه اللفظة في وصف الإنسان بعد العملية الجنسية هو أفضل اختيار على الإطلاق، ويدل على علمه سبحانه وتعالى المطلق؛ لأن الغدد الكبيرة والصغيرة ـ وهي الوحدات الإخراجية ـ تقوم بإخراج السموم وما تولَّد في الجسم من مركبات سامة أثناء قذف المني؛ لتستقر هذه السموم على سطح البشرة، وهذه السموم تخرج على هيئة إفرازات وسوائل لكنها غير مرئية، ويتبخَّر ماء هذه الإفرازات وتبقى السموم والمواد الكيميائية على سطح البشرة، مكونة طبقة غير مرئية تشبه المادة البلاستيكية. وعليه؛ فإن السموم التي تخرج بواسطة الغدد العرقية الصغيرة أو الكبيرة لا تذهب عن الجسم، وإنما تجنَّب عليه؛ حيث تنتقل من موضعها الداخلي إلى موضعها الخارجي.

لذلك؛ فإن في استخدام لفظ “الجنابة” في هذا الموضع إعجازًا علميًّا توصل إليه العلم الحديث وأثبته العلماء؛ لأن لفظة “جنب” في اللغة بمعنى جنبت، فجنبت الشيء؛ أي: أبعدته ونقلته من موضعه إلى موضع آخر في ناحية أو في جانب من المكان نفسه، وهذا ما يحدث أثناء عملية الإنزال بالضبط؛ حيث تخرج هذه السموم والإفرازات من الجسم لتُجنَّب على سطحه من الخارج.

ومن هنا يتجلَّى لنا بوضوح هذا الإعجاز العلمي والانسجام البليغ في إطلاق اسم الجنابة على المواد التي تخرج من الجسم وتستقر تحت الشعر أو عليه؛ فهي جنابة بالفعل؛ أي: إنها أذًى لم يذهب عن الجسم تمامًا، وإنما جنِّب عليه فقط، وقد تنبَّه إلى هذا الأذى الإمام النسائي رحمه الله فعقد بابًا في كتابه “السنن” سماه “باب إزالة الجنُب الأذى عنه قبل إفاضة الماء عليه”([18])([19]).

الثاني: الحكمة من الغسل، وتتمثل في أن هذه السموم والإفرازات الناتجة عن العملية الجنسية تخرج وتتراكم على الجسد عند عملية القذف، وإذا كان خالق الكون جلَّت قدرته قد خلَّصنا نحن البشر من هذا الأذى بخروجه من داخل الجسم إلى خارجه، فينبغي على كل عاقل مدرك ألا يتركه على الجسم يتراكم، ويسبب مشكلات صحية محتملة كالروائح الكريهة الناتجة عن ذلك، أو إعادة امتصاص السموم والعناصر الضارة، وتحويل الكائنات الحية الدقيقة المتعايشة إلى كائنات ممرضة، وتسهيل فرصة العدوى للبكتيريا الانتهازية، وتفاقم مشكلات الأمراض الجلدية إلى غير ذلك من المشكلات الصحية المترتبة على عدم الاغتسال من الجنابة.

لذلك أمرنا الله عز وجل أن نزيل بالغسل الجنابة التي أصابتنا، وقد أظهرت نتائج الدراسات والأبحاث أن هذا الغسل شرع لحكمة عظيمة كما بينا سابقًا.

ومن الحكم الإلهية في تشريع الإسلام الغسل أن وجوبه على المسلم يقيه من خطر الإفراط الجنسي، الذي يؤدي بصاحبه إلى الإنهاك والمرض؛ فإن التفكير في الغسل والإعداد له يجبر المرء على الاعتدال في طلب اللقاء الجنسي، ويحفظ بذلك قدراته وحيويته لعمر مديد، فالمؤمن لا يعيش لغريزته وشهواته فحسب، ولكنه يعيش لرسالة الله قبل أي شيء آخر.

هكذا يتجلَّى لنا شيء من الحكمة في وجوب الغسل على من أصابته الجنابة، فبالغسل نزيل الإفرازات والسموم التي تخرج من داخل الجسم وتستقر تحت كل شعرة أو عليها، ويحمينا الله عز وجل بذلك من مشكلات صحية محتملة ربما تنتج من تراكم إفرازات الغدد العرقية على البشرة.

وبعد أن ذكرنا شيئًا من الحكم الإلهية في تشريع الإسلام للاغتسال من الجنابة نقول: إن الواجب الشرعي على المسلمين أن يأتمروا في كل الأحوال بما أمر به الإسلام، وأن ينتهوا عن كل ما نهى عنه دون الحاجة إلى معرفة الأسباب أو الحكمة، لكن المولى خالق الكون وعالم الغيب سبحانه وتعالى يعلم أن الإنسان عجول وحريص على أن يتحسَّس السبب أو الحكمة من كل أمر يقضيه أو فعل يفعله، ويتطلع إلى أن يعرف كيف يحدث الله عز وجل أية معجزة في الكون؛ وذلك كي يطمئن قلبه، فهذا نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام يسأل الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى، يقول سبحانه وتعالى:) وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي((البقرة/260)؛ ولذلك فإننا نرى أن المولى عز وجل يظهر للإنسان من حين لآخر عبر مرور القرون والأحقاب حقيقة في الكون أو في خلقه لم يعرفها الإنسان من قبل إلا بعد أن أخضع الأمور المتعلقة بهذه الحقيقة للتجربة والفحص بآلياته وأجهزته المتطورة، ويذهل ويندهش عندما يرى أن القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف قد ذكر أو أشار إلى هذه الحقيقة قبل أن يعرف سرها الإنسان في عصر من العصور، فتكون هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى على قدرته وإبداعه، وسيظل الإنسان إلى أن تقوم الساعة يرى من هذا الآيات المعجزة؛ إذ يقول المولى عز وجل: )خلق الإنسان من عجل
سأريكم آياتي فلا تستعجلون((الأنبياء/37)([20]).

أمّا زعمهم أن الأفضل أن يظل الإنسان بعد الجماع دون اغتسال، وأن الرجل والمرأة تتحسَّن صحتهما على هذا الحال ويزدادا نضارة وشبابًا ـ زعم باطل لا أساس له من الصحة، ولا يوجد دليل علمي واحد يثبت ذلك، ومادام أنه ليس هناك دليل على ذلك، فالصحيح هو ما أثبتناه بالأدلة العلمية والتجارب القاطعة.

3)  وجه الإعجاز:

أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن الاغتسال بعد العملية الجنسية أمر ضروري؛ وذلك لأن ترك الجسم بعد الجماع دون اغتسال يسبب كثيرًا من الأضرار والمشكلات الصحية كالروائح الكريهة التي تتفاقم، وإعادة امتصاص الجسم للسموم والعناصر الضارة، وتحويل الكائنات الحية الدقيقة المتعايشة إلى كائنات ممرضة، وتسهيل فرصة العدوى للبكتيريا الانتهازية، بالإضافة إلى تفاقم مشكلات الأمراض الجلدية.

ومن هذا؛ يتبين أن العلم لا يختلف أبدًا مع تشريعات الإسلام العظيمة، فقد أقر ضرورة الاغتسال بعد الجماع، وأثبت أن عدمه مضرٌّ  أشد الضرر بالإنسان، وهذا لا شك إعجاز علمي يثبت عظمة هذا الدين.

(*) خرافة التطهر من الجنابة، جهاد علاونة، مقال منشور بموقع: الحوار المتمدنwww.ahewar.org. الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي، د. عبد البديع حمزة زللي، بحث منشور بمجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، العدد (23).

[1]. الغدد العرقية البعيدة (الكبيرة): هي أكبر من الغدد الإخراجية الصغيرة، ولها قنوات أو أنابيب أطول وأكثر التفافًا من تلك الخاصة بالغدد العرقية الصغيرة؛ فهي تكبر عنها بمقدار عشرة أضعاف، وتفتح هذه الغدد دائمًا في غِمد الشعرة أو جرابها الذي يكون في داخل البشرة؛ لذا فإن ما تفرزه هذه الغدد من مواد متنوعة يكون تحت الشعرة مباشرة.

[2]. الغدد العرقية الإخراجية الصغيرة: هي صغيرة الحجم، أنبوبية بسيطة، من النوع شديد الالتفاف، تفتح على سطح بشرة الإنسان بثغور أو فتحات صغيرة جدًّا. ولذلك؛ فإن الإفرازات التي تخرج منها تبقى ببساطة على الشعر، خاصة ذلك الدقيق منه الذي لا يُرَى غالبًا بسهولة.

[3]. الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي، د. عبد البديع حمزة زللي، مرجع سابق، ص190- 191.

[4]. حكمة فرض الاغتسال من الجنابة، مقال منشور بمنتديات: أتباع المرسلين www.ebnmaryam.com.

[5]. حكمة غُسْل الجنابة في ضوء المعطيات الطبية الحديثة، د. حمزة عبد الكريم حماد، بحث منشور بموقع: دار القرآن الكريم www.dar-quran.com.

[6]. تأخير الغسل من الجنابة من أسباب آلام الظهر، نذير وضاح، مقال منشور بموقع:www.ahramag.com.

[7]. الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي، د. عبد البديع حمزة زللي، مرجع سابق، 194- 199.

[8]. الصحاح تاج اللغةوصحاح العربية، مادة: جنب.

[9]. لسان العرب، مادة: جنب.

[10]. الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي، د. عبد البديع حمزة زللي، مرجع سابق، ص177- 178.

[11]. لسان العرب، مادة: غسل.

[12]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج5، ص204- 209.

[13]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، مج3، ج3، ص62.

[14]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج4، ص2259.

[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مرجع سابق، ج6، ص103.

[16]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج5، ص2956.

[17]. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م، ج2، ص76- 77.

[18]. السنن الكبرى، النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج1، ص167.

[19]. الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة وحكمها الشرعي، د. عبد البديع حمزة زللي، مرجع سابق، ص192.

[20]. المرجع السابق، ص193- 194.

التشكيك في الفوائد الصحية للصلاة

مضمون الشبهة:

في محاولة مغرضة للحطِّ من عظمة التشريع الإسلامي وإعجازه يشكك بعض المغالطين في الفوائد الصحية التي تعود على المسلم من أدائه للصلاة؛ زاعمين أن الصلاة من الأمور الاعتيادية التي يؤدِّيها المسلمون برتابة وآلية.

ويستدلون على هذا بقولهم: نحن نصلِّي لأن الله أمرنا بذلك، وليس لأنها تمارين رياضية، وإلا لكانت تمارين الجمباز أفضل، ويتساءلون: لماذا هذا التعسُّف والعناء في تحويل العبادات إلى فوائد علمية؟!

وجه إبطال الشبهة:

لقد أثبت العلم حديثًا ـ من خلال أبحاثه وتجاربه ـ أن للصلاة في الإسلام فوائد بدنية كثيرة، منها: تقوية العظام، الوقاية والعلاج من الانزلاق الغضروفي، الوقاية من أمراض الرئة، ناهيك عن الفوائد الجَمَّة للسجود، والطمأنينة، والخشوع، كما أن للصلاة فوائد نفسية، أهمها تهدئة النفس وإزالة توترها، وقد شهد بتلك الفوائد علماء الغرب. ومن ثم؛ فإن كون الصلاة أمرًا تعبُّديًّا لا يعني خلوها من أي فائدة للجسم؛ فجُلُّ أوامر الله تعالى فيها خير عميم للإنسان نفسيًّا وبدنيًّا، وهذا ما كشف عنه العلم الحديث، ولا يزال يكشف عنه يومًا بعد يوم؛ فأي إعجاز تشريعي هذا؟!

التفصيل:

إن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بشيء إلا كان فيه خيرٌ للإنسان نفسيًّا وبدنيًّا، ولا ينهى عن شيء إلا كان فيه ضررٌ للإنسان نفسيًّا وبدنيًّا، عَلِم هذا من عَلِمه وجَهِله من جهله. ومن ثم؛ فإن الصلاة في الإسلام لها فوائد بدنية ونفسية عظيمة تعود على مؤدِّيها، وهذا ما أثبته العلم حديثًا من خلال أبحاثه وتجاربه، وذلك كالآتي:

أولًا: الفوائد البدنية:

·      الصلاة رياضة بدنية:

إن الصلاة بحركاتها وسكناتها من قيام وركوع وسجود وجلوس، هي نوع متميز من الرياضات، بل تفوق أكثرها لأسباب كثيرة، منها:

1.  أنها رياضة هادئة لا تحتاج إلى جهد شديد، وليس فيها عنف أو مشقة.

2. تناسب كل المستويات الفكرية؛ فهي لا تحتاج إلى مهارة خاصة أو موهبة بعينها كما يحدث في كثير من أنواع الرياضات.

3. تناسب كل الحالات الصحية، سواء كان الإنسان سليمًا أو مريضًا، بينما هناك رياضات كثيرة لا يُسمح بأدائها إلا لفئات معينة تتمتع بدرجة معينة من الصحة والقدرة.

4. يستطيع الإنسان أداءها في كل وقت، دون الرجوع إلى طبيب أو متخصص.

5. تناسب جميع الأعمار من الطفولة وحتى آخر العمر.

6. هي رياضة متكررة خمس مرات في اليوم على الأقل، وهي رياضة مستمرة طوال العمر، يؤديها الإنسان طواعية، بحب ورضا وسعادة، بينما معظم الرياضات تُؤدَّى لمدّة محدودة، وفي أوقات محددة، وقد يتكاسل عنها الإنسان، أو يؤديها مضطرًّا لهدف معين.

7. هي رياضة موزَّعة خلال ساعات الليل والنهار، تتماشى مع الساعة البيولوجية في جسم الإنسان، وتؤدي إلى التناسق بين النفس والجسد، وما حولهما من الطبيعة.

8. هي رياضة تشمل جميع عضلات الجسم الإرادية تقريبًا، وكذا المفاصل والأربطة.

9. هي أكثر الرياضات أمانًا؛ فلا يتعرض فيها الإنسان للأخطار التي يتعرض لها أصحاب الرياضات الأخرى، من رضوض وكسور قد تودي بحياة الإنسان وتعرضه لكثير من الأمراض عاجلًا أو آجلًا.

وعلى هذا؛ فإن فوائد الصلاة شاملة للجسم والعقل معًا، وتمدُّ الإنسان بالطاقة اللازمة للقيام بمختلف الأعمال، وهي وقاية وعلاج؛ وهذه الفوائد وغيرها يمكن للإنسان أن يحصل عليها لو حافظ على الصلاة، وبذلك فهو لا يحتاج إلى نصيحة الأطباء بممارسة التمارين؛ لأنه يمارسها فعلًا ما دامت هذه التمارين تشبه حركات الصلاة([1]).

 ·      الصلاة تقوِّي العظام:

إن أداء سبع عشرة ركعة يوميًّا ـ هي فرائض الصلاة ـ وعدد أكثر من هذا ـ هي النوافل ـ يجعل الإنسان ملتزمًا بأداء حركي جسمي لا يقلُّ زمنه عن ساعتين يوميًّا، وهكذا طيلة حياة المسلم؛ لأنه لا يترك الصلاة أبدًا فتكون سببًا في تقوية عظامه وجعلها متينة سليمة، وهذا يفسِّر ما نلاحظه في المجتمعات المحافِظة على الصلاة ـ كما في الريف المصري مثلًا ـ من انعدام التقوُّس الظهري تقريبًا، الذي يحدث مع تقدم العمر، كما يفسر أيضًا تميُّز أهل الإسلام الملتزمين بتعاليم دينهم صحيًّا وبدنيًّا بشكل عام، وفي الفتوحات الإسلامية والقوة البدنية التي امتاز بها فرسان الإسلام ـ ما يغني عن الحديث([2]).

·      الصلاة وقاية وعلاج من الانزلاق الغضروفي:

قدَّم الدكتور محمد وليد الشعراني ـ استشاري جراحة المفاصل والعظام في قطر ـ نظرية جديدة عن الظهر، كشف من خلالها النقاب عن معجزتين إسلاميتين ظلَّتا محجوبتين لأكثر من ألف وأربع مئة سنة، وهما الوقاية من الانزلاق الغضروفي وآلام أسفل الظهر من خلال الصلاة المنتظمة؛ حيث أجرى بحثًا ميدانيًّا على 188 من البالغين، وقد تم سؤالهم عمَّا إذا كانوا يشتكون من آلام أسفل الظهر أو عرق النَّسا، وعن شدة الألم إن وُجد، ثم سئلوا عن صلاتهم: متى انتظموا فيها ولم يقطعوها؟

لقد أثبتت النتائج بشكل قاطع وملحوظ صحة فرضية هذه النظرية([3])، واكتسب الطب هذه النظرية؛ حيث إن 2,6% فقط ممن يصلُّون قبل سنِّ العاشرة قد عانوا من آلام قوية أسفل الظهر، بينما 70% ممن لا يصلُّون إطلاقًا يعانون من آلام قوية([4]).

إن ضعف الغضروف يرجع إلى أسباب ثلاثة:

1.  فقدان الغضروف لآلية تبادل المياه فيه.

2.  تناقص كمية البروتيوجليكان بتحلُّلها بفعل الإنزيمات.

3.  تغيرات سطح الفقرة التي يرتكز عليها الغضروف.

والصلاة عامل مهم للمحافظة على آلية تبادل المياه داخل الغضروف؛ فإن نواة الغضروف توزِّع الضغط الذي تستقبله الألياف الدائرية. هذه الألياف تتمطط وتمتص الضغط، وكذلك تمارس عملية سحب على فقرة مجاورة للغضروف؛ الأمر الذي يقوي الألياف وسطح الفقرة، وتعدُّ النواة جهازًا محوِّلًا للضغط بطريقة مائية ـ هيدروليكية ـ كالآتي:

إن الانتقال من وضع الوقوف ثم الركوع ثم الوقوف ثانيًا، وبعد ذلك السجود والرفع منه، والسجود ثانية ثم الوقوف ـ يفرض ضغطًا خارجيًّا متغيرًا باستمرار تبعًا لوضع الجسم في الصلاة، وبالتالي تتكوَّن حركة دخول الماء وخروجه، ويتغير شكل النواة بحسب قيمة الضغط، وتتغير درجة تمطط الألياف المحيطة بالنواة؛ الأمر الذي يجعل الغضروف في حالة تحوُّل من مستوى توازن معين إلى مستوى أكبر أو أقل، تبعًا لدرجة انحناء الجسم أو استقامته.

وهذا التحول المستمر يرفع من كفاءة النواة كجهاز محوِّل للضغط، ومن مرونة الألياف الليفية وقوتها التي تتمطط وتسحب من مكان التصاقها بسطح الفقرة العليا والسفلى، وهذا يقوِّي عظام الفقرات.

ويمكن أن تتصوَّر أن الحركة الدائبة للماء دخولًا وخروجًا من النواة أثناء تغيير الوضع في الصلاة يجعل نواة الغضروف دائمة التجدُّد ومحافظة على نسبة عالية من الماء فيها، وهذا يجعل الغضروف دائم الشباب والقدرة على تحمل الضغوط برغم السنِّ؛ ومما يؤيد ذلك أنه في بلاد الغرب نجد المتقدمين في السنِّ قد اعوجَّت ظهورهم وانحنت رءوسهم مستعينين بعُكَّاز للمشي، أما في بلادنا الإسلامية ـ والحمد لله ـ يندر هذا المشهد ، وإن وُجد فإنه بنسبة ضئيلة، والسبب يرجع إلى الصلاة.

هذا عن دور الصلاة المنتظمة في الوقاية من الانزلاق الغضروفي وآلام أسفل الظهر، وهي أيضًا تعجِّل الشفاء من الانزلاق الغضروفي؛ فقد تمكَّن الدكتور شفيق الزيات من جعل (40) مريضًا ـ بعد إجراء عملية جراحية للانزلاق الغضروفي بالظهر ـ يغادرون المستشفى بعد أسبوع من الجراحة بالعلاج الحركي عن طريق أداء الصلاة بعد 48 ساعة من إجراء العملية.

ويفسِّر الدكتور الزيات هذا التحسن بقدرة الصلاة على السماح للعمود الفقري بأداء مختلف الحركات، مثل الثني التام للركبة خلال الصلاة، وتؤدي إلى تقليل التقوُّس الخلفي للظهر، وذلك أثناء الانحناء إلى الأمام في الصلاة، كما أن حركة الانحناء نفسها تقوِّي عضلات البطن المسئولة عن ثني الجذع إلى أسفل.

ومقارنة بالعلاج الطبيعي الطبي مثل الحرارة والتدليك ظهر أن هذا العلاج لم يكن أكثر فائدة من التزام الراحة في السرير لا غير، بينما أدَّت الصلاة إلى نتائج أكثر، بداية من 48 ساعة بعد العملية.

وقد توصَّل الباحثون إلى ضرورة أداء تمارين مشابهة لحركات الصلاة خمس مرات يوميًّا، ولم يتمكَّن المرضى من مزاولة هذه التمارين إلا بعد بضعة أيام من الجراحة. وبذلك تعدّ الصلاة أحسن وسيلة لتقوية عضلات العمود الفقري وتدعيم فاعلية العضلات والجهاز الحركي عمومًا.

وبالتالي يمكن ذكر أهم فوائد الركوع والرفع منه فيما يلي:

ـ  تقوية العضلات، خصوصًا العضلات الظهرية، وكذلك فقرات العمود الفقري، والأربطة المحيطة بها؛ الأمر الذي يساعد على الوقاية من الانزلاق الغضروفي أو علاجه.

ــ  زيادة مرونة الصدر وعضلاته، وتنشيط عمل الرئتين بما يتضمَّنه الركوع من زفير قوي؛ نتيجة الضغط على الحجاب الحاجز، فيخرج ما تبقى فيهما من هواء فاسد([5]).

صورة للركوع الصحيح

 ·      الصلاة وقاية من مرض دوالي الساقين([6]):

في بحث علمي حديث تم إثبات علاقة وطيدة بين أداء الصلاة والوقاية من مرض دوالي الساقين.

يقول الدكتور توفيق علوان (الأستاذ بكلية الطب جامعة الإسكندرية): بالملاحظة الدقيقة لحركات الصلاة وُجد أنها تتميز بقدر عجيب من الانسيابية والانسجام والتعاون بين قيام وركوع وسجود وجلوس بين السجدتين، وبالقياس العلمي الدقيق للضغط الواقع على جدران الوريد الصافن عند مفصل الكعب كان الانخفاض الهائل الذي يحدث لهذا الضغط أثناء الركوع يصل للنصف تقريبًا.

أما حال السجود وُجد أن متوسط الضغط قد أصبح ضئيلًا جدًّا. وبالطبع؛ فإن هذا الانخفاض ليس إلا راحة تامة للوريد الصارخ من قسوة الضغط عليه طوال فترات الوقوف، إن وضْع السجود يجعل الدورة الدموية بأكملها تعمل في الاتجاه ذاته الذي تعمل فيه الجاذبية الأرضية، فإذا بالدماء التي طالما قاست في التسلُّق المرير من أخمص القدمين إلى عضلة القلب ـ نجدها قد تدفقت منسكبة في سلاسة ويسر من أعلى إلى أسفل، وهذه العملية تخفِّف كثيرًا من الضغط الوريدي على ظاهر القدم من نحو 100 ـ 120 سم/ ماء حال الوقوف إلى 1,33 سم/ ماء عند السجود، وبالتالي تنخفض احتمالات إصابة الإنسان بمرض الدوالي الذي يندر فعلًا أن يصيب من يلتزم بأداء فرائض الصلاة ونوافلها بشكل منتظم وصحيح([7]).

وفي أحد البحوث وُجد أن نسبة المرضى المصابين بدوالي الساقين قد بلغت 10% من المصلين، وذلك من مجموع الحالات… فيما كانت النسبة 90% من بين غير المصلين.

وفي بحث آخر أُجري على عينة تضم 30% من الإناث، و70% من الذكور، وُجد أن نسبة المصابين بهذا المرض قد بلغت 35% من المصلين، فيما استقرت نسبة غير المصلين عند 65% من الحالات.

وهكذا؛ فإن الصلاة تُعدُّ عاملًا مؤثِّرًا في الوقاية من مرض دوالي الساقين([8]).

  · الصلاة وقاية من أمراض الرئة:

إن للركوع والسجود فائدة عظيمة ـ بجانب ناحية العبادة ـ في المحافظة على سلامة البدن عامة والرئتين خاصة؛ حيث يعتبر الركوع والسجود طاردين للداء عن الرئتين.

ففي حالة الاضطجاع تنعدم حدود الرئة ويجري الدم إليها كاملة، أما في السجود فإن الدم يجري بمقدار هائل إلى المنطقة الأولى الجدبة للرئة التي تعاني قلة الدم. وفي حالة الركوع والسجود؛ فإن الدم يُصَبُّ إلى جميع جوانب الرئتين، ويجري استبدال الأكسجين بثاني أكسيد الكربون، ولقد ثبت أن السرطان يجد طريقه إلى الرئة حين يقلُّ وصول الأكسجين، وكذلك أمراض الدرن والسل الرئوي، وعادة ما يهاجم المنطقة الأولى من الرئتين للسبب نفسه، وكذلك في حالة السجود يتعمق الشهيق (INSPIRATION)، وبذلك يقلُّ قدر الهواء الماكث في خليات الرئة، ونريد أن نشير إلى أن وضع اليدين في السجود ـ بعيدتين عن الجوانب ـ يسهِّل توسع الصدر وتعمق الزفير والشهيق بما يساعد على احتواء قدر هائل من الهواء، ويصفِّي كثيرًا من الهواء، ويحصل الجسم على قدر كبير من الأكسجين.

 ·      الصلاة وقاية من آلام المفاصل:

للصلاة دور مهم في المحافظة على سلامة الغشاء الغضروفي، وتقوية الأربطة المحيطة بالمفصل، والمحافظة على مطاطيتها، وكذلك تقوية العضلات المحيطة بالمفصل، وأطراف العظام الداخلة في تركيبه.

وحركات الصلاة من قيام، وركوع، وسجود، وجلوس، وتسليم، تشمل معظم مفاصل الجسم ـ إن لم يكن جميعها ـ والجدول الآتي يبين المفاصل التي تعمل وتتحرك في كل حركة من حركات الصلاة.

حركة الصلاة

المفصل العامل

رفع اليدين

مفصل الكتف، مفصل المرفق، مفصل الكف.

الركوع

العمود الفقري، مفصل الفخذ، مفصل المرفق، مفصل الكف.

النزول والقيام

مفصل الفخذ، مفصل الركبة، مفصل الكعب.

السجود

العمود الفقري، مفصل الفخذ، مفصل الركبة، مفصل الكعب، مفصل الكتف، مفصل المرفق، مفصل الكف.

التسليم

مفصل العنق.

  ·      الصلاة تنشِّط مراكز استقبال الطاقة الحيوية:

تعمل الصلاة على تنشيط مراكز استقبال الطاقة الحيوية (الغدد) المسئولة عن استقبال الطاقة الكونية كالآتي:

الركوع: فيه تنشيط لثلاث غدد متجاورة، وهي “عَجْب الذَّنَب”، “الكلوية”، “الضفيرة الشمسية”، وهي الغدد الثلاثة التي تستقبل الطاقة من أسفل لأعلى.

السجود: يعمل على إيقاظ وتنشيط ثلاث غدد، هي على التوالي: “الغدة الدرقية” بالرقبة، و”الغدد الصنوبرية” بالجبهة، و”الغدد النخامية” بقاعدة المخ، وهذه الغدد الثلاث يتدفق إليها الدم فتأخذ نصيبًا وافرًا منه؛ إذ إن وجودها أعلى الضفيرة القلبية يضعف من صعود الدم بعكس الجاذبية. ولذلك؛ فإن وضعية السجود تسمح بمرور كمية وفيرة من الدم إلى تلك الغدد، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث زيادة كبيرة في عملية استقبالها للطاقة الكونية.

·      الصلاة تنظِّم الدورة الدموية للمخ:

هناك حقيقة علمية ثابتة، وهي أن تدفق الدم للدماغ يزداد مع ميل الرأس إلى أسفل، وهذا يتحقق حتى مع فترات لحظية لانخفاض الرأس، ويعتمد معدل زيادة تدفق الدم للدماغ مع درجة ميل الرأس لأسفل وأعلى يصاحبها تغيرات مماثلة في مستوى تدفق الدم للدماغ. إضافة إلى ذلك؛ فإن معدلات ثاني أكسيد الكربون في الدم ـ التي تعدُّ عاملًا أساسيًّا للتحكم في معدل تدفق الدم للدماغ ـ تزداد مباشرة بمجرد ميل الرأس إلى أسفل؛ نتيجة ضغط الأحشاء على الرئتين، وهذا يؤدي إلى زيادة في معدل تدفق الدم إلى الدماغ.

فإذا نظرنا إلى الصلاة؛ فإن هنالك تغيرات متتابعة في ميل الرأس إلى أسفل لفترات متقطعة، وذلك أثناء الركوع والسجود، وهذا بالتالي يؤدي إلى تنشيط تدفق الدم إلى الدماغ على مدار منتظم طوال اليوم، موزَّعًا على خمس صلوات في اليوم الواحد.

ووضع الجسم أثناء الركوع ـ بما يجعل الرأس تميل إلى أسفل في وضع أفقي ـ يمثِّل أهمية بالغة؛ حيث يساعد المخ كي يتهيَّأ لاستقبال تدفق وفير من الدم في وضع السجود، وبالتالي حين يكون ميل الرأس حينئذٍ بدرجة كبيرة إلى أسفل.

وتجدر الإشارة إلى أن الوقوف بعد السجود أو الجلوس لا يتأتَّى معه تدهور في تدفق الدم للدماغ إلى أي مستوى غير صحي، خاصة إذا كان الوقوف اعتمادًا على الركبتين دون مساعدة اليدين؛ حيث إن انقباض عضلات الساقين أثناء الوقوف يدفع الدم فيهما لأعلى، وبذلك يُسهم في عدم تراجع الدم عن الدماغ بشكل غير محمود أثناء الوقوف.

يتضح مما تقدم أن أداء الصلاة له فضل بائن في زيادة تدفق الدم للدماغ، بما يعنيه ذلك من مميزات بالنسبة لنشاط المخ ووظائفه، وليس هنالك من لم يُجرِّب إن استيقظ ذات مرة لصلاة الفجر وهو متعب، وظن أنه سوف يعود للنوم بمجرد أداء الصلاة، لكنه بعد عودته من الصلاة وجد نفسه نشيطًا، وأن الرغبة في النوم قد ذهبت، وربما آثر أن ينجز بعض العمل أو يخرج لعمله مبكرًا، فلماذا يكون تفسير ذلك هو مجرد ذهاب الرغبة في النوم فقط؟! لماذا لا يكون هو التأثير الروحي للصلاة في المقام الأول، ثم بعد ذلك الفائدة الصحية التي يجنيها المخ من جرَّاء زيادة تدفق الدم للدماغ؛ نتيجة أداء حركات الصلاة؟!

 ·       فوائد الطمأنينة في الصلاة:

إن تكرار ميل الرأس إلى أسفل أثناء الصلاة ـ كما قلنا ـ يسهم بشكل حيوي في إنماء شبكة الأوعية الدموية الاحتياطية، وفي المحافظة على فاعليتها وكفاءتها مع تقدم العمر، وذلك بتشجيع تدفق الدم خلالها أثناء السجود.

وهنا تتضح فائدة الأمر الإسلامي بالتأنِّي في أداء حركات الصلاة؛ فإن ذلك يعطي الفرصة للتغيرات الحيوية التي تطول الدورة الدموية المخيَّة أن تأخذ مجراها كاملًا، كُلًّا على حدة.

ولذلك كانت الحكمة النبوية في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أسرع في صلاته أن يعيدها على مهل ولا يسرع في ركوعها ولا سجودها.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلَّى، فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ، وقال: ارجع فصل فإنك لم تصلِّ، فرجع يصلي كما صلَّى، ثم جاء فسلم على النبيصلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصل فإنك لم تصلِّ، ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلِّمني؟ فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»([9]).

وتتضح خطورة أداء الصلاة بسرعة وعدم التأنِّي فيها من الناحية الطبية في الآتي:

o    الحركة المفاجئة للعضلات، خاصة إن اعتمد في الوضوء على وضوء الصلاة السابقة.

o تسريع ضخ الدم من الدماغ والقلب وإليهما أيضًا؛ الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب في الدورة الدموية، وبالتالي جلطة عند المصابين بأمراض ضغط الدم والقلب.

o الصلاة وتأخيرها إلى بعد الغداء ـ ومخالفة السنة بالإكثار من الطعام ـ وتأديتها بسرعة يؤدي إلى خروج الطعام من المكان الذي دخل منه.

o    مع الزمن يحدث انزلاق لفقرات الظهر من الانحناء الخاطئ والسريع أثناء تأدية الركوع والسجود.

o    إنهاء الصلاة بسرعة قد يؤدي إلى تمزُّق في أعصاب الرقبة أو في أحد عروق الدم([10]).

   ·      فوائد السجود:

للسجود فوائد صحية كثيرة، ذكرنا بعضًا منها في ثنايا الفوائد السابقة، ومن بعضها الآخر نذكر الآتي:

o السجود يساعد على نظافة الجيوب الأنفية بسحب إفرازاتها أولًا بأول، وبالتالي تقلُّ فرصة التهاب هذه الجيوب، أما الجيوب الفكيَّة (نسبة إلى الفك العلوي)، فإن السجود يساعد على تصفيتها أولًا بأول من السائل الزائد بها فلا يشعر المصلي بالصداع، كذلك الأمر بالنسبة للجيوب الإسفينية، والتصفوية، والجبهية.

o يزداد توارد الدم إلى المخ أثناء السجود فيزداد أداؤه، وبالتالي يصل إليه ما يلزمه من مواد غذائية وأكسجين، ويؤدي وظيفته على أحسن وجه، ومعروف أن المخ يمثل مركز التحكم في الجسم كله، ويبدو تأثير عدم تغذية المخ بالدم الكافي واضحًا في الأشخاص الذين يقفون مدة طويلة كجنود الحراسة؛ حيث يصابون بالإغماء المفاجئ.

وعلاجهم غاية في السهولة، وهو أن ينام الجندي على ظهره مع رفع القدمين أعلى من مستوى رأسه، فيعود إليه وعيه بإذن الله.

وهناك دراستان علميتان توضِّحان أن السجود يزيد الوعي ويمنع الإغماء:

إحداهما أُجرِيت تحت إشراف السيد “هاجول” مع مجموعة من الأطباء، ونشرت عام 1994م في كتاب (cardiacjournalargbras)، والثانية أجراها جماعة من علماء الطب الإنجليزي تحت رئاسة “فال بروج”، ونشرها في كتاب (healthjournal).

الدراسة الأولى أُجرِيت على (122 مريضًا) بالإغماء، وسجَّلت ضغط القلب ثم تناولوا طعام الفطور، ثم تم قياس ضغط الدم بعد الإفطار، ثم أمرهم أن يتكئوا على السرير، والنتيجة هي إصابة 52 مريضًا بالإغماء (syncoe)، ثم رفعت رءوسهم بدرجة 75 درجة لأعلى، وفُحصت دماؤهم قبل الإغماء وبعده، فكانت النتيجة:

وجد أن مادة (betaendorphin) ـ وهي مادة مخدرة ـ زائدة قبل الإغماء، أما السجود فيقي النفس والعقل من إنتاج هذه المادة المخدرة أو مكوناتها، كما تدل الدراسة على أن الذين يستكبرون أن يسجدوا لله تعالى يوجد في دمائهم مادة كيميائية مثل أسيوبروترونول، هذه المادة لها دور في توزيع الدماء لأنحاء الجسم عن طريق تقلُّص العروق الدموية حين ينخفض ضغط الدم.

o  يساعد وضع السجود على تخفيف الاحتقان بمنطقة الحوض، وبالتالي يساعد  على الوقاية من الإصابة بالبواسير وحدوث الجلطات بالأوردة، التي لا يخفى على أحد خطورتها.

o  يساعد وضع السجود أيضًا على التخلص من الإمساك، ويعدّ من أنسب الأوضاع لعلاج سقوط الرحم الخِلْقِي لدى الإناث، وقد اكتُشفت فوائد هذا الوضع حديثًا؛ ولهذا ينصح به أطباء النساء والتوليد في علاج بعض الأعراض، وقد أطلقوا عليه وضع “الركبتين والصدر”.

o إن وضع السجود يخفِّف من مضاعفات مرضى السكر، خاصة في التخلص من المواد الضارة، مثل: اليورين، والكرياتين، والكرياتينين.

وفي بحوث أجراها “هروكي كلين” ـ كلية الطب جامعة توهو ـ حيث أجرى الدراسة بين أصحاء وبين مرضى السكر ؛ للمقارنة بين تدفق الدم إلى الكلى في وضع القيام مقارنة مع وضع السجود، وجد أن القيام يقلِّل تدفق تيار الدم إلى الكلى؛ ومن ثم لا يتم التخلُّص التام من المواد الضارة بالجسم، أما وضع السجود وجد أنه يزيد من إيصال الدم إلى القلب، ويزيد تدفُّق الدم إلى الكلى؛ لتصفيتها وتصفية المواد الضارة الناتجة عن زيادة السكر في الدم، التي تسبِّب بزيادتها اضطرابات ضارة في نشاط الدماغ والأعصاب المركزية.

o هناك دراسات للأستاذ الدكتور “أوكانورا” ـ أستاذ في كلية الطب عام 1990م ـ أكَّد فيها أن جريان الدم يزيد إلى الكبد في حالة السجود أكثر بثلاثة أضعاف عن وضع الاضطجاع؛ وذلك لأن السجود يقوم بصبِّ الماء من العروق إلى الكبد، ويزيد هذا التدفق بعد تناول الطعام لتنشيط الهضم، وبذلك يكون السجود شافيًا لأمراض الكبد الناتجة عن نقصان جريان الدم إليه، ويساعد على الهضم بوفرة الدماء في القناة الهضمية([11]).

صورة للسجود الصحيح

 ·      فوائد الخشوع في الصلاة:

 1.  الخشوع يدلُّ على درجات التركيز:

أظهرت الدراسات العلمية أن التأمل ـ وهو مجرد أن يجلس المرء ويحدِّق في جبل أو شمعة أو شجرة دون حركة ودون تفكير ـ له فائدة كبيرة في معالجة الأمراض، وتقوية الذاكرة، وزيادة الإبداع والصبر، وغير ذلك.

ولكن القرآن لم يقتصر على التأمل المجرد، بل قرنه بالتفكير والتدبر وأخذ العبرة والتركيز على الهدف، وسمَّاه “الخشوع”. والخشوع من أهم العبادات وأصعبها؛ لأنه يحتاج لتركيز كبير. وهكذا؛ فإن كلمة “الخشوع” تدل على أقصى درجات التأمل مع التفكير العميق، وهذا الخشوع ليس مجرد عبادة فحسب، بل له فوائد مادية في علاج الأمراض واكتساب قدرات هائلة ومتجددة.

 2.  الخشوع يساعد في استقرار عمل القلب:

أظهرت دراسة جديدة نشرتها مجلة جمعية القلب الأمريكية أن التأمل لفترات طويلة ومنتظمة يقي القلب من الاضطراب، ويعمل على علاج  ضغط الدم العالي، وبالتالي تخفيف الإجهاد عن القلب. ولذلك قال تعالى مخاطبًا المؤمنين: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ((الحديد/16).

وتؤكد الدراسات أهمية التأمل والخشوع في استقرار عمل القلب، كما أنها تثبت اليوم أن التأمل يعالج الاكتئاب والقلق والإحباط، وهي أمراض العصر التي تنتشر بكثافة اليوم.

ليس هذا فحسب؛ بل وجدوا أن التأمل المنتظم يعطي للإنسان ثقة أكبر بالنفس ويجعله أكثر صبرًا وتحمُّلًا لمشاكل الحياة وهمومها، يقول سبحانه وتعالى: ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28)((الرعد).

 3.  الخشوع يريح الدماغ ويقوِّيه:

لقد وجد العلماء أن دماغ الإنسان يصدر ترددات كهرومغناطيسية باستمرار، ولكن قيمة الترددات تتغير حسب نشاط الإنسان.

ففي حالة التنبُّه والنشاط والعمل والتركيز يُطلق الدماغ موجات اسمها “بيتا”، وهي ذبذبات يتراوح ترددها من 15 إلى 40 ذبذبة في الثانية “هرتز”.

وفي حالة الاسترخاء والتأمل العادي يطلق الدماغ موجات “ألفا”، ويتراوح ترددها من 9 إلى 14 ذبذبة في الثانية.

أما في حالة النوم والأحلام والتأمل العميق فيعمل الدماغ على موجات “ثيتا”، وهي من 5 إلى 8 هرتز.

وأخيرًا في حالات النوم العميق بلا أحلام يطلق الدماغ موجات “دلتا”، وقيمتها أقل من 4 هرتز.

نستطيع أن نستنتج أن الإنسان كلما كان في حالة خشوع؛ فإن الموجات تصبح أقل ذبذبة، وهذا يريح الدماغ ويقويه ويساعد في إصلاح الخلل الذي أصابه نتيجة مرض أو اضطراب نفسي مثلًا؛ لذلك يعتقد الباحثون أن الانفعالات ترهق الدماغ، بينما التأمل يريحه.

وقام باحثون من كلية هارفارد الطبية حديثًا بدراسة التأثير المحتمل للتأمل على الدماغ، فوجدوا أن حجم دماغ الإنسان الذي ينفق شيئًا من وقته على التأمل بانتظام أكبر من حجم دماغ الإنسان العادي الذي لم يعتد التأمل أو الخشوع؛ ولذلك هناك اعتقاد بأن التأمل يزيد من حجم الدماغ؛ أي: يزيد من قدرات الإنسان على الإبداع والحياة السليمة والسعادة.

فقد وجدوا أن قشرة الدماغ في مناطق محددة تصبح أكثر سمكًا بسبب التأمل، وتتجلَّى أهمية هذه الظاهرة إذا علمنا أن قشرة الدماغ تتناقص كلما تقدمنا في السن، وبالتالي يمكن القول: إن الخشوع يبطِّئ تقدُّم الهرم.

لاحظ بعض العلماء أيضًا عندما أجروا مسحًا للدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fmri) أن الإنسان الذي يتعوَّد على التأمل يكون أكثر قدرة على التحكم بعواطفه، وأكثر قدرة على التحكم بانفعالاته، وبالنتيجة أكثر قدرة على السعادة من غيره.

بل بيَّنت التجارب أن التأمل يساعد على تنظيم عاطفة الإنسان وعدم الإسراف أو التهور في قراراته؛ لأن التأمل ينشِّط المناطق الحساسة في الدماغ تنشيطًا إيجابيًّا؛ بحيث يزيل التراكمات السلبية والخلل الذي أصاب هذه الأجزاء نتيجة الأحداث التي مرَّ بها الإنسان.

 4.  الخشوع يخفِّف الآلام:

بعدما فشل الطب الكيميائي في علاج بعض الأمراض المستعصية لجأ بعض الباحثين إلى العلاج بالتأمل، بعدما لاحظوا أن التأمل المنتظم يساعد على تخفيف الإحساس بالألم، وكذلك يساعد على تقوية جهاز المناعة.

وفي دراسة جديدة تبيَّن أن التأمل يعالج الآلام المزمنة؛ فقد قام بعض الباحثين بدراسة الدماغ لدى أشخاص طلب منهم أن يغمسوا أيديهم في الماء الساخن جدًّا، وقد تم رصد نشاط الدماغ نتيجة الألم الذي شعروا به، وبعد ذلك تم إعادة التجربة مع أناس تعوَّدوا على التأمل المنتظم، فكان الدماغ لا يستجيب للألم؛ أي: إن التأمل سبَّب تأثيرًا عصبيًّا منع الألم من إثارة الدماغ.

وهكذا؛ نستطيع أن نستنتج أن الخشوع يساعد الإنسان على تحمل الألم؛ بل وتخفيفه بدرجة كبيرة، وهو أفضل وسيلة لتعلُّم الصبر، وهو علاج فعَّال للانفعالات.

 5.  الخشوع ينشِّط الناصية:

إن ناصية الإنسان ـ أي: الجزء الأمامي من الدماغ ـ تنشط بشكل كبير أثناء التأمل والتفكير العميق والإبداعي، وهذه المنطقة من الدماغ هي مركز القيادة أيضًا لدى الإنسان، ومركز اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية، ولهذا الجزء من الدماغ أثر كبير في سلوكنا وعواطفنا واستمرار حياتنا؛ ولذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لربه يقول: «… ناصيتي بيدك»([12])([13]).

ومما سبق من فوائد صحية ندرك الأهمية الكبيرة للخشوع في الصلاة؛ قال تعالى:)قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)((المؤمنون).

             ·  فوائد الصلاة للحامل:

أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن حركات البدن والرياضة مثل الصلاة تفيد كثيرًا النساء الحوامل، كما أنها تضر كثيرًا الحائضات؛ لأن المرأة الـمُصَلِّيَةَ عندما تؤدي السجود والركوع يزيد جريان الدم إلى الرحم، بالإضافة إلى أن خلية الرحم والمبيض شبيهة بخلية الكبد التي تجذب كثيرًا من الدماء، ولا شك أن رحم الحامل يحتاج إلى الدماء الوفيرة؛ لكي تغذِّي الجنين، ولتصفية الملوِّثات من دمه، وعندما تؤدي الحامل الصلاة فإنها تساعد في إيصال الدم إلى الجنين([14]).

ومن ثم؛ فقد وضع الأطباء تمارين رياضية للحوامل تشبه حركات الصلاة تمامًا، ولو علم هؤلاء أن جميع الحوامل يُصلين هذه الصلاة لما وجدوا حاجة في وضع هذه التمارين، ولاكتفوا بنصح الحامل بالمحافظة على الصلاة، ولا شك أن الذين اشتُهروا بأنهم واضعو هذه التمارين هم من غير المسلمين، وأكثر اللاتي يمارسنها هنَّ من غير المسلمات.

أما المرأة المسلمة فلديها هذه الصلاة التي أنعم الله عليها بها؛ فهي إذا حافظت عليها عبادةً لله عز وجل، فسيكون فضل الله عليها عظيمًا بأن يعجِّل لها هنا في الدنيا فوائد بدنية كبيرة تكسبها بطريقة تلقائية، وتنفعها في حملها وولادتها وبعد طهارتها من النفاس، فضلًا عن المنافع والأجر العظيم في الآخرة.

وإذا كان لا بد من ذكر بعض الفوائد الصحية التي تكتسبها المرأة الحامل من الصلاة، فهذه أهم الفوائد البدنية والنفسية:

o تُكسب مرونة لمعظم أعضاء الجسم وعضلاته، وتسهِّل حركة العمود الفقري مع الحوض مفصليًّا؛ للمحافظة على ثبات الجسم واعتدال قوامه.

o تنشيط الدورة الدموية في القلب والدماغ والشرايين والأوردة؛ الأمر الذي يساعد في توصيل الغذاء إلى الجنين بانتظام عبر الدم، ويساعد أيضًا في نمو الجنين نموًّا طبيعيًّا.

o    المحافظة على مرونة مفاصل الحوض وعضلات البطن؛ حيث لها أكبر الأثر في قَوَام الأمِّ الحامل.

o    تحسين النغمة العضلية.

o    رفع المعنويات وإكساب الثقة بالنفس، والسيطرة على الجسم، والقدرة على التركيز.

ولقد سُئلت الدكتورة نجوى إبراهيم السعيد عجلان ـ مدرسة بكلية طب جامعة طنطا، ودكتورة النساء والولادة بمركز الرياض الطبي بالرياض ـ عن وجهة نظرها فيما يمكن أن تستفيده الحامل من الصلاة، فأجابت:

1.إن السيدة الحامل ـ كما هو معتاد دائمًا وخاصة في الشهور الأخيرة ـ تكون مُثقلة بالجنين، ولكن عندما تؤدي الصلاة فإن حركاتها تساعد على تنشيط الدورة الدموية وعدم التعرُّض لدوالي القدمين، كما يحدث لبعض السيدات.

2.إن معظم شكوى الحوامل هي عسر الهضم؛ الأمر الذي يجعل الإحساس بالانتفاخ والتقيؤ صعب الاحتمال، وفي الصلاة الصحةُ ـ بإذن الله ـ والتغلب على عُسْر الهضم الذي يصاحب الحوامل، فالركوع والسجود يفيدان في تقوية عضلات جدار البطن، ويساعدان المعدة على تقلُّصها وأداء عملها على أكمل وجه.

3.هناك تمرينات مفيدة للحامل قريبة الشبه تمامًا بحركات الصلاة التي تجعل أربطة الحوض ليِّنة، وخاصة في الأسابيع الأخيرة من الحمل، كما أنها تقوِّي عضلات البطن وتمنع الترهُّل.

4.كما أنه في الأسابيع الأخيرة للحمل هناك تمرينات تشبه تمامًا الركوع والسجود أثناء الصلاة، وهذه مهمة جدًّا لدفع الجنين خلال مساره الطبيعي في الحوض؛ كي تتم ولادة طبيعية بإذن الله.

وهذه الفوائد والمنافع التي تجنيها الحامل من صلاتها تعود عليها بالنفع أيضًا وقت الولادة؛ حيث تساعدها في تخطِّي هذه العملية بكل يسر وسهولة، وإنهائها في أقصر وقت ممكن بسبب ثقتها بنفسها وسيطرتها على جسمها، وقدرتها على التركيز طوال العملية بدلًا من الخوف والصراخ والحركات الفوضويَّة([15]).

   ثانيًا: الفوائد النفسية:

تساعد الصلاة الخاشعة على تهدئة النفس وإزالة توترها؛ لأسباب كثيرة، أهمها: شعور الإنسان بضآلة كل مشكلاته أمام قدرة الخالق المدبِّر لهذا الكون الفسيح وعظمته، فيخرج المسلم من صلاته وقد ألقى كل ما في جعبته من مشكلات وهموم، وترك علاجها وتصريفها إلى الرب الرحيم، وكذلك تؤدي الصلاة إلى إزالة التوتر؛ بسبب عملية تغيير الحركة المستمرة فيها، ومن المعلوم أن هذا التغيير الحركي يُحدث استرخاء فسيولوجيًّا مهمًّا في الجسم، وقد أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أيَّ مسلم تنتابه حالة من الغضب، كما ثبت علميًّا أن للصلاة تأثيرًا مباشرًا على الجهاز العصبي؛ إذ إنها تهدِّئ من ثورته وتحافظ على اتزانه، كما تعدُّ علاجًا ناجعًا للأرق الناتج عن الاضطراب العصبي.

لذلك «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلَّى»([16])، وكان ينادي بلالًا: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها»([17]). 

أيضًا يعمل ترتيل القرآن الكريم في الصلاة ـ حسب قواعد التجويد ـ على تنظيم التنفس خلال تعاقب الشهيق والزفير، وهذا يؤدي بدوره إلى تخفيف التوتر بدرجة كبيرة، كما أن حركة عضلات الفم المصاحِبة للترتيل تُقلِّل من الشعور بالإرهاق، وتكسب العقل نشاطًا وحيوية.

وللسجود دور عميق في إزالة القلق من نفس المسلم؛ حيث يشعر فيه بفيضٍ من السكينة يغمره، وطوفان من نور اليقين والتوحيد يملأ قلبه. وكثير من الناس في اليابان يخرُّون ساجدين بمجرد شعورهم بالإرهاق أو الضيق والاكتئاب دون أن يعرفوا أن هذا الفعل ركـن من أركان صلاة المسلمين([18]).

يؤكد ما سبق ما كشفت عنه أحدث الدراسات المصرية التي أُجرِيت في مركز تكنولوجيا الإشعاع القومي أن السجود لله يخلِّص الإنسان من التوتر النفسي وغيره من الأمراض العصبية، هذا بجانب ما يحقِّقه من فوائد بدنية.

واكتشف أخصائيو العلوم البيولوجية وتشعيع الأغذية، في مركز تكنولوجيا الإشعاع القومي برئاسة الدكتور محمد ضياء حامد ـ أن السجود يقلل الإرهاق والتوتر والصداع والعصبية والغضب، كما يلعب دورًا مهمًّا في تقليل مخاطر الإصابة بالأورام السرطانية.

وأوضح الباحثون أن الإنسان يتعرض لجرعات زائدة من الإشعاع، ويعيش معظم أحواله في أوساط ومجالات كهرومغناطيسية، وهو ما يؤثر سلبًا على خلاياه فيتعبها ويرهقها، أما السجود لله فيساعد الجسم في تفريغ هذه الشحنات الزائدة التي تسبب أمراض العصر، كالصداع وتقلصات العضلات وتشنجات العنق والتعب والإرهاق، إضافة إلى النسيان والشرود الذهني، مشيرين إلى أن زيادة كمية الشحنات الكهرومغناطيسية دون تفريغها يفاقم الأمر ويزيده تعقيدًا؛ ولأنها تسبِّب تشويشًا في لغة الخلايا وتفسد عملها وتعطِّل تفاعلها مع المحيط الخارجي، فتنمو الأورام السرطانية، وقد تُصاب الأجنة بالتشوُّهات.

وأثبت العلماء أن السجود يمثِّل وصلة أرضية تساعد في تفريغ الشحنات الزائدة والمتوالدة إلى خارج الجسم، والتخلُّص منها بعيدًا عن استخدام الأدوية والمسكنات وآثارها الجانبية المؤذية.

إضافة إلى ذلك؛ فإن حيِّز الوقت الذي تشغله الصلاة والاستعداد لها، وما يليها من أذكار ـ يأخذ الإنسان بعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية، وجهد العمل المستمر، الجسدي والنفسي، فإذا ما تكرَّر ذلك بتكرر الصلاة انقطعت حلقات التوتر، وزال الجهد، وتواصل الهدوء النفسي([19]).

لذا؛ يقول علماء النفس: إن الصلاة أهم شيء في حياة الإنسان يبثُّ الطمأنينة في نفسه، والهدوء في أعصابه، والاسترخاء في عضلات جسمه كلها، وكل هذه من أساليب العلاج النفسي المسلكي المستعملة في الطب النفسي الحديث([20]).

وعليه؛ فتلك هي الفوائد البدنية والنفسية للصلاة في الإسلام، وقد شهد بها علماء الغرب:

يقول الدكتور “توماس هايسلوب” ـ عالم غربي متخصص في الطب النفسي ـ : إن من أهم مقومات النوم التي عرفتها خلال سنين طويلة من الخبرة والبحث ـ الصلاة، وأنا أُلقي هذا القول بوصفي طبيبًا؛ فإن الصلاة هي أهم وسيلة عرفتها إلى الآن لبث الطمأنينة في النفوس، وبث الهدوء في الأعصاب.

أما الدكتور “إليكسيس كارليل” ـ حائز على جائزة نوبل في الطب، ورئيس قسم في مؤسسة روكفلر بالولايات المتحدة الأمريكية ـ فيقول عن الصلاة: إنها تُحدث نشاطًا عجيبًا في أجهزة الجسم وأعضائه؛ بل هي أعظم مولِّد للنشاط عُرف إلى يومنا هذا، وقد رأيت كثيرًا من المرضى الذين أخفقت العقاقير في علاجهم كيف تدخَّلت الصلاة فأبرأتهم تمامًا من عللهم، إن الصلاة كمعدن الراديوم مصدر للإشعاع ومولِّد ذاتي للنشاط، ولقد شاهدت تأثير الصلاة في مداواة أمراض مختلفة، مثل: التدرُّن البريتوني، والتهاب العظام، والجروح المتقيحة، والسرطان وغيره.

ويقول الدكتور “إدوين فردريك” ـ أستاذ الأمراض العصبية بالولايات المتحدة الأمريكيةـ: هناك ألوف الحالات التي لم يجد فيها أشهر الأطباء وأكثرهم فطنة أدنى بارقة أمل، ومع ذلك تمَّ شفاؤها واستعادتها لصحتها من خلال معجزة تُسمَّى “الصلاة”.

وبعد هذه الآراء من علماء لا يعرفون محاباة للدين الإسلامي وشعائره، هل يمكن لأحد أن يغالط في قيمة الصلاة كإجراء وقائي وعلاجي من الأمراض([21])؟!

وعليه؛ نخلص مما سبق إلى أن للصلاة فوائد بدنية ونفسية كثيرة، أثبتها العلم الحديث، وشهد بها علماء الغرب، فكيف يشكك فيها الطاعنون، ويدعون أن هناك تعسُّفًا في تحويل العبادات إلى فوائد علمية؟!

لا شك أن الصلاة عبادة عظيمة فرضها الله علينا؛ طاعة وتقربًا له عز وجل، ونحن نؤدِّيها لأجل هذا، ولكنها بالإضافة إلى هذا هي ذات فائدة عظيمة لجسم الإنسان، وهذا من عظمة التشريع الإسلامي.

يقول الدكتور النابلسي: وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم  إلى ذلك إشارة موجزة رائعة؛ فعن سالم بن أبي الجعْد قال: «قال رجل: قال مِسْعَر: أُراه من خزاعة، ليتني صلَّيت فاسترحت، فكأنهم عابوا ذلك عليه (عليه ذلك)، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها»، ولعل الراحة في الصلاة هي راحة نفسية وبدنية في آن واحد؛ فإن أمر الله عز وجل أعظم بكثير من أن يُفسَّر بعلة أو حكمة واحدة، إن أوامره تعالى لها علل وحِكَم لا تُعدُّ ولا تُحصى([22])، فأي إعجاز تشريعي هذا؟!

الخلاصة:

·  أثبت العلم الحديث أن للصلاة فوائد بدنية كثيرة، منها: تقوية العظام، الوقاية والعلاج من الانزلاق الغضروفي، الوقاية من أمراض الرئة وآلام المفاصل، هذا بالإضافة إلى الفوائد الكثيرة للسجود والطمأنينة والخشوع.

·      للصلاة دور كبير في تهدئة النفس، وإزالة ما بها من توتر واضطراب نفسي، كما أوضح علماء النفس في أبحاثهم.

·  كيف يشكِّك الطاعنون في الفوائد الصحية للصلاة في الإسلام، وقد شهد بها علماء الغرب، والفضل ما شهدت به الأعداء؟!

·  لا شك أن الصلاة رياضة بدنية متميزة تفوق كثيرًا من الرياضات؛ وذلك من وجهة نظر الرياضيين، وهذا لا يتنافى بحالٍ مع كون الصلاة شريعة نتعبَّد لله بها؛ فأوامره تعالى أعظم من أن تُفسَّر بحكمة واحدة.

(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، دار العين، القاهرة، ط1، 2005م. تاريخ الشعوب العربية، د. ألبرت حوراني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م.

[1]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، شركة ألفا، القاهرة، ط1، 1430هـ/ 2010م ، ص51 بتصرف.

[2]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، مرجع سابق، ص942 بتصرف.

[3]. نصُّ النظرية هو: “إذا بدأ الإنسان في تليين أسفل الظهر في سنٍّ مبكرة، واستمر في هذا التمرين وحافظ عليه أثناء الكبر؛ فإن فرصته في الإصابة بالآلام الشديدة والانزلاقات الغضروفية في أسفل الظهر ستتقلص بشكل كبير”، أما فرضيتها فهي: إذا حافظنا على ميزة مرونة الرباط والغضاريف الموجودة في الأطفال، فهل سيقلِّل هذا من نسبة الإصابة بآلام أسفل الظهر والانزلاقات الغضروفية في الكبار.

[4]. هذه الدراسة نُوقشت في المؤتمر القطري العالمي الثاني للأطفال في الدوحة في أبريل سنة 2000م، وفي المؤتمر السادس لجراحة الظهر، الذي عُقِدَ في أنقرة من الرابع إلى السادس من سبتمبر 2002م.

[5]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص55- 61 بتصرف.

[6]. مرض دوالي الساقين: عبارة عن خلل شائع في أوردة الساقين، يتمثل في ظهور أوردة غليظة ومتعرجة وممتلئة بالدماء على طول الطرفين السفليين، وهو مرض يصيب ما يقرب من عشرة إلى عشرين بالمئة من الجنس البشري.

[7]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص66- 67 بتصرف.

[8]. انظر: الإعجاز العلمي في الإسلام: السنة النبوية، محمد كامل عبد الصمد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط7، 1428هـ/ 2007م، ص70. روائع الإعجاز في الوضوء والصلاة والصوم، د. أمل ياسين، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1403هـ/ 2009م، ص68.

[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات… (2/ 276- 277)، رقم (757). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة… (3/ 964- 965)، رقم (860).

[10]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص67- 78 بتصرف.

[11]. المرجع السابق، ص80: 82 بتصرف. وانظر: روائع الإعجاز العلمي في الوضوء والصلاة والصوم، د. أمل ياسين، مرجع سابق، ص54: 56.

[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (5/ 266- 267)، رقم (3712). وصحَّحه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[13]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص83- 87 بتصرف.

[14]. المرجع السابق، ص103 بتصرف.

[15]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، مرجع سابق، ص945- 947 بتصرف. وانظر: روائع الإعجاز في الوضوء والصلاة والصوم، د. أمل ياسين، مرجع سابق، ص99- 103.

[16]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: قيام الليل، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، (4/ 142)، رقم (1315). وحسَّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (1319).

[17]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأدب، باب: في صلاة العتمة، (13/ 225)، رقم (4975). وصحَّحه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4985).

[18]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة المطهرة، يوسف الحاج أحمد، مرجع سابق، ص943، 944 بتصرف.

[19]. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص61- 64 بتصرف.

[20]. موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء: المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص235 بتصرف.

[21]. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص296- 297 بتصرف.

[22]. موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: آيات الله في الإنسان، د. محمد راتب النابلسي، مرجع سابق، ص116 بتصرف.

إنكار الفوائد الصحية للصيام

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغرضين وجود أي فوائد صحية للصيام الإسلامي، بدعوى أن الصيام لو كان له فوائد صحية كثيرة ـ كما يقول المسلمون ـ فلماذا لم يُشرع طوال العام، وبدعوى أن الصيام الإسلامي يمنع الإنسان عن شرب الماء لساعات طويلة، وهذا في ظنهم يمثِّل خطرًا بالغًا على صحة الإنسان.

كما يَدَّعُون أن الصيام الإسلامي يؤدي إلى الكسل وقلة الإنتاج، لما له من أضرار صحية كثيرة.  

وجوه إبطال الشبهة:

1. لقد أثبت العلم حديثًا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن للصيام الإسلامي فوائد صحية عديدة، منها: التخلُّص من السموم، والشحوم، وتجديد الخلايا، وتقوية جهاز المناعة، كما أثبتت البحوث والتجارب الطبية دوره في علاج كثير من الأمراض، منها: الأمراض الناتجة عن السمنة، كتصلب الشرايين، وضغط الدم، والسكر، وبعض أمراض القلب، وكذا مرض التهاب المفاصل المزمن، وقرحة المعدة، هذا بالإضافة إلى أثر الصيام الإسلامي على الصحة النفسية، ومعالجة الأمراض الناتجة عن الاضطراب النفسي، وقد شهد بتلك الفوائد الصحية علماء الغرب.

2. إن الصيام الإسلامي أمر تعبديٌّ شُرِعَ من أجل تحقيق التقوى، لا من أجل أن له فوائد صحية كثيرة، ومن ثم فلا يمكن للصيام أن يكون طوال العام على الدوام؛ لأن ذلك يتنافى مع وسطية الإسلام التي تقتضي ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط، كما يتنافى مع ما قرَّره العلم الحديث من أن كون الشيء مفيدًا لا يعني المبالغة في استخدامه، وهذا أمر مشاهد ومعلوم؛ فكما يقال: إذا زاد الشيء على حدِّه انقلب إلى ضده.

3. إن الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي يفيد الجسم بفوائد عديدة، ولا يضرُّه كما يُظن، من تلك الفوائد: تحسين كفاءة خلايا الدم، حماية الجسم من قرحة المعدة، تحسين الذاكرة، تحسين آليات عمل الكلى، كما أن السوائل التي يفقدها الجسم أثناء الصيام هي السوائل التي في خارج الخلايا، أما السوائل التي بداخلها فإن الجسم يحتفظ بها، وإن فقد شيئًا منها فإنه يُعَوَّض من خلال عمليات وتحوُّلات كيميائية، جعلها الله سبحانه وتعالى في جسم الإنسان.

4. كيف يَدَّعُون أن الصيام الإسلامي يسبب الكسل والخمول، ويقلِّل حركة الإنتاج، وقد وقعت أحداث تاريخية كبرى في نهار رمضان، منها غزوة بدر الكبرى، وحرب أكتوبر؟! إن شعور الإعياء والضعف الذي قد يصيب بعض الصائمين أثناء الصيام هو بسبب خروجهم عن آداب الصيام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم  فيه، وليس بسبب الصيام الإسلامي الصحيح، الذي أثبتت الأبحاث والتجارب العلمية أنه يزيد النشاط والحيوية في جسم الصائم بدرجة قد تفوق غير الصائم.

5. لا شك أن الصيام الإسلامي سهل ميسور، لا مشقة فيه ولا ضرر؛ لقوله سبحانه وتعالى:)يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ((البقرة/١٨٥)، وهذا واضح من حثِّ النبي صلى الله عليه وسلم على التسحُّر، وأمره بتعجيل الفطر وتأخير السحور؛ كي تتقلص مدة الصيام اليومية إلى الوقت المسموح به، وهذا ما أكَّدته الدراسات العلمية في مجال وظائف الأعضاء.

التفصيل: 

أولا. الفوائد الصحية للصيام الإسلامي:        

قرَّر القرآن الكريم أن للصوم منافع وفوائد متحقِّقة لمن يصوم من الأصحاء وغيرهم من أهل الرخص، ما لم يكن الضرر مُحققًا؛ لعموم اللفظ في قوله سبحانه وتعالى:)وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون(184)((البقرة)([1]).

وهذه الفوائد كثيرة، منها الروحية، والبدنية؛ وذلك كما يأتي:

لم يعرف الأطباء فوائد الصوم الطبية إلا في القرن العشرين بعد أن تقدَّمت البحوث العلمية الغذائية، وتوافرت الأجهزة الدقيقة التي كشفت الكثير من أسرار الجسم البشري، مشتملة على أسرار الغذاء في الجسم وتفاعلاته، من هذه الفوائد:

1.   التخلص من السموم:

يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط… إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر، وأخيرًا مخلَّفات الاحتراق الداخلي للخلايا.

كل هذه السموم جعل الله تعالى للجسم منها فرجًا ومخرجًا؛ فيقوم الكبد ـ وهو الجهاز الرئيسي المنظف للجسم من السموم ـ بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة؛ بل قد يحوِّلها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودين، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدُّم السن؛ فيترسَّب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، خصوصًا في المخازن الدهنية.وفي الصيام تتحوَّل كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسَد، ويُنتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد.

وبما أن عمليات الهدم في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي؛ فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضًا نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سُمِّية كثير من المواد السامة، وهكذا يُعدُّ الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.

يقول الدكتور “ماك فادون” ـ وهو من الأطباء العالميين، الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره ـ : إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضًا؛ لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله؛ فيقلُّ نشاطه، فإذا صام الإنسان تخلَّص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل.

2.   التخلص من الشحوم:

ترتبط السمنة بالإفراط في تناول الطعام وخصوصًا الأطعمة الغنية بالدهون، هذا بالإضافة إلى أن وسائل الحياة المريحة والسمنة مشكلة واسعة الانتشار، وقد وُجد أن السمنة تقترن بزيادة خطر الأمراض القلبية الوعائية، مثل: قصور القلب، والسكتة القلبية، ومرض الشريان التاجي، ومرض انسداد الشرايين المحيطة بالقلب.

والصيام الإسلامي يعدُّ النموذج الفريد للوقاية والعلاج من السمنة في آن واحد؛ حيث يمثِّل الأكل المعتدل والامتناع عنه، مع النشاط والحركة عاملين مؤثِّرين في تخفيف الوزن، وذلك بزيادة معدل استقلاب الغذاء بعد وجبة السحور وتحريك الدهن المختزن لأكسدته في إنتاج الطاقة اللازمة بعد منتصف النهار.

وبهذا يُـحْدِثُ الصيام الإسلامي المتمثِّل في الحفاظ على وجبة السحور والاعتدال في الأكل والحركة والنشاط أثناء الصيام ـ نظامًا غذائيًّا ناجحًا في علاج السمنة.

3.   تجدُّد الخلايا:

اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة؛ فقد اقتضت هذه السُّنة في جسم الإنسان أن يتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تُعَدُّ بالأيام والأسابيع فتهرم؛ تلك الخلايا ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة حتى يأتي أَجَل الإنسان.

إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125مليون خلية، وأكثر من هذا العدد يتجدد يوميًّا في سنِّ النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقلُّ عدد الخلايا المتجددة مع تقدُّم السنِّ.

وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكِّل البنية الأساسية في الخلايا؛ ففي الصيام الإسلامي تتجمَّع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية
الهدم في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد، ويحدث فيها تحوُّل داخلي واسع النطاق؛ ليتم إعادة توزيعها بعد عملية التحوُّل الداخلي ودمجها في جزيئات أخرى، ويصنع منها كل
أنواع البروتينات الخلوية، وبروتينات البلازما والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية.

وهذا يتيح لَبِنَاتٍ جديدة للخلايا، ويرفع كفاءتها الوظيفية؛ الأمر الذي يعود على الجسم البشري بالصحة والنماء والعافية.

4.   مقاومة الشيخوخة:

كشفت مجلة الطبيعة (Nature)البريطانية عن دراسة علمية تفيد أن الصيام يؤدي إلى تنشيط الجينات المسئولة عن إفراز هرمونات تساعد الخلايا في مواجهة زحف الشيخوخة على الإنسان، وتزيد من حيوية الجسم ونشاطه، وأكدت نتائج هذه الدراسة أن عملية التمثيل الغذائي وهضم الطعام تُنْتِجُ موادَّ سامة تتلف الخلايا، وأن الإقلال من كمية الطعام والإكثار من الحركة لحرق الطاقة يُحسِّن من الوضع الصحي ويوقف عملية الهدم، وبالتالي تزيد من إمكانية رفع متوسط العمر، وأوضحت الدراسة أن الصيام قد يؤدي إلى رد فعل يجعل الخلايا تقاوم الموت، وتعيش مدة أطول. وأضافت الدراسة أن مفتاح الصحة يتمثل في الحَدِّ من الطعام في نظام غذائي مدى الحياة بقدر الإمكان؛ الأمر الذي يؤثر إيجابيًّا، ويساعد على مقاومة الشيخوخة.

5.   تحسين أداء الجهاز المناعي:

يقوِّي الصيام جهاز المناعة، فيقي الجسم من أمراض كثيرة؛ حيث يتحسَّن المؤشر الوظيفي للخلايا الليمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية؛ نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.

6.يقي الصيام الجسم من تكوُّن حصيات الكلى؛ إذ يرفع معدل الصوديوم في الدم فيمنع تبلور أملاح الكالسيوم، كما أن زيادة مادة البولينا في البول تساعد في عدم ترسُّب أملاح البول، التي تكوِّن حصيات المسالك البولية.

7.يخفِّف الصيام الغريزة الجنسية ويهدئها، خصوصًا عند الشباب، وبذلك يقي الجسم من الاضطرابات النفسية والجسمية، والانحرافات السلوكية، والإكثار من الصوم مع الاعتدال في الطعام والشراب وبذل الجهد المعتاد يجني الشاب فائدته في تثبيط غرائزه المتأججة بيسر؛ لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»([2])، ومعنى وجاء: وقاية، وهذا لاشك إعجاز علمي. كما أن الصيام يُحسِّن خصوبة المرأة والرجل على السواء.

8.   الصيام علاج لكثير من الأمراض:

إن الصوم وسيلة فعَّالة للشفاء من الأمراض الحادة، خصوصًا المصحوبة بقيء أو إسهال أو ارتفاع في درجة الحرارة؛ حيث يتيح راحة لخلايا الجسم ويعطيها الفرصة لكي تتخلَّص من سمومها وتقوَى مناعتها([3]).

من هذه الأمراض التي أثبتت الأبحاث العلمية الطبية إمكانية معالجتها الآتي:

1. ثبتت فعالية الصوم بوصفه علاجًا لحالات الالتهابات المفصلية الحادة، وهو ما سجَّله أستاذ الكيمياء بجامعة مونتريال بكندا، البروفيسور “وود” الذي عالج مرضاه بنجاح عبر عدة أيام من الصوم (4 ـ 8) أيام، وذكر أن الصوم في حالات الروماتيزم يحول دون وصول التدهور إلى القلب.

2. أظهرت الأبحاث أهمية الصوم بوصفه علاجًا لشتى أنواع السُّعال خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، في حين يحتاج الرَّبو الشعبي إلى مدة أطول، وتظهر نتيجة الصوم بوضوح عندما يستطيع مريض الربو أن يخلد إلى النوم في هدوء.

3. اتَّضحت فعاليته في علاج أمراض الجهاز الهضمي، كالحُمَّى التيفودية، والكوليرا، فضلًا عن التهابات القولون والإسهال.

4. ثبت أن الصوم يفيد في معالجة طنين الأذن من خلال ما يُسَمَّى بـ “عملية الاطِّراح”؛ حيث تُنَظف قناة إستاكيوس أثناء الصوم.

5. أثبتت التجارب إمكانية علاج الوسواس القهري والهوس وبعض أنواع الفصام بما يُسمَّى “العلاج بالجوع” أو الصيام الطبي؛ فقد تمكَّن الدكتور “يوري نيكالف” بمستشفى معهد موسكو للطب النفسي من علاج عشرة آلاف مريض عقلي ونفسي بنظام العلاج بالصوم، وكانت النتيجة تحسُّن 65% منهم، وقد استغرقت الطريقة شهرًا كاملًا، وكان الإفطار محتويًا على القليل من اللبن، بالإضافة إلى الكثير من الخضروات والفواكه([4]).

كما يعالج الصيام عددًا كبيرًا من الأمراض الخطيرة، أهمها:

1.   الأمراض الناتجة عن السمنة، كمرض تصلُّب الشرايين، وضغط الدم، وبعض أمراض القلب.

2.   يعالج بعض أمراض الدورة الدموية الطرفية، مثل: مرض الرينود، ومرض برجر.

3.   يعالج كثيرًا من الأمراض التي تنشأ من تراكم السموم، والفضلات الضارة في الجسم.

4.   يعالج الصيام المتواصل مرض التهاب المفاصل المزمن (الروماتويد).

5.   يعدِّل الصيام الإسلامي ارتفاع حُموضة المعدة، وبالتالي يساعد في التئام قرحة المعدة مع العلاج المناسب.

6. لا يسبب الصيام أي خطر على المرضعات، أو الحوامل، ولا يغيِّر من التركيب الكيميائي، أو التبدُّلات الاستقلابية في الجسم لديهن([5]).

هذا؛ وقد ثبت علميًّا أيضًا أن الصيام الإسلامي يفيد في علاج مرضى السكر؛ حيث تبيَّن أن معدل السكر في الدم ينخفض أثناء الصيام، وقد تمخَّضت الأبحاث العلمية في أمريكا عن إثبات قدرة الصوم على الوقاية، ومعالجة المرء من مرض السكر.

ودعمًا لما سبق؛ فإن دول الغرب تستخدم الصيام الآن في علاج كثير من الأمراض؛ ففي ألمانيا أُقيمت دُور للصحة والعلاج، تتبع في معالجتها للمرضى ـ وحتى الأصحاء على السواء ـ الصوم الذي تفرضه على النزيل لمدّة تزيد على عشر ساعات، وتقل عن العشرين ساعة يوميًّا.. ثم بتناول الوجبات الخفيفة جدًّا، ويُطبَّق هذا النظام لمدة متتابعة لا تقل عن ثلاثة أسابيع، ولا تزيد على أربعة أسابيع؛ أي بما يتمشَّى تمامًا مع نظام الصوم الإسلامي، المتمثل في صيام شهر رمضان كل عام.

وروسيا ـ التي ينتشر فيها الإلحاد ـ قد اعترفت بما للصوم من فوائد صحية للإنسان؛ فقد نُشر في مجلة الأغذية الروسية ما ترجمته حرفيًّا: “وأخيرًا يحقُّ التذكرة بكتاب البروفيسور “نيكولايف ونيلوف”: “الجوع من أجل الصحة”، الذي يجزم فيه بأنه لكي يتمتع كل مواطن في المدن الكبرى بالصحة يجب عليه تخليص الجسم من النفايات والمواد السامة بأن يقوم ـ وبصفة دورية ـ بجوعٍ تامٍّ بالامتناع عن الطعام لمدة لا تقل عن ثلاثة أسابيع ولا تزيد على أربعة أسابيع”.

ولعل أشهر مصحَّة في العالم هي مصحة الدكتور “هنريج لاهمان” في سكسونيا؛ حيث يقوم العلاج فيها على الصوم، وقد أُنشئت مصحات أخرى على غرارها.

ويقول الدكتور “بيلر شرنبر”: “الصوم لشهر واحد في السنة هو أساس الحياة، وأساس الشباب”([6]).

هذا ما شهد به غير المسلمين من العلماء، والفضل ما شهدت به الأعداء!

وبالإضافة إلى كل ما سبق؛ فإن للصيام الإسلامي أثرًا على الناحية النفسية، لا يقل عن أثره على الناحية البدنية؛ إذ يخلق في النفس الصبر، الذي يقيها من القلق والاضطراب، كما يحقق في النفس الشعور بالضمير والإحساس بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وهذا يغرس فيها الصدق والأمانة([7]).      

ومن أوضح الأدلة على هذا شهادة صائم أمريكي، وهو “توم برنز” ـ من مدرسة كولومبيا للصحافة ـ الذي يقول: إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية؛ فعلى الرغم من أنني  بدأت الصوم (الطبي أو التجويع) بهدف تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدًّا لتوقُّد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تَكَد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع (بولنج) الصحي حتى شعرت أني أمرُّ بتجربة سمو روحي هائلة.

إنني عندما أصوم يختفي شوقي تمامًا إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحبِّ التسلُّط، كما تنصرف نفسي عن أمور عَلَقَتْ بها، مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل، كل هذا لا أجد له أثرًا مع الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين ـ وكما رأيتهم في تركيا وسوريا والقدس ـ يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالًا جذَّابًا روحانيًّا لم أجد له مثيلًا في أي مكان آخر في العالم.

وعليه؛ فقد بات مُسَلَّمًا لدى العلماء والخبراء أن للصيام الإسلامي أثره الجلي الواضح على صحة البدن والنفس للفرد والمجتمع المسلم([8])

ثانيًا. دعواهم لو كان للصيام الإسلامي فوائد صحية فلماذا لم يُشرع طوال العام ـ دعوى باطلة:

إن الحكمة أو الغاية من الصيام تتنافى مع أن يكون طوال العام على الدوام؛ فالصيام أمر تعبُّدي شُرع من أجل تحقيق التقوى؛ قال سبحانه وتعالى:) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون(183)((البقرة)، وهو لم يُشرع من أجل أن له فوائد صحية، ولكن بالرغم من هذا فقد أشار الله عز وجل في كتابه العزيز إلى فوائد الصيام إجمالًا؛ فقال: ) وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)((البقرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّة…»([9]) ([10])، ثم جاء الطب حديثًا ـ كما ذكرنا في الوجه الأول ـ فأثبت من خلال أبحاثه وتجاربه أن للصيام عامة ـ وللصيام الإسلامي خاصة ـ فوائد صحية كثيرة([11]).

وعندما نُسلِّم بأن للصيام فوائد صحية للإنسان فليس معنى ذلك أن يكون طوال العام؛ لأن ذلك يتنافى مع وسطية الإسلام واعتداله، التي تقتضي ألا يكون هناك إفراط ولا تفريط؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني»([12]).

ومن ثَمَّ؛ فإن كون الشيء مفيدًا لا يعني المبالغة في استخدامه؛ فالوسطية في كل شيء أمر مطلوب لا محيد عنه، وهو ما قرَّره العلم الحديث من خلال أبحاثه وتجاربه، حتى أصبح من المسلَّمات؛ فالطعام ـ مثلًا ـ ضروري لحفظ صحة الإنسان وحياته، إلا أن الإفراط فيه يضرُّ الجسم ضررًا بالغًا. وكذا؛ فإن ممارسة الرياضة مفيدة جدًّا لجسم الإنسان، ولكن هل معنى ذلك أن يُفْرِطَ الإنسان في ممارستها، ويظلُّ يمارسها ليل نهار؟!… وهكذا.

وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن الإسلام لم يُغلق باب الصيام بعد شهر رمضان، بل فتحه، لكن على سبيل التطوع لا الفرضية، وذلك كالآتي:

o صوم ستة أيام من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر»([13]).

o صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء: عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سُئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: يُكَفِّرُ السنة الماضية»([14]).

o صوم المحرَّم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»([15]).

o صوم شعبان: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لايفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان»([16]).

o صوم الإثنين والخميس: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الإثنين والخميس…»([17]).

o صوم ثلاثة أيام من كل شهر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام»([18]).

o صوم يوم وإفطار يوم: عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا»([19])

وبهذه الأحاديث ـ وغيرها كثير ـ يتبيَّن أن الصيام مستمر للمتطوِّع قبل رمضان وبعده لا ينقطع، ولكنه موزَّع على أيام وأوقات فاضلة ـ كما ذكرنا ـ وليس على الدوام، وهذا من عظمة الإسلام الذي يتسم بالوسطية والاعتدال، ليس في الصيام فحسب، بل في كل شيء.

وعليه؛ فلا يحق لهؤلاء المدَّعين أن يشككوا في الفوائد الصحية للصيام الإسلامي بدعوى أنه لم يُشرع طوال العام على الدوام، لا سيما وأن هذا الكلام لم يقل به أحد من أهل الاختصاص المعتبرين، لا من المسلمين ولا من غيرهم!

ثالثًا. فوائد الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي:

لقد أخطأ مثيرو الشبهة حينما ادَّعوا أن في الصيام الإسلامي ضررًا، وهو عدم شرب الماء، بدعوى أنه يضر بالصائم ضررًا بالغًا؛ وذلك لما يأتي:

يشكِّل الماء نحو (65-70%) من وزن الجسم للبالغين، وينقسم إلى قسمين رئيسين: قسم داخل الخلايا، وقسم خارجها بين الخلايا؛ في الأنسجة والأوعية الدموية والعصارات الهضمية وغير ذلك، وبين القسمين توازن دقيق، والتغيُّر في تركيزات الأملاح ـ خصوصًا الصوديوم الذي يتركز وجوده في السائل خارج الخلايا ـ ينبِّه أو يثبط عمليتين حيويتين داخل الجسم، وهما: آلية إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH)، وآلية الإحساس بالعطش، واللتان تؤثِّران كلتاهما في تهيئة الجسم للحفاظ على الماء داخله وقت الشدة، وذلك بتأثير الهرمون المضاد لإدرار البول على زيادة نفاذية الأنابيب الكلوية البعيدة، والأنابيب والقنوات الجامعة؛ حيث يسرِّع امتصاص الماء ويقلِّل من إخراجه، كما يتحكمان معًا في تركيزات الصوديوم خارج الخلايا، وكلما زاد تركيز الصوديوم زاد حفظ الماء داخل الجسم.

إن تناول الماء أثناء الامتناع عن الطعام ـ في الصيام ـ يؤدي إلى تخفيف التناضح (OSMOLARITY) في السائل خارج الخلايا، وهذا بدوره يؤدي إلى تثبيط إفراز الهرمون المضاد لإدرار البول؛ فيزداد الماء الخارج من الجسم في البول، مع ما يصحبه من الصوديوم وبعض الأملاح الأخرى، وفي هذا تهديد لحياة الإنسان إن لم تُعوَّض هذه الأملاح؛ حيث يُعَدُّ الصوديوم عنصرًا حيويًّا في توطيد الجهد الكهربائي عبر جدر الخلايا العصبية وغير العصبية، كما أن له دورًا حيويًّا في تنبيه العضلات وانقباضها، وعند نقصانه يُصاب الإنسان بضعف عام في جسمه.

وقد وُجدت علاقة بين العطش وتحلل الجليكوجين؛ إذ يسبب العطش إفراز جرعات تتناسب وقوة العطش من (هرموني الأنجوتنسين 2 AngiotensinII) والهرمون القابض للأوعية الدموية (Vasopressin)، واللذان يسبِّبان تحلُّل الجليكوجين في إحدى مراحل تحلُّله بخلايا الكبد، فكلما زاد العطش زاد إفراز هذين الهرمونين بكميات كبيرة؛ الأمر الذي يساعد في إمداد الجسم بالطاقة خصوصًا في نهاية اليوم.

كما أن زيادة الهرمون المضاد لإدرار البول (ADH) المستمر طوال مدة الصيام في شهر رمضان، قد يكون له دور مهم في تحسين القدرة على التعلم وتقوية الذاكرة، وقد ثبت ذلك على حيوانات التجارب؛ لذلك فالقدرة العقلية قد تتحسَّن عند الصائمين بعكس ما يعتقد عامة الناس.

كما أن الحرمان من الماء أثناء الصيام يسبب زيادة كبيرة في آليات تركيز البول في الكلى، مع ارتفاع في القوة الأسموزية البولية قد يصل من (1000 إلى 12 ألف مل أسمو/كجم ماء)، وهكذا تنشط هذه الآليات المهمة لسلامة وظائف الكلى.

كما أن عدم شرب الماء خلال نهار الصيام يقلِّل من حجمه داخل الأوعية الدموية، وهذا بدوره يؤدي إلى تنشيط الآلية المحلية بتنظيم الأوعية وزيادة إنتاج البروستاجلاندين (Prostaglandine)، الذي له تأثيرات عديدة وبجرعات قليلة؛ إذ إن له دورًا في حيوية خلايا الدم الحمراء ونشاطها، وله دور في التحكم في تنظيم قدرة هذه الخلايا لتعبُر من خلال جدران الشعيرات الدموية، وبعض أنواعه له دور في تقليل حموضة المعدة. ومن ثم؛ تثبيط تكوُّن القُرَح المعدية كما ثبت في حيوانات التجارب، كما أن له دورًا في علاج العقم؛ حيث يسبب تحلل الجسم الأصفر. ومن ثم؛ فمن الممكن أن يؤدي دورًا في تنظيم دورة الحمل عند المرأة، كما يؤثر على عدة هرمونات داخل الجسم فينبِّه إفراز هرمون الرينين، وبعض الهرمونات الأخرى، مثل الهرمون الحاث للقشرة الكظرية، كما يزيد من قوى استجابة الغدة النخامية للهرمونات المفرزة من منطقة تحت الوساد في المخ، كما يؤثر على هرمون الجليكوجين، وعلى إطلاق الأحماض الدهنية الحرة، كما يوجد البروستجلاندين في المخ. ومن ثم؛ له تأثير في إفراز الناقلات للإشارات العصبية، كما أن له دورًا في التحكم في إنتاج أحادي فوسفات الأدينوزين الحلقي (CAMP)، التي يزداد مستواها لأسباب عديدة، وتؤدي دورًا مهمًّا في تحلُّل الدهن المختزن؛ لذلك فالعطش أثناء الصيام له فوائد عديدة بطريق مباشر أو غير مباشر نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين؛ حيث يمكن أن يحسِّن كفاءة خلايا الدم ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهِّل الولادة، ويحسِّن الذاكرة، بالإضافة إلى تحسين آليات عمل الكلى، وغير ذلك.

هذا بالإضافة إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل للجسم البشري مقدرة على صنع الماء من خلال العمليات والتحوُّلات الكيميائية العديدة، التي تحدث في جميع خلايا الجسم، إذ تتكوَّن ـ أثناء عمليات استقلاب الغذاء، وتكوين الطاقة في الكبد، والكلى، والمخ، والدم، وسائر الخلايا تقريبًا ـ جزيئاتُ ماءٍ، وقد قدَّر العلماء كمية هذا الماء في اليوم من ثلث إلى نصف لتر، ويُسمَّى “الماء الذاتي أو الداخلي” (Intrinsicwater).

وكما خلق الله للإنسان ماءً داخليًّا، خلق له طعامًا داخليًّا أيضًا، فمن نفايات أكسدة الجلوكوز يصنع الجلوكوز مرة أخرى؛ حيث يتحوَّل كل من حمض اللاكتيك والبيروفيت، وهما نتاج أكسدة الجلوكوز إلى جلوكوز مرة أخرى؛ حيث تتوجه هذه النفايات إلى الكبد، فيجعلها وقودًا لتصنيع جلوكوز جديد في الكبد، ويتكوَّن يوميًّا نحو (36) جرامًا من هذا الجلوكوز الجديد من هذين الحمضين، غير الذي يتكون من الجليسرول والأحماض الأمينية.

وبذلك يمكن أن ندرك سِرَّ نهي النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن إكراه مرضاهم على الطعام والشراب؛ حيث كان معتقد الناس ـ وللأسف لا يزال ـ أن الجسم البشري كالآلة الصَّمَّاء، لا تعمل إلا بالإمداد الدائم بالغذاء، وأن في الغذاء الخارجي فقط تكمن مقاومة ضعف المرض، وأخبر أن الله يطعمهم ويسقيهم فقال: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب فإن الله يطعمهم ويسقيهم»([20]) ([21]).

وعليه؛ فهل بعد هذا كله يدَّعون أن الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي يضرُّ الجسم ويسبب له أمراضًا عديدة؟!

رابعًا. دور الصيام الإسلامي في زيادة النشاط والحيوية في الجسم:

إن دعوى مثيري الشبهة أن الصوم يدعو إلى الكسل والخمول، ويقلِّل الإنتاج القومي ـ دعوى لا أساس لها من الصحة؛ وذلك لما يأتي:

لا شك أن الصيام الإسلامي وآدابه، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيام، لا يؤدي بالصائم إلى ما يزعمون؛ فإن الاقتصار على وجبتي الإفطار والسحور، بغير إسراف يمنح الجسم الصحة والنشاط، فإذا أخذ الجسم كفايته من الطعام والشراب والنوم فلا يحدث له ضعف ولا إعياء.

ولكن شعور الضعف والإعياء الذي يحدث لبعض الصائمين أثناء النهار هو من سوء تصرفهم هم، وبُعدهم عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في آداب الصوم، فهم لا يقتصرون على وجبتي الإفطار والسحور، بل يقضون الليل كله في تناول الحلوى، وأنواع الطعام في إسراف، ولا يأخذون حقهم أيضًا من النوم؛ يسهرون الليل كله في حفلات وزيارات وما شابه ذلك، فلا هم أراحوا بطونهم من الإسراف في تناول الطعام والشراب، ولا هم ذكروا الله حق الذكر في شهر القرآن والعبادة والصوم.

فالإعياء والضعف الذي يصيب بعض الصائمين أثناء النهار ليس بسبب الصيام الصحيح، ولكن بسبب خروجهم عن الآداب الإسلامية في الصوم.

وقد يقال: إن الصوم يقلِّل من الإنتاج القومي أيضًا؛ لأنه يسبب توتر أعصاب الصائم، وهذا ليس صحيحًا؛ فالصوم من الناحية الفسيولوجية لا يؤدي إلى ذلك؛ بل
يؤدي إلى راحة الجسم، وهدوء الأعصاب واسترخائها، وإلى السعادة النفسية والتألق الروحي.

أما الذين يشعرون بالتوتر العصبي أثناء النهار في صيامهم، فهم أولئك الذين يتعاطون المكيِّفات والمفتِّرات، مثل التدخين وغيره، فالصوم يمنع عنهم تعاطيها نهارًا، الأر الذي يؤدي إلى حدوث آثار انسحابية لما في تلك المكيفات من مواد إدمانية، وهذه الآثار الانسحابية تؤدي إلى توتر عصبي؛ لذلك فإن مُدمِن التدخين، ما إن يُؤَذَّن لصلاة المغرب حتى يسرع بالتدخين، ليقلل من تلك الآثار الانسحابية لمادة النيكوتين في جسمه؛ إذًا فسبب الانفعال النفسي والتوتر العصبي لدى بعض الصائمين يعود إلى سوء تصرف الإنسان نفسه، وليس إلى الصوم، كأن يقضي الليل بطوله في السهرات والزيارات والحفلات، ويحرم جسمه من النوم، ويقضي الوقت في تناول أنواع الحلوى، والطعام والشراب، فيصاب بالتخمة، أو يقضي الليل في تناول المكيفات.

ولو اتبع هؤلاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم لما حدث لهم كل هذا؛ بل لَصحَّت أجسامهم، ولهدأت أعصابهم، ولوجدوا في الصوم خيرًا كثيرًا، كما قال الله سبحانه وتعالى: )وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)((البقرة)([22]).              

لقد فهم المسلمون الأوائل أسرار الصيام ومقاصده، واتبعوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم واستمدوا منه روح القوة، وقوة الروح؛ فكان نهارهم نشاطًا وإنتاجًا وإتقانًا، وكان ليلهم تزاورًا وتهجدًا وقرآنًا، وكان شهرهم تعلمًا وتعبدًا وإحسانًا واجتهادًا([23]).

وليس أدلُّ على هذا من الأحداث والمواقع التاريخية التي خاضها المسلمون خلال شهر رمضان.

إن الأحداث التاريخية الفاصلة التي وقعت في شهر رمضان، والانتصارات الرائعة التي حققها المسلمون خلال هذا الشهر الكريم تدل على أن الإسلام يقدر الأمور حقَّ قدرها، وأن شعار الصوم هو القوة والجهاد والعمل، لا الضعف والفتور والكسل؛ فالمسلم يتفاعل مع واقع الحياة، ويتكيَّف مع الظروف، فلا يثنيه واجب ديني عن واجب معيشي أو حياتي، ولا تحدُّ من عزيمته وهمته أهواء الدنيا، ومغريات الطعام والشراب، فلا يصحُّ لقائل أن يقول: إن الصوم يعطِّل الأعمال، ويؤخر المجتمعات، والدليل على ذلك كل هذه الأحداث التاريخية الكبرى التي وقعت في شهر الصوم، ونكتفي هنا بذكر أشهرها:

o     معركة بدر الكبرى: وقد حدثت في يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.

o     فتح مكة: وهو الفتح الأكبر، وقد حدث في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

o     موقعة عين جالوت: وقد حدثت يوم الخامس عشر من رمضان سنة 658هـ.

o     حرب السادس من أكتوبر عام 1973م: وكانت يوم العاشر من رمضان 1394هـ.

كل هذه الأحداث وغيرها الكثير والكثير قد حدثت في شهر الصيام، وفي هذا أكبر دليل على أن الصوم لم يكن أبدًا عقبة أمام العمل، أو داعيًا للتهاون والكسل في حياة المسلم([24]).

هذا من ناحية الواقع العملي، فأما من ناحية الواقع العلمي؛ فقد “أثبتت الدراسات العلمية بالدليل القاطع أن الصيام الإسلامي ليس له أيُّ تأثير على الأداء العضلي، وتحمُّل المجهود البدني؛ بل بالعكس أظهرت نتائج البحث القيم الذي أجراه الدكتور أحمد
القاضي وزملاؤه بالولايات المتحدة الأمريكية أن درجة تحمل المجهود البدني، وبالتالي كفاءة الأداء العضلي قد ازدادت بنسبة 200% عند 30 % من أفراد التجربة، و7% عند 40% منهم”([25]).

وقد نشرت مجلة الجمعية الملكية للصحة عام 1997م دراسة مقطعية عن النشاط اليومي والأداء الدراسي والصحة أثناء صيام رمضان، أُجريت في قسم التغذية وعلوم الطعام في كلية العلوم الصحية بالكويت؛ لاستكشاف تأثير صيام شهر رمضان على النشاطات اليومية والصحة والأداء الدراسي لعدد من الدارسين الجامعيين بلغ 265 فردًا (163 رجلًا، 210 نساء)، وتراوحت أعمارهم بين (20-72 سنة)، ومعظمهم (97%) يعيشون فرادى بين عائلاتهم.

وأظهر التحليل أن معظم الناس في الدراسة كانوا في أدنى حالات التوتر وفي نشاط روحي جيد، وكانوا يتناولون المشروبات المحتوية على قليل من الكافيين، وكانوا يدخنون قليلًا… وقد سُجِّل لأكثر من 50% من الأشخاص نشاط قليل، ورغبة في الدراسة، ومقدرة على التركيز([26]).

ويؤكد ما سبق الدكتور زغلول النجار مفصِّلًا القول، فيقول: لقد أظهرت نتائج تلك الدراسات أن الأداء البدني للصائم من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب أفضل من أداء غير الصائم؛ لتحسُّن درجة تحمل البدن للمجهودات العضلية، ولأداء كل من القلب وبقية الجهاز الدوري، والجهاز الهضمي، والجهاز التنفسي وغيرها أثناء الصيام.

ومن هنا كانت قلة الشعور بالإجهاد وتحمُّل ما لا يمكن للفرد تحمله في ساعات الإفطار العادية؛ وذلك لاختلاف مصدر الطاقة في الجسم بين الصائم والمفطر، أما إذا زادت مدة الصيام على المتوسط الذي شرعه الإسلام (8 – 16ساعة تقريبًا) فإن الأداء البدني والعضلي يبدأ في التأثر، ويبدأ الصائم في الشعور بالإعياء.

فمن المعروف أن الصوم يسبب انصهار الدهون في الجسم؛ الأمر الذي يؤدي إلى زيادة في الأحماض الدهنية الحرة في الدم، فتصبح هذه الأحماض هي المصدر الرئيس لطاقة الصائم بدلًا من الجلوكوز في حالة المفطر، وهذا يساعد على تقليل استهلاك مادة الجلوكوز في حالة المفطر، كما يساعد على تقليل استهلاك مادة الجليكوجين في كل من العضلات والكبد أثناء بذل الجهد من قِبَل الصائم إذا قام بالمجهود نفسه تحت الظروف نفسها.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن حالة الرضا النفسي للصائم، وارتفاع معنوياته؛ لشعوره بالقرب من خالقه سبحانه وتعالى ولإحساسه بالقيام بعبادة من أشرف العبادات، في شهر يعدُّ أفضل شهور السنة على الإطلاق، وأكثرها بركة ورحمة ومغفرة وعتقًا من النار، كل ذلك يؤدي إلى زيادة واضحة لعدد من الهرمونات النافعة داخل جسم الإنسان، من مثل مجموعة الأندروفين التي يُعزى إليها تحسُّن الأداء البدني، وقلة الشعور بالإعياء أو الإجهاد، فما أحكم من شرع الصيام([27])!

وعليه؛ فهل بعد هذا كله يدَّعون أن الصيام الإسلامي يسبب الكسل والخمول وقلة الإنتاج؟!

خامسًا. يُسْر الصيام الإسلامي وسهولته:

أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية في القرآن، وهي أن الصيام الذي فرضه علينا، وحدَّد لنا مدته الزمنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ـ صيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر؛ قال تعالى)  :يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( (البقرة/١٨٥)، قال الفخر الرازي في تفسير الآية: “إن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر؛ فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض، ولا على المسافر”([28]).

وتشير الدراسات العلمية المحققة في مجال وظائف أعضاء الجسم ـ أثناء مراحل التجويع ـ إلى يسر الصيام الإسلامي وسهولته؛ فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة فيه على النفس، ولا ضرر يلحق الجسم من جرَّائه، وذلك على وجه القطع واليقين.

وتتمثِّل مظاهر يسر الصيام في الآتي:

1. يعدُّ الصيام الإسلامي تمثيلًا غذائيًّا فريدًا؛ إذ يشتمل على مرحلتي البناء والهدم، فبعد وجبتي الإفطار والسحور يبدأ البناء للمركَّبات المهمة في الخلايا، وتجديد المواد المختزنة، التي استُهلكت في إنتاج الطاقة، وبعد مدة امتصاص وجبة السحور يبدأ الهدم، فيتحلَّل المخزون الغذائي من الجليكوجين والدهون، ليمدَّ الجسم بالطاقة اللازمة أثناء الحركة والنشاط في نهار الصيام.

شكل يوضح امتصاص الغذاء وتخزين الجليكوجين من الكبد، ثم إمداد الجسم بعد ذلك بالطاقة اللازمة في مدة الامتصاص

شكل يبين تغذية الجلوكوز لكل أجهزة الجسم في مدة ما بعد الامتصاص

2. يعدُّ الصيام الإسلامي تغييرًا لمواعيد تناول الطعام والشراب، وليس حرمانًا متصلًا من الطعام؛ فلم يفرض الإسلام علينا الانقطاع الكلي لمدد طويلة أو حتى لمدة يوم وليلة؛ وذلك لما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال…»([29]) ([30]).

ومن ثم؛ فإن الصيام الإسلامي تتراوح مدته اليومية من (8 ـ 16) ساعة، وهذه المدة تقع على وجه القطع في المدة التي سمَّاها العلماء مدة ما بعد الامتصاص، والتي تتراوح من (6 ـ 12) ساعة، وقد تمتد إلى 40 ساعة، ويعدُّ العلماء هذه المدة أمانًا كاملًا([31])؛ حيث يتوافر فيها تنشيط جميع آليات الامتصاص والاستقلاب بتوازن، فتنشط آلية تحلل الجليكوجين، وأكسدة الدهون وتحلُّلها، وتحلُّل البروتين، وتكوين الجلوكوز الجديد بدلًا منه، كما أنه لا يحدث للجسم البشري أي خلل في أي وظيفة من وظائفه؛ فلا تتأكسد الدهون بالقدر الذي يولِّد أجسامًا كيتونية تضر، ولا يحدث توازن نيتروجيني سلبي، ويعتمد المخ البشري وخلايا الدم الحمراء والجهاز العصبي على الجلوكوز وحده للحصول منه على الطاقة، وهذا بعكس الصيام الطبي([32]).

رسم بياني يبين المدة الزمنية التي يبقي فيها الجلوكوز هو الغذاء الرئيس للمخ، الذي يتوافر من تحلُّل الجليكوجين

لذلك كان تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على ضرورة تناول وجبة السحور؛ لإمداد الجسم بوجبة بناء يستمر لمدة 4 ساعات محسوبة من زمن الانقطاع عن الطعام، وبهذا أيضًا يمكن تقليص مدة ما بعد الامتصاص إلى أقل زمن ممكن؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسحَّروا فإن في السحور بركة»([33]).

كما حَثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على تعجيل الفطر، وتأخير السحور، بتقليص مدة الصيام أيضًا إلى أقل حدٍّ ممكن؛ حتى لا يتجاوز مدة ما بعد الامتصاص بوقت طويل. وبالتالي؛ فإن الصيام الإسلامي لا يسبب شدة، ولا يشكِّل ضعفًا نفسيًّا ضارًّا على الجسم البشري بحال من الأحوال؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر»([34])، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية»([35]).

3. يوجد مخزون من الطاقة في الجسم البشري يكفي الإنسان حينما يمتنع عن تناول الطعام امتناعًا تامًّا لمدة شهر إلى ثلاثة أشهر، لا يتناول فيها أي طعام قط؛ وبناء على هذه الحقيقة يمكننا أن نؤكد أن ما يتوقف أثناء الصيام هي عمليات الهضم والامتصاص، وليست عملية التغذية؛ فخلايا الجسم تعمل بصورة طبيعية وتحصل على جميع احتياجاتها اللازمة لها من هذا المخزون بعد تحلله، ولكن مع كل هذه الإمكانية الهائلة التي هيَّأها الله سبحانه وتعالي للجسم الإنساني لحفظ حياته عند انقطاعه التام عن تناول الطعام، فقد فرض علينا سبحانه وتعالى صيامًا لا ننقطع فيه عن الطعام إلا مدة زمنية لا تتعدَّى ـ في الغالب ـ نصف اليوم، فكم هي سهلة ميسورة يمكن أن يمارس فيها الصائم أشق الأعمال وأشدها من غير ضرر يلحق به، أو حتى شدة يتعرض لها؛ فالطاقة المحرِّكة متوفرة وبكثرة، وبناء الخلايا وتجديد التالف منها لن يتأثر مطلقًا، كما أن تناول الطعام في الفطور والسحور يُجدِّد مخزون الطاقة التي استُهلكت في العمل، وَيُمْدِدُ الجسم باحتياجاته من الأحماض الأمينية والدهنية الأساسية، التي لا يستطيع الجسم تصنيعها بداخله، ويمدُّه أيضًا باحتياجاته اليومية من الفيتامينات والمعادن([36]).

وعليه؛ فإن الصيام الإسلامي سهل ميسور ـ بضوابطه وآدابه ـ لأهل الحضر والبادية، ولكل أبناء الجنس البشري في ربوع الأرض، مع تحقق الفوائد الطبية المتوخَّاة، وهذه لا شك خصيصة يمتاز بها هذا الصيام عن غيره، كالصيام الطبي الذي لا يتحقق إلا تحت إشراف فريق من الأطباء، وعدد من الأجهزة الدقيقة.

  الخلاصة:

·  أثبت العلم الحديث في القرن العشرين أن للصيام الإسلامي فوائد صحية عديدة، منها: التخلص من السموم، والشحوم، وتجدد الخلايا، ومقاومة الشيخوخة، وتقوية المناعة… إلخ.

·  أثبتت البحوث والتجارب الطبية أن الصيام الإسلامي علاج لكثير من الأمراض، منها: الأمراض الناتجة عن السمنة، كتصلُّب الشرايين، وضغط الدم، والسكر، وبعض أمراض القلب، وكذا مرض التهاب المفاصل المزمن، وقرحة المعدة… إلخ.

·  إن أثر الصيام الإسلامي على الصحة النفسية لا يقلُّ عن أثره على الناحية البدنية؛ فهو يخلق في النفس الصبر والإرادة القوية، الذي يقيها من القلق والاضطراب النفسي، كما يحقِّق في النفس الشعور بالضمير، والإحساس بمراقبة الله سبحانه وتعالى، اللذين يغرسان فيها الصدق والأمانة.

·  لقد شهد علماء الغرب ـ قبل علماء المسلمين ـ بفوائد الصيام الصحية عامة، والصيام الإسلامي خاصة، والفضل ما شهدت به الأعداء.

·      لقد شُرع الصيام الإسلامي من أجل تحقيق التقوى، لا من أجل أن له فوائد صحية كثيرة؛ لأنه شريعة تعبُّدية.

·  لا يمكن للصيام أن يكون طوال العام على الدوام؛ لأن ذلك يتنافى مع الإسلام الذي يتسم بالوسطية والاعتدال في كل شيء.

·      كون الشيء مفيدًا لا يعني المبالغة في استخدامه؛ فالاعتدال في كل شيء من المسلَّمات التي قرَّرها العلم الحديث.

·  الصيام ليس مقصورًا على رمضان فحسب؛ فقد سنَّ الإسلام الصيام طوال العام ـ في أيام وأوقات فاضلة ـ من خلال باب التطوُّع.

·  من الثابت علميًّا أن الامتناع عن شرب الماء في الصيام الإسلامي يفيد الجسم بفوائد عديدة، بطريق مباشر أو غير مباشر؛ نتيجة لزيادة مادة البروستجلاندين؛ حيث يمكن أن يحسِّن كفاءة خلايا الدم، ويحمي الجسم من قرحة المعدة، ويشارك في علاج العقم، ويسهِّل الولادة، ويحسِّن الذاكرة وآليات عمل الكلى، وغير ذلك.

·  الامتناع عن شرب الماء في الصيام لا يؤدي إلى نقص السوائل نقصًا يضرُّ الجسم؛ حيث إن السوائل التي يفقدها الجسم أثناء الصيام هي السوائل التي في خارج الخلايا، أما السوائل التي بداخلها؛ فإن الجسم يحتفظ بها، وإن فقد الجسم شيئًا منها؛ فإن الله تعالى قد جعل له القدرة على صنع الماء من خلال عمليات وتحولات كيميائية عديدة.

·  إن شعور الإعياء والضعف الذي يصيب بعض الصائمين أثناء النهار ليس بسبب الصيام الصحيح، ولكن بسبب خروجهم عن آداب الصيام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

·  ليس صحيحًا ما يُقال عن الصيام الإسلامي أنه يسبب الكسل والخمول، ويقلِّل حركة الإنتاج؛ فقد وقعت أحداث تاريخية كبرى في نهار رمضان، منها: غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، ومعركة عين جالوت، وحرب أكتوبر.            

·  لقد دلَّت الأبحاث والتجارب العلمية الحديثة على أن الصيام الإسلامي يؤدي إلى زيادة النشاط والحيوية في الجسم بدرجة قد تفوق أداء غير الصائم، شريطة الالتزام الكامل بآداب الإسلام في الصيام.

·   لا شك أن الصيام الإسلامي سهل يسير، لا مشقة فيه ولا ضرر؛ لقوله سبحانه وتعالى:       )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( (البقرة/١٨٥).

·  إن حَثَّه صلى الله عليه وسلم على التسحُّر، وأمره بتعجيل الفطر وتأخير السحور؛ كي تتقلص مدة الصيام إلى أقل وقت ممكن ـ لَمِنْ أعظم الأدلة على يسر الصيام الإسلامي وسهولته، وهو ما أثبتته الدراسات العلمية في مجال وظائف الأعضاء.

(*) وهم الإعجاز العلمي، د. خالد منتصر، مرجع سابق. نصيحة طبية: لا تصوموا.. الصيام يضر بالصحة، مقال منشور بموقع: الشبكة الليبرالية السعودية الحرةwww.humanf.org.

[1]. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. عبد الله المصلح و د. عبد الجواد الصاوي، مرجع سابق، ص279- 280 بتصرف.

[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العُزْبة، (4/ 142)، رقم (1905). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مُؤَنَه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، (5/ 2152- 2153)، رقم (3338).

[3]. من أوجه الإعجاز العلمي في الصيام، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة
.orgwww.eajaz. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، القاهرة، ط1، 2007م، ص150: 167. طب العبادات، د. جمال محمد الزكي، مرجع سابق، ص147: 194. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. عبد الله المصلح و د. عبد الجواد الصاوي، مرجع سابق، ص278: 283.

[4]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مرجع سابق، ص163 بتصرف.

[5]. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. عبد الله المصلح و د. عبد الجواد الصاوي، مرجع سابق، ص283 بتصرف.

[6]. انظر: الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ربيع عبد الرءوف الزواوي، دار الفاروق، القاهرة، ط1، 2008م، ص56- 57. الإعجاز العلمي في الإسلام: القرآن الكريم، محمد كامل عبد الصمد، مرجع سابق، ص299- 300 . الصيام والشفاء، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (22)، رمضان 1426هـ ، ص23.

[7]. انظر: الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين العلم والكون والإيمان، د. أحمد عبده عوض، المكتبة القيمة، القاهرة، ص264. الصوم وأثره على الصحة النفسية، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق، العدد (34)، رمضان 1430هـ، ص27: 36.

[8]. الصوم وأثره على الصحة النفسية، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بمجلة الإعجاز العلمي، مرجع سابق،  العدد (34)، ص31 بتصرف.

[9]. أي: وقاية وحماية، وبعض شارحي الحديث ذكروا أنه وقاية من جهنم، أو من عذاب القبر، ونحن نعلم كما هو معروف ومقرر عند الأصوليين: “أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، ومادام لم يُذكر التخصيص فالمعنى على عمومه؛ “الصيام جُنَّة”. انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مرجع سابق، ص150بتصرف.

[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم، (4/ 125)، رقم (1894). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، (4/ 1798)، رقم (2662).

[11]. انظر: الموسوعة العلمية في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية، مجدي فتحي السيد و د. هاني بن مرعي القليني ، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 2008م، ص296.

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، (9/ 5، 6)، رقم (5063).

[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال إتْباعًا لرمضان، (4/ 1822- 1823)، رقم (2712).

[14]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والإثنين والخميس، (4/ 1817)، رقم (2701).

[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم، (4/ 1821)، رقم (2709).

[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، (4/ 251)، رقم (1969). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان واستحباب ألا يُـخَلِّي شهرًا عن صوم، (4/ 1805)، رقم (2677).

[17]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، (16/ 155)، رقم (8343). وصحَّحه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: صيام البيض، (4/ 266). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى، (3/ 1305)، رقم (1642).

[19]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: الصيام، باب: صوم يوم وإفطار يوم، (1/ 384)، رقم (2400). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (2388).

[20]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: لا تكرهوا المريض على الطعام، (2/ 1140)، رقم (3444). وحسَّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (3444).

[21]. من فوائد عدم شرب الماء في الصيام، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.

[22].موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء:المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، مرجع سابق، ص162-163بتصرف.

[23]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/ 1995م، ص294 بتصرف.

[24]. انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1417هـ/ 1996م، ص575. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص645- 646.

[25]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص188.

[26]. من فوائد عدم شرب الماء في الصيام، د. عبد الجواد الصاوي، بحث منشور بموقع: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.eajaz.org.

[27]. الإعجاز العلمي في السنة النبوية، د. زغلول النجار، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2004م، ج1، ص96- 97 بتصرف.

[28]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/ 2000م، ج5، ص78.

[29]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، (4/ 238)، رقم (1923). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، (4/ 1745)، رقم (2522).

[30]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص159 بتصرف.

[31]. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. عبد الله المصلح و د. عبد الجواد الصاوي، مرجع سابق، ص285 بتصرف.

[32]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مرجع سابق، ص160- 161 بتصرف.

[33]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب، (5/ 165)، رقم (1932). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور… (4/ 1740)، رقم (2508).

[34]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: تعجيل الإفطار، (4/ 234)، رقم (1957). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور… (4/ 1741)، رقم (2513).

[35]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، (4/ 164)، رقم (1921). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور… (4/ 1741)، رقم (2511).

[36]. الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، د. عبد الله المصلح و د. عبد الجواد الصاوي، مرجع سابق، ص286- 287 بتصرف. 

إنكار حقيقة تكلُّم نملة سليمان عليه السلام

مضمون الشبهة :

يطعن بعض المشككين في قوله تعالى: )حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكُم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)( (النمل)، زاعمين أن النمل لا يملك القدرة على الكلام، فكيف يزعم القرآن أن النملة تكلمت كلامًا حقيقيًّا؟!

كما يدَّعون أن عبارة )لا يَحْطِمَنَّكُم( (النمل:18)، فيها مبالغة لا يحتاجها الموقف؛ إذ إن النمل يُدهس بالأقدام ولا يتحطم، فلماذا لم يستخدم القرآن عبارة (لا يهلككم) بدلاً من تلك العبارة؟!

وجها إبطال الشبهة :

1) لقد صرحت الآية الكريمة بأن النملة تكلمت كلامًا حقيقيًّا من خلال تجربة عملية، وهذا ما ذكرته كتب التفاسير، أكد هذا قوله تعالى: )قالت نملة((النمل:18)، وقوله تعالى في الآية التالية: )فتبسم ضاحكًا من قولها( (النمل: ١٩)، فكرَّر لفظ القول مرتين، وقد جاء العلم الحديث فأثبت أن النمل يتكلم مع بعضه البعض صوتيًّا عند الحاجة الملحة أو الإحساس بالخطر؛ وذلك من خلال الأبحاث والتجارب التي قام بها عالم الصوتيات البروفيسور هيكلنغ، فأي إعجاز علمي هذا؟!

2) إن العبارة القرآنية)لا يحطمنكم((النمل:18)، دقيقة تمام الدقة؛ لأن النمل يتحطم عند تعرضه لضغط كبير؛ أي يتكسر تمامًا فيموت، وهذا ما توصل إليه العلم التشريحي للحشرات؛ حيث أثبت أن جسم النمل مغطًّى بمادتي الكايتين والسكلوروتين، بالإضافة إلى مادة أسمنية تغطي جسم النملة من الخارج وتعطيه صلابة شديدة. 

التفصيل :

أولاً. تكلُّم النمل حقيقة علمية :

1)  الحقائق العلمية :

لقد أثبت العلم حديثًا من خلال تجاربه وأبحاثه أن النمل يتكلم كلامًا حقيقيًّا فيما بينه، وذلك عند الإحساس بالخطر، أو في الحالات الضرورية العاجلة.

وهذا ما قام به عالم الاتصالات الشهير البروفيسور روبرت هيكلنغ (RobertHichkling)، الذي تعمق في دراسة الأصوات عند الحشرات، باعتبار أنها ضمن تخصصه (تطبيقات الموجات فوق الصوتية)؛ لأن الحشرات ترسل وتستقبل الموجات فوق الصوتية، وقد درس صوتيات الحشرات لمدة ست سنوات، في الفترة من 1994م: 2000م، ففي 1994م بدأ يطور علم “صوتيات الحشرات” (insectacoustics)، ويسجل- بصبر طويل- ما يصدر عنها من أصوات حقيقية، فلم يجد في الحشرات أفضل من النمل ليقوم بتطبيق تجاربه عليه؛ حيث طبَّق تجاربه على نوع من النمل يُدعى “نمل النار”، يكثر في الولايات المتحدة، ويمتاز بشراسته.

واستطاع هيكلنغ أن يسجل أصوات النمل، والتي تعبر عن أصوات حقيقية لمختلف أنواع النمل، وتابع النمل في محاصيل الحقول ثلاث سنوات يرصد الظاهرة، ويـحللها.

وفي 1997م قام بدراسة الاتصال السمعي عند النمل (StudiesofSoundTransmission in Various Types of Stored Grain for Acoustic Detection of Insects)، ثم قام بتحليل الاتصال السمعي عند النمل (Analysisofacousticcommunication by ants)، فتمكن من إثبات هذه الفرضية: أن النمل يتكلم.

أذهل العالم عندما استطاع أن يسمع صوت النمل؛ لأنها كانت المرة الأولى التي تمكن فيها الإنسان من الاستماع لصوت النمل؛ حيث فاجأ هيكلنغ العالم أجمع بأصوات النمل التي تتفاوت من نملة لأخرى، ومن نوع لآخر، ومن ظروف لأخرى، ونشر هذا الباحث واحدًا من أكثر البحوث أهمية، إنه حول الاتصال بين النمل، تحت عنوان: “تحليل الاتصال السمعي للنمل” (Analysis of acoustic communication by ants) في مجلة المجتمع السمعي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو صاحب “نظرية الاتصال عند النمل” (theoryofcommunicationbyants)، وهذه الفرضية كانت صدمة قوية لمن يؤكد على أن الاتصال لدى النمل اتصال كيميائي فقط؛ ومن ثم فقد أحدثت أبحاث هيكلنغ بلبلة في “نظرية الاتصال عند النمل”؛ حيث تباينت وجهات نظر علماء الحشرات منذ 1997م فيهذا الصدد. 

وبعد تجارب استمرت لأكثر من عشرة أعوام متوالية، حسم مجتمع علماء الحشرات الملكي (RES)، ومجتمع علماء الحشرات بلندن (ESOL) الخلاف العلمي بما لا يدع مجالاً للشك من أن الاتصال سمعي، بفضل جهود هيكلنغ، وتقدم تقنياته السمعية، وتمكن العلماء من اكتشاف أن النمل يكلم بعضه بعضًا في 2006م، وتأكدوا من أن تجاربه تمتاز بعمق ودقة علمية، فقام هيكلنغ بنشر بحثه العلمي في مجلة الاهتزازات والصوت (JournalofSoundandVibration) في عام 2006م([1]).

ودعمًا لما سبق، فقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية الشهيرة مقالاً في عددها الصادر بتاريخ 6 فبراير 2009م تحت عنوان (Hills arealivewiththesoundofantstalkingtoeachother) “التلال حية بأصوات النمل وهو يتحدث مع بعضه البعض”.

يتحدث هذا المقال عن اكتشافات علمية جديدة عن خاصية التخاطب وتبادل الحديث في مملكة النمل، ويذكر أن الاكتشافات الحديثة قد بينت أن لغة التخاطب عند النمل متطورة ومتقدمة على نحو كبير أكبر مما كان يُعتقد قبل ذلك، وأشار إلى أن التطور الحديث في مجال التكنولوجيا الصوتية قد مكَّن العلماء من اكتشاف أن النمل يتحدث مع بعضه البعض بصورة دورية، وأوضح المقال أيضًا أن الباحثين قد تمكنوا من إثبات أن ملكة النمل تصدر الأوامر للعمال، وذلك من خلال وضع ميكروفونات وسماعات دقيقة في أعشاش النمل.

ونقل المقال تعليقًا للبروفيسور جيرمي توماس من جامعة إكسفورد (ProfessorJeremyThomas,oftheUniversityofOxford)، وتعليقًا للباحثة فرانسيسكا باربرو من جامعة تورين (FrancescaBarbero,oftheUniversity of Turin)، وقد ذكرت فيه أن الاكتشافات الحديثة قد أثبتت أن ما قد قيل قبل ذلك عن عدم وجود دور للتخاطب في تبادل المعرفة بداخل مملكة النمل كان غير صحيح([2]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة :

إن النمل من عجائب مخلوقات الله سبحانه وتعالى في عالم الحشرات، فالخالق قد وهبه منطقًا عجيبًا جعل ملكة النمل تصيح فيمن معها من النمل أن ادخلوا مساكنكم لما رأت سليمان عليه السلام وجنوده قادمين إلى وادي النمل، وهذا ما حكاه القرآن الكريم، قال تعالى:)حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)(  (النمل).

وهنا أثار الطاعنون والمشككون شبهتهم قائلين: إن النمل لا يملك القدرة على الكلام، بل يتواصل فيما بينه باللغة الكيميائية أو الحركية فقط، فكيف يدَّعي القرآن أن النمل يتكلم؟!

الجواب: لا شك أن هذا الكلام عارٍ تمامًا عن الصحة؛ فالآية الكريمة واضحة وصريحة في أن النمل يتكلم كلامًا حقيقيًّا، وهذا ما جاءت به كتب التفاسير.

قال الفخر الرازي: “أما قوله:)قالت نملة( (النمل:18)، فالمعنى أنها تكلمت بذلك، وهذا غير مستبعد؛ فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق”([3]).

وقال أبو حيان الأندلسي: “الظاهر صدور القول من النملة، وفهم سليمان كلامها، كما فهم منطق الطير”([4])

ويقول الشعراوي: “لقد تكلمت النملة، وفهم سليمان كلامها، ولو لم يعلِّم الله سليمان كيف يفهم كلامها لما عرفنا أنها تكلمت”([5]).

وقد دل أيضًا على أن النملة تكلمت قوله تعالى في الآية التالية:)فتبسم ضاحكًا من قولها( (النمل: ١٩)، فكرَّر لفظ القول مرتين، وهذا تأكيد على أن النمل يتكلم صوتيًّا وليس كيميائيًّا فقط.

وهذا ما أثبته العلم حديثًا من خلال تجاربه وأبحاثه، التي بدأها البروفيسور روبرت هيكلنغ لمدة ست سنوات متواصلة، وعندما انتهى منها إلى إثبات الاتصال الصوتي عند النمل قام بنشرها، وذلك في بداية القرن الحادي والعشرين، ولما علم بأن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الحقيقة العلمية- وهو عالم غير مسلم- تعجب ولاذ بالصمت الطويل.

قد يقول قائل: إن القرآن لا يثبت إلا الاتصال السمعي، فأين الاتصال الكيميائي؟

سؤال يمكن إثارته في ظل الشبهات التي تتزايد، وتتزايد حتى على المسلمات والثوابت في القرآن والسنة.

نتفق على أن الآية أثبتت الاتصال السمعي، وقد غاب عن هذا أنه انتزع الآية وأخرجها من سياقها؛ ليضلل في معانيها، لنقرأ الآية، ونردفها بالآية التالية؛ لتتضح الحقيقة مجردة.

إن الحالة خطيرة جدًّا، نملة رأت جيشًا قادمًا، وليس مجرد جيش، إنه سليمان وجنوده من جن وإنس وطير، فاستخدمت الاتصال الكلامي، لم تستخدم الاتصال الكيميائي، إنها أثبتت الطريقة التي يجب على النمل استخدامها عند الخطر؛ لما لها من مزايا أفضل عند المقارنة بطريقة الاتصال الكيميائية، دل على هذا ما أثبتته بحوث هيكلنغ وتجاربه؛ حيث أكدت أن النمل لا يستخدم إلا الاتصال الكلامي عند الحالات الضرورية العاجلة، أو بتعبير عصري “اتصالات الخط الساخن”؛ منها هذه التجربة: عندما انحشرت نملة بين الحائط وغطاء الصندوق، لم تستطع أن تنقذ نفسها، كانت في وضع مهلك، يقول هيكلنغ: لقد تمكنت من رؤية الحقيقة: إن النملة بدأت تصدر صوت الاستغاثة ينطلق مدويًّا، وأحرز النمل مهمته بسرعة.

وهذا يثبت دقة تحديد التعبير القرآني في استخدام طريقة الاتصال الأنسب عند النمل وقت الخطر.

ولو استخدمت النملة الاتصال الكيميائي لسجَّل القرآن: “فتبسم ضاحكًا من رائحتها”، ولاحتاج لكلام كثير يغوص في أعماق هذه الرائحة، ويترجم معانيها، وربما لا تصل هذه الرائحة لأنف سليمان عليه السلام([6]).

ومما سبق يتبين سبق القرآن الكريم لتحديد نوع الاتصال بدقة عند النمل من خلال تجربة عملية، وهذه حقيقة علمية لم يتوصل إليها العلم إلا بعد تجارب وأبحاث- في العصر الحديث- أثبتت صحة صوتيات النمل.

3)  وجه الإعجاز:

أثبت العلم التجريبي حديثًا من خلال أبحاثه وتجاربه أن النمل يتكلم كلامًا حقيقيًّا مع بعضه البعض، وذلك عند الإحساس بالخطر، أو وجود حاجة مُلِحَّة، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بدقة بالغة من خلال تجربة عملية، قال تعالى:)حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون(18)((النمل).

 

ثانيًا. امتلاك النمل هيكلاً خارجيًّا صلبًا :

1)  الحقائق العلمية :

من المعلوم أن الهيكل العظمي للإنسان هو عظامه، وهي بداخل الجسم، وعند كسر عظمة منه أو أكثر لا يتحطم الجسد كله، بل من الممكن أن يُجبر هذا الكسر، وذلك عكس ما في النملة تمامًا، فإن هيكلها هو الذي يحيط بها من خارج جسمها، فالنملة حشرة، وهي كباقي الحيوانات مفصليات الأرجل أجسامها مغطاة بهيكل كيتيني (الجليد)، وأهم وظائف هذا الهيكل هو حماية الأعضاء والأنسجة الداخلية من الجفاف والأضرار الميكانيكية، كما تتصل به أيضًا العضلات وترتكز عليه، ويتأثر نموها به، ويتكيف بخواصه سلوكها، ولا يغطي هذا الهيكل جسم الحشرة من الخارج فيحميه فحسب، ولكن يبطِّن أيضًا الفجوات التي تتكون أصلاً من الإكتوديرم؛ كتجويف الفم، والجزء الأمامي من القناة الهضمية، وكذلك الجزء الخلفي منها، والقصيبات الهوائية، والقنوات التناسلية الإضافية الخلفية، والغدد المتنوعة التي تفتح على سطح الجسم… ولجدار الجسم مرونة محدودة، ولكنه غير قابل للتمدد إلا في فترة محدودة وقصيرة تلي الانسلاخ.

ويختلف هذا الجليد في سمكه وصلابته كثيرًا؛ فهو رقيق جدًّا، مرن الأجزاء القابلة للحركة التي بين حلقات الجسم، وقد يكون سميكًا جدًّا صلبًا في الأجزاء الأخرى القليلة أو العديمة الحركة، ومن خواصه الكيميائية أنه لا يذوب في الماء أو في الكحول أو في المذيبات العضوية الأخرى، كما أنه لا يذوب في الأحماض المخفَّفة، ولا في القلويات المخفَّفة أو المركَّزة، ولكنه يذوب في الأحماض المركَّزة…

الهيكل الخارجي لجسم النملة

ودون التدخل في التفاصيل الدقيقة لتراكيب هذا الهيكل وخواصه الطبيعية والكيميائية- والتي قد تطول ويملها غير المتخصصين- تكفي هذه المقدمة البسيطة التي يتضح لنا من خلالها أن الإضرار بهذا الهيكل؛ كالدهس تحت الأقدام مثلاً، ينتج عنه تهشيم لهذه الحشرة وتحطيم لها، فعند كسر أي جزء من الهيكل تنزف محتويات الجسم ويخرج عن آخره، ثم يصيبه الجفاف، وتنتهي حياته… فالكسر هنا غير قابل للجبر، ولكنه يؤدي إلى تحطيم الحشرة تمامًا وموتها([7]).

2)  التطابق بين الحقائق العلمية وما أشارت إليه الآية الكريمة :

يزعم الطاعنون أن القرآن الكريم أخطأ في قول الله تعالى: )لا يحطمنكم سليمان وجنوده( (النمل:18)؛ إذ إن الوصف بـ )يحطمنكم((النمل:18) فيه مبالغة لا يحتاجها الموقف، فالنمل يُدهس بالأقدام ولا يتحطم.

وهذا زعم باطل لا أساس له من الصحة؛ وذلك لما يأتي :

·       من الدلالات اللغوية في الآية :

يحطم: حَطَمْتُ الشيءَ أَحْطِمُه حَطْمًا: إذا كسرته، والتحطيم: التكسير، وقيل: هو كسر الشيء اليابس خاصة كالعظم ونحوه([8]).

هذا من ناحية اللغة، فماذا عن دلالة الكلمة علميًّا؟

في زمن نزول القرآن الكريم لم يكن لأحد قدرة على دراسة تركيب جسم النمل أو معرفة أي معلومة عنه، ولكن بعد دراسات كثيرة تأكد العلماء أن للنمل هيكلاً خارجيًّا صلبًا جدًّا يُسمى (exoskeleton)؛ ولذلك فإن النملة لدى تعرضها لضغط كبير فإنها تتحطم؛ ولذلك قال تعالى على لسان النملة: )لا يحطمنكم سليمان وجنوده((النمل:18).

لقد جاءت العبارة)لا يحطمنكم((النمل:18)، هنا دالة على طبيعة جسم النملة المفصلية (Arthropods) التي تحتاج إلى تحطيم؛ حيث يتكون جسمها الخارجي من مادة صلبة كالزجاج هي الكايتين (Chitin)، وهذه المادة تشابه في تركيبها الكيراتين، مادة التكوين للقرون والحوافر والأظافر، كذلك اكتُشف أن أعين النملة ذات طبيعة بلورية كالزجاج لا تنكسر بسهولة، بل تحتاج إلى تحطيم([9]).

ويقول الدكتور سعدي حسين- المتخصص في علم الحشرات- : “إن جسم النمل مغطًّى بمادتي الكايتين والسكلوروتين اللتين تعطيان الصلابة للجسم، وتُعتبر هيكلاً خارجيًّا له، ويمتاز الفَكّان بزيادة تراكم هاتين المادتين مما أعطاهما دورًا كبيرًا في تمزيق الطعام وحمله لمسافات أحيانًا تكون طويلة وبأكثر من وزن جسمها؛ لذلك فإن كلمة)يحطمنكم( (النمل:18) مناسبة لطبيعة خلقها”([10])؛ ومن ثم، فإن الاستخدام القرآني لعبارة )لا يحطمنكم( (النمل:18) دقيق جدًّا من الناحية العلمية البحتة، وهذا إعجاز علمي؛ لكون الآية قد عبرت بهذه العبارة تحديدًا دون سواها.

3)  وجه الإعجاز :

من خلال تشريح جسم النملة أثبت العلماء- بعد دراسات عديدة- أن للنمل هيكلاً خارجيًّا شديد الصلابة؛ لذلك فإن النملة تتحطم تمامًا- أي تتكسر فتموت- عند تعرضها لضغط كبير، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم إشارة دقيقة على لسان النملة: )ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده( (النمل:18).  

(*) النمل يتكلم في أساطير الأولين، مقال منشور بموقع: مع اللادينيين والملحدين العربwww.ladeenion2.blogspot.com . ما رأي الملحدين في هذا الإعجاز، أهو بلاغي أم علمي؟ مقال منشور بمنتديات: الفكر الحر لكل العرب www.alfaqr-e17or.forumarabia.com. هل النمل مخلوق من زجاج؟ مقال منشور بموقع: الشبكة الليبرالية السعودية الحرة www.humanf.org.

[1]. النمل يتكلَّم.. إعجاز علمي، مقال منشور بموقع: الألوكة www.alukah.net.

[2]. عندما تتحدث جلالة الملكة: )قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ((النمل:18)، فراس نور الحق، بحث منشور بموقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com. وانظر: النمل يتكلم.. بالصور والفيديو، عبد الدائم الكحيل، بحث منشور بموقع: المهندس عبد الدائم الكحيل www.kaheel7.com.

[3]. مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ج24، ص161.

[4]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، مرجع سابق، ج8، ص219.  

[5]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، مرجع سابق، ج7، ص4445.  

[6]. النمل يتكلَّم.. إعجاز علمي، مقال منشور بموقع: الألوكة www.alukah.net.

[7]. وجوه من الإعجاز العلمي في آية النمل، د. رضا فضيل بكر، بحث منشور بموقع: الإعجاز العلمي في القرآن والسنة www.quran-m.com.

[8]. جمهرة اللغة، لسان العرب، مادة: حطم.

[9]. الإعجاز العلمي في قوله تعالى: )حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)((النمل)، عادل الصعدي، بحث منشور بموقع: جامعة الإيمان www.jameataleman.org.

[10]. النمل في القرآن والسنة والعلم، مقال منشور بموقع: جمعية التربية الإسلامية www.altarbia.org.

ادعاء مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع الإسلامي في منعه لسهم المؤلفة قلوبهم

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خالف حكما ثابتا بالقرآن، وتأكد بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أشار على أبي بكر بمنع سهم المؤلفة قلوبهم، ووافقه أبو بكر – رضي الله عنه – في ذلك، وسار الأمر على هذه الحال في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الظروف التي استوجبت فرض نصيب للمؤلفة قلوبهم من الصدقات كانت: اختلال ميزان القوى وعدم تكافئها في بداية عهد الإسلام، فالمسلمون محاصرون بالأعداء الأقوياء، فلما اعتدل ميزان القوى وتكافأ بعض الشيء بين المسلمين وأعدائهم، لزم تطبيق الحكم حسب حيثيات وظروف الوضع الجديد.

2) لم يوقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – العمل بالنص القرآني أو يخالف الرسول – صلى الله عليه وسلم – حين منع سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة الصديق وخلافته؛ لعدم وجود شريحة المؤلفة قلوبهم.

3)  آية المؤلفة قلوبهم محكمة وباقية إلى يوم القيامة، يعمل بها المسلمون متى استلزم الأمر ذلك.

التفصيل:

قبل أن نشرح العوامل التي أدت بسيدنا عمر إلى الإشارة بمنع نصيب المؤلفة قلوبهم، نحب أن نوضح أن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما كان لهم أبدا أن يخالفوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيا ولا ميتا، ولا أن يشرعوا في دين الله ما ليس منه، أو يلغوا منه ما هو ثابت فيه، والمعروف أن سيدنا عمر – رضي الله عنه – كان من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من العشرة المبشرين بالجنة؛ كما أنه الذي نزل القرآن موافقا لرأيه في مرات عديدة، مما يؤكد أنه ذو رأي سديدوبعد نظر.

كما نحب أن نبين أيضا أن ما صنعه عمر في سهم المؤلفة قلوبهم وغيره من الأمور التي اختلفت فيها سياسته الشرعية عن عهد الرسالة وعصر الصديق ما هو إلا اجتهاد في حدود النص أو في ضوء المبادئ العامة والأصول المقررة الثابتة وليس خارجا عن ذلك، يقول د. بلتاجي:

صحيح أنه كانت لعمر اجتهادات متعددة في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – لكنها كانت في حقيقتها مشورات من عمر للنبي صلى الله عليه وسلم، في مسائل عرض فيها الأمر للشورى، أو في مسائل كانت لعمر فيها آراء رأى أنها تحقق مصلحة المجتمع الإسلامي في عهد الرسالة، وبالرغم من أن الوحي قد وافق عمر في كثير مما أشار به على النبي – صلى الله عليه وسلم – كما حدث في قصة أسارى بدر، واتخاذ مقام إبراهيم مصلى، والحجاب، وترك الصلاة على عبد الله بن أبي، وغير ذلك فإن قيمة هذه الموافقات قد انحصرت في إبراز عقلية عمر التشريعية الممتازة، والمدى الكبير الذي وصلت إليه في نفاذ النظرة، وصواب الرأي، والمعرفة بظروف المجتمع ومقاصد التشريع. فكانت في الواقع إرهاصا بالأعمال والتنظيمات العظيمة التي تمت بعد ذلك في عهد هذا الرجل العظيم، وكانت شهادة سابقة من عالم الغيب لعمر وعقليته التشريعية لا تعدلها شهادة.

لكن هذه الموافقات لم تزد على ذلك، ولا يمكن أن نفهم منها أن آراء المجتهدين من الصحابة في هذه الفترة – وافقها الوحي أم خالفها – قد اكتسبت سلطة التشريع؛ لأن هذه السلطة قد اقتصرت في هذه الفترة على الوحي، وعلى تطبيقات السنة العملية التي أقرها الوحي نصا أو سكوتا.

ولما كان المسلمون سيواجهون أحداثا وتغيرات جديدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحتاج في تفاصيلها إلى نوع من صدق النظرة وأصالة الرأي، عند تطبيق هذه الأصول العامة المقررة على الأحداث المتغيرة، في وقت يكون الوحي فيه قد انقطع بعد أن أرسى الأسس – فإن مشورات الصحابة واجتهادهم في حياة الرسول كانت نوعا من التمرين العملي، على حل المشكلات التي ستواجههم بعد انقطاع الوحي، كما كانت مجالا لإبراز القدرات التشريعية بين الصحابة، ولا بأس بذلك ما دام الوحي ينزل بإقرار الصواب ورفض الخطأ، ففي أثناء ذلك، وبتقرير سبب الرفض والتأمل في سبب القبول، يتعلم المسلمون طريقة التفكير السليم لحل مشاكلهم.

كان الإسلام إذن يهدف في حياة الرسول إلى تعليم المسلمين طرق التفكير المنطقي السليم، عن طريق تعليل أحكامه، وإقرار بعض اجتهاداتهم، ورفض بعضها الآخر، على أن يسير التشريع الإسلامي في هذه الفترة بالتدرج مع الأحداث، بدون أن يعطى أحد منهم حق التشريع حتى تكمل أسس النظام – كما فرضه الله – وأصوله وقواعده.

وقبيل وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان الوحي قد أكمل ما يهدف إليه، حيث أرسى أسس التشريع الإسلامي وقرر أصوله العامة.

فقرر في مجال الاقتصاد: منع الربا والاحتكار والاستغلال، ووجوب الزكاة والعدل المادي بين الناس.

وقرر في السياسة ونظام الحكم: وجوب الشورى، والمساواة الأساسية في الحقوق والواجبات بين الناس، والعدل الاجتماعي، ووجوب طاعة الرئيس العادل، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقرر مثل ذلك في مجالات الحياة الأخرى، وترك للناس بعد ذلك – في كل جيل – مهمة تطبيق هذه الأسس على ظروفهم الخاصة، وأعرافهم التي تختلف من جيل إلى جيل ومن بيئة إلى أخرى، ومن البدهي أن هذه المهمة تتطلب جهودا ضخمة تتجدد بتجدد الظروف والبيئات والمجتمعات.

نستطيع أن نقول إذن: إن الفرق بين اجتهاد المسلمين في عصر الرسالة واجتهادهم بعده هو أن حق التشريع اقتصر في فترة الرسالة على الوحي، وفيها كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – هو المفسر المنقذ للتشريعات القرآنية. وكان الوحي يسدده، أما بعد إكمال التشريع بإرساء أسسه العامة ووفاة النبي – فقد ترك تطبيق هذه الأسس لاجتهاد أولي الرأي في كل جيل وبيئة، وبهذا الاختيار دخل الاجتهاد من القادرين عليه في مفهوم التشريع الإسلامي، واعتبر من مصادره بعد نصوص القرآن والسنة[1].

وعلى ضوء هذا يتضح ما صنعه عمر في تنزيله لآية المؤلفة قلوبهم؛ إذ هو ضرب من رعاية مقصد الشارع، ولا يمكن أن يكون عبثا بالشريعة أو تغييرا لها، وعن علة هذا الحكم وحيثيات هذا التشريع يبحر بنا الفقيه المعاصر د. محمد بلتاجي ليجلي الأمر ويوضح الصورة بتتبع نشأة المؤلفة قلوبهم والظروف التي تسمح لهم بالأخذ من أموال الزكاة ومتى يمنعوا ذلك على النحو الآتي:

أولا. معنى المؤلفة قلوبهم، والظروف التي استوجبت فرض نصيب لهم من أموال الزكاة:

مما شرع في القرآن في توزيع الزكاة أن يكون للمؤلفة قلوبهم نصيب منها، قال عزوجل: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، فمن هم المؤلفة قلوبهم؟ وما الظروف التي استوجبت فرض نصيب لهم من الصدقات؟

إن المتتبع لظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، يلاحظ في دهشة وعجب أن القوى المعادية التي أحاطت من كل جانب بالدعوة الجديدة، ووقفت بكل جهودها تحاول القضاء عليها، فلم تنجح في محاولتها، بل ما لبثت قبائل شبه الجزيرة كلها أن اعتنقت هذه الدعوة، بحيث أصبح شبه الجزيرة العربية نقطة ارتكاز وتجمع، وأرضا صلبة لهذه الدعوة. ولا بد أن نسلم بأن هذه الدعوة الجديدة كانت تحتوي على إمكانات حيوية، شقت أمامها طريق النصر في ظروف صعبة.

لكن تقصى وقائع التاريخ يثبت أن الإمكانات المعنوية ما كانت لتستطيع وحدها أن تغير الواقع المادي الصلب، وبخاصة أن المجتمعات البشرية تمر بظروف تصبح فيها المادة منطق الحياة ومبدأها الوحيد، وحينئذ لا يكون هناك أكثر فعالية من المال، في نفوس كثير من الناس.

ولا شك أن مجتمع المدينة الإسلامي الناشئ، المحاصر من كل الجهات بالأعداء الأقوياء، كان يمر بظروف قاسية في حرب غير متكافئة عدديا على الأقل، لكن قوة العقيدة كانت تهب النصر، وبعد كل انتصار للمسلمين كان يوجد دائما هؤلاء الرجال، الذين يجمعون بين الذكاء والطموح والتفكير العلمي، والذين هم على استعداد للتخلي عن روح العداء للقوة المنتصرة إذا قدم شيء من المال. قال صفوان بن أمية – وهو أحد المؤلفة قلوبهم -:«والله، لقد أعطاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي»[2]. ومن ينكر تأثير العطاء المادي المتكرر في نفوس البشر، وإن تفاوتت درجته بين رجل وآخر؟ لقد كان تخلي هؤلاء الرجال عن روح العداء يختصر طريق النصر الشاق، ويعطيهم الفرصة للاتصال المباشر بمبادئ الدعوة الجديدة، فإذا ما تم لهم هذا الاتصال بها أحبتها نفوسهم وقلوبهم، ولم يعودوا في حاجة إلى أن تفرض عليهم، أو يفرض عليهم إعادة النظر فيها. وكان وصولهم إلى هذه الدرجة من الاقتناع الحر، كسبا مزدوجا لهم، وللدعوة الجديدة؛ فإن معظمهم كان من رؤساء القوم، في وقت كانت فيه غالبية معتنقي العقيدة الجديدة من العبيد والإماء، ومن الفقراء والمستضعفين، المتطلعين إلى الخلاص والحرية والإنسانية، في ظل الدين الذي يدعو إلى المساواة الشاملة.

ولن نعجب إذا وجدنا أن معظم الذين كان يراد تأليف قلوبهم حول الإسلام، كانوا من أشراف الناس ورؤسائهم، وقد كانوا ثلاثة أنواع:

·   مشركون بعيدون بقلوبهم عن الإسلام، يعطون ليكفوا أذاهم عن المسلمين وللاستعانة بهم على غيرهم من المشركين عند الحاجة لذلك؛ لئلا يتكتل المشركون كلهم في معركة واحدة ضد القوة الإسلامية الناشئة.

·   مشركون من رؤساء القوم، عندهم استعداد نفسي لإعادة النظر في الدعوة، فيعطيهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الصدقات، ويقربهم ليتصلوا بمبادئ الدعوة ورجالها اتصالا مباشرا، فإما آمنوا بها، وإما ضعف عداؤهم لها، فلم يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام.

·   مسلمون حديثو عهد بكفر، وإيمانهم ما زال ضعيفا، وما زالت تسيطر عليهم المفاهيم المادية، التي سادت حياتهم من قبل؛ فيعطون لئلا يرجعوا إلى الكفر بسبب الحاجة؛ لأن الرسولـ صلى الله عليه وسلم – كان يعلم تماما أن الرجل الجائع ضعيف الإيمان يصعب عليه الإيمان بأي شيء.

ولم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يدخر جهدا أو مالا في سبيل الإسلام، يروى عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال:«ما سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – على الإسلام شيئا إلا أعطاه إياه، فجاء رجل فسأله، فأمر له بغنم بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدا يعطي عطية لا يخشى الفاقة»[3].

والثابت تاريخيا في أعقاب الحروب أن قلوب الفئة المهزومة أقرب ما تكون إلى الاستمالة للدعوة الجديدة المنتصر أصحابها، فبعد انتصار المسلمين على هوازن سنة 8هـ أعطى الرسول – صلى الله عليه وسلم – بعض رؤساء القبائل، فأعطى مائة بعير لكل من أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والعلاء بن جارية الثقفي، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس التميمي، ومالك بن عوف النصري، وصفوان بن أمية، وأعطى دون المائة رجالا من قريش؛ منهم: ابن عمرو، وسعيد بن يربوع، وعدي بن قيس، وآخرون، ويبدو أن عطاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – للعباس بن مرداس لم يكفه، فعاتب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأبيات من الشعر، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه»[4]. فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أعطى الرسول – صلى الله عليه وسلم – هؤلاء الرجال وغيرهم، وترك كثيرا من المسلمين الصادقين المحتاجين، الذين كان اعتناقهم للدعوة الجديدة، وانشغالهم بالجهاد من أسباب احتياجهم، فقال له أحد صحابته: «يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وتركت جعيل بن سراقة الضمري؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفس محمد بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه»[5].

وإذا تتبعنا بعض هؤلاء الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجدنا أن كثيرا منهم دخل في الدعوة بعد ذلك عن اقتناع حر، وبعض هؤلاء احتل منزلة عالية بين المسلمين، كمعاوية أول خليفة أموي، ولكن بعضهم الآخر لم يخلص قلبه للإسلام، وإن كان قد كف شره عن المسلمين، وهو شيء مهم في حد ذاته.

ونلاحظ أن ابن قتيبة عقب بعد أن ذكر أسماء بعضهم بجملة: “ثم حسن إسلامه”، وترك أسماء الآخرين دون هذا التعقيب، أي أنه لم يبلغه أن إسلامهم قد حسن، أو هم لم يؤمنوا أصلا، فهو يقول مثلا: “معاوية بن أبي سفيان، ثم حسن إسلامه، وحكيم بن حزام، ثم حسن إسلامه، والحارث بن هشام، ثم حسن إسلامه، وسهيل ابن عمرو، ثم حسن إسلامه. والعلاء بن حارثة الثقفي، وعيينة بن حصن بن حذيفة، والأقرع بن حابس، ومالك بن عوف النصري”، وإذا تتبعنا حياة بعضهم بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجدنا أن رأي ابن قتيبة كان صادقا إلى حد كبير.

ثانيا. منع عمر – رضي الله عنه – سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه لم يكن في خلافة أبي بكر أو عمر من ينطبق عليهم هذا الوصف حتى يعطيهم:

لقد استمر عطاء المؤلفة قلوبهم حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة أبي بكر جاء رجلان منهم إلى الخليفة، وطلبا منه أرضا قائلين: إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيها لنا، فكتب لهم كتابا بذلك – وليس في القوم عمر – فانطلقا إليه ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما، وتفل فيه فمحاه، وقال لهما: إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله أغنى الإسلام وأعزه اليوم، فاذهبا فاجهدا جهدكما كسائر المسلمين، فالحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر… ووافقه أبو بكر على ما فعل ورجع إليه.

تماما كما يشرع القرآن الزكاة للفقراء والمساكين، ثم يمر عصر لا يكون فيه فقراء أو مساكين فلا يوجد من يأخذ سهميهما في الزكاة، فيتوقف العمل بالنص القرآني فيهما، حتى يوجد فقراء أو مساكين.

وقد شرحنا الظروف التي اقتضت تخصيص سهم لهم في عصر الرسالة، لكن بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانتشار الإسلام في شبه الجزيرة كلها، وبعد أن مر المسلمون بتجربة حروب الردة التي انتهت بهزيمة كل المرتدين واستسلامهم، وأوضحت بجلاء حاسم أن القوة الإسلامية هي الغالبة، وأنها أصبحت الصوت العالي الذي يتردد وحده بين العرب جميعا، وآذن هذا بحركات المد العربي خارج الجزيرة لنشر العقيدة بعد هذا كله أصبح الإسلام عزيزا قويا، لا يحتاج إلى بذل الأموال لتأليف القلوب؛ لذلك استغنى المسلمون عن التأليف، فلا يمكن أن يوجد مؤلفة حتى يعطيهم عمر – رضي الله عنه – أو يمنعهم.

وهذا يفسر الموافقة الفورية من أبي بكر والصحابة – رضي الله عنهم – جميعا على رأي عمر رضي الله عنه، بحيث لم يحدث جدال فيه، وقد كان عمر – رضي الله عنه – أول من نبههم إلى حقيقة الوضع الإسلامي العزيز الجانب، الذي لا يحتاج معه إلى بذل الأموال أو مداراة الرجال، وكما قال عمررضي الله عنه: إن الله قد أغنى الإسلام وأعزه اليوم.. فالحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وكيف يحتاج الإسلام إلى تأليف الأعراب وجيوشه تتأهب لخوض الصراع مع جيوش إمبراطوريتي الفرس والروم؟

إن مما لا شك فيه أن الحكم بوجود مؤلفة أو عدم وجودهم، مرهون بوضع الجماعة الإسلامية، فإن احتاجوا إلى تأليف القلوب، فحينئذ يوجد المؤلفة ويستحقون نصيبا مفروضا في القرآن، وإن لم يحتاجوا إلى التأليف، فكيف يوجد المؤلفة إذن؟ ومن هنا لم يخالف عمر وأبو بكر – وغيرهما من الصحابة – نصوص القرآن، أو عمل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فعلوه لم يكن إلغاء للآية أو نسخا لها، وإنما كان منعا لسهم لم يوجد في عصرهم من يستحقه ولو مرت بالمسلمين في عهد عمر أو بعده ظروف يحتاجون معها إلى تأليف القلوب، لأخرج من الصدقات سهم المؤلفة قلوبهم، وأعطى من يستحقونه.

ويدل على صحة ما فعله سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ما ذكره الجصاص حين قال: ترك أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – النكير على عمر – رضي الله عنه – فيما فعله – بعد إمضائه الحكم – يدل على أنه عرف مذهب عمر حين نبهه إليه، وأن سهم المؤلفة قلوبهم كان مقصورا على الحال التي كان عليها أهل الإسلام، من قلة العدد وكثرة عدد الكفار، ويروي الجصاص عن الحسن قوله: إن المؤلفة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس اليوم مؤلفة قلوبهم.

ويؤكد ما سبق قول كمال الدين بن الهمام (ت 861 هـ): فلم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه، مع ما يتبادر منه من كونه سببا لإثارة الثائرة أو ارتداد بعض المسلمين، فلولا اتفاق عقائدهم على حقيقته، وأن مفسدة مخالفته أكثر من المفسدة المتوقعة، لبادروا إلى إنكاره، ويقرر ابن الهمام المسألة في إطار عقلي منطقي فيقول: إن الغاية من هذا التشريع إعزاز المسلمين، وإن إعطاء الأموال للمؤلفة في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان وسيلة لهذه الغاية، وبعد وفاة الرسول وكثرة المسلمين، أصبح عدم إعطائهم هو الذي يؤدي إلى إعزاز المسلمين؛ لأن إعطاءهم في حالة الكثرة والمنفعة إذلال للمسلمين، وإظهار لهم بمظهر الضعف والقلة، فهو يؤدي إلى عكس ما كان يؤدي إليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لاختلاف ظروف المسلمين.

ولما كانت غاية التشريع هي المقصودة منه في الحقيقة؛ فلذلك لا يعطون في حال عزة المسلمين، فعدم الدفع الآن للمؤلفة تقرير لما كان في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – لا نسخ له؛ لأن الواجب كان الإعزاز، وكان بالدفع، والآن هو عدم الدفع، وهذه نظرة صائبة إلى غاية التشريع وحكمته.

لم ينسخ عمر والصحابة – رضي الله عنهم – نص الآية إذن، ولم يبطلوا العمل بها؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين نسخ النص وبين وقف العمل به، حتى يوجد من ينطبق عليه. ويبدو هذا بالفعل في عهد عمر بن عبد العزيز حين تألف قلب البطريق وأعطاه ألف دينار، لحاجة المسلمين ومصلحتهم، وعملا بالآية والسنة، وبدهي أن الآية لو نسخت أو ألغيت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ لما جاز تأليف القلوب بعد ذلك، ولا يستطيع أحد بعد عصر الرسالة وانقطاع الوحي أن يدعي نسخ حرف واحد من النصوص، وهي حقيقة أولية في التشريع الإسلامي.

يقول أبو عبيد القاسم بن سلام: “إن هذه الآية )إنما الصدقات( (التوبة: 60)، محكمة لا نعلم لها ناسخا من كتاب أو سنة، فإذا كان قوم لا رغبة لهم في الإسلام إلا النيل منه، وكان في ردتهم ومحاربتهم ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم[6] من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث:

·       الأخذ بالكتاب والسنة.

·       الإبقاء على المسلمين.

·   أن الإمام ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيهم رغبته”، ولهذا يرى أبو عبيد أن الأمر في المؤلفة ماض أبدا، وأن تقدير وجود المؤلفة أو عدم وجودهم يرجع إلى التقدير الحكيم لولي الأمر.

ويقول الشوكاني: إنه يجوز تأليف القلوب عند الحاجة إلى ذلك، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلبة، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة.

وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطبري أيضا، فهو ينكر رأي من قال: إن المؤلفة قلوبهم قد انتهى عهدهم إلى غير رجعة، ويقول: إنه بالرغم من أن الإسلام قد كثر أهله وعز، إلا إنه لو وجدت ظروف يحتاجون فيها إلى تأليف القلوب، فعند ذلك يوجد المؤلفة ويجب نصيبهم المشروع بالقرآن والسنة، حتى لو كان المعطون من الأغنياء؛ لأن من أهداف الصدقة معونة الإسلام وتقويته، وما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير؛ لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه. وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطي الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطي ذلك غنيا كان أو فقيرا.

ثالثا. آية المؤلفة قلوبهم محكمة وباقية إلى يوم القيامة، يعمل بها المسلمون حين يحتاجون إلى تأليف القلوب:

إن الذين قالوا – بعد عصر عمر رضي الله عنه – بعدم وجود مؤلفة، إنما نظروا إلى حال المسلمين في عهدهم، حيث كانوا من القوة والعز؛ بحيث لم يحتاجوا إلى تأليف القلوب.

يروي ابن رشد في سياق الإجابة عن سؤال: هل للمؤلفة وجود بعد عصر الإسلام الأول؟ قال مالك: لا مؤلفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حق المؤلفة باق إلى اليوم، إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام على الإسلام، وسبب اختلافهم: هل ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو عام له ولسائر الأمة؟ والأظهر أنه عام. وهل يجوز ذلك للإمام في كل أحواله، أو في حال دون حال؟ أعني في حال الضعف، لا في حال القوة؛ ولذلك قال مالك: لا حاجة للمؤلفة الآن لقوة الإسلام، وهذا التفات منه إلى المصالح.

ولا شك أن النظرة النافذة لما قاله الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبوحنيفة، تستطيع أن تلمح أنه ليس هناك خلاف حقيقي بينهم؛ إذ إن مالكا قد نظر إلى عهده، فرأى أن المسلمين في حال من القوة بحيث لا يحتاجون إلى التأليف؛ فانتفت علته، فلم يعد هناك مؤلفة، وكان يعني عصره بهذا الحكم. أما إذا اقتضت مصالح المسلمين التأليف فعندئذ يوجدون، ويعمل بسهمهم، وتقدير المصلحة يرجع إلى ولي الأمر الذي فوض إليه الشافعي وأبو حنيفة النظر والحكم.

حقائق ثابتة حول هذه المسألة:

أليس عمر بن الخطاب هو نفسه الذي التزم بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم – في ظروف خاصة – من الإسراع في المشي وهز المنكبين في الطواف بالبيت في الحج، وقال في خلافته: «فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»[7]. وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعا المسلمين في عمرة القضاء إلى الإسراع في المشي ليري المشركين قوة المسلمين، ولم يكن سبب الإسراع قائما في خلافة عمر – رضي الله عنه – لانتهاء الكفر وأهله كما قال عمر رضي الله عنه، ومع ذلك قال: “لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم “.

فهل يعقل أن عمر – رضي الله عنه – هذا هو الذي يلغي تشريعات القرآن الكريم إلغاء، وينسخها نسخا ليقينه بأنها لم تعد تلائم ظروف المجتمع في عهده؟

إذا صدقنا أن عمر ألغى تشريع القرآن الكريم في المؤلفة قلوبهم، فكيف رجع حفيده عمر بن عبد العزيز إلى العمل به مع البطريق؟ أم جعلت النصوص القرآنية ألعوبة في أيدي الخلفاء، يلغيها هذا ويعيدها ذاك؟

فرضت نفس الآية التي أشار إليها المدعون نصيبا في الزكاة للفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين، فهب أن الزكاة عرضت في بلد ما وعصر ما فلم تجد أحدا يأخذها لاستغناء الناس بكسبهم عنها وعدم وجود (الفقراء)، و(المساكين)، فهل يعتبر ولي الأمر عندئذ ملغيا لنص الآية إذا وقف نصيب الفقراء والمساكين؟ وما رأي المدعين فيم لو انتفى وجود المدينين الذين نصت عليهم نفس الآية في (الغارمين)؟ وما رأيه في انتفاء وجود سهم (في الرقاب)؟ أيقول عن هذا إن النص القرآني قد ألغى؟ وما الفرق بين انتفاء وجود (المؤلفة قلوبهم)، في عهد عمر رضي الله عنه، وانتفاء وجود المستحقين الآخرين الذين نصت عليهم نفس الآية؟ لا فرق.

ومن أجل هذا نص الفقهاء منذ عصر الصحابة على أن الزكاة تدفع للموجودين من الأصناف الثمانية دون أن يدل هذا على أن من لا يوجد منهم في عصر ما فقد ألغى التشريع القرآني بالنسبة له. ذاك أن الفرق كبير بين (الإلغاء والنسخ)، وبين (وقف سهم) طائفة من المستحقين غير الموجودين في عصر ما، حتى يوجدوا.

وبهذا التفصيل نتبين أن عمر – رضي الله عنه – لم يخالف التشريع الإسلامي، ولم يهدم شيئا من تعاليمه[8].

الخلاصة:

·   لا شك أن مجتمع المدينة الإسلامي الناشئ، المحاصر من كل الجهات بالأعداء الأقوياء كان يمر بظروف قاسية في حرب غير متكافئة، عدديا على الأقل، لكن قوة العقيدة كانت تهب النصر، وبعد كل انتصار للمسلمين كان يوجد دائما هؤلاء الرجال، الذين يجمعون بين الذكاء والطموح والتفكير العلمي، والذين هم على استعداد للتخلي عن روح العداء للقوة المنتصرة إذا قدم لهم شيء من المال. قال صفوان بن أمية – وهو أحد المؤلفة قلوبهم -: «والله، لقد أعطاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي»[9].

·       إن معظم الذين كان يراد تأليف قلوبهم حول الإسلام، كانوا من أشراف الناس ورؤسائهم. وقد كانوا ثلاثة أنواع:

o       مشركون بعيدون بقلوبهم عن الإسلام، يعطون ليكفوا أذاهم عن المسلمين.

o       مشركون من رؤساء القوم، عندهم استعداد نفسي لإعادة النظر في الدعوة.

o       مسلمون حديثو عهد بالإسلام، وإيمانهم ما زال ضعيفا، وما زالت تسيطر عليهم المفاهيم المادية.

·   لم يكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يدخر جهدا أو مالا في سبيل الإسلام، وأما منع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فذلك لأنه لم يكن هناك مؤلفة حتى يعطيهم، وبذلك يتبين أن النص لم يعطل ولم يعلق، وإنما المحل هو الذي انعدم، فلو أن ظرفا من الظروف على عهد عمرـ رضي الله عنه – أو غيره من بعده قضى بأن يتألف الإمام قوما فتألفهم؛ لأصبح الصنف موجودا، فلا بد من إعطائه.

·   تماما كما يشرع القرآن الزكاة للفقراء والمساكين ثم يمر عصر لا يكون فيه فقراء أو مساكين؛ فلا يجد من يأخذ سهميهما في الزكاة، فيتوقف العمل بالنص القرآني فيهما، حتى يوجد فقراء أو مساكين.

·   آية المؤلفة قلوبهم محكمة وباقية إلى يوم القيامة، يعمل بها المسلمون حين يحتاجون إلى تأليف القلوب، وبعملهم هذا يوجد المؤلفة، ويجب سهمهم، بل قال الشافعي وأبو حنيفة: حق المؤلفة باق إلى اليوم، إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام إلى الإسلام.

(*) منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م.

[1]. منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص40: 43 بتصرف.

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا قط فقال: “لا” (6162)، وفي موضع آخر.

[3]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12051)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب قسم الصدقات، باب من يعطى من المؤلفة قلوبهم (13565)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.

[4]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب فتح مكة، باب رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الجعرانة (1937).

[5]. أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة، باب الجيم، من اسمه جندب (1581)، والبيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب فتح مكة، باب رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الجعرانة (1938).

[6]. يرضح لهم: يطعيهم.

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (317)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب ذكر الدليل على أن السنة قد كان يسنها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلة (2708) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1662).

[8]. منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص148 وما بعدها.

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قط فقال: “لا” (6162)، وفي موضع آخر.

ادعاء تعطيل عمر بن الخطاب لنصوص الشريعة حين رفض تقسيم الأرض المفتوحة على المسلمين الفاتحين

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد عطل نصوصا شرعية قطعية الثبوت لمصالح شخصية، ويستدلون على ذلك بموقفه – رضي الله عنه – من تقسيم الأرض المفتوحة على الفاتحين؛ حيث منع تقسيمها على الفاتحين، ويتساءلون: ألا يعد ما فعله عمر بن الخطاب من قبيل تعطيل نصوص قطعية الثبوت ومخالفة صريح القرآن والسنة؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) رفض عمر – رضي الله عنه – لتقسيم الأراضي المفتوحة كان اجتهادا صائبا منه، بني على بعد نظر؛ لتكون تلك الأراضي وقفا للأجيال القادمة، يتوارثونها جيلا بعد جيل، ولو لم يفعل لما بقي لمن يأتي بعدهم شيء، وحتى لا يتجمع المال في أيدي فئة من المسلمين دون غيرهم.

2) تشريع تقسيم الأرض المفتوحة بعد القتال كان من الأمور الاجتهادية التي تركها الشرع للناس ليجتهدوا فيها برأيهم؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – قد قسم الأرض المفتوحة مرة، ولم يقسمها أخرى، والضابط في ذلك مصلحة المسلمين.

3)  عدم تقسيم الأراضي المفتوحة عنوة على الفاتحين: عاد على المسلمين بالعديد من المصالح الأمنية داخليا وخارجيا.

التفصيل:

أولا. رفض تقسيم الأراضي المفتوحة كان اجتهادا صائبا من عمر رضي الله عنه:

إن الادعاء القائل بتعطيل عمر بن الخطاب لنص الشريعة من أجل مصلحة شخصية لديه هو محض افتراء، فأي مصلحة شخصية لرجل يلغي نصيبه من الفيء وهو خمس الأراضي لو قسمت، وضحى بهذا من أجل مصلحة جيل قادم، ومن أجل مصلحة الإسلام، فقد ترك نصيبه، وهو جد عظيم، وأراد من المسلمين أن يتركوا ذلك عملا بمصلحة إخوانهم، ولا شك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – راعى عدة اعتبارات لما اتخذ قراره بمنع تقسيم الأراضي المفتوحة ورآها راجحة وتخدم مقصد الشارع الحكيم.

ويوضح لنا د. يوسف القرضاوي هذا الموقف؛ فيقول: من الآراء والاجتهادات العمرية التي استندت إليها فئات التغريب والتبعية الفكرية، من الذين ينادون بتعطل النصوص – وإن كانت قطعية – لتحقيق مصالح يتوهمونها، ويقدمونها على نصوص الكتاب والسنة: موقف عمر – رضي الله عنه – من تقسيم الأرض المفتوحة على الفاتحين المنتصرين من الصحابة، الذين طالبوه بتقسيمها عليهم باعتبارها غنيمة غنموها بسيوفهم، كما قسم النبي – صلى الله عليه وسلم – أرض خيبر على المقاتلين الذين فتحوها، وكان منهم عمر – رضي الله عنه – نفسه.

طالبوه بذلك عندما فتح سعد بن أبي وقاص فارس والعراق، وكانت أرضه تسمى “السواد”، من كثافتها وخضرتها، بحيث يراها الرائي من بعيد كأنها كتلة سوداء، وطالبوه بتقسيم الشام عندما فتحت الشام، وطالبوا قائده عمرو بن العاص، عندما فتح مصر أن يقسمها عليهم.

ولكن عمر – رضي الله عنه – أبي عليهم ذلك، ولم يستجب لمطالبتهم هذه، لاعتبارات أخرى رآها أقرب لمقاصد الشرع من التقسيم، الذي يعتبره المطالبون حقا لهم، أثبته لهم كتاب الله عزوجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فقد روى الإمام أبو عبيد في “الأموال” عن إبراهيم التيمي قال: لما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر رضي الله عنه: اقسمه بيننا، فإنا افتتحناه عنوة، قال: فأبى، وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه. قال: فأقر أهل السواد في أرضهم، وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أرضيهم الطسق[1] ولم يقسم بينهم.

وأيضا روى أبو عبيد عن ابن الماجشون قال: قال بلال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، في القرى التي افتتحها عنوة: اقسمها بيننا، وخذ خمسها، فقال عمر رضي الله عنه: لا، هذا عين المال، ولكني أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اكفني بلالا وذويه. قال: فما حال الحول ومنهم عين تطرف.

وروى أبو عبيد عن سفيان بن وهب الخولاني يقول: لما افتتحت مصر بغير عهد – يعني عنوة بغير صلح – قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاص، اقسمنها. فقال عمرو: لا أقسمها. فقال الزبير: لتقسمنها، كما قسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خيبر، فقال عمرو: لا أقسمها، حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

قال أبو عبيد: أراه أراد: أن تكون فيئا موقوفا للمسلمين ما تناسلوا، يرثه قرن بعد قرن، فتكون قوة لهم على عدوهم.

ومعنى كلام عمر – رضي الله عنه – وتفسير أبي عبيد له: أنه يريد أن يكون وقفا على الأجيال القادمة، يتوارثونه جيلا عن جيل.

قال أبو عبيد: وحدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص – يوم افتتح العراق -: “أما بعد، فقد بلغني كتابك: أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم، وما أفاء الله عليهم. فانظر ما أجلبوا عليك في العسكر، من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها[2]؛ ليكون ذلك في أعطيات المسلمين. فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء”.

وحدثنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر: أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين، فأمر أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم وبعث عليهم عثمان بن حنيف.

وحدثنا هشام بن عمار الدمشقي عن يحيى بن حمزة قال: حدثني تميم بن عطية العنسي. قال أخبرني عبد الله بن أبي قيس – أو عبد الله بن قيس الهمداني، شك أبو عبيد – قال: قدم عمر الجابية، فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم. قالوا: فصار عمر إلى قول معاذ.

وهكذا اتفق رأي عمر وعلي ومعاذ ومعهم عثمان وطلحة على عدم التقسيم، لما يترتب عليه من مفاسد، والنظر في أمر يسع أول الناس وآخرهم.

وهذا ما أكدته شتى الروايات عن عمر، فقد روى عنه زيد بن أسلم أنه قال: تريدون أن يأتي آخر الناس، وليس لهم شيء؟! وعنه قال: لولا آخر الناس، ما افتتحت قرية إلا قسمتها.

وروي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: «أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببانا[3] ليس لهم شيء؛ ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم النبي – صلى الله عليه وسلم – خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها»[4].

وقد استغل بعض المعاصرين – ممن لا يوقرون النصوص الشرعية، ولا يقدرونها حق قدرها – من العلمانيين والمغتربين: هذا الاجتهاد العمري، كما استغلوا أمثاله، ليصلوا من ورائه إلى مقولة خطيرة كل الخطر، وهي: جواز تعطيل النصوص القطعية بسبب المصالح الدنيوية، فإذا تعارض النص القطعي والمصلحة جمد النص، وقدمت المصلحة.

وادعوا أن عمر الفاروق – رضي الله عنه – هو الذي سن للمسلمين هذه السنة، وقد بنوا حجتهم في هذا الادعاء على دليلين:

1. قول الله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل( (الأنفال: 41).

فهذه الآية توجب قسمة كل غنائم الحرب بين الغانمين الذين شاركوا في الحرب، سواء كانت عقارا أم منقولا، ولكن عمر ترك هذه الآية عمدا، ولم يعمل بمقتضاها، ولم يقسم الأرض المغنومة.

2. ما صح في السنة النبوية، وهو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين غزا خيبر وافتتحها عنوة، قسمها بين المسلمين الذين شاركوا معه في فتحها، ممن كانوا معه في الحديبية، وإن أشرك معهم بعض من كانوا هاجروا إلى الحبشة.

ولكن عمر – رضي الله عنه – ترك ما نص عليه في كتاب الله عزوجل، وفي سنة رسول صلى الله عليه وسلم، لاعتبارات مصلحية رآها، ولم يقسمها بين المسلمين الذين طالبوه صراحة بقسمتها بينهم، بل ألحوا عليه في ذلك وشددوا، ومنهم بلال على فضله وسابقته، ومعه من معه من الصحابة حتى إن عمر – رضي الله عنه – لجأ إلى الدعاء عليهم قائلا: اللهم اكفني بلالا وأصحابه، فما مر عليهم العام، وفيهم عين تطرف، أي ماتوا جميعا.

ولا نحسب أن عمر – رضي الله عنه – دعا عليهم بالموت، ولكن دعا الله أن يكفيه خصومتهم، فاختار القدر لهم ما اختار، ولا راد لما قضاه الله.

نظرة في فقه عمر رضي الله عنه:

والواجب علينا أن ننظر بعين الفقه فيما صنعه عمر رضي الله عنه: هل خالف فيه – كما يقول هؤلاء – نصا قطعي الثبوت والدلالة في القرآن والسنة؟

نظرة في آية الغنيمة:

أما ما ذكر من قوله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل( (الأنفال: 41)، ومفهومها: أن الأربعة الأخماس الباقية للغانمين، فهذه الآية من كتاب الله لا شك أنها قطعية الثبوت، شأن كل القرآن، فهو ثابت بالتواتر اليقيني الذي لا ريب فيه، ولكن هل هي قطعية الدلالة على ما يدعون أنها تشمل كل ما غنم من منقول ومن عقار، حتى تشمل الأرضين والجبال والأنهار؟

لا يملك فقيه بصير بالقرآن وباللغة ودلالتها أن يزعم أن الآية الكريمة تدل على ذلك دلالة قطعية؛ لأن حقيقة ما يغنمه الإنسان في الحرب: ما يحوزه بالفعل، ويستولى عليه، وهذا معقول ومشاهد في الكراع والسلاح والثياب والنقود، والأدوات، ونحوها، مما يمكن أخذه وحمله ونقله.

بخلاف الأراضي الشاسعة، والسهول الواسعة، والجبال الشامخة، والأنهار العظيمة، فمن ذا الذي يقول: إنه حازها واستولى عليها إلا بضرب من التجوز والتوسع في الاستعمال اللغوي، وليس على الحقيقة؟

فكأن عمر – رضي الله عنه – قال للصحابة الذين عارضوه، وطلبوا منه قسمتها عليهم: إنكم لم تغنموا هذه الأرض على وجه الحقيقة، فلا دليل لكم في آية الغنيمة؛ لأنها في المنقولات وما أشبهها.

نظرة أخرى في القسمة النبوية لخيبر:

وإذا كان عمر لم يخالف نصا قطعيا بتركه العمل بآية توزيع الغنيمة، فهو من باب أولى، لم يخالف نصا قطعيا؛ إذ لم يأخذ بالتقسيم النبوي لخيبر.

ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا هو: دلالة الفعل النبوي، على وجوب قسمة الأرض المفتوحة، ودعوى قطعية هذه الدلالة، وأن ابن الخطاب – رضي الله عنه – خالف هذه القطعية، ويتضح ذلك فيما يأتي:

1. أن فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يدل – بذاته – على الوجوب، بل على مجرد المشروعية، وإن دل على الوجوب، فلا بد أن يكون بقرينة أخرى مصاحبة له، لا بذات الفعل.

ولهذا وسع عمر – رضي الله عنه – ومن وافقه وأشار عليه من فقهاء الصحابة – من أمثال علي ومعاذ – أن يخالفوه ظاهرا، وإن لم يخالفوه حقيقة.

2. أن كثيرا من هذه التصرفات النبوية التي تدخل في باب السياسة والإدارة والاقتصاد، هي – في الغالب – تصرفات بوصف الإمامة، لا بوصف التبليغ عن الله عزوجل، أي أن هذا قرار من قرارات السلطة السياسية أو الإدارية العليا، اتخذه الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في ضوء المصلحة المرعية في وقته.

وهو بهذا يسن للأئمة من بعده أن يتصرفوا بهذه الصفة كما تصرف، وأن يتخذوا من المواقف والقرارات ما يرونه أصلح لزمانهم ومكانهم، وإن خالفوا في بعض الجزئيات بعض المواقف أو الآراء النبوية، فهم بهذا مطبقون للمنهج النبوي في رعاية المصالح، ودرء المفاسد حسب ظروف الزمان والمكان.

3. أن السنة النبوية ثبت فيها تقسيم الأرض، وترك تقسيم الأرض، وكلاهما سنة متبعة، فقد ثبت في السيرة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فتح مكة عنوة، ولو في جزء منها على الأقل. ومع هذا لم يقسم أرضها ولا دورها، بل تركها في أيدي أهلها، وهذا لا ينازع فيه منازع، وفي هذا متسع لاقتداء عمر – رضي الله عنه – به.

وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية أقوى الدعاة إلى اتباع السنة، والاهتداء بهدي السلف في القرون الماضية، يقول في فتوى له: حبس عمر وعثمان – رضي الله عنهما – الأراضين المفتوحة، وترك قسمتها على القائمين، فمن قال: إن هذا لا يجوز؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قسم خيبر، وقال: إن الإمام إذا حبسها – أي وقفها لمصلحة الأمة كلها – نقض حكمه؛ لأجل مخالفة السنة، فهذا القول خطأ، وجرأة على الخلفاء الراشدين، فإن فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في خيبر، إنما يدل على جواز ما فعله، لا يدل على وجوبه، فلو لم يكن معنا دليل على عدم وجوب ذلك، لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب.

فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة، كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة، بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟

ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يقسم أرضها، فعلم جواز الأمرين، فالنتيجة أن قسمة الأرض المفتوحة سنة، وعدم قسمتها سنة أيضا.

كل ما هنالك: أن ما فعله الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، في كلتا سنتيه، كان هو الأوفق والأحكم، فقد كان المسلمون من صحابته الكرام – في غزوة خيبر – في حاجة إلى ما يشد أزرهم، ويقوي ظهرهم، ويعوضهم عما فاتهم بسبب الجهاد المتواصل، وخصوصا بعد أن بايعوا على الموت في الحديبية، وكانت أرض خيبر، أرض بلدة أو منطقة محدودة، ليست كسواد العراق، أو بلاد الشام أو أرض مصر، وكان أهلها أصلا دخلاء على جزيرة العرب، وطالما أفسدوا فيها، وآن لهم أن يخرجوا منها. كل هذه الاعتبارات رجحت تقسيم أرضهم على المقاتلين المنتصرين.

بخلاف الأراضي التي رفض عمر – رضي الله عنه – تقسيمها، فهي ليست منطقة أو قرية أو مدينة، بل هي أراضي ممالك وأقطار كبيرة مثل مصر والشام والعراق، وملاكها ليسوا دخلاء عليها كاليهود على الجزيرة، وإجلاؤهم عنها غير وارد ولا ممكن، فكان الخير والمصلحة للدنيا وللدين في إبقائها بيد أهلها، يحيونها ويعمرونها ويعملون فيها، ويفرض عليها خراج يعود إلى الدولة بصفة دورية، يكون رصيدا للإنفاق على مصالح الأمة وسد ثغراتها، وتلبية حاجاتها، وخصوصا على حراس الدولة من العسكريين: كالجنود، والمدنيين: كالقضاة والفقهاء والمعلمين.

وهذا ما صرح به المحققون من العلماء، وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن قدامة في “المغني”؛ حيث قال – معللا الرواية التي جاءت عن الإمام أحمد بأن الأرض المفتوحة عنوة تصير وقفا للمسلمين بنفس الاستيلاء عليها -: لاتفاق الصحابة عليه. وقسمة النبي – صلى الله عليه وسلم – خيبر، كان في بدء الإسلام وشدة الحاجة، فكانت المصلحة فيه، وقد تعينت المصلحة فيما بعد ذلك في وقف الأرض، فكان ذلك هو الواجب.

4. يؤكد هذا ما جاءت به بعض الروايات، وهي أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يقسم كل أرض خيبر، بل قسم بعضا، وترك بعضا لنوائبه وحاجاته، باعتباره مسئولا عن الأمة.

فقد ذكر ابن قدامة في “المغني”: أن كلا الأمرين من القسمة وعدمها قد ثبت فيه حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي قسم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه، وهو ما رواه أبو عبيد في “الأموال”.

5. استناد عمر – رضي رالله عنه – إلى القرآن: ونضيف إلى ذلك كله: أن عمر احتج لما رآه بآيات في كتاب الله – عزوجل – من سورة الحشر، وجد فيها ضالته التي ينشدها، وهي المتعلقة بتوزيع الفيء، فقد قال أبو يوسف في كتاب “الخراج”: لما افتتح السواد شاور عمر الناس فيه، فرأى عامتهم أن يقسمه، وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك. وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يقسمه، وكان رأي عثمان وعلي وطلحة رأي عمر – رضي الله عنهم – أجمعين.

وكان رأي عمر أن يتركه ولا يقسمه، حتى قال عند إلحاحهم عليه: اللهم اكفني بلالا وأصحابه! فمكثوا بذلك أياما، حتى قال عمر – رضي الله عنه – لهم: قد وجدت حجة في تركه، وألا أقسمه: قول الله عزوجل: )للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا( (الحشر: 8)، فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله عزوجل: )والذين جاءوا من بعدهم( (الحشر: 10).

قال: فكيف أقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟ فأجمع على تركه، وجمع خراجه، وإقراره في أيدي أهله، ووضع الخراج على أيديهم، والجزية على رؤوسهم.

وجاء عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: «اجتمعوا حتى ننظر لمن هذا المال – حين أتي بالفيء – فلما اجتمعوا قال: إني قرأت آيات من كتاب الله فاكتفيت بها، ثم قرأ قوله عزوجل: )ما أفاء الله على رسوله( (الحشر: 7)، ثم قرأ قوله عزوجل: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم( (الحشر: 9)، ثم قال: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)( (الحشر)، ثم قال: ما أحد من المسلمين إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم»[5].

تعليق أبي عبيد:

قال أبو عبيد: فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين:

أما الأول: فحكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في خيبر، وذلك أنه جعلها غنيمة، فخمسها، وقسمها، وبهذا الرأي أشار بلال على عمر – رضي الله عنهما – في بلاد الشام، وأشار الزبير بن العوام على عمرو بن العاص في أرض مصر، وبهذا كان يأخذ مالك بن أنس، وكذلك يروي عنه.

وأما الحكم الآخر: فحكم عمر – رضي الله عنه – في السواد وغيره، وذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا ولم يخمسه، وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل رضي الله عنه.

وبهذا كان يأخذ سفيان بن سعيد – يعني: الثوري – وهو معروف من قوله، إلا أنه كان يقول: الخيار في أرض العنوة إلى الإمام، إن شاء جعلها غنيمة، فخمس وقسم، وإن شاء جعلها فيئا عاما للمسلمين، ولم يخمس ولم يقسم.

قال أبو عبيد: وكلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيء، إلا أن الذي أختاره من ذلك: يكون النظر فيه إلى الإمام، كما قال سفيان، وذلك أن الوجهين جميعا داخلان فيه.

وليس فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – براد لفعل عمر رضي الله عنه، ولكنه – صلى الله عليه وسلم – اتبع آية من كتاب الله – عزوجل – فعمل بها، واتبع عمر آية أخرى فعمل بها، وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين، فيصير غنيمة أو فيئا. قال الله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل( (الأنفال: 41)، فهذه آية الغنيمة، وهي لأهلها دون الناس وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال الله عزوجل: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)( (الحشر)، فهذه آية الفيء، وبها عمل عمر رضي الله عنه، وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها، فقال: فاستوعبت هذه الآية الناس. وإلى هذه الآية ذهب علي، ومعاذ، حين أشارا عليه بما أشارا – فيما نرى – والله أعلم[6].

وإذا أردنا أن نناقش موقف عمر – رضي الله عنه – ونثبت هل حالفه التوفيق فيه أم لا؟ نرى أن التوفيق حالفه بلا شك وهذا ما ذهب إليه الشيخ القرضاوي قائلا: “وأنا أرجح السياسة العمرية التي أيدها فقهاء الصحابة مثل: علي ومعاذ، وأرى أنها كانت توفيقا من الله لعمر كما قال الإمام أبو يوسف، وهي التي تؤدي إلى تحقيق العدل الذي دعا إليه الإسلام.

وملخص هذه السياسة: نقل ملكية رقبة هذه الأرض من الأفراد المالكين إلى مجموع الأمة الإسلامية كلها في سائر الأجيال؛ فليس ملكها لشخص أو أشخاص، بل هي للمسلمين جميعا؛ وذلك لما لملكية الأرض من أهمية اقتصادية وسياسية واجتماعية، ويجب أن نذكر أن توزيع تلك الأراضي في عصور الجاهلية كان في غالبه توزيعا ظالما، تختص فيه الأسر الحاكمة ومن يلوذ بها من الإقطاعيين وأمثالهم بصفوة الأرض، ويعيش الفلاحون فيها رقيقا أو كالرقيق.

وقد عبر الفقهاء عن حكم الإسلام فيها بأنه تصير وقفا للمسلمين، يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها كل عام، ويقدر حسب طاقة الأرض، يكون أجرة لها، وتقر في أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها، سواء أكانوا مسلمين أم من أهل الذمة. ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم؛ لأنه بمنزلة أجرتها.

هذا ما صنعه عمر – رضي الله عنه – فيما افتتح في عهده من أرض العراق والشام، ولم يستجب لبلال ومن معه، الذين سألوه أن يقسم الأرض على الفاتحين، كما تقسم بينهم غنيمة العسكر، فأبى عمر ذلك، وتلا عليهم قوله عزوجل: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر:7)، إلى آخر الآيات التي ذكرناها من قبل.

قال عمر رضي الله عنه: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه.

ومعنى “دمه في وجهه”: أن كرامته مصونة؛ إذ يقال لمن يسأل الناس: أراق ماء وجهه.

وقد نبهت الآية الكريمة على حكمة توزيع هذا الفيء على الطبقات الضعيفة المحتاجة بهذه الكلمة الرائعة: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، فسبقت بهذا المبدأ ما نادى به – بعد قرون طويلة – دعاة العدالة الاجتماعية وأنصار الاشتراكية.

وقررت الآيات توزيع عائد الفيء توزيعا عادلا، لا زال غرة في جبين الإنسانية، فجعلت نصيبا فيه للجيل الحاضر من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وصودرت ملكياتهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومن الأنصار الذين فتحوا صدورهم ودورهم لإخوانهم المهاجرين فآووا ونصروا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

وأشركت مع هذا الجيل الذي بذل وضحي أجيالا أخرى، عبر عنهم القرآن بقوله: )والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا( (الحشر: 10)، وبهذا علمتنا الآيات الكريمة أن الأمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة، وامتداد الأزمنة، وأنها – على مر العصور – حلقات متماسكة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها، ثم يأتي الآخر فيكمل ما بدأه الأول، ويفخر الأحفاد بما فعله الأجداد، ويستغفر اللاحق للسابق، ولا يلعن آخر الأمة أولها.

وبهذا التوزيع العادل تفادى الإسلام خطأ الرأسمالية التي تؤثر مصلحة الجيل الحاضر ومنفعته، مغفلة – في الغالب – ما وراءه من الأجيال، كما تجنب خطأ الشيوعية التي تتطرف كثيرا إلى حد التضحية بجيل أو أجيال قائمة، في سبيل أجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة[7].

وبناء على هذا البيان الذي أتحفنا به د. القرضاوي يظهر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يخطئ في رفض تقسيم الأراضي المفتوحة على المسلمين، ولم يعطل نصا شرعيا كما اعتقد المتوهمون.

ثانيا. الحكم التشريعي للأرض المفتوحة بعد القتال كان مما أحيل إلى الناس ليجتهدوا فيه برأيهم لتحقيق المصلحة العامة للمسلمين:

وعن الأحكام التي تتعلق بهذه الأراضي وما يمسها يبين لنا د. محمد بلتاجي هذا؛ فيقول: إن قلنا: إن الأرض التي تفتح بعد قتال يطبق عليها حكم الغنيمة في سورة الأنفال، ويقسم أربعة أخماسها على المقاتلين، فسوف يكون ما حدث بعد فتح مكة مخالفا لهذا الحكم، ولا يمكن أن يخالف الرسول – صلى الله عليه وسلم – حكما مقررا في القرآن، كما أننا لا نستطيع أن نبرر هذا بأن لمكة وضعا خاصا بحيث تستثنى من حكم الغنيمة، باعتبارها موطن البيت الحرام ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن استثناءها من حكم مقرر في القرآن يجب أن يكون بنص صريح، ولا نجد مثل هذا النص، بل إننا لا نجد أية إشارة – ولو تلميحا – من كلام الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو أحد صحابته، تدل على مثل هذا الاستثناء، وكل ما نجده هو الحوار الذي دار بين الرسول وأهل مكة بعد فتحها، إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «)لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف)» [8]. ثم لم يغنم شيئا من أموالهم أو أرضهم، بالرغم من أنه أمر بقتل بعض المشركين، ولو كانوا متعلقين بستور الكعبة.

وإلى جانب اعتبار حرمة مكة، فهناك اعتبار آخر يقابله، هو أن كثيرا من المهاجرين تركوا أموالهم أو ما يقابلها إليهم – لكن الرسول لم يقسم أرض مكة.

ونضيف إلى هذا أمرين مهمين، نلاحظهما عند إثارة تقسيم الأرض المفتوحة في خلافة عمر رضي الله عنه، وهما:

1. أن قادة الجيوش الإسلامية التي فتحت أرض العراق والشام ومصر، رفضوا تقسيمها بعد القتال، حتى يستشيروا الخليفة بالمدينة، وهذا يدلنا بوضوح على أن تطبيق حكم الغنيمة كما في سورة الأنفال على الأرض المفتوحة بالذات، لم يكن أمرا مقررا أو تشريعا ثابتا من أيام الرسول – صلى الله عليه وسلم – بنص القرآن وسنته العملية؛ إذ كيف يتصور أن أبا عبيدة بن الجراح، ذلك المسلم الزاهد الذي سماه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمين هذه الأمة، يتردد لحظة واحدة في أن يطبق حكما مقررا، شرعه القرآن ونفذه الرسول في حياته؟

لقد كان قواد الجيوش يقسمون الأموال والمنقولات التي يغنمونها في القتال، دون أن يحتاجوا في ذلك إلى أمر خاص من الخليفة، أو مستشاريه في المدينة، لكنهم توقفوا في الأرض المفتوحة بالذات، وكتبوا إلى الخليفة – وقد كانوا من كبار الصحابة وأعلم الناس بتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم – فدل هذا على أن دخول الأرض المفتوحة بعد قتال في مفهوم “الغنيمة”، كما هو في سورة الأنفال، لم يكن أمرا مقررا أو تشريعا ثابتا لا يتردد أحد في تنفيذه، ولا يسأل الناس آراءهم فيه، وحين طبق القادة ومعهم المسلمون حكم الغنيمة على الأموال المنقولة من ذهب وفضة وجوهر ومتاع وسلاح، دون أن يراجعوا أحدا في ذلك؛ فإنما حدث ذلك لأن هذه الأموال كانت داخلة في مفهوم “الغنيمة”، وكان هذا أمرا واضحا ومقررا من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تصرفاته في الأموال التي نالها المسلمون بعد قتال، أما الأرض المفتوحة فلم يكن الأمر فيها بمثل هذا الوضوح، بل كان أمرا يكتنفه كثير من الإبهام والغموض؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قسم أرض بني قريظة، وترك أرض مكة، وأقر أهل خيبر وأهل وادي القرى على أن لهم نصف الثمار، وذلك بعد أن نقل أصل ملكيتها إلى المحاربين. وكلها فتحت بعد قتال. ومن هنا لم يكن أمام قادة الجيش إلا أن يتوقفوا لسؤال الخليفة ومستشاريه من كبار الصحابة.

2. أن حكم الأرض المفتوحة لم يكن أمام كبار الصحابة في المدينة بأكثر وضوحا مما كان عليه عند قواد الجيوش، لأننا لا نتصور أن المدينة وقد كان فيها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وكبار المهاجرين والأنصار – رضي الله عنهم – تختلف على نفسها في حكم شرعه القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن حكم القرآن وعمل الرسول – صل الله عليه وسلم – يكفيان لقطع كل نزاع أو رأي.

ومن هنا نقول: إن دخول الأرض المفتوحة في مفهوم الغنيمة كما شرعت في سورة الأنفال، لم يكن أمرا مقررا، أو تشريعا ثابتا، حتى زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وإلا ما اختلف فيه أحد، أو سمعت فيه كلمة لأحد بعد كلمة القرآن وكلمة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر حدث فيه نزاع وخلاف ومناقشات طويلة وانقسام في الرأي، فعبد الرحمن بن عوف ومن تابعه من المسلمين – مثل الزبير وبلال – كانوا يرون قسمة الأرض، وعثمان وعلي وطلحة وابن عمر ومن تابعهم كانوا يرون ألا تقسم بين الفاتحين، ودارت المناقشات الطويلة التي سجلتها كتب الأموال والتاريخ، والتي أخذنا صورة منها، فهل يمكن أن نتصور – بعد كل هذا الخلاف بين المحاربين وقوادهم، ثم بين كبار الصحابة في المدينة – أن الأرض المفتوحة كان فيها تشريع معين جاء به القرآن والتزم به الرسول صلى الله عليه وسلم؟

هل يمكن أن نتصور أن أحدا يخالف في وجوب الزكاة، أو مقدارها، أو ينكر آية من القرآن، أو حكما من أحكامه، أو حكما أمضاه النبي – صلى الله عليه وسلم – والتزم به في حياته، ثم تسمع لهذا المخالف كلمة؟ إن النظرة البديهية تنكر أن يقع مثل هذا في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. أما وقد وقع الخلاف الطويل في الأرض المفتوحة عنوة، فليس في استطاعتنا أن نسلم بأن دخولها تحت مفهوم الغنيمة – بتقسيم أربعة أخماسها بين الفاتحين – كان أمرا مقررا أو تشريعا ثابتا لا يجادل فيه أحد.

لكننا – من ناحية أخرى – لن نستطيع أن نسلم بعكس هذا فنقول: إن عدم دخول الأرض المفتوحة في مفهوم الغنيمة كان أمرا مقررا، وإلا لما حدث خلاف عليها، ولما طالب المقاتلون بتقسيم أربعة أخماسها عليهم، ولما وجدوا بعد ذلك من يؤيدهم في مطلبهم من كبار الصحابة. فما مصدر هذا الغموض والإبهام؟

إن الأموال المنقولة والأمتعة التي غنمها المسلمون بعد قتال، لم يكن في تطبيق حكم الغنيمة عليها خلاف؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يقسم أربعة أخماسها على المقاتلين ويصرف الخمس الباقي لنفقته ولذوي قرباه ولليتامي والمساكين وابن السبيل، كما نصت عليه آية سورة الأنفال، فعل ذلك في أموال بني قريظة وأموال خيبر وأموال وادي القرى، وفي كل الأموال التي كان الجيش الإسلامي يغنمها بعد قتال، ومن هنا كان تقسيم الأموال والمنقولات والأمتعة أمرا مقررا وتشريعا ثابتا لا يحتاج أحد إلى أن يسأل عنه أو يختلف فيه، أما الأرض فإن توقف قادة الجيوش فيها، ثم اختلاف كبار الصحابة الذين عاصروا الرسولـ صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك بالإضافة إلى تقسيم الرسول – صلى الله عليه وسلم – لبعض الأرض المفتوحة في عهده، وتوقفه عن تقسيم مكة – وكلها فتحت بعد قتال – كل هذا يدلنا بوضوح على أن أمرها لم يكن فيه تشريع موحد ثابت جاء به القرآن والتزم الرسول – صلى الله عليه وسلم – به.

وإذا سلمنا بأن السنة – وبخاصة العملية – هي التفسير الصادق لآيات القرآن وأحكامه، فإننا نستطيع أن نقول – ونحن مطمئنون -: إن مفهوم الغنيمة في سورة الأنفال: هو كل ما يغنم من أموال الذهب والفضة والجواهر والملابس، والمنقولات، وليس منه الأرض المفتوحة.

لكن ما هو حكم الأرض المفتوحة إذن؟ وهل تركها الإسلام بدون تشريع؟

وهل يمكن أن نتصور أن الإسلام يضع تشريعا للأموال والمنقولات ويترك الأرض المفتوحة دون أن يضع لها تشريعا؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في طبيعة التشريع الإسلامي؛ لأننا نستطيع أن نلمح فيه، بصفة عامة – اتجاهين رئيسيين هما:

·   أنه يضع تشريعات مفصلة منصوصا عليها بخصوصها، وهنا يجب الالتزام بهذه النصوص الخاصة ومن هذا النوع “الغنيمة”، بمعنى الأموال والمنقولات.

·   أنه لا يشرع لبعض الأمور عن طريق النص المفصل الخاص، وإنما يتركها للمسلمين أنفسهم، ليضعوا لها التشريعات المناسبة لها بحسب اجتهادهم، وتحريهم الحق والصالح العام، كل في عصره، مع التزامهم في كل ذلك بالنصوص العامة التي قررت أسسا ومبادئ ومقولات، والتزامهم إلى جانب ذلك بالقياس على النمط العقلي المستنبط من النصوص الخاصة، كما يقول ابن نجيم: إذا كان فعل الإمام مبنيا على المصلحة – أي: فيما ليس فيه نص خاص – فيما يتعلق بالأمور العامة، لم ينفذ أمره شرعا إلا إذا وافقه، أي: وافق الشرع، فإذا خالفه لم ينفذ. أي إذا خالف مقرراته وأسسه العامة؛ لأنه يتحرى المصلحة فيما ليس فيه نص خاص، فالاتجاه الثاني وإن لم يكن فيه نصوص مفصلة خاصة، إلا أن فيه نوعا من الالتزام التشريعي، يضمن عدم مخالفة الاجتهاد – الفردي أو الجماعي – لأسس التشريع ومقاصده العامة.

والاتجاه الأول يشمل الأشياء الثابتة، التي لا تتغير فيها مصالح الناس والاتجاه الثاني يشمل ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والعصور، مما ترك للناس أنفسهم في كل عصر، ليواجهوا مشكلات عصرهم ويجتهدوا فيها محاولين الاهتداء إلى الصالح العام، وفي إحالة هذه الأمور إلى الناس تشريع لها، فلم تترك إذن بغير تشريع، وبخاصة أن هذه الإحالة مقيدة بالالتزام التشريعي السابق، فإذا خالف ولي الأمر هذا الالتزام فلا حق على الناس في الطاعة، كما قال ابن نجيم.

ولهذه الإحالة الملتزمة استحق التشريع الإسلامي وصف “الملائم لكل زمان ومكان وظروف”، ومن هنا يبدو واضحا أن مفهوم التشريع الإسلامي أشمل من أن يقتصر على ما نص على حكمه صراحة فحسب، فإنه يشمل أيضا ما أحيل الحكم فيه إلى الناس وقد كان واضحا في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث معاذ المشهور، الذي أوضح فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – في عصر الرسالة – الذي كان الوحي يتوالى فيه – أنه سوف تبقى أشياء تركت بدون نص صريح لاجتهاد الناس، وإذا كانت هذه الأشياء قد وجدت في عصر الرسالة والوحي، فما أكثرها بعد ذلك، لتغير ظروف الحياة والزمان والمكان، وتغير مصالح الناس وطبائعهم، تبعا لكل هذا.

نريد أن نخلص من هذا كله إلى أن تشريع الأرض المفتوحة بعد قتال كان مما أحيل إلى الناس ليجتهدوا فيه برأيهم وعلى هذا تستقيم وقائع التاريخ، مما حدث في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، من تقسيمه الأرض المفتوحة مرة، وعدم تقسيمها مرة أخرى؟ وتركها في أيدي اليهود ليزرعوها على نصف الثمار، بعد نقل أصل ملكياتها إلى المحاربين، وقد تحرى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في كل حادثة منها مصلحة المسلمين، وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم توقف قواد الجيوش الإسلامية في تقسيم الأرض بين المقاتلين، حتى يستشيروا الخليفة ومستشاريه في المدينة، ونفهم أيضا الخلاف الكبير الذي وقع بين المسلمين – وفيهم كبار الصحابة حينذاك – الذي كان مداره الأرض، هل تقسم أم لا؟!

كان أمر الأرض المفتوحة عنوة إذن مما أحيل إلى المسلمين، ليتفقوا فيه على رأي يحقق المصلحة العامة، ومن هنا ناقشهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حتى اتفقوا على أن المصلحة العامة إنما يحققها العمل برأيه[9].

ثالثا. المصالح والمنافع العائدة على المسلمين وغير المسلمين في عدم تقسيم أراضي الخراج:

لبيان هذه المصالح العامة للمسلمين وغيرالمسلمين من أصحاب هذه الأراضي المفتوحة نعرض لرأي د. علي محمد محمد الصلابي في هذا الصنيع، حيث يقول: “هناك جملة من المصالح الأمنية التي استند إليها الخليفة – والذين وافقوه على رأيه – في اتخاذ هذا القرار يمكنني تصنيفها إلى صنفين:

·   المصالح الداخلية: وأهمها سد الطرق على الخلاف والقتال بين المسلمين، وضمان توافر مصادر ثابتة لمعايش البلاد والعباد، وتوفير الحاجات المادية اللازمة للأجيال اللاحقة من المسلمين.

·   المصالح الخارجية: والتي يتمثل أهمها في توفير ما يسد ثغور المسلمين، ويسد حاجتها من الرجال والمؤن، والقدرة على تجهيز الجيوش، بما يستلزمه ذلك من كفالة الرواتب، وإدرار العطاء، وتمويل الإنفاق على العتاد والسلاح، وترك بعض الأطراف؛ لتتولى مهام الدفاع عن حدود الدولة وأراضيها اعتمادا على ما لديها من خراج.

والذي يجب ملاحظته في هذه المصالح أن الخليفة أراد أن يضع بقراره دعائم ثابتة لأمن المجتمع السياسي ليس في عصره فقط، بل وفيما يليه من عصور بعده، وعباراته من مثل: “فكيف بمن يأتي من المسلمين”، و”كرهت أن يترك المسلمون”، التي توحي بنظرته المستقبلية لهذا الأمن الشامل تشهد على ذلك، وقد أثبت تطور الأحداث السياسية في عصر الخليفة الثاني صواب ما قرره وصدقه.

إن تعدد أطوار اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي قد أكد أمرين:

أولهما: أن بعض القرارات المهمة التي تمس المصالح الجوهرية للمسلمين قد تأخذ من الجهد والوقت الكثير، كما أنها قد تتطلب قدرا من الأناة في تبادل الحجج والبراهين، دون أن يتيح ذلك مجالا للخلاف وتعميق هوة الانقسام أحيانا، أو يفوت بابا من أبواب تحقيق بعض المصالح الخاصة بأمن الأمة في حاضرها ومستقبلها.

والأمر الثاني: أن بعض القرارات المهمة التي قد تخرج بعد عسر النقاش والحوار، والبداية المتعثرة لها، يفرض على الحاكم الشرعي أن يكون أول المسلمين وآخرهم جهدا في السعي إلى تضييق هوة الخلاف، والتقريب بين وجهات النظر المتعارضة لكي يصل بالمسلمين إلى الحكم الشرعي فيما هو متنازع بشأنه.

إن تبادل الرأي والاجتهاد بين الخليفة والصحابة الذين لم يوافقوه على رأيه، واستناد الكل في ذلك إلى النصوص المنزلة في الاجتهاد يثبت أن الفيصل في إبداء الآراء في القرارات السياسية عامة والتي تمس مصالح المسلمين بصفة مباشرة خاصة، هو أن تجيء هذه الآراء مستندة إلى النصوص المنزلة، أو ما ينبغي أن يتفرع عنها من مصادر أخرى لا تخرج عن أحكامها في محتواها ومبرراتها.

إن لجوء الخليفة إلى استشارة أهل السابقة من كبار الصحابة العلماء في فقه الأحكام ومصادر الشرع، واستجابتهم بإخلاص النصح له، ليؤكد أن أهل الشورى لهم مواصفات خاصة تميزهم، فالذين يستشارون هم أهل الفقه والفهم والورع والدراية، الواعون لدورهم، إنهم بعبارة أدق الذين لا إمعية في آرائهم، ومن دأبهم توطين أنفسهم على قول الحق وفعله، غير خائفين في ذلك لومة لائم من حاكم أو غيره.

ثم يبقى القول أن ما حدث بصدور قرار عدم تقسيم الأراضي، يظل نموذجا عاليا سار عليه الصحابة في كيفية التعامل وفق آداب الحوار وأخلاقيات مناقشة القضايا، وتقليب أوجهها المختلفة، ابتداء بمرحلة التفكير في اتخاذ القرار بعدم تقسيم الأراضي – بصفة مباشرة، أو غير مباشرة – وعلى رأسهم الخليفة الذي لم يخرج عن هذه الآداب، رغم اختلاف اجتهاداتهم بشأنه؛ بل إن الفاروق – رضي الله عنه – بين بأن الحاكم مجرد فرد في هيئة الشورى، وأعلن الثقة في مجلس شورى الأمة، خالفته أو وافقته والرد إلى كتاب الله، فقد قال رضي الله عنه: إني واحد منكم كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ومعكم من الله كتاب ينطق بالحق.

أهم الآثار الدعوية لهذا القرار:

1.  القضاء نهائيا على نظام الإقطاع:

فقد ألغى عمر – رضي الله عنه – كل الأوضاع الإقطاعية الظالمة التي احتكرت كل الأرض لصالحها واستعبدت الفلاحين لزراعتها مجانا، فقد ترك عمر – رضي الله عنه – أرض السواد في أيدي فلاحيها يزرعونها مقابل خراج عادل يطيقونه يدفعونه كل عام، وقد اغتبط الفلاحون بقرار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بتمليكهم الأرض ال زراعية يزرعونها مقابل دفع الخراج الذي يستطيعونه مما جعلهم يشعرون لأول مرة في حياتهم أنهم أصحاب الأرض الزراعية، وليسوا ملكا للإقطاعيين من الطبقة الحاكمة، وكان الفلاحون مجرد أجراء يزرعونها بدون مقابل، وكان تعبهم وكدهم يذهب إلى جيوب الطبقة الإقطاعية طبقة ملاك الأرض ولا يتركون لهم إلا الفتات.

2.  قطع الطريق على دعوة جيوش الروم والفرس بعد طردهم:

لقد أدت سياسة عمر – رضي الله عنه – في تمليك الأرض المفتوحة عنوة لفلاحي الأمصار إلى شعورهم بالرضا التام، وهذا مما جعلهم يبغضون حكامهم من الفرس والروم، ولا يقدمون لهم أية مساعدات؛ بل كانوا على العكس من ذلك يقدمون المساعدات للمسلمين ضدهم، حتى إن رستم القائد الفارسي دعا أهل الحيرة فقال: يا أعداء الله، فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا، وكنتم عيونا لهم علينا وقويتموهم بالأموال!

3.  مسارعة أهل الأمصار المفتوحة إلى الدخول في الإسلام:

فقد ترتب على ما تقدم من تمليك الأرض للفلاحين أن سارعوا إلى الدخول في الإسلام، الذي انتشر بينهم بسرعة مدهشة لم يسبق لها مثيل، فقد لمسوا العدل وتبين لهم الحق، وأحسوا بكرامتهم الإنسانية من معاملة المسلمين لهم.

4.  تدبير الأموال لحماية الثغور:

فقد امتدت الدولة الإسلامية صوب جهاتها الأربع وانتقلت أسماء الثغور إلى ما وراء حدود الدولة في عصورها الأولى ومن أهم هذه الثغور، ما كان يعرف بالثغور الفراتية والتي تمتد على طول خط استراتيجي يفصل ما بين الدولة الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية.

وقد اتخذ عمر – رضي الله عنه – في كل مصر – على قدره – خيولا، وقد وصلت قوات الفرسان المرابطين في الأمصار إلى أكثر من ثلاثين ألف فارس، وهذا بخلاف قوات المشاة وأي قوات أخرى كالجمالة وخلافه وهذه خصصها عمر – رضي الله عنه – كجيش منظم لحماية ثغور المسلمين، وكفل أرزاقهم وصرفهم عن الاشتغال بأي شيء إلا بالجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فكان الخراج من الأسباب التي ساقها المولى – عزوجل – لتجهيز هذه القوات وكفالة أرزاق أجنادها.

إن الفاروق – رضي الله عنه – وضع قواعد نظام الخراج باعتباره موردا من الموارد المالية الهامة لخزينة الدولة، وكان يهدف من ورائه إلى أن يكون بيت المال قائما بما يجب عليه من تحقيق المصالح العامة للأمة وحفظ ثغورها وتأمين طرقها، ولا يتأتى ذلك إلا بإبقاء أصحاب الأرض التي تملكها المسلمون عنوة لقاء نسبة معينة مما تنتجه الأرض، وهذا أمر من شأنه أن يزيدهم حماسا في العمل ورغبة في الاستغلال والاستثمار، ومقارنة ذلك بما كانوا يرهقون به من الضرائب من طرف أولياء أمورهم قبل وصول المسلمين[10].

مما سبق يتضح أن المصالح التي راعاها أمير المؤمنين – رضي الله عنه – مست المصالح الأمنية والمصالح الاقتصادية، وسعت إلى استقرار المسلمين في البلاد المفتوحة، وإقرار أعين أهل البلاد المفتوحة بأرضهم ووضع حد لنظام الإقطاع الرومي، وعمر – رضي الله عنه – في قراره هذا لم يخالف أبدا تشريع الإسلام.

الخلاصة:

·   رفض عمر – رضي الله عنه – ومن معه من مجلس شورى المسلمين تقسيم الأراضي المفتوحة على المسلمين وموافقتهم تمليكها لأهلها مع دفع الخراج، كان لمنع الفساد، ولعدم حرمان الأجيال القادمة حقها فيها.

·   استغل العلمانيون رفض عمر – رضي الله عنه – تقسيم الأرض المفتوحة للطعن إما في رمز من رموز الإسلام كعمر رضي الله عنه، وإما اتخاذها حجة لتعطيل النصوص وهذا فهم خاطئ، والصواب أن قسمة الأراضي المفتوحة سنة وعدم قسمتها سنة أيضا والأمر لا يوجد فيه نص واجب، وهو موكول إلى الإمام يستشير فيه المسلمين ويصير إلى ما فيه المصلحة.

·   وبهذا التوزيع العادل نرى أن الأمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة وامتداد الأزمنة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجني خلفها.

·   تشريع الأرض المفتوحة بعد قتال كان مما أحيل إلى الناس ليجتهدوا فيه برأيهم، وعلى هذا فقط تستقيم وقائع التاريخ، كما حدث في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من تقسيمه الأرض المفتوحة مرة، وعدم تقسيمها مرة أخرى وتركها في أيدي أصحابها مراعيا في كل حالة منها مصلحة المسلمين.

·   وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم توقف قواد الجيوش الإسلامية في تقسيم الأرض بين المقاتلين حتى يستشيروا الخليفة ومستشاريه في المدينة، ونفهم أن أمر الأرض المفتوحة عنوة – إذن – مما أحيل إلى المسلمين ليتفقوا فيه على رأي يحقق المصلحة العامة؛ ومن هنا ناقشهم عمر – رضي الله عنه – حتى اتفقوا على أن المصلحة العامة، إنما يحققها العمل برأيه.

·   لم يخالف عمرـ رضي الله عنه – النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي قسم أرض خيبر – المأخوذة عنوة – على المسلمين وفتح مكة عنوة ولم يقسمها؛ فعلم جواز الأمرين، وبذلك لم يكن الفاروق مخالفا للهدي النبوي في عدم تقسيمه للأراضي المفتوحة وكان سنده فيما فعل:

1.   آية الفيء في سورة الحشر.

2.   عمل النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما فتح مكة عنوة، فتركها لأهلها ولم يضع عليها خراجا.

3. قرار مجلس الشورى الذي عقده عمر – رضي الله عنه – لهذه المسألة – بعد الحوار والمجادلة – والذي أصبح سنة متبعة في كل أرض يفتحها المسلمون حيث يقرون أهلها عليها.

·   عدم تقسيم الأراضي المفتوحة على المسلمين، وتمليكها لأصحابها الأصليين أدى إلى مسارعة أصحابها للدخول في الإسلام، والاقتناع بعدل الفاتحين، وقد عاد ذلك على المسلمين بالعديد من الفوائد والمصالح الداخلية والخارجية، وذلك إلى جانب تحقيق الأمن والسلام للمسلمين في هذه الأراضي المفتوحة.

(*) منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، ط1، 2002م.

[1]. الطسق: الخراج.

[2]. العمال: أهلها العاملين بها.

[3]. الببان: المعدم الذي لا شيء له.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3994)، وفي مواضع أخرى.

[5]. أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال (13385) بنحوه، وأورده يحيى بن آدم في خراجه (104).

[6]. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م، ص189 وما بعدها.

[7]. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م، ص199 وما بعدها.

[8]. حسن: أخرجه النسائي في سننه الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة الإسراء (11298)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السيرة، باب فتح مكة حرسها الله تعالى (18054)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (1/ 376).

[9]. منهج عمر في التشريع الإسلامي، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص121: 126.

[10]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، ط1، 2002م، ص341.

دعوى تعطيل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ما شرع من عقوبة لحد الزنا

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد خالف نصا تشريعيا من نصوص الشريعة الإسلامية، ودليلهم على ذلك ما ورد من روايات عن عدم إعماله لحد الزنا في بعض الحالات، ويتساءلون: ألا يعد هذا الصنيع مخالفة صريحة لنصوص الشريعة الإسلامية؟!

وجه إبطال الشبهة:

الحدود في الإسلام لا تقام حتى تنطبق عليها قاعدتان:

الأولى: استيفاء شروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط وتلك الموانع هي:

o       العلم المنافي للجهل.

o       الاختيار المنافي للإكراه.

o       العمد المنافي للخطأ والسهو والنسيان وغيرها.

الثانية: درء الحدود بالشبهات وإسقاط عمر – رضي الله عنه – لحد الزنا في حالات محددة لم تخرج عن هذه القواعد الشرعية، وهي:

o       استكراه المرأة على الزنا.

o       جهالة الزاني بالحكم.

o       زواج المرأة في عدتها جهلا بالحرمة.

التفصيل:

إن الوقائع التي أسقط فيها عمر – رضي الله عنه – حد الزنا كان لها ما يبررها شرعا؛ حيث لم يستوف الحد في تلك الوقائع كل شروط إقامته على من وقع فيه، ولم تنتف عنه كل الموانع التي تمنع من إقامته على مرتكبه؛ لذا وجب إسقاط الحد عن مرتكبه في هذه الوقائع بعينها؛ عملا بقاعدة درء الحدود بالشبهات، ولم يتجاوز عمر – رضي الله عنه – ذلك أو يخرج عنه، وهذا يدل على فهمه العميق لروح الشريعة ومقاصدها وسيره مع الحق حيثما كان، فلم تسول له شدته في الحق وغيرته على محارم الله أن تنتهك أن يعاقب الناس وقد أوجد لهم الشرع الحنيف مخرجا، فلقد كان وقافا عند الحق لا تأخذه في الله لومة لائم وهذا هو سر عظمة هذا الرجل، ويجدر بنا أن نستعرض ما كتبه د. محمد بلتاجي حول هذه القضية؛ حيث يقول: روي أن عمر – رضي الله عنه – حذرالمسلمين من أن يتركوا حد الرجم؛ لأنهم لا يجدونه في القرآن، وأوضح أنه قد ثبت بالسنة وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم:

وأما عن الحالات التي أسقط الحد عنها:

فقد روي عن النزال بن سبرة قال: «بينما نحن بمنى مع عمرـ رضي الله عنه – إذا امرأة ضخمة على حمارة تبكي، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحمة عليها، وهم يقولون لها: زنيت.. زنيت، فلما انتهت إلى عمر رضي الله عنه، قال: ما يبكيك؟ إن المرأة ربما استكرهت، فقالت: كنت امرأة ثقيلة الرأس، وكان الله يرزقني من صلاة الليل، فصليت ليلة ثم نمت، فوالله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني، ثم نظرت إليه مقفيا ما أدري من هو من خلق الله. فقال عمر رضي الله عنه: لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار. ثم كتب إلى أمراء الأمصار: ألا تقتل نفس دونه؛ أي دون الإكراه»[1].

ويروى«أن عمر – رضي الله عنه – أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستسقت، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، ففعلت. فشاور الناس في رجمها؛ فقال علي رضي الله عنه: هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها، فخلى عمر – رضي الله عنه – سبيلها»[2].

ويروى إيضا أن عبدا كان يقوم على رقيق الخمس، وأنه استكره جارية من ذلك الرقيق فوقع بها، فجلده عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ونفاه، ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها[3].

ومن مجموع هذه الوقائع التي أسقط فيها عمر – رضي الله عنه – حد الزنا، نرى أن ذلك كان بسبب الإكراه: سواء كان بانتهاز غفلة النوم كما في قصة المرأة التي كانت تبكي بمنى، أو باستعمال القوة كما في قصة العبد الذي أكره الأمة على الزنا أو كان الإكراه نفسيا لا جسديا، عن طريق استغلال الاضطرار الشديد والحاجة إلى ما يحفظ الحياة كما في قصة المرأة التي جهدها العطش مع الراعي.

وعمر – رضي الله عنه – في إسقاط حد الزنا في هذه الأحوال إنما يصدر عن روح التشريع المتمثلة في النصوص؛ حيث يقول الله – عزوجل – في الآية التي استشهد بها على: )فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه( (البقرة: ١٧٣)، وإذا كان الله قد غفر للمكره أن ينطق بكلمة الكفر؛ فإن هذا ينسحب بالأولى على أي شيء آخر.

ويؤكد هذا قول القرطبي في تفسير آية: )من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان( (النحل: 106): “لما سمح الله – عزوجل – بالكفر به عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها. فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[4].

وقال ابن القيم: “والعمل عند أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم أنه ليس على المكره حد”. وكيف يكون عليه الحد ولم يبغ ولم يتعد، وإنما وقع عليه البغي والظلم والتعدي؟ ولهذا كتب عمر – رضي الله عنه – إلى أمراء الأمصار ألا تقتل نفس دون الإكراه، كما كان يرى أن إقامة الحد على المكره تستوجب عذاب الله.

أما تلقين عمر – رضي الله عنه – للمرأة المستكرهة، فإنه كان يتبع السنة في هذا، حين قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – لماعز لما جاءه معترفا بالزنا:«لعلك قبلت، لعلك غمزت، لعلك نظرت، أبك جنون؟ وهو يقر على نفسه بالزنا في كل مرة، فيعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأله: “هل أحصنت”؟ ثم يسأل عنه: “هل تعلمون بعقله بأسا؟ هل تنكرون منه شيئا”؟ ولما أصابته الحجارة أدبر يشتد، وحاول أن يفر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “هلا تركتموه»[5]. كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – للسارق الذي أتي به إليه وقد سرق شملة[6]: «ما إخاله سرق»[7].

وفي هذا دليل على حقيقة موقف التشريع الإسلامي من الحدود، وحصر العمل بها في أضيق نطاق، وقد بلغ الأمر بعمر – رضي الله عنه – أن قال: «اطردوا المعترفين»[8]. أي: المعترفون بالحدود الذين لم تقم عليهم أدلة أخرى غير اعترافهم.

وكان في هذا أيضا متبعا للرسول – صلى الله عليه وسلم – حين أعرض عن ماعز لما جاءه معترفا. وأعرض عن الرجل الآخر الذي جاءه في المسجد يقول: «أصبت حدا فأقمه علي، فلم يسأله النبي – صلى الله عليه وسلم – عنه حتى حضرت الصلاة، فقام إليه الرجل فكرر كلامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أليس قد صليت معنا”؟ قال: نعم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “فإن الله قد غفر لك ذنبك”، أو قال: حدك»[9].

والتشريع يراعي في هذا الفرق الكبير بين التائب النادم المعترف باختياره حيث لا دليل عليه سوى اعترافه، وبين الآخر الذي فضح نفسه إلى حد أن يراه – في حالة التلبس – أربعة شهود عدول. وقد روى أبو يوسف أن عمر – رضي الله عنه – قال لامرأة أقرت على نفسها بالزنا أربع مرات: إن رجعت لم نقم عليك الحد.

وروى ابن الجوزي أن رجلا ضاف أناسا من هذيل، فخرجت لهم جارية، واتبعها ذلك الرجل فراودها عن نفسها، وأراد إكراهها فتصارعا على الرمال، فرمته بحجر قتله. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: ذلك قتيل الله لا يودى أبدا.

نريد أن نخلص من هذا كله إلى أن عمرـ رضي الله عنه – كان يتبع نصوص التشريع وروحه، فيما يتصل بإسقاط حد الزنا، ويمكن أن نقول بإيجاز: إن موقفه في ذلك يتلخص في أنه كان يمتنع عن تطبيق هذه العقوبة ما وجد إلى ذلك سبيلا مما أقره الشرع ويبين هذا ما روي من أن عمر – رضي الله عنه – أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره علي بن أبي طالب بقوله عزوجل: )وحمله وفصاله ثلاثون شهرا( (الأحقاف: ١٥)، مع قوله عزوجل: )والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( (البقرة: 233)، فرجع عن الأمر برجمها، أي إنه لما كانت العادة ألا تلد المرأة لستة أشهر فقد ظهرت لعمر قرينة اعتبرها كافية للحكم بالزنا قبل الزواج؛ تطبيقا لقوله: “وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف”، لكن عليا تدارك الأمر قبل تنفيذه، فذكر لعمرـ رضي الله عنه – آيتين من كتاب الله، وفسرهما مجتمعتين بحيث يفهم منهما أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر يحول دون القطع بوقوع الزنا.

كما يروي السرخسي أنه قد: “اختلف عمر وعلي – رضي الله عنهما – في المعتدة إذا تزوجت – قبل انقضاء عدتها – بزوج آخر، ودخل بها الزوج، فقال علي رضي الله عنه: المهر لها. وقال عمر رضي الله عنه: لبيت المال، ويعلق السرخسي على هذا بقوله: “وهذا اتفاق منهما على سقوط الحد”.

وتفصيل هذه الحادثة يذكره الجصاص حيث يروي أن عمر – رضي الله عنه – بلغه “أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما، وقال: لا ينكحها أبدا وجعل الصداق في بيت المال”.

وفشا ذلك بين الناس فبلغ علي بن أبي طالب رضي اللع عنه، فقال: رحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال؟ إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة، فقيل: فما تقول أنت؟ قال: لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا حد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تكمل العدة من الآخر، ثم يكون خاطبا.

فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: “يا أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة”، فرجع عمر – رضي الله عنه – إلى قول علي رضي الله عنه، فاتفق عمر وعلي – رضي الله عنهما – على قول واحد؛ ولهذا يقول الجصاص: “واتفق علي وعمر – رضي الله عنهما – في المتزوجة في العدة أنه لا حد عليها، ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك”.

وقال أبو يوسف: “ومن رفع إليك وقد تزوج امرأة في عدتها فلا حد عليه، لما جاء في ذلك عن عمر وعلي – رضي الله عنهما – فإنهما لم يريا في ذلك حدا”.

فأما رجوع عمر – رضي الله عنه – عن رأيه إلى ما رآه حقا من رأى علي رضي الله عنه، وتسميته رأيه الأول “جهالة” – وهو أمير المؤمنين – وقد كان مجتهدا يتحرى الصواب، فليس هذا بالموقف الوحيد الذي يدل على مبلغ ما كان له من العظمة النفسية، وقوة العقيدة، وشجاعة الرأي وإنما هو موقف يضاف إلى مواقف عديدة.

وأما اتفاق عمر وعلي – رضي الله عنهما – والإجماع السكوتي من باقي الصحابة على أنه لا حد عليهما، لأن شبهة العقد هنا تمنع الحد، وربما قد أخطأت المرأة في حساب مدة العدة، وربما لم يعلم الرجل بعدم انتهاء عدتها. وقد قال علي رضي الله عنه: إنهما جهلا، فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة.

وعلى أية حال فإن صورة العقد مهما كان وصفه – بما يتضمنه من مهر وغيره – شبهة تدرأ حد الزنا. وقد أدرك عمر – رضي الله عنه – هذا من أول الأمر غير أنه رأى أن يعاقبهما على إقدامهما على الزواج في العدة بنوع من أنواع التعزير، حتى لايتكرر هذا العمل من أحد من الناس؛ ففرق بينهما، وقال: لا ينكحها أبدا. وهو يعلم أن كلا منهما كان راغبا في الآخر أشد الرغبة، بدليل تعجيل الزواج. وهذه عقوبة مشتركة بينهما؛ لأنه كان يجب عليها أن تحسب عدتها وتنتظر نهايتها، وكان على الرجل – أيضا – أن يتحرى مدة عدتها وهو يعلم أنه يتزوج امرأة تزوجت قبله.

ولما خص عمر – رضي الله عنه – المرأة بعقاب خاص: هو جعل الصداق في بيت المال – وكان قد بني هذا على أنها أكثر مسئولية من الرجل في أمر عدتها – لم يلبث أن رجع عنه عندما أعلم برأي علي – رضي الله عنه – فاستحسنه؛ لأنه وجده قد روعي فيه ترتيب النتائج بحسب الوقائع المتقدمة، أكثر مما روعي فيه التشديد في العقاب. وربما رأى عمر – رضي الله عنه – أن التعزير بما رآه أولا كان قد أدى مهمته في الزجر والعقاب حين قال علي – رضي الله عنه – رأيه، فرجع إليه، وهو في هذا كله يتحرى مصالح الناس[10].

وعليه؛ فإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي عرف بشدته في دينه، ولم يعرف يوما بتساهله: ما أسقط حد الزنا أبدا، وإنما أسقطه عن حالات محددة تورعا عن أخذ من لا يستحق العقوبة بما فوق حقه، مما لا يدع مجالا لاتهامه بتعطيل حكم من أحكام الله.

الخلاصة:

كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في حكمه بإيقاف حد الزنا متبعا للنصوص الشرعية غير مخالف لها؛ حيث إن الشرع يرفع القلم عن المكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد رفع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حد الزنا عن المكره على الزنا.
إن مواقف عمر – رضي الله عنه – في تطبيق الحدود تدل على عظمة هذا الدين وقوة تأثيره في النفوس، تجعل من عمر الشديد بطبعه، القوى في الحق رحيما بأمته، فيمتنع عن تطبيق العقوبة ما وجد إلى ذلك سبيلا مما أقره الشرع.
إن عمر – رضي الله عنه – في درئه لبعض الحدود لم يكن يفعل ذلك من تلقاء نفسه مستبدا برأيه، فهو بالإضافة إلى كونه مستنيرا بروح الشريعة ومقاصدها إلا أنه لم يمض ذلك بمفرده، إنما كان بمشورة الصحابة وموافقتهم وإجماعهم على ذلك معه، بل كان يرجع عن رأيه إلى غيره إذا رآه أصوب كما في قصة المرأة التي تزوجت في عدتها.
تتجلى روائع الإيمان في ورع عمر – رضي الله عنه – ووقوفه عند الحق؛ إذ رجع عن رأيه إلى ما رآه حقا من رأى على، وتسميته رأيه الأول “جهالة” وهو أمير المؤمنين، وقد كان مجتهدا يتحرى الصواب، وليس هذا بالموقف الوحيد الذي يدل على مبلغ ما كان له من العظمة النفسية وقوة العقيدة وشجاعة الرأي، وإنما هو موقف يضاف إلى مواقف عديدة تؤكد هذه العظمة.

(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.

[1]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الحدود، باب في درء الحدود بالشبهات (28501)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة (17503) بنحوه، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2362).

[2]. صحيح: أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة (17506)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2313).

[3]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب الاستكراه في الزنا (701)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة (17505)، وصححه الألباني في المشكاة (3580).

[4]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب ما قالوا في الرجل يحلف على الشيء بالطلاق فينسى فيفعله أو العتاق (19051)، وعبد الرزاق في مصنفه، كتاب الطلاق، باب طلاق الكره (11416) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1662).

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث هزال رضي الله عنه (21942)، وفي مواضع أخرى، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4421)، وصححه الألباني في المشكاة (3565).

[6]. الشملة: كساء يغطى به الجسم.

[7]. صحيح: أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الحدود والديات (3/ 72)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السرقة، باب السارق يسرق أولا فتقطع يده اليمنى من مفصل الكف ثم تحسم بالنار (17715)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2431).

[8]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الحدود، باب في درء الحدود بالشبهات (28499)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السرقة، باب ما جاء في الإقرار بالسرقة والرجوع عنه (17056).

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه (6437)، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قوله تعالى: ) إن الحسنات يذهبن السيئات ( (هود: ١١٤) (7182)، وفي مواضع أخرى.

[10]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص224: 232.

دعوى مخالفة عمر بن الخطاب لنصوص التشريع حيث طبق حكم الغنيمة على حكم سلب القتيل

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغالطين أن عمر – رضي الله عنه – خالف نصا من نصوص السنة، ودليلهم على ذلك تطبيقه لحكم الغنيمة على سلب القتيل، ولم يكن هذا دأب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»[1]. وقد روي أن الزبير بن العوام بارز رجلا فقتله، فأعطاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – سلبه، أما عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فلم يعط البراء سلبه، بل قال: «إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خامسه»[2]، فكان أول سلب خمس في الإسلام، ويتساءلون: ألم يخالف عمر بذلك نصا من نصوص السنة الصريحة؟!

وجها إبطال الشبهة:

1)  حكم السلب ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، سواء نص عليه الإمام أو لم ينص، وقد يخمس وقد لا يخمس.

2) تخميس عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – للسلب عندما بلغ مالا كثيرا، تحقيق للمصلحة العامة التي تقدم على المصلحة الخاصة تلقائيا، ولخوف عمر من تحول نية القتال عند المسلمين من الجهاد إلى البحث عن المال.

التفصيل:

أولا. حكم السلب ثابت بالدعوى مخالفة عمر بن الخطاب لنصوص التشريع حيث طبق حكم الغنيمة على حكم سلب القتيلكتاب والسنة والإجماع، سواء نص عليه الإمام أو لم ينص:

السلب لغة: ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه، مما يكون عليه ومعه من ثياب وسلاح ودابة، وهو بمعنى مفعول أي: مسلوب. ويقال: أخذ سلب القتيل وأسلاب القتلى. والمصدر السلب ومعناه: الانتزاع قهرا. ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي[3].

وأما عن حجيته، وحكم تخميسه:

فقد ذهب جمهور الفقهاء وهم: الشافعية، والحنابلة، والأوزاعي، والليث وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، إلى أن المسلم إذا قتل أحدا من المشركين في المعركة مقبلا على القتال فله سلبه، قال ذلك الإمام أو لم يقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل كافرا فله سلبه»[4]، ولقول سعد بن أبي وقاص لما خلا يدعو الله هو وعبد الله بن جحش يوم أحد:«يا رب، إذا لقينا القوم غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده فأقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه»[5].
وذهب الحنفية إلى أن القاتل لا يستحق السلب، إلا إذا اشترط له الإمام ذلك كأن يقول قبل إحراز الغنيمة، وقبل أن تضع الحرب أوزارها: من قتل قتيلا فله سلبه. وإلا كان السلب من جملة الغنيمة بين الغانمين.
وقال الطحاوي من الحنفية: أمر السلب موكول للإمام، فيرى فيه رأيه، لما روي عوف بن مالك – رضي الله عنه – «أن مدديا[6] اتبعهم فقتل علجا[7]، فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تعطه يا خالد»[8].

ولما ورد في قصة قتل أبي جهل، حيث أعطي سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح مع قوله صلى الله عليه وسلم: «كلاكما قتله»[9] [10].

وعلى هذا فعمر – رضي الله عليه وسلم – لم يخالف الرسول؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – في حديث خالد قال: “لا تعطه يا خالد”، كما أنه – صلى الله عليه وسلم – أعطى سلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح مع قوله صلى الله عليه وسلم: “كلاكما قتله”، ويتضح من هذا وذاك أن للإمام الحق في اشتراط السلب للقاتل أو منعه؛ وعلى هذا فلعمر – رضي الله عنه – الحق في منع السلب أو إعطائه، فلماذا يدعي المدعون ادعاءهم الباطل أن عمر – رضي الله عنه – خالف نصا من نصوص السنة؟!

وقال المالكية: وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو بكر من الحنابلة، إن القاتل لا يستحق السلب إلا أن يقول له الإمام ذلك، ولا يجوز أن يقول الإمام ذلك، إلا بعد انقضاء الحرب، حتى لا يشوش نيته، ولا يصرفها لقتال الدنيا، لأن السلب عندهم من جملة النفل؛ فيعطيه الإمام للمصلحة حسب اجتهاده، واستدلوا بحديث عوف بن مالك المتقدم.
وكما روي عن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته، وأخذت سلبه، فأتيت به سعدا، فخطب سعد أصحابه وقال: إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفا، وإنا قد نفلناه إياه[11].

هل يخمس السلب؟

اختلف الفقهاء في تخميس السلب؛ فذهب بعضهم إلى أن السلب لا يخمس؛ لما رواه عوف بن مالك وخالد بن الوليد: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب»[12]، ولقول عمر رضي الله عليه وسلم:«”إنا كنا لا نخمس السلب..»[13].

 وذهب آخرون إلى أن السلب يخمس؛ لعموم قوله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)( (الأنفال)، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وقال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب خمسه وذلك إليه.

وأما الحنفية والمالكية فيرون أن سلب المقتول كسائر الغنيمة، لا يختص به القاتل، وأن القاتل وغيره فيه سواء، وينفله الإمام. ومحل التنفيل عند الحنفية أربعة الأخماس قبل الإحراز بدار الإسلام، ومن الخمس بعد الإحراز بدار الإسلام، وعند المالكية يكون من الخمس ينفله الإمام للمقاتل إن رأى مصلحة في ذلك[14].

فدل ذلك على أن ما فعله عمر – رضي الله عنه – لم يكن مخالفا للقرآن أو السنة؛ حيث إن تخميس السلب هو رأي من آراء العلماء كما نصت الآية على ذلك في قوله عزوجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول(، والسلب من الغنيمة كما قال بذلك الحنفية والمالكية، فأين المخالفة بعد كل ذلك؟!

ثانيا. المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة إذا تعارضتا:

وذلك أن الأولى تتعلق بمجموع الناس، أما الثانية فإنما تتعلق بفرد أو أفراد. وقد روي أن الزبير بن العوام بارز رجلا فقتله، فأعطاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – سلبه كله وقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه»[15]. وروي أيضا أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزأرة في قتال المسلمين مع الفرس في خلافة عمر رضي الله عنه، فصرعه وأخذ منه سوارين ويلمقأ[16] من ديباج ومنطقة فيها ذهب وجوهر، فبلغ ثمن ذلك ثمانين ألف درهم، فقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا، ولا أراني إلا خامسه، فكان أول سلب خمس في الإسلام.

إذن فقد طبق عمر – رضي الله عنه – حكم الغنيمة على السلب حين بلغ ثمنه مالا كثيرا، فهل خالف بذلك نصا من نصوص السنة؟

لقد كان عمر – رضي الله عنه – ملتزما بتنفيذ ما يراه محققا للمصلحة العامة كما كان ملتزما بنصوص السنة، ومما لا شك فيه أنه رأى تحقيق المصلحة في تطبيق حكم الغنيمة على السلب وتخميسه، حين بلغ ثمنه ثمانين ألف درهم، وفيما يتصل بنص السنة في السلب، فإنه يبدو – من عمل عمر – رضي الله عنه – وقوله – أنه كان يرى أن بعض المسائل الفرعية التي تستتبعها أحكام القتال، مما لم ينص عليه في القرآن كالسلب، كان حكمها إلى ولي الأمر ليمضي فيها ما يراه مصلحة عامة.

ومن ثم رأى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يعطي السلب للمقاتل وحده، حين كانت قيمته شيئا يسيرا، لا يؤثر في قيمة الغنيمة كمجموع يقسم أربعة أخماسه على جميع المقاتلين. أما وقد بلغ سلب البراء وحده ثمانين ألفا، فقد رأى عمر – رضي الله عنه – أنه خرج عن مفهوم السلب الذي يخص به المقاتل؛ ليدخل تحت مفهوم الغنيمة التي يقسم أربعة أخماسها بين المقاتلين جميعا، فعمر – رضي الله عنه – نظر إلى تشريع الرسول – صلى الله عليه وسلم – في السلب على أنه كان اختيارا منه فيما رآه محققا للمصلحة في عهده، أما اختيار عمر – رضي الله عنه – تخميس السلب العظيم في خلافته؛ فإنما كان ذلك اختيارا منه أيضا لما رآه مصلحة عامة، وذلك كله بناء على أن السلب من الأمور الفرعية، التي ليس فيها تشريع خالد على مر العصور، واختلاف الظروف، وإنما يختار فيها ولي الأمر ما يحقق المصلحة العامة.

وربما كان من الأسباب التي دفعت عمر – رضي الله عنه – إلى هذا أيضا خوفه أن يستشري نبأ هذا السلب العظيم القيمة بين المقاتلين، فيتعرض بعضهم لمبارزة أو قتال من يظنون أن معه مالا كثيرا، ويعرضون عن غيره؛ رجاء السلب الكبير، وقد كان عمر – رضي رالله عنه – حريصا على أن يخلص القتال لوجه الله، وفي سبيله أولا وقبل كل شئ، ولم يكن عمر – رضي الله عنه – يريد أن تتحول المطامع المادية – وهي جزء من طبيعة البشر – إلى محور للقتال وهدف أساسي فيه؛ ومن ثم رأى أن يطبق على السلب الكبير القيمة حكم الغنيمة التي لا تخص أحدا بعينه، وقد كان يصدر في هذا عن حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، قصر فيه القتال في سبيل الله على من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فقد «سئل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[17].

إذن فقد كان من حق عمر – رضي الله عنه – أن يفعل ما يراه محققا للمصلحة العامة، فيما رأى أن لولي الأمر فيه النظر والرأي، من أحكام تتغير فيها المصلحة بتغير الظروف والزمان والمكان[18].

وعليه فإن ادعاء أن عمر – رضي الله عنه – خالف التشريع، وعطل بعض أحكامه ادعاء باطل، لا أساس له من الصحة.

الخلاصة:

السلب: هو ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه، ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغوي؛ وهو موكول للإمام، يرى فيه رأيه؛ لأن السلب من جملة النفل فيعطيه الإمام للمصلحة حسب اجتهاده.
المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة إذا تعارضتا؛ وذلك أن الأولى تتعلق بمجموع الناس، أما الثانية فإنما تتعلق بفرد أو أفراد؛ ولذلك كان عمر – رضي الله عنه – ملتزما بتنفيذ ما يراه محققا للمصلحة العامة، كما كان ملتزما بنصوص السنة، ومما لا شك فيه أنه رأى تحقيق المصلحة في تطبيق حكم الغنيمة على السلب وتخميسه، فعمر – رضي الله عنه – نظر إلى تشريع الرسول – صلى الله عليه وسلم – في السلب على أنه كان اختيارا منه لما رآه محققا للمصلحة في عهده.
الأسباب التي دفعت عمر – رضي الله عنه – إلى هذا: خوفه أن يستشري نبأ هذا السلب العظيم القيمة بين المقاتلين؛ فيتعرض بعضهم لمبارزة أو قتال من يظنون أن معه مالا كثيرا، ويعرضون عن غيره؛ رجاء السلب الكبير، وقد كان عمر رضي الله عنه – حريصا على أن يخلص القتال لوجه الله عزوجل – قبل كل شيء – ولم يكن عمر – رضي الله عنه – يريد أن تتحول المطامع المادية – وهي جزء من طبيعة البشر – إلى محور للقتال وهدف أساسي فيه.

(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس (2973)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (4667).

[2]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجهاد والسير، باب السلب والمبارزة (9468)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب السير، باب من جعل السلب للقاتل (33089)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1224).

[3]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م، ج25، ص176.

[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12152)، والدارمي في سننه، كتاب السير، باب من قتل قتيلا فله سلبه (2484)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2361).

[5]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الجهاد (2409)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب السلب للقاتل (13148).

[6]. المددي: الرجل المرسل إلى الجيش.

[7]. العلج: الرجل القوي الضخم.

[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (4669).

[9]. أخرجه البخاري، كتاب الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس (2972).

[10]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م، ج25، ص177.

[11]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م، ص177.

[12]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في السلب لا يخمس (2723)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما جاء في تخميس السلب (12562)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2363).

[13]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجهاد، باب السلب والمبارزة (9468)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب السير، باب من جعل السلب للقاتل (33089)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1224).

[14]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م، ج25، ص183.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير أن يخمس (2973)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (4667).

[16]. اليلمقأ: ثياب فارسية تشبه القباء العربي.

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2655)، وفي مواضع أخرى.

[18]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص188، 189.

 الادعاء أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد عطل تشريع الزواج بالكتابيات وأوقع الطلقات الثلاث المجتمعات ثلاثا لا واحدة

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد خالف النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، ودليلهم على ذلك ما ورد من إيقافه التزوج بالكتابيات، وإنكاره على طلحة وحذيفة ذلك، في حين أن الله عزوجل، يقول: )اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( (المائدة: 5)، كما أنه أوقع الطلقات الثلاث المجتمعة في مجلس واحد ثلاثا لا واحدة، في حين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوقعها واحدة فقط، ويتساءلون: ألا يعد هذا مخالفة بينة لنصوص الكتاب والسنة؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) إباحة الإسلام زواج المسلم من الكتابية كان ترغيبا لها في الإسلام، وتقريبا بين المسلمين وأهل الكتاب، ولكن هذا معتبر بعدة قيود منها: الاستيثاق من كونها كتابية، وأن تكون عفيفة محصنة، وألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم، وألا يكون من وراء الزواج بها فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح.

2) لم يلغ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – النصوص الشرعية – الخاصة بالزواج من الكتابيات – ولم ينسخها، لكنه أوقف العمل بها فترة من الزمن، وفي حالات خاصة، تحقيقا للمصلحة العامة للمجتمع الإسلامي.

3) إيقاع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الثلاث طلقات بلفظ واحد ثلاثا، كان نوعا من التعزير والعقوبة لمن يخالف عن أمر الله وشرعه في صورة الطلاق.

التفصيل:

أولا. الأصل في إباحة زواج المسلم بالكتابية:

إن نصوص القرآن والسنة شرعت لكل الأزمنة والأمكنة، لذا كان لا بد أن تكون شاملة تسمح لكل الحالات بالدخول تحتها، كما كان لا بد أن يراعي في استنباط الأحكام منها مصلحة المجتمع المسلم، والحالات التي تؤخذ لها الفتوى، وعليه فإن الأحكام التشريعية التي ظن أن سيدنا عمر – رضي الله عنه – قد عطلها كانت تتسع لأكثر من حكم، يستنبط منها حسب حالة المجتمع والناس والزمان الذي هم فيه، وعليه أيضا فإن سيدنا عمر رضي الله عنه – كخليفة للمسلمين – لم يفعل غير الأصلح لأمة الإسلام في عصره، وهو اجتهاد يثاب عليه ولا يخطأ، ولكل أمر مما أشير إليه تفصيله.

وعن أصل إباحة الزواج بالكتابيات يحدثنا د. يوسف القرضاوي قائلا: هذا الأصل معتبر بعدة قيود يجب ألا نغفلها، وهي:

الاستيثاق من كونها “كتابية”،بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية: فهي مؤمنة – في الجملة – بالله ورسالاته والدار الآخرة، وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.

ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلا مسيحية، ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة، فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.

أن تكون عفيفة محصنة:فإن الله – عزوجل – لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال عزوجل: )والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب( (المائدة: 5)، قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: )محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان( (النساء: 2٥)، وهذا ما أختاره. فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوج من فتاة تسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات.

وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأي الجمهور، وقال: “وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشفا وسوء كيله”!

ويبين هذا ما جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلا سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب؛ وقد أكثر الله المسلمات؟! فإن كان ولا بد فاعلا؛ فليعمد إليها حصانا – أي محصنة – غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟! قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.

ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئا نادرا بل شاذا، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، ومانسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تعير من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.

ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم: ولهذا فرق جماعة من الفقهاء بين الذمية والحربية، فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية، وقد جاء هذا عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لايحل لنا، ثم قرأ قوله عزوجل: )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)( (التوبة)، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.

وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي فأعجبه. وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد.

وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد. وفي مجموع الإمام زيد عن علي رضي الله عنه: أنه كره نكاح أهل الحرب. قال الشارح في “الروض النضير”: والمراد بالكراهة: التحريم؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين. قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرموه، لعموم قوله عزوجل: )والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( (المائدة: 5)، فغلبوا الكتاب على الدار، يعني: دار الإسلام. والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.

ولا ريب أن لرأي ابن عباس – رضي الله عنهما – وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله – عزوجل – المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال عزوجل: )وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54)( (الفرقان)، فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم؟ وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم؟ فضلا عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاده منهم؟ وكيف يأمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها؟

ولا غرو أن رأينا أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس – رضي الله عنهما – محتجا له بقوله عزوجل: )لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله( (المجادلة: 22)، والزواج يوجب المودة، يقول عزوجل: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم)، قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا؛ لأن قوله عزوجل: )يوادون من حاد الله ورسوله(، إنما يقع على أهل الحرب؛ لأنهم في حد غير حدنا، يؤيد ذلك قوله عزوجل: )إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).

وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءا من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة؟

وبناء على هذا ينبغي على المسلم في عصرنا ألا يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود… وكل امرأة يهودية إنما هي جندية – بروحها – في جيش إسرائيل.

ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح:فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررا عاما، منعت منعا عاما، أو ضررا خاصا منعت منعا خاصا، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»[1].

وهذا الحديث يمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع؛ لأنه يتفق – من حيث المعنى – مع نصوص وأحكام جزئية جمة من القرآن والسنة تفيد اليقين.

ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضررا معينا.

والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة منها:

أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالبا ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعا من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال.

فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيحرمن من الزواج، ولا سيما أن تعدد الزوجات في عصرنا أصبح أمرا نادرا، ومن المقرر المعلوم بالضرورة أن المسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلما، فلا حل لهذه المعادلة إلا سد باب الزواج من غير المسلمات إذا خيف على المسلمات.

وإذا كان المسلمون في بلد ما، يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوربا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقيا، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة ألا يجد بنات المسلمين – أو عدد كبير منهن – رجلا مسلما يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاثة:

إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام.
وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة، وهذا من كبائر الإثم.
وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.

وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام، وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم[2].

هذا الضرر الذي نبهنا إليه، هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه – فبعث إلى حذيفة – بعد أن ولاه المدائن، وكثرت المسلمات -: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن، من أهل الكتاب، فطلقها. فكتب إليه حذيفة. لا أفعل حتى تخبرني، أحلال أم حرام؟ وما أردت بذلك؟

فكتب إليه عمر رضي الله عنه: لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة[3]، فإذا أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم، فقال حذيفة: الآن – أي اقتنعت – فطلقها.

وفي رواية الجصاص أن التي تزوجها حذيفة كانت يهودية، فكتب إليه عمررضي الله عنه: أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب عمر رضي الله عنه: لا، ولكني أخاف أن تواقعوا الـمومسات[4] منهن[5].

وعليه فإن زواج المسلم بالكتابية وإن كان مباحا إلا أنه مقيد بشروط لا بد من اعتبارها، وإن نهى خليفة المسلمين وإمامهم عن مباح؛ لرؤيته المصلحة في ذلك، لايعني أنه قد حرم حلالا، وإنما هو يعمل بموجب السلطة التي ولاه الله إياها، فهو مؤتمن على المجتمع الإسلامي.

ثانيا. موقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من زواج المسلم من الكتابيات:

لم يلغ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – النصوص الشرعية، ولم ينسخها، لكنه أوقف العمل بها فترة من الزمن، وفي حالات خاصة؛ تحقيقا للمصلحة العامة للمجتمع الإسلامي وهذا ما أشار إليه د. بلتاجي حين قال: “إن عمر – رضي الله عنه – كان يرى – كما رأى جمهور الصحابة، وجمهور المسلمين على مر العصور – أن نكاح الكتابية حلال؛ لكنه أمر حذيفة بتسريح يهودية المدائن؛ لأنه رأى أن العرب المقيمين في البلاد المفتوحة سوف يقبلون على الزواج من غير العربيات؛ لجمالهن، ولأن الزواج من الأجنبية – في حد ذاته – يحمل نوعا من السحر الغريب، مما يدفع كثيرا من المغتربين إلى التزوج منهن، ولو كان بين مواطنيه من تفضلها ويمكنه الزواج منها.

وهذان السببان تضمنهما قول عمر رضي الله عنه: “لكن في نساء الأعاجم خلابة”.

ولا شك أن الإقبال على التزوج من الأجنبيات فتنة كبرى للمسلمات، قد تؤدي إلى نتائج نفسية وخلقية سيئة، كما أنه لم يكن مطمئنا – كل الاطمئنان – إلى أخلاق الكتابيات اللاتي سوف يعاشرهن المسلمون، وينشأ أبناؤهم تحت رعايتهن، وعلى هذا نستطيع أن نفهم كلمة عمر رضي الله عنه: “ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن”.

لقد كان عمر – رضي الله عنه – في هذا المنع يتحرى مصلحة المجتمع الإسلامي، ولا شك في أن لولي الأمر أن يمنع من بعض المباحات، إذا رأى أن الإقدام عليها يؤدي بالمجتمع إلى مفاسد كبيرة، يجب سد الطريق أمامها، وقد رأى عمر – رضي الله عنه – أن الفساد سيشمل قطاعات كبيرة من المجتمع الإسلامي إذا أقدم المسلمون على التزوج من الكتابيات؛ ففيه فتنة المسلمات، وسكن المسلمين إلى من لا يطمئن عمر – رضي الله عنه – إلى أخلاقهن، وهن – على أية حال – ممن يحملن مفاهيم دينية تخالف مفاهيم الإسلام، ويقمن بطقوس دياناتهن بما يتضمنه من اتصالهن الدائم برجال دينهن، وكم أدت الزوجات في مثل هذه الحالة أدوارا خطيرة.

وليست الكتابية – في نهاية الأمر – ممن يعين المسلم على دينه، وهن – آنذاك – من أقوام غلبتهم الجيوش الإسلامية، وبين أحضانهن سيشب أولاد المسلمين، رجال الغد.

رأى عمر رضي الله عنه – إذن – أن التضحية ببعض الأهواء الفردية، خير من تعرض المجتمع لمثل هذه الأخطار الكبيرة، وهو هنا لم يلغ النصوص أو ينسخها، لكنه أوقف العمل بها فترة من الزمن – وفي حالات خاصة – تحقيقا للمصلحة العامة، ومن ثم يزول هذا الإيقاف بزوال ظروفه، ألا نرى أن للطبيب أن يمنع بعض الأطعمة المباحة عن مريض؛ لأن في تناولها أخطارا يضحي إلى جانبها بالرغبة في الطعام؟ لكن هذا المنع مؤقت بالأحوال الصحية، وليس فيه تحريم هذه الأطعمة على الإطلاق، أو منع منها لذاتها؟

وإلى جانب ذلك، يجب أن نلاحظ في الرواية التي أوردها الطبري عن مخاطبة عمر لحذيفة ملاحظتين:

أنه لم تكن هناك حاجة – أو ضرورة – للإقبال على التزوج من الكتابيات؛ لأن المسلمات كن قد كثرن في المدائن، وليست بلادا عربية الأصل، فمن يتزوجن إذا أقبل المسلمون على غيرهن؟
ولنقارن بين كثرة المسلمات في المدائن وما أورده الطبري بعد ذلك مباشرة عن جابر قال: شهدت القادسية مع سعد فتزوجنا نساء أهل الكتاب – ونحن لا نجد كثير مسلمات – فلما قفلنا، فمنا من طلق ومنا من أمسك، أي أن المسلمين كانوا يلجأون في دار الغربة حين تطول إلى التزوج من الكتابيات؛ لأنهم لايجدون المسلمات.

أما وقد كثر عددهن – كما تذكر الرواية – فما الحاجة إلى التزوج من غيرهن مع ما فيه مما ذكرناه؟ لماذا كتب عمر – رضي الله عنه – إلى حذيفة بالذات ليطلق زوجته؟

ذلك لأنه كان واليا لعمر – رضي الله عنه – على المدائن، ونحن نعلم أن تقليد الولاة والأمراء سنة شائعة بين الناس على اختلاف عصورهم، ومن هنا كتب عمر – رضي الله عنه – إلى واليه ليقطع الطريق أمام انتشار هذا الأمر بين جمهور المسلمين، فإلى أي حد كان عمر رضي الله عنه – وهو بالمدينة – حريصا على مصالح المسلمين وبينه وبينهم مئات الأميال؟

لقد فزع من هذا الأمر، حتى لقد كتب إلى حذيفة – بعد أن كتب إليه يسأله: أحرام هي ياأمير المؤمنين – يقول: “أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين”.

وفي المنع من هذه المفاسد المتوقعة ما يكفي – تشريعيا – ليكون علة لما فعله عمر رضي الله عنه، بحيث لا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى أن نتكلف في تأويل النصوص لنتلمس منها تبريرا لما فعله عمر رضي الله عنه، فلا حاجة بنا إلى أن نقول في رواية الجصاص والقرطبي “ولكني أخشى أن تواقعوا المومسات منهن” إن عمر رضي الله عنه “كان يرى أن معنى الإحصان المشترط في الآية لحل هذا الزواج هو العفة”. ومعنى هذا أن عمر – رضي الله عنه – لم يوقف العمل بالنص، لكنه اجتهد في تطبيقه حرفيا؛ حيث كان هدفه تحري معنى الإحصان الذي نصت عليه آية المائدة السابقة في الكتابيات.

لكننا نذهب إلى أن مصالح الناس كانت هدفه الأساسي من أمره لحذيفة؛ إذ لوكان معنى الإحصان في ذهنه هو العفة لوجب عليه أن يتأكد من انعدامه في زوجة حذيفة، قبل أن يأمره بفراقها. كيف وهو يصرح في كلتا الروايتين بأن نكاحها ليس بحرام؟ ثم إن الإحصان قد اشترط في نفس الآية في المسلمة أيضا، فهل نمضي مع الخوف من نكاح المسلمات غير المحصنات لنمنع النكاح أصلا؟

على أن للإحصان معنى آخر – إلى جانب العفة – هو أن تكون المرأة حرة لا مملوكة، وبه قال مجاهد. وقد قرئ أيضا المحصنات – بكسر الصاد – وبه قرأ الشعبي والكسائي، بمعنى التي تحصن زوجها.

كانت المصلحة العامة وسد الذرائع وراء أمر عمر – رضي الله عنه – هنا إذن، وهذه المصلحة نفسها هي التي تتحراها الدول الآن حين تمنع طوائف من مواطنيها – مثل رجال السلك الدبلوماسي ورجال الجيش وذوي المراكز الحساسة – من الزواج من غير مواطناتهم، لأسباب تمس مصالح الدولة، وقد لا يحدث ضرر بسبب بعض هذه الزيجات، إلا أن احتمال الضرر قائم، وهذا الاحتمال يكفي وحده للمنع المطلق، وقد ثبت بالتجارب العديدة أن سد باب الاحتمال هنا أفضل كثيرا من متابعة الميول الفردية[6].

وعليه فما قام به إمام المسلمين، وخليفتهم عمر – رضي الله عنه – لم يكن سوى تصرفه في حقه الطبيعي كخليفة للمسلمين يدبر حالهم على ما يصلحه لهم، ولسائر المجتمع الإسلامي، ولم يكن ما فعله تحريما لحلال أحله الله عزوجل.

ثالثا. موقف عمر – رضي الله عنه – من الطلاق الثلاث بلفظ واحد:

إن إيقاع عمر بن الخطاب الثلاث طلقات بلفظ واحد في مجلس واحد ثلاثا – كان نوعا من التعزير والعقوبة لمن خالف أمر الله وشرعه في صورة الطلاق:

يوضح د. محمد بلتاجي هذا قائلا: الأصل في الطلاق أن يكون متفرقا، مرة بعد مرة، قال الله عزوجل: )الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان( (البقرة: 229)، والحكمة في تفريق الطلقات أن تكون للزوج فرصة يراجع فيها نفسه، في أمر هذه العلاقة التي يحرص الشرع على استمرارها كلما أمكن ذلك، وبعد المرتين يقول الله عزوجل: )فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره( (البقرة: 230).

هذا هو الطلاق كما شرعه الله في القرآن، مفرقا واحدة بعد واحدة، لكن ما الحكم إذا ضيع الزوج على نفسه هذه الفرصة المتكررة، وتعجل الفراق النهائي فجمع الثلاث في لفظ واحد؟

إنا لا نجد في القرآن كلاما عن جمع الثلاث في لفظ واحد أو مجلس واحد، لكننا نجد في السنة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يجعل الطلقات الثلاث في مجلس واحدة طلقة واحدة، فقد روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم، فأمضاه عليهم»[7].

لقد أوقع الرسول الطلقات الثلاث في مجلس واحد واحدة إذن، لكن عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه – في خلافته أوقع الثلاث المجتمعة ثلاثا لا واحدة، وقد وافقه جمهور السلف والفقهاء من بعده.

فلماذا فعل ذلك؟ وكيف وافقه الجمهور؟

أما لماذا فعل ذلك بعد سنتين أو ثلاث من خلافته؛ فلأن الناس في عهده أكثروا من جمع الثلاث في لفظ واحد؛ فرأى أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه امرأته فرأى أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الصديق – رضي الله عنه – وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة. فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه، ولم يتق الله، ولم يطلق كما أمره الله وشرع له؛ بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا، ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد.

فعمر – رضي الله عنه – إذن أوقع الثلاث – بلفظ واحد – ثلاثا نوعا من التعزير والعقوبة لمن يخالف عن أمر الله وشرعه في صورة الطلاق؛ حيث شرع في القرآن متفرقا – كما سبق – وقد بلغ الأمر بعض الفقهاء – من حيث إحساسهم بشذوذ الجمع، وخروجه على ما شرعه الله – أنهم كانوا يقولون في الطلاق الثلاث بلفظ واحد: إنه لا يلزم منه شيء؛ لأنه ليس بطلاق أصلا؛ إذ إنه مخالف لما هو مذكور في القرآن من صورة الطلاق، فكيف يعتبر طلاقا؟ لأنه – في رأيهم – ليس إلا مخالفة لأمر الله.

ولو أن عمر – رضي الله عنه – رأى أن من يفعل هذا أفراد قليلو العدد، ويفعلونه في حال غضبهم الشديد – الذي يقربهم من حالة فقدان الوعي الكامل – لما أمضاه عليهم، لكنه رأى أن الناس تتابعوا في هذا الأمر حتى أصبح أمرا شائعا، فخاف أن يزداد شيوعه بينهم حتى يهملوا الطلاق المفرق كما شرعه الله في القرآن، ويلجأوا إلى جمع الثلاث وهم مطمئنون إلى وقوعها واحدة؛ فأراد عمر – رضي الله عنه – أن يعمهم بنوع من التعزير الجماعي يرجعهم إلى صورة الطلاق الشرعي، وكان عمر – رضي الله عنه – يعلم بمعرفته بالطبائع البشرية أن بعض الرجال يؤثرون – في مواقف الغضب والنزاع مع الزوجة – أن ينطقوا بأغلظ الألفاظ وأفخمها، إظهارا للسلطات التي أعطاها الله لهم، وكأن هذا في حد ذاته نوع من استعراض مظاهر الرجولة وسطوتها وهم يعلمون في نفس الوقت أن الثلاث تقع واحدة؛ ومن ثم استعمل عمر – رضي الله عنه – الحق الذي أعطاه الله له – بحكم خلافته – ليرجع الناس إلى ما شرعه الله في القرآن، وليسد الباب أمام المستعرضين لمظاهر سطوتهم في مواقف النزاع مع نسائهم، فقال في كلمة واحدة: فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم. ومن ثم قيل: إن الطلاق الثلاث بلفظ واحد على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر – رضي الله عنهما – كان يقع واحدة، حتى أمضاه عمر – رضي الله عنه – عليهم.

ومما يدل على أن الاستهانة بأمر الطلاق وألفاظه بلغت حدا كبيرا في عهد عمر – رضي الله عنه – ما روي من: أن رجلا طلق امرأته ألف طلقة، فقال له عمر رضي الله عنه: أطلقت امرأتك؟ قال: لا، إنما كنت ألعب، فعلاه عمر – رضي الله عنه – بالدرة[8] وقال: إنما تكفيك من ذلك ثلاث فأوقعها عليه ثلاثا.

وفي موافقة جمهور الصحابة لعمر رضي الله عنه، يقول ابن القيم: فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان. وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك، ويروى عن ابن عباس أنه قال لمن طلق امرأته مائة طلقة: “عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا”، ويقول: إن هذه الرخصة – إيقاع الثلاث المجموعة واحدة – كانت على عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبعده حين اتقى الناس ربهم في التطليق، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يجعل لهم مخرجا، واتبعه في ذلك أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، أجرى الله على لسان الخليفة الراشد – والصحابة معه – شرعا، فألزمهم بذلك، وأبقى الأمر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه، وينتهي ابن القيم إلى أن عمر – رضي الله عنه – رأى أن مفسدة تتابع الناس في جمع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، ومن ثم وافقه الصحابة، ويروى عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قوله: “من أتى هذا الأمر – أي الطلاق – على وجهه – مفردا – فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم، هو كما تقولون”.

وبعد الصحابة، وافق جمهور الفقهاء عمر – رضي الله عنه – في إيقاع الثلاث المجموعة ثلاثا كما سبق؛ حتى لقد عبر القرطبي بلفظ “الشذوذ” فيمن قال بغير ذلك فقال: “وشذ طاووس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة، يقع واحدة”. وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل مقتضى ما فعله عمر – رضي الله عنه – ووافقه عليه جمهور الصحابة والعلماء – أنه لا بد من الافتاء بوقوع الثلاث المجموعة ثلاثا، على مر العصور؟

ونعتقد أن مصالح الناس هي الحكم في ذلك، فإذا رأى أولو الأمر – كما رأى عمر – رضي الله عنه – أن إمضاءها ثلاثا يحقق المصلحة أمضوها، وإن رأوا أن المصلحة العامة في إيقاعها واحدة فهي واحدة، كما كانت حتى سنتين من خلافة عمر رضي الله عنه، وقد كان ابن القيم موفقا كل التوفيق حين طالب في عصره – القرن الثامن الهجري – بإيقاعها واحدة مراعاة لمصلحة أخرى، وقطعا لذريعة فساد اجتماعي، هو انتشار التحليل حين كان يفتي بوقوعها ثلاثا؛ فيلجأ الزوجان إلى اصطناع المحلل حتى أصبح للتحليل سوق رائجة، فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وخليفته، من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل، أو يقللها، أو يخفف شرها، ويقارن ابن القيم بين العصور المختلفة واختلاف المصلحة باختلاف ظروف الناس فيقول: إن الثلاث المجموعة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر – رضي الله عنه – كانت تقع واحدة، وكان التحليل محرما وممنوعا منه، ثم صارت في بقية خلافة عمر – رضي الله عنه – ثلاثا، والتحليل ممنوع منه؛ لأن عمر – رضي الله عنه – حين أوقعها ثلاثا – تشدد إلى أقصى حد في محاربة التحليل، ثم صار التحليل كثيرا مشهورا منتشرا والثلاث ثلاث؛ وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر رضي الله عنه؛ لأن أكثر الناس لايعلم أن جمع الثلاث في كلمة واحدة حرام؛ ولأن هذا يفتح باب التحليل – بمساوئه الكثيرة – الذي كان مسدودا على عهد الصحابة. والعقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه وجب تركها. ويذكر ابن القيم أن الإفتاء بإيقاع الثلاث المجموعة واحدة، جرى في كل قرن، ولم يزل يفتي به عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – وأفتى أيضا بالثلاث، وأفتى بأنها واحدة الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وعن ابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس، وأفتى به من التابعين عكرمة وطاووس، ومن تابعي التابعين محمد بن إسحق، ومن بعدهم داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنه ابن حزم، وبعض المالكية، وبعض الحنفية، وبعض أصحاب أحمد.

وواضح أن مراعاة المصلحة – وهي مسألة اعتبارية تختلف حتى في الزمن الواحد من حالة لأخرى – هي السبب في كون ابن عباس – رضي الله عنهما – وغيره من الصحابة قد أثر عنهم أكثر من رواية في هذا الشأن، وإذا جاز ذلك في الزمن الواحد فهو في الأزمنة المتعددة أكثر جوازا.

وقد صاغ ابن رشد التقرير الأصولي والفقهي الذي ينبني عليه الإفتاء بالرأيين فقال: “وهل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة تقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة؟ أم ليس يقع، ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع”؟

“فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع، قال: لا يلزم. ومن شبهه بالنذور والأيمان التي ما التزم العبد فيها لزمه على أي صفة كان، ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه”.

ونظر د. مصطفى زيد إلى جانب المصلحة، فرأى فيها السر فيما أمضاه عمر رضي الله عنه؛ لأنه رأى أن هذه هي الوسيلة لمنع المسلمين من الحلف بالطلاق الثلاث أي للمصلحة وحدها، كما أنه لم يكن من أهداف عمر – رضي الله عنه – تخليد اجتهاداته وآرائه، وإلزام المسلمين بها على اختلاف عصورهم وظروفهم؛ لأنه كان يجتهد في تعرف المصلحة في عهده، وعلى من بعده أن يجتهدوا في تعرف ما يصلح الناس في عصورهم، مع التزامهم بنصوص التشريع وأهدافه.

ومن هنا جاز لابن القيم – وقد وافقناه – القول بأن هذه المسألة مما تتغير فيها الفتوى بحسب الأزمنة والبيئات المختلفة[9].

وعليه فما فعله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان عقوبة تعزيرية لما أصاب المجتمع من مفاسد، وقد رأى في ذلك مصلحة المجتمع الإسلامي نفسه، وقد كان خليفة على المسلمين، له أن يقضي بينهم بما فيه خيرهم.

الخلاصة:

إن إباحة الإسلام زواج المسلم من الكتابية كان لأغراض وأهداف عديدة منها ترغيب الكتابية في الإسلام، والتقريب بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيع دائرة التسامح والألفة وحسن العشرة بين الفريقين، ولكن هذا مقيد بعدة قيود منها:

o       الاستيثاق من كونها كتابية.

o       أن تكون عفيفة محصنة.

o       ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم.

o       ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة أو ضرر محقق أو مرجح.

لم يلغ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – النصوص الشرعية ولم ينسخها، لكنه قد طرأ من المتغيرات ما يستلزم إيقاف العمل بها فترة من الزمن، وفي حالات خاصة؛ تحقيقا للمصلحة العامة للمجتمع الإسلامي، ومن ثم يزول هذا الإيقاف بزوال ظروفه.
إيقاع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الثلاث طلقات – بلفظ واحد في مجلس واحد – ثلاثا كان نوعا من التعزير والعقوبة، حيث إنه – رضي الله عنه – قد رأى الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه امرأته بينونة كبرى، وذلك لأنهم تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله.

 


(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م.

[1]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق (2758)، وفي مواضع أخرى، وأحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2867)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1404).

[2]. فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، القاهرة، ط6، 1996م، ج1، ص462: 472 بتصرف.

[3]. الخلابة: الخديعة وحسن الحديث.

[4]. الـمومس: المرأة التي تتخذ الزنا مهنة لها.

[5]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص260.

[6]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص259: 263.

[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث (3746).

[8]. الدرة: السوط.

[9]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص264 وما بعدها.

 دعوى تعطيل عمر بن الخطاب إقامة حد السرقة عام المجاعة

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن عمر بن الخطاب قد خالف نصوص التشريع الإسلامي، ودليلهم على ذلك أنه أوقف إقامة حد السرقة عام المجاعة، ويتساءلون: كيف هذا وقد قال الله عزوجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة)، وقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلم أوقفه عمر بن الخطاب؟!

وجها إبطال الشبهة:

1) الحدود والعقوبات الحاسمة فرضت بدافع الحرص الشديد من الشارع الحكيم على إحاطة الكليات الخمس بالحماية والضمان على مستوى الفرد والجماعة، كذلك تضمن بعدلها مصلحة المتهمين، حيث تراعي توافر الضمانات الكافية للتحقق من وجود ركن الاعتداء كشرط لتنفيذ العقوبة.

2) عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما أوقف إقامة حد السرقة في عام المجاعة لم يكن مبتدعا، إنما كان متبعا؛ قياسا على قوله عزوجل: )فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)( (المائدة). والحدود في الإسلام تدرأ بالشبهات، ومن ثم وجدت شبهة قوية تدرأ الحد عن السارق؛ حيث إنه قد سرق لضرورة قوية، وليس حبا في السرقة.

التفصيل:

أولا. الحكمة من وراء فرض الحدود مراعاة المصالح:

فرضت الحدود والعقوبات الحاسمة بدافع الحرص الشديد من الشريعة الإسلامية على إحاطة الكليات الخمس بالحماية والضمان على مستوى الفرد والجماعة، والشريعة الإسلامية – كذلك – تضمن بعدلها مصلحة المتهمين، حيث تراعي توافر الضمانات الكافية للتحقق من وجود ركن الاعتداء كشرط لتنفيذ العقوبة.

ويفصل لنا القول في ذلك د. محمد بلتاجي قائلا: إنه مما لا شك فيه عند العارفين المنصفين أن التاريخ البشرى لم يشهد عقيدة أو نظاما احترمت فيه الإنسانية كما احترمت في الإسلام، ونصوص القرآن والسنة تنطق بهذا التكريم للإنسان باعتباره إنسانا فحسب، وبصرف النظر عما يملكه، وعن مظهره، فلم يكن المظهر المادي على وجه الإطلاق – وبكل ما يحتويه – مقياسا للكرامة الإنسانية؛ لأن الله لا ينظر إلى لون الإنسان، أو جنسه، أو وضعه الاجتماعي، ولكنه ينظر إلى ذلك الشيء المشترك بين الناس جميعا وهو القلب. ومن هنا قيل في الإسلام على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا”، ولم يكن بلال الذي جعله عمر سيد المسلمين إلا عبدا أسود اللون.

وهذه الكرامة البشرية للإنسان – في حد ذاته – هي الأساس التشريعي الذي بنيت عليه التشريعات الإسلامية وهدفت إليه، ولم تكن العقوبات إلا سبيلا لذلك فقد اعتبر التشريع الإسلامي خمسة أشياء، يجب أن تحاط بالحماية والضمان على كل المستويات – الفردية والجماعية – تحقيقا لهذه الكرامة البشرية، حتى لا تصبح مجرد شعار أجوف، تناقضه حقائق الحياة المرة القاسية. وهذه الأشياء الخمسة هي: الدين أو العقيدة، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض، والمال، وهي ما تسمى بالكليات الخمس التي تحقق للإنسان – بالمحافظة عليها – كرامته البشرية.

وبدافع من الحرص الشديد على إحاطة هذه الكليات بالضمان، فرضت العقوبات الحاسمة على من يعتدي على أحدها، بأن يسلب حياة الإنسان، أو شرفه، أو ماله، وفي هذا المجال لم يفرق التشريع الإسلامي بين إيقاع الأذى بالنفس أو بالغير، ومن ثم أوجب العقاب على شارب الخمر، وإن كان اعتداؤه في الحقيقة منصبا على عقله هو أولا؛ لأنه – وإن كان هو المعتدي – إنسان يهتم التشريع الإسلامي بأن يحفظ عليه أسباب كرامته ولو بزجر حازم.

ومن المسلمات لدى كل منصف مطلع على الحقيقة أن التشريع الإسلامي منزل من الله خالق الإنسان العليم به، ولأن نزعات الاعتداء والتطلع إلى سلب ما يملكه الآخرون طبيعة متأصلة في الإنسان… ولأن الناس قد زين لهم حب الشهوات من النساء والأموال وغيرهما من متع الحياة، بحيث خالط هذا الحب أعمق خلجات وجداناتهم.

ولأن في الإنسان نزعات هوجاء تعجز الزواجر الأدبية والخلقية أحيانا – مهما عظم سلطانها في القلب – عن الوقوف أمامها.

لهذا كله فرض التشريع الإسلامي عقوبات حاسمة، كي تحقق معنى الكرامة الإنسانية لجميع الناس، لصاحب الشيء في ألا يغتصب حقه، وللآخر في ألا يطيع نزعاته الهوجاء بما تحمله من عواصف التدمير والاغتصاب والخراب، مما يفقد الإنسان المعنى الحقيقي للكرامة، ومعظم الناس – في لحظة من الحياة على الأقل – يكون أحد الرجلين.

ومن هنا كان في العقاب – بما يتضمنه بالنسبة للفرد المعتدي – حياة للمجموع وكرامة لهم؛ لأن في إسالة دمه الذي حل بالاعتداء، منعا لإسالة دماء، واغتصاب أعراض وأموال كثيرة، وكلما كان العقاب شديدا زاد تردد الفرد في الاعتداء وتوقفه عنه، ومن ثم زادت مقاومته وحصانته ضد أهوائه العاصفة، فتحقق بذلك قسط أكبر من الكرامة البشرية له، وللمجموع البشري على وجه العموم، ومن أجل هذا شرعت العقوبات الحاسمة في الإسلام.

وإلى جانب مراعاة مصلحة الجماعة في تحقيق كرامتها، فإن التشريع – بما يتضمنه من عدل مطلق يشمل حتى المعتدين، وما يتضمنه من تقدير لجسامة العقاب – راعى توفير الضمانات الكافية للتحقق من وجود ركن الاعتداء كشرط لتنفيذ العقوبة؛ ففي جريمة السرقة مثلا، هناك شروط كثيرة ينبغي توافرها لكي تقطع يد السارق، وفقدان شرط واحد منها يحول دون ذلك. وهذه الشروط – المذكورة في كتب الفقه – تستند إلى نصوص من السنة، وكمثال على ذلك نكتفي بتلخيص بعض ما ذكره الجصاص؛ حيث اشترط لقطع يد السارق:

أن يسرق شيئا ذا قيمة مادية، ربع دينار، أو عشرة دراهم أو خمسة على حسب تقديرات العلماء، ولكل أحاديث يتأولها ويستشهد بها.
أن يكون المسروق موضوعا في حرز، أي مكان لا يتعرض فيه للسرقة بسهولة؛ بحيث إذا ائتمن صاحب المال غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع.
وليس المسجد أو الحمام حرزا، وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها، فمن سرق منها لا يقطع؛ لأنه خائن، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ليس على الخائن قطع”[1]. والنباش لا يقطع؛ لأن القبر ليس بحرز، وكذلك لو سرق مالا مدفونا في مكان ما لم يقطع، وكثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه.
قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد مثل الرطب والعنب والفواكه بصفة عامة، واللحم والطعام الذي لا يبقى، والثمر المعلق، والحنطة في سنبلها، والطين، والزرنيخ، والجص، ولا قطع في شيء من الطير، ولا في الخمر، ولا في شيء من آلات الملاهي، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في ثمر ولا كثر»[2] [3].
ألا يسرق من بيت المال؛ لأنه يسمى مختلسا لا سارقا، لأنه لما كان حقه وحق سائر الناس فيه سواء، صار كسارق مال بيته؛ لأن له شبهة في ملكه حيث يملكه جماعيا مع باقي المسلمين، ولا قطع فيما فيه شبهة ملك، وقد سرق رجل من بيت المال في خلافة عمر رضي الله عنه، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ليس فيه قطع، له فيه نصيب، قال الجصاص: ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
ألا يسرق من ذي رحم؛ لأن له شبهة ملك في المال، ومن ثم لا يقطع.
إذا ضبط السارق قبل إخراج السرقة لا تقطع يده.
لا يقطع السارق حتى يقر بالسرقة مرتين، لا مرة واحدة.

ويروى«أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أتي بسارق قد اعترف، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما إخاله سرق”. فقال السارق: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهبوا به فاقطعوه ثم احمسوه ثم ائتوني به”. فقطع فأتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: “تب إلى الله عزوجل”. فقال: تبت إلى الله. فقال صلى الله عليه وسلم: تاب الله عليك»[4].

ولا نكاد نجد كتابا من كتب التفسير أو الفقه يتحدث عن عقوبة السارق إلا وجدنا فيه تفصيلا للشروط التي يجب توافرها قبل قطع يده. حتى لقد قسمت هذه الشروط إلى مجموعات بحيث لا يجب قطع يده “إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته، فأما ما يعتبر في السارق فثمة أوصاف، هي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية…”.

وسوف يطول بنا الحديث، ويتشعب إذا عرضنا بالتفصيل لشروط هذه المجموعات، وإلى النصوص التي تستند إليها. والذي يعنينا من كل هذا أن نصل إلى أن التشريع الإسلامي كان يهدف إلى تحقيق معنى الكرامة الإنسانية حين أوجب عقوبات حاسمة، وحين شرط لتطبيق هذه العقوبات شروطا دقيقة وكثيرة ينبغي التحقق من وجودها – على سبيل اليقين – قبل إيقاع العقاب.

فلا تقطع يد السارق في الإسلام إلا إذا تحققت له ظروف المعيشة الشريفة، التي يمكن أن يستغنى فيها عن الكسب الحرام، بما قدمه له مجتمعه من العمل المناسب لمن يستطيعه، أو فرض الراتب الكافي لمن لا يستطيعه، ثم هو بعد هذا قد سرق مالا متقوما – يملك ويباع ويشترى – وليس له فيه ملك أو شبهة ملك، وليس مما دلت الآثار على أنه لا يقطع سارقه، وقد أحرزه صاحبه، فوضعه فيما يناسبه من أماكن الحفظ ووسائله، ثم يتأكد بنا بالأدلة القطعية أنه سرق، بحيث إذا اعترف يراجع في اعترافه ثم كان بعد ذلك كله بالغا عاقلا مختارا، وليست له صلة قرابة أو ولاية بالمسروق منه، فإذا فقد شرط واحد من هذه الشروط، امتنع قطع يد آخذه. لعدم انطباق وصف السارق عليه[5].

ثانيا. إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما أوقف إقامة حد السرقة في عام المجاعة لم يكن مبتدعا، وإنما كان متبعا:

الإسلام دين شامل متكامل بعقائده وتشريعاته وأحكامه، ويجب على المسلمين الأخذ به، والتحاكم إليه، وعدم التفريق بين أحكامه بحيث يعمل ببعض ويترك بعضا، وقد ذم الله – عزوجل – هذا المسلك كما قال تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض( (البقرة: ٨٥). هذا والحدود جزء لا يتجزأ من تشريعات الإسلام، وقد شرعت لحكم ومقاصد عظيمة، حيث يتحقق بإقامتها المحافظة على الضروريات التي جاءت الشريعة بحفظها، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال[6].

أما ما جاء عن عمر – رضي الله عنه – في عام المجاعة فليس من باب تعطيل حد السرقة، بل هو من باب: “إن الضروريات تبيح المحظورات”، وانطلاقا من هذه القاعدة العامة جاء قول عمر رضي الله عنه: «لا يقطع في عذق ولا عام السنة»[7]؛ أي: عام جدب ومجاعة؛ لهذا لما سرق غلمان لحاطب بن أبي بلتعة ناقة لرجل من مزينة، فأتي بهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يقطع أيديهم وقال لسيدهم: «أما والله لولا أني أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو أن أحدهم يجد ما حرم الله عليه لآكله لقطعت أيديهم، ولكن والله إذ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال للمزني: كم ثمنها؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة، قال: أعطه ثمانمائة»[8].

وكما طبق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قاعدة عامة من قواعد التشريع الإسلامي، نجده كذلك مطبقا للمبادئ العامة في القرآن الكريم؛ حيث نجد بنص القرآن الكريم أن للمضطر في الإسلام، أن يحفظ حياته بتناول ما يحرم عليه حتى الميتة والدم ولحم الخنزير يقول عزوجل: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة).

ومن ثم فمن حق الإنسان – بهذا الوصف – المضطر على مجتمعه الخاص والعام أن يكفل له طعامه ورزقه الشريف، فأين ركن الاعتداء المتعمد فيمن يسرق مضطرا ليحفظ حياته إن كان هناك اعتداء فهو ذلك الذي وقع عليه وليس منه، والمجاعة في عهد عمر قد عمت المجتمع كله، وقد بذل عمر في دفعها عن الناس كل ما يستطيع، فلم يكن هناك اعتداء من المجتمع على السارق المضطر حينئذ، كما لم يتوفر في حقه ركن الاعتداء ليقام عليه الحد، وكذلك غلمان حاطب فقد وقع عليهم نوع من التعدي بتجويعهم حتى اضطروا للسرقة، ومن هنا نستطيع أن نفهم سبب الغرامة التعزيرية التي أوقعها عمر – رضي الله عنه – عليه بالكلمة القاسية ومضاعفة ثمن المسروق عليه، وهل يعزره عمر – رضي الله عنه – إلا لتعديه على غلمانه حتى اضطروا إلى السرقة[9]؟

ومن ثم فإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد أسقط الحد هنا متفقا مع المبدأ العام في الإسلام والذي يقول: “إن الضرورات تبيح المحظورات”.

ومن هنا نستطيع القول إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يوقف حد السرقة، لأنه طبق نصا صريحا في السنة النبوية وكذلك طبق مبدأ عاما في القرآن الكريم.

ثالثا. القاعدة العامة في الإسلام هي أن “الحدود تدرأ بالشبهات”:

بما أن الحدود في الإسلام تدرأ بالشبهات، فقد وجدت شبهة قوية تدرأ الحد عن السارق، حيث إنه قد يكون سرق لضرورة قوية، وليس حبا في السرقة، فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بإسقاطه حد السرقة في عام المجاعة، لم يسقط حدا واجبا من حدود الله، كما يزعم بعضهم؛ فالواقع أن هذا الحد لم يجب أصلا؛ لأن القاعدة العامة في الإسلام هي أن الحدود تدرأ بالشبهات.

يقول الشيخ محمد المدني: “وقد فهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن آخذ المال في عام المجاعة لا يوصف بأنه سارق؛ لأنه يرى لنفسه حقا فيما أخذ، والسرقة هي أخذ الإنسان ما لا حق له في خفية”[10].

بيان ذلك: أن من أصول الإسلام القطعية، التكافل بين الناس، بمعنى أنه يجب على المجتمع وجوبا كفائيا أن يغيث أفراده الذين نزلت بهم الفاقة، حتى أوردتهم موارد الضرورة، فإذا لم يقم المجتمع بهذا الواجب الكفائي للمضطرين كان آثما، وكان للمضطر أن يأخذ ما يقيت به نفسه ويدفع ضرورته.

وعام المجاعة من غير شك، هو ظرف زماني يغلب فيه وجود أفراد مضطرين على هذا النحو، فهو مظنة لوجوب الحق لهم على المجتمع، ولا ينظر في هذا لتحقق الضرورة فعلا بالنسبة لشخص السارق، أو عدم تحققها حتى يقطع أو لا يقطع، فإن هذا موطن من مواطن الحدود، والحدود تدرأ بالشبهات، فيكفي أن يقول الحاكم: لعل هذا إنما سرق لضرورة ألجأته إلى السرقة، فتكون هذه شبهة قوية تدرأ عنه الحد.

إذن فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يتعلق فقهه بلفظ وارد في النص، هو قوله عزوجل: )والسارق والسارقة( (المائدة: 38)، فيفسره بأنه آخذ ما لا حق له فيه خفية، ثم إن مفهومه على السارق في عام المجاعة، فيراه آخذا ما له حق فيه، ومن ثم لا يشمله النص، فلا يجب قطعه، ثم يعمق فقهه في هذا، فيقرر أن مظنة الضرورة، وهي عموم الأمر ظنا في عام المجاعة، تنزل منزلة الضرورة الفعلية، ومن ثم لا يجب الفحص في عام المجاعة عن حالة سارق بعينه، ليعلم أكان في فاقة وضرورة أم لم يكن؟

ومما يدل على نظرة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في تفسير السرقة، بأنها أخذ الإنسان ما لا حق له فيه، ما رواه القاسم بن عبد الرحمن من أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: “أن لا قطع عليه؛ لأن له فيه نصيبا”.

ولذلك أيضا نظير فيما يروى من فقه علي رضي الله عنه، فقد حدث سفيان الثوري عن سماك بن حرب عن عبيد بن الأبرص: «أتي علي برجل سرق من الخمس، فقال: له فيه نصيب هو جائز، فلم يقطعه سرق مغفرا»[11] [12].

ومما يتلاقى مع فكرة عمر في أن الآخذ لا يعد سارقا إلا إذا أخذ ما ليس له فيه حق، ما قرره جمهور العلماء من أن الأبوين إذا أخذا شيئا من مال ابنهما أو بنتهما، ولو على سبيل الخفية فلا قطع عليهما، لأن للوالد حقا في مال ولده، وقد فرض الله على الولد أن يعف أباه إذا احتاج إلى الناس، فله من ماله حق بذلك. فلا شيء عليه إن أخذ حقه.

وكذلك الحال بالنسبة إلى السارق في سنة المجاعة، حيث يغلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج.

ومن هذا يتبين لنا أن الأمر في نظر عمر لم يخرج عن النص، وليس فيه إبطال، ولا نسخ ولا تعديل، وإنما هو تطبيق دقيق للنص الشرعي مع ملاحظة رغبة الشارع الصريحة في درء الحدود بالشبهات[13].

الخلاصة:

إن الكرامة البشرية للإنسان هي الأساس التشريعي الذي بنيت عليه الشريعة الإسلامية وهدفت إليه، ولم تكن العقوبات إلا سبيلا لذلك؛ فكما ضمنت حماية ملكية الأفراد بوضع حد السرقة، فقد وضعت الشروط التي تحمي السارق نفسه، فلا يقام عليه الحد إلا إذا توافرت كل تلك الشروط.
إن من الخطأ الجسيم أن يتوهم أحد أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد عطل نصوص الكتاب والسنة في حد السرقة عام المجاعة؛ لأنه كان في الحقيقة مطبقا لروح نصوص الشريعة ومقاصدها، ولمبدأ عام في القرآن الكريم هو أن الضرورات تبيح المحظورات في قوله عزوجل: )فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة).
لقد فهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن من أخذ المال في عام المجاعة لا يوصف أنه سارق؛ لأنه أخذ ما يرى لنفسه فيه حقا، والسرقة هي أخذ الإنسان ما لا حق له فيه خفية، وهذه شبهة قوية يدرأ بها الحد.

 


(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م.

[1]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه (3109)، وعبد الرزاق في مصنفه، كتاب اللقطة، باب الخيانة (18860)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4392).

[2]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب من سرق ثمرا أو غير ذلك مما لم يحرز (683)، وعبد الرزاق في مصنفه، كتاب اللقطة، باب سرقة الثمر والكثر (18916)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2583).

[3]. الكثر: جمار النخلة أو طلعها، أو إحدى فسائل النخل الصغيرة.

[4]. صحيح: أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الحدود والديات وغيره (3/ 72)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السرقة، باب السارق يسرق أولا فتقطع يده اليمنى من مفصل الكف ثم تحسم في النار (17715)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2431).

[5]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص209 وما بعدها.

[6]. فتاوى واستشارات، إعداد: علماء وطلبة علم، موقع الإسلام اليوم. www. islamtoday. net

[7]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب اللقطة، باب القطع في عام سنة (18990).

[8]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب اللقطة، باب سرقة العبد (18977).

[9]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص114: 116 بتصرف.

[10]. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م، ص203.

[11]. المغفر: ما يوضح تحت الخوذة التي تقي رأس المقاتل، ولها جوانب من سلاسل الحديد المنسوج المتشابك.

[12]. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب اللقطة، باب الرجل يسرق شيئا له فيه نصيب (18871).

[13]. السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1426 هـ/ 2005م، ص207.

دعوى مخالفة عمر بن الخطاب للتشريع النبوي بتغريمه المؤتمنين والصناع قيمة الوديعة حال ضياعها

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد خالف تشريع النبي – صلى الله عليه وسلم – الخاص بعدم تغريم المؤتمن، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا ضمان على مؤتمن»[1]. ويستدلون على ذلك بتغريم المؤتمنين والصناع قيمة الوديعة في حال ضياعها، ويرون في ذلك مخالفة صريحة لنص من نصوص السنة النبوية.

وجها إبطال الشبهة:

1) المؤتمن الذي ذكر في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الرجل الذي يستودع أمانة معينة فيحفظها ضمن ماله، ويبالغ في الحرص عليها كما يفعل بماله أو أكثر، ومن هنا أطلق عليه وصف “مؤتمن”.

2) رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن يضمن الصناع ما يضيع منهم من مواد خشية التعدي على هذه الأموال، خصوصا ممن لم يترب على مائدة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم تكن له صحبة من الداخلين في الإسلام بعد غلبة الإسلام أو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

التفصيل:

أولا. اختلاف معنى المؤتمن عند النبي – صلى الله عليه وسلم – عن معناه عند عمر رضي الله عنه:

يقصد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمؤتمن ذلك الرجل الذي يحافظ على مال غيره كما يحافظ على ماله، فالمتأمل في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي يقول فيه: “لا ضمان على مؤتمن”. يستطيع أن يدرك – بوضوح – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يعنى في هذا الحديث ذلك الرجل الذي يستودع أمانة معينة، فيحفظها ضمن ماله، ويبالغ في الحرص عليها، كما يفعل بماله وربما أكثر.

ومن هنا جاز أن يطلق عليه وصف “مؤتمن”؛ أي أنه يرعاها ويقوم بحق الأمانة لها، وهنا لا يضمن مثل هذا الرجل ما يضيع منه بغير إرادته؛ لأنه لم يقصر في رعايته وإحرازه، والضمان غرامة لا تصح في حق من قام بواجب الأمانة.

وعلى هذا الفهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – لم يحكم بالضمان على المؤتمن، فقد روي أن رجلا استودع متاعا فضاع بين متاعه، فلم يضمنه أبو بكر وقال: هي أمانة، وذلك أن المؤتمن لم يقصر في حفظ الوديعة، بدليل أنها ضاعت ضمن متاعه.

أما عمر – رضي الله عنه – فقد ضمن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قيمة الوديعة التي ضاعت منه؛ حيث سأله عمر رضي الله عنه: “ذهب لك معها شيء”؟ فقال: “لا”. فبضياعها وحدها دون شيء آخر من ماله أو متاعه دليل على أنه لم يرعها الرعاية الواجبة كحق الوديعة، أي كما يرعى ماله، وبالإضافة لهذا لم تكن هذه الوديعة شيئا يسيرا، وإنما كانت ستة آلاف درهم، وأقصى ما نستطيع أن نتحدث فيه عن سبب تضمين عمر لأنس بن مالك، إنما هو الإهمال اليسير في حفظ الوديعة وتحريزها[2].

ثانيا. رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أن الصناع يضمنون ما يضيع منهم من مواد؛ وذلك لاحتمال التعدي على هذه الأموال:

ويقول د. محمد بلتاجي: “لقد رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وغيره من الصحابة أن الصناع يضمنون ما يضيع منهم من المواد المودعة لديهم لصياغتها على نحو معين، وذلك لإحتمال التعدي على هذه الأموال”.

قال د. محمد يوسف موسى: “ثم حدث في زمن الصحابة أنفسهم أن مالت بعض النفوس شيئا عن الصراط المستقيم، وأن بدت الخيانة تظهر من بعض الناس فيما اؤتمنوا عليه ممن لم تكن لهم صحبة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وجاءوا بعد العهد النبوي، فكان لا بد من علاج لهذه الحالة التي جدت، وظهر هذا العلاج من بعض فقهاء الصحابة أنفسهم، وهو علاج يجعل الأمين حريصا على ما تحت يده كما يجب”.

ثم يروى عن بعض الصحابة والتابعين أنهم ضمنوا الصناع ما يوضع في أيديهم من المواد؛ لأن الأمر كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا يصلح الناس إلا ذاك”[3].

وبهذا فهم الصحابة من حديث النبي صلى الله علبيه وسلم: “لا ضمان على مؤتمن” أنه لا ضمان على المؤتمن الذي لا يهمل في حفظ أمانته، ولا يتهم في التعدي عليها بنفسه؛ لأن شأن الأمانة كان هكذا في عهد الرسالة، أما إذا قصر المؤتمن، أو ثبت أنه متهم في التعدي عليها بنفسه، فلا شك أنه يضمن قيمتها حفظا لأموال الناس، وزجرا لذوي الأهواء الخائنة، أما إذا ثبت أن المؤتمن لم يقصر في حفظ الوديعة، وليس بمتهم فيها، فلا شك أن قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – ينطبق عليه، فلا يضمن قيمتها؛ لأن الضمان غرامة وعقاب، ولا يكون العقاب إلا نتيجة لتهمة الإهمال أو جرم الاستيلاء، وليس أحدهما بمتحقق فيه[4].

الخلاصة:

كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يقصد بقوله: “لا ضمان على مؤتمن” ذلك الرجل الذي يحافظ على الوديعة كما يحافظ على ماله، ولا يقصر في رعايتها وإحرازها، ولهذا ضمن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنس بن مالك – رضي الله عنه – قيمة الوديعة التي ضاعت منه؛ لأنه أهمل في حفظها وتحريزها.
أما موقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من تضمين الصناع قيمة المواد التي تضيع منهم حال صياغتها، فكان هذا علاجا؛ حيث بدت الخيانة تظهر من بعض الناس فيما اؤتمنوا عليه ممن لم يتربوا على مائدة النبي – رضي الله عنه – ولم تكن لهم به صحبة، وهو علاج يجعل الأمين حريصا على ما تحت يده كما يجب، وزجرا لأهل الأهواء الذين تسول لهم أنفسهم التعدي على أموال الآخرين.

(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.

[1]. حسن: أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب البيوع (3/ 167)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الوديعة، باب لا ضمان على مؤتمن (13076)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (13475).

[2]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص207، 208 بتصرف.

[3]. أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب الإجارة، باب ما جاء في تضمين الأجراء (12000).

[4]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص208 بتصرف.

دعوى مخالفة عمر بن الخطاب لتشريع عقوبتي القصاص وشرب الخمر

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خالف القرآن والسنة في تشريعهما للحدود، ويستدلون على ذلك بقتل عمر – رضي الله عنه – لجماعة من الناس اجتمعوا على قتل رجل واحد، وقال: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا”، وكذلك جلده شارب الخمر ثمانين جلدة، وقد جلده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربعين، وفعل أبو بكر – رضي الله عنه – مثل ذلك. ويتساءلون: ألا يخالف ما فعله عمر – رضي الله عنه – معنى التساوي في القصاص في قوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان( (البقرة: 178)؟ ويخالف أيضا ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عقوبة شارب الخمر؟!

وجها إبطال الشبهة:

1) قتل الجماعة بالواحد يكون هو المحقق لمصلحة الجماعة، فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا؛ لتعاون بعض الناس على قتل عدو لهم بالاشتراك في قتله، كما أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان؛ حيث تراعي الحدود فكرة التعدي والجور دون نظر إلى محل التعدي من حيث انفراده أو تعدده.

2) الآثار الواردة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة – رضي الله عنهم – تؤكد على وجود عقوبة لشارب الخمر، ولكن هذه الآثار لا تحدد مقدار هذه العقوبة كما ولا كيفا، وتركت تحديدها للإمام أو من ينوب عنه، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه، ولم ينفرد بتحديد مقدار العقوبة اللازمة وحده، بل اعتمد على آراء الصحابة، وعلى إجماع سكوتي منهم على ما فعله.

التفصيل:

أولا. قتل الجماعة بالواحد في بعض الحالات – كما فعل عمر بن الخطاب – يكون هو المحقق لمصلحة الجماعة:

يقرر النص القرآني أصلا من الأصول العامة للتشريع الإسلامي وهو العدل المطلق، قال عزوجل: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، وقال عزوجل: )كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد( (البقرة: 178)، فإزهاق نفس القاتل مقابل نفس المقتول هو الأصل في التشريع الإسلامي، لكن ما الحكم إذا اجتمعت أكثر من نفس على إزهاق نفس واحدة؟ وكيف يتحقق معنى النفس بالنفس عند القصاص من هذه الأنفس القاتلة؟!

روي أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قتل نفرا – خمسة أو سبعة – برجل واحد قتلوه غيلة[1]، وقال: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء قتلتهم به جميعا”، وروى الجصاص أنه ثبت عن عمر قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد نظرائه، مع استفاضة ذلك وشهرته عنه، ومثل ذلك يكون إجماعا، إذن أزهق عمر النفوس القاتلة بنفس واحدة، فهل خالف معنى المساواة في القصاص في النصين السابقين؟

وقال القرطبي في تفسير مقابلة النفس بالنفس: “إن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان؛ ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة؛ افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة؛ فأمر الله – عزوجل – بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل”.

وعلى هذا نقول: إن النص القرآني في القصاص قصد به تقرير أصل من الأصول العامة التي جاء بها التشريع الإسلامي، وهو العدل المطلق في كل المواقف، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل من أقربائه، ويسرفون في ذلك إظهارا للمنعة، وفي هذا من الظلم والجور وإزهاق النفوس ما فيه؛ لذلك جاء القرآن مقررا أن النفس المذنبة وحدها هي التي يقع عليها القصاص.

وإذا نظرنا إلى الأنفس التي اجتمعت على إزهاق نفس واحدة، فإن كلا منها نفس مذنبة؛ إذ اشتركت اشتراكا مؤثرا في الجريمة، ومن ثم ينطبق على كل منها أنها نفس قاتلة أخذت بالنفس المقتولة، فلا ينظر إلى وحدة النفس المقتولة وتعدد النفوس القاتلة، إنما ينظر إلى الإثم والجناية والتعدي، أوليس كل منهم ينطبق عليه وصف القاتل لاشتراكه في القتل؟

النصوص الإسلامية تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور:

النصوص الإسلامية كلها تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور، دون أن تنظر إلى محل التعدي، من حيث انفراده أو تعدده، فإذا اشترك عشرة رجال في الزنا بامرأة واحدة، فهم زناة، تماما كما لو زنى كل منهم بامرأة معينة، فإذا اشتركوا في شرب دن[2] من الخمر فهم شاربون، تماما كما لو شرب كل منهم دنا أو عشرة دنان، وإذا اشتركوا في سرقة مال رجل واحد، فهم سراق كما لو سرق كل منهم رجلا معينا.

وعلى هذا يعتبر ما فعله عمر رضي الله عنه – ووافقه عليه الصحابة – اتباعا منه لما روعي في العقوبات الإسلامية من فكرة التعدي، دون نظر منه إلى ما قد يفهمه بعض من يتمسكون بحرفية الألفاظ، وبخاصة إذا كان فهمهم مؤديا إلى إهدار دماء المعتدي عليهم، والإضرار بالمصالح العامة[3].

هدف عمر – رضي الله عنه – من تطبيق التشريع هو تحقيق مصلحة الناس بما يتمشى مع النصوص:

مما لا شك فيه كما يقول د. محمد بلتاجي أن هدف عمر – رضي الله عنه – من تطبيق التشريع هو تحقيق مصلحة الناس في عهده بما يتمشى مع النصوص، وقتل الجماعة بالواحد طريق من الطرق التي اتبعها للوصول إلى هذا الهدف، فإذا كان النص القرآني يتسع للقصاص من كل نفس انطبق عليها وصف القتل، سواء انفردت به أم اشتركت فيه، بالنظر إلى فكرة التعدي، وإذا كان التشريع الإسلامي في العقوبات قد راعى هذه الفكرة، وإذا كان هذا محققا لمصالح الناس عامة؛ فقد كان من حق عمر أن يقتل الجماعة بالواحد.

أما أن قتل الجماعة بالواحد كان – ولا يزال – محققا لمصلحة الجماعة، فهذا مما لا يخالف أحد فيه؛ لأن عدم القصاص منهم، يكون حافزا لمن يريد أن يقتل إنسانا بأن يشرك معه آخر – أو آخرين – كي ينجو من القصاص، وبهذا يبطل معناه وهدفه في قوله عزوجل: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة)، وهي الآية التي تلت مباشرة آية قتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فكيف يتمسك بعض الناس بما يفهمونه من ظاهر آية، ليبطلوا الهدف الأصلي الذي تبينه الآية التي تليها؟ وإذا اجتمعت نصوص القصاص مع المصلحة العامة على شيء واحد فيجب ألا ينظر إلى غيره.

ويؤكد على هذا قول القرطبي: “ولو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا، لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم، وبلغوا الأمل في التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ”.

وقد نظر معظم دارسي هذه المسألة لفكرة تحقيقها للمصلحة، وسدها للذريعة، وإلى جانب هذا فهي تستند إلى ما فهمه عمر – رضي الله عنه – من نص آيات القصاص، من حيث انطباق وصف القاتل على كل من اشترك في القتل، فنفسه بالنفس المقتولة، ونفس شريكه بالنفس المقتولة، دون نظر إلى توحد هذه النفس وتعدد نفوس القاتلين، ولم يثبت مخالفة أحد من الصحابة لعمر في هذا، وقد وافقه فيما بعد جمهور فقهاء الأمصار، ومنهم: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، ومن البدهي أن هذه المسألة لم يكن لها نظير في عهد الرسالة[4].

وعليه فإن قتل الجماعة بالواحد هو المحقق لمصلحة المجتمع الإسلامي، وهو الفهم الصحيح لمقاصد الدين، ولا خطأ على عمرـ رضي الله عنه – في ذلك.

ثانيا. النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يضع حدا معينا لعقوبة شارب الخمر، وللإمام أن يزيد على الحدود المقدرة إذا لم تكن رادعة للبعض:

لقد تصرف عمر – رضي الله عنه – في حدود سلطته بوصفه أميرا للمؤمنين ووليا لأمرهم، ولم ينفرد برأيه وحده بل اعتمد على آراء الصحابة، وأيضا على إجماع سكوتي منهم على ما فعل، ويبين لنا د. محمد بلتاجي هذه القضية فيقول: حرمت الخمر بنص القرآن الكريم، لكننا لا نجد فيه عقوبة محددة لشاربها، فماذا نجد في السنة؟

لقد أتي النبى – صلى الله عليه وسلم – برجل قد شرب، فقال صلى الله عليه وسلم: «اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه..» [5].
وروي في حد شارب الخمر: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين، وأبا بكر أربعين، وكملها عمر بن الخطاب ثمانين.. وكل سنة»[6].
وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإمرة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمرـ رضي الله عنه – فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»[7].

فنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: “اضربوه” دون أن يحدد المقدار والكيفية، وبم يضرب، فمنهم الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه.

وفي رواية السائب بن يزيد مثل ذلك، ليس في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقط، بل في خلافة أبي بكر – رضي الله عنه – وصدرا من عهد عمر رضي الله عنه؛ حيث كان يؤتى بالشارب فيضربونه بأيديهم ونعالهم وأرديتهم، ثم إن عمرـ رضي الله عنه – جلد فيها أربعين بالتحديد، حتى إذا عتوا فيها، زادها إلى ثمانين وعلى هذه الرواية – بالإضافة إلى رواية أبي هريرة – نجد أن عمر هو الذي حدد العقوبة تحديدا مفصلا، حيث جعلها أربعين ثم ثمانين، وحيث جعلها جلدا، أي بسوط أو ما يشبهه.

لكن في رواية: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين، وجلد أبو بكرـ رضي الله عنه – أربعين، وفي رواية أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جلد بالجريد والنعال بدون تحديد العدد، وأن أبا بكر – رضي الله عنه – جلد أربعين – نجد أنفسنا أمام احتمالين هما:

أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يحدد مقدارا معينا، كما يؤخذ من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والسائب بن يزيد.
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين تحديدا، كما يؤخذ من رواية أبي يوسف، فإذا أخذنا بالاحتمال الأول اعتبرنا عقوبة الشارب تعزيرا لا حدا، وإذا أخذنا الاحتمال الثاني اعتبرنا عقوبة الخمر حدا منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مقدارها كان أربعين، فبأي الاحتمالين؛ نأخذ؟

مما لا شك فيه أن لشارب الخمر عقوبة هي الضرب والجلد، هذا ما تجمع عليه كل الروايات، لكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يحدد مقدار الضربات، أو الجلدات في كل الحالات، فكان يأمر بالضرب، فيقوم بذلك الحاضرون من الصحابة، بعضهم يضربه بيده أو بنعله أو بثوبه، أو بالجريد في حالات أخرى، ولم يثبت على سبيل القطع أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حدد مقدارا معينا في كل الحالات، كما أنه لم يحدد لهم بم يضربون، وإنما هو أمر عام مقصود به مطلق العقوبة والردع.

ثم إن الصحابة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أرادوا أن ينفذوا العقوبة، ورغبة منهم في متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – تماما – وعلى وجه الدقة – تساءلوا عن عدد الضربات أو الجلدات في عصره ليضربوا مثلها، فقدروها بأربعين أو نحو أربعين، ومن ثم جلد أبو بكر – رضي الله عنه – أربعين.

ومن هذا التقدير – الذي حدث قطعا بعد عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – جاءت الروايات التي روت أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، أوليس الصحابة قدروا الضربات في عهد الرسول بنحو أربعين؟ فمن هنا يستطاع أن يقال: إنه جلد أربعين، لكن هناك فرقا دقيقا بين الحالتين: أن يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد حدد أربعين في كل حالة على أنه حد مقرر كسائر الحدود، وأن يكون الصحابة قدروا ما كان يحدث في عهد النبيـ صلى الله عليه وسلم – بأربعين أو نحوها. والحالة الأولى لم تحدث قطعا، بدليل كل الروايات الأخرى الصحيحة، وبخاصة روايتي أبي هريرة والسائب بن يزيد، والثانية هي التي حدثت. وهذا الفرق الدقيق – الذي لا يكاد يلمح – هو الذي أوجد نوعا من التعارض الظاهري بين الروايات، حيث لا تعارض في الحقيقة.

ويؤكد هذا ما رواه ابن رشد عن بعض العلماء: “أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدد، وأن أبا بكر – رضي الله عنه – شاور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم بلغ ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لشارب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضرب في الخمر بنعلين أربعين فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي عن طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضرب في الخمر أربعين. وروي هذا عن علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم ــ عن طريق أثبت وبه قال الشافعي.

وعلى هذا نستطيع أن نقبل كل الروايات مجتمعة، بل إننا نستطيع أيضا أن نقبل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حدد أربعين في حالة أو اثنتين، لكن ليس في كل الحالات كما تدل عليه باقي الروايات الصحيحة، ثم لا نجد في هذا القبول ما يعارض تصورنا للأمر؛ لأن تحديد الرسول مرة، وتركه التحديد مرات – دليل قوي على أنه لم يكن هناك مقدار معين، بمعنى الحد الشرعي الملزم في كل الحالات، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يرى مرة أن ما فيه المصلحة في حالة هو الضرب غير المحدد بالثياب أو بالنعال أو بالأيدي، ويرى مرة أخرى أن المصلحة في الضرب المحدد مرة بأربعين، ومرة بالجريد، وهكذا تبعا لحالة الشارب، وعلى هذا نستطيع أن نقول: إن تحديد الصحابة – أو بعضهم – ضرب الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأربعين، إنما جاء على أساس المرة أو المرتين التي رأى فيها الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحدد أربعين أو نحوها.

وكيف يكون حدا مقررا، وقد ثبت أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أمر بمطلق الضرب، دون أن يحدد لكل منهم المقدار الذي يجب أن يتوقف عنده؟ أوليست الزيادة على الحد تعديا له؟ كما أن النقصان عنه يخرجه عن حقيقة الحد؟!

على ضوء هذا التصور نستطيع أن نقبل كل ما روي في هذا الشأن على أنه حديث صحيح، ونستطيع أيضا أن نقبل ما روي عن علي من أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين، ثم ما روي من أنه لم يعين مقدارا لهذا الحد يطبق في كل الحالات.

ولنتأمل قول علي في الرواية التي أوردها ابن حزم: وكل سنة – تعقيبا على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – جلد أربعين، وجلد أبو بكر – رضي الله عنه – أربعين. وجلد عمر – رضي الله عنه – ثمانين، ألا يشعر قوله هذا بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حين جلد أربعين لم يحدد مقدار ذلك تحديدا التزم به في كل مواقفه، وبالتالي لم يلتزم به المسلمون بعده، وإلا فكيف تكون مجاوزة عمر – رضي الله عنه – له سنة هي الأخرى؟ وهذه الرواية هي التي أوردها أبو يوسف أيضا، وفي آخرها أيضا: وكل سنة، أي أن الرواية الوحيدة التي ذكرت عن علي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه جلد أربعين بالتحديد، إنما كانت تعني موقفا أو حالة واحدة من حالات عدة، وإلا فكيف جاز أن يكون عمل عمر – رضي الله عنه – هو الآخر سنة إذا كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد التزم في كل مواقفه بالأربعين؟ وهذا نقد داخلي للرواية في حد ذاتها، فكيف إذا جمعنا إليها قول علي: إن الرسول لم يسن في الخمر مقدارا معينا؟

فإذا سلمنا بهذا وجب أن نقرر أن عقوبة الشارب في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم تكن حدا مقرر العدد، فهل كانت تعزيرا إذن؟ لقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء، منهم الشاطبي.

لكننا نلاحظ هنا ظاهرة معينة، هي أن عقوبة الشارب في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – وغيرها من العصور التي طبقت فيها هذه العقوبة – كانت الجلد أو الضرب، وإن حدث اختلاف في عدد الضربات، وهذه الظاهرة تجعلنا نتوقف كثيرا عند إطلاق وصف “التعزير” على هذه العقوبة؛ لأن التعزير عقوبة غير محصورة في نوع واحد من العقاب؛ حيث يترك أمرها للقاضي من حيث تقدير نوعها ومقدارها، فلم اقتصرت عقوبة الخمر على مر العصور على الجلد؟

إنه ليستوقفنا هنا الإجماع المتوالي على تحديد عقوبة معينة، من بين سائر العقوبات التعزيرية، ومن ثم نرى أن الوصف الدقيق لعقوبة شارب الخمر هو: أنها عقوبة حددها الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالضرب، أو الجلد على وجه العموم، لكنه لم يحدد مقدار الضربات؛ بل تركه للقاضي يرى في كل حالة ما يتناسب معها، وبهذا تجمع بين العقوبة المحددة وغير المحددة، فهي محددة في نوع العقاب، غير محددة في مقداره.

ويرى الشوكاني – الذي رأى فيما سبق أن الصحابة لم يجمعوا على مقدار معين ولم يثبت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – مقدار معين – أن ابن المنذر والطبري وغيرهما حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير، واستدلوا بالأحاديث المروية عنه – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة من الضرب بالجريد والنعال والأردية.

وأجيب بأنه قد انعقد إجماع الصحابة على جلد الشارب، واختلافهم في العدد إنما بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد، أي أنهم اتفقوا على نوع العقوبة، وهو الجلد واختلفوا في المقدار، وهو العدد تبعا لتقديراتهم للحالات المختلفة، ثم يقول الشوكاني:

فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال، وتكون جميعها جائزة، فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالقول والفعل، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه»[8]. فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع منه – صلى الله عليه وسلم – ومن الصحابة بين يديه، ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز غيره.

هذه هي عقوبة الخمر كما تصورها النصوص، ولا نحتاج بعد ذلك أن نجيب عن السؤال: هل كانت حدا أم تعزيرا؟ لأننا لا نجد دليلا شرعيا أو عقليا يلزمنا بأن نطلق عليها وصف “الحد” أو وصف “التعزير” كما حدد الفقهاء معنيهما؛ لأن فيها التحديد في نوع العقوبة وهو يجعلها شبيهة بالحدود، وترك تحديد المقدار للقاضي وهو يجعلها أشبه بالتعزير، فلنكتف بالقول بأنها عقوبة الخمر كما تؤخذ من مجموع النصوص[9].

الظروف التي دفعت عمر – رضي الله عنه – إلى جعل عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة:

يحدثنا د. محمد بلتاجي عن الظروف التي دفعت عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى أن يجعل عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة بدلا من أربعين، فيقول:

روى الدارقطني عن ابن عباس بسند متصل: «أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالأيدي والنعال والعصي، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر – رضي الله عنهم – يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر – رضي الله عنهم – من بعده يجلدهم كذلك أربعين، حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: وأي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ قال له: إن الله – عزوجل، يقول في كتابه: )ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)( (المائدة)، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدرا وأحدا والخندق والمشاهد.

فقال عمر رضي الله عنه: ألا تردون عليه ما يقول؟

فقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على المنافقين؛ لأن الله تعالى يقول: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)( (المائدة)، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن الله قد نهاه عن أن يشرب الخمر.

فقال عمر رضي الله عنه: صدقت، ماذا ترون؟

فقال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر به عمرـ رضي الله عنه – فجلد ثمانين»[10].

وهناك رواية أخرى تذكر أن الذي تأول هذه الآية وجلده عمرـ رضي الله عنه – هو قدامة بن مظعون.

وروى ابن حزم فيما سبق أن عمر – رضي الله عنه – كان يجلد ثمانين لمن تتابع في الخمر وإلا جلد أربعين. كما روى السائب بن يزيد أن عمر – رضي الله عنه – جلد أربعين في صدر خلافته، حتى عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين.

وروى أبو يوسف أنه أتي إلى عمر – رضي الله عنه – برجل قد شرب خمرا في رمضان، فضربه ثمانين وعزره عشرين.

ومن ثم ذهب الجمهور إلى أن عقوبة الشارب ثمانون، ودليلهم: تشاور عمر والصحابة – رضي الله عنهم – لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي – رضي الله عنه – عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه – كما قيل عنه – إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى.

إن عمر – رضي الله عنه – لم يفكر في زيادة العقوبة إلا بعد أن هانت الأربعون عليهم؛ فتحاقروا العقوبة وأقبلوا على الخمر، وأكثروا منها، وعتوا فيها وفسقوا، ووصل الأمر ببعضهم إلى محاولة التأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم؛ تبريرا لشربهم فخاف عمر – رضي الله عنه – من هذا الاجتراء أن يأخذ صورة جماعية، فرأى أن يفكر – ومعه المسلمون – في علاج حاسم سريع، ولم ينفرد عمر – رضي الله عنه – بالأمر ويجلد الثمانين إلا بعد أن استشار جمع الصحابة، فأشار علي – رضي الله عنه – بأن يزيدهم إلى ثمانين، واستند إلى القياس على الافتراء والقذف، ووافقه جمهور الصحابة سكوتا.

وبهذا يتبين لنا أن هذه العقوبة لم يكن فيها مقدار معين، لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه، بل إن الأمر في مقدارها ترك للقاضي، أو ولي الأمر، ولم يتفاقم الأمر في خلافة أبي بكر – رضي الله عنه – وكانت قصيرة شغل المسلمون في معظمها بحروب الردة – إلى حد أن يفكر في زيادة العقوبة، كما حدث بعد ذلك في عهد عمر رضي الله عنه.

ومما لا شك فيه أن الأربعين الثانية تعزير، حتى على رأي القائلين بأن الأربعين الأولى حد. ومما يؤكد هذا قول د. عبد العزيز عامر: “إذا أخذنا بالآثار التي تفيد أن عقوبة الخمر على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت مقدرة بأربعين – وهو الذي ذهب إليه الشافعي ــ فإن العقوبة في هذه الجريمة على عهده – صلى الله عليه وسلم – تكون حدا لا تعزيرا، ويكون ما بعد الأربعين تعزيرا لا حدا؛ إذ إن للإمام أن يزيد على الحدود المقدرة إذا لم تكن رادعة للبعض”، وقد سبق القول بأننا لم نرفض هذه الآثار، وإنما أخذنا بها مع الآثار الأخرى، ولم نجد تعارضا.

وعلى أية حال فإن التكييف التشريعي للأربعين الثانية – هو أنها تعزير – استند إلى قياس، وتم له إجماع سكوتي وقصد به تحقيق المصلحة العامة.

لكن، هل اكتفى عمر – رضي الله عنه – بهذا النوع من التعزير؟ لقد كان يضاعف التعزير كلما رأى الظروف تستوجب ذلك، كما يروي أبو يوسف أنه أتي برجل قد شرب في رمضان، فجلده الثمانين ثم عزره عشرين؛ لانتهاكه حرمة الشهر، ويقول ابن القيم: “إن التعزير لا يتقدر بقدر معلوم، بل هو بحسب الجريمة في حينها، ووصفها، وكبرها، وصغرها”، ثم يروى عن عمر تعزيراته في الخمر، من حلق الرأس، والنفى، وزيادة الأربعين، وتحريق حانوت الخمر.

وكان كل هذا – وأكثر منه – من حقه ما دام في سبيل المصلحة العامة، وهذا يقودنا إلى سؤال آخر هو: هل يلتزم الناس في عصورهم المختلفة – ومنها عصرنا الحديث – بالثمانين التي أقرت في عهد عمر رضي الله عنه؟

هنا نعود إلى ما سبق أن رويناه عن ابن حزم، من أنه صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر – بحضرة الصحابة رضي الله عنهم – جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر رضي الله عنه، وهو دليل على تغير المقدار بتغير الناس، وهذا ينطبق على كل عصر، مع ملاحظة أن تكون العقوبة ابتداء هي الجلد، لالتزام المسلمين بما تكرر وقوعه في عصر الرسالة، أما المقدار فيحدد بما يحقق مصالح الناس. ولولي الأمر بعد ذلك أن يعزر الشارب بما يراه من سائر التعزيرات التي تضاف إلى العقوبة الأصلية، وهي مطلق الجلد، وإجماع الصحابة على الجلد، باعتباره العقوبة الرئيسية الملزمة، يجب أن يمتد زمنيا، في صورة إجماع أجيال المسلمين المتعاقبة على الالتزام بنوع عقوبة شرب الخمر التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب ألا تقل العقوبة عن الأربعين التي وردت في حديث علي – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما طبقه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في عصر الرسالة مرة على الأقل؛ لأن المسلمين – في أي عصر – لن يكونوا أكثر التزاما لأوامر الله من الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد يثار في مثل هذا الموضع – وغيره من مواضع العقوبات التعزيرية – ما روي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – من أنه قال: «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى»[11]، فكيف زاد عمرـ رضي الله عنه – في التعزير عنها؟

وقد أجيب عن هذا بما يرويه ابن فرحون: “قال المازري: وتأول أصحابنا الحديث على أنه مقصور على زمنه صلى الله عليه وسلم، كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وتأولوه على أن المراد بقوله: “في حد”، أي في حق من حقوق الله تعالى، وإن لم يكن من المعاصي المقدر حدودها؛ لأن المعاصي كلها من حدود الله عزوجل، ثم يروي ابن فرحون – كدليل على تغير مقدار العقوبات التعزيرية بتغير الناس وما يردعهم – أن مالكا عزر رجلا بضربه أربعمائة”[12].

وعليه فإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يخطئ في زيادة الضرب لشاربي الخمر؛ حيث إن الزيادة كانت تعزيرا، وهو كخليفة له حق التعزير.

الخلاصة:

الادعاء أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خالف القرآن والسنة حينما قتل الجماعة بالواحد، وحينما جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ادعاء باطل لا أساس له من الصحة؛ فلم يشهد بصحته الواقع، كما لم يشهد بصحته ما عرف عن عمر – رضي الله عنه – من طاعته المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
النص القرآني في القصاص قصد به تقرير أصل من الأصول العامة التي جاء بها التشريع الإسلامي، وهو العدل المطلق في كل المواقف، كما أن النصوص الإسلامية كلها تراعي في العقوبات فكرة التعدي والجور دون أن تنظر إلى محل التعدي، من حيث انفراده أو تعدده؛ وعلى هذا يعتبر ما فعله عمر – رضي الله عنه – اتباعا منه لما روعي في العقوبات الإسلامية من فكرة التعدي، دون نظر منه إلى ما قد يفهمه بعض من يتمسكون بحرفية النص.
هدف عمر – رضي الله عنه – من تطبيق التشريع، كان تحقيق مصلحة الناس بما يتمشى مع النصوص، وقتل الجماعة بالواحد طريق من الطرق التي اتبعها للوصول إلى هذا الهدف؛ لأن قتل الجماعة بالواحد كان – وما يزال – محققا لمصلحة الجماعة، فهذا مما لايخالف أحد فيه.
تجمع الروايات الواردة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة أن عقوبة شارب الخمر هي الضرب أو الجلد، لكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يحدد مقدار الضربات أو الجلدات في كل الحالات، فكان يأمر بالضرب؛ فيقوم بذلك الحاضرون من الصحابة، بعضهم يضرب شارب الخمر بيده أو بنعله أو بثوبه أو بالجريد، ولم يثبت على سبيل القطع أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حدد مقدارا معينا في كل الحالات، كما أنه لم يحدد لهم بم يضربونه، وإنما هو أمر عام مقصود به مطلق العقوبة والردع.
لم يفكر عمر – رضي الله عنه – في زيادة العقوبة إلا بعد أن هانت الأربعون جلدة على الناس؛ فتحاقروها وأقبلوا على الخمر وأكثروا منها، فاستشار عمر جمع الصحابة رضي الله عنهم؛ فأشار علي – رضي الله عنه – بأن يزيد العقوبة إلى ثمانين، واستند إلى القياس على الافتراء والقذف، ووافقه جمهور الصحابة بإجماع سكوتي.

 


(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م.

[1]. الغيلة: الغفلة.

[2]. الدن: الكأس.

[3]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص244، 245 بتصرف.

[4]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص245، 246 بتصرف.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6395)، وفي موضع آخر.

[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الخمر (4554).

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6397).

[8]. صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الأشربة، باب من حد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (17087)، وأحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (16905)، وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد: صحيح لغيره.

[9]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص233: 239 بتصرف.

[10]. إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الحدود والديات (3/ 245)، والحاكم في مستدركه، كتاب الحدود (4/ 8132)، وقال عنه الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب كم التعزير والأدب (6458)، وفي موضع آخر.

[12]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص239: 242 بتصرف.

دعوى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي حرم زواج المتعة

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المدعين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قد شرع في الإسلام ما ليس منه، ودليلهم على ذلك أنه حرم نكاح المتعة، الذي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أباحه في زعمهم.

وجها إبطال الشبهة:

1) أحل النبي صلى الله عليه وسلم – نكاح المتعة في ظروف خاصة، ثم حرمه إلى يوم القيامة، كما توالت الروايات الصحيحة بذلك، وعليه: فقد كان سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – متبعا لسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حينما نهى عن المتعة في خلافته، ولم يكن مبتدعا.

2) التشريع الإسلامي يرفض أن يقوم بناء البيت المسلم على مجرد إشباع الغريزة، فللأسرة المسلمة شأن أكبر من ذلك بكثير، ولتكوينها مقاصد أخرى تخدم الإسلام والمجتمع بأسره.

التفصيل:

أولا. أحل النبي – صلى الله عليه وسلم – نكاح المتعة في ظروف خاصة، ثم حرمه إلى يوم القيامة، كما توالت الروايات الصحيحة على ذلك:

ولبيان الظروف التي أحل فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا النكاح يجب أن نذكر الآتي:

لقد اقتضت الضرورة أن تباح المتعة للصحابة – رضي الله عنهم – في فترة من الفترات، ثم تحرم عليهم بعد ذلك إلى يوم القيامة، والمتتبع لأحاديث الإباحة يرى أن تلك الإباحة لم تكن في حال استقرار الصحابة في دورهم، بل كانت في فترات الغزو البعيد والسفر الطويل؛ إذ كان يشتد عليهم – رضي الله عنهم – شوقهم إلى نسائهم، فرخص بالتمتع لمن اشتد عليه الشبق منهم؛ فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «كنا نغزو مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب»[1].

قال القاضي عياض: “وإنما كان ذلك في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم وعدم الفساد؛ لأن بلادهم كانت حارة، وصبرهم عنهن قليل، وقد ذكر في حديث ابن عمر أنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة ونحوها، وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – نحوه.

وقد أبيح هذا النكاح في أوقات بحسب الضرورات، ثم حرم تحريم تأبيد بعد فتح مكة؛ روى مسلم في صحيحه من طرق عديدة عن سبرة بن معبد الجهني أنه كان مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام الفتح، فقال لهم رسول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا»[2].

ومن ثم فإن نكاح المتعة قد حرمه الله – سبحانه وتعالى – إلى يوم القيامة؟ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة” وإن هو إلا وحي يوحى، وقد أخبر عن ربه تحريمه، وخبر الله لا ينسخ ولا يبدل.

قال المازري: “ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا أول الإسلام، ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ، وانعقد الإجماع على تحريمه، ولم يخالف فيه إلا طائفة من المبتدعة. فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – متبع في تحريمه نكاح المتعة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا مبتدع”[3].

وقد صرح عمر – رضي الله عنه – في حديث طويل مع عمران بن سوادة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحلها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس إلى السعة “ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها، ولا عاد إليها؛ فالآن من شاء نكح بقبضة، وفارق عن ثلاث بطلاق”.

وكان مقتضى نهي الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثم نهى عمر – رضي الله عنه – أن ينتهي أمر المتعة والحديث عنها بين المسلمين على اعتبار أنها أبيحت للضرورة الشديدة، ثم نهى عنها، ونسخت بالأحكام التفصيلية للزواج والميراث والعدة في النصوص الإسلامية[4].

فمن نسب تحريم المتعة إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – دون أن يكون له سند من النصوص الشرعية، فقد جهل أدلة ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت سندا للفاروق في تحريمه للمتعة، أليس النبي – صلى الله عليه وسلم – هو القائل: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منهن فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا»[5]، وروى أن علي بن أبي طالب سمع ابن عباس – رضي الله عنهم – يلين في متعة النساء فقال: “مهلا يا ابن عباس، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية”[6].

وقد تكرر تحريم النبي – صلى الله عليه وسلم – لهذا الزواج إلى أن حرمه عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة تحريما مؤبدا، بعد أن حرمه في خيبر سنة ست من الهجرة، ثم أحله عام الفتح فمكث الناس خمسة عشرة يوما وهم يستمتعون، ثم حرمه – صلى الله عليه وسلم – إلى يوم القيامة[7].

ثم إن الصحابة وافقوا عمر – رضي الله عنه – في أمر التحريم ولم يعترضوا عليه حين نهى عن نكاح المتعة، فلم ينكر عليه هذا القول منكر، لا سيما في شيء قد علموا إباحته من قبل، فلا بد أنهم قد علموا بحظره، وإلا فكيف يقبلون أن يحرم عمر – رضي الله عنه – ما أحله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يجتمعون على شيء هو في نظر المدعين ضلالة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة»[8].

وعليه فلا يعد هذا خطأ بالنسبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما الخطأ والمرض في عقول وقلوب المدعين.

ثانيا. زواج المتعة مبني على مجرد الغريزة وحدها وهذا يرفضه التشريع الإسلامي:

إن الناظر لتشريع الزواج في الإسلام يجد الهدف منه أكبر بكثير من مجرد إشباع الغرائز، فالزواج يقوم على السكن والاستقرار والمودة والرحمة، وتكوين الأسرة، ورعاية الأبناء، بالإضافة للعفة، أما زواج المتعة فإنه يخلو من كل ذلك، كما أنه يضر بالمرأة أيما ضرر؛ حيث تعيش على هامش الحياة الزوجية، وتحرم من الأمومة التي خلقت وهي في دمائها تجري، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

لقد راعى التشريع الإسلامي طبيعة البشر، وسما بها إلى مراتب من التكريم، ويتبين هذا من خلال تحريمه زواج المتعة، فإلى جانب وجهة التشريع الخالصة، هناك شيء يتصل بالإنسانية، وحفظ حقوق المرأة التي خلقها الله من النفس التي خلق منها الرجل، وجعلها سكنا وجعل بينها وبين الرجل مودة ورحمة، وألغى النظرة إليها كمجرد متاع يرفه عن الرجل ويقيه شرور الكبت ويحل مشكلاته الجنسية، ومتى حقق الرجل ذلك المتاع كان حقا له أن يفر من كل مسئولية تجاهها، لتبحث عن رجل آخر تحل مشكلاته الجنسية، لينصرف هو أيضا عنها بدوره، سالما من كل مسئولية أو واجب، وهكذا حتى يستنفد الرجال ما يطلبونه عند المرأة، ثم يتركونها للضياع لا تجد رجلا يرعاها؛ لأنها لم تعد تستطيع حل مشكلات الرجال الجنسية!

وهذه النظرة المبنية على مجرد الغريزة وحدها يرفضها التشريع الإسلامي؛ لأنها تؤدي – عند تطبيقها كما يريد بعض المعاصرين – إلى نوع من الدعارة المستترة، إذا سمينا الأشياء بأسمائها الحقيقية[9].

الخلاصة:

اقتضت الضرورة أن تباح المتعة للصحابة – رضي الله عنهم – في فترة من الفترات ثم حرم عليهم بعد ذلك إلى يوم القيامة، والمتتبع لأحاديث الإباحة يرى أن تلك الإباحة لم تكن في حال استقرار الصحابة في دورهم، بل كانت في فترات الغزو البعيد والسفر الطويل، ثم حرمت بعد ذلك إلى يوم القيامة.
عمر – رضي الله عنه – كان متبعا للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – نهيا مؤبدا عن نكاح المتعة عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة، فمن نسب تحريم المتعة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن عمر -، رضي الله عنه – فعل ذلك من تلقاء نفسه دون أن يكون له سند من النصوص الشرعية؛ فقد جهل أدلة ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت سندا للفاروق في تحريمه للمتعة، ثم إن الصحابة وافقوا عمر رضي الله عنه، ولم يعترض منهم أحد، فكان هذا إجماع من الصحابة، فكيف يجتمع الصحابة على شيء مخالف للرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة».
وإلى جانب وجهة التشريع الخالصة، فهناك شيء يتصل بالإنسانية، وحفظ حقوق المرأة التي خلقها الله من النفس التي خلق منها الرجل، وجعلها سكنا، وجعل بينها وبين الرجل مودة ورحمة، وألغى النظرة إليها كمجرد متاع يرفه عن الرجل ويقيه شرور الكبت ويحل مشكلاته الجنسية، وهذه النظرة المبنية على مجرد الغريزة وحدها يرفضها التشريع الإسلامي.

(*) منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة المائدة (4339)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ (3476).

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ (3488).

[3]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص704، 705.

[4]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص291.

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ (3500).

[6]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، ط1، 2002م، ص414.

[7]. القضاء في عهد عمر بن الخطاب، د. ناصر الطريفي، مكتبة التوبة، الرياض، ط1، 1406هـ/1986م، ج2، ص756.

[8]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها (37192) بنحوه، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (2167)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2167)، دون عبارة: “ومن شذ شذ إلى النار”.

[9]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص258. المتعة، د. شهلا حائري، ترجمة: فادي حمود، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، ط6، 1996م.

دعوى ابتداع عمر بن الخطاب في الصلاة حين جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد

مضمون الشبهة:

يزعم بعض الواهمين أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – هو أول من أدخل البدعة في الإسلام، ودليلهم على ذلك أنه أمر الناس أن يصلوا النافلة جماعة، وهي صلاة التراويح، وقال: “نعمت البدعة هذه”، مع العلم أن الله ورسوله حرما النافلة جماعة، فخالف بذلك عمر – رضي الله عنه – التشريع الإسلامي مخالفة صريحة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لم يحدث صلاة التراويح في جماعة، فقد أقر الرسول – صلى الله عليه وسلم – صلاة الجماعة في ليالي رمضان لغير الفريضة، بل وقد صلى في جوف الليل في المسجد وصلى قوم بصلاته ثلاث ليال، ولم يمنعه من الخروج في الرابعة إلا خشية أن تفرض عليهم؛ لذا فعمر فيها متبع وليس بمبتدع.

2) إن عمر – رضي الله عنه – لم يقصد بالبدعة في قوله: “نعمت البدعة هذه” البدعة بمعناها الشرعي، والتي تعني الطريقة المخترعة في الدين بلا دليل شرعي على صحتها؛ بل قصدها بمعنى من معانيها اللغوية، وهي الفعل على غير مثال وإن كان مستندا إلى دليل شرعي، أي أنها بدعة باعتبار ظاهر الحال، لا باعتبار الحقيقة الشرعية.

3) إن فعل عمر – رضي الله عنه – هذا وجمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح في رمضان يعد سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي»[1]. ولقد حققت هذه السنة مقاصدها، وصارت مظهرا من مظاهر وحدة المسلمين واجتماعهم.

التفصيل:

أولا. صلاة الليل في جماعة مشروعة أقرها النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما فعلها الصحابة، بل فعلها هو – صلى الله عليه وسلم – وبين فضلها:

مما لا شك فيه أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من خيره صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو من العشرة المبشرين بالجنة، مما يستحيل معه أن يكون صاحب بدعة، أما أن يجمع سيدنا عمر – رضي الله عنه – الناس على صلاة نافلة، وقد جمعهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – عليها من قبل، فليس في هذا ابتداع على الإطلاق، بل هو الاتباع بعينه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يستمر على ذلك خشية أن تفرض على الناس فلا يستطيعونها، وما دام فعلها – ولو مرة واحدة – فهذا دليل قاطع على عدم ابتداع سيدنا عمر – رضي الله عنه – لها.

ويؤكد هذا قول د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي: “إن عمر – رضي الله عنه – لم يحدث شيئا في صلاة التراويح، ولا في غيرها، بل كان فيها وفي غيرها خير مثال للمؤمن المتبع لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تمام الاتباع”.

ومن يتأمل كتب السنة لا يشك في مشروعية صلاة الليل جماعة في رمضان؛ وذلك لإقرار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للصحابة على فعلها؛ ولفعله لها، ولبيانه لفضلها.

أما إقراره – صلى الله عليه وسلم – لصلاة الجماعة في ليالي رمضان؛ فقد روي «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج ذات ليلة في رمضان، فرأى ناسا في ناحية المسجد يصلون، فقال: “ما يصنع هؤلاء”؟ قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يقرأ، وهم معه يصلون بصلاته. فقال: “قد أحسنوا”. أو: “قد أصابوا”، ولم يكره ذلك لهم»[2].

وأما صلاته – صلى الله عليه وسلم – لها فقد ثبتت في أحاديث، منها:

حديث أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وفيه قولها: «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضي الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: “أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن يفترض عليكم فتعجزوا عنها”، فتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والأمر على ذلك»[3].
وحديث النعمان بن بشير – رضي الله عنه – وفيه قوله: «قمنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور»[4].
وكذا حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: «صمنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رمضان، فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: “إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة”. فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح…»إلخ”[5].

وهذا الحديث مثل حديث النعمان بن بشير يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – قد قام بهم ثلاث ليال متفرقة.

وقد تقدم حديث أم المؤمنين، وهو يدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – قام بالناس أيضا ثلاث ليال متوالية. وفي الباب عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – وحذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – وحديثاهما يدلان على أنه – صلى الله عليه وسلم – صلى بهم في بعض ليالي رمضان.

وقد تقدم في حديث أبي ذر بيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لفضل قيام الليل جماعة في رمضان، وموضع الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة».

فهذه الأحاديث تدل على أن صلاة التراويح جماعة قد فعلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعلها أصحابه أمامه فأقرهم، وبين لهم ثواب قيام المصلين مع الإمام حتى ينصرف، وهي تدل أيضا على فساد قول الذين زعموا أن عمر – رضي الله عنه – هو الذي ابتدعها من تلقاء نفسه[6].

ويعلق الشوكاني على ذلك بقوله: إن العلماء استدلوا به على صلاة التراويح؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى في المسجد وصلى من خلفه الناس، ولم ينكر عليهم، وكان ذلك في رمضان ولم يترك إلا لخشية الافتراض، فصح الاستدلال به على مشروعية مطلق التجمع في النوافل في ليالي رمضان.

ويؤكد هذا قول الشاطبي: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما خاف افتراض القيام على الأمة أمسك عنه، ففي هذا الحديث ما يدل على كونه سنة، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا؛ لأن زمانه كان زمان وحي وتشريع، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام[7].

ولقد كانت صلاة التراويح تؤدي في جماعات متفرقة بعد وفاة رسول – صلى الله عليه وسلم – في عهد الصديق رضي الله عنه – وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه – حتى أشار علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – على عمر – رضي الله عنه – أن يجمعهم على إمام واحد؛ قال الحاكم – بعد أن ذكر أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين خلف إمام واحد هي السنة المسنونة -: “وقد كان علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يحث عمر – رضي الله عنه – على إقامة هذه السنة إلى أن أقامها”.

وروي أن عمر – رضي الله عنه – خرج ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط؛ فقال عمر رضي الله عنه: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، فخرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر رضي الله عنه: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون؛ يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله “[8].

ثانيا. قول عمر رضي الله عنه: “نعم البدعة هذه ” لم يقصد به البدعة بمعناها الشرعي:

لم يقصد عمر – رضي الله عنه – من هذه المقولة “البدعة “بمعناها الشرعي لعدة أسباب منها:

إن معنى البدعة الشرعي: “الطريقة المخترعة في الدين تضاهي الشريعة، يقصد بها التقرب إلى الله، ولم يقم على صحتها دليل شرعي صحيح أصلا، أو وصفا”. إذا فكل ما أحدث في الدين على غير مثال سابق له في الشرع يسمى بدعة.

وبتطبيقنا لهذا التعريف على ما فعله عمر – رضي الله عنه – من جمعه الناس للصلاة خلف إمام واحد، نجد أنه – رضي الله عنه – لم يحدث شيئا، بل أحيا أكثر من سنة نبوية، والصلاة نفسها ثبت في أحاديث كثيرة صحيحة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاها بأصحابه مرات عديدة، بل وحثهم على فعلها كما تقدم بيان ذلك.

إن عمر – رضي الله عنه – لم يرد بـ “البدعة” في قوله: “نعم البدعة هذه” البدعة بمعناها الشرعي، وإنما قصد البدعة بمعنى من معانيها اللغوية، وهو: الأمر الحديث الجديد الذي لم يكن معروفا قبيل إيجاده؛ قال الألباني: “ومما لا شك فيه أن صلاة التراويح جماعة وراء إمام واحد لم يكن معهودا، ولا معمولا بها زمن خلافة أبي بكر وشطرا من خلافة عمر – رضي الله عنهما – فهي بهذا الاعتبار حادثة، ولكن بالنظر إلى أنها موافقة لما فعله – صلى الله عليه وسلم – فهي سنة وليست بدعة، وما وصفها بالحسن إلا بذلك.

وقال ابن حجر الهيتمي: “وقول عمر – رضي الله عنه – في صلاة التراويح: نعمت البدعة هي، أراد البدعة اللغوية؛ وهو ما فعل على غير مثال، كما قالعزوجل: )قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)( (الأحقاف)، وليست بدعة شرعية؛ فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم.

الحديث الذي استدل به أصحاب هذا الزعم على أن صلاة التراويح جماعة من البدع فهو حديث مكذوب، وضعوه من أنفسهم لتقوية معتقدهم في أن عمر – رضي الله عنه – هو الذي ابتدع صلاة التراويح، والأدلة على كونه مكذوبا كثيرة، منها:
ما نسبوه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من قول:«إن الصلاة بالليل من شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة»، وقد تقدم أنه – صلى الله عليه وسلم – صلى بأصحابه في عدة ليال من رمضان، وأقرهم لما رآهم يصلون جماعة، ولو كانت بدعة – كما زعم الواهمون – لما صلى بهم، بل ولا أقرهم عليها.
ومما نسبوه إليه – صلى الله عليه وسلم – من قوله: «وصلاة الضحى بدعة» من الأدلة على كذبها أيضا؛ فقد ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان يصلي الضحى، ويأمر أصحابه بأن يصلوها، ويرغبهم في فعلها ببيان ما أعد الله – عزوجل – من الثواب لمن فعلها؛ فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»[9].
وروي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله»[10].

والأحاديث في بيان شرعيتها واستحبابها كثيرة جدا، ويكفي دليل واحد منها في رد ما زعمه أصحاب هذه الشبهة من كونها بدعة[11].

ثالثا. عضد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مقاصد الشريعة وأهدافها بتأكيده على هذه السنة:

هذا الجمع – الذي وافق السنة – كان يتضمن مظهرا من مظاهر توحيد المسلمين، مما يتفق مع أحد الأهداف الأساسية في التشريع الإسلامي وذلك مما يبدو بوضوح في كثير من توجيهات عمر للصحابة – رضي الله عنهم – من مثل ما رواه الطبري أن عمر رضي الله عنه، قال لناس من قريش: “بلغني أنكم تتخذون مجالس – أي متفرقة – لايجلس اثنان معا حتى يقال: من صحابة فلان؟ ومن جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، لكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأى فلان، قد قسموا الإسلام أقساما! “أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معا، فإنه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس”[12].

وكانت هذه التجمعات الصغيرة التي كان عمر – رضي الله عنه – ينهى عنها من أسباب الفتن التي أطاحت بوحدة المسلمين بعده؛ ومن هنا كان جمع الناس في قيام رمضان موافقا للسنة محققا للمصلحة، وإن كنا نوافق الشوكاني على أن تحديد عدد معين من الركعات – كعشرين، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وتخصيصها بقراءة معينة – أمور لم ترد بها سنة، ولم يأمر بها عمر رضي الله عنه.

فإذا أتينا إلى آراء الفقهاء وأئمة المذاهب، فإن العلماء متفقون على استحباب صلاة التراويح، بناء على حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – السابق، لكن الشافعي وجمهور أصحابه، وأبا حنيفة، وأحمد، وبعض المالكية، وغيرهم يرون أن الأفضل أن تصلي جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم، واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد. وبالغ الطحاوي فقال: إن صلاتها في الجماعة واجبة على الكفاية.

وقال مالك، وأبو يوسف، وبعض الشافعية، وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى في البيت، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»[13] [14].

الخلاصة:

إن عمر – رضي الله عنه – لم يحدث شيئا في صلاة التراويح، ولا غيرها، بل كان فيها وفي غيرها خير مثال للمؤمن المتبع لسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تمام الاتباع، ومن يتأمل كتب السنة لا يشك في مشروعية صلاة الليل جماعة في رمضان، وذلك لإقرار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للصحابة على فعلها، ولفعله لها، ولبيانه لفضلها.
إن قول عمر رضي الله عنه: “نعم البدعة هذه” لم يقصد به البدعة بمعناها الشرعي، لأنه – رضي الله عنه – لم يحدث شيئا، بل أحيا أكثر من سنة نبوية، والصلاة نفسها ثبتت في أحاديث كثيرة صحيحة منها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلاها بأصحابه مرات عديدة، بل وحثهم على فعلها، كما تقدم بيان ذلك، فقوله رضي الله عنه: “نعمت البدعة هي”، أراد بها البدعة اللغوية؛ وهو ما فعل على غير مثال، كما قال عزوجل: )قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9)( (الأحقاف)، وليست بدعة شرعية؛ فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«… وكل بدعة ضلالة»[15]، ولا تجتمع أمة الحبيب – صلى الله عليه وسلم – على ضلالة.
جمع الناس في قيام رمضان موافق للسنة ومحقق للمصلحة؛ لأنه يتضمن مظهرا من مظاهر وحدة المسلمين، مما يتفق مع أحد الأهداف الأساسية في التشريع الإسلامي، وهو مما يبدو بوضوح في كثير من توجيهات عمر – رضي الله عنه – للصحابة.

(*) موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م.

[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم (17184)، وابن ماجه في سننه، كتاب الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2735).

[2]. حسن: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصيام، باب الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قيام ليالي رمضان كله خشية أن يفترض قيام الليل على أمته فيعجزوا عنه (2208) بنحوه، وأبو داود في سننه، كتاب شهر رمضان، باب في قيام شهر رمضان (1379)، وحسنه الألباني في صلاة التراويح (1).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1908)، وفي مواضع أخرى.

[4]. إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصيام، باب الصلاة جماعة في قيام شهر رمضان (2204)، وأحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم (18426)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.

[5]. صحيح: أخرجه الطيالسي في مسنده، أحاديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (1/ 466)، والدارمي في سننه، كتاب الصوم، باب في فضل قيام شهر رمضان (1777)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1227).

[6]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص727: 729.

[7]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص293.

[8]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص730.

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى (1704).

[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى (1698).

[11]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، د. عبد القادر محمد عطا صوفي، أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص730.

[12]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص572.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب صلاة الليل (698)، وفي مواضع أخرى.

[14]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص296، 297.

[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2042).

استنكار تحريم التشريع الإسلامي لحم الخنزير

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن الإسلام يحرم ما لا مبرر في تحريمه، ودليلهم على ذلك تحريم الإسلام أكل لحم الخنزير، وهو حيوان مثل باقي الحيوانات التي أباح الإسلام أكل لحومها.

وجها إبطال الشبهة:

1) ليس الإسلام وحده الذي يحرم أكل لحم الخنزير؛ فاليهودية تحرمه – كما ورد في العهد القديم – وهذا ملزم للنصارى أيضا.

2) الإسلام يبيح الطيبات ويحرم الخبائث، وقد أثبت العلم الحديث أن في تناول لحم الخنزير آثارا مدمرة على صحة الإنسان، وهذا من الإعجاز العلمي للتشريع الإسلامي.

التفصيل:

أولا. ليس الإسلام وحده الذي يحرم لحم الخنزير:

الأصل في الأشياء الإباحة و الإسلام شريعة سمحة وليس من أهدافها كثرة التحريم، إنما الدافع في تحريم أي شيء فيها هو مصلحة الإنسان ومنفعته – فردا كان أو جماعة – والكثير من الأوامر التي أمر الله بها، والنواهي التي نهى الله عنها، قد تخفى علينا الحكمة من وراء الأمر والنهي فيها، والهدف من ذلك اختبار الإنسان في مدى طاعته لله سواء بالأمر أو النهي.

وما كشفت الأيام عن حكمة شيء شرعه الله إلا وجدناه خيرا، ومن ذلك تحريم أكل لحم الخنزير الذي يشتمل على الكثير من المضار للإنسان في دينه ودنياه، وفي صحته وأخلاقه.

إن هناك جماعات كالبراهمة وبعض المتفلسفين حرموا على أنفسهم ذبح الحيوان وأكله، وعاشوا على الأغذية النباتية، وقالوا: إن في ذبح الحيوان قسوة من الإنسان على كائن حي مثله، ليس له أن يحرمه من حق الحياة.

لكنا عرفنا من التأمل في الكائنات أن خلق هذه الحيوانات ليس غاية في نفسه، فإنها لم تؤت العقل والإرادة، ورأينا وضعها الطبيعي أن تسخر لخدمة الإنسان، وليس بغريب أن ينتفع الإنسان بلحمها ذبيحة، كما انتفع بتسخيرها في حياتها.

وعرفنا كذلك من سنة الله في الخليقة أن النوع الأدنى يضحي به في مصلحة النوع الأعلى منه، فالنبات الأخضر المترعرع يقطع من أجل غذاء الحيوان، والحيوان يذبح لأجل غذاء الإنسان، بل إن الإنسان الفرد يقاتل ويقتل في مصلحة المجموع… وهكذا. على أن امتناع الإنسان من ذبح الحيوان لن يحميه من الموت والهلاك، فهو إن لم يفترس بعضه بعضا سيموت حتف أنفه، وقد يكون ذلك أشد عليه من شفرة حادة تعجل به.

وفي الديانات الكتابية حرم الله على اليهود كثيرا جدا من الحيوانات البرية والبحرية، تكفل بيانها الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين من التوارة.

وقد ذكر القرآن بعض ما حرم الله على اليهود؛ وعلة هذا التحريم أنه كان عقوبة حرمان من الله لهم على ظلمهم وخطاياهم. قال عزوجل: )وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)( (الأنعام).

هذا شأن اليهود، وكان المفروض أن يكون النصارى تبعا لهم في هذا فقد أعلن الإنجيل أن المسيح – عليه السلام – ما جاء لينقض الناموس، بل جاء ليكمله، ولكنهم استباحوا ما حرم عليهم في التوراة – مما لم ينسخه الإنجيل -، واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع الطعام والشراب، إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي: إنه مذبوح لوثن؛ وعلل بولس ذلك: أن كل شيء طاهر للطاهرين، وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم، وإنما ينجسه ما يخرج منه. وقد استباحوا بذلك أكل لحم الخنزير، رغم أنه محرم بنص التوراة إلى اليوم.

أما العرب في الجاهلية فقد حرموا بعض الحيوانات تقذرا، وحرموا بعضها تعبدا وتقربا للأصنام واتباعا للأوهام؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وفي مقابل هذا استباحوا كثيرا من الخبائث؛ كالميتة والدم المسفوح. إذن ففي كل تشريع تحريم، ولو كان تشريعا ضالا أو جاهليا، وتحريمهم لا يعلل بعلة مقبولة أما الإسلام فلا يحرم طيبا أبدا.

ثانيا. الإسلام يبيح الطيبات ولا يحرم إلا الخبائث:

جاء الإسلام والناس على هذه الحال في أمر الطعام الحيواني بين مسرف في التناول، ومتطرف في الترك، فوجه نداءه إلى الناس كافة في كتابه: )يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168)( (البقرة)، ناداهم بوصفهم “ناسا” أن يأكلوا من طيبات تلك المائدة الكبيرة التي أعدها لهم – وهي الأرض التي خلق لهم ما فيها جميعا – وألا يتبعوا مسالك الشيطان وطرقه التي زين بها لبعض الناس أن يحرموا ما أحل الله فحرمهم من الطيبات، وأرداهم في مهاوي الضلال.

ثم وجه نداء إلى المؤمنين خاصة، فقال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة).

وفي هذا النداء الخاص للمؤمنين أمرهم سبحانه أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وأن يؤدوا حق النعمة بشكر المنعم عزوجل، ولقد وضع الإسلام القاعدة العامة فيما يبيح وما يحظر من الأطعمة واللحوم وهي قوله عزوجل: )ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم( (الأعراف: 157).

ثم بين أنه – عزوجل – لم يحرم عليهم إلا هذه الأصناف الأربعة المذكورة في آية البقرة، والتي ورد ذكرها في آيات أخر، أكثرها صراحة في الدلالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة، قوله عزوجل: )قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)( (الأنعام).

ولقد ذكر القرآن في سورة المائدة هذه المحرمات بتفصيل أكثر، فقال عزوجل: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب( (المائدة: 3).

ولا تنافي بين هذه الآية التي جعلت المحرمات عشرة، والآيات السابقة التي جعلتها أربعة، إلا أن هذه الآية فصلت الآيات الأخرى، فإن المنخنقة والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع كلها في معنى الميتة، فهي تفصيل لها.

كما أن ما ذبح على النصب في حكم ما أهل لغير الله به، فكلاهما من باب واحد. فالمحرمات أربعة بالإجمال عشرة بالتفصيل.

ولقد كشف لنا العلم في عصرنا هذا عن بعض أسباب الفائدة في الطعام، وعن بعض أسباب الضرر فيه، فليس كل ما يؤكل يفيد الجسم، فبعض الطعام طيب وخال من أسباب المرض؛ فيزيد آكله صحة وقوة ونشاطا، وبعضها الآخر يحتوي على سموم أو جراثيم ضارة تسبب لآكلها المرض والضعف.

ونجد هذه المعاني في قوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)( (البقرة)، ثم نزلت بعد ذلك آيات تحرم بعض أنواع الطعام؛ فنزل تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به في أربع سور هى: (الأنعام: 145)، (النحل: 115)، (البقرة: 173)، (المائدة: 3).

لحم الخنزير في ضوء العلم الحديث[1]:

ربما يجادل بعض الناس – كما جادل فريق من المعتزلة من قبل – ويقولون: هل حرم الله – عزوجل – لحم الخنزير لضرر فيه يلزم التحريم، أو لسبب آخر سكت النص عنه؟

ولا شك أن هذا جدل عقيم، وما ينبغى أن يكون، فإن الله – عزوجل – إذ يحرم طعاما أو شرابا فهو يعلم السبب ويحيط بالعلة، سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكره، وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في الطعام المحرم، أم لعلة تتعلق بمن يأكله من ناحية، أو من ناحية مصلحة المجتمع؛ فالله – عزوجل – يعلم الأمر كله، والطاعة لأمره واجبة، واستحسان الإنسان أو استقباحه لأمر ليس هو الحكم فيه.

وما يراه سببا قد لا يكون هو السبب، والأدب مع الله – عزوجل – يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ، سواء عرف الإنسان الحكمة والسبب، أم ظلت خافية، ونحن إذ نتحدث عن ضرر لحم الخنزير؛ إنما نتحدث لبيان الإعجاز العلمي في آي القرآن العظيم والحديث النبوي الشريف، وكيف أن التقدم العلمي في عصر العلم الحالي قد أظهر لنا بعض أسباب التحريم، وهي كما يأتي:

لحم الخنزير إذا تناوله الإنسان طعاما فإنه يعسر الهضم جدا؛ وذلك لأن أي لحم مكون من خلايا عضلية خيطية الشكل تجمعها حزم تسمى الألياف العضلية، وتختلف الألياف في الطول والقصر، فقد تكون قصيرة وقد تكون طويلة كما هو الحال في لحم الخنزير، فلحمه ذو ألياف عضلية، إضافة إلى ذلك فإنه من أكثر لحوم الحيوان دهونا، ولذلك كان من أكثر اللحوم عسرا في الهضم.
عندما نزل الوحي الإلهي بتحريم لحم الخنزير كانت الأضرار الناتجة عن تناول لحم الخنزير مجهولة للإنسان تماما، وبالتالي لم تكن الأسباب العلمية في التحريم – وقتها – معروفة قط، وشيئا فشيئا كشف العلم عن الوجه القبيح في لحم الخنزير، فاكتشف أول ما اكتشف أن أكثر الطفيليات التي تصيب الإنسان بالأمراض الطفيلية تجد في جسد الخنزير مرتعا خصبا، وذلك أمر منطقي، فإن الخنزير لا يقبل إلا على القاذورات والقمامة، ولا يتناول من الطعام إلا ما كان قذرا ومنتنا، ولحم نبت وترعرع من مثل هذا الغذاء لا يمكن أن يكون نقيا نقاء لحوم الحيوانات الأخرى التي تأكل طعاما غير ملوث. وعادات الخنزير القذرة في تناول طعامه تجعل الكثير من الطفيليات تسكن فيه، وتتخذ من جسمه طورا من أطوار دورة حياته، ولحم كهذا تعافه النفس السليمة.
ومن الأضرار السيئة للحم الخنزير والتي تجعله من الخبائث والمحرمات أن: الخنزير ينفرد بنقل بعض الأمراض الخبيثة والمعدية للإنسان، ولا ينقلها إلى الإنسان غيره، وتتصف الأمراض التي ينقلها الخنزير إلى الإنسان أنها لا تستجيب لأي علاج، ولا شفاء منها، ومن تلك الأمراض التي ينفرد الخنزير بنقلها إلى الإنسان: مرض الدودة الشريطية الخنزيرية Taenia Solian، فهذه الدودة عبارة عن شريط به مئات العقل قليلة السمك جدا، فهي في سمك ملىمتر تقريبا، أما طولها فهو عدة أمتار، وعدد العقل فيها بالمئات وكل عقلة بها الأعضاء الجنسية المذكرة والمؤنثة وتخرج من المبيض في كل عقلة، مئات من البويضات، في كل منه يرقة كاملة النمو تسبب الإصابة بالدودة لمن يأكلها.
والدودة الخنزيرية تعيش في أمعاء الإنسان المصاب بها، وتخرج البويضات في برازه، ولما كان من طبيعة الخنزير أن يقبل على أكل القاذورات الملوثة بفضلات الإنسان والحيوان؛ فإن البويضات تصل إلى أمعاء الخنزير، حيث تفقس وتخرج منها اليرقات، التي تخترق جدار أمعاء الخنزير، وتتحوصل في عضلاته، وهي حويصلات صغيرة جدا لاتزيد الواحدة منها عن حجم رأس دبوس صغير.
وإذا تناول إنسان لحم خنزير مصاب – ولم يطبخ جيدا طبخا يقتل اليرقات التي في داخل الحويصلات – فإن اليرقات تخرج في أعضاء الإنسان، وتتحول بعد ذلك إلى دودة شريطية خنزيرية كاملة تتعلق بجدار الأمعاء.
ولا يقتصر خطر الدودة الشريطية الخنزيرية على وجودها في أمعاء الإنسان المصاب بها، فهذه وإن كان لها ضررها، إلا أن الضرر البليغ يحدث عندما تفقس البويضات في أمعاء الإنسان المصاب نفسه، وتنطلق منها اليرقات، وتخترق جدار الأمعاء، وتتحوصل في لحمه وأعضاء جسمه، وتحدث أعراضا مختلفة للعضو الذي استقرت فيه الحويصلات، وقد تستقر في المخ أو العين أو القلب أو أي عضو آخر، ولا يوجد علاج لهذا الطور من المرض ولا شفاء منها.
أما عن حكم نجاسة لحم الخنزير وشحمه فمجمع عليها لقوله عزوجل: )قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)(  (الأنعام)، والرجس هو النجس ولكي يزداد يقيننا بمدى حرص الإسلام على صحة البدن لكل مسلم، بل لكل إنسان، يمكن أن نلخص البحث القيم الذي عرضه د. أحمد شوقي الفنجري تحت عنوان “الأسباب العلمية لتحريم لحم الخنزير” وذكر منها ما يأتي:
يصاب الخنزير عادة بنوعين من الديدان هما:
دودة التنيا الشريطية: وتنتقل من لحم الخنزير إلى أمعاء آكله وتخترقها إلى الدورة الدموية، وتتحوصل حتى تصل أحيانا إلى مثل حبة الفول، وتستقر في مكان ما من الجسم، فإن وصلت إلى المخ فيصاب قطعا بالجنون والشلل والتشنجات العصبية، وإن أصابت العين أعمتها، وإن كانت في جدار القلب أدت إلى الذبحة الصدرية، وثبت أن ورم المخ كان 25% منه بسبب دودة الخنزير، وهذه الحويصلة قد تستمر مع الإنسان 23 عاما.
دودة التركينا: وهي موجودة في خنزير واحد من بين كل ستة خنازير حسب الإحصاءات العالمية، وبلغ عدد المصابين بها سنة 1947م (26)، مليون مصاب، وهي تؤدي إلى ارتفاع الحرارة وتورم الوجه، ونزلة معوية حادة وقد تؤدي إلى هبوط القلب.

والغريب أن كل طرق علاج هاتين الدودتين فشلت، ولا يوجد لها علاج إلى الآن حسب ما ذكره د. ج. جوردن المتخصص في علاج هذه الأمراض.

أكدت نشرة أصدرتها هيئة الصحة العالمية أن مختبراتها في الدانمارك ثبت فيها علميا أن لحم الخنزير هو أكثر أنواع اللحوم قابلية للتلوث ونقل الميكروبات وأن 40% على الأقل من الخنازير الموجودة حاملة للميكروبات المعدية وغير المعدية.
أن علماء الحيوان يصنفون الخنزير على أنه من الحيوانات آكلات اللحوم مثل الأسد والذئب والثعلب والكلب؛ لأنها ذات أنياب، والمعروف بالمشاهدة أن كل خنزير له أربعة أنياب كبيرة، والإسلام حرم أكل كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير؛ لأنها حقا كما تؤكد الأبحاث العلمية تصيب آكلها بالضراوة والعنف، وفي المكسيك يغرمون بقتال الديوك كلعبة، ولوحظ أن مربيها يطعمونها اللحم بدلا من الحبوب كي تزداد ضراوة وميلا إلى القتل، والمعروف أن الخنزير فيه شراسة وعنف تزيد كثيرا عن الغنم والأبقار آكلات العشب، وأنثى الخنزير تصاب عادة بحالات هيستيرية بعد الولادة وقد تقتل أولادها كلهم أو بعضهم ثم تأكلهم؛ ولذا يضطر الآن رعاة الخنزير إلى خلع أنيابها وهي صغيرة حتى لا تفترسهم عند الكبر، وقد لوحظ أن الخنازير إذا أخرجت من المراعي النظيفة في أوربا وأمريكا إلى الغابات؛ فإنها تسارع بأكل الفئران الميتة والرمم، وإذا دهست السيارة أحدهم تجمع القطيع من الخنازير حوله ليأكله، وهم الآن يطعمون في بعض مزارع التسمين لحم خنازير ميتة وعفنة أو خيل ميت، وقد لوحظ أن الخنازير لا ترتبط بنظام الأسرة؛ فالذكر له أكثر من أنثى وقد يعتدي على أنثى غيره، والأنثى لها أكثر من ذكر، ولذا لا نجد العفة في آكلي لحوم الخنازير، فقد يسلم أحدهم زوجته أو ابنته إلى رفيقه دون حرج، على حين قد يؤدي بعض هذا في عرفنا العربي والإسلامي إلى قتال عنيف.
دهن الخنزير به نسبة كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة، منها تريجلسريدز، وتبلغ نسبة الكولسترول 15 ضعف ما يوجد في البقر، ونسبة الدهن في اللحم 50% أما في لحم البقر 5%، هذه النسبة العالية تؤدي إلى الإصابة بتصلب الشرايين وارتفاع الضغط، والذبحة القلبية، وهي القاتل الأول في أوربا.
وباء الأنفلونزا يظهر أولا بين المزارعين المشرفين على الخنازير، ثم ينتشر بعد ذلك في الآكلين؛ ولذا سميت الأنفلونزا الخنزيرية وهو من الأمراض الشائعة الآن في العالم التي لم يجد لها الأطباء علاجا جذريا حتى الآن[2].

فإن كان كل ذلك الأذى يسببه أكل لحم هذا الحيوان، فإن النفوس الطبيعية تعافه وتأنفه ولو لم يحرم، وعلى هذا فقد ثبت أن الشارع الحكيم لم يحرم ما لا مبرر لتحريمه، بل إن تحريم أكل لحم الخنزير من الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والذي يؤكد أنه ما نزل إلا من عند رب الأرض والسماء، الذي يعلم خفايا كل أمر وبواطنه.

ويجادل بعض المعارضين فيقولون: إنه من الممكن جدا أن نتفادى حدوث هذه الأمراض بطبخ لحم الخنزير جيدا؛ فتموت تلك اليرقات المتحوصلة في اللحم. وهذا مجرد فرض علمي، ولا يحدث في معظم الأحيان، فكثير من الناس من آكلي لحم الخنزير لا يستسيغون تناول اللحم إلا نصف مطبوخ، وبعضم الآخر يفضل أن يأكله نيئا، وكما أن هذه الديدان لا تموت إلا بالطبخ الجيد، فهي أيضا لا تموت ولو بحفظ لحم الخنزير مثلجا إلا بعد أكثر من شهرين.

وكل هذه الاحتياطات ضد حدوث العدوى من لحم الخنزير إنما هي احتياطات نظرية فقط، والدليل على ذلك. استمرار الدودة الحيوية حتى اليوم لهذه الأنواع من الطفيليات التي ينقلها أكل لحم الخنزير.

وفضلا عن ذلك فإن لحم الخنزير ولو لم يكن مصابا بتلك الأمراض، فهو أكثر لحوم الحيوان دهونا وأملاحا، وبالتالي فهو أكثرها ضررا بشرايين الجسم، الأمر الذي يسبب لآكل لحم الخنزير أمراضا كثيرة.

هل في الخنزير فوائد للإنسان[3]؟

وربما يدعي بعض الناس أن الخنزير حيوان يفيد الإنسان في كثير من الأمور غير أكل لحمه، فهو يصلح للتجارب العلمية، ومنه تستخلص بعض الهرمونات المفيدة في علاج بعض أمراض الإنسان، ويمكن نقل صمامات قلبية إلى قلب إنسان تلفت صمامات قلبه، وتنجح العملية، ويعيش الإنسان المريض.

نحن لا نعترض على ذلك، فالآيات الكريمة إنما حرمت أكل لحم الخنزير، والحديث الشريف حرم بيعه والاتجار فيه، كما حرم بيع الخمر والاتجار فيها، فعن جابر – رضي الله عنه – أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول عام الفتح وهو بمكة: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس! فقال صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام»[4].

وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا، هو حرام” يشير إلى حرمة بيعه، وهذا رأي الإمام الشافعي[5]، أما ما يستفاد من أي حيوان سواء كان الخنزير أم غيره من جلد مدبوغ أو هرمونات أو غيره مما يستفاد منها علميا ولا تؤكل، فالإسلام لم يحرم ذلك.

فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مر بشاة ميتة فقال: “هلا استمتعتم بإهابها”[6]، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها»[7]. وقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجوز على الخنازير أيضا، لأن تحريم الميتة ولحم الخنزير في حكم واحد في القرآن الكريم في قوله عزوجل: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115)( (النحل).

وبنظرة فاحصة فيما يسببه أكل لحم الخنزير من أضرار نجد الأمر لا يقتصر على ذلك الضرر الجسماني، بل إنه يتعداه للضرر الخلقي، فقد ذكر ابن سينا في كتابه “القانون في الطب” أن طباع الإنسان وسلوكه يتقارب كثيرا مع طباع الحيوان الذي يأكل لحمه ومن المعروف أن الخنزير لا يغار على أنثاه.

وذكر الإمام ابن القيم مثل ذلك في كتابه “زاد المعاد في هدي خير العباد ” ــ بعد أن أورد حديث جابر – رضي الله عنه – الذي فيه أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول عام الفتح وهو بمكة: “إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام” – فقال: إن هذا الحديث الشريف اشتمل على تحريم ثلاثة أجناس: مشارب تفسد العقول، ومطاعم تفسد الطباع، وأعيان تفسد الأديان وتدعو إلى الشرك، إلا أنه استدرك قائلا: إن معرفة كلمات الحديث الشريف يختلف العلماء في تأويلها.

إذن، فمن رأي كل من ابن سينا وابن القيم يتضح لنا أن أكل لحم الخنزير يغير من طباع آكله بحيث تتقارب مع طباع الخنزير.

الخلاصة:

لقد جاء التشريع الإسلامي يحرم أكل الميتة ولحم الخنزير، وظل الناس لا يعلمون شيئا عن أخطاره الصحية قرونا وقرونا، حتى تقدم علم الإنسان أخيرا واكتشف بعض ما في أكل لحم الخنزير من أخطار صحية، ولا يزال العلم يكتشف كل يوم جديدا.
الله – عزوجل – هو الذي خلق الخلق، ويعلم أسرار خلقه، وهو القائل عزوجل: )إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)( (البقرة).
ذكر الإمام ابن كثير عن أبي الطفيل أنه قال: نزل آدم بتحريم أربع: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله. وأن هذه الأربعة لم تحل قط منذ خلق الله السماوات والأرض. وأرسل موسى – عليه السلام – بتحريمها، كما أرسل عيسى – عليه السلام – بتحريمها أيضا.
هذا الجدل العقيم حول تحريم الإسلام لأكل لحم الخنزير بعدما اتضحت أضراره علميا، لا يعدو كونه حقدا على الإسلام الذي يثبت العلم كل يوم إعجاز تشريعاته.
ليس الإسلام وحده هو الذي حرم أكل لحم الخنزير، بل تحريمه موجود في التوراة وهي في حق النصارى ملزمة.
القاعدة الأساسية في الحظر والإباحة بالنسبة للأطعمة واللحوم وغيرها هي أن الإسلام يبيح الطبيات ولا يحرم إلا الخبائث، مصداقا لقوله عزوجل: )ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم( (الأعراف: 157)، ونحن نؤمن بهذه القاعدة سواء أثبتها العلم الحديث أم لم يثبتها، فما لنا وقد أثبتها العلم الحديث؟! إن ذلك يزيد المؤمن إيمانا بربه عزوجل.

(*) حقائق إسلامية في مواجهة حملات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م.

[1]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م. الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص442: 444.

[2]. المقاصد التربوية للعبادات في الروح والأخلاق والعقل والجسد، د. صلاح سلطان، سلطان للنشر، أمريكا، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص121: 123.

[3]. الموسوعة الفقهية، وزراة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م، ج20، ص31.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع الميتة والأصنام (2121)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (4132).

[5]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص20.

[6]. الإهاب: جلد الحيوان قبل دبغه.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2108)، وفي مواضع أخرى.

الادعاء بأن الإجماع في التشريع الإسلامي بسبب قصور الكتاب والسنة، وعجزهما عن مسايرة العصر

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن الإجماع في التشريع الإسلامي دائب على اختراع تشريعات، يواجه بها الأزمات ويشبع بها الرغبات، وقد نشأت الحاجة إليه من قصور الكتاب والسنة عن مسايرة العصور، كما يدعون أن فكرة الإجماع التي ثبتت قواعدها خلال هذا التطور الذي مرت به الشريعة الإسلامية أصبحت عنصرا يعد من عناصر التوفيق والتقريب بين السنة والبدع المستحدثة.

وجها إبطال الشبهة:

1) الإجماع عند المسلمين لا بد أن يكون له سند من الكتاب والسنة فضلا عن أن يعارضها أو يغير أحكاما مقررة بها، فهو ناتج عنهما لا من قصورهما، لذا فإن الإجماع مستمد من الكتاب والسنة ولا يستقل بإنشاء الأحكام كمصدر ذاتي كما هو الحال في الرأي العام الذي يسن القوانين والتشريعات دون الاستناد إلى شيء:

الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي، ويستمد أصوله من الكتاب والسنة.
الإجماع حجة شرعية، ويجب العمل به، وقد أجمع على ذلك علماء الأمة.
التشريع الإسلامي أقر الإجماع لكن بشروط، هي:

o       أن يكون مطابقا للكتاب والسنة.

o       أن يكون في الفروع لا الأصول.

o       أن يقوم به علماء الأمة المتخصصون في الشريعة الإسلامية واللغة.

2) غرض أصحاب هذه الدعوى الطعن في الشريعة الإسلامية ومصادر استمدادها وتشويه وجهها المضيء بقلب الحقائق وتزييف المصطلحات الإسلامية والتراث الحضاري لدى المسلمين، للتشويش على معتقداتهم وفقدان الثقة بقيمهم ومبادئهم الدينية.

التفصيل:

أولا. بين حقيقة الإجماع في الشرع الإسلامي والرأي العام عند غير المسلمين:

إن أصول الفقه الإسلامي تتضمن عدة مباحث عظيمة تحدد مصادر التشريع الإسلامي، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس وغيرها، وهذه أبواب مفصلة فيما يخص أدلة الأحكام من قضايا الأصول، ولقد كانت آية على صلاحية الشريعة الإسلامية لاستنباط الأحكام للنوازل المستجدة ولقضايا الناس المستحدثة.

والإجماع لا يقل أهمية عن المصادر الأخرى، وإن كان تابعا للأصلين – الكتاب والسنة – وعد خصيصة من الخصائص التي تفرد بها التشريع الإسلامي عن التشريعات الوضعية.

الدلالة اللغوية والشرعية للإجماع:

الإجماع في اللغة يطلق على أحد معنيين هما:

العزم على الشيء والتصميم عليه، يقال: أجمع فلان على الأمر؛ أي عزم عليه، ومنه قوله تعالى:)فأجمعوا أمركم وشركاءكم( (يونس: ٧١)؛ أي: اعزموا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له»[1]؛ أي: يعزم.
الاتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا، أي: اتفقوا عليه، وهذا المعنى يحتاج إلى التصميم أيضا، والفرق بينه وبين المعنى الأول: أن الأول يطلق على عزم الواحد، والثاني لا بد فيه من متعدد.

أما في الاصطلاح، فقد عرفه جمهور العلماء بأنه: “اتفاق المجتهدين من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي”.

وإذا قمنا بشرح يسير للتعريف الاصطلاحي نقول: إن قولهم: “اتفاق المجتهدين” يخرج اتفاق العامة، فلا يعتد عند جمهور العلماء بقولهم؛ لعجزهم عن النظر والاستدلال، وإذا خلا عصر من المجتهدين لم يتحقق فيه إجماع شرعي، ولا بد من اتفاق المجتهدين جميعا، حتى لوخالف واحد منهم لم ينعقد الإجماع.

وقولهم: “من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ” يخرج اتفاق أرباب الأديان الأخرى، فليس بحجة عند المسلمين. وقولهم: “في عصر من العصور” يراد به أي عصر اتفق فيه المجتهدون على حكم مسألة بعينها، ولا يشترط اتفاق مجتهدي الأمة في كل العصور، وإلا لم يتحقق إيقاع الإجماع حتى تقوم الساعة.

وقولهم: “بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ” لأنه لا إجماع في حياته للاستغناء عن الإجماع بالوحي.

وقولهم: “على حكم” يراد به – عند الجمهور – ما يشمل الاتفاق على حكم واحد في المسألة، وأن يستقر الخلاف على قولين في مسألة مختلف فيها، فإنه لا يصح لمن يأتي بعد أن يحدث في هذه المسألة قولا ثالثا[2].

مكانة الإجماع وأهميته:

يعد الإجماع من الخصائص التي اتسم بها التشريع الإسلامي؛ ذلك أنه المصدر الثالث من مصادر التشريع، ويستمد حجيته من الكتاب والسنة.

وتتجلى أهميته في أنه اعتبر ضابطا مهما لسلامة فهم الإسلام ونصوصه التشريعية، وصار التمسك بما أجمعت عليه الأمة واستقر عليه اعتقادها وفكرها دينا لازما؛ فهو يجسد الوحدة الاعتقادية والفكرية والشعورية والسلوكية للأمة، وتجعل من المسلمين أمة واحدة، هذا فضلا عن أن إجماع هذه الأمة موسوم بالعصمة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» [3]، ونصوص أخرى حضت على لزوم جماعة المسلمين، وأن يد الله مع الجماعة وحذرت من مفارقتها[4].

حجية الإجماع ووجوب العمل به:

أقر جمهور العلماء الإجماع كحجة شرعية، يجب العمل به، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والمعقول:

الكتاب:

أقوى ما تمسك به العلماء على شرعية الإجماع هو قوله عزوجل: )ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (115)( (النساء). قالوا: إن الله تعالى توعد على متابعة غير سبيل المؤمنين، ولو لم يكن ذلك محرما ما توعد عليه، ولا حسن الجمع في التوعد بينه وبين ما حرم من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما لا يحسن الجمع في التوعد بين الكفر وأكل الخبز المباح، ومخالفة ما أجمع عليه المسلمون اتباع لغير سبيل المؤمنين، فتكون محرمة، ويكون اتباع سبيل المؤمنين بالعمل بإجماعهم واجبا.

ومما تمسكوا به كذلك قوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول( (النساء: 59). فقد أمر الله – عزوجل – بالرجوع إلى الكتاب والسنة عند التنازع، فإذا لم يوجد تنازع بل اتفاق، حل هذا الاتفاق محل الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولا معنى للإجماع إلا هذا.

السنة:

أما ما استدل به العلماء من السنة الشريفة على شرعية الإجماع، فما روي دالا على عصمة هذه الأمة من الخطأ والضلال، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سره بحبوحة الجنة فعليه الجماعة»[5]. وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضا: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»[6]. وغير هذا الكثير مما نقله الثقات.

المعقول:

وأما المعقول فإن العادة تحيل أن يجتمع كل المجتهدين في عصر من العصور على حكم ويجزموا به جزما قاطعا، ولا يكون لهم من الكتاب أو السنة مستند قاطع بنوا عليه إجماعهم، كما تحيل أن يكونوا مخطئين في إجماعهم ولا ينتبه إلى الخطأ واحد فيهم، فما اتفقوا عليه إذن صواب مستند إلى دليل من الكتاب أو السنة، فيكون العمل به واجبا[7].

سند الإجماع:

لا بد للإجماع من سند؛ لأن أهل الإجماع لا ينشئون الأحكام كما توهم بعض الفرنجة؛ لأن حق إنشاء الشرع لله تعالى، وللنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي يوحى إليه من الله تعالى، وعلى ذلك لا بد أن يكون للإجماع مستند يعتمد عليه من الأصول العامة للفقه الإسلامي، ولقد كان الصحابة في المسائل التي أجمعوا عليها يبحثون عن سند يبنون عليه آراءهم التي أجمعوا عليها، ففي مسألة ميراث الجدة اعتمدوا على ما رواه أبو هريرة، وفي إجماعهم على اعتبار الإخوة لأب إذا لم يكن إخوة أشقاء اعتمدوا على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، ودخولهم في عموم الإخوة.

وقد اتفق العلماء على جواز أن يكون سند الإجماع كتابا أو سنة كالمسائل السابقة، فإن أساس الإجماع فيها سنة، ولكن هل يجوز أن يكون الإجماع على حكم يلزم الناس من بعد عصر المجتهدين الذين أجمعوا سنده القياس أو المصلحة؟ في ذلك خلاف بين الفقهاء[8].

ضوابط الإجماع:

ومما سبق يتبين أن الإجماع في التشريع الإسلامي حجة، لكن بشروط هي:

o       أن يكون مستندا إلى الكتاب والسنة.

o       وأن يكون في الفروع لا في الأصول.

o       وأن يقوم به علماء الأمة المتخصصون في الشريعة الإسلامية واللغة العربية.

فمن البديهيات المتعارف عليها أن المصدرين الأولين من مصادر التشريع الإسلامي، واستنباط الأحكام الشرعية هما القرآن والسنة، وهناك مصادر أخرى منها الإجماع، وكلها مستندة إلى أصل من القرآن والسنة؛ ومن ثم لا يمكن أن تنتج حكما يخالفهما، أو يوفق بين أحكامهما من ناحية، وبين البدع المستحدثة من ناحية أخرى لتعويض قصورهما – القرآن والسنة – التشريعي في مواجهة المستجدات العصرية، كما يفتري المبطلون.

وفي معنى الإجماع وضوابطه يقول د. عبد العظيم المطعني: كل اجتهاد يقع من الفقهاء، سواء نتج عنه اختلاف في الحكم، أو إجماع على رأي واحد يشترط فيه شرط صحة، وهو أن يكون له سند من الشرع، وهذا السند محصور في مصدري الشريعة الأساسيين وهما الكتاب والسنة، ويكون عمل المجتهدين قياس ما لم يرد فيه نص على ماورد فيه نص، فإذا ظهر الشبه الجلي بين الأمرين، أعطى الأمر الذي لم يرد فيه نص حكم الأمر الذي ورد فيه نص لاتحاد علة الحكم في الأمرين، ومثاله: إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – على حد شارب الخمر بجلده ثمانين جلدة، فقد قاسوا شرب الخمر على القذف، وهو الاتهام بالزنا من غير بينة، وحد القذف منصوص عليه في القرآن: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور: 4).

وشارب الخمر قد يقع في أعراض الناس لزوال عقله فيرمي الأبرياء بالزنى؛ فعوقب عقوبة القاذف واتحدت علة الحكم فصح القياس، وصح الإجماع لاستناده إلى حكم ورد في القرآن.

والذي نريد أن نخلص إليه من هذا كله، أن صحة الإجماع متوقفة على القرآن والسنة، فإذا لم يكن للإجماع سند منهما – وهذا لم يقع قط – لا يكون الإجماع صحيحا قطعا.

يبين لنا د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني الفرق بين حقيقة الإجماع وأغراض المستشرقين فيقول: “والآن قارن بين مقولة المستشرقين: صحة القرآن والسنة متوقفة على الإجماع، وبين ما هو مقرر ثابت عند علماء الإسلام – سلفا وخلفا، وهو أن صحة الإجماع متوقفة على القرآن والسنة.

المقارنة تثبت لك في وضوح وجلاء أن المستشرقين المغرضين عكسوا الأمر تماما؛ فجعلوا الأصل فرعا والفرع أصلا، وهم بمثابة من يقول السماء تحتنا! والأرض فوقنا! أو من يقول: الاثنان نصف الواحد! وهذه كلها مقولات باطلة عقلا وعلما وواقعا؛ ولكن الغاية عندهم تبرر الوسيلة المستحيلة! والغاية عندهم هي هدم الإسلام، وفي سبيل هذه الغاية كل شيء يهون، حتى ولو هذي بعض المستشرقين هذيان المجانين[9]!

الفرق بين الإجماع والرأي العام:

إن طائفة المستشرقين الحاقدين على الإسلام يسعون دائما لسلخ المسلمين عن إسلامهم، وجرفهم إلى حضارة الغرب المادية الملحدة، وبعضهم يتلطف في الوصول إلى هذا الهدف، ومنهم من يفصح عنه ويعلنه بكل وضوح، فهذا ريمون شارل يرى أن الحل الوحيد للمسلمين يكمن في التخلي النهائي عن الإسلام والاقتداء بالغرب! ويشعر في نفس الوقت بصعوبة قبول المسلمين لهذا التحول؛ لأن تعصب المسلمين الأعمى – هكذا يصف المسلمين – يمنعهم من هذا التحول.

في هذا الإطار يرى هؤلاء المستشرقون أن صحة القرآن والسنة تتوقف على الإجماع، وهم يريدون بالإجماع: الرأي العام، أي: أن المسلمين يستطيعون تطوير شريعتهم المؤسسة على القرآن والسنة، باعتماد ما يرون اعتماده، وحذف ما يرون حذفه من القرآن والسنة عن طريق الاستفتاء العام! ومعنى هذا أن الكتاب والسنة ليس لهما صفة الصلاحية، ولا الاستمرار إلا إذا أقرهما الرأي العام!

وهذا اعتداء صارخ من هؤلاء الحاقدين، وجهل فاضح في نفس الوقت؛ لأن الإجماع غير الرأي العام، فالإجماع: هو اتفاق العلماء المتخصصين في علوم الشريعة وعلوم العربية – أعني اتفاق أهل الذكر – وهو مبدأ قرآني محكم. ويزيدون الأمر وضوحا فيدعون – زورا وبهتانا – أن المسلمين الذين أخضعوا القرآن والسنة لمحاكمة الإجماع – الرأي العام – قد توصلوا إلى قواعد وسنن وعقائد جديدة لم يعرفوها من قبل! ولم يبينوا متى حدث هذا ولا ما العقائد والسنن والتشريعات الجديدة التي نتجت عن هذا الإجماع المزعوم!!

بيد أن بعضهم يشير إلى قرار الجمعية الوطنية في عهد رئيس تركيا الأسبق كمال أتاتورك!

ويتمادى من صرح بهذا، وهو ولفرد سميث فيقول: وبذلك كان الأتراك قادة العالم الإسلامي، وما يزال العرب وغيرهم من الحمقى مقيدين في تفكيرهم، ويرون أن تركيا تركت الإسلام. وهذا غير صحيح!

إذن، فهدف المستشرقين من إخضاع القرآن والسنة للإجماع فيه عكس للحقائق، وهم يسعون من خلاله لهدم شريعة الإسلام ومحو عقيدته، وإحلال الإلحاد محل العقيدة، وقانون الثورة الفرنسية الوضعي محل كتاب الله وسنة رسوله، وصدق الله العظيم القائل: )ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم( (البقرة: 120)، وقال عزوجل: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق( (البقرة: 109) [10].

ثانيا. أقوال المستشرقين في الإجماع وأغراضهم من ذلك:

ونحب أن نختم الحديث في هذا الموضوع بكلمتين مطولتين:

أولاهما: كلمة دقيقة للدكتور وهبة الزحيلي عن تصور الإجماع عند المستشرقين قال فيها: للمستشرقين في الإجماع كلام مزخرف، منشؤه التصورات الوهمية، وغايته قلب الحقائق، وتشويه الأفكار الإسلامية، وإيهام الناس بقدرة العلماء على تغيير الأحكام الإسلامية، مثلما يلمسون عند رجال الكنيسة وبابوات المسيحية، ومن ذلك ما قاله جولد تسيهر: سوف يرى بلا شك أن الإجماع قد احتوى على ينبوع القوة التي تجعل الإسلام يتحرك ويتطور، وهو يعتقد أنه يمكن أن يكون للإجماع شأن كبير، وتوهم هو وغيره أن كل إجماع مقدم على النصوص، ورتبوا على ذلك أن في مقدور الناس استحداث عقائد وسنن، وخلق أمور كثيرة بطريقة تفكيرهم واتفاقهم في هذا التفكير، وقالوا: إنه بفضل الإجماع صار ما كان بدعة في أول الأمر، من الأشياء المقبولة التي ينسخ بها ما هو سنة في الصدر الأول؛ فمثلا التوسل بالأولياء صار عمليا جزءا من السنة، وعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – أثبتوها بالإجماع، وذلك انحراف عن نصوص القرآن الواضحة، أو أن الاعتقاد بعصمة النبي قد جعل الإجماع ينحرف عن نصوص واضحة في القرآن، وقالوا: إن الإجماع لم يقتصر على تقرير أمور لم تكن مقررة من قبل فحسب؛ بل غير عقائد ثابتة واضحة ومهمة تغييرا تاما، فهو على هذا يعتبر عند الكثيرين من المسلمين وغير المسلمين من الوسائل الفعالة في الإصلاح، وزعموا أن المسلمين يستطيعون أن يجعلوا من الإسلام ما شاءوا شريطة أن يكونوا مجتمعين، وأن المجتهدين هم الذين لهم الحق بفضل ما أوتوا من علم أن يقرروا حكما برأيهم، هذا هو كلام الأوربيين المستشرقين، وهو كلام مغلوط ومردود بما يأتي:

إن الإسلام متحرك متطور لا يتوقف على الإجماع، والإجماع لايمكن أن يحور أو يغير أصول الإسلام ومبادئه وأحكامه الثابتة، وإنما مهمته تقوية الأحكام، وإظهارها بصورة حاسمة في الأذهان، حينما لا تتضح الأمور، وتكون الدلالات ظنية مبهمة أو مجملة، وليس للمجتهدين إنشاء أحكام؛ بل ليس للرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه أن يقول قولا أو يصدر حكما بدون الوحي؛ فالأمة أولى بذلك، فإجماعهم يعتمد على مستند من قرآن أو سنة.
ليس الإجماع إجماع العامة – كما فهم هؤلاء -، وإنما هو اتفاق المجتهدين المختصين.
ليس للإجماع معارضة الكتاب والسنة كما فهموا، وليس له بناء شريعة جديدة كما زعموا، وإنما الإجماع مبني على دلالة الكتاب والسنة ومستند إلى النصوص.
ليس للمسلمين جعل البدعة سنة؛ كالتوسل بالأولياء فلم يجمع المسلمون على مثل هذا في أي عصر.
لم يثبت المسلمون عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإجماع، وإنما هي مقررة بصريح القرآن: )ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم) [11].

والثانية: كلمة يحسم فيها الشيخ محمد الغزالي الموضوع بطرح هذا السؤال: ما هو الإجماع أو ما قيمته؟ وهل هو مصدر مستقل للعبادات؟ ثم يجيب عنه في سياق مناقشته لأباطيل وترهات المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر، الزاعمة أن الإسلام لم يكتمل في العهد النبوي، وأن تعاليمه وأحكامه تتراكم بمرور الأجيال التي تضيف إليها جيلا بعد جيل، وهو جوهر مضمون الشبهة التي نناقشها، فيقول: ويوغل الرجل في متابعة أوهامه فيقول: إن الإسلام لايزال يصنع، وإن الأوائل وحدهم ليسوا هم الذين جمعوا مادته، وتولوا صياغته، بل الأواخر يقومون بالوظيفة نفسها التي سبق إليها أسلافهم! ولقد أثبت لنا أن السنة – وهي المصدر الثاني للإسلام – من عمل الصحابة والتابعين؟!

وها هو ذا يكتشف لنا سر المصدر الثالث، أو الرافد الذي يمد الإسلام بصور وأحكام جديدة لم تخطر على بال مؤسسه – أي النبي – صلى الله عليه وسلم – في زعمه – وطبعا لم تأت من عند الله، إنه الإجماع، فالإجماع في نظر المستشرق الفطن، دائب على ضم عبادات وتشريعات أخرى إلى التراث الإسلامي، يواجه بها الأزمات ويشبع بها الرغبات. يقول – أي تسيهر -: والحاجة إلى هذا الرافد الثالث نشأت من قصور الكتاب والسنة عن مسايرة العصور، أو لأن تطور ظروف الحياة، والتجارب التي اكتسبتها الأمة الإسلامية بفعل العوامل الجغرافية، والتاريخية قد فرضت عليها أحوالا مغايرة لمقتضيات السنة، وجرتها إلى ملابسات تخالف كل المخالفة أساليب الحياة، والفكر في عهد الصحابة، ثم يقول: هذه العوامل مجتمعة حتمت على المسلمين أن يبادروا بفتح ثغرة في حصن السنة المنيع، ثم يقول: وإن فكرة الإجماع التي ثبتت قواعدها خلال هذا التطور الذي مر بالشريعة الإسلامية، أصبحت عنصرا من عناصر التوفيق والتقريب بين السنة والبدع المستحدثة؛ وذلك أن المسلمين إذا اتبعوا عادة من العادات أو تقليدا من التقاليد، وارتضاه جمهورهم زمنا طويلا، ولم ينكروه، أصبحت هذه العادة أو التقليد في النهاية جزءا من صميم السنة، ثم قال: وقد ترتفع أصوات الفقهاء الورعين خلال بضعة أجيال مظهرين استياءهم وتذمرهم من هذه البدعة، غير أنه كلما طال الزمن وانعقد إجماع المسلمين على اتباعها تعتبر مباحة، بل قد ينتهي الأمر إلى أن يشترط المسلمون مراعاتها، ويرون البدعة في مخالفتها وطرحها.

ويقول مستأنفا ضلاله: ويثبت لنا التاريخ أن عمل علماء الإسلام مهما بلغوا من الصلابة، والتعنت في مبدأ الأمر إزاء التقاليد، والعادات التي يكون جمهور الأمة ارتضاها وأقر اتباعها، لم يستنكفوا مع ذلك أن تهدأ مقاومتهم، وأن يقرروا أن الإجماع قد انعقد على استحسان ما كانوا يعدونه من قبيل البدع المنهي عنها، ثم يقول: وعلى ذلك فمن الممكن التخلي عن القواعد التي قررتها الشريعة إذا ما ثبت أن مصلحة الجماعة تتطلب حكما يغاير حكم الشرع”. ياللكذب!

ومضى هذا المستشرق في شروده، يزعم أن الإجماع حينا، والمصلحة الطارئة حينا آخر، أبواب واسعة تدخل منها على الإسلام فتاوى وقوانين تزيد بها العقيدة والشريعة على مر السنين! وهذا كلام لا يقوله إلا معتوه.

فلم يزعم أحد من الأولين أو الآخرين أن الإجماع ينشئ حكما شرعيا، ولم يزعم أحد من الأولين، أو الآخرين أن البدعة تتحول إلى سنة، ويتفق العلماء على المطالبة بها! ولم يزعم مسلم أن النصوص ينسخها إجماع، وأن أمر الله ورسوله يتوقف؛ لأن الأمة رأت وقفه! إن الإجماع لا بد من استناده إلى حجة شرعية كي يعتبر دليلا محترما، وإلا فلا وزن له؛ فالصلاة مثلا وجبت بالكتاب والسنة، ثم يذكر الإجماع ليعلم كل إنسان أن النصوص ليس لأحد من البشر أن يتزيد أو يتنقص، وكذلك سائر ما أجمعت الأمة عليه، وما ليس له سند شرعي من الكتاب والسنة، فلا صلة للإجماع به. ولم يقل أحد من علماء المسلمين ولا من جهالهم: إن الإجماع المجرد العاري يوجب واجبا أو يحرم حراما.

أما البدعة بمعنى إضافة شيء إلى تعاليم الإسلام، شيء لم يقبله الله ولا رسوله، فهي موضع لعن المسلمين أجمعين، ولا ننكر أن بعض السفهاء قد يتوسع في فهمه لبعض الآثار، ويعتمد على هذا التوسع العاطفي في إتيان بعض البدع، ولكن حراس الإسلام وقفوا ضد هذه المفتريات، وطاردوها وحصروها، وما زالوا إلى يومنا هذا يقومون بهذا الواجب.

ولو أنك سألت مقترفي هذه البدع: هل جئتم بها من عند أنفسكم؟ لأنكروا ذلك، ولرفضوا بشدة أن يكون الناس بالإجماع أو الكثرة مصدر تشريع.

إن التشربع في العبادات لا صلة له بعرف، أو استحسان أو استهجان أو اتفاق قوم أو أقوام، يقول الشيخ فرج السنهوري: لا حاكم سوى الله – سبحانه وتعالى – ولا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه. على هذا اتفق المسلمون، وقال به جميعهم، حتى المعتزلة “أهل العدل”، الذين يقولون: إن في الأفعال حسنا وقبحا يستقل العقل بإدراكها، وأن على الله أن يأمر وينهى وفق ما في الأفعال من حسن وقبح.

فالحاكم عند الجميع هو الله سبحانه وتعالى، والحكم حكمه، وهو الشارع لا غيره، وإذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أطلق عليه اسم الشارع في بعض عبارات العلماء، فما كان ذلك إلا تجوزا؛ مراعاة لأنه المبلغ عنه عزوجل، وإذا كان الشاطبي في بعض المواطن قد سمى عمل المجتهد تشريعا، فما كان هذا منه إلا تساهلا أساغه أن المجتهد كاشف عن التشريع ومظهر له، فالسلطة التشريعية هي الله وحده.

والشريعة أو الشرعة أو الشرع فيما يختص بالعمليات، وهي حكم الله تعالى، وهو أثر خطابه – عزوجل – المتعلق بأفعال العباد اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. والله جلت حكمته لم يفوض إلى أحد من عباده، لا إلى رسول ولا إلى نبي ولا إلى إمام ولا إلى ولي ولا إلى غيرهم، أن يشرع للناس من الأحكام ما يريد، أو أن يحكم بينهم بما يراه هو من عند نفسه أو كيفما اتفق.

أما العرف فلا توجد إحالة تشريعية إلى أحكامه، إنما يلجأ إليه في معرفة ما يريده المتكلم من الأيمان والعقود، وما إلى ذلك، وفي معرفة قيم المتلفات وأشباهها، وفي الوقوف على الشروط التي يصحح العرف اشتراطها في العقود، هذا هو كل ما يلجأ فيه إلى العرف، ولايلجأ إليه في معرفة حكم تشريعي ليطبق، وإنما يلجأ إليه في تكييف الواقعات والنوازل ليطبق عليها الحكم المعروف في الشريعة، ولا يترك بسببه حكم نص ولا إجماع ولا حكم فقهي لم يكن مبنيا على العرف، وإنما يترك به الحكم الفقهي إذا كان مبنيا على عرف، ثم تغير إلى عرف آخر.

فاعتبار العرف في الشريعة الإسلامية ليس من باب الإحالة التشريعية كما أنه ليس من الأدلة الإجمالية، ولا يعدو أن يكون قاعدة فقهية.

أما شرائع من قبلنا فالكل متفقون على أن ما لم يروه الشارع لنا لا يكون شريعة، وأن ما رواه لنا وأمرنا باتباعه كان من أحكام شريعتنا، واختلفوا فيما رواه لنا ولم يأمرنا باتباعه، فذهبت طائفة إلى أن مجرد الرواية يعتبر كالأمر فيكون من شريعتنا، وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لايكون شريعة لنا. والمعتزلة ذهبوا إلى أن العقل يستقل بإدراك ما في الأفعال من حسن وقبح، وبالتالي يستقل بإدراك حكم الله الملائم، وإن لم يأت به شرع ولم ينزل به وحي، فالمصدر الأصلي عندهم للوقوف على حكم الله هو العقل.

أما جمهور المسلمين فعلى أنه لاحكم للعقل، وأن حكم الله لايعرف إلا من قبله، ولا يكون ذلك إلا من طريق الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكتاب والسنة – الذي أمر بتبليغه إلى الناس فبلغه. فالطريق الوحيد إلى ذلك هو تبليغ الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلا عبرة بالإلهام والمكاشفة وأشباههما، فكل هذا لايكون طريقا لمعرفة حكم الله لأنه ليس وحيا، والتبليغ بما يكون من الرسول – صلى الله عليه وسلم – في يقظة المبلغ إليه فلا عبرة بتبليغ الأحلام.

وبهذا اتضح أن الدليل الحقيقي والمصدر الوحيد للتشريع الإسلامي بأجمعه هو الوحي الإلهي، وأن مرد الإجماع والقياس إليه. وأن المصادر الأخرى ليست خارجة عن الأربعة، أو هي ليست مصادر للفقه مستقلة عن الكتاب والسنة.

إن هذا المستشرق وأضرابه يحسبون الإجماع قادرا على خلق أحكام لا إسناد لها من كلام الله ورسوله، مع أن الإجماع كما علمت هو: الاتفاق على فهم ما ورد من النصوص، وما ثبت من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالأمة في شئون الدين تتلقي كلمة السماء، ولا تملك أمامها إلا التسليم، ومع النص القائم لايقبل اجتهاد، ولا تستطيع مجامع خاصة أو عامة أن تحذف حكما أو تضيف آخر، ولا يملك المسلمون من العصر الأول حتى قيام الساعة أن يجعلوا سنة بدعة أو بدعة سنة، نعم يستطيع الناس العصيان، وفقد التسامى إلى أوامر الله، لكن معنى هذا أن القانون حق، وأن سلطانه المعنوي قائم مهيب، وأن النزول عنه عارض معيب، وأن الحسن الذي شرعه الله ظل حسنا، وأن القبيح الذي صنعه الناس ظل قبيحا.

أما هذا النفر من المستشرقين فقد ضل الصواب حين زعم أن الإجماع ينشئ حكما، وفيهم يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: لقد بنوا على خطئهم هذا أن في مقدور الناس أن يخلقوا بتفكيرهم وأعمالهم عقائد وسننا… وقالوا ما ترجمته: وقد أصبح بفضل الإجماع ما كان في أول الأمر بدعة أمرا مقبولا نسخ السنة الأولى، فالتوسل بالأولياء مثلا صار – عمليا – جزءا من السنة، وأعجب من هذا أن الاعتقاد بعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – قد جعل الإجماع ينحرف عن نصوص واضحة في القرآن، بل غير عقائد ثابتة وهامة جدا تغييرا تاما، وعلى هذا فهو يعتبر عند الكثيرين – مسلمين وغير مسلمين – وسيلة فعالة للإصلاح.

إذن فيمكن أن ينتظر للإجماع من أثر، فجولد تسيهر الذي درس تاريخ الإجماع يعتقد أنه يمكن أن يكون له شأن كبير على خلاف سنوك هرجونيه، الذي يرى أن الفقه قد جمد فلا رجاء في الإجماع.

هذا هو كلام العلماء الأوربيين في الإجماع، وقد فهموا أن الإجماع هو إجماع العامة على ما يرون، لا أنه اتفاق المجتهدين، أو كما عبر الكثيرون إجماع أهل الحل والعقد.

وذكروا أنه يتناول في شموله العقائد والأحكام العملية، وذكروا أنه يعارض الكتاب والسنة ويقدم عليهما، فيقدم حتى على القطعي من القرآن في دلالته، وأنه يمكن أن يكون سببا في بناء شريعة جديدة، ولعلهم يأملون في ذلك، بل لعل الأماني هي التي سولت لهم هذا التفكير. وذلك خطأ في مجموعه؛ لأن قضية كون الإجماع في غير أصول الفرائض حجة ليست موضع إجماع من علماء المسلمين، وكثيرون لا يسلمون إلا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

والذين قرروا أن الإجماع حجة اتفقوا على أنه لايقدم على الكتاب والسنة، فهو لا يعارض كتاب الله ولا المتواتر من سنن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا المشهور من هذه السنن. والإجماع الذي يقدم على طرق الاستنباط، هو إجماع قائم على النصوص ودلالتها ويثبته العمل في الأجيال كلها. ثم إن الذين أخذوا بالإجماع أوجبوا جميعا أن يكون له سند من الكتاب والسنة، وترخص بعضهم فجوزوا أن يكون السند قياسا على نص قائم، فلا بد أن يعتمد على نص إما مباشرة وإما بقياس صحيح أجمع العلماء على سلامته.

ولعل أعظم ما اشتمل عليه كلامهم من خطأ هو:

أنهم تصوروا أن أمرا ما كان بدعة في أول الإسلام، ثم صارت البدعة بالإجماع سنة، وذكروا في ذلك التوسل بالأولياء، وذلك خطأ لأن الناس لم يجمعوا على ذلك في أي عصر من العصور، بل لم يقل أحد إنه من السنة.
أنهم قالوا: إن المسلمين أثبتوا عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهم بذلك قد انحرفوا عن القرآن، وذلك كلام باطل، فما قرر القرآن أن النبي – صلى الله عليه وسلم – غير معصوم، بل قرر له العصمة في مثل قوله عزوجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وقال عزوجل: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – معصوم بحكم القرآن وبحكم الإجماع[12].

الخلاصة:

تعريف الإجماع خير دليل على أنه مختص بفئة معروفة من العلماء.
الإجماع عامل قوي وخصيصة بارزة من خصائص التشريع الإسلامي، وضابط من ضوابط سلامة فهم نصوص الشريعة.
الإجماع مصدر تشريعي يدور في فلك الكتاب والسنة، ولا يخرج بأحكامه عن إطارهما، فضلا عن أن يخالفهما. أو أن يستقل بأحكام دونهما.
لا يمكن أن نعتبر أن رأي الدهماء من عامة المسلمين من الإجماع، وإنما هو رأي النخبة العالمة منهم، المتخصصة في الشريعة الإسلامية واللغة العربية.
قياس المستشرقين لعمل البابوات على عمل العلماء المسلمين في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية قياس خاطئ؛ لأن علماءنا يحكمهم الدين وتحكمهم القواعد الشرعية.
للإجماع مسائل تتناول بالنظر، وهي دون مسائل العقائد والأحكام العملية.
الإسلام اكتمل في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وحياته، دل على ذلك قوله عزوجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).
اجتهادات العلماء تمس الفروع دون الأصول، وهي منبثقة من خطاب الله – عزوجل – القرآني وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

(*) أصول التشريع الإسلامي، الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة،طبعة خاصة. افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2002م. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م.

[1]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصيام، باب من قال: لا صيام لمن لم يعزل من الليل (9112)، وأحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث حفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه (26500)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2143).

[2]. أصول التشريع الإسلامي، الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة،طبعة خاصة، ص95، 96. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ص489 وما بعدها.

[3]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها (37192) بنحوه، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة (2167)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (2167) دون عبارة: ومن شذ شذ إلى النار.

[4]. المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص264 وما بعدها.

[5]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد، باب لزوم الجماعة (20710)، وأحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (177)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد (177).

[6]. صحيح: أخرجه الطيالسي في مسنده، حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (1/ 1162)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها (37155) بنحوه، وصححه الألباني في المشكاة (185).

[7]. المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1422هـ/ 2001م، ص97، 98.

[8]. أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص191.

[9]. افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص46.

[10]. افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م ، ص46، 48.

[11]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج1، ص587: 589.

[12]. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط5، 2002م، ص158 وما بعدها.

الادعاء أن من سلبيات الإسلام اعتبار الكلب قذرا

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن من سلبيات الإسلام المشينة النظر إلى الكلب نظرة دونية؛ إذ يعتبره الإسلام حيوانا قذرا نجسا، لا يجوز تملكه ولا تربيته، ويرون أن هذا الموقف ينافي مبدأ الرفق بالحيوان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام دين النظافة والنقاء والتطهر، سواء كان تطهرا معنويا روحيا أو حسيا ماديا، فلا تقبل عبادة بدون الطهارتين؛ حماية للإنسان من أمراض القلوب، ووقاية من أمراض الأبدان.

2) الكلب عند اللغويين: سبع عقور، وعند الأطباء: حيوان ثديي استأنسه الإنسان واستخدمه في الصيد والقنص والحراسة، واعتبره الإسلام نجسا قذرا لا يستخدم إلا لهذه الأغراض؛ لما ينقله استخدامه من الأمراض.

3) العلم الحديث يؤكد نظرية الإسلام تجاه الكلاب؛ حيث اكتشف أنه ينقل عشرات الأمراض للإنسان نتيجة كثرة المخالطة، لذا كان منع الإسلام من استخدامه إلا في الحدود الضيقة السابقة إجراء فعالا يعرف بـ”الطب الوقائي”.

4) الإسلام دين الرحمة العامة حرم الاعتداء على جميع الحيوانات ومنها الكلب، بل أثاب من أحسن إليه، ومنعه لاستخدامه لا يعني أنه أجاز الاعتداء عليه.

التفصيل:

أولا. الإسلام دين النظافة والنقاء والتطهر:

إن الإسلام ليس دين عبادة فقط إنما هو منهج حياة شامل، وقد تكلفت تشريعاته بكل ما فيه مصالح البشرية من تأمين حياتهم وحمايتهم والحفاظ عليهم، والعلم الحديث ينبئنا كل يوم بما يؤكد على إعجاز تشريعات الإسلام في جميع المناحي، قال عزوجل: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( (فصلت:53)، ولا يقبل الإسلام عبادة بدون الطهارة المعنوية والمادية؛ حماية للإنسان من آفات القلوب وأمراض البدن، ومن يطلع على أحكام الشريعة الإسلامية في شقها المتعلق بالعبادات، يجد أن الإسلام بني هذه العبادات كلها بما فيها الصلاة – وهي عماد الدين – على أساس متين، ألا وهي النظافة؛ إذ جعل الطهارة سواء من الحدث الأصغر أو الأكبر شرط صحة لا تقبل العبادة بدونها؛ ذلك أن الله – عزوجل – أمر من أراد الصلاة أن يتطهر؛ لقوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين( (المائدة: 6).

وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – مؤكدا على هذا المقصد التعبدي: «الطهور شطر الإيمان»[1]، وقال – صلى الله عليه وسلم – في موضع آخر: «لا تقبل صلاة بغير طهور…» [2]، وقد تضافرت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية لإثبات هذا المعنى في أذهان الناس.

ولعل المنصف المتأمل يقر بأنه لا يوجد دين حث على النظافة عموما، ونظافة الأجساد والأمكنة خصوصا مثل الإسلام، ولا يخفى على ذي لب أن الإسلام رام في تشريع النظافة وربطها بالعبادة أمورا منها:

إعداد المسلم إعداد نفسيا سيكولوجيا لمقابلة ربه في الصلاة، ذلك أن النظافة تجعله صافي الذهن، مطمئن البال في حين نجد الأوساخ والأدران التي تعلق بالإنسان وتجعله على حال مناقضة لحال اطمئنانه وهو متطهر.
الأدب مع الخالق – عزوجل – بأن يتجمل الإنسان استعدادا لملاقاته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»[3]، وفي القرآن:)يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف)، وكذلك بأن لا يقف المؤمن بين يدي ربه في الصلاة إلا وهو طاهر متطهر ظاهرا وباطنا.

إن الإسلام سعى إلى حماية المسلم من الأمراض والأوبئة بالنظافة؛ إذ إن هناك العديد من الأمراض التي سببتها الأوساخ الناتجة عن عدم الطهارة، ولم يتنبه الناس إلى أن النظافة تقي الجسم من الأمراض، إلا منذ نحو مائة وخمسين عاما تقريبا، ومن ثم علموا أنها شرط في الطب الوقائي، وأن عدم مراعاة نظافة الأجسام سبب رئيس في كثرة الأمراض، وكانوا يعتقدون أن سبب الأمراض هو دخول الأرواح الشريرة في الجسم فيمرض الإنسان؛ لذلك ركزوا العلاج في محاولة إخراج تلك الأرواح الشريرة المزعومة من داخل أجسام المرضى.

وفي وسط ذلك الجهل، ظهر في أوربا عالم يدعى فراكستوريوس سنة 1546م، أي في القرن السادس عشر، وأعلن أن انتقال الأمراض إلى الأجسام هو بسبب أجسام ناقلة للأمراض، وليس أرواحا شريرة كما كان الاعتقاد، ولم تكن لدى فراكستوريوس صورة محدودة عن تلك الأجسام الناقلة للأمراض.

وفي القرن السابع عشر – وتحديدا سنة 1675م – اخترع أنطوني ليفانهوك عدسة مكبرة، وشاهد من خلالها قطرة ماء من مستنقع، فرأى الميكروبات، وكان هو أول إنسان يرى الميكروب بعينيه، ورسم أشكالا لها، وفي القرن الثامن عشر في سنة 1720م، توصل عالم يدعى بنيامين مارتن إلى حقيقة علمية جديدة، وهي أن الأمراض المعدية قد تكون بسبب كائنات حية دقيقة جدا، تنتقل من المريض إلى السليم.

وفي النصف الأول من القرن الماضي في سنة 1835م، توصل جستينوباسي إلى أن الجراثيم هي سبب كثير من الأمراض، وفي منتصف القرن الماضي ظهر العالم الفرنسي لويس باستور ووضع الأساس العلمي الصحيح لعلم البكتريا الحديث، وظهر بعده علماء كثيرون، اكتشفوا جراثيم جديدة لأمراض جديدة، مثل العالم الألماني كوخ الذي اكتشف ميكروب السل، وفهم الناس حينئذ أهمية نظافة الأجسام التي دعا إليها الإسلام على أساس علمي صحيح.

وفي هذا القرن اكتشف العلماء جراثيم أخرى أصغر كثيرا من البكتريا، ولا ترى بالميكروسكوب العادي التي ترى بواسطته البكتريا، ولكنها ترى بواسطة الميكروسكوب الإلكتروني، الذي يكبر الصورة ملايين المرات وأطلقوا على هذه البكتريا المتناهية في الصغر اسم “فيروس” وهي تفرز سموما تسبب بواستطها الأمراض[4].

فانظر إلى أثر رحمة الله بخلقه؛ حيث يدعوهم إلى الحفاظ على النظافة والطهارة، وما رمى إليه الشرع الحنيف من مقاصد عظيمة، أشرنا إلى بعضها، وأخرى لم نذكرها، منها: أن يكون المؤمن قويا محافظا على صحة بدنه؛ إذ المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير كما ثبت بذلك الأثر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»[5]. حث وتشجيع على الاعتناء بالنظافة حتى يظل الإنسان في قوة وعافية.

ثانيا. معنى الكلب عند اللغويين والأطباء، وتحديد الإسلام للمهمة التي يقوم بها:

الكلب عند اللغويين: سبع عقور، وعند الأطباء: حيوان ثديي استأنسه الإنسان واستخدمه في الصيد والحراسة[6]، واعتبره الإسلام نجسا قذرا، لا يستخدم إلا في هذه الأغراض؛ لما ينقله كثرة استخدامه من الأمراض.

المواضع التي رخص فيها الإسلام الانتفاع بالكلاب:

إن النصوص الشرعية التي تحدثت عن منع الإسلام الانتفاع بالكلاب، تخبرنا بأن هناك استثناء في مسألة الحظر؛ ذلك أن الشارع الحكيم راعى مصلحة الناس، وأجاز لهم استعمال الكلاب في بعض الأغراض المحدودة، ألا وهي الحرث والحراسة والصيد، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط، إلا كلب حرث أو ماشية»[7]، وفي رواية: «إلا كلب زرع أو غنم أو صيد»[8]، وفي رواية أخرى: «إلا كلب صيد أو ماشية»[9]؛ وبذلك ظهر أنه يجوز لأهل الزراعة وتربية المواشي استخدام الكلاب في الحرث وحراسة الماشية، وكذلك يجوز لهواة القنص والصيد البري استخدام الكلب شريطة أن يكون معلما لقوله عزوجل: )وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم( (المائدة: 4)، ولحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: «قلت: يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله عليه. فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل. فقلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها»[10]. والكلب المعلم هو الذي يفهم إشارات صاحبه، وإذا أمسك الصيد لم يأكل منه.

أما اقتناء الكلب لحراسة البيوت، فلم يرد فيه نص صريح، بل الوارد فيه التحذير من اقتناء الكلاب داخل البيوت لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل»[11]، لذلك منعه بعض الفقهاء، كابن قدامة الذي قال: “لا يجوز على الأصح للخبر المتقدم، ويحتمل الإباحة”[12].

وقد يجوز استعمال الكلاب لحراسة البيوت التي توجد في الأرياف على وجه الخصوص؛ ذلك نظرا لقلة الأمن وإحداق الأخطار بها، وهؤلاء غالبا ما تكون لهم مساحة أمام البيت تستغل لوضع مأوى الكلب، وتعد مكان حراسته، وبذلك يتفادى دخول الكلب للبيت.

وإذا تقرر هذا واتضح؛ فإن لكلاب الحرث والحراسة والصيد مواصفات بدنية خاصة، منها قوة الجسم، وسرعة العدو كما تكون كبيرة الحجم، لا سيما بالنسبة لكلاب الرعي؛ ليكون في قدرتها الدفاع عن القطيع ضد الذئاب، وتكون معلمة أيضا بالنسبة لكلاب الصيد.

ومن ثم نخلص إلى أن الإسلام لم يجز اتخاذ الكلاب للزينة، كما يفعل الغربيون الذين يتفننون في الاعتناء بالكلاب الخاصة بالزينة، ذوات الشعر الطويل، واللون الجميل والأعضاء المنسقة، والعرب ما اتخذوا الكلاب للزينة قط، في جاهليتهم ولا في إسلامهم، نظرا لنفور الفطرة السليمة منها، بل أرشدتهم فطرهم السليمة إلى اتخاذ حيوانات أخرى للزينة، مثل الخيل وهي في غاية الجمال، وتأتي بعدها البغال ثم الحمير، ولقد وصف القرآن الكريم هذا الواقع في معرض حديثه عن النعم التي أنعم بها على الإنسان في أول سورة النحل في قوله عزوجل: )والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة( (النحل: 8).

ويجب على من ينتفع بالكلاب لغرض من الأغراض المذكورة آنفا أن يحصن باللقاح، والمضاد للسعار وقاية له وللآخرين من داء السعار، أما أمراض الكلب الأخرى فلا توجد لقاحات ضدها، مع أخذ الحيطة في التعامل مع الكلب للوقاية من هذه الأمراض، ويجب عرضه على الطبيب البيطري بصفة دورية للتأكد من سلامته.

ثالثا. الأمراض التي ينقلها الكلب:

أبرزت الكشوفات العلمية الحديثة حقيقة علمية مفادها: أن الكلب يتسبب في نقل عشرات الأمراض إلى الإنسان، مما حدا بالسلطات الصحية في معظم دول العالم القيام بفرض قيود مشددة على اقتناء الكلاب، وألزمت أصحابها بالحصول على ترخيص بذلك، بعد إجراء الفحص البيطري للكلب؛ للتثبت من خلوه من هاتك الأمراض ومنها:

داء الكلب أو السعار: ويسببه نوع من الفيروسات القاتلة، فهو داء صمت بنسبة (100%)، فبعد أن تظهر أعراض الكلب على المصاب، فإنه من النادر جدا أن تجدي المعالجة في استنقاذه من براثن الموت!
مرض الحويصلات المائية: ويسببه طفيلي خطير يتعايش مع الكلب أطلق عليه اسم “Echinococcus Groundlosur”، وهذا الطفيلي يمكن أن يصيب أي عضو من أعضاء البدن، وبخاصة الأعضاء الحيوية، كالكبد والرئتين والطحال، والكليتين والقلب والعظام والجهاز العصبي والعين، وكثيرا ما تدفع هذه الحويصلات الجراح للقيام بعمليات جراحية ظنا منه بأنها أورام سرطانية، وإذا ما انفجرت هذه الحويصلات أثناء الجراحة، كان لانفجارها في الجسم ردود فعل عنيفة، وتولدت عنها حساسية مفرطة أو شرى حاد unticai Acute ينتهي بحدوث صدمة في جهاز الدوران، وهذه الصدمة قد تودي بحياة المريض[13].
مرض دودة الكلب الشريطية: وتعيش هذه الدودة في أمعاء الكلب، وتخرج بويضاتها في براز الكلب، ولما كان الكلب يلعق مؤخرته بفمه؛ فإن بويضات تلك الدودة تتعلق بفم الكلب المصاب، والإنسان الذي يحمل الكلب المصاب بين يديه ويداعبه بيديه، أو يحتفظ به داخل بيته، ويجلسه على منضدة الطعام سينتقل إليه هذا المرض بسهولة، عن طريق الفم إلى الأمعاء، وتسبب العدوى للإنسان بتلك الدودة من الكلب، أكياسا في أماكن شتى من جسمه وأكثرها في الكبد، في 63% من الحالات وفي الرئتين في 24% من الحالات، وفي العظام في 3% من الحالات، وتلك الأكياس تسبب أخطارا للجسم، ولا بد من استئصال تلك الحويصلة جراحيا، وقد تصل العدوى إلى الإنسان أيضا، عن طريق تناول خضروات ملوثة ببراز الكلب المصاب، إلى غير ذلك من الأمراض التي عدها المتخصصون فوجدوها تزيد على الأربعين مرضا خطيرا[14].

فإذا كان الأمر كذلك، فلا غرو أن نجد الإسلام حامل لواء النظافة والوقاية من الأمراض. أول من نهى عن اقتناء الكلاب ومخالطتها، واعتبرها نجسة نجاسة عينية، وأمر بالتوقي منها، فكان الإسلام هو الذي أرسى قاعدة العمل بالطب الوقائي.

دعوة الإسلام إلى الطب الوقائي:

لقد اتخذ الإسلام إجراءات وقائية، وحث على فعلها عرفت في الطب الحديث بالطب الوقائي، ذلك أنه يسعى إلى إحكام غلق باب الداء قبل أن يصاب به الإنسان، امتثالا للحكمة المأثورة: “الوقاية خير من العلاج”.

إن نهي الإسلام عن اقتناء الكلاب كان بهدف وقاية المسلمين من الأمراض التي أشرنا إليها آنفا، وذلك من قبل أن يتوصل الإنسان إلى معرفتها بـ 1400 سنة تقريبا، وكيف لا وقد جاء النهي من العليم الخبير.

هذا، وإن النصوص الشرعية التي تنهى عن اقتناء الكلاب هي نصوص من السنة فقط منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك كلبا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط إلا كلب حرث أو كلب ماشية»[15]، وقوله – صلى الله عليه وسلم – أيضا: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل»[16].

والقارئ للحديثين لا يملك إلا الامتثال لهما إذا لم يعرف الحكمة المقصودة من وراء النهي، لكن بعد أن فتح الله على الناس في العصر الحديث، كشف لهم المغيب المجهول، صارت الحكمة ظاهرة جلية لكل ذي عينين، وعلم أن مخالطة الكلاب والاحتكاك بها مجلبة للأمراض الخطيرة والمميتة، والمسببة تلويث البيئة، لا سيما لمن يتركون كلابهم يسرحون في الحدائق العمومية، والأماكن العامة، خصوصا وأن الكلب هو الحيوان الوحيد الذي لا يبول في مكان واحد، وإنما يفعل ذلك في أماكن متفرقة، وهو الحيوان الوحيد الذي يلعق مؤخرته بفمه، ومن ثم فإن فمه ملوث دائما بالجراثيم؛ لذلك نجد من مظاهر الإعجاز في النهي عن اقتناء الكلاب – فضلا عما تقدم – أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب[17] أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب»[18]، بعد إراقة ما ولغ فيه وما تعدد الغسل إلا تنبيها على قذارته ونجاسته، وإنعاما في التوقي والحذر من الإصابة بالأمراض التي يخلفها ولوغه.

رابعا. الإسلام دين الرحمة العامة حرم الاعتداء على جميع الحيوانات، بل أثاب من أحسن إليها:

يحسن بنا أن نشير إلى أن الإسلام وهو دين الرحمة حتى بالحيوان لم يجز الاعتداء على الحيوان، سواء كان كلبا أو غيره، لمجرد أنه منع الانتفاع به؛ فالله – عزوجل – يقول:«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا»[19]، والاعتداء على الحيوان هو نوع من الظلم.

بل ذهب الفقهاء إلى أنه يجب دفع الضرر عن الكلب غير العقور وحفظ حياته، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بينما رجل بطريق فاشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثري من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له”. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم: في كل ذات كبد رطبة أجر»[20].

فأثاب الله – عزوجل – هذا الرجل بأن غفر ذنوبه كلها بمجرد أنه سقى هذا الحيوان الحقير في عيون الناس، فأي دين يعطي هذا الجزاء الوفير جزاء عمل لا يعد ذا بال في ميزان كثير من الناس؟

هذا وإن هناك قصة أعجب وأعظم في موضوع إثابة من أحسن إلى ذلك الحيوان وهي: أن أمرأة بغيا[21] غفر لها الله هذا الذنب العظيم الذي اقترفته مرات عديدة؛ لمجرد أنها سقت كلبا يلهث يكاد يقتله العطش، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفر لامرأة مومسة، مرت بكلب على رأس ركي[22] يلهث يكاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك»[23].

وكما أثاب الله – عزوجل – من أحسن إلى الحيوان، فقد عاقب من أساء إليه ولم يرفق به، وخير مثال أقدمه في هذا الصدد، قصة المرأة التي دخلت النار في هرة؛ فعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»[24]. فعاقبها الله – عزوجل – بأن أدخلها النار جزاء وفاقا لهذا العمل الشنيع في نظر الشرع.

الخلاصة:

إن الإسلام ما نهى عن شيء إلا لضرر راجح يتأذى منه الإنسان، وما حث على شيء إلا لمصلحة راجحة تفيده، وبين النهي والإباحة أتاح رخصا أو استثناءات لذوي الحاجات حتى لا تضيع عليهم مصالحهم.
هناك الكثير من الأمراض الخطيرة قد تنقلها الكلاب للإنسان، ولذا كان هدف الإسلام من النهي عن اقتناء الكلاب هو وقاية المسلمين من هذه الأمراض، وهذا ما عرف بعد ذلك في الطب الحديث باسم “الطب الوقائي”.
وإن نهى الإسلام عن شيء كالانتفاع بالكلاب لا يعني جواز الاعتداء عليها، بل دعا إلى ضرورة الرفق بالحيوان ومنها الكلاب، وبكل كائن حي في الوجود؛ لأن المسلم يعيش في انسجام تام مع هذا الكون بفضل طاعته لأوامر الله – عزوجل – واجتنابه نواهيه، قال عزوجل: )فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)( (طه).

 


(*) المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م. الموسوعة الفقهية، وزراة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، مطابع دار الصفوة، مصر، ط4، 1412هـ/ 1992م. الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م.

[1]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء (556).

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة (557).

[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (275).

[4]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص135: 154 بتصرف.

[5]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء (66)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء وفضله (35) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (273).

[6]. الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص803.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب اقتناء الكلب للحرث (2197)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد (4115)، وفي مواضع أخرى.

[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد (4112).

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد (4109).

[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة (5081)، وفي موضع آخر.

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين (3053)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (5641)، وفي مواضع أخرى.

[12]. الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص804.

[13]. الموسوعة الطبية الفقهية، د. أحمد محمد كنعان، دار النفائس، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص803.

[14]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص164 وما بعدها.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المزارعة، باب اقتناء الكلب للحرث (2197)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد (4115)، وفي مواضع أخرى.

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين (3053)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (5641)، وفي مواضع أخرى.

[17]. ولغ فيه كلب: أي: وضع أنفه في الأناء وشرب بطرف لسانه.

[18]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب (677).

[19]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم (6737)، وفي موضع آخر.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب الآبار على الطرق إذا لم يتأذ بها (2334)، وفي مواضع أخرى.

[21]. البغي: التي تتخذ من الزنا مهنة لها.

[22]. الركي: البئر.

[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه (3143)، وفي موضع آخر.

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (7158)، واللفظ للبخاري.

دعوى تفريق الإسلام بين المسلمين وأهل الذمة في الحقوق الاجتماعية

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الإسلام فيه أحكام شرعت لإذلال أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين يقيمون تحت حكم إسلامي، ودليلهم على ذلك أن الإسلام حرم العلماء والمتخصصين منهم من أن يشغلوا مناصب في الدولة هم أحق بها، كما أنه يلزم أهل الكتاب لباسا معينا يميزهم عن المسلمين؛ حتى لا ينالوا في المجتمع الاحترام الذي يناله المسلمون في زعمهم، ويتساءلون: هل هذا يتفق مع ما يقوله المسلمون من مساواة أهل الكتاب بالمسلمين في الحقوق الاجتماعية؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام بريء من إذلال أهل الذمة، وكل ما فيه من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، وتاريخه الواقعي يشهد على حسن معاملة أهل الذمة تحت الحكم الإسلامي.

2) اعترافات أهل الذمة بسماحة الإسلام وعدله معهم، وإنصافه لهم تؤكد كذب هذه الدعوى، على حين أن الواقع يشهد بقسوة غير المسلمين على رعايا الإسلام وأهله.

3) الزي الخاص بأهل الذمة تقرر لمدة قصيرة، ولم يكن أمرا شرعيا يتعبد به، بل كان قانونا متعلقا بمصلحة زمنية للمجتمع دعت الحاجة إليه ثم زالت ولم تعتبر بعد ذلك.

التفصيل:

أولا. معاملة غير المسلمين في المجتمع المسلم في القرآن والسنة والتاريخ الواقعي:

إن الناظر في حال الأمة الإسلامية منذ عهد الفتوحات الأولى يجدها لم تظلم ذميا ولا معاهدا ولم تحرض على ذلك قط، وأني لها ذلك وقد حرمه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أشد تحريم؟! بل إن من يظلم ذميا أو معاهدا فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – خصيمه يوم القيامة!

وقد دفع هذا التعامل الحسن غير المسلمين إلى حب الإسلام واعتناقه عن طيب خاطر، فكيف يتسنى لهؤلاء أن يزعموا أن الإسلام يظلم الذميين؟!

إن نصوص الشريعة والواقع العملي والتاريخ في كل زمان ومكان، كل ذلك يشهد ببطلان هذه الدعوى، ويؤكد على أن تعاليم الإسلام كلها عدل وإنصاف وإحسان للناس جميعا مسلمين أو غير مسلمين، ويدل على ذلك ما يأتي:

نص القرآن الكريم على حسـن معاملـة أهـل الكتـاب، قـال عـز وجـل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، وقال عز وجل: )ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولـوا آمنـا بالـذي أنــزل إلينـا وأنــزل إليكـم وإلهنـا وإلهكـم واحـد ونحـن لـه مسلمــون (46)( (العنكبوت)، وقال عز وجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[1]، وفي عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل نجران أنه: «لا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر»[2].
ولقد كفل الإسلام لأهل الذمة حقوقهم كحق الحماية من الاعتداء الخارجي والظلم الداخلي، كما حمى دماءهم وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم، وضمن لهم حق كفالة المعيشة عند العجز والشيخوخة والفقر، وأيضا كفل لهم حرية الاعتقاد والتعبد، وحرية العمل والكسب، وحرية تولي وظائف الدولة إلى غير ذلك من الحقوق.
يشهد التاريخ على حسن معاملة أهل الذمة تحت الحكم الإسلامي، فحركة الفتوحات في عهد الفاروق التي قام بها الصحابة تشهد على احترام الإسلام للأديان الأخرى، وحرص القيادة العليا على عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام.

فهذا الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تأتيه امرأة نصرانية لتقضي حاجتها، فقال لها: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر رضي الله عنه: اللهـم اشهـد، وتـلا قولـه تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة:٢٥٦) [3].

وكان لعمر – رضي الله عنه – أيضا عبد نصراني اسمه أشق، قال: كنت عبدا نصرانيا لعمر رضي الله عنه، فقال: أسلم. فأبيت، فقال: )لا إكراه في الدين(، فلما حضرته الوفاة أعتقني، وقال: اذهب حيث شئت[4].

وهذا عمرو بن العاص – رضي الله عنه – يكتب لأهل مصر عهدا جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم”[5].

وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة ممارسة شعائرهم الدينية، وأنهم لايمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلانا وجهرا كإخراجهم الصلبان، يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.

ويؤكد ذلك قول الشيخ الغزالي: إن الحرية الدينية التي كلفها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام.

وما ورد عن خالد بن الوليد – رضي الله عنه – في عهد ذمته الذي كتب لأهل الحيرة: “وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله”[6].

وفي عهد الدولة العثمانية صدر القانون 18 فبراير 1856م لإنصاف الأقليات غير المسلمة من رعايا الدولة العثمانية وإزالة مظاهر التمييز بينهم وبين المسلمين، وتقرير المساواة بين كل رعايا الدولة.

وعن مظاهر تسامح الإسلام مع غير المسلمين من أهل الذمة وغيرهم يوضح د. محمد بدر معبدي علامات هذا التسامح ومنها:

الإسلام دين التسامح:

إن الإسلام كان السابق الأكبر إلى بث التسامح، وحرص أول ما حرص على الأخوة الإنسانية بين البشر؛ وربما إلى الوحدة الإنسانية مهما اختلفت الألوان وتباينت اللهجات، ولقد قرر الإسلام هذه الحقيقة في أول نداء إنساني من نوعه قبل أن تعرف ذلك المنظمات التي تنادي بحقوق الإنسان، وقبل أن تعلنها المنظمات العالمية والهيئات الدولية، يقول الله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).

وقد عمل المسلمون – في العصور المختلفة – على تدعيم الوحدة الإنسانية، ونشروا التسامح بين المسلمين وغيرهم، وقد رأينا رسولنا العظيم محمدا – صلى الله عليه وسلم – استأجر عبد الله بن أريقط وهو مشرك، ليكون دليلا له في الهجرة، ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شئ أصلا؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجد من الحكمة الاستعانة بمثل هذا الرجل ما دام أمينا، والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها.

الاستعانة بغير المسلمين في أعمال الدولة الإسلامية:

ومما هو معلوم أن العلماء قد أجازوا لإمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين وبخاصة أهل الكتاب في بعض الشئون السياسية والحربية، ما داموا أهل ثقة وأهل عهد لايقاتلوننا، ولا يقفون حجر عثرة في طريق الدعوة الإسلامية، قال عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركـم وظاهـروا على إخراجكـم أن تولوهــم ومــن يتولهـم فأولئـك هـم الظالمــون (9)( (الممتحنة).

والإسلام وهو دين التسامح حرص على رعاية العلماء والحكماء من أهل الملل المختلفة، وقد بلغ بعض النابغين من غير المسلمين الحظوة عند خلفاء المسلمين وعامتهم، يقول الفيلسوف داربر – أحد المؤرخين الأمريكان -: “إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى واليهود وغيرهم على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرا من الأعمال الجسام، ورقوهم إلى المناصب المختلفة في الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة من يثق فيه من المسيحيين وهو “حنا مسنيه، وقال في موضع آخر: كانت إدارة المدارس مفوضة إلى المسيحيين تارة وإلى اليهود تارة أخرى، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الملة التي يتبعها أو الدين الذي يدين به؛ بل لم يكن الإسلام ينظر إلا إلى مكانة العالم من العلم والمعرفة، قال الخليفة العباسي المأمون: الحكماء هم صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وارتفعوا بقواهم عن دنس الطبيعة، هم ضياء العالم، وهم واضعو قوانينه، ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية، وقال في موضع آخر: إن العرب قد زحفوا بجيش من أطبائهم اليهود ومؤدبي أولادهم من النصارى ففتحوا من مملكة العلم والفلسفة ما أتوا على حدوده بأسرع مما أتوا على حدود مملكة الرومانيين.

بعض العلماء والحكماء غير المسلمين الذي كانت لهم الحظوة في الدولة الإسلامية:
جيورجيس بن بختيشوع: طبيب المنصور، كان فيلسوفا كبيرا علت منزلته عند المنصور، فأعلى مكانته حتى على وزرائه، ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار العامة، وخرج ماشيا يسأل عن حاله، وحينما طلب من الخليفة أن يعود إلى بلده ليدفن فيه مع آبائه وأجداده، أمر بتجهيزه ومنحه عشرة آلاف دينار، وأوصى من معه بحمله إذا مات في الطريق إلى مدافن آبائه كما طلب.
بختيشوع الطبيب وجبريل ولدا يوحنا ابن ماسويه النصراني: ولاه الرشيد ترجمة الكتب القديمة، طبية وغيرها، وخدم الرشيد من بعده إلى المتوكل، ارتفع شأنهم عند الخليفة هارون الرشيد.
يوحنا البطريق: مولى المأمون علا قدره في زمنه، حتى صار أمينا على ترجمة الكتب من كل علم من علوم الطب والفلسفة.
سهل بن سابور وسابور ابنه: وكانا نصرانيين، تولى سابور بن سهل بيمارستان جند نيسابور.
حنين بن إسحاق النصراني: اشتهر أيام المتوكل، وكان من أشهر المترجمين لكتب أرسطو وغيره، وكان قد عرف بفصاحة العبارة، وحسن الترجمة في زمن المأمون.
متى بن يونس المنطقي النصراني: كان متفننا في جميع العلوم العقلية، أخذ عنه أبو نصر الفارابي وانتهت إليه الرئاسة في بغداد.

ومن هنا يتضح للجميع مدى اهتمام الدين الإسلامي الحنيف بالعلماء والحكماء، وسعة صدره للغريب والقريب على السواء، دون تمييز ولا تفريق فالكل يوزن بميزان واحد، وهو ميزان العلم والحكمة.

من التسامح كون الرسول – صلى الله عليه وسلم – داعيا فحسب:

كان من سماحة الإسلام أن أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن، لا يجبر أحدا على قبول دعوته، ولايكره الناس على الدخول في الإسلام مكتفيا بالحجة والإقناع، معلنا أنه لاسيطرة له على الضمائر، ولاسلطان له على القلوب، وظيفته الهداية والدعوة إلى الله بالحكمة والعقل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل:125).

يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحذر عاقبة الظلم والطغيان، وليس من وظيفته ولا اختصاصه إحلال الهداية في قلوب الضالين، وإيصال اليقين إلى نفوس الحيارى التائهين، إنما ذلك لله وحده، قال )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص) [7].

الدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم:

ويبين د. أمير عبد العزيز، وضع أهل الذمة في المجتمع الإسلامي وهو ما نطلق عليه الآن الأقلية السياسية وذلك تحت عنوان “الكف عن أهل الذمة والذب عنهم”: إذا عقد إمام المسلمين الذمة لأهل الكتاب، لزم المسلمون أن يكفوا عن إيذائهم البتة، بل وجب عليهم أن يحوطوهم بالصون والحماية في أنفسهم وأموالهم ومعابدهم، وأن يدفعوا عنهم الشر والعدوان الواقعين بهم، وعلى المسلمين خلاص المأسورين منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم، ذلك أن المسلمين منوط بهم أن يجمعوا أهل الذمة، وأن يذبوا عنهم وأن يدفعوا ما حاق بهم من ضرر أو اعتداء. المسلمون ملزمون بذلك كله، وذلك بموجب عقد الذمة وهو من موجباته ومعانيه أن المعقود لهم الذمة قد دخلوا في عهد المسلمين وفي أمانهم، وفي هذا يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – محذرا من الاعتداء على أهل الذمة: «من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة»[8].

وأصدق دليل على تركيز هذه الحقيقة في العدل والاستقامة، ومجانبة الجور والهوى، قوله عزوجل في محكم التنزيل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8)( (المائدة)، إنه لا ضير ولا حيف على أهل الكتاب[9] لو كانوا في أمان الإسلام والمسلمين وفي حمايتهم ورعايتهم، لا جرم أنهم حيئنذ آمنون مطمئنون لايمسهم أحد بسوء أو مظلمة، لا في أنفسهم ولا في دمائهم ولا أموالهم.

ثانيا. شواهد الواقع على قسوة غير المسلمين، واعترافات أهل الذمة بسماحة الإسلام:

فظائع التنكيل بالمسلمين على مدار التاريخ:

أين ذلك كله من فظائع الصليبيين الغربيين الذين أذاقوا المسلمين الويلات والبلايا، وساموهم ألوانا من التنكيل والقمع والإبادة؟! ومن شواهد ذلك ما فعله الغربيون بالمسلمين في الأندلس، إذ كانت للمسلمين هنالك حضارة شامخة ساطعة ظلت منارا للعدل، والعلم، والنور إبان عزها المستطير الذي شعشع في الآفاق، وأشرق بضيائه الثاقب البهيج حتى استضاءت به أوربا كلها، ثم ما إن زحف الصليبيون صوب هذه الحضارة العظيمة حتى نكلوا بالمسلمين شر تنكيل، فاستأصلوهم استئصالا فقطع دابرهم وأكره من نجا منهم على اعتناق النصرانية، إلى غير ذلك من وجوه التعذيب والإذلال والإبادة.

وكذلك الصليبيون في بلاد الشام بأفاعليهم البشعة المشهودة وما أنزلوه بساحة المسلمين – في القدس خاصة – من ضروب التنكيل، فلم يرعوا فيهم إلا ولا ذمة، ولم يزجرهم عن إبادة المسلمين زاجر من ضمير أو دين أو حس!

فأين ذلك من سماحة الإسلام، وروعة نظامه الرحيم الفياض؟! النظام الذي حفظ لأهل الذمة حقوقهم وكرامتهم وأموالهم وعباداتهم فما مسهم أذى ولا عدوان ولا إساءة، وهذه حقيقة بلجة، يشهد لها إحسان المسلمين وبرهم بأهل الكتاب، وما كانوا يحفونهم به من العفو، والتسامح والرحمة عقب هزيمتهم الصليبيين في حطين.

أما أحفاد صهيون في فلسطين، فقصتهم المذهلة شاهد مرير على ما فعلوه بالمسلمين في هذه الديار المنكوبة، إذ شردوا أهلها تشريدا بعد أن أرعبوهم بالتقتيل والفظائع الرهيبة، حتى إذا اضطروهم للهروب طلبا للنجاة من المذابح الجماعية، استولوا على ديارهم وأوطانهم فباتت فلسطين بمدنها وقراها وسهولها ومروجها يبابا[10]، أو أثرا بعد عين. وما فتئ شعب فلسطين يكابد الضيم والظلم، ومرارة المآسي المادية والمعنوية، وكذلك التشريد بالقمع والقوة، وبما قارفه أحفاد صهيون من ترويع لهم وإبادة، مستعينين في ذلك كله بقوى البغي والطغيان في أوربا وأمريكا. أولئك جميعا مالأوا أحفاد صهيون على اغتصاب فلسطين بالبطش والإرهاب والتطهير العرقي.

وأما أخبار البوسنة والهيرسك فتلك ذروة قصوى في الطغيان والإجرام، وغاية بالغة في الترويع والظلم والشنار، فما بلغه الحاقدون الصرب من أفاعيل همجية شنيعة، وما ألحقوه بالمسلمين من فظائع وأهوال قد فاقت كل خيال، وأذهلت كل عقل وبال.

أولئك هم الأشرار القتلة الذين جاسوا ديار المسلمين في البوسنة؛ فقارفوا فيها ما لم تقارفه كواسر الوحوش في الغابات؛ بل إن الوحوش الضارية يحنو منها الكبار على الصغار.

وأخيرا ما ارتكبه الطغيان الأمريكي على الشعب العراقي المسلم؛ فقتل فيهم الأبرياء من أطفال ونساء، وطوقهم بأطواق الحرمان والتدمير، فأذاقهم مرارة الجوع والبؤس والأسقام.

فأين ذلك من كرم المسلمين وسماحتهم وعدلهم، إبان حكمهم وسلطانهم لما ساسوا الناس في قسط وبر ومرحمة، حتى إذا أحس غير المسلمين روعة الأخلاق والقيم وجمال السلوك في العدل والفضل والاستقامة، أيقنوا أن هذا الدين حق فبادروا بالدخول فيه واعتناقه عن طواعية ويقين وود.

وفي ذلك من مستفيض الدلالة على أن الإسلام وحده دين الحق والعدل والرحمة، وأنه الذي يغمر البشرية بسحائب رحمته ولطفه[11].

وعلى هذا فإن تسامح الإسلام مع أهل الكتاب بين، لا يستطيع منصف أن ينكره، والحق أن الجور يأتي من غير المسلمين، مما يؤكد أن الإسلام وحده دين الحق والعدل والرحمة.

التعصب والإسقاط وقلب الحقائق وتزوير التاريخ:

لقد اتهم الإسلام بالتعصب من قبل فئة حاقدة اعتادت على قلب الحقائق كيدا منهم للإسلام والمسلمين، كما يقول د. شوقي أبو خليل: “ومما أسقطه الغربيون – برعاية الكنيسة – علينا قولهم: “يتحتم على المسلم أن يعلن العداوة على غير المسلمين حيث وجدهم؛ لأن محاربة غير المسلمين واجب ديني”.

“في القرن السابع للميلاد برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب، لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات”.

“إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم”.

“إن الإسلام يبث في المسلمين روح البغض للأغيار والشقاق وحب الانتقام”.

تلك هي مجموع أقوالهم التي تنم عن حقد دفين لكل ما هو إسلامي، فكيف يصل التعصب بأصحابه إلى قلب المفاهيم وعكس الحقائق؟

ونركز على كلمة “تعصب”، بكل ما تحمل من معان؛ لأنه يستحيل أن يكون من نعنيهم من المستشرقين والمبشرين يجهلون أبسط الحقائق والمعارف عن الإسلام، وهؤلاء قبل غيرهم يعرفون ويعلمون علم اليقين أن كتاب المسلمين مصدر شريعتهم الأول، فرض بآيات صريحة يفهمها أبسط الناس، بما لايقبل أي التباس على المسلمين أن يحسنوا معاملة غير المسلمين أحسن معاملة؛ حيث ورد بحقهم قوله عز وجل: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109)( (البقرة)، وقوله عز وجل: )وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (البقرة: 83)، وقوله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).

إن روح الصليبية المقيتة العمياء لا تزال تسيطر على عقول معظم المستشرقين وجل المبشرين، وتطمس قلوبهم فينفثوا سموم أحقادهم تهجمات واتهامات وإسقاطات.

يقول المبشر رايد: “إنني أحاول أن أنقل المسلم من محمد إلى المسيح، ومع ذلك يظن المسلم أن لي في ذلك غاية خاصة، أنا لا أحب المسلم لذاته، ولا لأنه أخ لي في الإنسانية، ولولا أني أريد ربحه إلى صفوف النصارى لما كنت تعرضت له لأساعده”.

فبينما يقبل المسلمون بينهم وجود أديان مغايرة لدينهم، ويرفضون إكراه أحد على ترك ملته: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، ويرضون أن يتألف المجتمع من المسلمين وغير المسلمين، ويشرعون نظما عادلة لتطبق عليهم وعلى من في ذمتهم من المسيحيين أو اليهود، بينما نفعل ذلك، نرى المسيحية تتبرم من الديانات الأخرى، وترسم سياستها الظاهرة والباطنة لإبادة خصومها أو تحقيرهم وحرمانهم، حتى ترغمهم على ترك دينهم، وتجبرهم على النصرانية جبرا.

الإسلام مد يده لمصافحة أتباع الأديان الأخرى لتحقيق التعاون على إقامة العدل، ونشر الأمن، وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك.

والإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالإكراه عن عقائدهم، أو المساس الجائر لأموالهم وأعراضهم ودمائهم.

ولن ينسى التاريخ أن الإسلام ربط ضمير المؤمن بمثل أعلى، فالعدل قوام التعامل مع كل الناس، فلا تفاوت بسبب قرابة، أو مودة أو عداء.. ولا اعتداء على الأنفس أو الأموال أو الأعراض؛ لذلك: تحول البدو المسيحيون ببلاد الشام إلى الإسلام بالتسامح، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح، وهذا ينطبق على الشمال الإفريقي والأندلس وفارس وما وراء النهر.

ويعيش في البلاد الإسلامية على مر تاريخها مسيحيون ويهود، ويعيش مسلمون في بلاد غير إسلامية، فكيف كانت معاملة هؤلاء؟ وكيف كانت معاملة أولئك؟ فإذا طفنا في العالم الإسلامي، فهل نسمع شكاية مسيحي أو يهودي ضد المسلمين؟

أما المسلمون الذين يعيشون تحت كنف حكومات غير إسلامية، فيا للهول، إن ضروب القسوة والوحشية، التي ارتكبت في فلسطين من قبل الصليبيين، جعلت غليوم الصوري يقول: لو أراد كاتب أن يصف رذائلهم الوحشية، لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي.

ولقد سفكت دماء المسلمين في إسبانيا، عندما أصدر الملكان الكاثوليكيان فرديناند وإيزابيلا أمرا خلاصته: لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، ويعاقب المخالفون بالموت، أو مصادرة الأموال.

وفي الفليبين، وتايلاند، وبورما، والحبشة، وغينيا، وزنجيبار، وبلغاريا، وفرنسا، وإنجلترا، وأمريكا… ما واقع المسلمين؟ إن المسلمين يلاقون من المجتمعات غير الإسلامية ألوانا من الاضطهاد والمضايقة، وعلى عكس ذلك يجدون حماية ورعاية لكل هجمة أو افتراء على دينهم ونبيهم وتاريخهم.

ولن ينسى التاريخ لمحمد الفاتح أنه حمى الكنيسة الإغريقية، وحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، وأعطى للبطريرك والأساقفة من الحصانات ونفوذ الكلمة، ما يعد بحق صورة نابضة من صور تسامح الإسلام مع أهل الكتاب، وكذلك عومل الأساقفة نفس المعاملة الحسنة في كل الولايات التي تخضع للدولة العثمانية.

“ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني – محمد الفاتح – بعد سقوط القسطنطينية، وإعادة إقرار النظام فيها، أن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية، فحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، ومنح البطريق الجديد مرسوما يضمن له ولأتباعه ولمرءوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة، والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق، وقد تسلم أجناديوس، أول بطريق بعد الفتح العثماني من يد السلطان نفسه عصا الأسقفية التي كانت رمز هذا المنصب، ومعها كيس يحتوي على ألف دوكة ذهبية”.

وليس أدل على تسامح المسلمين مع المسيحيين من كلمات ريتشارد ستبر، وهو تاجر إنجليزي كان في آسيا الصغرى – تركيا – سنة 1875م؛ حيث قارن بين المسلمين الأتراك، وبين المسيحيين في معاملة المسيحيين أنفسهم، فقال: “وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب بسيرهم في أعمال الظلام.. سمحوا للمسيحيين جميعا، للإغريق منهم واللاتين أن يعيشوا محافظين على دينهم، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا، بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية، وفي أماكن أخرى كثيرة جدا، على حين أستطيع أن أؤكد بحق – بدليل اثنى عشر عاما قضيتها في إسبانيا – أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحسب، بل إننا في خطر على حياتنا وسلعنا”.

ولم تعرف المسيحية التسامح حتى بين أتباعها إن اختلف المذهب، ولن نتحدث مطولا عن الحروب التي نشبت في أوربا إبان الإصلاح الديني، ونكتفي بمثال واحد فقط:

“ملحمة سان بارتلمى”: مذبحة أمر بها سنة 1572م شارل التاسع، وكاترينا دوميديسيس، حينما قتلت كاترينا خمسة من زعماء البروتستانت في باريس، ظنت أنهم يأتمرون بها وبالملك، ولم يكد ينتشر الخبر في باريس حتى شاع أنه شرع في قتل الخوارج؛ فانقض أشراف الكاثوليك والحرس الملكي والنبالة والجمهور على البروتستانت، وقتلوا منهم ألفي نسمة، وقد قـلـد سـكان الولايـات الفرنسـيـة – بعامل العدوى – أهل باريس، فسفكوا دماء ستة إلى ثمانية آلاف نسمة.

ولم تنل حادثة السان بارتلمى أيام وقوعها شيئا من الانتقاد في أوربا الكاثوليكية، وقد أوجبت حماسا يفوق الوصف، فكاد فيليب الثاني يصبح مجنونا لشدة فرحه يوم بلغه وقوعها، وانهالت التهاني على ملك فرنسا أكثر من انهيالها عليه لو نال نصرا عظيما في ساحة الوغى.

وما بدا السرور على أحد كما بدا على البابا غريغوار الثالث عشر، فقد أمر بضرب أوسمة خاصة تخليدا لذكراها، رسمت على هذه الأوسمة صورة غريغوار الثالث عشر، وبجانبه ملك يضرب بالسيف أعناق الخوارج، ثم قال العبارة: “قتل الخوارج”، كما أمر بإيقاد نيران الفرح، وبضرب المدافع، وبتكليف الرسام فازاري أن يصور على جدران الفاتيكان مناظرها.

ومما يؤسف له أن رجال التبشير من النصارى يتغافلون عن سماحة الإسلام، وأهله، ويكرسون مليارات الدولارات، وكل أوقاتهم، وكل نشاطهم لمحاربة الإسلام وتشويه سمعته، وسمعة رسوله الكريم، وهو الذي أمر المسلمين بحسن معاملة كل إنسان؛ احتراما لإنسانيته، أما وقوفه – صلى الله عليه وسلم – لجنازة فاحتراما وتلطفا، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال – صلى الله عليه وسلم – معلما: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا»[12].

وعلى الرغم من ذلك، يقول المستشرق الفرنسي كارا دى فو Carra de Vaux: “ظل محمد زمنا طويلا معروفا في الغرب معرفة سيئة، فلا تكاد توجد خرافة، ولا فظاظة إلا نسبوها إليه”.

وقال ليون روش في كتابه “ثلاثون عاما في الإسلام”: “اعتنقت دين الإسلام زمنا طويلا لأدخل عند الأمير عبد القادر الجزائري، دسيسة من قبل فرنسا، وقد نجحت في الحيلة، فوثق بي الأمير وثوقا تاما، واتخذني سكرتيرا، فوجدت هذا الدين الذي يعيبه الكثيرون أفضل دين عرفته، فهو دين إنساني طبيعي اقتصادي أدبي.

ولم أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشروعا فيه، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون الشريعة الطبيعية، فوجدتها كأنها أخذت عن الشريعة الإسلامية أخذا، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالا وكرما، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والرحمة والمعروف في عالم لايعرف الشر واللغو والكذب، فالمسلم بسيط لايظن بأحد سوءا، ثم هو لا يستحل محرما في طلب الرزق”.

هذه شهادة سياسي فرنسي أقام في بلاد المسلمين ثلاثين سنة، تعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر المسلمين في الجزائر وتونس واسطنبول ومصر والحجاز، ولا شك أنه قد اختبر بهذه المدة الطويلة أحوال المسلمين من سائر الشرائح، فهو إذا كتب يكتب عن روية وحكمة ومعرفة، لا كما كتب بروكلمان وكولي وكرومر من الأوهام والكذب والخلط؛ لأن روح التعصب كانت ترفرف فوقهم عندما كتبوا ما كتبوا.

من عرف الحق عز عليه أن يراه مهضوما، فكيف بمن رأى الباطل يسقط افتراءاته على الحق ظلما وحقدا وتعصبا، والباطل على علم ويقين بأنه يفتري ويكذب، ويصم الآخرين بما فيه[13]؟

كما يقول جوستاف لوبون مشيرا إلى معاملة عبيدة بن الجراح لأهل حمص، فقد رد عليهم ما جباه منهم باسم الجزية، عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلا: “سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم”، وغادر مدينتهم منسحبا بجيشه، مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفع جند هرقل عن المدينة حمص مع عاملكم.

ويقول أيضا: “الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، إن الإسلام هو الذي أعطى المسلمين هذه الرحمة وهذا التسامح، ونحن رأينا صورا مختلفة مثل: حرب الأفيون، وأقسى منها حروب الاستعمار الحديث، وأشد منها ظلم الصهيونية وقسوتها، وحبها للدماء والعدوان والإبادة”.

ويقول توماس أرنولد عن الإسلام: “إنه الدين الذي يسمو فيه نشر الحق وهداية الكفار. إلى واجب مقدس، على يد مؤسس الدين أو خلفائه من بعده”.

ويقول جوستاف لوبون أيضا: “وكان محمد – صلى الله عليه وسلم – كثير المسامحة لليهود والنصارى خلافا لما يظن”.

ويعترف بهذه المسامحة والعدالة والمساواة قادة الدين والفكر النصراني أنفسهم، يقول البابا شنودة: إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أحسن حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد: نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل “لهم مالنا وعليهم ما علينا”.

كل ذلك مما ينفي تماما هذه الدعوى الباطلة أن الإسلام يذل أهل الذمة، وهل يصدق أحد بعد هذا مثل تلك الدعاوى المزيفة.

ثالثا. الزي الخاص بأهل الذمة ليس أمرا شرعيا يتعبد به، بل كان قانونا يتعلق بمصلحة زمنية دعت إليها الحاجة ثم زالت، ولم تعتبر بعد ذلك:

من المستشرقين المؤرخين من يتشكك في نسبة الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها، والتي عنيت بمثل هذه الأمور لم تشتمل عليها، على أن الأمر أهون من أن يتكلف إنكاره ورده، لو عرفت دواعيه وأسبابه، وعرفت الملابسات التاريخية التي وجد فيها.

فهو ليس أمرا دينيا يتعبد به في كل زمان ومكان، وهو ليس أكثر من أمر من أوامر السلطة الشرعية الحاكمة يتعلق بمصلحة زمنية للمجتمع آنذاك، ولامانع من أن تتغير هذه المصلحة في زمن آخر، وحال أخرى، فيلغي هذا الأمر أو يعدل.

لقد كان هذا التمييز بين الناس تبعا لأديانهم أمرا ضروريا في ذلك الوقت، وكان أهل الأديان أنفسهم حريصين عليه، ولم يكن هناك وسيلة للتمييز غير الزي؛ فالحاجة إلى التمييز وحدها هي التي دفعت إلى إصدار الأوامر والقرارات؛ ولهذا لا نرى في عصرنا أحدا من الفقهاء يرى ما رآه الأولون من وجوب التمييز في الزي لعدم الحاجة إليه.

لقد كانت الملابس المتميزة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات دين كل من يرتديها، وكان للعرب المسلمين ملابسهم كما للنصارى أو اليهود أو المجوس ملابسهم أيضا، وإذا كان تحديد شكل ولون الثياب هو من مظاهر الاضطهاد؛ فنحن نقول: إن الاضطهاد في هذه الصورة يكون قد لحق بالمسلمين وأهل الذمة على السواء، وإذا كان الخلفاء ينصحون العرب والمسلمين بألا يتشبهوا بغيرهم، فمن المنطقي أن يأمروا غير العرب وغير المسلمين أن لايتشبهوا بالعرب المسلمين.

فالأمر لا اضطهاد فيه، وإنما هي وسيلة اجتماعية للتمييز، مثلما نرى اليوم في كل مجتمع حديث من تعدد الأزياء للطوائف وأصحاب الحرف.

ناقش المؤرخ ترتون هذه المسألة أيضا، وأبدى رأيه فيها، وقال: كان الغرض من هذه القواعد المتعلقة بالملابس، سهولة التمييز بين النصارى والعرب، وهذا أمر لايرقى إليه شك.

على أنه يجب أن نلاحظ أنه لم تكن ثمة ضرورة وقت الفتح لإلزام النصارى بلبس معين من الثياب يخالف مالبسه المسلمون، إذ كان لكل من الفريقين وقتذاك ثيابه الخاصة، وكان النصارى يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون جبر أو إلزام، على أن الحاجة استلزمت هذه الفروض فيما بعد، حين أخذ العرب بحظ من التمدن، إذ حمل الإغراء الشعوب الخاضعة لهم على الاقتداء بهم في ملابسهم والتشبه بهم في ثيابهم.

ومهما يكن الرأي فإن هذه الأوامر التي تحدد أنواع الملابس وأشكالها حقيقة لم توضع موضع التنفيذ في معظم العصور التاريخية، بل إن الأمر كان للمسلمين وأهل الكتاب على السواء[14].

الخلاصة:

نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية مصرحة بمعاملة أهل الكتاب من اليهود والنصارى وأصحاب الملل بالحسنى والعدل والمساواة، بل ونهت عن ظلمهم، والاعتداء عليهم وسلبهم حرياتهم.
سيرة الخلفاء الراشدين المهديين ومن بعدهم معظم خلفاء المسلمين، وكذلك مواقف علماء الإسلام ومعاملة الشعوب الإسلامية مع غير المسلمين كل ذلك يؤكد – بشهادة التاريخ والواقع – على سماحة الإسلام والمسلمين في معاملة الآخر على عكس التعصب الأعمى والقسوة المفرطة التي يجدها المسلمون من غيرهم عندما تكون لهم الغلبة على المسلمين أو حينما يكونون أكثرية في مجتمع به أقلية مسلمة.
ومما يشهد بذلك التاريخ الإسلامي الحافل بالمواقف المأثورة، من أن أهل الكتاب قد لاقوا من العرب المسلمين من العدل والمساواة، ما لم يلاقوه ممن كانوا يحكمونهم من الرومان والبيزنطيين، وكسرى وقيصر، بل ورحبوا بالفتح الإسلامي لبلادهم، ولقد اعترف بهذه السماحة والعدل أهل الكتاب أنفسهم على مر التاريخ إلى يومنا هذا.
أما بخصوص الزي الخاص بأهل الكتاب؛ فإنه إنما كان قانونا يتعلق بمصلحة زمنية دعت إليها الحاجة ثم زالت، ولم يكن أمرا شرعيا تعبديا، ولذا لم نر أحدا نادى بهذا على مدى العصور الإسلامية السالفة.

(*) بين الدين والحياة: رحلة في قطار، د. عبد الحليم حفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.

[1]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الجزية، ياب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).

[2]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب غزوة تبوك، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم (2126).

[3]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.

[4]. نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس، الأردن، طـ3، 1407هـ، ج1، ص85.

[5]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص515.

[6]. سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص93.

[7]. مظاهر التسامح في العلاقة بين المسلمين وغيرهم، د. محمد بدر معبدي، مقال منشور بسلسلة فكر المواجهة، العدد 13 بعنوان: التسامح في الفكر الإسلامي، تحرير: د. جعفر عبد السلام، رابطة الجامعات الإسلامية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص135 وما بعدها.

[8]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمنة ولا أموالهم شيئا بغير أمرهم إذا أعطوا ما عليهم (18511)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (445).

[9]. أهل الكتاب: اليهود والنصارى.

[10]. اليباب: الخراب.

[11]. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، مصر، طـ1، 1422هـ/2002م، ص32: 35 بتصرف.

[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1249)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (2266)، وفي مواضع أخرى.

[13]. أضواء على مواقف المستشرقين والمبشرين، د. شوقي أبو خليل، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، ط2، 1428هـ/ 1999م، ص215: 222. السلطة التنفيذية، د. محمد الدهلوي، دار المعارف الدولية، الرياض، طـ1، 1412هـ. حقوق الإنسان: بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص111.

[14]. سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص313، 314.

دعوى أخذ الإسلام شرائعه من الديانات السابقة ومن الجاهلية

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن تشريعات الإسلام مأخوذة من تشريعات الديانات السابقة عليه، وخاصة من اليهودية والمسيحية، وكذلك أخذها من التشريعات الجاهلية للعرب قبل الإسلام، ويستدلون على ذلك بوجود تشابه بين بعض تشريعات الإسلام وبين هذه الديانات، مثل: الصلاة ويوم الجمعة والصوم والحج وحرمة الأشهر الحرم.. وغيرها، فيزعمون أن كل هذه التشريعات غير إسلامية، وهدفهم من هذا الزعم إنكار الإسلام بصورة عامة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام نبع من نفس المشكاة التي نبعت منها الديانات السابقة وخاصة اليهودية والمسيحية، فالله – عزوجل – هو الذي أنزل الديانات كلها، ولكنه أوكل حفظ اليهودية والمسيحية إلى البشر، فحرف اليهود والنصارى دينهم، في حين أن الله – عزوجل – هو الذي تولى حفظ القرآن والإسلام فلم يتبدل منه حرف واحد.

2) تشابهت بعض التشريعات الإسلامية مع تشريعات الديانات الأخرى تشابها اسميا فقط، أما المضمون والتطبيق فمختلف تماما، وكان موقف الإسلام مما سبقه من الديانات التصديق لأصلها قبل التحريف والهيمنة عليها.

3) أبطل الإسلام كل المعتقدات الفاسدة التي كانت في الجاهلية وحاربها، وكان هذا سببا في الصراع الطويل الذي دار بينهما، فكيف نقول: إن الإسلام أخذ شرائعه من الجاهلية رغم الخلاف الشديد بينهما؟!

التفصيل:

أولا. أصل الديانات السماوية واحد:

إن الإسلام دين الله الحنيف الذي جاء به ليطهر النفوس والمجتمعات من كل ما علق بها من الشرور والآثام والمفاسد، وليصلح به ما أفسده أهل الديانات الأخرى ويظهر حقيقة ما حرفوه، فيستحيل على الإسلام أن يأخذ من الشرائع السابقة شيئا أو من الجاهلية بالطبع، إلا أن وحدة الأصل الذي نبعت منه تلك الرسالات الثلاثة – الإسلام والنصرانية واليهودية – يفرض بعض الشبه على بعض تشريعاتهم، وإن كان الشبه اسميا فقط لا يتعدى ذلك لا إلى الصورة ولا إلى المغزى منها.

لقد نبع الإسلام من نفس المشكاة التي نبعت منها الديانات السابقة؛ مما يحتم وجود بعض الشبه بينه وبينها، إلا أنهم حرفوا، أما هو فقد حفظه الله من التحريف، ويفصل لنا د. عمر سليمان عبد الله الأشقر هذه المسألة فيبين وحدة أصل الديانات قائلا: “الكتب السماوية مصدرها واحد: )الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4)( (آل عمران)، والكتب السماوية كلها أنزلت لغاية واحدة وهدف واحد، أنزلت لتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحا ونورا تحيى نفوسهم وتنيرها، وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة.

وقد بين القرآن الكريم في موضع واحد الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن، وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله، قال عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)( (المائدة).

يقول سيد قطب في تفسير هذه الآيات الكريمة: “لقد جاء كل دين من عند الله، ليكون منهج حياة واقعية، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجيهها، وصيانتها، ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب. فهذه وتلك – على ضرورتها للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري – لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطان، ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات.

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة.

فأما حين تتوزع السلطة وتتعدد مصادر التلقي… حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع… وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا… حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، وبين اتجاهين مختلفين… وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا( (الأنبياء: 22)، )ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن( (المؤمنون: 71)، )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)( (الجاثية).

من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء معه شريعة معينة لحكم واقع الحياة، وإلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله… وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله، حيثما جاء دين من عند الله؛ لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة.

وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة… وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام.

يقول الله عزوجل: )إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور( (المائدة: 44)، فالتوراة – كما أنزلها الله – كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله، وطريقهم في الحياة، وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد، وتحمل شعائر تعبدية شتى، وتحمل كذلك شريعة: )يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء( (المائدة: 44).

أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب، ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله، فليس لهم في أنفسهم شيء، إنما هي كلها لله، وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة الألوهية – وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل – يحكمون بها للذين هادوا؛ فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه، كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار، وهم قضاتهم وعلماؤهم، وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم”.

وبدون الرسالة السماوية سيبقى البشر مختلفين تائهين لا يتفقون على سبيل، )كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه( (البقرة: 213) [1].

وعلى الرغم من وحدة منبع الرسالات السماوية كلها – فهي من عند الله – إلا أنها تختلف فيما بينها من حيث العموم والخصوص، فكل الرسالات السابقة للإسلام جاءت خاصة بأقوام معينين في مكان معين ولظروف معينة وبتشريع خاص ليس له علاقة بغيره من الشرائع السابقة، أما الإسلام الذي نزل خاتما للرسالات على خاتم الرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – فجاء عاما وشاملا لكل البشر في كل زمان ومكان، ويناسب كل الظروف، وشرائعه تشمل العالم كله منذ نزول القرآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ويضيف د. عمر سليمان الأشقر موضحا هذا المعنى؛ فيقول: الرسالات السماوية السابقة أنزلت لأقوام بأعيانهم، والرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل رسالة عامة للبشرية كلها، بل عامة للإنس والجن، وهذا يقتضي أن تمتاز هذه الرسالة عن غيرها من الرسالات بما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وقد جعلها الله كذلك، وأنزل على رسوله – صلى الله عليه وسلم – قبيل وفاته: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

وقد بين سيد قطب هذا المعنى وجلاه في تفسيره لهذه الآية، قال: “إن المؤمن يقف أمام إكمال هذا الدين، يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أول رسول – آدم عليه السلام – إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين.

فماذا يرى؟ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل، موكب الهدى والنور، ويرى معالم الطريق على طول الطريق، ولكنه يجد كل رسول – قبل خاتم النبيين – إنما أرسل إلى قومه، ويرى كل رسالة – قبل الرسالة الأخيرة – إنما جاءت لمرحلة من الزمان… رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة، ومن ثم كانت تلك كل الرسالات محكومة بظروفها هذه، متكيفة بهذه الظروف، كلها تدعو إلى إله واحد – فهذا هو التوحيد، وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد – فهذا هو الإسلام، ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحال البيئة وحالة الزمان والظروف.

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولا – خاتم النبين – برسالة للإنسان، لا لمجموعة من الأناس في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة، رسالة تخاطب الإنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل، ولا تتحور، ولا ينالها التغيير: )فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم( (الروم: 30)، وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتغير بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتغير بتغير الزمان والمكان..، وكذلك كانت الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة الإنسان منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإطار”.

وهذا المعنى – وهو كمال الرسالة وشمولها – أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله عزوجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: 89)، وقال الله عزوجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38).

لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالا وجلالا، يقول الحسن البصري رضي الله عنه: “أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان[2]، ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان”[3].

ولما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى، ولم يتكفل الله بحفظها، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار: )والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء( (المائدة: 44)، ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حل فيها من تغيير وتبديل، لا في الفروع، بل في الأصول، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم.

أما هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها، ولم يكل حفظها إلى البشر، قال عزوجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). ولننظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لنرى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإن صبيا صغيرا، أو ربة بيت، أو عجوزا لا يبصر طريقه، يستطيعون الرد عليه وبيان خطئه وافترائه، ناهيك عن العلماء الذين حفظوه وفقهوا معانيه، وتشبعوا بعلومه.

وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه، وما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومما يؤكد وحدة منبع الرسالات السماوية كلها وجود مواضع اتفاق بين هذه الرسالات يبينها د. عمر سليمان الأشقر فيقول:

وأما إذا أردنا أن نعرف مواضع الاتفاق في الرسالات السماوية، فإن أهم هذه المواضع هي:

الدين الواحد:

الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعا منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطا واحدا يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أن الدين الذي دعت إليه الرسل جميعا واحد هو الإسلام: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19)، والإسلام في لغة القرآن ليس اسما لدين خاص، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء؛ فنوح – عليه السلام – يقول لقومه: )وأمرت أن أكون من المسلمين (72)( (يونس)، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام: )إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131)( (البقرة)، ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب – عليهما السلام – أبناءه قائلا: )فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)( (البقرة)، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: )قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133)( (البقرة)، وموسى عليه السلام، يقول لقومه: )يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84)( (يونس)، والحواريون يقولون لعيسى عليه السلام: )آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52)( (آل عمران)، وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن: )قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين (53)( (القصص).

فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية.

كيف يتحقق الإسلام؟

الإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ولذلك فإن الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح عليه السلام، والإسلام في عهد موسىـ عليه السلام – يكون باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى – عليه السلام – يكون باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد – صلى الله عليه وسلم – يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

لب دعوات الرسل:

ولب دعوات الرسل وجوهر الرسالات السماوية هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما يعبد من دونه، وقد عرض القرآن هذه القضية وأكدها في مواضع متعددة، مرة يذكر دعوة الرسل، فنوح – عليه السلام – يقول لقومه: )يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 59)، وإبراهيم – عليه السلام – قال لقومه: )وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16)( (العنكبوت)، وهود – عليه السلام – قال لقومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 65)، وصالح – عليه السلام – قال لقومه: )اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( (الأعراف: 73).

ومرة ينص على أنه أرسل الرسل جميعا بهذه المهمة الواحدة: )وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)( (الأنبياء)، ومرة يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد: )إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92)( (الأنبياء)، ومرة يجعل الاستجابة لله وتحقيق العبودية له هي الدين والملة، ويجعل من رفضها يحكم على نفسه بالسفه والضلال: )ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه( (البقرة: 130)، وملة إبراهيم – عليه السلام – حددها بقوله: )إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)( (الأنعام)، ومرة يبين أنها وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم: )أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا( (البقرة:133)، ومرة ينص على وحدة الدين الذي شرعه للرسل العظام: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: 13).

وحدة مسائل العقيدة:

تشكل مسائل العقيدة تصورا واحدا لدى الرسل جميعا من لدن نوح – عليه السلام – إلى آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وتتمثل هذه المسائل في الإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السابقة والإيمان بالقدر واليوم الآخر والبعث، فنوح – عليه السلام – يذكر قومه بالبعث والنشور ويقول لهم )والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18)( (نوح)، وحدثهم عن الملائكة والجن وغيرها من الغيبيات، وكذلك فعل إبراهيم – عليه السلام – فقد دعا قومه إلى الإيمان باليوم الآخر فقال – عزوجل – على لسانه: )وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير( (البقرة: 126). وجاء في صحف إبراهيم وموسى – عليهما السلام – حديث عن الآخرة، فقال تعالى: )بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17)( (الأعلى).

وغير هذا من الكثير في آيات القرآن الكريم على لسان جميع الرسل الذين أرسلوا لهداية الناس إلى طريق الله عزوجل، وكل الرسل أنذروا قومهم من فتنة المسيح الدجال، وذلك في الحديث الذي يرويه ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال – عندما ذكر الدجال عنده -: «إني أنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور»[4]. ولا نستطيع أن نحصي – في هذا الموضع – كل الأحاديث التي تؤكد على أن العقيدة واحدة عند كل الرسل.

وحدة القواعد العامة:

تتفق الكتب السماوية كلها في وحدة القواعد العامة التي تحكم البشر، وتعمل على نشر العدل بين الناس، والبعد عن الظلم والجور دون وجه حق، وكل الرسالات تؤكد على وجود مبدأ الثواب والعقاب، فكل إنسان سيحاسب على عمله، فإن كان خيرا فلنفسه، وإن كان شرا فعليها، قال عزوجل: )أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)( (النجم)، ويحصل من هذا اليقين بوجود ثواب وعقاب تزكية للنفس وميلا لمنهج الله سبحانه وتعالى: )قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفي الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19)( (الأعلى).

وجاء على لسان الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما يؤكد على وحدة هذا المبدأ بين الرسل جميعا، قال صلى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة”؟! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[5].

والحديث يوضح لنا بشكل لا شك فيه أن جميع الرسل يدعون إلى مبادئ واحدة وإلى إله واحد لا شريك له، مما ينفي فكرة تناقض الأديان من حيث مصدرها والمبادئ التي تدعو إليها.

ويوضح لنا القرآن الكريم أن الرسل جميعا حملوا ميزان العدل بين الناس، فقال عزوجل: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( (الحديد: 25)، وأمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال: )يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا( (المؤمنون: 51)، والصوم مفروض من قبلنا كما هو مفروض علينا، قال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة).

ومما اتفقت عليه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته، سواء أكان عبادة أوثان أو استعلاء في الأرض أو انحرافا عن طريق الفطرة… إلخ[6].

وعليه فإنه لا يوجد أدنى شك في أن الشبه الذي يتراءى لنا بين الدين الإسلامي والأديان السماوية السابقة عليه إنما مرجعه إلى وحدة الأصل الذي نشأت عنه هذه الأديان جميعا، وليس منشؤه أخذ الإسلام من هذه ولا تلك.

ثانيا. تشابه بعض تشريعات الإسلام مع تشريعات الديانات الأخرى تشابه في الاسم فقط دون المضمون والتطبيق:

إن تشابه بعض تشريعات الإسلام مع تشريعات الديانات الأخرى تشابه في الاسم فقط دون المضمون أو التطبيق، ويؤكد على هذا قول د. عمر سليمان عبد الله الأشقر: “إذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحدا وهو الإسلام، فإن شرائع الأنبياء مختلفة، فشريعة عيسىـ عليه السلام – تخالف شريعة موسىـ عليه السلام – في بعض الأمور، وشريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – تخالف شريعة موسى وعيسى – عليهما السلام – في أمور، قال عزوجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48)، والشرعة هي الشريعة وهي السنة، والمنهاج: الطريق والسبيل.

وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافا كليا، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج، وأخذ الطعام من حله وغير ذلك، والاختلاف بينها إنما يكون في بعض التفاصيل، فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحل الله أمرا في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.

ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة:

الصوم: فقد كان الصائم يفطر بغروب الشمس، ويباح له الطعام والشراب والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة وأحله من الغروب إلى الفجر سواء نام أم لم ينم، قال عزوجل: )أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر( (البقرة: 187).
ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجبا عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى – عليه السلام – يغتسل وحده»[7].
الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه السلام، وقد فعله إبراهيم – عليه السلام – في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرم الله مثل هذا في التوراة على بني إسرائيل، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا، وقد فعله يعقوب عليه السلام، ثم حرم عليهم في التوراة، وحرم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل.

ومما حرمه الله على اليهود ما جاء في قوله عزوجل: )وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)( (الأنعام)، فقد حرم عليهم كل ذي ظفر من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والوز والبط، وحرم عليهم شحوم البقر والغنم إلا الشحم الذي على ظهور البقر والغنم، أو ما حملت الحوايا[8] وهي المباعر والمرابض، أو ما اختلط بعظم.

ثم جاء عيسى – عليه السلام – فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم: )ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم( (آل عمران: 50)، وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة إحلال الطيبات وتحريم الخبائث[9].

موقف الرسالة الخاتمة من الرسالات السابقة:

لقد بين الله – عزوجل – موقف الإسلام من الرسالات السابقة، فقال عزوجل: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه( (المائدة: 48)، وكون القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه:

أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه، والإخبار بأن الله سينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقا لتلك الكتب، مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال عزوجل:)إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108)( (الإسراء)، أي: إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولا، أي: لكائنا لا محالة ولا بد”.
أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة بموافقته لها، قال عزوجل: )وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون( (المدثر: 31)، واستيقان الذين أوتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم.
أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية، وأنها من عند الله، وأمر بالإيمان بها.

والمهيمن يراد بها: القائم على الشيء، وهو اسم من أسماء الله – عزوجل – ذلك أن الله تعالى قائم على شئون خلقه؛ تصريفا وتدبيرا ورعاية، والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها، ويبين ما فيها من حق، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها، وهو حاكم على تلك الكتب؛ لأنه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب الرجوع إليها، والتحاكم بها، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إما محرف مغير، وإما منسوخ.

يقول ابن كثير بعد أن ذكر أقوال السلف في معنى كلمة )ومهيمنا(: “وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله – عزوجل – هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها”.

وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله عزوجل، ولا يجوز أن نحاكم القرآن إلى الكتب السماوية السابقة كما يفعل الضالون من اليهود والنصارى، قال عزوجل: )وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت).

والشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها، ولا إلى شريعة لاحقة لها، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة الإنجيل مكملة لشريعة التوراة، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدث. إن الإسلام لا يكف لحظة واحدة عن مد يده لمصافحة أتباع كل ملة ونحلة في سبيل التعاون على إقامة العدل، و نشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك[10].

أما عن الشرائع التي ظن بعض المتوهمين أن الإسلام أخذها من الديانات السابقة، فهذا زعم باطل لا يقوم على دليل واضح، ويبين د. ناصر محمد السيد الشرائع المتشابهة بين الإسلام وغيره من الديانات على النحو الآتي:

الصلاة[11]:

الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، فرضت في القرآن الكريم، ووضحت السنة المطهرة هيئتها وشكلها، فهي من أهم العبادات في الإسلام.

الصلاة في اليهودية:

لم تأخذ الصلاة في اليهودية شكلا واحدا، بل تدرجت حسب إسهامات رجال الدين اليهودي فيها على النحو التالي:

o   الصلاة في عصر الآباء: كانت عبارة عن الدعاء باسم الرب، وكانت تتميز بالتوجه مباشرة إلى الله عزوجل، وكانت ترتبط – في بعض الأحيان – بتقديم ذبيحة، فالصلاة بهذا الشكل عبارة عن أدعية وأذكار وليست شعيرة محددة بتوقيتات معينة.

o   الصلاة في مرحلة ما قبل السبي: تتميز بملامح خاصة منها: التوسل والابتهال من أجل الآخرين، والأسفار الخمسة – التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية – لم يرد فيها لفظ الصلاة، وهي الأسفار الخمسة التي بني عليها التشريع اليهودي، وهذا من عجائب اليهودية المحرفة. ويقول د. هلال فارحي – أحد علماء الشريعة اليهودية -: إن الصلاة في عهد ما قبل السبي لم تكن محدودة أو إجبارية، بل كانت تتلى ارتجاليا حسب الأحوال والاحتياجات الشخصية والعمومية.

o   الصلاة في فترة السبي وما بعدها: في هذه الفترة حدثت تطورات جديدة للصلاة اليهودية، كان من أهمها ظهور دور المجمع بعد أن تم تدمير الهيكل على يد البابلين، ولم يعد في الإمكان تقديم ذبائح في أرض بابل، وظهرت أهمية الصلاة في هذه الفترة، فبعد أن يقرأ اليهود جزءا من الكتاب المقدس يتم تفسيره، ثم الصلاة، ومن خلال ذلك نرى خضوع الصلاة اليهودية للأهواء البشرية، وهذا عكس الصلاة في الإسلام.

وإذا عدنا إلى عدد الصلوات في اليهودية نجدها ثلاثة في كل يوم:

صلاة الفجر ويسمونها السحر.
صلاة نصف النهار أو القيلولة.
صلاة المساء ويسمونها صلاة الغروب.

وكانت قبلة اليهود في الصلاة إلى بيت المقدس، وكان المسلمون يتوجهون إليه في أول الأمر حتى تحولت قبلتهم إلى الكعبة المشرفة، وكأنه إعلان إلهي بوارثة المسلمين لكل بقايا الحق في الديانات السابقة.

أما عن كيفية أداء الصلاة في اليهودية: فإننا نؤمن بأن الصلوات في صورتها التي أنزلها الله – عزوجل – على رسله، كانت تتضمن ركوعا وسجودا، فقد خاطب الله بني إسرائيل في القرآن فقال عزوجل: )واركعوا مع الراكعين (43)( (البقرة)، وقال عزوجل: )وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم( (البقرة: 58)، ولكن الصلاة تطورت بفعل التدخل البشري القاصر في دين الله وتغيرت حركات اليهود أثناء الصلاة عبر العصور، ففي الماضي كان اليهود يسجدون، ويركعون في صلواتهم، ولا يزال الأرثوذكس يفعلون في الأعياد، ولكن الغالبية العظمى تصلي الآن جلوسا على الكراسي، كما هو الحال في الكنائس المسيحية، ولا يخلع اليهود نعالهم أثناء الصلاة، وهذا دليل واضح على بشرية بل وثنية هذه الديانات في صورتها الحالية.

الصلاة في النصرانية:

الصلاة في المسيحية عبارة عن أدعية وأذكار في حالات ومناسبات خاصة أو عامة، ليس لها شكل محدد ولا هيئة محددة ولا وقت محدد. ومرت هذه الصلاة بعدة مراحل متدرجة، نتيجة ارتباطها بالآباء الذين يغيرون فيها حسب أهوائهم وميولهم الخاصة.

وعن الصلاة في المسيحية يفصل لنا د. أحمد شلبي فيقول: وليس للصلاة المسيحية ترتيبب خاص، وإنما هي أدعية تختلف من مكان إلى مكان، وإن كلمة الصلاة في المسيحية تختلف اختلافا كليا عنها في الإسلام، فهي عبارة عن أدعية وأذكار لا توقيت لها، وهي ليست واجبة، بل يرى الكثير من المسيحيين أن الانتظام في الصوم والصلاة توجيه اختياري لا إجباري. ويقول المستشار الطهطاوي: لا يوجد لدى المسيحيين نص عن عدد معين من الصلوات كل يوم أو مواقيت لها، إلا أنهم يقتبسون من اليهود العدد والوقت للصلاة، لذا قرورا لهم صلاتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء.

ونحن كمسلمين لا ننعي استقاء النصرانية من اليهودية؛ لأننا نؤمن أن رسالة المسيح مكملة لرسالة موسى – عليهما السلام – ولكننا ننعي هذا الإقرار النصراني بأن ثمة خبرة وثنية وأممية تأثرت بها الصلاة المسيحية، فالصلاة المسيحية – بشهادة أهلها – توليفة من الصلاة اليهودية والوثنية والأممية.

فالصلاة المسيحية تطورت أيضا عبر العصور، وتأثرت بالأحداث كاليهودية أيضا، وهذا يدل على بشرية هذه العبادة وتحريفها حسب الأحداث والأهواء، ومن العجاب أن الصلاة في المسيحية لا تشترط لها طهارة، فهم يصلون بلا طهارة. ويرى يوسف بن إسماعيل النبهاني: أن صلاة النصارى لا بد لها من الاجتماع في الكنيسة مع اختلاط النساء بالرجال، وتلطخهم بالنجاسات في أثوابهم وأبدانهم وأمكنتهم أيضا، لابسين أحذيتهم مع تحقق النجاسات فيها، ومن يطلع على الفرق بينها وبين صلاة المسلمين يجد فروقا عظيمة، فمن أهم أحكام الصلاة عند المسلمين الطهارة من النجاسات وهذا شرط واجب لصحة الصلاة.

ونصت الشريعة اليهودية على الطهارة، ولكن اليهود غيروها كما غيروا الصلوات، ونقلوا التشريع من درجة التنزيه الإلهي إلى دركة التشويه البشري، والطهارة في الإسلام واحدة لكل الناس على اختلاف طبقاتهم وأقدارهم، ولكن الطهارة في اليهودية طبقات؛ فالأفراد العاديون لهم طهارة، والكهنة لهم طهارة أخرى، وهي لا شك مخالفة جوهرية، وعنصرية يهودية حتى في العبادات التي يفترض أن يقف فيها الجميع سواء أمام الخالق، فإن اليهود حرفوا دينهم وضيعوا من دينهم شعائر الطهارة فشاعت فيهم القذارة.

وجاء الإسلام فأحيا ما طمسوه من الطهارة التي نعتقد يقينا أن الله شرعها لسيدنا موسى عليه السلام، وعلى الرغم من هذا فإن كمال التشريع الإسلامي في الطهارة لا تداينه هذه الصورة العنصرية الساذجة للطهارة عند اليهود.

فماذا استقى الإسلام من هذه الصلاة اليهودية أو النصرانية إذن؟! اللهم لا شيء إلا في لفظ الصلاة، والتوجه بها إلى المعبود في الفرح والحزن، والفرج والشدة، والسراء والضراء، وما يكون قاسما مشتركا بين كل من يعرف له معبودا مهما كان هذا المعبود، فهو يطلبه لرغبة أو رهبة، سواء كان معبودا بحق أم بباطل، فكم ركع وسجد أشخاص وسالت دموعهم، وخشعت قلوبهم، وتعالت صيحاتهم أمام الشمس أو الكواكب أوالشجر أو البقر وغيرها من الأشياء التي عبدها بنو آدم.

إن البعد العقدي والأخلاقي والاجتماعي والصحي للصلاة في الإسلام، لا يمكن أن تطاله تلك الصلوات اليهودية والمسيحية التي شابتها عناصر وثنية انحرفت بها عن القدسية، وقطعتها عن مصدرها الإلهي.

إن دقة التشريع الإسلامي في الصلاة وشموله، وكماله في عددها وأركانها وسننها وهيئاتها، وفيما يتقدمها من نوافل، وما يتأخر عنها، في أوقاتها، وفيما يسبقها من طهارة وما يخلفها من أذكار وختام. كل هذا يدل على قدسية مصدرها، وعظمة المقصود بها، وطهارة من علمها للناس واقتداء الخلف بعد السلف في أدائها بالمعصوم صلى الله عليه وسلم، بحيث لو قام في الناس اليوم لم ينكر منها شيئا[12].

يوم الجمعة:

إن الجمعة يوم من الأيام المعدودة منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وقد ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى أنه: «خير يوم طلعت عليه الشمس؛ فيه خلق آدم…»[13]. وكما قال – صلى الله عليه وسلم – في فضل هذا اليوم العظيم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فغدا لليهود وبعد غد للنصارى»[14].

وقد اجتمع المسلمون لأداء شعائر الجمعة بعد هجرتهم إلى المدينة، وقد أمهم أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة؛ فعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: «كنت قائدا أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة ودعا له… فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة، فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل، فقلت له: يا أبتاه، أرأيتك صلاتك على أسعد ابن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لـم هو؟ قال: أي بني، كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مكة»[15]، ويرجح أن ذلك بإذن النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل: باجتهاد منهم.

وما قيل من أن أول من جمع الناس هو كعب بن لؤى أحد أجداد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنه كان يخطبهم، فعلى فرض صحة هذا الخبر، فيحتمل أن يكون ذلك من الاهتداء الفطري الذي يهتدي إليه أولو الفطر السليمة ويوافق الحق وأشبه بتوارد الخواطر وما أكثر ما يحدث، ويحتمل أن يكون ذلك من بقايا شرائع سابقة تغلغلت إلى أعرافهم كغيرها من بقايا دين إبراهيم، كما قيل عن يوم الجمعة: “لم يزل أهل كل دين يعظمونه”.

وإن كان العرب أو غيرهم يعظمون يوم الجمعة، وجاء الإسلام موافقا لهم في مجرد تعظيمهم له، إلا أن الإسلام تميز عن غيره بما خصه من إقامة الشعائر من: صلاة، وخطبة جامعة في بيت الله مسبوقة بالطهارة، وأخذ الزينة، مما لا نجده في عرف أو دين آخر.

الصوم[16]:

الصوم هو الركن الرابع من أركان الإسلام، ويختلف في شكله ومضمونه عن الصوم في غيره من الشرائع سماوية وغير سماوية. ويفصل د. ناصر محمد السيد القول في هذا الجانب كما يأتي:

إذا سلمنا – جدلا – أن الإسلام أخذ الصيام من الديانات الأخرى، فهل إذا قارنا بين الصوم في الإسلام، وفي الديانات الأخرى سنجد تشابها؟ أم أن الإسلام ميز المسلمين بهذه العبادة ووضحها جلية للأعين المنصفة.

فنحن كمسلمين نؤمن بما أخبرنا به الله – عزوجل – أن الصيام فرض على الأمم السابقة علينا؛ لأن الإسلام يرث بقايا الحق من مواريث النبوات، فقال عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)( (البقرة)، فهذه شهادة بأن الله – عزوجل – فرض الصيام على هذه الأمة، شأنها في ذلك شأن الأمم السابقة، فلم ينكر الإسلام هذه الشعيرة عند الأمم السابقة، بل أقرها وأثبتها وجعل فرضيتها في الإسلام محققا للتقوى في قلوب المسلمين.

وقد ذكر الإمام ابن كثير: أن الصيام كان أولا – على الأمم قبلنا – من كل شهر ثلاثة أيام، ولم يزل هذا مشروعا من زمن نوح – عليه السلام – إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان، وفي تعيين الله شهر رمضان دون ترك الأمر للإنسان ليختار شهرا معينا إشعار للمسلمين بالوحدة والنظام.

الفرق بين الصيام في الإسلام واليهودية والنصرانية:

الصيام في اليهودية:

الصيام في العقيدة اليهودية هو عبادة لدفع ضرر واقع أو متوقع، وليس بهدف تزكية النفس وتطهيرها، فهو رمز للحداد والحزن، وكان اليهود يصومون مؤقتا إذا اعتقدوا أن الله ساخط عليهم، أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة، أو وباء فاتك، أو جدب عام، وفي بعض الأحيان عندما يعزم الملوك على مشروع جديد، فهو – إذا ليس – تزكية للنفس، ولكنه دفع للشر وتعبير عن الذل والضعف، وهكذا كان الصوم عند المصريين القدماء، وعند السومريين وغيرهم، ولما لا نقول إن اليهود نقلوا هذه الشعيرة من الديانات القديمة السابقة عليهم؟

الصيام عند النصارى:

من الراجح أن صيام رمضان كان واجبا على النصارى، فكان يأتي أحيانا في الحر الشديد، والبرد الشديد، وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم، ويضرهم في معايشهم، فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف، فجعلوه في الربيع، وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا، فصار أربعين يوما، ثم إن ملكا لهم اشتكى فمه، فجعل لله عليه إن هو برئ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعا، فبريء، فزاد عليه أسبوعا، ثم مات ووليهم ملك آخر فقال: أتموه خمسين يوما، فأتموه.

ومن خلال هذه الأحداث يظهر التحريف البشري الذي أصاب هذه الشعيرة عند النصارى، وعلى الرغم من كل هذا فإن تقنين هذه الشعيرة وثباتها في الإسلام واستمدادها فقط من القرآن الكريم والسنة النبوية، وعدم خضوعها لعوامل التغيير والتبديل الذي حل عليها في الديانات السابقة وشمولها وكمالها وتمامها، كل ذلك من أدل الدلائل على تميز الصوم في الإسلام عنه في غيره من الديانات.

وعند إنعام النظر في الفرق بين شريعة الصوم في الإسلام والديانات الأخرى نجد فروقا جوهرية من حيث: طبيعة الصيام، وعدد الأيام، والحكمة من الصيام وتنظيم الشعيرة؛ حيث إن الصيام يؤدي إلى الصحة، وهذا ما أثبته الطب.

ومن خلال هذه القراءة للصيام في الديانات السابقة تظهر عظمة الإسلام في تشريع العبادات التي شرعها الله – عزوجل – لعباده، وفي عودة العبادة إلى مصدرها الأول الذي جاءت به الرسل جميعا دون تحريف أو تبديل، أو تدخل بشري؛ لأن الإسلام دين الفطرة الذي جاء للناس كافة[17].

الحج[18]:

الحج شعيرة من الشعائر التي عرفت في معظم الديانات السابقة للإسلام، ولكن ما جاء عنها في الإسلام يخالف ما جاء في سائر هذه الديانات المحرفة، ولا يوجد أدنى تشابه بين شعائره في الإسلام وشعائره في الديانات الأخرى، ويبين لنا د. ناصر محمد السيد هذا الفرق الشاسع فيقول:

من الجدير بالذكر أن الحج ليس شعيرة خاصة باليهود والنصارى، بل إنه من ضمن الشعائر التي مارستها معظم الملل والنحل، فظهر في الديانات الهندية، والصينية، واليهودية، والمسيحية، وغيرها، فأصل الحج موجود في كل أمة على أشكال شتى، فالإسلام جاء بالحج على نهج الحنيفية السمحة التي جاء بها أبو الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – امتثالا لأمر الله عزوجل: )وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27)( (الحج).

ولو نظرنا في شعيرة الحج في اليهودية والنصرانية، لتبين لنا بوضوح الفروق الجوهرية في هذه الشعيرة بين الرسالات الثلاث، بل لا نغالي إذا قلنا: إن الحج كشعيرة لا وجود له في اليهودية، والنصرانية المحرفتين.

فليس في اليهودية حج بالمعنى الذي يسبق إلى الذهن، وإنما هو مجرد أعياد مرتبطة بمواسم الحصاد في سفر التثنية: “ثلاث مرات في السنة يحضر جميع ذكورك أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، في عيد الفطير، وعيد الأسابيع، وعيد المظال، ولا يحضروا أمام الرب فارغين، كل واحد حسبما تعطيه يده”. (التثنية 16: 16، 17).

ما قيل في اليهودية يقال مثله في المسيحية، فليس في النصرانية الحالية شعيرة يمكن أن يطلق عليها اسم الحج كما هو الحال في شعيرة الحج في الإسلام؛ في كمالها وشمولها، ووضوح معالمها وأبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وفوائدها الروحية والتربوية، فلم يرد أي نص بالحج في كتبها المقدسة، فما نراه من حج النصارى الكاثوليك إلى روما، حج المسيحيين إلى القدس، لم يرد في الديانة المسيحية وأسفارها المقدسة لدى المسيحيين، وإنما هو تقليد اتبع فيما بعد المسيح بقرون، والحج المسيحي إلى القدس ليس فريضة من فرائض المسيحية المنصوص عليها، وإنما نشأ بعد الإمبراطورة “هيلانة” أم الإمبراطور “قسطنطين”، وقد زارت القدس سنة 324م، وعرفت بعد ذلك بالقديسة، وليس الحج طقوسا أو مناسك، إنما هو عندهم عبارة عن سياحة دينية، وزيارة لبعض الأماكن التي يعتقدون أنها مقدسة، وقدسية هذه الأماكن لا يوجد عليها أدلة نصية من كتبهم، وإنما هي من وضع الرهبان ورجال الدين النصراني ولا علاقة لها بالمسيح عليه السلام.

هذه الشعائر بقايا بقيت من دين إبراهيم – عليه السلام – عند العرب، توارثوها عن أسلافهم وتواترت إليهم واختلطت بعاداتهم الجاهلية، كعبادة الأصنام، وطوافهم بالبيت عراة، وإدخالهم الشرك في التلبية قائلين: “لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك”، فجاء الإسلام ليعيد ملة إبراهيم – عليه السلام – إلى نقائها وصفائها فقال عزوجل: )وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم( (الحج: 78).

ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – ناقلا شريعته عن غيره لمجرد التشابه بينها وبين نبوته؛ لكانت هذه نفسها حجة تنسحب على نبوة كل نبي، ولكانت سارية على عيسى عليه السلام؛ لأنه جاء ببعض ما جاء به موسى عليه السلام، ولكانت سارية على موسى – عليه السلام – كذلك؛ لأنه جاء بمثل ما جاء به من قبله أحيانا، ولما ثبتت – بناء على ذلك – نبوة نبي، ولكان هذا هو الخطأ بعينه فلا يتأتى في نبوة النبيين نقل.

والإسلام أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح، وإلى مصدرها الأول من أول الأنبياء إلى خاتمهم محمد – صلى الله عليه وسلم – فشعيرة الحج لم تكن إلا إلى بيت الله الحرام من آدم – عليه السلام – إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – وإلى أن تقوم الساعة، وأما ما ابتدعه اليهود والنصارى من مزارات وطقوس وعادات تقوم عندهم مقام الحج فلا أصل له حتى في أديانهم المحرفة[19].

تحريم الأشهر الحرم:

تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عن الأشهر الحرم حديثا واضحا يبين مدى قدسيتها عند الله – عزوجل – وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان مما جاء في القرآن الكريم قوله عزوجل: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: 36)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[20]، فقال – صلى الله عليه وسلم – عن رجب: مضر؛ لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان، ويسمونه رجب، وكانت مضر تحرم رجب نفسه، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: رجب شهر مضر؛ تأكيدا وبيانا لصحة ما صارت عليه مضر.

كان العرب يعظمون هذه الأشهر الحرم، ويحجون إلى البيت الحرام فيها، فكانت تأتي في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى، فشق عليهم الأمر؛ لأنهم كانوا يأتون للتجارة أيضا فربما كان الوقت غير مناسب لحضورهم للتجارة؛ فلهذا السبب أقدموا على السنة الشمسية بدلا من القمرية، وعند ذلك ظل زمان الحج مختصا بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وتجاراتهم، وربما كان بسبب أن العرب كانوا لا يكفون عن الحروب، فلهذا السبب أيضا غيروا الأشهر الحرم عن مواقيتها وغيروا أسماءها لموافقة أهواءهم ومصالحهم، وهذا هو النسيء.

أما اليهود والنصارى فقد علموا العرب صفة السنة الشمسية الكبيسة؛ لذا أنزل الله هذه الآية: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم( (التوبة: 36)، وهذا يبين قضاء الله وقدره يوم أن خلق السماوات والأرض، وأنه – عزوجل – وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها ورتبها، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة؛ فلذلك ردها الإسلام إلى حكمها الذي وضعها الله عليه يوم أن خلق السماوات والأرض، ولم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين واليهود والنصارى ولا عن تغيير أسمائها، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية واليهود والنصارى؛ لأجل مصالحهم الدنيوية.

الحكمة من تحريم الأشهر الحرم:

أن يأخذ الإنسان نفسه بقدر من الضبط، والتحكم في مشاعره نحو الاستقامة، والقصد والحفاظ على الحريات، بأن يكف عن القتل والقتال والحرب، فكان الإنسان يقابل قاتل أبيه فيعرض عنه احتراما لهذه الأشهر الحرم، وأعظم ما فعلوه مخالفة هو “النسيء”، بأن يحلوا شهرا منها إذا غلبتهم شهوة الحرب، ويحرموا مكانه آخر، يقول الله عزوجل: )إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37)( (التوبة).

حكمة دينية من هذه الآية: )ذلك الدين القيم( (التوبة: 36)، فتحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وتبدو في ارتباط بعضها بعبادة الحج.

تتهيأ فيها الفرصة للقبائل الضعيفة التي لا تستطيع السفر، ولا تأمن الحركة أن تتحرك وتبحث عن مواطن الخصب، والماء، والمرعى، فتسير بلا خوف.

شهدت الأشهر الحرم من عهد إبراهيم – عليه السلام – بعض القيم التي لمعت في ظلام الجاهلية، ومن هذه القيم “حرب الفجار”، التي وجهتها العرب ضد كل من يبغي ويظلم وينتهك الحرمات، فقررت فيها حرمة البيت والأشهر الحرم فتنادت للصلح، ومنها “حلف الفضول”، الذي عقد لمساعدة المظلومين ونصرتهم.

من خلال ما سبق يتبين لنا كيف حرفت الأمم السابقة هذه الأشهر الحرم وفرغتها من مضمونها وعن أهدافها السامية، وأزالت عنها قدسيتها، وكيف أعادها الإسلام إلى ما كانت عليه منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وأعاد إليها قدسيتها وأهدافها التي حرمت من أجلها والتي يجب الاقتداء بها والعمل بموجبها؛ لأن فيها تؤدي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وفيها تكثر الحسنات، فهي أيام ذكر ورحمة وهذا ما جاء الإسلام به للبشرية جمعاء.

وبعد هذا العرض للتشريعات في الإسلام وفي الشرائع الأخرى السابقة عليه نقرر الآتي:

تعاليم الإسلام وشعائره وعباداته مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، سواء اتفق مع غيره أم اختلف، وإن وافق بعض الشرائع وبعض الأعراف في بعض الأمور فهذا دليل على أنه الحق الذي جاء الإسلام به مكملا وموضحا وشاملا لكل الشرائع التي جاء بها الأنبياء جميعا، بعد أن تم تحريفها وتغييرها على أيدي أتباع هذه الملل، أليس ذلك يليق بهذا الدين الشامل الذي جاء به الإسلام بهوية جديدة لأتباعه، بها يتميزون عن سواهم في العقيدة الصادقة والعبادة الصحيحة والمعاملات والأخلاق؟ ومن ثم كان الاختصاص والتميز ضروريين للجماعة المسلمة في التصور والاعتقاد وفي القبلة.

وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهي لا تؤدي بمجرد النية، ولا بمجرد التوجه الروحي، ولكن هذا التوجه يتخذ شكلا ظاهرا قياما، واتجاها إلى القبلة، وتكبيرا وقراءة، وركوعا وسجودا في الصلاة، وإحراما من مكان معين، ولباسا معينا، وحركة وسعيا، ودعاء وتلبية، ونحرا وحلقا في الحج، ونية وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم، وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة؛ ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها، فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة، مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة، فيتوجه الفرد إلى قبلته حين يتوجه إلى الله بكليته؛ بقلبه وحواسه وجوارحه، فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد الذي جاء به الإسلام.

دأب المستشرقون على أن يردوا كل تعاليم الإسلام إلى أصول سابقة، ومن بين ذلك الأحكام التشريعية، فهم يردونها أحيانا إلى أعراف الجاهلية العربية، ويردونها أحيانا أخرى إلى اليهودية، وثالثة إلى القانون الرومإني، وهم بهذا الرد والتردد يكشفون عن طويتهم، في أنهم يحرصون كل الحرص على تجريد الإسلام من كل فضل ومن صفته الجوهرية، وهي أنه وحي منزل من عند الله، وسواء – بعد ثبوت تنزيله من عند الله – اتفق في بعض الأحكام مع بعض النظم السابقة، أم اختلف معها، فبعض التشابه في الأحكام وارد، لكن هذا التشابه الجزئي القليل لا يعني نسبة نظام متكامل متضافر محكم في ترتيبه وتنظيمه إلى هذا الأصل المشوه أو ذاك الهراء المضطرب المتناقض.

وليس في النظام القبلي العربي قبل الإسلام نظام يستحق الأخذ به، بل إن العرب قبل الإسلام لا يعرفون مثل هذا النظام المتقن في الأسرة والمواريث، اللذين عهدناهما في التشريع الإسلامي. كذلك نظام العقوبات الإسلامي تنزيل من حكيم حميد، وقد أحاط بتفاصيل دقيقة في الإثبات، والإشهاد، والتنفيذ لا نجد لها مثيلا في أعراف الجاهلية، وإقرار الإسلام لبعض الأمور الحميدة – كعقوبة الدية التي تحملها العاقلة كما كان في عرف العرب – لا يعني أخذ نظام العقوبات بأكمله من أعراف العرب، كما أن إقراره فكرة الدية على العاقلة لا يبرر أنها بكل تفاصيلها المدونة في كتب الفقه مأخوذة من عرب الجاهلية، ولا يعني أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون هذا النظام الدقيق، بل هو مستوحى من القرآن والسنة كغيره من التشريعات الإسلامية.

فلا يستطيع مدع – على ما سبق – أن ينكر وضوح الحجة في اختلاف تشريعات الإسلام عن تشريعات الأديان السابقة، مما لا يجعل مجالا للوهم أن منبع هذا الدين الحنيف هو رب الأرض والسماء وليس تشريعات محرفة أو أعراف جاهلية.

ثالثا. الإسلام الذي جاء حربا على الجاهلية، وعلى كل تقاليدها العمياء يستحيل عليه أن يقلد سلوكياتها أو أن يأخذ منها:

لو أخذ الإسلام من الجاهلية شيئا – كما يدعي المدعون – لما شنت الجاهلية حربها الشعواء على الإسلام حينما بزغ لأول مرة، بل إن الجاهلية حاولت أن تقايض نبي الإسلام على التنازل عن بعض ما فيه من تعاليم؛ ليقبل زعماؤها على الإسلام، فما كان من الإسلام – بعزته المستعلية – ليسمح للجاهلية أن تخترق منه ولو جزءا من تعاليمه، فقال – عزوجل – مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: )فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9)( (القلم)، أي: إنهم تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضون مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك.

وعليه فإن محاولة إلصاق بعض شرائع الإسلام ببعض مبادئ الجاهلية هي محاولة جد كاذبة، وافتراء شنيع على حقيقة الإسلام، لا يعتمد على دليل، بل على فكرة شوهاء وهي أن مجرد التشابه بين بعض ما كان عليه عرب الجاهلية وبين بعض ما قرره الإسلام قاض بأن الجاهلية هي مصدر الإسلام، ولم يسألوا أنفسهم لماذا كان هذا التشابه وما منبعه وكيف نكيفه أو نصوره؟

وللإجابة عن ذلك لا بد من الوقوف على مصادر سلوكيات العرب ومرجعياتهم على اختلاف قبائلهم وتعدد أماكنهم وتنوع مشاربهم.

الجذور التاريخية لعادات العرب وعباداتهم في الجاهلية:

الحنيفية الموروثة عن إبراهيم عليه السلام: وهذه قد بقيت غير مشوبة لدى بعض أناس كزيد بن عمرو بن نفيل، الذي حافظ عليها بعد أن لم يقنع باليهودية ولا بالنصرانية ورفض عبادة الأصنام.

والحنيف عند عرب الجاهلية من كان يحج البيت ويغتسل من الجنابة ويختتن، فلما جاء الإسلام كان الحنيف هو المسلم، ولذلك فإن العرب لم يعترضوا أبدا على الوحدانية بإقرار القرآن، قال عزوجل: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم (62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63)( (العنكبوت)، وإنما كان اعتراضهم على المنهج الذي جاء يغاير منهجهم في الحياة، والتشريعات التي قاومت الكثير مما كانوا قد ألفوه؛ حيث حرم عليهم كثيرا مما كانوا يمارسونه في حياتهم، وأقر عليهم ما لم يألفوه.

الفطرة السليمة: التي قادتهم إلى كثير من الأخلاق الحميدة الفطرية؛ كالكرم والشجاعة ونصرة المظلوم، ويشهد لهذا “حلف الفضول” الذي دعا إليه ابن جدعان.
دخول بعضهم في ديانات إلهية: كورقة بن نوفل الذي اعتنق النصرانية.
إقحاماتهم المنحرفة: كعبادة الأصنام التي أدخلها عمرو بن لحي وغيره.
النعرة القبلية: التي ألجأتهم إلى عادات مستقبحة؛ كالقتل والثأر ووأد البنات وحرمان المرأة والذكر الصغير من الميراث.

هذه هي الأطر التي يمكن أن تكون مرجع سلوك العرب في الجاهلية سواء على مستوى العبادات أو العادات فماذا كان موقف الإسلام منها؟

أما بالنسبة للحنيفية الإبراهمية، فالقرآن يقرر أنه قد جاء ليحافظ عليها؛ لأنها ربانية المصدر، قال عزوجل:

)يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)( (آل عمران)، وقال عز وجل: )قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)( (آل عمران)، وقال عزوجل: )ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125( (النساء)، وقال عز وجل: ) قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161)( (الأنعام).

فالقرآن يقرر أن ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – هو ما جاء به إبراهيم – عليه السلام – من قبل، وإذا كان العرب هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم؛ فلا شك أنهم قد توارثوا عن آبائهم الكثير من هذه الآثار عادة وعبادة؛ ولهذا لم يحتج الكفار على النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه قد جاء بما شرعوه هم لأنفسهم؛ لعلمهم بأن ما كانوا يقومون به هو من ميراث إبراهيم عليه السلام، الذي جاء الإسلام مجددا لدعوته، وخير مثال لذلك هو الحج، فقد كان الناس قبل الإسلام يحجون البيت على ميراث إبراهيم عليه السلام، لكن هذا الميراث قد دخله بعض التغيير والتعديل، كما أدخلت قريش فكرة الحمس[21]، وكما اختلقوا لأنفسهم تلبية خاصة، خالفهم فيها غيرهم، فجاء الإسلام بتلبيته المنزهة لرب العباد من الشرك، كما ألغى فكرة الحمس، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن الحج هو من ميراث الجاهلية، وعلى هذا قس العديد من التشريعات التي أقرها الإسلام مما كان معروفا في الجاهلية.

وأما بالنسبة لما يرجع إلى الأخلاق الفطرية التي كانوا متخلقين بها، فهذا مما تتفق عليه كل الفطر السليمة، وقد قرر القرآن أن الدين الإلهي هو دين الفطرة، قال عزوجل: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)( (الروم)، ومن ثم لا نقول: إن هذه الأخلاق ميراث الجاهلية؛ بل هي فطرة الله في جميع خلقه بدليل أننا نجد الكثير من الصفات يتفق فيها أصحاب المعتقدات المختلفة، فالكرم والشجاعة والحلم واحترام الآخرين قدر مشترك بين جميع من يتحلى بها؛ لأنها مكتسبات فطرية، وإنما دور الأديان والشرائع هو في تهذيبها وتنميتها فقط، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»[22] أي: هو لم يدع أنه أنشأ مكارم الأخلاق، بل هي موجودة بالفطرة السليمة، وكان دوره تنميتها فقط وتتميمها، ومن ثم أشار إلى “حلف الفضول” الذي دعا إليه في الجاهلية عبد الله بن جدعان، وقال: “لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت”.

أما بالنسبة لموروثات الديانات السابقة، فلا غرابة أن نجد تشابها ما في تشريعات هذه الديانات، وبين بعض ما جاء به الإسلام، ولم لا والمصدر واحد؟! بل هذا التشابه هو أحد أدلة المصداقية، وبالطبع قد وقع هذا التشابه فيما هو إلهي المصدر، بعيدا عن تحريفات أتباع هذه الديانات.

نأتي بعد ذلك إلى مخترعات الجاهليين وانحرافاتهم عن حنيفية إبراهيم – عليه السلام – عقديا وتشريعيا، وكذا تصرفاتهم النكراء التي كانت تلجئهم إليها عصبيتهم وقبليتهم، وهذا هو القسم الذي جاء الإسلام بهدمه من الأساس، وهو القسم الأكبر؛ ولأجله كفر من كفر، بل حارب من أجل بقائه ونصرته من حارب بحجة أنه موروث آبائهم، ولقد بلغ من حرصهم على بقاء ميراث الآباء من تلك العبادات والعادات المنحرفة أن عرضوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – الملك والمال والجاه، فقال قولته المشهورة: «ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا لي منها شعلة»؛ يعني الشمس [23].

وأول ما حاربه الإسلام هو أساس عقيدتهم – آلهتهم التي عبدوها من دون الله – فقد صعقوا حينما فاجأهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الدين الحق هو دين التوحيد، وأن هذا الكون ليس له إلا إله واحد هو الذي خلق ورزق وهو الجدير بالعبادة، قال عزوجل: )ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31)( (الحج)، نعم ترك عبادة الأصنام هي حنيفية إبراهيم – عليه السلام – التي دعا ربه وسأله المداومة عليها: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)( (إبراهيم).

وعاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأمر ربه ووحيه – على قومه عبادة الأصنام: )قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار (16)( (الرعد).

ولم يجار الإسلام عرب الجاهلية في عبادتهم للأوثان، وجعلها آلهة مع الله تقربهم إليه زلفى، ناهيك عن كثير من التشريعات التي كانت حائط صد في وجه الكفار؛ حيث حرم عليهم القرآن – في الفترة المكية التي يصر بعض الناس على أنها كانت فترة مهادنة ومداهنة – وأد البنات، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا، والظلم، وقطع الرحم، والكذب… وغير ذلك مما لا تقتضي الحكمة تأخيره؛ لأنه مما يتعلق بالكليات التي ضمن الدين حفظها، وهي: النفس والعرض والدين والمال والعقل.

ثم جاء العهد المدني بثرائه الوافر في الجانب التشريعي؛ إيجابا وتحريما وندبا وكراهة وإباحة، حتى صار من الضوابط القياسية لتحديد المدني من القرآن أن تكون الآية مشتملة على تشريع.

ونذكر موقف جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – حين عقد للنجاشي موازنة بين موقفهم في الجاهلية، وما دعاهم إليه الإسلام، فقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله – سبحانه وتعالى – لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – وعدد عليه أمور الإسلام – فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عزوجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث»[24].

 وعندما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان من بين ما سأله عنه أن قال: «ماذا يأمركم؟ فقال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة…» ولم يكن أبو سفيان قد أسلم بعد حين قال ذلك[25].

فهذا كله – وغيره – ناطق بأن ثورة الكفار على الإسلام سببها هو أنه قد جاءهم بخلاف ما يعرفون، وبنقض ما يعتقدون ويسلكون، ولا ينافي ذلك التوافق فيما هو فطري – ككريم الأخلاق – أو ما هو من ميراث الحنيفية، أو الديانات الربانية التي تشارك الإسلام في وحدانية المصدر.

وبهذا يتضح جليا بطلان زعم أن الإسلام أخذ بعض شرائعه من الجاهلية.

الخلاصة:

الإسلام ينبع من نفس الأصل الذي نبعت منه اليهودية والنصرانية، فهو دين سماوي كما أنهما ديانتان سماويتان، وهذا يعلل لنا وجود تشريعات متشابهة بين هذه الديانات الثلاثة، إلا أن الإسلام حفظه الله – عزوجل – لنا من التحريف، أما اليهودية والنصرانية فقد حرفها أهلها أشد التحريف، وزاغوا بها عن الصراط المستقيم.
إذا وجد تشابه في تشريعات الرسالة الإسلامية مع التشريعات الموجودة في الديانات الأخرى – وخاصة اليهودية والنصرانية – فإنما ينحصر في التشابه الأسمى فقط، ولا يتجاوز ذلك إلى صورة التشريع؛ فلا الصلاة ولا الصوم ولا الحج ولا تحريم الأشهر الحرم ولا أية تشريعات أخرى في الإسلام تماثل – ولا حتى تشابه – تشريعات الأديان الأخرى من حيث المضمون والتطبيق.
الإسلام حارب الجاهلية بكل مفاسدها، ورفض أن يداهن أهلها، ورفض أن يسمح لأي تشريع من تشريعاتها الباطلة أن يفسد التشريع الإسلامي، وعليه فلا يمكن، بل يستحيل أن يأخذ من الجاهلية أي شيء ويضعه ضمن تشريعاته، وما كانت حرب الجاهلية للإسلام إلا لأن الإسلام خالفها، ونقض عراها، وأبطل تشريعاتها الفاسدة، وحول الحاكمية فيها من البشر إلى رب البشر، في حين أن الإسلام أقر بعض التشريعات الصحيحة – كحلف الفضول – ودعا إلى اتباعها، ولكن بعد تغيير الفهم القبلي لمثل هذه المعتقدات والتشريعات، لكي يتلاءم مع طبيعة الإسلام العالمية.

(*) واقع العالم الإسلامي، سعيد زيد، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1417هـ/ 1996م.

[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص895، 896. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص231: 235.

[2]. الفرقان: القرآن.

[3]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص236: 238. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص482. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، طـ5، 1426هـ/ 2005م، ص10: 21 بتصرف.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبر (2892)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن الصياد (7540).

[5]. أخرج البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (6101).

[6]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص241: 248 بتصرف.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الغسل، باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل (274)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب جواز الاغتسال عريانا في الخلوة (796)، واللفظ للبخاري.

[8]. الحوايا: جمع حاوية، وهي ما جمع الطعام والشراب في البطن.

[9]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص3248: 251 بتصرف. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1426هـ/ 2005م، ص10: 17 بتصرف.

[10]. الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، 1426 هـ/ 2005م، ص253: 255. التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2005م، ص65: 80 بتصرف.

[11]. الصلاة: أقوال وأفعال مخصوصة مبتدئة بالتكبير منتهية بالتسليم.

[12]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص110: 130 بتصرف.

[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (2103)، وفي مواضع أخرى.

[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3298)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (2015).

[15]. حسن: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في فرض الجمعة (1082)، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الجمعة في القرى (1071) بنحوه، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (944).

[16]. الصوم: الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة منذ طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أو الإمساك عن شهوتي الفم والفرج.

[17]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص281: 296 بتصرف.

[18]. الحج: قصد بيت الله الحرام لأداء النسك.

[19]. شبهات المستشرقين حول العبادات في الإسلام، د. ناصر محمد السيد، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص380: 412 بتصرف.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة براءة (4385)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (4477).

[21]. الحمس عند قريش: قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش ـ لا أدري أقبل الفيل أم بعده ـ ابتدعت رأي الحمس رأيا رأوه وأداروه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من مشاعر الحج ودين إبراهيم عليه السلام ، ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس، والحمس أهل الحرم، ثم جعلوا لـمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.

[22]. صحيح: أخرجه البيهقي في سننه الكبرى، كتاب الشهادات، باب بيان مكارم الأخلاق ومعاليها (21301)، وفي موضع آخر، والحاكم في مستدركه، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، ومن كتاب آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي دلائل النبوة (4221)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).

[23]. حسن: أخرجه البزار في مسنده، مسند عقيل بن أبي طالب (4/ 2170)، والطبراني في المعجم الكبير، باب العين، عقيل بن أبي طالب (511)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).

[24]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند أهل البيت، حديث جعفر بن أبي طالب (1740)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 115).

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).

الزعم أن التشريع الإسلامي فرض الجهاد وأباح المنكرات لإكراه بعض الناس على اعتناقه، وإغراء بعضهم بالدخول فيه

مضمون الشبهة:

يستنكر بعض المشككين مشروعية الجهاد في التشريع الإسلامي، ويزعمون أن هذا إكراه وإجبار للناس على اعتناق الإسلام، وأنه يتنافى في ظنهم مع حرية العقيدة التي يدعو الإسلام إليها، كما يزعمون أن الإسلام أباح المنكرات وتساهل مع العصاة؛ لإغراء الناس بالدخول فيه، ويستدلون على ذلك بقبول توبة التائب.

وجوه إبطال الشبهة:

1) انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا يرجع إلى اقتناعهم بوضوح عقيدته، وسهولة تشريعه، وصحة منهجه، وسمو تقاليده، وخلوه من التعقيد والغموض الموجود في النظم الأخرى، ولأنه الدين الرباني الذي يجمع بين الوسطية والشمول والإنسانية. وليس أدل على ذلك من الزيادة السريعة في أعداد المسلمين رغم حال المسلمين المتأخرة.

2) كيف يكره الإسلام الناس على اعتناقه وهو الذي أسس مبدأ “لا إكراه في الدين”، بل ذم التقليد الأعمى والإيمان الصادر عن غير اقتناع؟ وليس في نصوص الدين ولا تاريخ المسلمين ما يبرهن على هذا الزعم؛ بل إن المنصفين من غير المسلمين أكدوا على سماحة الإسلام، فمن أين يفتري هؤلاء المشككون هذا اللغط؟!

3) الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب إلا لاستقرار السلام وسيادة الأمن والأمان ورفع العدوان ونصرة المستضعفين في الأرض وتحريرهم من أيدي الطغاة، إذن لا يوجد تناف بين دعوة الإسلام إلى حرية الاعتقاد والجهاد في سبيل الله تعالى.

4) الإسلام لم يبح المنكرات، ولم يتساهل مع المخطئين، بل شرع الحدود والتعزيرات لتأديب المخطئين، ولكنه لا يدعو إلى اليأس والقنوط من رحمة الله؛ لذلك جعل باب التوبة مفتوحا ولم يغلقه في وجه المخطئين، مما يؤدي إلى إصلاح الإنسان واستقرار المجتمع.

التفصيل:

أولا. وضوح الإسلام وسهولة تشريعه هو السبب في دخول الناس في دين الله أفواجا:

إن السبب وراء انتشار الإسلام ودخول الناس فيه أفواجا – رغم ما يعانيه المسلمون من تأخر، ورغم الحملة الشديدة الموجهة ضد الإسلام لتشويهه – هو اقتناع الناس بالإسلام؛ لوضوح عقيدته، وسهولة تشريعه، وصحة منهجه، وسمو تعاليمه، وخلوه من التعقيد والغموض الموجود في العقائد والنظم الأخرى.

وتشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، ففي السهولة سر قوة الإسلام، ولقد ساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، وهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام – كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية – فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام؛ كما أن هذه المزايا هي السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينا، سواء كانت غالبة أم مغلوبة.

يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب” وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي عصور الفتوحات من بعده: قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – حتى زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، حيث يزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر.

هذا، وقد مكث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمكة ثلاثة عشر عاما، يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان نتاج هذه المرحلة أن دخل في الإسلام خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء، ولم يكن لدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثروة عظيمة يغري بها هؤلاء الداخلين، ولم يكن إلا الدعوة وحدها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تحمل المسلمون – لا سيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم – من صنوف العذاب وألوان البلاء ما تعجز الجبال الرواسي عن تحمله، فما صرفهم ذلك عن دينهم وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادهم ذلك صلابة في الحق، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم، وما سمعنا أن أحدا منهم ارتد سخطا عن دينه، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه، وإنما كانوا كالذهب لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء1.

ولقد نظر الغرب إلى نفسه، فإذا عصابات المافيا منتشرة، واللصوص لا يردعهم وازع من عقل أو دين، والانحلال الخلقي حدث عنه ولا حرج؛ لهذا دب في صدورهم حقد شديد على الإسلام، فراحوا ينبحون في وجهه، ولكن هل يضر السماء نبح الكلاب؟

يقول جوستاف لوبون نقلا عن الفيلسوف بيل: إن من الضلال أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دون هوتنجر قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى – مع القصد في مدح الإسلام – أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمن به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام.

والذي يدفع هذا الافتراء الذي يلحقه هؤلاء بالإسلام أن الذين يدخلون الإسلام من غير المسلمين، والذين يعودون إلى الإسلام وتطبيق تعاليمه من المسلمين، يؤثرون – راضين سعداء بهدايتهم – ضوابط الإسلام الخلقية على الانحلال الذي كانوا يرتعون فيه.

وإذا كنا نتحدث عن الانتشار السريع للإسلام فلا يفوتنا أن نعلم أن هذه معجزة نبوية مذهلة، يخبرنا من خلالها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – عن الانتشار السريع للإسلام، وأن هذا الدين سوف يغطي جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهذا ما سنعرفه من خلال الإحصائيات الحديثة حول أعداد المسلمين في جميع دول العالم.

الإسلام بين الماضي والحاضر:

لقد بدأ الإسلام قبل 1400 سنة برجل واحد هو سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصبح عدد المسلمين اليوم أكثر من ألف وأربعمائة مليون مسلم! فما هو سر هذا الانتشار المذهل؟! وماذا تقول الإحصائيات العالمية عن أعداد المسلمين اليوم في العالم؟

يوجد اليوم أكثر من 4200 ديانة في العالم، وتدل الإحصائيات على أن الدين الإسلامي هو الأسرع انتشارا بين جميع الأديان في العالم! ففي عام 1999 بلغ عدد المسلمين في العالم 1200 مليون مسلم.

إن الإسلام ينتشر اليوم في كل قارات العالم، فقد بلغ عدد المسلمين في عام 1997 في القارات الست:

في آسيا 780 مليونا.
في أفريقيا 308 ملايين.
في أوربا 32 مليونا.
في أمريكا 7 ملايين.
في أستراليا 385 ألفا.

تطور نسبة المسلمين في العالم:

كان عدد المسلمين في العالم عام 1900 أقل من نصف عدد المسيحيين، ولكن في عام 2025 سوف يصبح عدد المسلمين أكبر من عدد المسيحيين بسبب النمو الكبير للديانة الإسلامية:

ففي عام 1900 بلغت نسبة المسلمين في العالم 12. 4%، أما المسيحية فقد بلغت نسبتها 26. 9%.
وفي عام 1980 بلغت نسبة المسلمين في العالم 16.5%، أما المسيحية فقد بلغت نسبتها 30%.
وفي عام 2000 بلغت نسبة المسلمين في العالم 19. 2%، أما المسيحية فقد بلغت 29. 9%.
أما في عام 2025 سوف تبلغ نسبة المسلمين في العالم 30%، أما المسيحية فستكون نسبتها 25%.

ومن هنا نستنتج أن الإسلام ينمو كل سنة بنسبة 2. 9% بالمائة، وهذه أعلى نسبة للنمو في العالم!

كيف تحدث النبي الكريم عن هذا الأمر؟

هناك معجزة نبوية مذهلة حدثنا بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ حيث بين أن الإسلام سينتشر في جميع أجزاء الأرض، يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:«ليبلغن هذا الأمر – أي الإسلام – ما بلغ الليل والنهار»2.

ومعنى ذلك أن كل منطقة من الأرض يصلها الليل والنهار سوف يبلغها الإسلام، وهذا ما حدث فعلا؛ لأن جميع الدول اليوم فيها مسلمون. وإذا تذكرنا أن هذا الحديث قد نطق به النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – في مرحلة ضعف المسلمين وقلة عددهم في ظروف لم يكن أحد يتوقع أن الإسلام سينتشر في بقاع الأرض كافة، ندرك عندها عظمة المعجزة. لقد جاء هذا الحديث الشريف ليواسي المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم، ولو أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – لم يكن رسولا من عند الله لما تجرأ أن يخبر أصحابه بأن الإسلام سينتشر في كافة أنحاء الأرض؛ إذ كيف يضمن ذلك؟ ولكن الله – عزوجل – الذي يعلم الغيب هو الذي أخبره بهذه الحقيقة ليحدث بها أصحابه قبل 1400 سنة، ولتكون بشرى نصر بالنسبة لهم، ولتكون دليلا على نبوته في هذا العصر!

ومن دلائل هذه المعجزة أن النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – قرن بين انتشار الإسلام وبين الليل والنهار، وهذه المقارنة دقيقة وصحيحة، فكما أن الليل والنهار يبلغ كل نقطة من نقاط الكرة الأرضية، كذلك فإن الإسلام قد بلغ كل نقطة على سطح الأرض، وهذا ما لا يمكن تخيله في ذلك الزمن.

مع ملاحظة أنه لم يكن أحد يعلم حدود الليل والنهار، ولم يكن أحد يعلم أن الأرض كروية، ولم يكن أحد يتوقع أن الإسلام سينتشر في جميع دول العالم، ولذلك يمكن القول بأن هذا الحديث يمثل معجزة علمية للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

كيف تحدث القرآن عن هذا الأمر؟

يقول الله عزوجل: )يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9)( (الصف)، تأمل معنى قوله عزوجل: )ليظهره على الدين كله( (التوبة: ٣٣)، ألا تدل على أن الإسلام سيكون الديانة الأولى في العالم؟

فالإحصائيات تخبرنا بأنه عام 2025 سيكون الإسلام هو الدين الأول من حيث العدد على مستوى العالم، وهذا الكلام ليس فيه مبالغة، بل هي أرقام حقيقية لا ريب فيها. هذه الأرقام جاءت من علماء غير مسلمين أجروا هذه الإحصائيات.

ومما يعضد هذا الكلام أن صحيفة ” لفرانس ويست إكلير” الفرنسية نشرت إحصائيات تشير إلى تزايد أعداد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في عام 2007 إلى 114 ألف مسلم في فرنسا وهولندا وألمانيا والجزء الشمالي من بلجيكا والنمسا.

وأرجعوا ذلك إلى سعي المجتمع الأوربي لمعرفة الدين الإسلامي، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، حيث بدءوا بعدها يقرءون عن الإسلام، والذين قرءوا اكتشفوا أن حقيقة الإسلام غير ما ينشر عنه في وسائل الإعلام الغربية، ومما ساعد في ذلك قيام دور النشر في أوربا بحركة ترجمة للكتب العربية عن الإسلام في المكتبات التجارية بأوربا، كما أن المجتمع الأوربي قارئ وهو ما ساهم في زيادة المعرفة بالإسلام في أوربا.

أما عن السبب الآخر الذي تأتي في سياقه تلك التصريحات فهو ” تحول الإسلام إلى ما يشبه الكرة الثلجية التي يصعب الإمساك بها، فأشاروا – في هذا السياق – إلى أن انتشار البطالة في الأوساط الأوربية شجع الشباب على التردد على مواقع الإنترنت، ومن بينها المواقع التي تعرف بالإسلام، فرأوا أن الإسلام غير ما يقال عنه في وسائل الإعلام الغربية، وهذا ما يقلق الفاتيكان الذي يخشى من التقدم الإسلامي في أوربا.

وعن الهدف من تلك التصريحات، فمن الواضح أنها تهدف لمحاولة إيقاف تقدم الإسلام على مستوى النخبة والقاعدة الشعبية في أوربا، خاصة فرنسا وألمانيا صاحبتي القيادة السياسية والاقتصادية في المجموعة الأوربية.

كما اعتبر عضو مجلس الحوار مع الكنائس أن تباطؤ عملية التنصير مقابل انتشار الإسلام السريع أثار قلق الفاتيكان، وأوضح أنه بعد مؤتمر روما الذي نظمه الفاتيكان عام 1993 واختاروا فيه إفريقيا لتكون موطنا للديانة المسيحية، فوجئوا عام 1997 أنهم نصروا ما بين 8 إلى 10 ملايين إفريقي في مقابل 21 مليونا اعتنقوا الإسلام دون احتكاك مباشر بالمنظمات الإسلامية؛ لذلك نقل الفاتيكان ثقله إلى إفريقيا لأن الأفارقة يميلون للإسلام، ولهذا السبب نجد الفاتيكان يطلق دعاوى تشويهية ضد الإسلام في إفريقيا، وكذلك الإنسان العربي؛ لأن الإفريقي المثقف ثقافة أوربية لا يعرف الفرق بين العربي والمسلم، وهذه الأمور شكلت سدا منيعا أمام المنصرين والمبشرين رغم أنهم ينفقون المليارات.

خصائص المنهج الإسلامي ومميزاته:

يوضح د. يوسف القرضاوي أن أهم خصائص الإسلام التي تجذب الناس للدخول فيه أنه: دين رباني، شمولي، وسطي، يجمع بين الثبات والمرونة.

الربانية:

والمراد بها: ربانية الغاية والوجهة، وربانية المصدر والمنهج.

ربانية الغاية والوجهة:

ونعني بها أن الإسلام غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله عزوجل، والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام.

ولا جدال في أن للإسلام غايات وأهدافا أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمل نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر، وهو مرضاة الله عزوجل، وحسن مثوبته؛ فهذا هو هدف الأهداف، أو غاية الغايات.

ومن ثمرات هذه الربانية – ربانية الغاية والوجهة – في النفس والحياة:

معرفة الوجود الإنساني:

أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشته طعما ومذاقا، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقا سائبا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء، كالذين جحدوا الله أو شكوا فيه، فلم يعرفوا: لماذا وجدوا؟ ولماذا يعيشون؟ ولماذا يموتون؟

كلا، إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه، وبينة من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله، وأقر له بالوحدانية.

الاهتداء إلى الفطرة:

ومن ثمرات هذه الربانية وفوائدها، أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله عزوجل، ولا يعوضها شيء غيره، يقول سبحانه وتعالى: )فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله( (الروم: 30).

واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبا رخيصا، بل هو كسب كبير، وغنى عظيم، فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه، مع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني الوجهة، يسبح بحمد الله: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده( (الإسراء: 44).

والحقيقة أن في فطرة الإنسان فراغا لا يملؤه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان بالله عزوجل، وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر، والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.

سلامة النفس من التمزق والصراع:

ومن ثمرات هذه الربانية – ربانية الغاية والوجهة – سلامة النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات، وشتى الاتجاهات.

اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة هي: إرضاء الله عزوجل، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه عزوجل.

ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها، ووجهتها في الحياة، فتعرف من أين، وإلى أين تسير، ومع من تسير.

التحرر من العبودية للأنانية والشهوات:

ومن ثمرات هذه الربانية: أنها – حين تستقر في أعماق النفس – تحرر الإنسان من العبودية لأنانيته، وشهوات نفسه، ولذات حسه، ومن الخضوع والاستسلام لمطالبه المادية، ورغباته الشخصية.

وذلك أن الإنسان “الرباني” يوقفه إيمانه بالله وباليوم الآخر موقف الموازنة بين رغبات نفسه، ومتطلبات دينه، بين ما تدفعه إليه شهوته، وما يأمر به ربه، بين ما يمليه عليه الهوى، وما يمليه عليه الواجب، بين متعة اليوم، وحساب الغد، أو بين لذة عاجلة في دنياه، وحساب عسير ينتظره في أخراه.

وهذه الموازنة والمساءلة جديرة أن تخلع عنه نير العبودية للهوى والشهوات، وأن ترتفع به إلى أفق أعلى من الأنانية والبهيمية، أفق الإنسانية المتحررة التي تتصرف بوعيها وإرادتها، لا بوحي بطنها وفرجها وغريزتها الحيوانية.

ربانية المصدر والمنهج:

ونعني بها أن المنهج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غايته وأهدافه، منهج رباني خالص؛ لأن مصدره وحي الله – عزوجل – إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.

لم يأت هذا المنهج نتيجة لإرادة فرد، أو إرادة أسرة، أو إرادة طبقة، أو إرادة حزب، أو إرادة شعب، وإنما جاء نتيجة إرادة الله، الذي أراد به الهدى والنور، والبيان والبشرى، والشفاء والرحمة لعباده، كما قال – عزوجل – يخاطبهم: )يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174)( (النساء)، وقال عزوجل: )يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57)( (يونس).

موضع الرسول في هذا المنهج الإلهي:

أما الرسول – صلى الله عليه وسلم – فهو الداعي إلى هذا المنهج أو هذا الصراط، ليبين للناس ما اشتبه عليهم من أمره، يقول – عزوجل – مخاطبا رسوله: )وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)( (الشورى).

ميزة الإسلام بين المناهج القائمة في العالم:

والمناهج أو الأنظمة التي نراها في العالم إلى اليوم ثلاثة، فيما عدا الإسلام طبعا:

منهج أو نظام مدني بشري محض، مصدره التفكير العقلي، أو الفلسفي لبشر فرد، أو مجموعة من الأفراد، كالشيوعية والرأسمالية، والوجودية، وغيرها.
منهج أو نظام ديني بشري كذلك، مثل الديانة البوذية القائمة في الصين، واليابان، والهند، والتي لا يعرف لها أصل إلهي، أو كتاب سماوي، فمصدرها إذن فكر بشري.
منهج أو نظام ديني محرف، فهو – وإن كان إلهيا في أصله – عملت فيه يد التحريف والتبديل، فأدخلت فيه ما ليس منه، وحذفت منه ما هو فيه، واختلط فيه كلام الله بكلام البشر، فلم يبق ثمة ثقة بربانية مصدره، وذلك كاليهودية والنصرانية، بعد ثبوت التحريف في التوراة والإنجيل نفسيهما، فضلا عما أضيف إليهما من شروح وتأويلات ومعلومات بشرية، بدلت المراد من كلام الله.

أما الإسلام فهو المنهج الفذ الذي سلم مصدره من تدخل البشر، وتحريف البشر، ذلك أن الله – عزوجل – تولى حفظ كتابه ودستوره الأساسي بنفسه، وهو القرآن المجيد، وأعلن ذلك لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ولأمته فقال: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر).

الإسلام منهج رباني خالص:

إن الإسلام منهج رباني خالص من حيث: عقائده وعباداته، وآدابه وأخلاقه، وشرائعه ونظمه، كلها ربانية إلهية، ونعني بذلك أسسها الكلية، ومبادئها العامة، لا في التفريعات والتفصيلات والكيفيات.

عقيدة ربانية:

عقائد الإسلام عقائد ربانية، مستقاة من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من القرآن الكريم الذي أرسى دعائمها، ووضح معالمها، ومن صحيح السنة المبينة للقرآن.

عبادات ربانية:

والعبادات الإسلامية – أي الشعائر التي يتعبد بها لله – عزوجل – عبادات ربانية؛ فالوحي الإلهي هو الذي رسم صورها، وحدد أشكالها، وأركانها وشروطها، وعين زمانها فيما يشترط فيه الزمان، ومكانها فيما يشترط فيه المكان.

ولم يقبل من أحد من الناس – مهما كان مجتهدا في الدين، ومهما علا كعبه في العلم والتقوى – أن يبتكر صورا وهيئات من عنده للتقرب إلى الله عزوجل، فإن هذا افتئات على صاحب الحق الأوحد في ذلك، وهو الله – عزوجل – صاحب الخلق والأمر.

أخلاق ربانية:

والأخلاق الإسلامية أخلاق ربانية، بمعنى أن الوحي الإلهي هو الذي وضع أصولها، وحدد أساسياتها، التي لا بد منها لبيان معالم الشخصية الإسلامية، حتى تبدو متكاملة متماسكة متميزة في مخبرها ومظهرها، عالمة بوجهتها وطريقها، إذا التبست على غيرها المسالك، واختلطت الدروب.

تشريعات ربانية:

والتشريعات الإسلامية لضبط الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والدولية، تشريعات ربانية؛ أي في أسسها، ومبادئها، وأحكامها الأساسية، التي أراد الله أن ينظم بها سير القافلة البشرية، ويقيم العلاقات بين أفرادها وجماعاتها على أمتن القواعد، وأعدل المبادئ، بعيدا عن قصور البشر وتطرفاتهم وأهوائهم وتناقضاتهم.

وبهذا تقرر في الأصول الإسلامية أن المشرع الوحيد هو الله، فهو الذي يأمر وينهى، ويحلل ويحرم، ويكلف ويلزم، بمقتضى ربوبيته وألوهيته وملكه لخلقه جميعا، فهو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، له الخلق والأمر، وله الملك والملك، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.

ومن خصائص الإسلام:

الشمولية:

من معاني الشمول في الإسلام أنه رسالة للإنسان في كل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري، فلا يدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف، وقد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، وقد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة؛ كل في موضعه.

المهم هنا أنه لا يدع الإنسان وحده بدون هداية الله، في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به؛ ماديا كان أو روحيا، فرديا أو اجتماعيا، فكريا أو علميا، دينيا أو سياسيا، اقتصاديا أو أخلاقيا.

إن الإسلام – كما قال المرحوم العقاد – هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا أو مجتمعا، وعاملا لجسده وناظرا إلى دنياه أو ناظرا إلى آخرته، ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه، أو معطيا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى… ولكن المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.

والعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها، فهي توصف بالشمول، باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود، القضايا التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة، وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية، قضية الكون، قضية الإنسان، قضية النبوة، قضية المصير.

الوسطية:

ويعبر عنها أيضا بـ “التوازن”، ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه ويطغى على مقابله ويحيف عليه.

مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، والوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، والواقعية والمثالية، والثبات والتغير، وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه بالقسط أو بالقسطاس المستقيم، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار، كما أشار إلى ذلك كتاب الله – عزوجل – بقوله: )والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9)( (الرحمن).

الجمع بين الثبات والمرونة:

من أجل مظاهر الوسطية التي تميزت بها رسالة الإسلام، وبالتالي يتميز بها مجتمعه عن غيره: التوازن بين الثبات والتطور، أو الثبات والمرونة؛ فهو يجمع بينهما في تناسق مبدع، واضعا كلا منهما في موضعه الصحيح؛ الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور.

فالإسلام – الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية – أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان وكل مكان.

ونستطيع أن نحدد مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول: إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب، الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.

دلائل الثبات والمرونة في مصادر الإسلام وأحكامه:

إن للثبات والمرونة مظاهر شتى نجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه.

يتجلى هذا الثبات في “المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع” من كتاب الله – عزوجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري والبيان العملي للقرآن، وكلاهما مصدر إلهي معصوم، لا يسع مسلما أن يعرض عنه، قال عزوجل: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (النور: 54)، قال عزوجل: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).
تتجلى المرونة في “المصادر الاجتهادية” التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها ما بين موسع ومضيق، ومقلل ومكثر، مثل: الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد، وطرائق الاستنباط3.

ثانيا. لا إكراه في الدين:

من المبادئ الإسلامية أنه لا يكره أحد على الدخول في الإسلام إن أراد البقاء على ما يعتقد، وفي هذا يقول القرآن الكريم: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بين واضح جلي دلائله، لا يحتاج إلى أن يكره أحدا على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيد الدخول مكرها مجبورا.

ويروى عن ابن عباس قوله إنها نزلت: )لا إكراه في الدين( في رجل من الأنصار من بني سالم يقال له الحصيني وكان له ابنان نصرانيان وكان رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

وقد كان لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مملوك نصراني يسمى أسبق، فكان يعرض عليه الإسلام فيأبى، فيقول: لا إكراه في الدين يا أسبق، لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.

ثم يطيب القرآن خاطر النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين معه حتى لا يحزنوا على من لم يعتنق الإسلام، فيقول: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس).

والإسلام حينما يقرر مبدأ عدم الإكراه في الدين إنما يضع العقيدة في مكانها الصحيح في قلب الإنسان وعقله، وما يفيد الإكراه إلا انصياعا مذعورا مرتجفا باللسان دون أن يقابله اقتناع القلب.

إن المكره يستطيع أن يمزق الإنسان إربا، ولكنه لا يستطيع أن يفتح قلبه عنوة لعقيدة لم يرتضها أو مبدأ لا يؤمن به، ولا يفيد الإكراه – إن كان له فائدة – إلا كثرة سواد المنافقين الذين يسلمون بأفواههم، وقلوبهم مطبقة على ما فيها من الإنكار والجحود. وقد كان المسلمون على هذا المبدأ في معاملاتهم مع أهل الأديان الأخرى، فكانوا يسمحون لأهل البلد المفتوح أن يبقوا على دينهم إن أرادوا مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وفي مقابل هذا يكونون في حماية من كل اعتداء، وتحترم شعائرهم وعقائدهم ومعابدهم.

وعقود الأمان التي كانت تعطى لأهل البلاد المفتوحة دليل صدق على ذلك المبدأ؛ ففي معاهدة عمر بن الخطاب مع أهل بيت المقدس: “هذا مما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم… ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم”.

وفي عهد عمرو بن العاص لأهل مصر: “هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينقص”.

أين هذا من أخلاق المنتصرين في كل بقاع الأرض على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم، وهل يعقل الغازون في البلاد التي تقع تحت أيديهم مثل هذا؟ وهل يكتفون بأقل من تغيير وجه الحياة بكل صورها وأشكالها في البلاد المفتوحة؟

الشواهد التي تؤكد عدم الإكراه للدخول في الإسلام:

الشواهد التي تؤكد حرص المسلمين الأوائل على الالتزام بآية: )لا إكراه في الدين( كثيرة، منها:

جاءت امرأة نصرانية عجوز إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في حاجة لها، فقال لها: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. فقالت: أنا عجوز كبيرة، والموت إلي قريب! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد، وتلا قوله تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)4.
الجدل الذي ثار بين فقهاء المسلمين حول مناقشة الزوج المسلم زوجته الكتابية في مسألة إسلامها، فقد رأى الإمام الشافعي أنه لا يحق للرجل أن يفاتح زوجته في هذا الأمر ولا يعرض عليها الإسلام؛ لأن فيه تعرضا لهم وقد ضمنوا بعقد الذمة ألا يتعرض لهم. أما الأحناف فيرون أن للزوج أن يعرض الإسلام على زوجته لمصلحة من غير إكراه.

إلى هذا المدى بلغت الرقة والحساسية عند بعض الفقهاء في إبعاد شبهة الإكراه في الدين؛ الأمر الذي دفع الشافعي إلى الإفتاء بفتواه خشية الوقوع في الإكراه المحظور في حق الآخرين.

شهادة كتاب الغرب على أن الإسلام لم يكره أحدا على اعتناقه:

إن الآيات العديدة التي تؤكد حرية الاعتقاد وتأمر المسلمين بعدم الإكراه، جعلت الكثير من كتاب الغرب يعترفون بأن المسلمين لم يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام.

يقول جوستان لوبون في كتابه “حضارة العرب”: إن مسامحة محمد – صلى الله عليه وسلم – لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، ولم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص، وقد سار خلفاؤه على سنته.

وهذا الرأي سبقه إليه كثير من الكتاب الأوربيين، مثل روبرتسون إذ قال: إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم لم يستخدموا الحسام نشرا لدينهم، وتركوا من لم يرغب فيه حرا في التمسك بتعاليمه الدينية.

ولقد كتب الأديب جورج برناردشو: لقد عمد رجال الدين في العصور الوسطى على تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل أو التعصب الذميم، والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد – صلى الله عليه وسلم – ودينه ويعدونه عدوا للمسيح عليه السلام. أما إذا تولى – محمد – صلى الله عليه وسلم – زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته، وأحل في العالم السلام، وما أشد حاجة العالم اليوم إليه!
وكتب السير توماس أرنولد: لقد عامل المسلمون الكافرين العرب والمسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة.

ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح.

ويقول الشاعر الأمريكي رونالد ركويل بعد أن أشهر إسلامه: لقد راعى الإسلام حقا تلك السماحة التي يعامل بها الإسلام مخالفيه، سماحة في السلم وسماحة في الحرب، والجانب الإنساني في الإسلام واضح في وصاياه5.

هذا مما شهد به الكتاب الأوربيون بسماحة الإسلام ورعايته لغير المسلمين، وعدم إكراههم على الدخول في الإسلام.

ثالثا. الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب إلا لإقرار الأمن و السلام:

وقد أقام الإسلام مفهوم الحرب – الجهاد – على أسس واضحة، فهو:

من أجل رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والوطن والدين، قال سبحانه وتعالى: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).
من أجل تأمين الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم.
حماية الدعوة حتى تبلغ للناس جميعا، ويتحدد موقفهم منها تحديدا واضحا؛ ذلك أن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل، وتوجه إلى الناس جميعا.
تأديب ناكثي العهد من المعاصرين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتنأى عن حكم العدل والإصلاح.
إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا، والانتصار لهم من الظالمين.
تحريم الحرب لغير ذلك من الأغراض، فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحقة من المقاصد المادية أو الشخصية أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها.

لقد عرف المسلمون “الجهاد” وفق مفهوم الإسلام: دفاعا عن حق مجتمع الإسلام في الحياة، ودعوة الإسلام في الامتداد؛ وذلك بالتضحية بالنفس والمال6.

فالإسلام دين رحمة وليس دين عنف وشدة، والإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه ولكن يدعوهم بالحجة البالغة والكلام السديد الحسن. قال تعالى: )وقولوا للناس حسنا( (البقرة: 83).

والإسلام ليس ضد حرية الاعتقاد، ولكنه كفل للإنسان حرية الاعتقاد، وجاء هذا في القرآن الكريم. قال تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).

وقد قال تعالى: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله( (البقرة: 193)، وفي الآية بيان للغاية من القتال في الشريعة الإسلامية، وهي أن لا يفتن الناس، فلا يميلوا عن الحق إلى الباطل، ولا يجنحوا للضلال والرجس، بفعل الفتن التي يثيرها الظالمون والأشرار الذين لا يبغون للبشرية خيرا ولا يريدون للإنسان أن يهتدي ويستقيم، فكان لا بد من صد هؤلاء المجرمين والظالمين الذين يثيرون الفتن بمختلف أساليبهم في الإغواء والتضليل أو الإغراء والخداع والبطش والقمع والترهيب، وكل ذلك فتنة لحجب الإنسان عن دين الحق والحيلولة بين البشرية وطريق الله القويم طريق الإسلام، فلا سبيل بعد ذلك ولا مناص من التصدي لأهل الشر المعوقين عن الحق لصدهم وردعهم بالقوة رحمة بالخليقة المظلومة التي حيل بينها وبين إدراك الحق. فلا تناقض إذن بين هذه الآية وبين قوله تعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).

فالإسلام لم يكره أحدا على الدخول فيه، وأساس نشره الإقناع الهادئ والتعليم المجرد وترك الناس أحرارا بعد عرض الدعوة عليهم ليقبلوها أو يردوها.

السلام أصل متين من أصول الدين:

مع عناية الإسلام البالغة بقوة المسلمين أفرادا وأمة، وأمره ببذل ما في الوسع للإعداد للقتال، وإعداده الأمة كلها لتكون عند الحاجة جيشا يقاتل في سبيل الله، وترتيبها على الأخذ بأسباب القوة والصبر على الجهاد، فإنه لا يعتبر الحرب هي الأصل في الحياة، إنما يعتبرها ضرورة لدفع العدوان والظلم، ويعتبر السلام هو الأصل والهدف الذي يعمل لتحقيقه.

إن العالم في حاجة ماسة إلى قوة تدافع فيه عن الحق، وتكفل الحرية لجميع الناس، وتقف في وجه الدول الطاغية التي تستذل الشعوب وتمتص دماءها وتتحكم في مصايرها، والإسلام يريد لأمته أن تكون هي هذه القوة، تحافظ على أمن العالم وسلامته وسلامه، والانتصار للحق في كل مكان، بصرف النظر عن الدين والجنس والوطن، ومن ثم كان لا بد لها من القوة: قوة الإيمان بالحق، وقوة النفوس، وقوة الإعداد، فالسلام الذي يريده الإسلام إذن ليس سلام الضعف والاستكانة، ولا السلام على حساب مثله الرفيعة في الحياة.

والسلام في مبادئ الإسلام أعمق من أن يكون مجرد رغبة يدعو إلى تحقيقها في الحياة، إنما هو أصل في عقيدته، وعنصر من عناصر تربيته، وهدف يعمق الإحساس به في ضمير الفرد وفي واقع المجتمع وفي بناء الأمة.

إنه يتصور الحياة وحدة إنسانية غايتها التعارف بين الجميع، ولا يتصورها صراعا بين الطبقات، ولا حربا بين الشعوب، ولا عداوة بين الأجناس: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).

ويتصور الأديان كلها دينا واحدا، بعث الله به رسله للبشرية الواحدة، والمؤمنين الذين آمنوا بهذا الدين أمة واحدة، في كل زمان ومكان، ويصور النبي – صلى الله عليه وسلم – هذه الوحدة بالبناء الواحد الذي لا يشغل منه إلا موضع لبنة: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين» 7.

وبهذا قضى الإسلام على معظم الأسباب التي تؤدي إلى العداوة والحروب.

ثم يخطو الإسلام خطوة كبيرة في سبيل تحقيق هذا الهدف، وذلك بتقرير حقوق الإنسان، تلك الحقوق التي لم يصل إليها حتى اليوم نظام ولا شريعة ولا فلسفة، في عمقها وأصالتها ورفعتها، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق كريم وكائن ممتاز، كرمه ربه بنفخة علوية من روحه، وزوده بالمواهب والطاقات التي تمكنه من تعمير الأرض والرقي بالحياة، وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في أرضه، وسخر له في حياته كل ما يحتاج إليه لتحقيق رسالته: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).

ويهدف الإسلام إلى تحقيق هذه الكرامة للإنسان في واقع الحياة – فقط لكونه إنسانا – بصرف النظر عن دينه وجنسه ولونه ووطنه، فأعطاه حق الحياة الحرة الكريمة؛ ففرض لكل جاهل أن يتعلم، ولكل محتاج أن يعان، ولكل مريض أن يداوى، ولكل خائف أن يؤمن، وصان عرضه وماله ومسكنه، وحرم دمه أن يسفك، وحريته أن يعتدى عليها، وضميره أن يتحكم فيه، ولم يترك هذه الحقوق عرضة للعبث والضياع، ولم يضعها في أسلوب الحكم والنصائح، إنما جعلها من صميم العقيدة لها حرمة الإيمان، كما جعلها فرضا على المجتمع والدولة.

وأكد حرمة الدم البشري، فحرم سفكه إلا بالحق، لا فرق بين إنسان وإنسان: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( (الأنعام: 151).

وعظم من حرمة النفس البشرية ومن وزر الاعتداء عليها، فاعتبر النفوس كلها واحدة، من اعتدى على إحداها فكأنما اعتدى عليها جميعا؛ لأنه اعتداء على حق الحياة، ومن قدم لإحداها خيرا فكأنما قدم الخير للإنسانية بأسرها: )من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا( (المائدة: 32).

وعلى أساس احترام النفس الإنسانية كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يربي أصحابه، فعن جابر قال: «مرت بنا جنازة، فقام لها النبي – صلى الله عليه وسلم – وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: أوليست نفسا؟ إذا رأيتم جنازة فقوموا»8.

وبهذا الفقه كان المسلم يتحرج من سفك الدماء في أحرج المواقف، فحينما حاصر الثوار أمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ومنعوا عنه الماء وأجمعوا على قتله، حاول الصحابة أن يقاتلوا الثوار فأبى عثمان رضي الله عنه، ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت له: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور.

ثم يرتفع الإسلام بالمسلمين إلى أفق إنساني رفيع، إلى مستوى العمل لخير الإنسانية كلها، فيفرض عليهم الجهاد لتطهير العالم من الظلم والفساد، ويبين لهم أن مهمة الرسل جميعا هي إقرار العدل بين الناس: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (25)( (الحديد).

ويحدد لهم واجبهم بعد نصر الله لهم والتمكين لهم في الأرض بالعمل للخير الإنساني، لا لتكون أمة أقوى من أمة، ولا ليكون دين أكثر أتباعا من دين: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر( (الحج: 41).

ويربي النبي – صلى الله عليه وسلم – الأمة على العمل الإنساني الخالص، حتى ولو لم يكن من ورائه مظنة منفعة فيقول: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل»9. كأنما يريد أن يكون آخر عهد المسلم بالدنيا عملا إنسانيا أداه خالصا لوجه الله.

ورغم أن الإسلام يعتبر نفسه الطور النهائي لدين الله الواحد، وأن رسالته خاتمة الرسالات، وأنه جاء بالمبادئ الخالدة للإنسانية كلها على طول الزمان – فإنه لم يأذن للمسلمين بإكراه الناس على عقيدته، ولا بالتمكين لنظامه ومبادئه بالقوة، ولا أباح الحرب بحجة نشر دعوته.

إن آيات القرآن في عهديه – المكي والمدني – صريحة واضحة محكمة، تحدد أسلوب الدعوة بالحكمة والحسنى، ومهمة الرسول في الدعوة والبلاغ، وتنهى عن القسر والإكراه: )ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)، )وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)( (آل عمران)، )فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15)( (الشورى)، )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (256)(

 (البقرة)، )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125).

أما الذين يظنون أن الإسلام يبيح الحرب للتوسع وإكراه الشعوب على مبادئه، فإنما يحكمون عليه من ثنايا نفوسهم المتعصبة، ولم يفهموه من واقع أهدافه وأوامره ومبادئه.

لقد جاءت مبادئه ثورة عالمية لتحرير الضمير والفكر، فربطت الاعتقاد بالفهم والاقتناع، والإيمان بالدليل والبرهان، والتقوى بالعلم والتفكير، فكيف يعمد بعد ذلك إلى إكراه الناس على دعوته بالحرب والقتال؟

وروح الإسلام ومبادئه ومنهجه في التربية تهدف كلها إلى إقرار السلام وتعميق حبه في ضمير المسلم وسيادته في المجتمع، وليس في الدنيا شريعة ولا نظام يفرض على أتباعه رياضة أنفسهم على السلام إلا الإسلام، ففي فريضة الحج يحرم على المسلم أن يقتل حيوانا أو يهيج طائرا أو يقطع نباتا أو يؤذي إنسانا بيد ولا لسان: )الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج( (البقرة: 197).

وكذلك الصوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما؛ إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه»10. وهي تربية عملية على تذوق حياة السلام وتعود ممارستها في الحياة والتعامل على أساسها في المجتمع.

وقد أشاد القرآن بالسلام إشادة بالغة تغرس حبه في قلوب المؤمنين، فالله – عزوجل – اسمه السلام: )هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام( (الحشر: 23)، وليلة القدر التي نزل فيها القرآن ليلة كلها سلام: )تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)( (القدر)، والإسلام دعوة إلى السلام: )يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام( (المائدة: 16)، والجنة دار السلام: )والله يدعو إلى دار السلام( (يونس: 25)، )دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام( (يونس: 10).

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يربي المسلمين على إيثار السلام واستنفاد الحيلة في دفع العدوان بالحسنى وعدم القتال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية»11.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: “فانشد بالله”، قال: فإن أبوا علي؟ قال: فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار»12.

وعلى أساس هذه الأصول يعتبر الإسلام السلام هو الأصل، ويعتبر الحرب ضرورة لا يلجأ إليها إلا مقاومة للظلم ودفعا للعدوان وحين لا يكون بد منها، أما الحروب العدوانية أو الهجومية بالمفهوم الحديث فهي حروب لا يعرفها الإسلام: )وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)( (البقرة).

وكذلك يأمر القرآن بوقف الحرب بمجرد طلب العدو للصلح، حتى ولو كان في طلبه مظنة خيانة أو غدر، أو كان يبغي من وراء وقف القتال كسب الوقت للإعداد لحرب ثانية )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)( (الأنفال).

ولم تكن حروب الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلا تطبيقا عمليا لهذه المبادئ، فلم يلجأ إلى القتال إلا مضطرا وفي حدود الدفاع عن حرية دعوته وعن كيان المسلمين13.

ويقول سيد قطب: “إن المهزومين روحيا وعقليا ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام، يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس، وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة، يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: “الحرب الدفاعية”.. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله – عز وجل – أنه أرسل من أجلها هذا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات.

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض، ومن ثم لم يكن للإسلام أن ينطلق في الأرض إلا لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام… بالبيان وبالحركة مجتمعين.. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله.

ولم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته.. ولكن الإسلام ليس مجرد عقيدة، إن الإسلام – كما قلنا – إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد؛ فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان… ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحرارا – بالفعل – في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم، بعد رفع الضغط السياسي عنهم، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم، ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيدا للعباد! وأن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله!

والذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان، ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح “الحرب الدفاعية” – كما يريد المهزومون – أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر – أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام، إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير الإنسان في الأرض بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة.

وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة “دفاع” ونعتبره دفاعا عن الإنسان ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره… هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات، كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في هذا الزمان!

وبهذا التوسع في مفهوم كلمة “الدفاع” نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير الألوهية لله وحده وربوبيته للعالمين. وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان.

أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على الوطن الإسلامي – وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب – فهي محاولة تتم عن قلة إدراك لطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع وأمام العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك!

إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير الإنسان – نوع الإنسان – في الأرض – كل الأرض – ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا “لا إكراه في الدين”.. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة؛ للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال!

إن الجهاد ضرورة للدعوة، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري! سواء كان الوطن الإسلامي – وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام – آمنا أم مهددا من جيرانه، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله، أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

رابعا. الإسلام لم يبح المنكرات ولم يتساهل مع المخطئين؛ بل شرع الحدود والتعزيرات لتأديبهم، ولكنه لا يدعو إلى اليأس والقنوط من رحمة الله؛ لذلك جعل باب التوبة مفتوحا أمام المخطئين:

إن الإسلام لا يتساهل في أمر المعاصي والذنوب، بل إنه على العكس من ذلك يتهم كثيرا بالقسوة فيما يتعلق بالعقوبات والحدود التي شرعت لمحاربة الكبائر والخطايا، والعقوبة عليها في الدنيا، وبالمبالغة في الترهيب والتخويف بشأنها من عذاب الله في الآخرة.

والمستعرض لآيات القرآن الكريم يجد الكثير من المواضع التي يحذر الله فيها من مغبة العصيان والمخالفة لأمر الله، والوقوع في نواهيه، وبيان أن ذلك سبب رئيس في الشقاء والتعاسة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.

وإلى جانب هذا الموقف الحازم من الإسلام تجاه مرتكبي الكبائر من العصاة والمتمردين، نجده يتحلى بروح واقعية فريدة، تنطلق من الإقرار بالطبيعة الخاصة التي خلق عليها الإنسان، فهو مزيج من الطبائع المتعارضة؛ فيه الروح السامي الذي يقربه من الملائكة المكرمين، في حالة الطاعة والقرب من الله، وفيه الشهوة الجامحة والقوة الغضبية التي تهوي به إلى الوحلة الحيوانية، في أحط دركاتها إذا غلبت عليه وحولته من إنسان مكرم إلى مرتبة أقل من مرتبة الأنعام، قال عزوجل: )والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم( (12) (محمد)، وقال عزوجل: )ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)( (الأعراف)، فضلا عن وجود النفس الأمارة بالسوء والتي تميل بصاحبها نحو مسالك الغواية والضلال وتسير به في طريق الشيطان وحزبه، ومن ثم كان الإنسان بطبيعته مخلوقا يحمل بين جنبيه روحا ملائكيا، وطبعا حيوانيا، ونفسا شيطانيا، وعليه لم تكن المعصية أمرا منافيا لطبعه؛ إذ كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

ومن هنا جاءت النصوص الدينية في الإسلام لتتعامل مع الإنسان بصورة واقعية تنهاه وتحذره من المعصية، وتتوعده عليها، ثم تأخذ بيده إذا سقط فيها لتعطيه الأمل في المغفرة والفرصة في التوبة، والرجاء في القبول.

وهذا التوازن العجيب بين الموقف الجاري والتوجه الواقعي يعبر عنه خير تعبير قول الله عزوجل: )نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن عذابي هو العذاب الأليم (50)( (الحجر)، وقوله عزوجل: )ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (6)( (الرعد)، فالإنسان في المنطق الإسلامي يتردد بين منزلتي الخوف والرجاء، قال عزوجل: )أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)( (الإسراء).

إذن فليس هناك أي وجه لصحة الادعاء القائل: إن انتشار الإسلام السريع، يرجع إلى إباحته المنكرات، وتساهله مع المخطئين، بل إن السبب الحقيقي لانتشار الإسلام يرجع إلى سهولة تشريعه، وخلوه من الغموض والتعقيد الموجود في الديانات الأخرى.

كما أن الإسلام لا يتساهل في أمر المعاصي والذنوب، ولكن الصواب أن يقال: إنه قد وضع ضوابط وهي استيفاء شروط أو انتفاء موانع درئها بالشبهات، فيما يتعلق بالعقوبات والحدود التي شرعت لمحاربة الكبائر والخطايا والمعاقبة عليها في الدنيا، حتى لا تسير وفقا لأغراض الحكام والقضاة وأهوائهم؛ لذلك كان القرآن يعقب دائما بعد ذكر النص على العقوبة، قال عزوجل: )واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه( (البقرة: 235)، وقال عزوجل: )ولا تتخذوا آيات الله هزوا( (البقرة: 231).

كما أن الإسلام فتح باب التوبة في أي زمان وأي مكان، ما لم يحضر الأجل وتصعد الروح إلى بارئها، إلى أن تشرق الشمس من مغربها؛ كي لا يقنط الناس من رحمة الله عزوجل، وحتى يعودوا – إن انحرفوا – مسرعين إلى ربهم، ولا يستمروا في طغيانهم يعمهون؛ لأنه إذا سدت أبواب التوبة في وجوه العصاة والمذنبين، فسوف يزداد الفساد والطغيان؛ فالتوبة تقلل من الجريمة، وتحد من انتشارها واستمرارها بقدر الإمكان وإدراك ما يمكن إدراكه، وإصلاح ما فسد بقدر الطاقة والاستطاعة.

ولو نظرنا في الفقه الإسلامي لوجدناه يحتوي على جزء كبير منه يسمى بـ “الفقه الجنائي”، وهو عبارة عن مجموعة من العقوبات والتعزيرات التي تخص كل جريمة على حدة، مثل جريمة الزنا التي حدها الجلد مائة جلدة لغير المتزوج، والرجم حتى الموت للمتزوج، وجريمة القتل التي حدها القصاص في القتل العمد، والدية في القتل الخطأ، وجريمة السرقة التي حدها قطع اليد، وجريمة شرب الخمر أو المسكرات التي حدها الجلد، وغيرها من الحدود التي شرعت في الأساس من أجل الحفاظ على النفس والعرض والمجتمع والدين، ولكن العقوبة في الإسلام لم تشرع من أجل التعذيب والقسوة على المخطئ، وإنما كانت لمقاصد وأهداف أهمها:

أن تكون العقوبة بحيث تمنع الناس عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده؛ أي أن العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه.
إن حد العقوبة هو حاجة الجماعة ومصلحتها، فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت، فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة.
إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة أو حبس شره عنها، وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت ما لم يتب أو ينصلح حاله.
إن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.
إن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتفق – كما يقول الفقهاء – في أنها تأديب وإصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، والعقوبات إنما شرعت رحمة من الله – عزوجل – بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.

ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص؛ فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»14؛ ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة، وأحوال الناس مختلفة فيه؛ فمنهم من ينزجر بالصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة والضرب؛ ومنهم من يحتاج إلى الحبس… إلخ.

كما يلاحظ أن الأصول التي تقوم عليها العقوبة في الشريعة ترجع إلى أصلين أساسيين أو مبدأين عامين، فبعضها يعنى بمحاربة الجريمة ويهمل شخصية المجرم، وبعضها يعنى بشخصية المجرم ولا يهمل محاربة الجريمة، والأصول التي تعنى بمحاربة الجريمة الغرض منها حماية الجماعة من الإجرام، أما الأصول التي تعنى بشخص المجرم فالغرض منها إصلاحه.

ولا جدال في أن بين المبدأين تضاربا؛ لأن حماية الجماعة من المجرم تقتضي إهمال شأن المجرم، كما أن العناية بشأن المجرم تؤدي إلى إهمال حماية الجماعة.

وقامت نظرية العقوبة في الشريعة على هذين المبدأين المتضاربين، ولكن الشريعة جمعت بين المبدأين بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر، وتسمح بحماية المجتمع من الإجرام في كل الأحوال، وبالعناية بشخص المجرم في أكثر الأحوال، ذلك أن الشريعة أخذت بمبدأ حماية الجماعة على إطلاقه واستوجبت توفره في كل العقوبات المقررة للجرائم، فكل عقوبة يجب أن تكون بالقدر الذي يكفي لتأديب المجرم على جريمته تأديبا يمنعه من العودة إليها ويكفي لزجره عن التفكير في مثلها، فإذا لم يكف التأديب شر المجرم عن الجماعة أو كانت حماية الجماعة تقتضي استئصال المجرم وجب استئصال المجرم أو حبسه حتى الموت.

أما مبدأ العناية بشخص المجرم فقد أهملته الشريعة بصفة عامة في الجرائم التي تمس كيان المجتمع؛ لأن حماية الجماعة اقتضت بطبيعتها هذا الإهمال، والجرائم التي من هذا النوع قليلة ومحدودة بطبيعة الحال، ما عدا ذلك من الجرائم ينظر في عقوبته إلى شخصية المجرم، وتستوجب الشريعة أن تكون شخصية الجاني وظروفه وأخلاقه وسيرته محل تقدير القاضي عند الحكم بالعقوبة.

تقسيم الجرائم:

لقد نشأ عن الجمع بين المبدأين على هذه الصورة أن أصبح لكل مبدأ حيز ينطبق فيه ومدى ينتهي إليه، ولتقيم الشريعة معالم واضحة للحيز الذي ينطبق فيه كل مبدأ قسمت الجرائم قسمين:

الجرائم الماسة بكيان المجتمع:ويدخل تحت هذا القسم كل الجرائم التي تمس كيان المجتمع مسا شديدا، وهي نوعان لكل منهما حكم مختلف:
جرائم الحدود التامة: وهي سبع جرائم: الزنا، والقذف، والشرب، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي.

وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم السبع عقوبات مقدرة ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها أو يستبدل بها غيرها، فمن ارتكب جريمة منها أصابته العقوبة المقررة لها دون نظر إلى رأي المجني عليه أو إلى شخصية الجاني، وليس لولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة بحال من الأحوال.

وقد اتجهت الشريعة في جرائم الحدود إلى حماية الجماعة من الجريمة، وأهملت شأن المجرم إهمالا تاما، فشددت العقوبة وجعلتها عقوبة مقدرة، ولم تجعل للقاضي أو لولي الأمر سلطانا على العقوبة، وعلة التشديد أن هذه الجرائم من الخطورة بمكان وأن التساهل فيها يؤدي حتما إلى انحلال الأخلاق وفساد المجتمع واضطراب نظامه وازدياد الجرائم، وهي نتائج ما ابتلي بها جماعة إلا تفرق شملها واختل نظامها وذهب ريحها، فالتشدد في هذه الجرائم قصد به الإبقاء على الأخلاق وحفظ الأمن والنظام، أو قصد به – بتعبير آخر – مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تهمل مصلحة الفرد في سبيل مصلحة الجماعة، بل العجب ألا تضحى مصلحة الفرد في هذا السبيل.

جرائم القصاص والدية: وهي جرائم القتل العمد وشبه العمد والخطأ، والجرح المتعمد والخطأ.

وقد وضعت الشريعة لهذه الجرائم عقوبتين هما: القصاص أو الدية في حالة العمد، والدية في حالة الخطأ، وحرمت على القاضي أن ينقص من هاتين العقوبتين أو يزيد فيهما أو يستبدل بهما غيرهما، كما حرمت على ولي الأمر أن يعفو عن الجريمة أو العقوبة، وعلى هذا فمن ارتكب جريمة من هذه الجرائم أصابته العقوبة المقررة لها دون النظر إلى ظروف الجاني وشخصيته.

الجرائم الأخرى:ويشمل هذا القسم كل الجرائم التي لا تدخل تحت القسم الأول، أو يشمل الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة بعقوبات غير مقدرة، فيدخل تحت هذا القسم كل الجرائم المعاقب عليها بعقوبة تعزيرية، وهي ثلاثة أنواع:
جرائم التعازير الأصلية، أي كل جريمة ليست من جرائم الحدود ولا من جرائم القصاص والدية.
جرائم الحدود التي لا يعاقب عليها بعقوبة مقدرة، وهي جرائم الحدود غير التامة وجرائم الحدود التي يدرأ فيها الحد.
جرائم القصاص والدية التي يعاقب عليها بعقوبة غير مقدرة، وهي الجرائم التي لا قصاص ولا دية فيها.

والجرائم التي تدخل تحت هذا القسم ليست بخطورة جرائم القسم الأول، ولهذا كان لها حكم مختلف، ففي القسم الأول تقيد الشريعة القاضي بعقوبة معينة مقدرة، فليس له اختيار غيرها وليس له أن يزيد فيها أو ينقص منها، أما في القسم الثاني فتترك الشريعة الحرية للقاضي في اختيار العقوبة الملائمة بين مجموعة من العقوبات، كما تترك له تقدير كمية العقوبة اللازمة وتقدير ظروف الجريمة وظروف المجرم، فإن رأى أن ظروف الجريمة وظروف المجرم لا تقتضي التخفيف عاقبه بالعقوبة الملائمة لشخصه وظروفه وسيرته وأخلاقه، وإن رأى أن ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف توسط بين الأمرين فلم يغلظ العقوبة ولم يخففها، وفي هذا القسم تطبق الشريعة الأصول التي تقوم عليها نظرية العقوبة منفردة ومجتمعة، فإذا لم تكن ظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي في تقدير العقوبة واختيار نوعها شخصية الجاني، وإذا كانت ظروف الجريمة تقتضي التشديد وظروف الجاني تقتضي التخفيف روعي بقدر الإمكان في اختيار العقوبة وتقدير كميتها أن تحمي الجماعة من الإجرام وأن تلائم شخصية المجرم.

ورأي المجني عليه ليس له اعتبار لذاته في هذا القسم، وعفوه لا يسقط العقوبة، ولكن العفو ينظر إليه باعتباره ظرفا قضائيا مخففا للجاني، فإذا تصالح المجني عليه مع الجاني أو عفا عنه كان للقاضي أن يعتبر الصلح أو العفو ظرفا مخففا في صالح الجاني، والعلة في عدم إسقاط العقوبة التعزيرية بالعفو أن كل عقوبة فيها حقان: حق للمجني عليه وحق للجماعة، فإذا أسقط المجني عليه حقه فقد بقي حق الجماعة، بعكس الحال في عقوبتي القصاص والدية فهما من حق المجني عليه أو وليه دون غيرهما، فإذا عفا أحدهما سقطت العقوبة وحل محلها التعزير على اعتبار أن التعزير حق الجماعة، ولهذا لا يظهر أثر العفو في عقوبات التعازير كما يظهر في القصاص والدية؛ لأن عقوبة التعزير فيها حق المجني عليه وحق الجماعة، فإذا أسقط حق المجني عليه بقي حق الجماعة، أما القصاص والدية فهما من حق المجني عليه وحده، فإذا عفا أسقطهما العفو.

إن الشريعة تشددت في جرائم القسم الأول واتجهت في اختيار العقوبة وتقديرها إلى حماية المجتمع من الإجرام، وأهملت شخصية الجاني إهمالا تاما إلا إذا عفا المجني عليه في جرائم القصاص والدية دون غيرهما، وقلنا: إن الشريعة أرادت بذلك حماية المجتمع؛ لأن جرائم القسم الأول بنوعيها تمس كيان المجتمع مساسا شديدا، وقد بقي أن نعرف كيف تمس هذه الجرائم كيان المجتمع؟!

فالجماعات – مهما اختلفت على المبادئ أو اختلفت عليها العصور – تشترك في أنظمة معينة تعيش عليها الجماعة ويقوم كيانها عليها، ولو بحثنا كل الأنظمة التي تقوم عليها الجماعات في كل أقطار الأرض لوجدنا كل الجماعات تشترك في أربعة أنظمة هي الدعائم التي يقوم عليها فعلا كل مجتمع على وجه الأرض، وهذه الأنظمة الأربعة هي:

نظام الأسرة.
نظام الملكية الفردية.
النظام الاجتماعي للجماعة.
نظام الحكم في الجماعة.

فوجود الرجل والمرأة وقدرتها على التناسل وحاجة هذا النسل إلى من يعوله حتى يبلغ أشده، كل هذا اقتضى بطبيعته أن يستأثر كل رجل بامرأة معينة، وأن ينسب إلى نفسه من تلد له من الأبناء، وهكذا اقتضى وجود الرجل والمرأة وجود نظام الأسرة، وصار هذا النظام أساسا تقوم عليه كل جماعة؛ لأن الجماعة ليست إلا مجموعة من الأفراد، ولا يزال نظام الأسرة حتى في الدول الشيوعية عماد المجتمع وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.

وحاجة الإنسان الطبيعية الدائمة إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وأدوات السعي – لهذه ولغيرها من المنافع – دعته إلى تملك هذه الأشياء والاستئثار بها دون غيره من الناس لنفسه ولأسرته بعد أن اقتضى الحال وجود نظام الأسرة، وهكذا وجد نظام الملكية الفردية كما وجد نظام الأسرة، أوجدتهما طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء، وسيظل كلاهما قائما ما لم تتغير طبائع البشر وطبائع الأشياء، ولن تتغير حتى تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.

وقد اقتضى نظام الأسرة ونظام الملكية الفردية الاعتراف بشخصية الفرد وحريته وحقه في حماية نفسه وأسرته وملكه، ولكن ضعف الفرد وكثرة حاجاته وقلة وسائله وحاجته إلى التعاون مع غيره كل ذلك دعا إلى تكوين الجماعة.

وتكوين الجماعة يقتضي بطبيعته أن يكون للجماعة نظام اجتماعي تقوم الجماعة على مبادئه، ويبين حقوق الأفراد وواجباتهم.

والنظام الاجتماعي للجماعة يختلف باختلاف الجماعات، فالنظام الاجتماعي للجماعات الإسلامية يقوم على مبادئ الإسلام، والجماعات غير الإسلامية يقوم نظامها الاجتماعي على أساس الاشتراكية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو غير ذلك من الأنظمة الاجتماعية.

كذلك اقتضى تكوين الجماعة أن يقوم فيها نظام للحكم يصرف شئونها ويسهر على مصالحها ونظامها الاجتماعي؛ ويوفر الأمن لها في الداخل والخارج.

ونظام الحكم يختلف باختلاف البلاد، ففي بعض البلاد يكون الحكم جمهوريا وفي بعضها ملكيا إلى غير ذلك، وهكذا وجد نظام الحكم وكان وجوده نتيجة ضرورية لوجود الجماعة نفسها.

هذه هي الأنظمة الأربعة التي يقوم عليها كيان المجتمع، كل مساس بها يمس المجتمع في أصل وجوده ويهدم أهم مقوماته، ولذلك حرصت الشريعة الإسلامية على أن تحمي هذه النظم من كل اعتداء؛ لأن في حمايتها بقاء الجماعة وصلاحيتها للبقاء؛ ولأن كل تهاون في حمايتها يؤدي إلى انحلال الجماعة وسقوطها.

وقد تقصت الشريعة الاعتداءات الخطيرة التي يمكن أن تمس هذه الأنظمة فوجدتها تنحصر في جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية؛ وهي الزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة والحرابة والردة والبغي والقتل والجرح في حالتي العمد والخطأ15.

وعليه فإن العقوبات إنما شرعت للحفاظ على طهارة المجتمع وطهارة هذا الدين ومن يدينون به، وهي رادعة لكل من تسول له نفسه ارتكاب الشرور، فلا تساهل مع المخطئين ولا تعدي عليهم، ولا إباحة للمنكرات.

كما أن فرصة التوبة لا تغلق أبدا حتى يموت العبد، أو تقوم الساعة، وذلك باب عظيم لإغلاق الشر عن المجتمع الإسلامي كله؛ فالنفس التي تعصي ولا تجد لها إلى التوبة سبيلا تظل تعصي وتعصي، وتمرق في معصيتها، فلا يصاب المجتمع منها إلا بكل شر وخبث وأذى، وأما النفس التي يفتح أمامها باب التوبة ينصلح حالها، وتكون عضوا نافعا في هذا المجتمع ويؤمن الشر من جانبها؛ وعليه فإن فتح باب التوبة من الضمانات التي تؤمن المجتمع شر أولئك الذين يعصون الله وينساقون مع المعصية ويستمرئونها، فرجوعهم هو الضمان الوحيد لأمان المجتمع وسلامته.

الخلاصة:

السبب وراء انتشار الإسلام ما جاء به هذا الدين الحنيف من تعاليم، ومثل عليا، وقيم بناءة، وما يتمتع به منهجه من عوامل الجذب، فهو الدين الرباني الذي يجمع بين الوسطية والشمول والإنسانية، ومما يبرهن على ذلك أن الإسلام منذ وجد في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وحتى اليوم في تزايد مستمر، والعالم كله اليوم في تخوف وترقب من زيادة قوة هذا المارد الهائل الذي لايريدون له أن يقوم من مرقده، بل يريدون أن يزول أثره وأن ينتهي أمره.
أرسى الإسلام مبدأ “لا إكراه في الدين” وحمل أتباعه على ذلك، وطبقه النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته والمسلمون من بعدهم، ولا دليل على خلافه – عند من يزعم اعتناق بعض البشر للإسلام بالإكراه – لا في نصوص الدين ولا تاريخ المسلمين؛ بل إن المنصفين من غير المسلمين أكدوا على سماحة الإسلام، فمن أين يفتري هؤلاء المشككون هذا اللغط؟!
الإسلام دين السلام، وما شرعت الحرب فيه إلا لإقرار الأمن و السلام، ورفع العدوان ونصرة المستضعفين في الأرض وتحريرهم من أيدي الطغاة، إذن لا يوجد تناف بين دعوة الإسلام إلى حرية الاعتقاد والجهاد في سبيل الله عزوجل.
الإسلام شرع العقوبات والحدود والتعزير، وبالغ في ذلك، فلم يدع معصية واحدة لم يحرمها، ولم يدع سبيلا للشر إلا ونهى عنه، فأنى لمثل هذا الدين أن يتساهل في المنكرات ويسمح بها؟ بل إن الإسلام فتح باب التوبة ليغلق باب شر عظيم عن المجتمع، فلا ييأس أحد من التوبة، وينقلب بيأسه معول هدم في بناء المجتمع، بل يظل كل عاص يأمل في رحمة الله ومغفرته، مما يؤدي إلى إصلاح المجتمع واستقراره.

(*) ظلام من الغرب، محمد الغزالي، دار القلم، دمشق، ط1، 1420هـ/ 1999م. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 1981م. حرية الاعتقاد في الشريعة الإسلامية، عبد الله ناصح علوان، دار السلام، القاهرة، ط4، 2004م.

[1]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427/ 2006م، ص410.

2. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث تميم الداري رضي الله عنه (16998)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب إظهار دين النبي صلى الله عليه وسلم على الأديان (18400) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3).
3.مدخل لمعرفة الإسلام,د. يوسف القرضاوي,مكتبة وهبة,القاهرة,ط3, 1422هـ/ 2001م، ص133: 177 بتصرف.
4.الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.
5.الجامع لأحكام القرآن, القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج3، ص280.
6.سماحة الإسلام، د. عمر عبد العزيز قريشي، مكتبة الأديب، السعودية، ط1، 2003م، ص154.
7. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيينصلى الله عليه وسلم(3342)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (6101).

8 . أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1249).

9. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (13004)، وعبد بن حميد في مسنده، مسند أنس بن مالك (1216)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (9).
10. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم (1805)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب فضل الصيام (2762).
11. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب كراهية تمني لقاء العدو (6810)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كراهية تمني لقاء العدو بالصبر عند اللقاء (4640) بنحوه.
12. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8456)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب تحريم الدم، باب ما يفعل من تعرض لماله (3545)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1414).
13. الجهاد في الإسلام، محمد شديد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م ، ص119:
14. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب البنيان، باب الرفق (465) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).
15. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص610: 618.

دعوى أن الدين يكبل المشاعر ويكبت النشاط الحيوي في الإنسان

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن الالتزام بتشريعات الإسلام وتعاليمه يقيد الطاقة الخلاقة في الإنسان، ويكبت النشاط الحيوي فيه، ودليلهم على ذلك أن المتدينين ينتابهم الشعور بالإثم، ويظل ينكد عليهم حياتهم، ويخيل إليهم أن كل ما يصنعونه خطايا لا يطهرها إلا الامتناع عن ملذات الحياة.

وجها إبطال الشبهة:

1) مفهوم الكبت لا ينطبق على تعاليم الإسلام، فالكبت: استنكار الإنسان للدوافع ولو مارسها، أما الإسلام فلا يستقذر الدوافع الفطرية، بل يهذبها ويوجهها التوجيه الأمثل.

2) الإسلام يبعث السكنية والراحة في النفوس و القلوب، فأي نكد وأية مطاردة بشبح الخطيئة، وهو الدين الذي يمنح المغفرة قبل أن يذكر العذاب؟!

التفصيل:

أولا. مفهوم الكبت لا ينطبق على تعاليم الإسلام:

إن الدين الإسلامي دين خير ورحمة وبركة، وهو أبعد ما يكون عما ينسب إليه من انتقاصات وعيوب، كيف لا وهو هدية من رب الأرض والسماء إلى الأمة التي اصطفاها بخير شرع وخير كتاب وخير رسول صلى الله عليه وسلم؟!

وإن الويلات التي تعإني منها أوربا وأمريكا الآن منشؤها رغبتهم في التخلص من هذا الكبت، ففتحوا الأمر على مصراعيه، وما كان إلا أن انتشرت فيهم الأمراض، ومسخت الأخلاق، وضاع الحياء والعفة، وسقط بنيان المجتمع وتهدم من داخله، وضاع دور الأسرة، وضاع دور القانون، وأضاعوا دور الدين؛ فلم يبق لهم ضابط يحمون به أنفسهم من شر ما وقعوا فيه، وما استباحوا.

ولعل من أبرز الشواهد على ذلك ما حدث في السويد، ففيها الإباحية بأوضح صورها، وفيها أعلى نصيب للفرد من الراتب، وفيها تقدم علمي وحضاري، لكنها فقدت الدين؛ فكان فيها أعلى نسبة انتحار وجنون واكتئاب في العالم.

فلماذا؟! ألم يخلعوا عنهم رداء الكبت؟ ولماذا لايوجد مثل ذلك في البلاد المسلمة؟! أليست فيها أعلى نسبة كبت؟! وللإجابة عن هذه الأسئلة نعرض لكلام محمد قطب حيث يقول: مفهوم الكبت لاينطبق على تعاليم الإسلام، فهي ليست ضد الدوافع الفطرية، بل تهذبها وتوجهها التوجيه الأمثل وقبل أن نذكر شيئا عن كبت الإسلام للنشاط الحيوي أو عدم كبته له، ينبغي أن نعرف ما الكبت؛ لأن هذه اللفظة كثيرا ما يساء فهمها واستخدامها في كلام المثقفين أنفسهم، فضلا عن العوام والمقلدين.

فليس الكبت هو الامتناع عن العمل الغريزي كما يخيل للكثير، إنما ينشأ الكبت من استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وعدم اعتراف الإنسان بينه وبين نفسه أن هذا الدافع يجوز أن يخطر في باله أو يشغل تفكيره، والكبت بهذا المعنى مسألة لا شعورية، وقد لا يعالجها إتيان العمل الغريزي، فالذي يأتي هذا العمل وفي شعوره أنه يرتكب قذارة لا تليق به، شخص يعإني الكبت حتى ولو ارتكب هذا العمل عشرين مرة كل يوم؛ لأن الصراع سيقوم في داخل نفسه كل مرة بين ما عمله وما كان يجب أن يعمله، وهذا الشد في الشعور وفي اللاشعور هو الذي ينشئ العقد والاضطرابات النفسية.

ونحن لا نأتي بهذا التفسير لكلمة الكبت من عندنا، بل هو تفسير فرويد نفسه الذي أنفق حياته العلمية كلها في هذه المباحث، وفي التنديد بالدين الذي يكبت نشاط البشرية، فيقول: يجب أن نفرق تفريقا حاسما بين هذا – الكبت اللاشعوري – وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد تعليق للعمل.

والآن وقد عرفنا أن الكبت هو استقذار الدافع الغريزي وليس تعليق التنفيذ إلى أجل معين، نتحدث عن موقف الإسلام من ذلك.

هل في الإسلام كبت؟

ليس في أديان العالم ونظمه ما هو أشد صراحة من الإسلام في الاعتراف بالدوافع الفطرية، وتنظيف مكانها في الفكر والشعور، يقول القرآن الكريم: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14)( (آل عمران)، يجمع الله تعالى في هذه الآية شهوات الأرض ويقرر أنها أمر واقع مزين للناس، لا اعتراض عليه في ذاته، ولا إنكار على من يحس بهذه الشهوات.

صحيح أنه لا يبيح للناس أن ينساقوا مع هذه الشهوات إلى المدى الذي يصبحون فيه مستعبدين لها، لايملكون أمرهم منها، فالحياة لا تستقيم بهذا الوضع، والبشرية لا تستطيع أن تحقق طبيعتها التي تهدف إلى التطور الدائم نحو الارتفاع إذا هي ظلت عاكفة على ملذاتها تستنفد فيها كل طاقتها، وتتعود فيها على الهبوط والانتكاس نحو الحيوانية.

نعم لا يبيح الإسلام للناس أن يهبطوا لعالم الحيوان، ولكن هناك فرق هائل بين هذا وبين الكبت اللاشعوري، بمعنى استقذار هذه الشهوات في ذاتها ومحاولة الامتناع عن الإحساس بها رغبة في التطهر والارتفاع.

وطريقة الإسلام في معاملة النفس الإنسانية هي الاعتراف بالدوافع الفطرية كلها من حيث المبدأ وعدم كبتها في اللاشعور، ثم إباحة التنفيذ العملي لها في الحدود التي تعطي قسطا معقولا من المتاع وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله.

والضرر الذي يحدث للفرد من استغراقه في الشهوات هو إفناء طاقته الحيوية قبل موعدها الطبيعي، واستعباد الشهوات له، بحيث تصبح شغله الشاغل وهمه المقعد المقيم، فتصبح بعد فترة عذابا دائما، وجوعة دائمة لا تشبع ولا تستقر.

أما الضرر الذي يحدث للمجتمع فهو استنفاد الطاقة الحيوية التي خلقها الله لأهداف شتى، في هدف واحد قريب، وإهمال الأهداف الأخرى الجديرة بالتحقيق فضلا عن تحطيم كيان الأسرة، وفك روابط المجتمع وتحويله إلى جماعات متفرقة لا يجمعها رابط ولا هدف مشترك: )لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (14)( (الحشر)، مما يسهل على غيرهم غزوهم وتحطيمهم.

ضبط الشهوات ليس كبتا أو تحكما، بل هو توجيه لها في ظل تعاليم الشرع الحنيف:

في هذه الحدود – التي تمنع الضرر – يبيح الإسلام الاستمتاع بطيبات الحياة، بل يدعو إليه دعوة صريحة فيقول مستنكرا: )قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق( (الأعراف: ٣٢)، ويقول: )ولا تنس نصيبك من الدنيا( (القصص: ٧٧)، ويقول: )كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160)( (الأعراف).

بل يصل في صراحته في الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة – وهو مدار الحديث عن الكبت في الأديان – أن يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»[1]. فيرفع الإحساس الجنسي إلى درجة الطيب أزكى رائحة في الأرض، ويقرنها إلى الصلاة أزكى ما يتقرب به الإنسان لله، ويقول – صلى الله عليه وسلم – في صراحة كذلك: «وفي بضع أحدكم صدقة، فقال المسلمون متعجبين: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[2].

ومن هنا لا ينشأ الكبت إطلاقا في ظل الإسلام، فإذا أحس الشباب بالرغبة الجنسية الدافقة فليس في ذلك منكر، ولا يوجد داع لاستقذار هذا الإحساس والنفور منه، وإنما يطلب الإسلام من هذا الشباب أن يضبط هذه الشهوات فقط دون أن يكبتها، يضبطها في وعيه وبإرادته، وليس في لاشعوره، أي: يعلق تنفيذها إلى الوقت المناسب، وليس تعليق التنفيذ كبتا باعتراف فرويد، وليس فيه من إرهاق الأعصاب ما في الكبت وليس يؤدي مثله إلى العقد والاضطرابات النفسية.

وليست هذه الدعوة إلى ضبط الشهوات تحكما يقصد به الإسلام حرمان الناس من المتاع، فهذا هو التاريخ في الإسلام وفي غير الإسلام، يقرر أنه ما من أمة استطاعت أن تحافظ على كيانها وهي عاجزة عن ضبط شهواتها، والامتناع بإرادتها عن بعض المتاع المباح.

كما يقرر من الجانب الآخر أنه ما من أمة ثبتت في الصراع الدولي إلا كان أهلها مدربين على احتمال المشقات، قادرين على إرجاء ملذاتهم – أو تعليقها – متى تقتضي الضرورة ساعات أو أياما أو سنوات، ومن هنا كانت كلمة الصوم في الإسلام.

والمتحللون اليوم من التقدميين والتقدميات يحسبون أنفسهم قد اكتشفوا حقيقة هائلة حين يقولون: ما هذا السخف الذي يدعو إلى تعذيب الأبدان بالجوع والعطش، وحرمان النفس مما نتوق إليه من طعام وشراب ومتاع.. في سبيل لا شيء وإطاعة لأوامر تحكمية لاحكمة لها ولا غاية، ولكن ما الإنسان بلا ضوابط؟ وكيف يصبح إنسانا وهو لايطيق الامتناع سويعات عما يريد؟ وكيف يصبر على جهاد الشر في الأرض، وهذا الجهاد يتطلب منه حرمان نفسه من كثير؟

وهل كان الشيوعيون الذين يسخر دعاتهم في الشرق الإسلامي من الصيام وغيره من الضوابط التي تدرب النفوس – هل كانوا يستطيعون الصمود كما صمدوا في ستالنجراد لو أنهم لم يدربوا على احتمال المشقات العنيفة التي تعذب الأبدان والنفوس، أم أنهم )يحلونه عاما ويحرمونه عاما( (التوبة: ٣٧)، يحلونه حين يصدر الأمر به من الدولة؛ لأنها سلطة مرئية تملك العقاب السريع، ويحرمونه – هو ذاته – حين يصدر الأمر به من الله خالق الدول والأحياء.

وماذا في الإسلام من العبادات غير الصيام والصلاة؟ كم تستغرق من وقت المسلم التقي؟ هل تستغرق في الأسبوع كله أكثر مما تستغرق زيارة واحدة للسينما في كل أسبوع؟ وهل يضحي الإنسان بهذه الفرصة المتاحة للاتصال بالله، وتلقي المعونة منه والاطمئنان إليه إلا وفي قلبه مرض وفي نفسه انحراف.

ثانيا. الإسلام يبعث السكينة والسعادة في القلوب دائما وباب التوبة مفتوح، فلا تنكيد فيه، ولا مطاردة بشبح الخطيئة:

إن الخطيئة في الإسلام ليست غولا يطارد الناس ولا ظلاما دائما لا ينقشع، ولا يوجد في الإسلام ما يسمى خطيئة آدم الكبرى؛ فليست سيفا مسلطا على كل البشر ولا تحتاج إلى نداء ولا تطهير قال عزوجل: )فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37)( (البقرة)، هكذا في بساطة ودون أية إجراءات.

وأبناء آدم كأبيهم ليسوا خارجين من رحمة الله حين يخطئون فالله يعلم طبيعتهم فلا يكلفهم إلا وسعهم ولا يحاسبهم إلا في حدود طاقتهم، قال سبحانه وتعالى: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: ٢٨٦)، وقال صلى الله عليه وسلم:«كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»[3].

وآيات الرحمة والمغفرة والتوبة على العباد كثيرة في القرآن، ولكنا نختار منها هذه الآيات؛ لعمق دلالتها على رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء، قال سبحانه وتعالى: )وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)( (آل عمران)، ما أعظم رحمة الله – عزوجل – بعباده! فهل بعد ذلك شك في عفو الله – عزوجل – ومغفرته؟ أين يطارد العذاب نفوس الناس، والله يلقاهم بهذا العطف والترحيب بكلمة واحدة صادقة يقولونها: التوبة؟

وزيادة في تأكيد هذا المعنى الواضح نذكر هذا الحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»[4].

إنها إذن إرادة دائمة لله، أن يغفر للناس ويتجاوز عن سيئاتهم كما يقول عزوجل: )ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما (147)( (النساء)، نعم ما يفعل الله بتعذيب الناس، وهو الذي يحب أن يمنحهم الرحمة والغفران[5]؟!

الخلاصة:

  • الكبت ليس هو الامتناع عن العمل الغريزي، بل هو: استقذار الدافع الغريزي في ذاته، وهذا التعريف لا ينطبق على الإسلام؛ فالإسلام اعترف بالدوافع الفطرية ولكنه نظف مكانها في الفكر والشعور، وذلك لأنه يبيح التنفيذ العملي لهذه الدوافع، لكن في الحدود التي تعطي قسطا معقولا من المتاع، وتمنع وقوع الضرر سواء على فرد بعينه أو على المجموع كله.
  • الإسلام يبيح الاستمتاع بطيبات الحياة بل يدعو إليها، ويصل في صراحته إلى الاعتراف بالإحساس الجنسي خاصة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»[6]، ولكن كل ذلك في حدود “لاضرر ولا ضرار”.
  • الإسلام يبعث السكينة في النفوس والسعادة في القلوب والراحة في الصدور، فدائما باب التوبة والمغفرة مفتوح، فلا نكد فيه، ولا مطاردة بشبح الخطيئة.

(*) شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م.

[1]. حسن: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصيام، باب المرأة تصلي وليس في رقبتها قلادة وتطيب الرجال (7939)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (14069)، وحسنه الألباني في المشكاة (5261).

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2376).

[3]. حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب ذكر رحمة الله، باب ما ذكر في سعة رحمة الله تعالى (34216)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة (4251)، وحسنه الألبان في صحيح ابن ماجه (3428).

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة (7141).

[5]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص171 وما بعدها.

[6]. حسن: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصيام، باب المرأة تصلي وليس في رقبتها قلادة وتطيب الرجال (7939)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (14069)، وحسنه الألباني في المشكاة (5261).

دعوى تكفير بعض الحكام بحجة أنهم لا يحكمون بما أنزل الله، ووجوب الخروج عليهم

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله يعد كافرا، مما يستوجب الخروج عليه، ويستدلون على ذلك بقوله عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة).

وجوه إبطال الشبهة:

1) الحكم بالكفر يتوقف على توفر بينات من الأقوال والأفعال، ليس من بينها بالضرورة عدم تحكيم شرع الله؛ إذ قد ينتج ذلك عن ضعف عزيمة، أو ركون إلى شهوة، أو استبداد أو مصلحة دنيوية، مع عدم إنكار صلاحية شرع الله للتطبيق.

2) لتغيير المنكر – ومن صوره الخروج على الحاكم – مراتب، ولاستعمال القوة في سبيله شروط وضوابط، يجب أن تتوفر قبل الشروع في الخروج عليه، درءا للمفسدة وجلبا للمنفعة.

3)  هناك فرق شاسع بين نظرية الإمامة الشرعية في الفكر السياسي الإسلامي، وبين كثير من ملامح الخلافة التاريخية التي جرى بها الواقع التاريخي للأمة، وقد خلط كثيرون من المستشرقين المغالطين وتلامذتهم من المتغربين بين الأمرين؛ إما عمدا، وإما جهلا.

التفصيل:

أولا. بينات الحكم بالكفر ومدى انطباقها على من لم يحكم بشرع الله:

بدهي القول بأن العقيدة هي أعز ما يملك المسلم، ومن ثم فإن رميه بالكفر بها والمروق منها أمر دقيق شائك، بل عظيم خطر؛ فيجب التثبت فيه والتحوط والتدقيق قبل إطلاق الحكم، لما يترتب عليه من نتائج بالغة الخطورة، خصوصا إذا لم يكن الشخص المقصود فردا عاديا، وكان ولي أمر جماعة مسلمة أو حاكما من حكام المسلمين، لفرط حساسية الأمر وجسامة آثاره، ومن ثم فلا بد أن تقوم البينات الواضحات على الكفر، قبل الحكم به من قول: كصدور تعبير صريح يتضمن إنكارا لمعلوم من الدين بالضرورة وجحودا به، أو فعل: كسجود لصنم.

وبناء عليه فقد توقف العلماء وتحوطوا في مسألة الحكم بالكفر على الحاكم المسلم الذي لايحكم بما أنزل الله، ويقول الشيخ ابن باز في هذه القضية: “لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه. قال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، وقال عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).

فالكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، والفسق فسقان: أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها، فقد كفر كفرا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر وظلمه ظلما أصغر، وهكذا فسقه. أي: إن فعل ذلك من أجل الرشوة أو مقصد آخر وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم، ويعتبر كافرا كفرا أصغر لا يخرجه من الملة، كما أوضح ذلك أهل العلم في تفسير الآيات المذكورة.

فمن حكم بغير ما أنزل الله لا يخرج عن أربعة أمور:

· من قال: أنا أحكم بهذا – يعني القانون الوضعي – لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية، فهو كافر كفرا أكبر.

· من قال: أنا أحكم بهذا؛ لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بهذا جائز وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرا أكبر.

·  ومن قال: أنا أحكم بهذا، والحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرا أكبر.

·  ومن قال: أنا أحكم بهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يجوز، ويقول: الحكم بالشريعة أفضل، ولا يجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرا أصغر لا يخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر.

فإذا تقرر أنها مسألة اجتهادية، فإن التكفير للأعيان لا يكون في المسائل المتنازع فيها بين أهل السنة أنفسهم، وأن الخلاف مانع من تكفير المعينين.

ويؤكد هذ قول الإمام محمد بن عبد الوهاب: أركان الإسلام خمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة: فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود، ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان – أي تركهما – وقال النووي في كتابه “رياض الصالحين” في تفسيره “بواحا” – كفرا بواحا – أي: ظاهرا لا يحتمل تأويلا، ومما يؤكد هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، فالتكفير من باب أولى يدرأ بشبهة الخلاف، والله أعلم”[1].

ثانيا. قواعد الشريعة الإسلامية الضابطة لتغيير المنكر في فكر الإنسان وسلوكه:

لقد ربطت الشريعة الإسلامية بين دنيا الإنسان وأخراه، وبين عبادته وعمله، وبين فكره وسلوكه، وبين عقيدته ومعاملته، وبما أنها – بناء على هذا – قد اهتمت بولاية أمر الأمة ومن يسوسها ويقودها، وقالت بضرورة إقامة إمام لجماعة المسلمين، فقد حددت لهذا الإمام حقوقه وواجباته، وبينت مسئولياته وقيدت سلطته، فلم تدعها مطلقة بلا مراجعة أو محاسبة، سابقة – أي الشريعة الإسلامية – بذلك كل النظم القانونية الحديثة.

وحول نظرية “تقييد سلطة الحاكم في الشريعة الإسلامية” يقول د. عبد القادر عودة: جاءت الشريعة الإسلامية من يوم نزولها بنظرية تقييد سلطة الحاكم، فكانت أول شريعة قيدت سلطة الحكام، وحرمتهم حرية التصرف، وألزمتهم أن يحكموا في حدود معينة، ليس لهم أن يجاوزوها وجعلتهم مسئولين عن أخطائهم.

وتقوم النظرية على ثلاثة مبادئ أساسية:

1.  وضع حدود لسلطة الحاكم:

كانت سلطة الحاكم قبل نزول الشريعة الإسلامية سلطة مطلقة؛ لاحد لها ولا قيد عليها، وكانت علاقة الحاكمين بالمحكومين قائمة على القوة البحتة، ومن القوة كان الحاكم يستمد سلطانه، وعلى مقدار قوته كانت سلطته، فكلما كان قويا امتد سلطانه لكل شئ، وإن ضعف انكمشت سلطته وأصابها القصور والوهن، وكان الناس يدينون للحاكم بالطاعة، لا لأنه يحكمهم، بل لأنه أقوى منهم.

وجاءت الشريعة فاستبدلت بهذه الأوضاع البالية أوضاعا جديدة تتفق مع الكرامة الإنسانية والحاجات الاجتماعية، فجعلت أساس العلاقة بين الحكام والمحكومين تحقيق مصلحة الجماعة، لا قوة الحاكم أو ضعف المحكومين، وتركت للجماعة حق اختيار الحاكم الذي يرعى مصلحتها ويحفظها، وجعلت لسلطة الحاكم حدودا ليس له أن يتعداها، فإن خرج عليها كان عمله باطلا، وكان من حق الجماعة أن تعزله وتولي غيره لرعاية شئونها، وقد بينت الشريعة مهمة الحاكم في الشريعة أن يخلف رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ويسمى الحاكم في اصطلاح الفقهاء الإمام.

والإمامة أو الخلافة – كما يرى الفقهاء – عقد لا ينعقد إلا بالرضى والاختيار، وبموجب هذا العقد يلزم الإمام، أي الحاكم، أن يشرف على الشئون العامة للأمة في الداخل والخارج، بما يحقق مصلحتها، بشرط أن يكون ذلك كله في حدود ما أنزل الله على رسوله، وفي مقابل التزام الإمام للأمة بهذا الالتزام تلتزم له الأمة على لسان ممثليها الذين اختاروه إماما أن تسمع له، وتطيع أمره ما لم يتغير حاله، فيصبح فاسقا أو يعجز عن مباشرة عمله، فإذا تغيرت حاله انعزل بفسقه أو عجزه.

فسلطة الإمام – أي الحاكم في الشريعة – ليست مطلقة، وليس له أن يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، وإنما هو فرد من الأمة اختير لقيادتها، وعليه للأمة التزامات وله على الأمة حقوق، وله من السلطة ما يستطيع أن يؤدي به التزاماته ويستوفي به حقوقه، وهو في أداء واجباته واستيفاء حقوقه مقيد بأن لا يخرج على نصوص الشريعة أو روحها، وذلك طبقا لقوله عزوجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله( (المائدة: ٤٩)، وقوله عزوجل: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)( (الجاثية)، وقوله عزوجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، وقوله عزوجل: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء).

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا طاعة لمخلوق في معصية الله»[2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف»[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر – أي العبد المسلم – بالمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[4].

وبعد موت الرسول – صلى الله عليه وسلم – اختار المسلمون أبا بكر – رضي الله عنه – خليفة عليهم، فكانت أول خطبة يقولها تطبيقا دقيقا لهذه النصوص، حيث قال رضي الله عنه: “أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”[5].

وولي عمر أمر المسلمين بعد أبي بكر – رضي الله عنهما – فكان حريصا على إظهار معإني هذه النصوص وتثبيتها في الأذهان، خطب يوما فقال: “لوددت إني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن جنف قتلوه”، فقال طلحة: “وما عليك لوقلت: وإن تعوج عزلوه”، قال: “لا، القتل أنكل لمن بعده”[6].

هذه هي نظرية الشريعة التي جاءت بها في وقت كانت فيه سلطة الحاكمين على المحكومين سلطة مطلقة، وهذه النصوص التي تقوم عليها النظرية جاءت عامة إلى آخر حدود العموم، مرنة إلى آخر حدود المرونة، بحيث تنطبق في كل زمان ومكان، ولا تضيق بما يمكن أن يستجد من حالات.

2.  مسئولية الحاكم عن عدوانه وأخطائه:

لقد سبقت الشريعة الإسلامية بنظريتها كل القوانين الوضعية، في تقييد سلطة الحكام، وتعيين الأساس الذي تقوم عليه علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي تقرير سلطان الأمة على الحكام، وأول قانون وضعي اعترف بعد الشريعة بسلطان الأمة على الحكام هو القانون الإنجليزي، وكان ذلك في القرن السابع عشر، أي بعد أن قررت الشرعية نظريتها بأحد عشر قرنا، ثم جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وعلى أثرها انتشر هذا المبدأ في القوانين الوضعية.

وتسير القوانين الوضعية في تقرير النظرية على هدي الشريعة الإسلامية، فتجعل الحد بين الحاكمين والمحكومين الدستور الوضعي الذي يبين حقوق الأفراد والجماعات والحكام ومدى سلطة كل، كما جعلت النظرية الشرعية الحد بين الحاكمين والمحكومين نصوص الشريعة وهي الدستور الإسلامي[7].

وأقوال علماء الشريعة صريحة في أن للأمة حق القوامة على الحاكم، وهذه طائفة من أقوالهم في هذا الشأن:

· قال الشافعي: “الإمام ينعزل بالفسق والجور. وكذا كل قاض وأمير”.

· قال البغدادي: “ومتى زاغ عن ذلك كانت الإمامة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم، أو عدل عنهم”.

·  قال الماوردي: “ووجب له عليهم حقان ما لم يتغير حاله، والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، والثاني: نقص في بدنه”.

·  وقال الشهرستإني: “وإن ظهر بعد ذلك جهل أو جور أو ضلال أو كفر، انخلع منها أو خلعناه”.

·  وقال الغزالي: “إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان”.

·  وقال الإيجي: “وللأمة خلع الإمام وعزله، بسبب يوجبه”.

·  وقال ابن حزم: “فهو الإمام الواجب طاعته، ما قادنا بكتاب الله – عزوجل – وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن زاغ عن شيء منها منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه، خلع وولي غيره”.

ويعلق د. ضياء الدين الريس على هذه الأقوال بقوله: “فهذه مجموعة من أقوال بعض كبار الأئمة المجتهدين في الإسلام، وكلها تثبت إثباتا جازما أن الإمام الذي هو رأس الدولة، مسئول أمام الأمة، وأنه خاضع للقانون، وتقرر بكل جلاء أن الأمة قوامة عليه، ولها حق تقويمه أو عزله حين توجد الأسباب لذلك، فلها السلطة العليا وهي إذن صاحبة السيادة بالنسبة إليه”[8].

3.  تخويل الأمة حق عزل الحاكم:

قررت الشريعة إذا مسئولية الحاكم تقريرا واضحا، وقيدت سلطانه، فلم تتركه مهيمنا دون حد، وحدت من سلطته فلم تدعها مطلقة دون ضابط، والسؤال هنا: كيف يمكن إعمال هذه المبادئ السامية والتقريرات العامة على أرض الواقع؟ بمعنى: ما هي كيفية التطبيق العملي لهذه المبادئ النظرية؟ بطريقة أكثر تحديدا: هذا الحاكم محدد المسئولية غير مطلق السلطة فمن يراقبه ويحكم بجوره إن جار؟ ومن ثم يدعو للخروج عليه ومحاولة عزله، إن لم ينعزل من تلقاء نفسه، ومن الذي يقدر أنه ارتكب منكرا تجب إزالته؟ وبأية وسيلة؟ وعلى أي أساس؟ وبأية ضوابط نسلك هذا السبيل أو ذاك من سبل تغيير هذا المنكر؟ من يحدد كل ذلك ويدعو لتنفيذه؟ حتى لايصير الأمر فوضى، ونفسد من حيث ابتغينا الإصلاح.

حول هذه المعإني سئل فضيلة د. القرضاوي السؤال الآتي: اشتد الجدل في هذه الأيام حول قضية من أهم القضايا وأشدها خطرا، وهي قضية تغيير المنكر بالقوة، ومن له الحق في التغيير؟ ومتى يجوز ذلك؟

فمن الناس من يقول: إن هذا الحق لولي الأمر فقط، أي هو من وظائف الدولة لا من وظائف الأفراد، وإلا كان الأمر فوضى، وحدث من الفتن ما لا يعلم نتائجه إلا الله – عزوجل – وآخرون يجعلون ذلك من حق كل مسلم بل من واجبه، استنادا إلى الحديث النبوي الذي يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[9].

فالحديث يجعل التغيير واجبا على كل من رأى المنكر باليد أولا، فإن عجز فباللسان، وإلا فبالقلب، وذلك أضعف الإيمان، فمن قدر على أقوى الإيمان، فلماذا يرضى بأضعفه؟

وهذا ما حفز بعض الشباب المتحمس لتغيير ما يرونه منكرا بأيديهم بدون مبالاة بالعواقب، على أن ولي الأمر أو الدولة نفسها قد تكون هي فاعلة المنكر، أو حاميته، قد تحل الحرام أو تحرم الحلال، أو تسقط الفرائض أو تعطل الحدود أو تعادي الحق أو تروج للباطل، فهنا يكون على الأفراد تقويم عوجها بما استطاعوا من قوة، فإن أوذوا ففي ذات الله، وإن قتلوا ففي سبيل الله، وهم شهداء بجوار حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، كما جاء في الحديث.

وقد اختلط الأمر على كثير من الناس، وبخاصة الشباب المتدين الغيور… وأملنا أن تعطوا بعض الوقت لهذه القضية، حتى يتبين لنا الصواب.

وقد أجاب د. يوسف القرضاوي إجابة مستفيضة، جاء فيها: “من الفرائض الأساسية في الإسلام، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الفريضة التي جعلها الله – عزوجل – أحد عنصرين رئيسيين في تفضيل هذه الأمة وخيريتها)كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران:١١0)، ومن الصفات الأساسية للمؤمنين في نظر القرآن)التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)( (التوبة)، وكما مدح القرآن الآمرين الناهين، ذم الذين لايأمرون بالمعروف، ولا يتناهون عن المنكر، كما قال عزوجل)لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة)، والمسلم بهذا ليس مجرد إنسان صالح في نفسه، يفعل الخير ويدع الشر ويعيش في دائرته الخاصة، لا يبالي بالخير وهو يراه ينزوي ويتحطم أمامه، ولا بالشر وهو يراه يعشش ويفرخ من حوله.

بل المسلم – كل مسلم – إنسان صالح في نفسه، حريص على أن يصلح غيره، وهو الذي صورته تلك السورة الموجزة من القرآن، سورة العصر: )والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)( (العصر).

فلا نجاة للمسلم من خسران الدنيا والآخرة، إلا بهذا التواصي بالحق والصبر، الذي قد يعبر عنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو حارس من حراس الحق والخير في الأمة. فكل منكر يقع في المجتمع الإسلامي، لا يقع إلا في غفلة من المجتمع المسلم، أو ضعف وتفكك منه، ولهذا لا يستقر ولا يستمر، ولا يشعر بالأمان، ولا يتمتع بالشرعية بحال.

ضوابط تغيير المنكر، وشروط استعمال القوة في دفع الضرر:

المنكر – أي منكر – يعيش مطاردا في البيئة المسلمة، كالمجرم المحكوم عليه بالإعدام أو السجن المؤبد، إنه قد يعيش ويتنقل، ولكن من وراء ظهر العدالة، وبالرغم من المجتمع، والمسلم إذن مطالب بمقاومة المنكر ومطاردته، حتى لا يكتب له البقاء – بغير حق – في أرض ليست أرضه، ودار ليست داره، وقوم ليسوا أهله.

ومن هنا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، والحديث واضح الدلالة في أن تغيير المنكر من حق كل من رآه من المسلمين، بل من واجبه… وقد كان – صلى الله عليه وسلم – هو الإمام والرئيس والحاكم للأمة، ومع هذا أمر من رأى منهم – وهم المحكومون – منكرا أن يغيروه بأيديهم، متى استطاعوا، حين قال: “من رأى منكم منكرا”.

شروط تغيير المنكر:

كل ما هو مطلوب من الفرد المسلم – أو الفئة المسلمة – عند التغيير، أن يراعي الشروط التي لا بد منها، والتي تدل عليها ألفاظ الحديث، وهي:

1. أن يكون محرما مجمعا عليه: أي أن يكون منكرا حقا، ونعني هنا المنكر الذي يطلب تغييره باليد أولا، ثم باللسان، ثم بالقلب عند العجز، ولا يطلق “المنكر” إلا على “الحرام”، الذي طلب الشارع تركه طلبا جازما، بحيث يستحق عقاب الله من ارتكبه، وسواء أكان الحرام فعل محظور أم ترك مأمور، وسواء أكان الحرام من الصغائر أم من الكبائر، وإن كانت الصغائر قد يتساهل فيها ما لا يتساهل في الكبائر، ولا سيما إذا لم يواظب عليها، وقد قال عزوجل: )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)( (النساء)، وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر»[10].

فلا يدخل في المنكر إذن المكروهات، أو ترك السنن والمستحبات، وقد صح في أكثر من حديث «أن رجلا سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – عما فرض الله عليه في الإسلام؟ فذكر له الفرائض من الصلاة والزكاة والصيام، وهو يسأل بعد كل منها: هل علي غيرها؟ فيجيبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إلا أن تطوع”، حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والله يا رسول الله، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق»[11]. وفي رواية أخرى: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا»[12].

لا بد إذن أن يكون المنكر في درجة “الحرام”، وأن يكون منكرا شرعيا حقيقيا، أي ثبت إنكاره بنصوص الشرع المحكمة، أو قواعده القاطعة، التي دل عليها استقراء جزئيات الشريعة، وليس إنكاره بمجرد رأي أو اجتهاد، قد يصيب أو يخطئ، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وكذلك يجب أن يكون مجمعا على أنه منكر، فأما ما اختلف فيه العلماء المجتهدون قديما أو حديثا، بين مجيز ومانع، فلا يدخل دائرة “المنكر”، الذي يجب تغييره باليد، وخصوصا للأفراد.

فإذا اختلف الفقهاء في حكم التصوير، أو الغناء بآلة، وبغير آلة، أو في كشف وجه المرأة وكفيها، أو في تولي المرأة القضاء ونحوه، أو في إثبات الصيام والفطر برؤية الهلال في قطر آخر بالعين المجردة، أو بالمرصد أو بالحساب أو غير ذلك من القضايا التي طال فيها الخلاف قديما وحديثا. لم يجز لإنسان مسلم، أو لطائفة مسلمة أن تتبني رأيا من الرأيين، أو الآراء المختلف فيها، وتحمل الآخرين عليه بالعنف.

حتى رأي الجمهور والأكثرية لا يسقط رأى الأقل، ولا يلغي اعتباره، حتى لو كان المخالف واحدا، ما دام من أهل الاجتهاد، وكم من رأي مهجور في عصر ما، أصبح مشهورا في عصر آخر.

وكم ضعف رأي لفقيه، ثم جاء من صححه ونصره وقواه، فأصبح هو المعتمد والمفتي به.

وهذه آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، في الطلاق وأحوال الأسرة، قد لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت تقاوم قرونا عدة بعد وفاته، ثم هيأ الله لها من نشرها وأيدها، حتى غدت عمدة الإفتاء والقضاء والتقنين في كثير من الأقطار الإسلامية.

إن المنكر الذي يجب تغييره بالقوة لا بد أن يكون منكرا بينا ثابتا، اتفق أئمة المسلمين على أنه منكر، وبدون ذلك يفتح باب شر لا آخر له، فكل من يرى رأيا يريد أن يحمل الناس عليه بالقوة!

في بعض الأقطار الإسلامية قام مجموعة من الفتيان المتحمسين لتحطيم المحلات التي تبيع العرائس واللعب للأطفال؛ لأنها أصنام، وصور مجسمة تعتبر من أكبر الكبائر!

ولما قيل لهم: إن العلماء من قديم أجازوا لعب الأطفال، لما فيها من امتهان الصورة، وانتفاء تعظيمها.. إلخ، قالوا: كان هذا في صور غير هذه الصور المتقنة التي تفتح عينيها وتغلقها.

قيل لهم: ولكن الطفل يرمي بها يمينا وشمالا، ويخلع ذراعها ورجلها، ولايمنحها أي قدر من التعظيم أو التقديس.. لم يجدوا جوابا!

وفي بلاد إسلامية أخرى قام بعض الشباب يحاول أن يغلق المطاعم ومحلات العصير والقهوة ونحوها بالقوة، حين أعلنت بعض الأقطار الإسلامية بدء الصيام، ورؤية الهلال، فرأى هؤلاء المتحمسون أن رمضان قد ثبت، فلا يجوز المجاهرة بالإفطار.

ومثل ذلك ما قام بعض الشباب المسلم الغيور في مصر في أحد أعياد الفطر حيث ترجح لدى الجهات الشرعية في مصر عدم ثبوت شوال لاعتبارات شتى؛ منها قطع الفلك أن من المستحيل رؤية الهلال تلك الليلة، ولم ير الهلال في مصر، ولكن بعض الأقطار أعلنت رؤية الهلال، فأصر هؤلاء على أن يفطروا ويقيموا شعائر العيد وحدهم، ضد الدولة، وأغلبية الأمة، وحدث من جراء ذلك صدام مع أجهزة الأمن لامبرر له.

ورأيي – الكلام للدكتور القرضاوي – أن هؤلاء وأولئك أخطئوا من جملة أوجه:

· أن الفقهاء مختلفون في طريق إثبات الهلال، فمنهم من اكتفى بشاهد واحد، ومنهم من طلب شاهدين، ومنهم من اشترط في حالة الصحو شهادة الجم الغفير، ولكل أدلته ووجهته، فلا يجوز إجبار الناس على مذهب واحد، من غير ذي سلطة.

· أنهم اختلفوا كذلك في مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتبارها، وفي عدد من المذاهب أن لكل بلد رؤيته، ولا يلزم بلد برؤية بلد آخر، وهو مذهب ابن عباس ومن وافقه، كما هو معروف من حديث كريب في صحيح مسلم.

· أن حكم الإمام أو القاضي في الأمور الخلافية يرفع الخلاف، ويلزم الأمة اتباعه.

ولهذا إذا أخذت السلطات الشرعية بقول إمام أو اجتهاد مذهب في هذه القضايا فالواجب اتباعها، وعدم تفريق الصف.

وقد قلت في بعض ما أفتيت به: إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين جميعا في الصيام والفطر، فعلى الأقل يجب أن يتحد أهل البلد الواحد في شعائرهم، فلا يقبل بحال أن ينقسم أهل البلد الواحد إلى فريقين: فريق صائم وفريق مفطر.

ولكن هذا الخطأ في الاجتهاد من شباب مخلصين لا يقاوم بالرصاص، بل بالإقناع.

2. ظهور المنكر: أي أن يكون المنكر ظاهرا مرئيا، فأما ما استخفى به صاحبه عن أعين الناس وأغلق عليه بابه، فلا يجوز لأحد التجسس عليه، بوضع أجهزة التصنت عليه، أو كاميرات التصوير الخفية، أو اقتحام داره عليه لضبطه متلبسا بالمنكر.

وهذا ما يدل عليه لفظ الحديث: «من رأى منكم منكرا فليغيره…»، فقد ناط التغيير برؤية المنكر ومشاهدته، ولم ينطه بالسماع عن المنكر من غيره.

وهذا لأن الإسلام يدع عقوبة من استتر بفعل المنكر ولم يتبجح به إلى الله – عزوجل – يحاسبه في الآخرة، ولم يجعل لأحد عليه سبيلا في الدنيا، حتى يبدي صفحته ويكشف ستره.

حتى إن العقاب الإلهي ليخفف كثيرا على من استتر بستر الله، ولم يظهر المعصية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»[13].

لهذا لم يكن لأحد سلطان على المنكرات الخفية، وفي مقدمتها معاصي القلوب من الرياء والنفاق والكبر والحسد والشح والغرور ونحوها. وإن اعتبرها الدين من أكبر الكبائر ما لم تتجسد في عمل ظاهر، وذلك لأننا أمرنا أن نحكم بالظواهر، ونكل إلى الله – عزوجل – السرائر.

ومن الوقائع الطريفة التي لها دلالتها في هذا المقام ما وقع لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ما حكاه الغزالي في كتاب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من “الإحياء”: أن عمر – رضي الله عنه – تسلق دار رجل، فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد، فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه، فقال: وما هي؟ قال: قد قال الله عزوجل: )ولا تجسسوا( (الحجرات: ١٢) وقد تجسست، وقال عزوجل: )وأتوا البيوت من أبوابها( (البقرة: ١٨٩)، وقد تسورت من السطح، وقال عزوجل: )لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: ٢٧)، وما سلمت، فتركه عمر – رضي الله عنه – وشرط عليه التوبة.

3. القدرة الفعلية على التغيير: أي أن يكون مريد التغيير قادرا بالفعل – بنفسه أو بمن معه من أعوان – على التغيير بالقوة. بمعنى أن يكون لديه قوة مادية أو معنوية تمكنه من إزالة المنكر بسهولة.

وهذا الشرط مأخوذ من حديث أبي سعيد أيضا؛ لأنه قال: “فمن لم يستطع فبلسانه” أي: فمن لم يستطع التغيير باليد، فليدع ذلك لأهل القدرة، وليكتف هو بالتغيير باللسان والبيان، إن كان في استطاعته.

وهذا في الغالب إنما يكون لكل ذي سلطان في دائرة سلطانه، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه وبناته، الذين يعولهم ويلي عليهم، وصاحب المؤسسة في داخل مؤسسته، والأمير المطاع في حدود إمارته أو سلطته، وحدود استطاعته وهكذا.

وإنما قلنا: القوة المادية أو المعنوية؛ لأن سلطة الزوج على زوجته أو الأب على أولاده، ليست بما يملك من قوة مادية، بل بما له من احترام وهيبة تجعل كلمته نافذة، وأمره مطاعا.

وهنا تظهر مشكلة ما إذا كان المنكر من جانب الحكومة أو الدولة، التي تملك مقاليد القوة المادية والعسكرية، ماذا للأفراد والفئات أو عليهم أن يعملوا لتغيير المنكر الذي ترتكبه السلطة أو تحميه؟

والجواب: أن عليهم أن يملكوا القوة التي تستطيع التغيير، وهي في عصرنا إحدى ثلاث:

· القوات المسلحة: التي يستند إليها كثير من الدول في عصرنا – ولا سيما في العالم الثالث – في إقامة حكمها، وتنفيذ سياستها، وإسكات خصومها بالحديد والنار، فالعمدة لدى هذه الحكومات ليس قوة المنطق، بل منطق القوة، فمن كان معه هذه القوات استطاع أن يضرب بها كل تحرك شعبي يريد التغيير، كما رأينا ذلك في بلاد شتى آخرها في الصين، وإخماد ثورة الطلبة المطالبين بالحرية.

· المجلس النيابي: الذي يملك السلطة التشريعية، وإصدار القوانين وتغييرها، وفقا لقرار الأغلبية، المعمول به في النظام الديمقراطي، فمن ملك هذه الأغلبية – في ظل نظام ديمقراطي حقيقي غير مزيف – أمكنه تغيير كل ما يرى من منكرات بوساطة التشريع الملزم، الذي لايستطيع وزير، ولا رئيس حكومة، ولا رئيس دولة أن يقول أمامه: لا.

· قوة الجماهير الشعبية العارمة التي تشبه الإجماع: والتي إذا تحركت لايستطيع أحد أن يواجهها، أو يصد مسيرتها؛ لأنها كموج البحر الهادر أو السيل العرم، لايقف أمامه شيء، حتى القوات المسلحة نفسها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذه الجماهير ليسوا إلا أهليهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم.

فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث، فما عليه إلا أن يصبر، ويصابر ويرابط، حتى يملكها، وعليه أن يغير باللسان، والقلم، والدعوة والتوعية والتوجيه، حتى يوجد رأيا عاما قويا يطالب بتغيير المنكر، وأن يعمل على تربية جيل طليعي مؤمن يتحمل تبعة التغيير.

وهذا ما يشير إليه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما خطب فقال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: )عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( (المائدة:105) وتضعونها على غير ما وضعها الله، وإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه»[14].

4. عدم خشية منكر أكبر: أي ألا يخشى من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر منه، كأن يكون سببا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، وتنتهك الحرمات، وتنتهب الأموال، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكنا، ويزداد المتجبرون تجبرا وفسادا في الأرض.

ولهذا قرر العلماء مشروعية السكوت على المنكر مخافة ما هو أنكر منه وأعظم، ارتكابا لأخف الضررين، واحتمالا لأهون الشرين.

فقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعائشة – رضي الله عنها -: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين»[15].

وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك؛ ففي قصة موسى – عليه السلام – مع بني إسرائيل، حين ذهب إلى موعده مع ربه، الذي بلغ أربعين ليلة، وفي هذه الغيبة فتنهم السامري بعجله الذهبي، حتى عبده القوم، ونصحهم أخوه هارون عليه السلام، فلم ينتصحوا وقالوا: )قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91)( (طه).

وبعد رجوع موسى – عليه السلام – ورؤيته لهذا المنكر البشع – عبادة العجل – اشتد على أخيه في الإنكار، وأخذ بلحيته يجره إليه من شدة الغضب، قال عزوجل: )قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)( (طه)، ومعنى هذا: أن هارون – عليه السلام – قدم الحفاظ على وحدة الجماعة في غيبة أخيه الأكبر، حتى يحضر، ويتفاهما معا كيف يواجهان الموقف الخطير بما يتطلبه من حزم وحكمة.

هذه هي الشروط الأربعة التي يجب أن تتوافر لمن يريد تغيير المنكر بيده، وبتعبير آخر: بالقوة المادية المرغمة.

تغيير المنكرات الجزئية ليس علاجا:

وينبه د. يوسف القرضاوي على قضية في غاية الأهمية لمن يشتغلون بإصلاح حال المسلمين، وهي أن التخريب الذي أصاب مجتمعاتنا، وخلال عصور التخلف، وخلال عهود الاستعمار الغربي، وخلال عهود الطغيان والحكم العلماني، تخريب عميق ممتد، لا يكفي لإزالته تغيير منكرات جزئية، كحفلة غناء، أو تبرج امرأة في الطريق، أو بيع أشرطة كاسيت أو فيديو تتضمن ما لا يليق أو ما لا يجوز.

إن الأمر أكبر من ذلك وأعظم، لا بد من تغيير أشمل وأوسع وأعمق، تغيير يشمل الأفكار والمفاهيم، ويشمل القيم والموازين، ويشمل الأخلاق والأعمال، ويشمل الآداب والتقاليد، ويشمل الأنظمة والتشريعات.

وقبل ذلك لا بد أن يتغير الناس من داخلهم بالتوجيه الدائم، والتربية المستمرة، والأسوة الحسنة، فإذا غير الناس ما بأنفسهم كانوا أهلا لأن يغير الله ما بهم وفق السنة الثابتة)إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: ١١).

ضرورة الرفق في تغيير المنكر:

ينبغي لمن يريد تغيير المنكر ضرورة الرفق في معالجة المنكر، ودعوة أهله إلى المعروف، فقد أوصانا الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرفق، وبين لنا أن الله يحبه في الأمر كله، وأنه ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

ومما يناسب المقام هنا ما ذكره الغزالي في “الإحياء”: أن رجلا دخل على المأمون ليأمره وينهاه، فأغلظ عليه القول، وقال له: يا ظالم، يا فاجر… إلخ. وكان المأمون على فقه وحلم، فلم يعاجله بالعقاب كما يفعل كثير من الأمراء، بل قال له: يا هذا، ارفق، فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر منى وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون – عليهما السلام – وهما خير منك، إلى فرعون وهو شر منى، فقال لهما: )اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)( (طه)، وهذا التعليل بحرف الترجي: )لعله يتذكر أو يخشى( برغم ما ذكره الله – عزوجل – من طغيان فرعون )إنه طغى( دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يفقد الأمل فيمن يدعوه مهما يكن كفره وظلمه، ما دام مستخدما طريق اللين والرفق، لا طريق الخرق والعنف[16].

وضح لدينا الآن أن تكفير الحاكم، ومن ثم إجازة الخروج عليه، ليس منوطا بأي أحد، وإنما هو أمر يقرره أهل الاجتهاد المؤتمنين ببينات واضحات، وأن لتغيير المنكر مراتب، وتحكمه ضوابط، وذلك كله بعد أن حددت الشريعة للحاكم مسئولياته وأبانت له عن حقوقه وواجباته لتلزمه الحجة إن جار وفجر أو بدل وغير.

ثالثا. الفرق الشاسع بين “نظرية الإمامة الشرعية” في الفكر السياسي الإسلامي، وبين التطبيق التاريخي لهذه النظرية:

ليس صحيحا ما يزعمه بعض المستشرقين من أن سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة وسلطانه غير محدود، ومن ثم فلا راد لرأيه ولا معقب لحكمه، وقد أوقعهم في هذا الخلط – إما جهلا وإما عمدا – عدم التفرقة بين مبادئ النظام السياسي في الإسلام، أي نظرية الإمامة أو الخلافة كما أوردت أحكامها الشريعة الإسلامية – وبين الخلافة التاريخية أو الواقع التاريخي الذي جرى على مستوى سلطة الحكم على مر عصور التاريخ الإسلامي، والذي حاد فيه كثيرا أهل السلطان عن مبادئ القرآن، وقد أوقع ذلك في وهمهم أن الشريعة الإسلامية تؤيد سلطان المستبدين، وتجيز أن يطلق لهيمنتهم العنان دون ضابط أو رادع، وقد اتهم فقهاء أهل السنة بالذات بأنهم يناصرون الحاكم الظالم الغشوم، ويحضون على الخضوع له والاستكانة تجاه مفاسده وجرائمه.

وهناك فرق شاسع بين نظرية الإمامة الشرعية ومجريات الخلافة التاريخية، فالحق أن الجهة منفكة بين المبادئ النظرية السامية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في قضية الإمامة، وبين الواقع التاريخي الذي جرى في تولي منصب الخلافة.

يستبين لنا هذا الفرق واضحا عندما نقارن بين السلوك التطبيقي للمبادئ السامية في تولى الراشدين الخلافة في صور متعددة، لكنها حققت جميعا مبدأ جوهريا هو الشورى والاختيار الحر.

وفي رد الفاروق عمر – رضي الله عنه – في لحظة استشهاده – وقد حصر أمر الخلافة في الستة بقية العشرة المبشرين بالجنة – على من أشار عليه بأن يضم إليهم ابنه عبد الله، فكان رده على هذا المشير: “قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟! لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فشرعنا آل عمر، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافا لا وزر ولا أجر إني لسعيد”[17].

أقول يتبين الفرق بين المبادئ النظرية السامية وتطبيقاتها الراشدة، وبين الواقع التاريخي المنحرف المجافي لهذه المبادئ – بشكل أو بآخر – الذي جرى بعد ذلك على مر عصور تاريخ المسلمين، كأن نجد – في مقابل تورع الفاروق وتحاميه للشبهات – من ولاة الأمر من حرص أن يعهد بالخلافة بعده لابن أو اثنين من ولده، بغض النظر عن مدى صلاحيتهم للاطلاع بمسئولياتها الجسام.

ويحلل د. ضياء الدين الريس هذه القضية بشكل واضح ويرفع اللبس ويزيل الإشكال فيقول: “فإذا كانت مسئولية الإمام قد تقررت على هذا النحو، وقد أوردنا النصوص القاطعة، واستشهدنا بالآيات والأحاديث التي تثبتها، وقد تبين لنا أنها مسئولية مزدوجة؛ فهو مسئول أمام الأمة وأمام الله، فإذا خرج عن الجادة بظلم أو ارتكاب للمعصية، أصبح معرضا: إما لأن يقام عليه الحد، وإما لأن يفقد منصبه إذا شاءت الأمة أن تعزله، ولأن يحل به غضب الله ويعاقب على أعماله إما في الآخرة أو في الآخرة والدنيا معا، كما قال الله – عزوجل – إذ ضرب المثل بمن حقت عليهم نقمته في هذه الدنيا: )وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45)( (إبراهيم)، وأيضا: )وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11)( (الأنبياء).

إذا كان كل ذلك قد تقرر، فإنه يظهر لنا إذن مدى جسامة الخطأ الذي وقع فيه كبار المستشرقين، حين تحدثوا عن طبيعة الدولة الإسلامية، وعن حدود سلطة الإمام وعلاقته بالرعية، وها نحن أولاء نروي بعض أقوالهم: أما الأستاذ مرجليوث فقد قال: “أيا كان الحاكم الإمام الذي يستقر الرأي على الاعتراف له، فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أية حقوق ضد رئيس الجماعة القائم”؛ ثم يصرح بهذا: “إن الحاكم – يقصد الإمام – ليس مسئولا أمام أحد”، وهو يضرب المثل لذلك بأن الإمام إذا قتل أحد أفراد رعيته فإنه لا يكون مسئولا أمام أحد عن ارتكاب جريمة القتل! فهل يمكن أن يقول الإسلام بذلك؟ وهل مثل هذا الكلام – الذي لا يوجد ما هو أدل منه على الجهل بالإسلام ومبادئه، أو على وجود شعور عميق بالعداء نحوه – يستحق المناقشة أو الرد؟!

ويقول الأستاذ ماكدونالد: “لا يمكن – على الإطلاق – أن يكون الإمام حاكما دستوريا، بالمعنى الذي نعرفه”، ومعنى أن يكون حاكما دستوريا: أن يكون مقيدا بقانون، وللأمة عليه سلطان، فهل الإمام الذي هو مقيد في كل تصرفاته واتجاهاته بأحكام الشريعة، والذي يتولى سلطته من الأمة، وهو مسئول أمامها – كما قررناه بالأدلة الدامغة التي قدمناها – لا يمكن أن يكون حاكما دستوريا، على الإطلاق، كما يقول صاحب هذا الزعم؟

وربما كان من العوامل التي دعت المستشرقين إلى الوقوع في هذا الخطأ الجسيم، أنهم قصروا نظرهم على حالة الضرورة، وما صرح به الفقهاء بشأنها، بينما كان ينبغي أن لا تعتبر هذه الحالة إلا أنها حالة شاذة أو حالة استثنائية – وهو الاستثناء الذي كما يقولون ينهض دليلا على صحة القاعدة – فإن هؤلاء المستشرقين – ومثلهم أيضا بعض ذوي الأهواء ممن كان لهم مقصد أن يوجهوا نقدا إلى النظام السياسي كما حددت معالمه النظريات الإسلامية – قد أخذوا هذا الاستثناء على أنه هو القاعدة العامة، وعرضوا الشاذ الذي لم يلجأ إليه إلا بحكم الضرورة على أنه الطبيعي المطرد.

ولذا ينبغي تحقيق هذه الحالة، أي حالة الضرورة، التي تقام فيها إمامة على غير ما توجب القواعد، وليست مستوفية للشروط، ولكنها مفروضة بحكم الواقع، وهي متصرفة فعلا، في شئون المسلمين، ولها كل الأثر على مصالحهم، سواء أكان الإفتاء النظري في صالحها، أو مناهضا لقيامها.

إنه لما طال العهد على الجماعات الإسلامية، منذ انقضى العصر الذي وجدت فيه الخلافة الصحيحة، التي تستحق أن توصف بأنها “شرعية”، وكانت العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية – وفق ما ظهرت في دائرة الواقع – قد أثبتت أن إمكانية عودة مثل تلك الخلافة قد أصبحت بعيدة ما بقيت تلك العوامل كما هي إلا في ظروف خاصة، وإلا إذا تغيرت تلك العوامل، أو وجدت مؤثرات أخرى، فإن علماء الشريعة لم يجدوا أمامهم إلا هذه الخلافة التي فرضها الواقع، وكان من الأغراض التي يحرصون عليها أن يظل القانون – بقدر الإمكان – مسايرا للحالة الواقعية، أو لحاجات المجتمع، فإنهم وجدوا أنفسهم بين أمرين:

أن يحكموا بأن تلك الإمامة غير شرعية – مع أنها هي القائمة بالفعل مهما يكن الرأي فيها – باطلة، وأنها غير منعقدة، ويكون من النتائج التي تترتب على ذلك أن يحكموا أيضا ببطلان تصرفات كل القضاة والولاة والعاملين في مصالح المسلمين الذين تولوا سلطاتهم بمقتضى إذن أو عقد الإمام لهم، فوق بطلان كل تصرفات هذا الإمام نفسه، معنى ذلك أنهم يحكمون بإيقاف كل أوجه النشاط والمبادلات والمعاملات التي تتكون منها الحياة الاجتماعية للجماعة، ويكون هذا بمثابة إعلان بأن الحياة الاجتماعية لها منعدمة، وأنها ليست لها صفة سياسية أو يجمعها أي نظام، فهم إذن حكموا عليها بالإعدام من الوجهتين السياسية والاجتماعية.

وإما أن يجدوا أن الأوفق أن إكساب هذا النظام القائم بالفعل صفة قانونية، وينظروا إلى الأمور نظرة واقعية، حتى يمكن أن ينقذوا ما يمكن أو ما يجب إنقاذه، من أوجه نشاط الجماعة وتصرفاتها متى تجيء موافقة للشرع، ويجتنبوا خطورة التورط في الحكم بانعدام الجماعة أو فنائها كوحدة سياسية واجتماعية، ولكن مع الحرص على الإعلان في نفس الوقت بأن هذه حالة ضرورة وأن هذا الاعتراف ليس إلا اعترافا بالأمر بعد وقوعه، وأنه لا ينشيء مبدأ ولا يقرر قاعدة، وأنه اعتراف موقوت لا يبقى إلا ببقاء حالة الاضطرار وأن الواجب أن يعملوا على وضع حد لهذه الحالة وإنهاء حالة الاضطرار، وقد وازن الفقهاء بين الأمرين، فوجدوا أن الأمر الثاني هو بلا شك، أخف الاثنين ضررا وأن خطورته أقل نسبيا، وكعادتهم في أنهم يتحملون الشر الأقل من أجل دفع الشر الأكثر، فإنهم قد قرروا هذا الأمر الثاني.

هذه هي الحالة التي وجد الفقهاء أنفسهم فيها، حينما وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الحكم بانعقاد إمامة المتغلب، الذي لم يستمد سلطاته عن طريق البيعة واختيار الأمة، أو يكون غير مستوف للشروط، فهم قد اعتبروها حالة ضرورة، تماما كالاعتراف بإباحة أكل الميتة للجائع المضطر، وهو اعتراف مؤقت وفي حدود، ولا ينفي وجود القواعد الصحيحة التي يجب أن تنفذ وتطبق حينما يمكن ذلك.

وإذا أردنا أن نحدد موقف الفقهاء في هذه المسألة، قلنا: إنهم جميعا متفقون – ولا خلاف بينهم في ذلك – على أن مثل هذا الإمام أو الوالي، الذي لا تنطبق القواعد على توليته، مستحق العزل، ويجب عزله إذا قدر على ذلك، وأقوالهم السابقة التي رويناها قاطعة بذلك، ولكن الخلاف بينهم فيما إذا لم يقدر على الإمام، وظهر أنه من غير الممكن عزله، فهل يحكم بانعزاله؟ أي بأن إمامته تبطل من تلقاء نفسها وبطريقة مباشرة من دون خلع واستبدال؟ ثم هل يجب الخروج حينئذ وإعلان الحرب عليه وتحت أي ظروف وبأي شروط؟!

والفرق كلها مجمعة على أن مثل هذا الحاكم إذا قامت عليه ثورة – أي ثورة كانت – ثم نجحت، فإن ولايته باطلة وخلعه صحيح، والثورة مبررة شرعية، فالاعتراف إذن بولايته – إذا وجد مثل هذا الاعتراف – قائم على أوهى أساس، وهو قائم في نفس الوقت الذي يوجد فيه الاستعداد للاعتراف بشرعية الثورة عليه إذا ضمن نجاحها، وبصحة ولاية من يقوم مقامه:

·   أما من حيث الخروج: ويعبرون عنه بـ “سل السيف”، والمراد به القيام بثورة مسلحة، فإن الناس اختلفوا في ذلك على أقوال؛ فقالت المعتزلة والخوارج والزيدية وكثير من المرجئة: ذلك واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغي ونقيم الحق، واستدلوا بقول الله عزوجل: )وتعاونوا على البر والتقوى( (المائدة: ٢)، وبقوله عزوجل: )فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله( (الحجرات: ٩)، وقوله عزوجل: )لا ينال عهدي الظالمين (124)( (البقرة)، وكل هؤلاء مجمعون على أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك.

وقد أكد ابن حزم أن هذا هو أيضا مذهب كثير من أهل السنة، وأورد دلائل كثيرة تؤيد هذا المذهب، منها قول حذيفة: «إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فيصير منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتحاضن على الخير، أو ليسحتنكم الله بعذاب»[18]،وقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل ومن دون دمه فهو شهيد»([19]).

أما مذهب الصبر: فالذين قالوا به أكثر رجال الحديث، وبقية علماء السنة، ولا سيما متأخرين منهم، وقالوا: إن هذا كان مذهب الصحابة رضي الله عنه، الذين امتنعوا عن القتال، في عهد الفتنة بين على ومعاوية، ولم ينضموا إلى أحدهما: كعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد وكان الامتناع عن السيف هو أيضا الرأي الذي اختاره عثمان – رضي الله عنه – وثبت عليه؛ بل نهى غيره عن أن يبدأ بقتال يؤدي إلى سفك دم مسلم، من أجل الدفاع عنه.

والذي دعا أصحاب المذهب إلى القول بذلك هو الخوف من حدوث الفتنة وسفك الدماء، واضطراب الأحوال والاعتداء على الحقوق واستحالة الأمر إلى فوضى.. وكانت لهم العبرة فيما أعقبت الحروب التي نشبت في عصر الصحابة، أو من بعدهم. والثورات التي قامت في عهد بني أمية، وما أعقبت من شرور كثيرة، عاد على المجتمع منها ضرر بالغ، فهم يرون إذن وجوب الأمر بالمعروف، بالدعوة والإرشاد، أو حتى – إذا لم يمكن – بالاستنكار القلبي، دون سل السيف والقتال.

وهذا المذهب هو الذي أسيء تأويله، والذي من أجله حمل بعض النقاد على فقهاء أهل السنة، ودعاهم إلى النقد أن عبارات بعض المؤلفين من المتأخرين تذكر مسألة الصبر على حكم أئمة الجور، وانعقاد بيعة المتغلب، كأنها إحدى القواعد الأصلية، دون أن تنبه إلى أنها مسألة شاذة، أو مسألة ضرورة، وذلك إما للرغبة في الإيجاز، أو لطول ما مر عليهم من قرون وعهود، وهم يرون هذا الحكم الذي لا ينطبق عليه قواعد الشرع باقيا ثابتا، وكأنه لا يستطاع تغييره، وكأنه صار مما يقتضيه – لا محالة – القانون الوجودي.

على أنه لا ينبغي أن يذكر هذا المذهب دون أن تقرن به المبادئ الأساسية التي يسلم بها هؤلاء الفقهاء أنفسهم، ويستمسكون بها في نفس الوقت الذي ينصحون فيه بالصبر، فإن تلك المبادئ هي التي تكمل المذهب، والتي تبين الحدود التي ينتهون إليها في قولهم بهذا الرأي.

فمن تلك المبادئ أنهم إنما قبلوا – على كره منهم – أن يعترفوا بإمامة المتغلب جريا على القاعدة التي يتبعونها، وهي أنه ينبغي احتمال الضرر الأقل في سبيل دفع الضرر الأكثر، فإذا ظهر حينئذ أن بقاء مثل هذا الإمام هو الضرر الأكبر وأنه أكثر ضررا من الخروج عليه، وسل السيف لمحاربته، لتنفيذه سياسة بغي وعدوان، أو تعطيله لبعض حدود أو أحكام الشريعة أو لتأخر أحوال الأمة الإسلامية في عهده، أو نحو ذلك، فإنه طبقا لقاعدتهم هم نفسها، يجب حينئذ دفع هذا الضرر الأكبر بالخروج على هذا الحاكم وقتاله، إذ إن الخروج والجهاد إذ ذاك هو الضرر الأخف؛ فالاعتراف ببقاء هذه الولاية مشروط إذن بأن يبقى ضررها هو الضرر الأقل، الذي يستطاع تحمله، دون خوف على الدين أو الأمة.

وأن الخروج على مثل هذا الحاكم المتغلب – وإن لم يعترف به على أنه قاعدة عامة – لا يعتبر في نظر هؤلاء الفقهاء أنفسهم “بغيا”، وإنما هو متروك لاجتهاد صاحبه. والدليل على ذلك أنهم – كما رأينا من قبل – قد عرفوا البغي بأنه: الخروج على الإمام الحق بغير حق؛ فالخروج على الإمام غير الحق لايعد إذن بغيا.

ومن أظهر الأمثلة على ذلك في التاريخ الإسلامي خروج الحسين على يزيد بن معاوية، فالحسين لم يكن باغيا، وقد ناقش ابن خلدون هذه المسألة في مقدمته وأوضح جوانبها، ونبه إلى أن البغي إنما يكون في حالة الخروج على الإمام العادل، وحكم بأن الحسين شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد.

فإذا أدى الخروج على مثل هذا المتغلب إلى خلعه وإزالته، فإن الفقهاء لا يترددون في الاعتراف بمن يخلفه – إما اعترافا صحيحا، إذا كان مستكملا للشروط، وإما اعتراف ضرورة مثل اعترافهم بسلفه – ولايعود للأول أي حق، إذ إن إقراره كان ضرورة. وهذا يتضمن أنهم يعترفون بالثورة على هذا الحاكم إذا تحقق نجاحها، كما سبقت إشارتنا إلى ذلك.

وإن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايزال قائما؛ فليس معنى الصبر أن يترك للمتغلب الحبل على غاربه، ويرضى بأعماله كيفما كانت، بل لا بد أن تظل الأمة مهيمنة عليه، ولا بد أن يدعى إلى الخير، ويصد عن الظلم، ويوعظ وينهى عن المنكر، بكل الطرق الممكنة دون القتال، وقد تواردت الأخبار والآثار، حاثة على وجوب تذكير الأئمة والولاة، وإرشادهم وتنبيههم إلى وجوب اتباع سبل الحق، ويجمع هذه المعإني قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عندما سئل: «أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كلمة حق عند سلطان جائر»[20]، وصحائف التاريخ الإسلامي مليئة بأخبار مواعظ الصالحين والعلماء للولاة والخلفاء، وإن عرضوا أنفسهم للخطر، وكان القتل يبدو كأنه ثمن ما يفوهون به من أقوال.

ومما يؤكد هذا أن أبا بكرة دخل على معاوية، فقال: اتق الله يا معاوية، واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتى عليك، لا تزداد من الدنيا إلا بعدا، ومن الآخرة إلا قربا، وعلى إثرك طالب لا تفوته، وإنا وما نحن فيه زائل، وفي الذي نحن إليه صائرون باق، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر[21].

وأيضا أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة، وهو يريد مكة، فأرسل إلى أبي حازم فدعاه، فلما دخل عليه، قال له سليمان: يا أبا حازم: مالنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. وما زال يعظه حتى بكى!

وأيضا أن هشام بن عبد الملك قدم حاجا إلى مكة، فلما دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين، فأتى بطاووس اليمإني… ثم دار بينهما حديث، فكان مما قاله له طاووس: وأما قولك: لم تسلم على بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب. قال الإمام الغزالي، معقبا: فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين، إذا ألزموا، وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم.

ولا خلاف بينهم مطلقا – بل لا خلاف بين أمة الإسلام جميعا – على أنه لا تجوز الطاعة إلا فيما وافق الشرع، وما قال أحد أبدا إن الطاعة تجوز في معصية. وعلى رأس الأدلة التي يستنبط منها هذا الحكم قوله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[22].

قال القسطلإني: هذا تقييد لما أطلق من الأمر بالسمع والطاعة، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يكره. نقول: وهذا تقييد لكل الأحاديث التي وردت حاثة على الطاعة.

ومما ذكر عند توضيح معنى الآية الكريمة: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: ٥٩)، قال الطبري: إن الأمر بذلك فيما كان لله طاعة، وللمسلمين مصلحة. وذكر البيضاوي في تفسيره ما يأتي: أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل. وقال الفخر الرازي: إن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب.

ونختم هذا كله بقول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في أول خطاب له: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”[23].

الخلاصة:

عدم تحكيم شرع الله ليس بينة بالضرورة على كفر من لم يحكم به؛ إذ قد يكون مرد عدم الاحتكام لشرع الله إلى ضعف في العزيمة، أو ركون إلى شهوة استبداد، أو حكم بشريعة القوة أو المصلحة الدنيوية يصيبها هذا الحائد عن شرع الله.

·   قد يحكم الحاكم بغير شرع الله وهو يعتقد أن هذا غير جائز ويوقن بأفضلية الشريعة وعدم جواز الحكم بغيرها، ولكنه يتساهل في الأمر، فهو بهذا يرتكب أكبر الكبائر، فإذن قد وقع الخلاف في تكفيره، وصارت المسألة اجتهادية والخلاف مانع للتكفير.

·       قيدت الشريعة سلطة الحاكم عبر ثلاثة ضوابط لهذه السلطة هي:

o      وضع حدود لسلطة الحاكم.

o      مسؤلية الحاكم عن عدوانه وأخطائه.

o      تخويل الأمة حق عزل الحاكم.

·       وكثير من هذه الضوابط متحقق في السيرة العملية للراشدين، خصوصا عصر الشيخين الصديق والفاروق.

·   الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة أساسية في الإسلام، ولتغيير المنكر شروط ومراتب، منها: أن يكون هذا المنكر محرما مجمعا عليه، وأن يكون ظاهرا مرئيا، وأن تتأتي القدرة الفعلية على التغيير بقوة، وعدم الخشية من أن يترتب على إزالة المنكر بالقوة منكر أكبر، كأن يكون سببا لفتنة تسفك فيها دماء الأبرياء، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع في الشريعة الإسلامية.

·   لا يكفر أي فرد الحاكم ولا يدعو للخروج عليه خروجا مشروعا؛ فهذا منوط بما يقرره أهل الاجتهاد المؤتمنين ببينات واضحات.

·   ليس صحيحا ما زعمه المغالطون من المستشرقين من أن سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة وسلطانه غير محدود، ومن ثم فلا راد لرأيه، ولا معقب لحكمه وقد أوقعهم في هذا الخلط – إما جهلا وإما عمدا – عدم التفرقة بين مبادئ النظام السياسي في الإسلام، أي نظرية الإمامة أو الخلافة – كما أوردت أحكامها الشريعة الإسلامية – وبين الخلافة التاريخية أو الواقع التاريخي الذي جرى على مستوى سلطة الحكم على مر عصور التاريخ الإسلامي، والذي حاد فيه – كثيرا – أهل السلطان عن تعاليم القرآن.

·   الفرق شاسع والجهة منفكة بين المبادئ الإسلامية وبين الواقع التاريخي الذي جرى في تولي منصب الخلافة، فيما عرف بإمارة المتغلب التي أقرها الفقهاء اضطرارا لتصريف مصالح الرعية، وعدم الحكم بفساد معاملاتهم وبطلان تعاقداتهم، وأجاز في الوقت نفسه الخروج على إمام الغلبة عند التمكن.

 

 

(*) النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م. ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، عبد الملك البراك، النور للإعلام الإسلامي، عمان، 1997م.

[1]. البرهان المنير في دحض شبهات أهل التكفير والتفجير، عبد العزيز الريس، دار الإمام مالك، أبو ظبي، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص7 وما بعدها.

[2]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصلاة، باب الأمراء يؤذون الصلاة (3788)، وابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب السير، باب في إمام السرية يأمرهم بالمعصية من قال: لا طاعة له (33717) بنحوه.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم (6830)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4871).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب السمع والطاعة للإمام (2769)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4869).

[5]. السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1403هـ/ 1983م (4/ 793).

[6]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص572.

[7]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص41 وما بعدها.

[8]. النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص342.

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (186).

[10]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات (574).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان (1792)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (109).

[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1333)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة (116).

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (5721)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (7676) بنحوه.

[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (53)، وابن حبان في صحيحه، كتاب البر والإحسان، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (305) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2317).

[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها (3308).

[16]. فتاوى معاصرة، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، ط6، 1996م، ج2، ص681 وما بعدها.

[17]. تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ، ج2، ص580.

[18]. حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ منها (37221)، وأحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم (23360)، وقال عنه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد: أثر حسن.

[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعيد بن زيد (1652)، وعبد بن حميد في مسنده، مسند سعيد بن زيد (106)، وصححه الألباني في المشكاة (3529).

[20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه (18850)، وابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011) بنحوه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (491).

[21]. ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين، الباب السادس: فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم (2/ 148).

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة ما لم تكن معصية (6725)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4869).

[23]. النظريات السياسية الإسلامية، د. ضياء الدين الريس، دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص344 وما بعدها.

ادعاء وحشية التشريع الجنائي في الإسلام

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن التشريع الجنائي في الإسلام ينطوي على وحشية وهمجية وقسوة، تهدر كرامة الإنسان. ومن ثم، فهو في ظنهم اعتداء على حقوق الإنسان، ومخالفة للمعايير التي تنادي بها المنظمات الدولية للحفاظ على الإنسان وحقوقه، ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في كفاءة التشريع الإسلامي ومناسبته للإنسان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح، والحدود[1] إحدى أركان هذه المنظومة، وليست الحدود المقدمة ولا الغالبة على الرؤية الإسلامية للإصلاح.

2) العقوبات المقررة شرعا على الجرائم فيها رحمة بالإنسانية، وخالية من الهمجية والتعسف، وقد اشترطت الشريعة لإقامتها شروطا يصعب توافرها.

3)  إهمال إقامة الحدود جلب على المجتمع مفاسد جسيمة، منها: فقدان الأمن والأمان.

4)  تطبيق الحدود في التشريع الإسلامي ليس فيه مساس بحقوق الإنسان ولا كرامته.

5)  لتشريع العقوبات في الإسلام مقاصد أهمها: تقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من الجرائم.

التفصيل:

أولا. الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح، وليس مبنيا على إقامة الحدود فحسب:

إن الشرع الإسلامي ليس متلهفا على إقامة الحدود من: رجم، وجلد، وقطع، وليست هذه غايته، ولا وكده الأساسي، وإنما هي وسيلة ولبنة في رؤيته المتكاملة للإصلاح، وبرنامجه الرباني لإدارة الحياة، وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

أفاض في تبيين حقيقة هذه الرؤية وتجليتها الأستاذ محمد فريد وجدي، حيث يذكر: أن في الكتاب الكريم جرائم معينة حددت لها عقوبات مقررة كالزنا، والقذف، والسكر، والسرقة، والفساد في الأرض؛ فالكتاب والسنة الصحيحة يقرران على مرتكب الجريمة الأولى – الزنا – إن كان محصنا الرجم، وإلا فمائة جلدة، وعلى مقترف الثانية – القذف – ثمانين جلدة، وعلى مقترف الثالثة – السكر – ثمانين أو أربعين جلدة، وعلى جاني الرابعة – السرقة – قطع اليد، وعلى فاعل الخامسة – الإفساد في الأرض – أن تقطع يده ورجله من خلاف، أو يقتل، أو ينفى من الأرض.

فهذه العقوبات تصادف اليوم اعتراضات من جانب المشرعين، وهم الذين أباحوا الزنا والسكر، وقرروا على القذف والسرقة والإفساد في الأرض عقوبات تناسب خطرها، ويفوت هؤلاء النقاد أمر خطير، هو أن الإسلام دين إصلاح اجتماعي وله برنامج معين فيه. وهو يهدف إلى تأليف مجتمع خال من الشرور ما أمكن، ويسود فيه التكامل في الحياة، والترافد[2] حيال صعوباتها إلى أقصى حد تطيقه الفطرة البشرية.

وفي الأرض مذاهب إصلاحية تكاد لا تحصى؛ فما الأديان، وما جمهورية أفلاطون، وما كتاب السياسة لأرسطو، ومعارضة أبيقور وزينون وغيرهم من الأقدمين، وما نشر كارل ماركس، ومن أتى بعده إلى لينين… إلخ – إلا مذاهب اجتماعية قصد ذووها إحداث إصلاح عمراني على موجبها، فمنها ما طبق على بعض الشعوب، وعاش دهرا ثم اضمحل وزال، ومنها ما حبط تاركا وراءه دخانا وحمما، وبعضها لم يطبق إلى اليوم على أمة من الأمم.

فإذا كانت قيمة الشيء تعرف بأثره، فانظر إلى المذاهب الاجتماعية، هل يقرب من الإسلام مذهب منها في سمو أغراضه وبعد غاياته، واستقامة مسالكه وصحة أصوله، وفي تأديته للجماعات التي أخذت به إلى زعامة العالم في زمن لا يكاد يكفي لتطور فرد؟ فما ظنك بأمة؟!

فالإسلام كما ترى جاء بمذهب في الإصلاح الاجتماعي، ونجح في تطبيقه، وكان من أثره ما رأيت، على حين ما تزال الأمم الآخذة به تعمل فيه – جاهلة بقيمته – معاول[3] الهدم والتحطيم، وتكاد لا تسقط منه ركنا إلا وتستشعر ضرورة العودة إليه بعد أن تصح من داء هذه الفتنة، أو تصحو من خدر الجهل الذي هي فيه.

فهل تعدى هذا الدين – فيما قرره من استفظاع الجرائم التي ذكرناها، وترتيبه عليها العقوبات الرادعةـ الحق الطبيعي الذي للأفراد والجماعات؟! وهل قصر في اتخاذ الاحتياطات لها من جميع الأنواع؟!

أي مشرع أو فيلسوف – في الأرض – لا يرى في الزنا جريمة من أبشع الجرائم؛ لعدوانها على الشرف والكرامة والأخلاق أكبر عدوان؟! فالإسلام قرر أن يجلد مرتكبها إن لم يكن محصنا مائة جلدة، وأن يرجم إن كان من أهل الإحصان[4].

نحن لا ننكر أن هذه العقوبة من الشدة بمكان، لكن أرأيت كيف أحاطها الشرع الإسلامي بما يجعلها وقائية ردعية أكثر منها عقوبة حقيقية؟ فقد تطلب لإثبات الزنا أربعة شهود عدول[5]، يقرون أنهم رأوا الفعل رأي العين في تفصيل لا نستطيع الخوض فيه، مما يجعل إثباته أمرا صعبا، بل شبه مستحيل، وزاد على هذا بأن أحدا لو اتهم اثنين بوقوع هذه الجريمة منهما، طالبته الحكومة بإحضار أربعة شهود عدول، فإن عجز عن إحضارهم؛ عد قاذفا وجلد ثمانين جلدة، وقد أوصى الشارع الرحيم بقبول أوهى المعاذير في دفع هذه التهمة؛ ميلا منه – سبحانه وتعالى – للعفو عنا لا تعذيبها!!

فقد حدث أن جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال:«يا رسول الله، إني زنيت«، فوقع اعترافه وقعا شديدا من النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخذ يستوثق منه ويعرض عليه الشبهات التي تدفع عنه الحد؛ فيقول له: «لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت»، فلم يزدد الرجل إلا إصرارا، فلم يسع النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن أمر بإقامة الحد عليه وهو كاره لذلك صلى الله عليه وسلم[6].

ينضاف إلى هذا بعض الآثار التي جاءت عن الصحابة في هذا الشأن، منها ما ورد عن عمر بن الخطاب في أيام خلافته أنه رأى رجلا وامرأة على فاحشة، فلم يستطع – على شدته وحرصه على حدود الله – أن يبت في هذا الأمر بنفسه، فجمع الناس وقام فيهم خطيبا وقال: ما قولكم أيها الناس لو رأى أمير المؤمنين رجلا وامرأة على فاحشة؟ فقام علي بن أبي طالب وأجابه بقوله: يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهود، أو يجلد حد القذف – ثمانين جلدة ـ؛ فسكت عمر، ولم يعمل شيئا[7]. فلو علمت إلى أي مدى بلغ نظر المسلمين إلى هذه العقوبة لأيقنت أنها وقائية ردعية – كما قلنا – أكثر منها حقيقة واقعة بالفعل.

وأما قطع اليد على السرقة، فإن الإصلاح الاجتماعي الذي أوجده النبي – صلى الله عليه وسلم – كان من أصوله أن يقوم المسلمون على مبدأ تعاوني محكم البناء يحول دون لجوء الجناة للسرقة، وليس في إحدى نواحيه ضعف؛ وقد سلك لذلك مسلكين:

الإنفاق: أن يؤخذ من رؤوس الأموال نحو اثنين ونصف في المائة للفقراء، ومن في حكمهم، وللأعمال العامة التي تعود عليهم بالخير واليسر، فكان في بيت مال المسلمين رصيد خاص بذوي الحاجة، ومن تدفع بهم الضرورة إلى الحدود القصوى، وكانت الحكومة مسئولة عن وصول الحاجة ببعض الناس إلى هذه الحدود.
التكافل: كان على كل فرد من أفراد المسلمين واجب حتمي، وهو العيش مع الجيران على حالة تكافل وتعاضد؛ بحيث يرفد[8] غنيهم فقيرهم، وإلا كان عليه وزر المقصر المستأثر، ولقد أكثر النبي – صلى الله عليه وسلم – من التوصية بالجار؛ حتى قال: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه»[9].

وقد جرى المسلمون على هذا المبدأ، وضربوا أروع الأمثلة في التعاون والتكافل بين الفقراء والأغنياء حتى امتلأت بها تواريخهم؛ وقد ذكر حجة الإسلام الغزالي: «أن رجلا كان عند عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – وغلامه يذبح شاة، فقال عبد الله بن عمرو: يا غلام لا تنس جارنا اليهودي، ثم عاد فكررها ثانية وثالثة: فقال له الرجل: لم تقول ذلك يا عبد الله؟ فقال: والله إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما زال يوصينا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه»[10].

انظر إلى هذا الأثر، من ناحية أنه تشديد في مراعاة حقوق الجوار، ولا تنس أن تنظر إليه من ناحية دلالته على مبلغ تسامح المسلمين مع الأجانب بغض النظر عن ملتهم؛ حتى إنهم لم يفرقوا بين الناس كافة في حقوق الجوار.

وفي ظل نظام اجتماعي تعاوني من هذا الطراز، يسوده التكافل والترافد، ويمكن استصراخ الحكومة المكلفة بدفع الحاجات عن المعوزين؛ كيف لا يعامل العابث بأموال الناس أقسى معاملة، بل كيف لا تقطع يده؛ حتى يكف سواه عن مثل عمله الذي لا يقصد به إلا محض الإيذاء، وإزعاج الأمن؟

وكيف لا يساوي الشرع في إقامة هذا الحد على مرتكبه – ضعيفا كان أو شريفا – وقد قال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”[11].

وكيف لا يجلد رجل تسمح له نفسه الشريرة أن يشرب الخمر حتى يفقد الرشد، وقد يؤذي نفسه، أو يعتدي على غيره؟

وكيف لا يجلد – كذلك – رجل يتهم أهل الإحصان بالفسق – غير حاسب لما ينتج عن عمله هذا من حل روابط الأسر، وهدم أركان البيوت – ثم يعجز عن الإتيان بأربعة شهود عدول، يعززون بشهادتهم ما يقول؟

والذين يفسدون في الأرض بإضرام[12] نيران الفتن، وقلب النظم، وإزعاج الأمن، كيف لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؟! أو لا ينفون من الأرض؟! وانظر لرحمة الشارع، فقد قدم قطع اليد والرجل استفظاعا لهذه الجرائم، ثم فتح للحكومة باب الرحمة بين هذه العقوبة وبين النفي.

نعود إلى الجلد فنقول: ليس في هذه العقوبة ما يؤخذ على الشرع؛ فقد كان معمولا بها في إنجلترا وغيرها، بل وفي السجون المصرية أيضا.

ولا بد لنا من التنويه هنا بحال الشهود؛ فإن القضاء الإسلامي لا يقبل – وبخاصة في الحدود – شهادة شهود يجمعهم المتقاضون من هنا وهناك؛ بل يشترط فيهم أن يكونوا من أهل العدالة[13]، وأن يشهد شهود آخرون بأنهم أهل للشهادة، وفي حادثة الشهادة الآتية بيان لما يجب أن يكون عليه الشاهد في الإسلام من الصفات، وبما كان عليه هذا الأمر عند أسلافنا الأولين من الخطورة.

فقد ذكر أن رجلا أدخل على عمر بن الخطاب في عهد خلافته في قضية، فطلب منه أن يحضر له من يشهد بأنه عدل؛ ففعل. فلما مثل شاهده بين يديه، قال له الخليفة: أتعرف فلانا حق المعرفة؟ فقال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين.

فقال له: أأنت جاره صباح مساء، لتعرف مدخله ومخرجه؟ فقال الشاهد: لا. فسأله عمر: أعاملته بالدرهم والدينار الذي يستبين به ورع الرجل؟ فقال المزكي: لا فقال له الفاروق: أصاحبته في السفر الذي يتضح فيه ما هو عليه من مكارم الأخلاق؟ فقال الرجل: لا.

فقال له عمر: لعلك رأيته قائما يصلي في المسجد يهمهم بالقرآن؟ فقال الشاهد: إي والله يا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر: اذهب فلست تعرفه!!

فالمسلمون الذين قاموا على هذه النظم المحكمة؛ جدير بهم أن يظفروا – في سنوات معدودة – بزعامة العالم كافة في العلوم والفنون والسياسة، ويمدوا ملكهم إلى بقاع لم يظلها علم غير علمهم إلى اليوم، فاختر لنفسك الآن ما يحلو لك، أتود أن يكون لأمتك ملك لم يتحقق لأمة قبلها، وزعامة العالم والسياسة، وفيها هذه الحدود؟ أم تؤثر ألا يكون لأمتك شأن يذكر بين الأمم، ولا تكون في قوانينها مثل هذه العقوبات[14]؟

ثانيا. العقوبات المقررة شرعا على الجرائم فيها رحمة بالإنسانية، وليست همجية أو تعسفية:

الإسلام ليس دينا يرغب في القسوة، ويشتهي العنف؛ بل دين يدعو إلى الرحمة والتراحم والتسامح. فالتشريع الإسلامي رحيم[15].

والأدلة على ذلك واضحة في القرآن الكريم والسنة المطهرة:

القرآن الكريم:
فقوله سبحانه وتعالى: )وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين( (الإسراء: ٨٢).
قوله سبحانه وتعالى: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)( (النحل).
قوله عز وجل: )طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2)( (طه).
السنة المطهرة:
فقد ورد عن أنس بن مالك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:«يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا»[16].
وعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها ونهى عن أشياء؛ فلا تنتهكوها، وحد حدودا؛ فلا تعتدوها، وغفل عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»[17].

وجميع تشريعات الإسلام مبنية على الرحمة والتخفيف؛ فقد شرع الحدود والقصاص[18]؛ رحمة بالمجتمع، وصيانة له من العابثين والمفسدين، ففي حفظ الأعراض قال سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( (النور: ٢). وشدد الله تعالى الجزاء على من يعتدي على أموال المسلمين بطريق السرقة، قال سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).

فليس الإسلام دين قسوة أو عنف بل دين يسر ومحبة، ووحدة لا تفريق. فهو لا يقرر العقوبات جزافا، ولا ينفذها – كذلك – بلا حساب، بل له في ذلك نظرة ينفرد بها بين كل نظم الأرض، نظرة تلتقي حينا برأي الأفراد، وحينا برأي الجماعات والنظم. “وهو يقرر أيضا عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذا سطحيا بلا تمعن، ولا تفكير، ولكنه لا يطبقها أبدا حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر، ولا شبهة اضطرار، فهو يقرر قطع يد السارق، ولكنه لا يقطعها أبدا، وهناك شبهة بأن السرقة نشأت من الجوع.

وهو يقرر رجم الزاني والزانية، ولكنه لا يرجمهما؛ إلا أن يكونا محصنين، وإلا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة، أي وكيف لا يساوي الشرع في إقامة هذا الحد على مرتكبه ضعيفا كان أو شريفا حين يتبجحان بالدعارة حتى ليراهما كل هؤلاء الشهود، وهما متزوجان”[19].

والمعروف أن عمر – رضي الله عنه – لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة؛ حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع؛ فقيام ظروف تدفع إلى الجريمة؛ يمنع تطبيق الحدود.

بل إن مثل هذا التعبير – أن عمر – رضي الله عنه – لم ينفذ حد السرقة عام الرمادة – ما كان يمكن أن يطلق على عواهنه دون تدقيق؛ لأنه يتخذ ذريعة لتعطيل الأحكام، بل ربما لإسقاط الأدلة من آيات الأحكام في أبواب الحدود والعقوبات.

والحق أن السرقة بالمعنى الحقيقي لها لم تتحقق في عام الرمادة حتى يمكن القول بتعطيل عمر لحدها، ومن أخذ من مال غيره وهو جائع ليس سارقا، بل ربما كان حائز المال هو السارق من المحتاج حقه في الشبع؛ ولذا قال عمر لمن ذهب بعبده وقد أكل من طعامه: “لو جئتني شاكيا له مرة أخرى لقطعت يدك أنت”؛ وذلك لأنه يشبع وعبده جائع.

وإذا كانت العقوبة تتسم – أحيانا – بالشدة والقسوة التي تمس أهم حقوق الإنسان؛ فإن ذلك يقتضي ضرورة إحاطة تطبيقها بمجموعة من الضمانات التي تحمي أهم الحقوق الأساسية للمحكوم عليه بها، وأهم هذه الضمانات شرعية العقوبات والمساواة والشخصية والتدخل القضائي والقابلية للرجوع فيها واحترام كرامة المحكوم عليه[20].

من مظاهر الرحمة والإنسانية في تطبيق الحدود في الإسلام ما يلي:

من يطالع تاريخ الخلفاء الراشدين وسيرهم وصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من بعده، بل أحكام قضاة المسلمين؛ يجد أن الإسلام حفظ على الإنسان كرامته، بل اتسمت أحكام تنفيذ العقوبة بالرحمة ومراعاة آدمية الإنسان[21]مما نشير إليه فيما يأتي:

من حيث الوقت الذي تنفذ فيه العقوبة:

تقام العقوبات البدنية في أوقات معينة من اليوم كوقت اعتدال الهواء، فلا تقام في الحر الشديد، والبرد المفرط؛ لأنه يخشى هلاكه.

وتطبيقا لذلك لا يكون في إقامة حد الجلد خوف الهلاك؛ لأن هذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا؛ فلا يجوز الإقامة في الحر الشديد والبرد الشديد، لما في الإقامة فيهما من خوف الهلاك. ففي الشتاء لا تقام بالغدوات، وإنما تقام بعد الظهر ليلحق المحدود دفء الفراش، ولا تقام في الصيف في الهاجرة، وتقام إذا برد النهار.

فقد جاء أن أحد الفقهاء كان جالسا في المسجد، فسمع صوت رجل يضرب في ساعة باردة، فقال: ما هذا؟ قيل له: رجل يضرب؛ فقال: سبحان الله، أفي مثل هذه الساعة يضرب؟ فسأله أحد الأشخاص: جعلت فداءك، أللضرب حد؟! فقال: نعم، إنه لا يضرب أحد في شيء من الحدود في الشتاء إلا في حر النهار، وإذا كان في الصيف ضرب في أبرد ما يكون من النهار.

من حيث مراعاة الحالة الصحية للمحكوم عليه عند استيفاء العقوبة:

تتجسد الرحمة في مراعاة الإسلام، لصحة المحكوم عليه عند تنفيذ العقوبة عليه، وهذا هو ما راعاه الشارع والقضاء الإسلامي بالنسبة للمريض، وصاحب القروح والحائض والنفساء والحامل، فمثلا:

المريض: لا يقام حد على مريض حتى يبرأ؛ لأنه يجتمع عليه وجع المرض، وألم الضرب، فيخاف الهلاك؛ وتطبيقا لذلك:

o    فقد جاء عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن قال: خطب علي فقال: «إن أمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أحسنت»[22].

ويحمل ذلك على المصلحة في التأخير، وعلى تخيير الإمام، فهو يقيمها على حسب ما يراه، وإذا كانت المصلحة تقتضي إقامتها في الحال، أقامها على وجه لا يؤدي إلى تلف النفس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن اقتضت المصلحة تأخيرها أخرها إلى أن يبرأ المحكوم عليه، ثم يقيم الحد إلى الكمال.

o   وعن سعيد بن سعد بن عبادة – رضي الله عنهما – قال: «كان بين أبياتنا رويجل مخدج[23] ضعيف، فلم يرع إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة – رضي الله عنه – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “اجلدوه ضرب مائة سوط”، قالوا: يا نبي الله، هو أضعف من ذلك، لو ضربناه مائة سوط مات، فقال صلى الله عليه وسلم: «فخذوا له عثكالا[24] فيه مائة شمراخ[25]، فاضربوه ضربة واحدة»[26].

ويفسر ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: )وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث( (ص: ٤٤)[27]، كما يفسره حرص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على توقيع العقوبة على من حكم عليه بها؛ حتى لا يقول أحد بعدم إقامة الحدود.

وفيه أيضا التفرقة بين المريض الذي به مرض لا يرجى زواله، إذا وجب عليه حد الجلد؛ بأن زنى مثلا – وهو بكر – يضرب بعثكال فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، بحيث تمسه الشماريخ كلها؛ فيسقط الحد عنه، وإن كان به مرض يرجى زواله يؤخر حتى يبرأ.

صاحب القروح: جاء أن عليا – رضي الله عنه – قال: “ليس على صاحب القروح الكثيرة حد حتى يبرأ، أخاف أن أنكأ [28] عليه قروحه فيموت؛ وهذا هو علة تأجيل الحد، ولكن إذا برأ حددناه”. كما جاء أن عليا – رضي الله عنه – قال: “ليس على المجذوم، ولا على صاحب الحصبة، حد حتى يبرأ”. وقال أيضا: ليس على المجدور[29]، ولا صاحب الحصبة حد حتى يبرأ؛ إني أخاف أن أقيم عليه الحد فتنكأ جروحه؛ فيموت، ولكن إذا برأ حددناه. والحال بالنسبة لهذا المريض أن يحبس حتى يبرأ.
النفساء: يفرق بعض الفقهاء بين النفساء، والحائض في إقامة الحد عليها عند وجوبه: فالحنفية يرون عدم إقامة الحد على النفساء حتى ينقضي النفاس؛ لأن النفاس[30] نوع من المرض، وإذا أقيم الحد على المريض ربما ينضم ألم الجلد إلى ألم المرض، فيفضي إلى الهلاك في حين يقام على الحائض؛ لأن الحائض بمنزلة الصحيحة في إقامة الحد عليها.

ويرى فقهاء الحنابلة أن المحدودة إذا كانت في نفاسها، أو ضعيفة يخاف عليها، لم يقم عليها حتى تطهر، وهذا هو ما تقتضيه السنة الصحيحة.

وفي هذا الشأن ورد عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال: «إن أمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أحسنت»[31].

وهكذا يعتبر كل من الحيض والنفاس حالة مرضية، والمرض يجعل صحة المريضة معتلة، وتنفيذ العقوبة عليها يمكن أن يودي بحياتها، بالإضافة إلى أن ذلك يعد تجاوزا لحدود الحد، ولذلك كان من اللازم تأجيل توقيع الحد حتى ينصلح حالها وتسترد عافيتها، وهو ما يتحقق بانقطاع الدم عنها، أو بتطهرها.

الحامل: حرصت الشريعة الإسلامية عند استيفاء العقاب ألا يتعدى أثرها إلى غير مستحقيه؛ ولذلك قررت تأجيل تنفيذ عقوبات الحد – أو القصاص في نفس أو طرف – على الحامل حتى تضع حملها، سواء كان الحد رجما، أو قطعا، أو جلدا على زنا، أو قذفا، أو شرب خمر أو سرقة، وسواء أكان الحمل من زنا أم من غيره، بل وسواء وجبت العقوبة قبل الحمل أو بعده.

وترجع علة هذا الحكم إلى أمرين:

تطبيق فكرة شخصية العقوبة، ويعني ذلك ألا تصيب العقوبة سوى شخص من ارتكب الجريمة، أو أسهم فيها، وتوفرت في حقه شروط المسئولية الجنائية عنها؛ فلا توقع العقوبة على غير الجاني مهما كانت درجة قرابته أو صلته به. “والجرائم لا تأخذ بجريرتها غير جناتها، والعقوبات شخصية محضة لا تنفذ إلا في نفس من أوقعها القضاء عليه. والمرء إذا توفاه الله ومحا شخصه من الوجود، وانقطع عمله من هذه الدنيا سقطت كل تكاليفه، فإن كان قبل الوفاة جانيا، لم يحاكم ومحيت جريمته، وإن كان محكوما عليه؛ سقطت عقوبته، ولا يرثه في هذه التكاليف أحد: من أم، أو أب، أو صاحبة، أو ولد.
تلافي الإسراف في القتل؛ تطبيقا لقوله سبحانه وتعالى:)ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (33)( (الإسراء).

وفي تنفيذ الحد على الحامل سواء برجم أو بجلد أو بقصاص إسراف؛ لأن العقوبة التي تصيب الحامل تتعداها إلى حملها، كما لا يؤمن تلف الولد من سراية الجلد[32]، وربما صار الجلد إلى نفس الأم؛ فيفوت الولد بفواتها. ويمنع – أيضا – الرجم، والقصاص؛ خشية السراية إلى غير الجاني، وتفويت نفس معصومة أولى، وأحرى.

سند التأجيل:

الأصل في تقرير هذه المبادئ في الإسلام آيات القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وما سار عليه صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك.

القرآن الكريم:

أرسى القرآن الكريم دعائم مبدأ شخصية العقوبات في الكثير من الآيات، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الزمر: ٧)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الأوفى (41)( (النجم)، وقوله سبحانه وتعالى: )تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (141)( (البقرة)، وقوله سبحانه وتعالى: )قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25)( (سبأ).

السنة النبوية الشريفة:

طبقت السنة النبوية هذا المبدأ في أوضح صوره؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه»[33]. ويقول لأبي رمثة وابنه: «لا يجني عليك ولا تجني عليه»[34].

هذا هو ما قررته الشريعة الإسلامية في مبدأ شخصية العقوبات، أما في شأن تأجيل تنفيذ الحد على الحامل، فقد تأيد بما فعله الرسول الكريم مع المرأة الغامدية:

“فقد جاء سليمان بن بريدة عن أبيه: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله، طهرني، وفي رواية: إني زنيت فطهرني، فقال: “ويحك! ارجعي فاستغفري الله، وتوبي إليه”، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، وفي رواية: فلما كان الغد، فقالت: أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك، قال: “وما ذلك”، قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: “أأنت”؟! قالت: نعم، فقال لها: “حتى تضعي ما في بطنك”، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: “إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه”، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها».

وفي رواية: «فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال صلى الله عليه وسلم: “اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه”، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام؛ فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها»[35].

من حياة الصحابة الكرام:
ورد«أن امرأة زنت في عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فهم عمر برجمها وهي حامل، فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: إذا تظلمها، أرأيت الذي في بطنها ما ذنبه؟ علام تقتل نفسين بنفس واحدة؟ فتركها حتى وضعت حملها، ثم رجمها»[36].
فعل ذلك الإمام علي – كرم الله وجهه – بالنسبة لشراحة الهمذانية حين اعترفت بالزنا، فقد جاء أنه ردها حتى ولدت، فلما ولدت قال: «ائتوني بأقرب النساء منها، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها»[37].

ثالثا. إهمال إقامة الحدود جلب على المجتمع مفاسد جسيمة:

لتأكيد هذه الرؤية نبدأ بإثارة هذه التساؤلات:

هل حبس السارق، أو المحارب، أو قاطع الطريق المعمول به في القوانين الوضعية، جعل المجرم يعدل عن السرقة، ومعاودتها؟!

أم أنه تعلم في السجن من زملائه من وسائل العدوان وأساليب السرقة ما لم يكن يتيسر له تعلمه خارج السجن؟

هل حبس السكير، أو تاجر المخدرات – مثلاـ قوم خلقه، وأصلح شأنه، وأوقفه عند حده؟!

إن الشواهد تدل على أن المسجون يخرج من سجنه مزودا بخبرة في مجال الإجرام والتفنن فيه، وإذا ضيعت حدود الله، أو أسقطت، أو فرق فيها بين الشريف والوضيع؛ فإنه يترتب على ذلك أضرار عظيمة، ومفاسد خطيرة من أهمها:

عصيان الله، والاجتراء على محارمه، وانتهاك حقوق عباده، ومن سنة الله تعالى أنه ربط المعصية والمصيبة برباط السببية، كما ربط – عز وجل – بين الطاعة والنعمة، ولا شك أن تعطيل حدود الله من المعاصي المؤدية إلى الفساد في الدنيا، والهلاك في الآخرة.
امتناع الأمة عن إقامة حدود الله، واجتراؤها على محارمه، وتعطيلها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كانت نتيجته أن لحقتها اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل.
المجتمع الذي لا تطبق فيه الحدود الشرعية مجتمع محكوم عليه بالضياع، وأفراده: إما عصاة متمردون على أوامر ربهم، أو خائنون لا يأمرون بخير، ولا ينهون عن منكر؛ ومجتمع من هذين العنصرين لا يرجى له فلاح، ولا يتحقق له احترام.
وقوع الأزمات الطاحنة، والكوارث الاجتماعية المدمرة، والصراع الرهيب، بل المميت بين الجماعات والطوائف، ولذلك – لا شك – آثار خطيرة من ضيق العيش ونقص الحياة وسوء العاقبة، وهذه نتيجة حتمية لتعطيل حدود الله.

ولإبراز الحقيقة نقارن بين دولة تقيم الحدود، وأخرى لا تقيمها:

ففي الدولة التي تطبق الحدود الشرعية: يشعر الإنسان بطمأنينة نفسية وسكينة قلبية، وأمن سائد؛ فيترك متجره مفتوحا، وبضاعته وماله مكشوفين، ويتجه لقضاء مصالحه أو صلاته، فلا تمتد إليه يد خائنة، ولا عين زائغة، ويسير لبلاد في صحراء شاسعة حاملا الأموال معه فلا يخاف إلا الله.

وعلى العكس تماما في الدول التي لا تقيم حدود الله؛ فإن الإنسان لا يشعر بطمأنينة نفسية، وسكينة قلبية، ولا يستطيع أن يترك بابه مفتوحا ولا ماله مكشوفا، وليس من الغريب في الدول التي لا تقيم الحدود رؤية المجرم يتعدى على ضحيته في وضح النهار، وفي أكثر الشوارع ازدحاما، ولا أحد يردعه؛ الأمر الذي يجعل الإنسان غير آمن على دينه ونفسه وعرضه وماله وعقله.

يتصف المجتمع الذي تقام فيه الحدود بالعفة في القول، والأمانة في المعاملة، واستنكار الفاحشة، والبعد عنها، والرغبة في الاستمتاع بما أحل الله، واجتناب ما حرم الله. المجتمع الذي تقام به الحدود الشرعية بمثابة واحة وارفة الظلال، آمنة الحياة، رغيدة العيش، متآلفة، متآخية، بينما نجد البلد الذي لا تقام فيه الحدود على عكس هذا المجتمع تماما.

العقوبات الشرعية والتجارب:

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوبات لمحاربة الجريمة والإجرام؛ فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة، وتفوقها على القوانين الوضعية، وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء على الإجرام؛ إذ العبرة في هذا الأمر ليست بالوسائل أو الغايات، وإنما العبرة بكفاية الوسائل؛ لإدراك ما وضعت له من غايات.

والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت محاربة الإجرام، ولكنها فشلت في القضاء على الإجرام، والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية، ولا عبرة بالمنطق المزوق الذي يصلح مرة، ويخيب أخرى، ولم نأت بجديد حين نقول هذا وإنما نكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي؛ حيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عمله إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة، وأن التجارب وحدها هي الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود.

ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية، وبينت أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية، وجزئية.

النموذج المتكامل لإقامة الحدود الشرعية:

وقد بدئ به في مملكة الحجاز منذ عشرات السنين؛ حيث طبقت الحدود الشرعية تطبيقا تاما، ونجحت نجاحا منقطع النظير في القضاء على الإجرام، وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلا في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب المقال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام.

فقد كان المقيم فيه كالمسافر لا يأمن على ماله ولا نفسه في بدو ولا حضر ليلا ولا نهارا، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة؛ لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة، ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن، وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج، أو الرعايا الحجازيين، وخطفهم والتمثيل بهم.

وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور، حتى طبقت الشريعة الإسلامية؛ فانقلب الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عصر الخطف والنهب وقطع الطريق والسرقة وأصبحت الجرائم القديمة أخبارا تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها.

وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام في الحجاز، أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام، فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضا للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق؛ فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة؛ لرفع العصا من مكانها.

وبعد أن كان يصعب حفظ الأمن على قوات عسكرية عظيمة من الداخل، وقوات عسكرية من الخارج، أصبح الأمن محفوظا بحفنة من الشرطة المحليين؛ تلك هي التجربة الكلية دليل على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عمليا إلى قطع دابرالجريمة، وأنه النظام الذي يبحث عنه، ويتمناه القانون الدولي.

التجربة الجزئية:

فقد قامت بها أولا إنجلترا وأمريكا، وبعض الدول الأخرى، ثم قامت بها أخيرا كل الدول تقريبا، وقد نجحت هذه التجربة نجاحا منقطع النظير وقد سمينا هذه التجربة بالجزئية؛ لأنها جاءت قاصرة على عقوبة الجلد، وهي عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة الإسلامية. فانجلترا تعترف بالجلد عقوبة رسمية في قوانينها الجنائية، والعسكرية، ومصر تعترف بها في القوانين العسكرية، وأمريكا وبعض الدول تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون.

ثم جاءت الحرب العالمية الأخيرة فقررت كل الدول تقريبا عقوبة الجلد على جرائم التسعير والتموين وهذا اعتراف عالمي بأن عقوبة الجلد أفضل من أي عقوبة أخرى، وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ النظام، وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئا في هذا الباب، وهذا الاعتراف العالمي يؤكد نجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة.

الإحصائيات التي أجرتها وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية:

ونظرة إلى الإحصاءات التي أجرتها وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية تظهر بجلاء وتبين بوضوح مدى ما في تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ عقوباتها الجزئية من مكاسب دينية ودنيوية؛ حيث بلغ مجموع الحوادث في عام 1408هـ: (21513) حادثة على مستوى المملكة عامة، وبلغ مرتكبو هذه الحوادث: (2236) شخصا، ويمثل الأجانب منهم: (38%) وهذا التقارب بين عدد الحوادث وعدد مرتكبيها يدل على أن الجرائم التي وقعت كانت على مستوى الأفراد، وليست على مستوى تنظيمات أو عصابات.

إضافة إلى أن الحوادث الجنائية المتسمة بالخطورة كالقتل بأنواعه أو محاولة القتل أو التهديد به، وحوداث الخطف لا يتجاوز مجموعها نسبة:(2%) من إجمالي الحوادث، وهذه الجرائم التي تقلق المواطن، وأجهزة المملكة العربية على المستوى العام لها – لا تمثل إلا النزر اليسير إذا قورنت بما يجري في دول وبقاع أخرى من المعمورة؛ لأن هذه البلاد ألفت الأمن والاستقرار التام.

وليست هذه الجرائم آتية من خلل في الشريعة الإسلامية المطبقة في هذه البلاد؛ بل من ضعف إيمان مرتكبيها وخلقهم، وبعدهم عن ذكر الله، وعن تعاليم الدين الإسلامي.

ونسبة حدوث الجريمة في السعودية تصل إلى: (3.2%)، بينما في بعض دول العالم تصل إلى نسبة أعلى بكثير لكل ألف من السكان؛ على سبيل المثال: في أسبانيا: (77.26%)، وفي ألمانيا: (41.71%)، وفي إيطاليا (20.08%)، وفي فرنسا (32.27%)، وفي إستراليا: (75.00%)، وفي كندا: (75.00%) وفي كوريا: (12.42%)، وفي غانا (10.72%).

فالمملكة بهذا نموذج مثالي بين الأمم عامة، والأمم الإسلامية خاصة في قلة حدوث الجرائم، واستقرار الأمن في ربوعها؛ فضربت بذلك أروع تجربة لنجاح الشريعة الإسلامية في القضاء على الجريمة، وتحقيق الأمن الوافر الذي تنعم به المدن والقرى، واستقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

وأسباب ازدياد الجرائم في الدول التي لا تطبق العقوبات الإسلامية هي:

الأثر الهين الناتج عن العقوبات المقررة للجرائم.
اقتناع الفرد بظلم هذه العقوبات من حيث إنها عقوبة – بشكل من الأشكال – ولكنها لا تطهره من الإثم الذي لحقه كما أن إثبات التهمة أمر ميسور في القانون الوضعي مما قد ييسر إدانة البرئ، بينما إثباتها في التشريع الإسلامي بالغ الدقة بحيث لا يدع مجالا واسعا للاتهام الخاطئ.

هذا ولا يزال لدينا مجتمعات تطبق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، ومنها المجال العقابي؛ لذا نجد نسبة الجريمة فيها أقل نسبة في العالم؛ والسبب احترام الناس للقانون السماوي ويمكن إرجاع ذلك إلى قوة الردع في العقوبات الإسلامية؛ فاعتقاد الإنسان أنه يطبق أوامر الله إذا انتهى عن ارتكاب الجرائم، ويتعرض للعقاب إذا اقترفها؛ أقوى رادع له عن الجريمة.

رابعا. تطبيق الحدود في التشريع الإسلامي ليس فيه مساس بحقوق الإنسان:

العقوبات الشرعية والتذرع بحقوق الإنسان:

ترى بعض الجهات العلمية والاجتماعية في أوساط الغرب أن الحدود الشرعية تتنافى مع حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية، وتطالب منظمة العفو الدولية بإلغاء عقوبة الإعدام من قوانين العقوبات في الدول المعاصرة، وقد استجابت بعض الدول الغربية لذلك مثل: فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وألغت بعض الولايات المتحدة الأمريكية هذه العقوبة، وأكثرها لم تلغها، ويردد بعض رجال القانون الوضعي في البلاد العربية هذه الأفكار واصفين العقوبات الشرعية بأوصاف غير لائقة ربما أدت إلى الكفر، وتروج بعض أجهزة الإعلام لذلك.

ويتهمون كل من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية بأنهم متشددون متعصبون، مع أنهم هم المتعصبون ضد الإسلام، ومصدر جميع هذه الاتجاهات المشبوهة شيء واحد هو التعصب ضد الإسلام، ومقاومة الاتجاه الإسلامي.

والواقع أن الادعاء بوجود التعارض والمنافاة بين حقوق الإنسان وبين الحدود الشرعية، أمر باطل للأسباب الآتية:

إن الله – سبحانه وتعالى – الذي شرع الحدود في الشريعة الإلهية أرحم بعباده، وبالناس جميعا من أنفسهم، وهو أدرى وأعلم بما يصلحهم، وينفعهم، ويحقق الأمن والخير لهم.
إن العقوبات البديلة عن الحدود الشرعية في القوانين الوضعية لم تحقق الهدف المطلوب، فانتشرت ظاهرة الجريمة، وكثر المجرمون، وتفننوا في ابتكار عجائب الإجرام وألوانه بما لا يكاد يصدق به عقل.
إن الجاني الذي يرتكب جريمة موجبة للحد الشرعي قد خرج عن الحدود الإنسانية الصحيحة، وشذ شذوذا واضحا عن معايير الحياة السوية، وطعن المجتمع في أقدس مقدساته – وإن شوهت معالم التقديس في الأوساط الغربية؛ فأصبح ما يسمى لدينا بالعرض – مثلاـ مفقودا في المفاهيم الأخلاقية العامة والخاصة عند الغربيين، ومثل هذا المعتدي على حرمات المجتمع الجوهرية – بمقتضى النظرة الصحيحة – لم يعد يردعه إلا مثل هذه العقوبة الشرعية الزاجرة في شرع الله ودينه.
والقرآن الكريم واضح الدلالة في الإعلان عن حقوق الإنسان؛ قال سبحانه وتعالى: )ولقد كرمنا بني آدم( (الإسراء: ٧٠)، والفقهاء المسلمون أشد العلماء حرصا على كرامة الإنسان فيما استنبطوا من أحكام شرعية؛ فقرروا ضوابط كثيرة، وشرطوا شرائط عدة لتطبيق الحدود، وقد عرفنا أنه لا سحل[38]، ولا تجريد، ولا تمثيل ولا وحشية في العقاب في الإسلام، وغير ذلك من أصول الحفاظ على كرامة الإنسان.
ولقد أخطأ دعاة حقوق الإنسان حينما رأوا أن تطبيق العقوبة الشرعية بشروطها وضوابطها وموازينها العادلة يتنافى مع حقوق الإنسان، كما أخطأوا في محاولة الرأفة بشخص معين لذاته، وليس هو في الواقع أهلا للرأفة، وأي نفع في مراعاة المصلحة الشخصية، وإهدار مصلحة الجماعة، والاعتداء على المصلحة العامة، وما يؤدي إليه من فقدان الأمن والاستقرار، وانتشار ظاهرة القلق، والخوف، وعدم الاطمئنان على الحياة، وحق الجماعة المقدس في حفظ العقائد، والأعراض والأنفس، والعقول والأموال من أي اعتداء عليها؟

ومن ثم فالعقوبات الشرعية أدوات فعالة للقضاء على الجريمة، والمجرمين، ونشر الأمن، والاستقرار في المجتمع، والواقع الأليم مر في أرقى دول العالم تحضرا كأمريكا وبريطانيا؛ حيث تزداد نسبة الإجرام. وقد قال سبحانه وتعالى: )وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155)( (الأنعام).

فمثلا جريمة كالسرقة، وحدها في الإسلام القطع، يعترضون عليها؛ لمنافاتها لحقوق الإنسان، وإهدارها لكرامته. وردا على مثل هذه المغالطات الباطلة نقول:

من حيث القسوة: القول بأن عقوبة القطع تتسم بالقسوة فرية داحضة؛ إذ إن ما يصفه المعارضون بقسوة العقوبات أمر لازم فيها، ويظهر ذلك من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن الإيلام أحد خصائص العقوبة كما سبق أن بينا ذلك، وهذا في حد ذاته يتجسد في أذى ينزل بالجاني على حسب نوع العقوبة؛ زجرا له. وقد يتساوى مقدار العقوبة مع مقدار الضرر الناجم عن الجريمة، كما في القصاص في النفس والأطراف، وقد يفوقه، أو يكون أغلظ أو أشد منه، بمقدار ما تحدثه الجريمة من ترويع وفزع بالمجني عليه أو بجماعة المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لحد الحرابة؛ فهي من الجرائم الخطيرة التي تهدد الناس ليس في أموالهم فحسب، بل في أرواحهم وأمنهم واطمئنانهم، بحيث لا يستطيع المظلوم دفع هذه الأخطار عن نفسه وماله؛ ولذلك لم يكن يكفي فيها الترهيب بعذاب الآخرة؛ بل لا بد من توقيع عقوبة مؤلمة والتشديد عليها[39].
الناحية الثانية: إن اسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابا إذا كان موسوما بالرخاوة والضعف، بل يكون لعبا أو عبثا أو شيئا قريبا من هذا[40]، فالقسوة لا بد أن تتمثل في العقوبة، حتى يصح تسميتها بهذا الاسم.

كما أن “الشريعة حين قررت عقوبة القطع لم تكن قاسية، كيف وهي الشريعة الوحيدة في العالم التي ترفض القسوة! وما يراه بعضهم قسوة، إنما هو القوة والحسم اللذان تمتاز بهما الشريعة، وقد تجسدا في العقوبة كما تمثلا – من قبل – في العقيدة و العبادات و الحقوق والواجبات”[41].

ومما يؤكد معنى القوة والحسم لا القسوة المطلقة في العقوبة الشرعية أن لفظة الرحمة ومشتقاتها أكثر الألفاظ ورودا في القرآن، والشريعة تلزم المسلم ألا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يسكن ولا يعمل ولا يتعبد ولا ينام، ولا يستيقظ حتى يذكر اسم الرحمن الرحيم. فإذا ذكره ذكر الرحمة، وتأثر بها في قوله، وفعله. والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء»[42].

فالرحمة أساس من أسس الشريعة الأولية، وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تعرف للقسوة سبيلا” [43].

ولا ينافى مقصد الرحمة في العقوبة الشرعية ورود لفظة العذاب في بعض الآيات المقررة للحدود؛ إذ إن العذاب فيها هو العقاب، ولا يعني القسوة بحرفيتها كما توصف بها العقوبة في الشريعة الإسلامية في نظر المغالطين؛ فالعذاب الوارد في الآيات هو الحد المقرر للمعصية أو الفاحشة، وهو ما يطلق بدوره على حد الجلد في آية الزنا.

ولنا هنا سؤال ينطوي على كثير من العجب: “أيهما أقسى: قطع يد السارق، وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته، ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته”؟! فضلا عن أن وضعه في السجن تنفيذا للعقوبة السالبة للحرية طوال المدة المحكوم بها محروما من حريته بعيدا عن أهله وذويه “يكون كالحيوان الذي يوضع في قفص، أو كالميت في قبره”[44].

ويضاف إلى هذا أن الفقهاء قد أجازوا استعمال البنج، أو التخدير عند قطع اليد أو الرجل، فقد صدر تعميم الإدارة العامة للسجون في المملكة العربية السعودية، والمتضمن أنه “لم يظهر ما يمنع من استعمال البنج عند قطع اليد أو الرجل في الحدود”. فهل بعد هذا نستشعر في قطع اليد تعذيبا، وقسوة وتنكيلا؟

إن في تطبيق عقوبة القطع زجرا مناسبا للمجرم، ولأمثاله في المجتمع، فهو رحمة بالناس عامة.

ويحلو لبعض المرتابين والمتشككين أن يصفوا عقوبة القطع – في حدي السرقة والحرابة – بأنها لا تتفق مع المدنية والتقدم، ويرمونها بالعنف والغلظة.

وقد تصدى الكثيرون من العلماء للرد على هذا الزعم؛ إذ يرون أن هؤلاء يركزون النظر على شدة العقوبة، ويتناسون فظاعة الجريمة، وآثارها الخطيرة على المجتمع. إنهم يتباكون على يد سارق أثيم تقطع، ولا تهمهم جريمة السرقة، ومضاعفاتها الخطيرة. فكم من جرائم ارتكبت في سبيل السرقة! وكم من جرائم اعتداء على الأشخاص! وإحداث عاهات جسام وقعت على الأبرياء بسبب السرقة، وكم من أموال اغتصبت، وثروات سلبت، وناس تشردوا بسبب السطو على أموالهم، ومصدر رزقهم، كل ذلك لم يخطر ببال المشفقين على أيد قليلة تقطع في سبيل أمن المجموع واستقراره.

ألم يخطر ببال أصحاب هذا الزعم أيهما أهون على المجتمع: أن تقطع يد أو يدان في كل عام، وتختفي السرقة، ولا تكاد تقطع يد بعد ذلك، ويعيش الناس مطمئنين على أموالهم وأنفسهم؟! أم يحبس، ويسجن، ويحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة في جريمة السرقة وحدها على آلآف المجرمين، ويخرج المجرمون وهم أشد إجراما، وأكثر حقدا على المجتمع، ويزين لهم الشيطان سوء عملهم، وترتكب في أغلب الدول عشرات الآلاف كل عام من جرائم السرقات، ثم لا تتضاءل جرائم السرقة، بل تزداد وتتنوع وتستفحل، فما زلنا نسمع عن مصارف تسرق بأسرها، وقطارات تنهب في وضح النهار، وخزائن تسلب، وجرائم على الأموال تصحبها جرائم على الأشخاص والأعراض لا تقع تحت حصر، ولا يكاد يلاحقها علم ولا فن ولا سلطة.

كما أن الجرائم الخطيرة لا يفلح في صدها ومقاومة أخطارها إلا عقوبات شديدة فعالة. والعقاب الناجع هو الذي ينتصر على الجريمة، وليس ذلك الذي تنتصر عليه الجريمة.

ثم إن علماء القانون الوضعي لم يستغلظوا عقوبة الإعدام بالنسبة لبعض الجرائم الخطيرة، وما من شك في أن هذه العقوبة أشد من عقوبة القطع في السرقة والحرابة؛ فالعبرة إذا بالعقوبة المناسبة، والفعالة في مقاومة الجريمة.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن قطع يد سارق، أو عدد معدود من السراق أهون بكثير من ترك المجرمين في المجتمع يروعون الآمنين بما يفضي إليه ذلك من الجرائم والمنكرات.

ولقد أثبت التاريخ أن المجتمع الإسلامي عندما طبق الحدود عاش آمنا مطمئنا على أمواله، وأعراضه، ونظامه، حتى إن المجرم كان يعترف على نفسه أو يسعى لإقامة الحد عليه؛ رغبة منه في تطهير نفسه، والتكفير عن ذنبه.

كما أن البلاد التي طبقت أحكام الشرع الإسلامي – كالمملكة العربية السعودية وغيرها، والتي كانت مرتعا خصبا لأشنع جرائم السرقة، وقطع الطريق – استتب فيها الأمن وانقطعت السرقات، وانهارت عصابات قطع الطريق، حتى أصبحت تلك البلاد مضرب الأمثال في انقطاع دابر جرائم السرقة وقطع الطريق، على الرغم من أن ما قطع من الأيادي منذ تطبيق الحدود لا يمثل إلا عددا ضئيلا جدا، لا يوازي ما كان يقطعه قطاع الطريق من رقاب الأبرياء في هجمة واحدة[45].

وخلاصة القول فيما تقدم: أن عقوبة القطع في السرقة والحرابة – على الرغم مما يتقول به بعض المغالطين – هي في الواقع رحمة عامة بالمجتمع في مجموعه؛ حتى يتخلص من شرور هاتين الجريمتين، وأخطارهما الوبيلة؛ فإن أخطار التضحية بعدد محدود جدا من الأيدي والأرجل بالنسبة لأناس آثمين خارجين على حكم الله أهون كثيرا من ترك جريمة تفتك بأرواح وأبدان وثروات آلاف الأبرياء، بل إن شدة العقوبة ذاتها رحمة بمن توسوس لهم أنفسهم بالإجرام حيث تمنعهم تلك الشدة من الإقدام على الجريمة، فتحول بينهم وبين التردي في مهاوي الإجرام.

وشدة هذه العقوبة، محدودة النطاق، تفضي إلى رحمة واسعة شاملة بالنسبة للمجتمع الواسع العريض، وكيف لا؟!! وشريعة الإسلام هي شريعة الرحمة، بعث بها من كتب على نفسه الرحمة وهو الرحمن الرحيم.

والنظر لأثر الحدود على القلة التي تتعرض لها دون نظر إلى أثرها في المجتمع ككل هو نظر مقلوب معكوس، إن لم يكن مغرضا مريبا، إن العبرة بمصلحة الناس في مجموعهم، وليست بمصلحة مجرمين ثبت جرمهم، ولم يدرأ عنهم الحد شبهة.

ومع ذلك فلا يغيب عن البال أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات.

ثم إنه بعد ذلك يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفاديا لتوقيع الحدود إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هذه الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة، وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن، بل إن تطبيق بعض الحدود – كالجلد بأصوله الشرعية – أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن، قلت أو كثرت.

هكذا كانت عقوبة القطع مقابلة لجنس العمل؛ لأن السارق الذي حرم ضحيته من رزقه، واستلب ما نتج عن كد عمل هذه الضحية لا بد أن يذوق من العقاب قدرا يساوي هذه الفعلة، فكان الجزاء منصبا على الأداة التي سرق بها من هذا، ونهب بها من ذاك، وأضاع كد عمل الكثيرين من الضحايا.

وإذا كان هذا السارق قد أضاع حقوق كثير من الناس، فلا يجب أن نبكي أو نتباكى على العقوبة التي قررها الشرع الإسلامي – الذي أحسن صنعا – لمثل هذا المفتري الأثيم؛ لأن الهدف منها تحقيق العدالة، واستتباب الأمن.

وأخيرا، فإن عقوبة القطع لا تطبق إلا إذا توافرت شروطها، وأركان الجريمة التي تقررت لها، وإذا ما اشترطنا ضرورة توافر هذه الشروط وهي متعددة: منها مجموعة تتعلق بالفعل، وأخرى تتعلق بالمال، وثالثة تتعلق بالسارق فسوف يكون من نتيجة ذلك ندرة حالات قطع اليد، كما أننا إذا وضعنا في الاعتبار حالات الاضطرار والضرورة؛ فلن يقام الحد على المضطر وصاحب الحاجة[46].

وهذا هو الشأن في باقي الجرائم التي حرمها الإسلام وحد لها حدودا؛ إذن ليس في هذا تجن على حقوق الإنسان، ولا إهدار لكرامته.

والحديث عن قسوة العقوبات في الشرع الإسلامي، وغلظة الحدود الشرعية، والطنطنة بأن هذا يتنافى مع حقوق الإنسان في العالم المعاصر، كل هذا كلام قديم متجدد تلوكه ألسنة المغالطين من الغربيين، وتتلقفه وتردده كالببغاوات أفواه وأقلام أذنابهم من المتغربين من أهل الشرق؛ وذلك لأسباب كامنة في نفوس هؤلاء وأولئك ليس من بينها – بالضرورة – العطف والحدب على الإنسانية، مطلق الإنسانية، في كل زمان ومكان.

ولمزيد من التنقيب عن جذور هذه الشبهة، وتبيان تلك الدوافع الكامنة وراء إثارتها بين الفينة والفينة؛ نتجول مع مجموعة من الآراء لباحثين موضوعيين جادين غيورين من ذوي الأصالة الشرعية الأصولية المتينة، والمعاصرة المتابعة للمستجدات بوعي، ويقظة، وهمة.

ولنبدأ بمدخل ساخر للقضية مع الأستاذ محمد قطب، حيث يتساءل ساخرا: “هل يمكن أن تطبق اليوم تلك العقوبات الهمجية التي كانت تطبق في الصحراء؟! هل يجوز أن تقطع يد في ربع دينار؟! اليوم في القرن العشرين الذي يعتبر المجرم فيه ضحية من ضحايا المجتمع، ينبغي علاجه، ولا يجوز أن تمتد إليه يد العقاب.

إن القرن العشرين يجيز لك مثلا أن تقتل أربعين ألفا في الشمال الأفريقي في مجزرة واحدة؛ لأنهم أبرياء، لكن كيف يجيز لك أن تعاقب فردا واحدا؛ لأنه مجرم أثيم؟! ويل للناس من الألفاظ، كم تخدعهم عن الحقيقة”[47].

ويستقصي د. بلتاجي جذور هذه الظاهرة في الغرب – ظاهرة الصدود عن كل ما هو إسلامي – والعوامل التي تحول بينهم وبين فهم حقيقة تشريعات هذا الدين وتعاليمه، والشبهات المثارة حولها، وجهود جماعات التغريب في هذا الشأن، في تجلياتها المعاصرة، فيقول:

 “… وحصيلة هذا كله أن التكوين العقلي والنفسي والتاريخي لشعوب كثيرة من غير المسلمين يحول بينهم وبين فهم حقيقة التشريع الإسلامي في شتى جوانبه وأقطاره؛ لأنهم يبدأون وينتهون في النظرة إليه من مسلمات تمثل أوهاما وأكاذيب وجهالات توارثتها أجيالهم في صورة حقائق قاطعة جيلا بعد جيل، وغذتها كراهيتهم المتوارثة للإسلام لأسباب تاريخية وعقدية – من أهمها الحروب الصليبية، وصراع الحضارات، وعداء اليهود الدائم وكيدهم المتواصل للإسلام – وهذا كله يمثل موانع حقيقية تحول بينهم وبين فهم حقيقة الإسلام ويتمثل في روح جمعية من العداء المطلق للإسلام.

والأكثر إيلاما من ذلك: هو أن أفرادا من أبناء المسلمين أتيح لهم أن يتتلمذوا على أيدي هؤلاء حضاريا وعلميا، فإذا بهم صورة منهم في الجهل بالإسلام، والعداء له، والتسابق في الهجوم عليه، وتشويه صورته بين الناس، ومن هؤلاء من عقد صفقة عمره وهو يتلقى العلم والحضارة على يد قسيس، أو شيخ يهودي لئيم، ليرجع إلى بلاد المسلمين، وجهه منهم، ولسانه منهم، وقلبه عليهم، لا هم له إلا محاولة هدم الإسلام، والطعن في القرآن بكل سبيل.

وقد تتضمن الصفقة زوجة حسناء تقوم بدورها – من وراء الستار – وهي لا تقر مع زوجها إلا وهو يبذل غاية الجهد في الكيد للإسلام والقرآن، ومحاولة تشويههما بكل سبل الخبث التي تلقاها عن شيوخه الأوربيين أو الأمريكيين في فترة الإعداد.

وهؤلاء لا يتركون صنيعتهم يعمل وحده في بلاد المسلمين؛ إنما يهيئون له المجال والظروف، بكل ما أوتوا من سلطان في هذه البلاد عن طريق المعونات المالية والمراكز العلمية والعمالات المتعددة التي تصل إلى كل مستوى حتى المستويات الحاكمة في بعض بلاد المسلمين.

وحين تتيح الظروف كشف النقاب – أحيانا – عن بعض هذه الأدوات؛ يصاب الناس في بلاد المسلمين بالذهول، حينما يتاح لهم أن يعرفوا حقيقة بعض من كانوا في نظرهم – بسبب الدعايات، والإعداد الجيد المدروس – قادة للفكر، وزعماء للثقافة والتنوير والتقدم في بلاد المسلمين.

وليس في هذا التقرير أدنى مبالغة؛ بل إن الحقيقة الكاملة تجاوزه، وتزيد عليه فهم يدسون الطعن تلو الطعن بغاية الخبث ومنتهى الكيد للقرآن الكريم وكافة قيم الإسلام الصحيح، وقد باعوا أرواحهم لأعداء الإسلام التاريخيين منذ زمن، فأنى لهؤلاء وأولئك أن ينظروا نظرة موضوعية محايدة تتفهم حقيقة التشريعات القرآنية بكل ما يحوطها من اعتبارات؟!

وما الميراث – يقصد أحكام الميراث – في الإسلام، وما أثاروه حوله من دعاوى باطلة مغرضة – إلا واحد من موضوعات عديدة يتخذها هؤلاء مجالا مختارا للطعن في القرآن والإسلام، وقد رأينا ما يحوطه من اعتبارات يجهلها هؤلاء، أو يتجاهلونها، وكذلك التشريعات المتصلة بمكانة المرأة في الإسلام، وكذلك موضوع الجنايات وعقوباتها في الإسلام، وتلك موضوعاتهم المختارة للطعن الظاهر، والخفي في القرآن والإسلام، تحت شعار: المدنية والمساواة والتقدم والحضارة وحقوق الإنسان، والتنوير[48]… إلخ!!

وهم جميعا يكرهون الإسلام كراهية تعميهم، وتصمهم عن إدراك حقائقه وتفهمها، وقد قال الله تعالى لرسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – فيهم – وفي أمثالهم -: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81)( (النمل).

ومع هذا أمرنا الله – عز وجل – بأن نقرر لهم حقائق ديننا، وأن نكشف لهم عن أباطيل أعدائه، إعذارا إلى الله تعالى بأننا بلغنا الحق الذي أنزله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ليكون عليهم حجة في الدنيا والآخرة؛ لعلهم يراجعون مواقفهم فتبدو لهم الحقيقة القرآنية الناصعة، أو جانب منها، كما قال سبحانه وتعالى: )وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164)( (الأعراف).

والمعنى – كما يقول المفسرون – نفعل هذا الوعظ بهؤلاء معذرة إلى ربكم فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولعلهم بهذا الإنكار عليهم يعودون إلى تقوى الله، ويتركون ما هم فيه ويرجعون إلى الله تائبين، فإن تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.

وقد قدمنا الصفحات السابقة بين يدي ما سنعرض له من شبهات المخالفين وطعونهم في العقوبات الإسلامية تحت شعار التباكي على حقوق الإنسان، وما وصلت إليه البشرية من تقدم ومدنية، فما الذي يمثل حجر الأساس في هذه الشبهات والطعون؟

تعتبر العقوبات البدنية التي أقرتها الشريعة الإسلامية مجالا مختارا للطعن فيها من مخالفيها الذين يرون أن إيقاع العقوبة بجسد الجاني نوع من الاستجابة لغرائز الانتقام والبربرية والوحشية التي تجاوزتها البشرية المتحضرة في مسيرتها نحو تحقيق أكبر قدر من حقوق الإنسان؛ فالإعدام والرجم والجلد والصلب وقطع اليد والعين بالعين والسن بالسن، كل ذلك – كما يرى هؤلاء الطاعنون – أمور لم تعد تليق بالإنسان المعاصر، ولا تتوافق مع ما وصلت إليه المجتمعات المتحضرة في مجال حقوق الإنسان.

وهناك أسباب تاريخية تدعم هذا الاتجاه عند الأوربي المعاصر، وقد أشرنا إلى الميراث التاريخي الذي يرثه الأوربي من العداء المطلق للإسلام بكافة قيمه وتشريعاته، ومعلوم أن الشريعة الإسلامية قد أقرت هذه العقوبات البدنية كلها، وأقامت نظامها العقابي عليها، فكانت مجالا أساسيا لرميها من هؤلاء بالوحشية، والبربرية، وإلصاق تهمة التخلف بها. وبقدر التزام الدول الإسلامية بتطبيق النظام الجنائي الإسلامي يكون مقدار الهجوم عليها، ونقدها في الأوساط الدولية، وأجهزة الإعلام المختلفة والمطبوعات والمؤلفات. ومن هنا اختصت المملكة العربية السعودية في هذا المجال بأكبر قدر من الطعن فيها والتشنيع بها، تحت عباءة ما يطلقون عليه “حقوق الإنسان”، لما هو معلوم للكافة.. من أنها تطبق التشريع الجنائي الإسلامي تطبيقا كاملا بالنسبة لجرائم الحدود والقصاص والجرائم التعزيرية، ويضاف إلى ذلك من التاريخ الأوربي أمران:

الأمر الأول: أن هذا التاريخ شهد في القرون السابقة مغالاة وإسرافا في إيقاع العقوبات البدنية على جرائم لم تكن تستحقها إطلاقا؛ ويكفي أن نعرف في هذا المجال أن القانون الإنجليزي في سنة (1810م) كان يعاقب بالإعدام على 220 جريمة، وفي فرنسا عام (1791م) كان يقضي بهذه العقوبة في اثنتين وثلاثين حالة، وفي عام (1810م)أصبحت ستا وثلاثين حالة في الوقت الذي يوقع فيه التشريع الإسلامي هذه العقوبة في الحالات الآتية – فقط: القصاص في القتل العمد، رجم الزاني المحصن، المرتد الذي يسعى لهدم نظام الأمة، الحرابة، البغي، والتعزير[49] بالقتل في حالات خاصة بشروط معينة، ففي التشريع الإسلامي المستند إلى القرآن والسنة – منذ أربعة عشر قرنا – ست حالات فقط يمكن أن يكون فيها الإعدام بشروط عديدة في كل منها.

أما التشريعات الأوربية فقد عرفت الإسراف الشنيع في إيقاع هذه العقوبة في مخالفات لم تكن تستحقها إطلاقا، كذلك كانت طريقة تنفيذ الأحكام غاية في الشناعة والقسوة، وكانت جثث المشنوقين تبقى عادة يوما على المشنقة ثم تلقى في موضع الأقذار، وأحيانا كانت الجثة تحرق بعد إعدامها؛ فأين هذا التراث الشنيع من نهى الإسلام عن التمثيل – ولو بالكلب العقور -، وأمره بإحسان القتلة حين يكون لها موجب قوي ملائم لها؟!

ومن المتوقع أن رد الفعل لهذا التطرف في العقاب سيكون تطرفا في الجانب الآخر، جانب العفو والتسامح. وهذا هو الذي حدث بالفعل للتشريعات الأوربية التي اقترنت عقوبة الإعدام في العقل الجمعي لها بأقصى درجات القسوة والوحشية والبربرية والظلم الاجتماعي، فأصبحت تسقط هذه الصفات على كل نظام يتمسك بهذه العقوبة، غافلة عن نوع الجريمة التي استوجبتها في هذه النظم وعددها، والشروط الإنسانية العديدة لتطبيقها، وكيفية هذا التطبيق.

الأمر الثاني: أن أوربا حينما تخلصت من سيطرة الكنيسة التي كانت تفرض مسلمات تبين بالدليل العلمي القاطع بطلانها – اعتبرت أن من شروط التقدم والحضارة: أن تلقي وراء ظهرها بالتراث الديني المتمثل في معطيات الكتاب المقدس، وعقائد الكنيسة، ومن هذا ما ورد في التوراة من مبدأ القصاص، وما تمسكت به الكنيسة الرومانية الكاثوليكية[50] من التفتيش عن عقائد الناس بأبشع الوسائل التي ارتبطت في العقل الجمعي الأوربي بأقصى درجات الظلم والوحشية، – أعني محاكم التفتيش – ففي أوائل القرن الرابع عشر الميلادي: نظمت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية محاكم للتفتيش؛ للنظر في الجرائم الدينية، حيث كان يعرض عليها كل من حامت الشبهات حول عقيدته الكاثوليكية، وكان المتهمون يعذبون بوسائل قاسية تحملهم على الرجوع إلى الكاثوليكية، أو يعذبون حتى الموت في غرف زودت جدرانها بالمسامير، وفي أرضها سلاسل شدت إلى حلقات في الأرض؛ لربط المتهمين عند تعذيبهم.

كما كان في الغرف آلات خاصة للجلد مصنوعة من الجلد المعقود على رصاص ودواليب وأدوات جهنمية ذات مسامير حادة؛ لتمزيق الأجساد، وكلابات للضغط بها على اللحم وأطواق حديدية ذات مسامير حادة من الداخل تطوق بها جبهة المتهم، وتضيق شيئا فشيئا، بواسطة مفتاح حتى تنغرز المسامير في الرأس، وكان في الغرف كلاليب لها رؤوس حادة لسحب أثداء النساء من الصدر، وأدوات لنزع اللسان، وأخرى لتكسير الأسنان، وأحذية حديدية تحمى على النار، ويلبسها المتهم، إلى ما هو أشد من ذلك كله وأشنع.

وهذه المواريث الأوربية المتعددة أنتجت في الذاكرة الجمعية ارتباطا وثيقا بين العقوبات البدنية – في مجموعها – وبين الوحشية والبربرية والانتقام الجمعي، ومعاملة المتهم بغاية القسوة، وانعكس هذا الارتباط على تقييمهم للنظم التي تأخذ بهذه العقوبات، ومنها الإسلام” [51].

وبعد هذا التأصيل – التاريخي الاجتماعي – لهذه القضية، وظلالها في المجتمعات الغربية، يطور د. محمد بلتاجي معالجته لينتقل إلى مناقشة ذيل هذه الشبهة – قسوة الحدود الشرعية – وهو زعمهم بأن تطبيقها – بهذه القسوة المدعاة لديهم – يهدر كرامة الإنسان، ولا يتمشى مع منظومة حقوق الإنسان المعاصرة، كما بلورها العقل الغربي وأفرزتها الحضارة الغربية؛ فيقول تحت عنوان “حقوق الإنسان بين المنطق الغربي والمعطيات الإسلامية”:

“بعد الذي قاساه العالم من الحربين العالميتين الأولى (1914م – 1918م)، والثانية (1939م – 1945م) أصدرت الأمم المتحدة في 10/12/1948م: “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي تمثلت فيه هذه الحقوق من جهة ما انتهت إليه التجربة البشرية الغربية خاصة، لكن العالم بعدها – ولمدة أربعين عاما – ظل منقسما “على وجه العموم” بين العالم الأول الذي تمثله أوربا الغربية، والولايات المتحدة، والعالمالثاني الذي يمثله الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، وبينهما عالم ثالث متخلف صناعيا وتكنولوجيا، يتضمن بداخله مستويات عديدة من الفقر والنمو والأخذ بأسباب التقدم المادي.

وقد أفرز هذا العالم الثالث – منذ سبعينيات القرن العشرين – قوى صناعية متميزة يحتوي بعضها على كيانات هائلة، وإمكانات مبشرة بخروجها من نطاق العالم الثالث إلى ما يلحق، أو يكاد يلحق بالعالم الأول، وكانت اليابان في مقدمة هذه القوى، كذلك أصبحت الصين مجالا لتجربة متفردة مبشرة بتغيير الخريطة الدولية السياسية والاقتصادية، وكذلك ظهرت “النمور الآسيوية” التي تعرضت لضربات من الداخل، والخارج أوقفت أو أبطأت نموها السريع.

ثم كانت المفاجأة الهائلة عام 1989م بسقوط التجربة الماركسية في الاتحاد السوفيتي، ودول أوربا الشرقية، وتفككه، وأخذ هذه الدول بالنهج الغربي؛ مما يعني انفراد هذا النهج بقيادة العالم؛ إذ لم يعد هناك العالمالثاني الذي كان يوازن الصراع مع العالم الأول؛ وهنا رأى العالم الغربي الأول أنه قد آن الأوان لصبغ العالم كله بقيمه ومفاهيمه، ومنطلقاته الحضارية كلها، وتصاعدت الأصوات بأن انتهاء الحرب الباردة التي كانت بين العالمين الأول والثاني، تعني انتهاء الصراع الكبير في السياسة الكونية، وظهور عالم واحد منسجم نسبيا، والصيغة التي نوقشت على أوسع نطاق من هذا النموذج كانت أطروحة “نهاية العالم” لـ “فرانسيس فوكو ياما” والتي يقول فيها:

“ربما كنا نشهد نهاية التاريخ بما هو نقطة النهاية للتطور الإيديولوجي للبشرية، وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم باعتبارها شكلا نهائيا للحكومة الإنسانية”، ثم يقول: “وبالتأكيد فقد تحدث بعض الصراعات في أماكن من العالم الثالث، ولكن الصراع الكبير قد انتهى، ليس في أوربا فقط؛ بل إن الديمقراطية الليبرالية الشاملة قد انتصرت”.

وفي هذا الجو بدأ الكلام عن العولمة: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتصاعدت أصوات عديدة في الغرب تعلن أن الإسلام أصبح هو العدو الرئيس للحضارة الغربية، بدلا من الاتحاد السوفيتي الذي سقط، وسلم قياده للغرب حضاريا، بعد أن كان الرئيس ريجان يطلق عليه “إمبراطورية الشر”.

وغذي هذا الشعور ضد الإسلام بروافد عديدة – إلى جانب العداء التاريخي المستكن في الشعور واللاشعور الغربي، والموروث جيلا بعد جيل، من هذه الروافد: ما تقوم به الدعاية الإسرائيلية النشطة باستخدامها للمال، ولأجهزة الدعاية المسموعة والمرئية، وموضوعها الأساسي: هو تشويه الإسلام والعروبة، وكافة قيمها، وتحذير الغرب منها، وتذكيره بوقائع التاريخ حينما كانت الجيوش الإسلامية تهدد مراكز الحضارة في أوربا، وصدق الله – سبحانه وتعالى – إذ يقول: )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا( (المائدة: ٨٢).

 ومن هذه الروافد – بل من أهمها -:ما يسود معتقدات الطوائف النصرانية البروتستانتينية[52] خاصة في أمريكا، وأوربا من اعتقاد أنه قد اقترب أوان معركة “هرمجدون” التي ستقع بين إسرائيل والعرب المسلمين؛ فيعود المسيح لإنقاذ إسرائيل، وإعادة بناء هيكل سليمان محل المسجد الأقصى، وحينئذ يحكم المسيح العالم ألف عام يتحول اليهود فيها إلى المسيحية. ومع كون هذا كله أسطورة لا دليل عليها من أي مصدر ديني صحيح، فإن أربعين مليون أمريكي – بعضهم وصل إلى رئاسة أمريكاـ يؤمنون بها، ويعملون ضد العرب والمسلمين بناء عليها.

ومن هذه الروافد – بل من أهمها أيضا -: مصالح الغرب المالية الهائلة المتعارضة مع أية صحوة عربية أو إسلامية تنتعش فيها القدرات الإسلامية بإمكاناتها الهائلة وثرواتها الطبيعية، وتمتلك فيها زمام أمورها، بعيدا عن الانصياع المطلق لمصلحة الغرب الأمريكي، والأوربي الذي جرب نموذجا من ذلك في حرب 1973م، عندما استخدم العرب البترول لتحقيق شيء من مصالحهم، وفي هذا الجو تصاعد الهجوم على الإسلام وقيمه، وعلى الذين ينتسبون إليه، ويطبقون أحكامه – أو يرفعون شعار تطبيقها في أي مكان من الأرض – حيث يقابلون بتهم: الإرهاب والعداء للحضارة ولحقوق الإنسان وللتقدم الإنساني.

وقد ساعدهم على ذلك ما تقوم به بعض الجماعات الإسلامية – المنبثة في أنحاء العالم – من رفع شعارات ومن أعمال يغيب عنها الفقه الحقيقي بأحكام الإسلام؛ مثل منع تعليم المرأة، والدخول في صراعات مسلحة تستباح فيها الدماء، والأعراض، والأموال بغير حق، ويرى الغرب في هذه الصراعات والأعمال – غير الفاقهة لحقيقة الإسلام – مجالا خصبا للتحذير من الإسلام، وربطه بالإرهاب الدولي على أنه جزء من مفهومه لا ينفصل عنه، ومهاجمة عقيدة الجهاد فيه على أنها تعني: الرغبة الدائمة في الحرب، وإيقاع الأذى، والضرر بغير المسلمين شعوبا وأفرادا.

وفي مجال التشريع خاصة: نشط الهجوم على الإسلام في قضية المرأة التي يزعم الغرب أن الإسلام ظلمها في تشريعاته ظلما عظيما، ونشطت مؤتمرات السكان تحاول أن تفرض معطيات الحضارة الغربية على العالم كله – بما فيه العالم الإسلامي – واستجابت لها – بصورة غير معلنة – بعض حكومات البلاد الإسلامية، وبعض مثقفيها الذين تخلوا عن الإسلام – وإن لم يصرحوا بذلك: عقيدة وشريعة، لكن الشعوب الإسلامية في مجموعها ما تزال تقاوم نزعات التغريب بقدر ما تستطيع مستمسكة بإسلامها وقيمه التي لا تقبل تشريع اللواط، والزنا، والتجارة بالأعراض والعري، تحت شعار حرية التعبير الفني، وحرية الإنسان تجاه قهر الأديان… إلخ.

كذلك نشط الهجوم على الإسلام في قضية العقوبات الإسلامية – بخاصة البدنية – وارتفعت صيحات الغرب وممالئيه من أبناء المسلمين بشعارات الوحشية والبربرية، والقسوة المتناهية، ومخالفة حقوق الإنسان، بيد أننا باعتبارنا مسلمين، ومن منطلق الإنصاف والعدل المطلق – الذي يأمر به القرآن الكريم تجاه المخالفين لنا – نقول: إن اهتمام العالم الغربي بالحفاظ على حقوق الإنسان أمر هو في أصله وذاته محمود دون شك، وقد نشأت مؤسسات عديدة لتحري مدى الحفاظ على هذه الحقوق في بلدان العالم، ولبعض هذه المؤسسات جهود طيبة في هذا المجال، والإسلام يتوافق معها، ويؤيدها إلى أقصى مدى.

ومن هذه الجهود محاربة كل مظاهر الحكم المستبد في أنحاء العالم الذي يقهر إرادة الشعوب بشتى الوسائل؛ من تعذيب الأفراد والجماعات، وسلبهم حقوقهم، وتزييف إرادتهم بانتخابات شكلية مزيفة، ومعاملة المخالفين والمعارضين بأقصى صور الوحشية، وسلب حقهم في إبداء الرأي، وتأمين محاكمات عادلة… إلخ”[53].

وبعد أن يعدد د. محمد بلتاجي أسماء نماذج لهذه المنظمات مثل: منظمة العفو الدولية وغيرها، ويثني على بعض أدوارها وجهودها المتفقة مع أصول الإسلام في إنكار المنكر، وإلغاء كل صور التظالم، والضرر والضرار – يستدرك على بقية جهودها وأنشطتها المصادمة للقيم الإسلامية؛ لأن معيار هذه المنظمات في التقييم هو نمط المجتمع الغربي في الحياة، وأسلوبه وقيمه التي تختلف في كثير من الأمور اختلافا شاسعا عن نظائرها الإسلامية؛ فيقول في ذلك: “لكن هذه المؤسسات الدولية في مجال حقوق الإنسان تقوم أيضا بأعمال أخرى تدعونا إلى أن نستدرك عليها الملاحظات التالية:

تنطلق هذه المؤسسات من المفاهيم الغربية التي تتصادم – في كثير من النظريات – مع المفاهيم العقدية والنظم التشريعية الإسلامية، وعندئذ تهاجم الإسلام والنظم التي تطبقه، أو تدعو إلى تطبيقه في المجتمعات الإسلامية، وعند ذلك ترفض المبدأ القرآني)لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون)؛ لأنها تعتمد المعيار القيمي، والحياتي الغربي على أنه: المعيار الصحيح الذي ينبغي تعميمه على العالم كله، وقد عرضنا فيما سبق أسباب اختلاف العالم الغربي وروافده مع الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وحضارة في جوانب عديدة من النظر إلى الحياة والكون.

ويلقى المسلمون في ذلك عنتا شديدا بين الآونة والأخرى، حيث تهاجم هذه المؤسسات بضراوة كل نظام يتمسك بالشريعة الإسلامية، بخاصة في مجال العقوبات البدنية، وتشريعات الأسرة والمرأة وتلقى المملكة العربية السعودية نصيبا كبيرا من هذا الهجوم، كذلك مصر وإيران وغيرهما من بلدان العالم الإسلامي التي لا تجد أمامها إلا الاحتشاد لمقاومة محاولات هذه المؤسسات التي ينبغي عليها أن تدرك: أن مئات الملايين من المسلمين في أنحاء العالم لن ينصاعوا لمحاولاتهم المتكررة؛ لصرفهم عن إيمانهم، وعقيدتهم، وشريعتهم؛ لأن تجربتهم في الحياة ترفض في إصرار واستنكار ما آلت إليه القيم الغربية التي أصبحت في ظلها التجارة بالأعراض جزءا من النسيج الحياتى الغربي الاجتماعي، والاقتصادي.

وأضحت ألوان الشذوذ الجنسي حقائق معترفا بها قانونيا، واجتماعيا، وأصبحت السجون المكتظة بنزلائها مدارس لتفريخ الجريمة المنظمة وتدريس أصولها وقواعدها، وتخريج كوادر جديدة تدعم وجودها، وأضحت النظم التشريعية الجنائية فيها أكثر اهتماما بمصير عتاة المجرمين منها بمن وقع عليهم الاعتداء والبغي؛ حتى أصبحت التعليمات الأمنية في أرقى دول الغرب تنصح المواطن والسائح بأن يستجيب فورا لأوامر قطاع الطرق، وأن يقدم لهم ما يطلبون؛ كي لا يقتل على الفور.

وغاية ما تتمناه هذه المؤسسات الدولية: أن يعرض المسلمون عن ذكر الله إلى ما انتهت إليه قيمهم، وجهودها في هذا السبيل متواصلة؛ كما نبهنا الله تعالى بقوله: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة: ٢١٧).

ومن آخر هذه الجهود ما ذكرته الصحف، ووكالات الأنباء من أنه استجاب عدد من الدول الغربية في الأمم المتحدة لضغوط المنظمات الأهلية الداعية إلى تقنين العلاقات الزوجية غير الشرعية، وحماية حقوق الشواذ.

وتأتي محاولات الدول الغربية في إطار سعيها الحثيث منذ المؤتمر الرابع للمرأة في بكين لفرض عدد من المفاهيم والعادات والتقاليد، التي تخالف كافة الشرائع السماوية والأعراف والقيم السائدة في مجتمعات الدول الإسلامية، من خلال الإصرار على الاعتراف بالتوجهات الجنسية المختلفة، وتقنينها، وحماية العلاقات الجنسية غير الشرعية، أو القائمة على الشذوذ الجنسي، واتهام الدول الإسلامية بانتهاك حقوق الإنسان، وبعدم احترام المساواة، والحريات الشخصية، وهو الأمر الذي رفضته مصر، والدول الإسلامية بجدية وحزم مؤكدة ضرورة عدم السماح بتفشي مظاهر الانحلال الغربي، والتفسخ الاجتماعي – الذي يتسبب في كثير من المآسي، والمصائب، وعلى رأسها مرض الإيدز – داخل المجتمعات المؤمنة والمتمسكة بدينها وتقاليدها.

إن مما يدخل في تقييمنا لمجموع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، ما نلاحظه أحيانا من أن هذه المؤسسات تكيل في السياسة الدولية والتصرفات الإنسانية بكيلين، وتزن فيهما بأكثر من ميزان؛ حيث تأتي مثلا إلى تصرفات إسرائيل مع العرب – بخاصة الفلسطينيين -، فتجد هذه المؤسسات صامتة تماما حيال تصرفات إسرائيلية غاية في الوحشية والإجرام غير المسبوقين في التاريخ البشري، فأين الدفاع عن حقوق الإنسان في ظل هذا الصمت التام؟! وأين هذا الصوت العالي لهذه المؤسسات حينما تسيل قطرات من دم إسرائيلي أو أمريكي أو أوربي؟
ومن ملاحظاتنا على عمل هذه المؤسسات أيضا أنهم يغمزون الإسلام ويهاجمونه؛ تعريضا وتصريحا، على أعمال تقوم بها بعض حكومات الدول الإسلامية منافية لحقوق الإنسان، مثل تعذيب المتهمين، وحرمانهم من حقوق الدفاع الشرعي والقانوني، ومحاكمتهم محاكمات صورية على الرغم من رفض هذه الأعمال رفضا واضحا من قبل شريعة الإسلام وعقيدته ونظامه الخلقي؛ ومن ثم يعتبر من الظلم البين للإسلام وشريعته تحميله مسئوليتها؛ لأن الذين يقدمون عليها من الحكام إنما يخالفون أول ما يخالفون عقيدة شعوبهم وشريعتهم الإسلامية.

فكيف يحمل الإسلام مسئولية أعمال مخالفة لنصوصه ومقرراته، إذ الذين يقومون بها ينتسبون إليه في الجملة، لكنهم لا يلتزمون بمقولاته، وأحكامه؟! ذلك أن الإسلام لا يمثل عند هؤلاء الحكام إلا جانبا فلكلوريا شكليا، يتمثل في إسهامهم في بعض المناسبات والأشكال الدينية، أما حياتهم الحقيقية والعملية فهي بعيدة عنه تماما، وتعاني شعوبهم المسلمة من هذا البعد الكثير.

كذلك مما نلاحظه على عمل هذه المؤسسات أيضا – بخاصة ذات الصلة بالحكومات الغربية – وقوفها صامتة أو شبة صامتة أمام جرائم بعض الحكام، تجاه شعوبهم، عندما تكون هناك صلة وثيقة بين هؤلاء الحكام وبين الحكومات الغربية، بمعنى: حينما يكون الحاكم في حقيقته تابعا أمينا في سياسته الخارجية والداخلية، لبعض الحكومات الغربية التي تتغاضى عن جرائمه تجاه شعبه، مقابل بذله الولاء لهم، والسير في ركابهم، وتنفيذ إرادتهم في المنطقة.

ويبدو أن تقدير المصلحة الذاتية مخالط في الميزان الغربي لمسألة تقدير حقوق الإنسان، ولعل المؤسسات والحكومات الغربية لا تلام على ذلك؛ لأن مصلحة شعوبها مقدمة على أي اعتبار آخر خاص بشعوب أخرى متخلفة: إفريقية، أو آسيوية! ولعل هذا هو الذي يفسر ظواهر وملاحظات عديدة في ممارسة هذه المؤسسات والحكومات لمراعاة حقوق الإنسان، إذ إن الإنسان في مفهومه الشعوري واللاشعوري ينصب أصلا على الإنسان الغربي وحقوقه ومصالحه، فهو عندهم خلاصة الحضارة الإنسانية!

وهكذا يأخذ عمل المؤسسات، والحكومات الغربية العاملة في ميدان حقوق الإنسان بعدا برجماتيا[54] عمليا، لعله مظهر يسود أنشطة الحضارة الغربية الوضعية المعاصرة كلها. وقد آن لنا أن نعرض لصياغة إسلامية بديلة لحقوق الإنسان في المفهوم الغربي” [55].

ثم يأخذ د. محمد بلتاجي في عرض ملامح هذا البديل الإسلامي، من حيث سبقه إلى تقرير الحقوق الإنسانية، بما فيها حقوق الأقليات في المجتمع الإسلامي، ومراعاته للعدل الاجتماعي بين كل فئات المجتمع، وأن الأصل في الإنسان براءة ذمته من الإثم، وأن إثبات الجرم يتثبت فيه بكل سبيل قبل إقامة الحد، وأن هذه الحدود تدرأها الشبهات، وأن الجريمة الشخصية يقع وزرها على فاعلها دون غيره.

فلعله ظهر من خلال هذا الاستعراض أن المسألة لا تتصل بحق من حقوق الإنسان الفعلية، بقدر ما تتصل بأهواء القوم الغرضية. وأن مآقي مثيري هذه الشبهات، ومروجيها لا تخلو – حتما – من دموع التماسيح.

ولعل من أنسب ما يختم به الحديث – في شأن هذه المسألة – قول الشيخ الغزالي: “إن الجرأة على الحدود التي شرع الله لعباده جزء من تملق المدنية العصرية، وقوانينها المحدثة، وأوربا لن تطرب لكلام أجمل في أذنيها نغما من انسلاخ المسلمين عن دينهم، عقيدة وشريعة، ثم إن أمر العقيدة، والشريعة سواء.

والعقل المدخول الذي يريد منا أن نتأول نصوص الفقه التشريعي في: الحدود والقصاص والمعاملات، سوف يطلب منا غدا أن نتأول كذلك نصوص الإسلام الأخرى في: الصلاة، والزكاة، والحج، فليست هذه أولى من تلك بوقف التنفيذ؛ بل إذا سرنا على منطق التعطيل فإن العبادات ستسبق المعاملات إلى أودية الفناء” [56].

خامسا. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام:

حول حكمة تشريع الحدود، والعقوبات في الإسلام، يحدثنا د. محمد بلتاجي فيقول: نريد أن نعرض – في إيجاز شديد – لشيء من فلسفة العقوبة كقطع اليد، والرجم، والجلد، أهو التنكيل بالكرامة أم رغبة وحشية في إرضاء روح الجماعة المتعطشة للدماء؟ أم هو شيء آخر لا يمت لأحد هذين الهدفين بصلة؟

إنه مما لا شك فيه عند العارفين المنصفين أن التاريخ البشري، لم يشهد عقيدة أو نظاما احترمت فيه الإنسانية كما احترمت في الإسلام؛ ونصوص القرآن والسنة تنطق بهذا التكريم للإنسان باعتباره إنسانا فحسب، وبصرف النظر عما يملكه وعن منظره، فلم يكن المظهر المادي على وجه الإنسان – وبكل ما يحتويه – مقياسا للكرامة الإنسانية؛ لأن الله لا ينظر إلى لون الإنسان، أو جنسه أو وضعه الاجتماعي، ولكنه – عز وجل – ينظر إلى ذلك الشيء المشترك بين الناس جميعا، أعني – القلب – ومن هنا قيل في الإسلام – على لسان عمر بن الخطاب -: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. ولم يكن بلال الذي جعله عمر سيد المسلمين إلا عبدا حبشيا أسود اللون.

وهذه الكرامة البشرية للإنسان – في حد ذاته – هي الأساس التشريعي الذي بنيت عليه التشريعات الإسلامية، وهدفت إليه، ولم تكن العقوبات إلا سبيلا لذلك، فقد اعتبر التشريع الإسلامي خمسة أشياء، يجب أن تحاط بالحماية، والضمان على كل المستويات: الفردية والجماعية؛ تحقيقا لهذه الكرامة البشرية؛ حتى لا تصبح مجرد شعار أجوف، تناقضه حقائق الحياة المرة القاسية.

وهذه الأشياء الخمسة هي: الدين – أو العقيدة – والنفس والعقل والنسل – أو العرض – والمال، وهي ما يسمى بالكليات الخمس التي تحقق للإنسان – بالمحافظة عليها – كرامته البشرية.

وبدافع من الحرص الشديد على إحاطة هذه الكليات بالضمان، فرضت العقوبات الحاسمة على من يعتدي على أحدها، بأن يسلب حياة الإنسان، أو شرفه، أو ماله، وفي هذا المجال لم يفرق التشريع الإسلامي بين إيقاع الأذى بالنفس أو بالغير، ومن ثم أوجب العقاب على شارب الخمر، وإن كان اعتداؤه في الحقيقة منصبا على عقله أولا؛ لأنه – وإن كان هو المعتدي – إنسان يهتم التشريع بأن يحفظ عليه أسباب كرامته، ولو بزجر حازم.

ومن المسلمات – لدى كل منصف مطلع على الحقيقة – أن التشريع الإسلامي منزل من الله خالق الإنسان العليم به؛ ولأن نزعات الاعتداء، والتطلع إلى سلب ما يملكه الآخرون طبيعة متأصلة في الإنسان؛ ولأن الناس قد زين لهم حب الشهوات من النساء والأموال وغيرهما من متع الحياة، بحيث خالط هذا الحب أعمق خلجات وجدانهم؛ ولأن في الإنسان نزعات هوجاء تعجز الزواجر الأدبية، والخلقية أحيانا، مهما عظم سلطانها في القلب – عن الوقوف أمامها.

لهذا كله فرض التشريع الإسلامي عقوبات حاسمة؛ كي تتحقق الإنسانية لجميع الناس، لصاحب الشيء في ألا يغتصب حقه، وللآخر في ألا يطيع نزعاته الهوجاء بما تحمله من عواصف التدمير والاغتصاب والخراب، مما يفقد الإنسان المعنى الحقيقي للكرامة، ومعظم الناس – في لحظة من الحياة على الأقل – يكون أحد الرجلين.

ومن هنا كان في العقاب – بما يتضمنه بالنسبة للفرد المعتدي – حياة للمجموع وكرامة لهم، لأن في إسالة دمه الذي حل بالاعتداء منعا لإسالة دماء، واغتصاب أعراض وأموال كثيرة، وكلما كان العقاب شديدا؛ زاد تردد الفرد في الاعتداء وتوقفه عنه؛ ومن ثم زادت مقاومته وحصانته ضد أهوائه العاصفة؛ فتحقق بذلك قسط أكبر من الكرامة البشرية له، وللمجموع البشري على وجه العموم، ومن أجل هذا شرعت العقوبات الحاسمة في الإسلام[57].

الخلاصة:

الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح، ورؤية متكاملة للكون والحياة والدنيا والآخرة: والحدود جزء من هذه المنظومة ووسيلة من وسائل فاعليتها، تسبقها في هذه الرؤية الإصلاحية مقدمات كثيرة وأركان متعددة، ثم يأتي تطبيق الحدود كمرحلة أخيرة؛ لتتم هيكل هذه المنظومة، فليست الحدود إذن المقدمة، ولا الغالبة على الرؤية الإسلامية للإصلاح.
إن العقوبات التي قررتها الشريعة الإسلامية على مرتكبي الجرائم المنصوص على استحقاقها للحد، فيها رحمة بالإنسانية عامة وحفظ للمجتمعات، وصيانة لها، وليس فيها قسوة أوهمجية أو تعسف؛ فلقد اشترطت الشريعة لإقامة الحد شروطا يصعب توافرها في حق صاحبها، بل وصلت أحيانا إلى شبه الاستحالة، ثم درأت الحد بأدنى الشبهات.
لا شك أن إهمال تطبيق حدود الله قد أفقد المدنيات المعاصرة الأمان والطمأنينة، وحرم كثيرا من مواطنيها الاستقرار والراحة النفسية، وأصابها بالهلع من إجرام المجرمين واعتداء المعتدين، وصارت الجرائم والاعتداءات في هذه المجتمعات ألوانا شتى.
لقد راعت الشريعة الإسلامية عند تطبيقها للحدود كرامة الإنسان وحريته وإنسانيته والرحمة به، فقد راعت الوقت والمكان اللذين تنفذ فيهما العقوبة، والحالة الصحية للمحكوم عليه، وأصحاب الأعذار، كما راعت حالة المرأة من الحيض والنفاس والحمل والجنين، كما حرصت على عدم الإسراف في تنفيذ العقوبة، وتغسيل المحدود وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين.
قصدت الشريعة الإسلامية من إقامة الحدود مقاصد عظيمة تعود على الفرد والمجتمع وعلى الإنسانية عموما، منها: ردع المعتدين، أو من ينوي الاعتداء؛ حفاظا على الأمن، وصيانة المجتمع؛ حفظا للدين والنفس والعقل والعرض والمال على قاعدة الوقاية خير من العلاج؛ وحتى تتنزل الرحمات من الله – عز وجل – على عباده. فهل يقبل زعم من تذرع بمبدأ حقوق الإنسان على رفض تطبيق الحدود في الشريعة الإسلامية؟!

(*) افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، 1413هـ/ 1992م.

[1]. الحد: عقوبة مقدرة شرعا، وجبت حقا لله تعالى أو لآدمي زجرا، وهي: حد الردة، وحد قطع الطريق، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد القذف، وحد شرب الخمر.

[2]. رفده وأرفده: أعانه. وترافدوا: أعان بعضهم بعضا. والترافد: التعاون.

[3]. المعول: الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر، وجمعها معاول. وفي حديث حفر الخندق “فأخذ المعول يضرب به الصخرة”، والميم زائدة وهي ميم الآلة.

[4]. الإحصان: صفة يوصف بها الرجل أو المرأة، ويتحقق بشروط مخصوصة، ويشترط في أحكام منصوص عليها في كتب الفقه، وهو نوعان: إحصان لوجوب حد الرجم في الزنا، ويتحقق بالاسلام والعقل والبلوغ والحرية والدخول بالزوجة، وإحصان لوجوب الحد على القاذف، ويتحقق بالإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة عن الزنا. والمحصن: من توافرت فيه شروط الإحصان، والزوجان كل منهما يحصن الآخر؛ لأنه يمنعه من الوقوع في الزنا.

[5]. العدالة في الشهود: هي اجتماع صفات الصلاح والتقوى في الشخص، ولها علامات ذكرها العلماء.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت (6438)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4520) بنحوه.

[7]. أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، باب ما يستحب للمرء من ستر عورة أخيه المسلم وماله، أن عمر بن الخطاب كان يعس (397)، وعلاء الدين فوري في كنز العمال، كتاب الحدود من قسم الأفعال، فصل في أنواع الحدود (13597).

[8]. أرفده يرفده: أعانه. والترافد: التعاون.

[9]. صحيح: أخرجه عبد بن حميد في مسنده، مسند ابن عباس رضي الله عنه، ليس المؤمن الذي يشبع (694)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب الجار، باب لا يشبع دون جاره (112)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (149).

[10]. صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب الجار، باب جار اليهودي (128) بلفظ: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، والترمذي في السنن، كتاب البر والصلة، باب حق الجوار (1943) بلفظ: أهديتم لجارنا اليهودي، والبيهقي في شعب الإيمان، السابع والستون من شعب الإيمان وهو باب في إكرام الجار (9563) بلفظ: فابدأ بجارنا اليهودي، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (95).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4053)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (4506)، واللفظ له.

[12]. ضرمت النار وتضرمت واضطرمت: اشتعلت والتهبت.

[13]. العدالة: صفة لازمة في الشخص تستلزم السلامة أو البراءة من الفسق ونواقض المروءة. ورجل عدل: متصف بالعدالة. والعدل في الشهادة في عرف الفقهاء: هو الحر البالغ العاقل المسلم ذو المروءة، صوابه أكثر من خطئه، ولم يكن فاسقا، ولا محجورا عليه، ولا صاحب بدعة وإن تأولها، ولا كثير كذب، ولا باشر كبيرة أو صغيرة خسة وسفاهة، ولا متأكد القرابة للمشهود له؛ كأب أو ولد.

[14]. الإسلام دين الهداية والإصلاح، محمد فريد وجدي، دار الجيل، القاهرة، ط1، 1991م، ص96: 103 بتصرف.

[15]. الدين والحياة، نشرات دورية تصدرها وزارة الأوقاف، 2000م، ص20.

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا” (5774)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير (4626).

[17]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب اللام ألف (589)، والدارقطني في السنن، كتاب الرضاع (42)، والبيهقي في سننه الكبرى موقوفا، كتاب الضحايا، باب ما لم يذكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب (19509)، وحسنه الألباني في الإيمان لابن تيمية (1/ 44).

[18]. القصاص: مصدر قص وهو الجزاء على الذنب، أو المماثلة بين العقوبة والجناية، وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل في نفس أو ما دونها، وأن يوقع على الجاني مثل ما جنى؛ النفس بالنفس والجرح بالجرح… إلخ.

[19]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ، ص135.

[20]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص290.

[21]. الجوانب الإنسانية في تشريع العقوبة في الإسلام، د. عبد الغفار إبراهيم صالح، المجلة العلمية للبحوث الجنائية، كلية الحقوق ببني سويف، عدد يوليه 1989م، نقلا عن: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص315 وما بعدها.

[22]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء (4547).

[23]. المخدج: ناقص البنية أو ضعيف الجسم، يقال: خدجت الناقة: ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام الأيام وإن كان تام الخلق، والخداج: النقصان.

[24]. العثكال: الغصن الكبير الذي يكون عليه أغصان صغار، ويسمى كل واحد من تلك الأغصان “شمراخا”.

[25]. الشمراخ: هو ما يجمع من شيء مثل: حزمة الرطبة، وكملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق.

[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث سعيد بن سعد بن عبادة رضي الله عنه (21985) بنحوه، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب الكبير والمريض يجب عليه الحد (2574)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2574).

[27]. الضغث: قبضة من دقاق العيدان والنبات.

[28]. نكأ القرحة ينكؤها نكأ: قشرها قبل أن تبرأ فنديت.

[29]. الجدري: داء معروف يأخذ الناس وهو قروح في البدن تنفط عن الجلد ممتلئة ماء.

[30]. النفاس: هو حالة المرأة خلال الولادة أو بعدها مباشرة، تعقب الوضع ليعود فيها الرحم والأعضاء التناسلية إلى حالتها الطبيعية، ويطلق على الدم الذي يجري بعد الولادة، وتسمى المرأة في هذه الحال “نفساء”، وإذا أسقطت المرأة ما فيه تخطيط إنسان فالدم الذي بعده يعتبر دم نفاس، وهناك خلاف فقهي يرجع له في مكانه.

[31]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب تأخير الحد عن النفساء (4547).

[32]. سراية الحد: تجاوز العطب عما هو مقرر في الحد إلى غيره، كمن اقتص منه بقطع أصبعه، فالتهب مكان القطع وسرى ذلك إلى جميع البدن فمات الانسان.

[33]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الفتن، باب من كره الخروج في الفتنة وتعوذ عنها (37187)، والنسائي في المجتبى، كتاب تحريم الدم، باب تحريم القتل (4127)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (4127).

[34]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، حديث أبي رمثة رضي الله عنه (7107)، وأبو داود في سننه، كتاب الديات، باب لا يؤخذ الرجل بجريرة أخيه أو أبيه (4497)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4495).

[35]. أخرجه مسلم، ولفظ الروايتين له في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعتراف على نفسه بالزنا (4527، 4528).

[36]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الحدود، باب من قال: إذا فجرت وهي حامل انتظر بها حتى تضع ثم ترجم (28814).

[37]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1190) بلفظ: لعلك استكرهت، لعل زوجك أتاك، والدار قطني في سننه، كتاب الحدود والديات وغيره (139)، وصححه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (1190).

[38]. السحل: القشر والكشط، والسحل: الضرب بالسياط يكشط الجلد، وسحله مائة سوط سحلا: ضربه فقشر جلده.

[39]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص625.

[40]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/ 1985م، ج1، ص655.

[41]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/ 1985م، ص655.

[42]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6494)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الرحمة (4943)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).

[43]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/ 1985م، ص656.

[44]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/ 1985م، ص655.

[45]. قدر الباحثون عدد الأيدي التي قطعت في السعودية على مدار 24 عاما بـ 16 يدا.

[46]. وهذا ما فعله عمر بن الخطاب عام المجاعة. انظر: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي، دار النهضة العربية، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص628: 631.

[47]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ، ص150.

[48]. التنوير: حركة فلسفية بدأت في الغرب في القرن الثامن عشر، تتميز بفكرة التقدم وعدم الثقة بالتقاليد وبالتفاؤل والإيمان بالعقل والعلم والتجريب.

[49]. التعزير: عقوبة غير مقدرة في الكتاب والسنة، تجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وهي متروكة للإمام يقدرها حسب كل جناية بضوابطها المنصوص عليها عند الفقهاء.

[50]. الكاثوليكية: مجموعة التعاليم المسيحية التي تدين بها الكنيسة الرومانية وعلى رأسها البابا.

[51]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2003م، ص76 وما بعدها.

[52]. البروتستانتينية: مذهب ديني مسيحي نشأ عن حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، تدعو إلى تحرر الفرد من سلطان الكنيسة، وتجعله مسئولا أمام الله وحده، وتتبعه عدد من الكنائس الإنجليزية والمعمدانية وغيرهما، ويقابلها الكاثوليكية الرومانية والأرثوذكثية الشرقية.

[53]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2003م، ص101 وما بعدها.

[54]. البرجماتية: مذهب فلسفي يرى أن معيار الأفكار الناجحة في قيمة نتائجها العملية.

[55]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 2003م، ص109 وما بعدها.

[56]. من هنا نعلم، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط4، 2003م، ص25، 26.

[57]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 2003م، ص209 وما بعدها.

ادعاء أن الإسلام بعيد عن المبادئ الإنسانية في تشريع حد السرقة

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن الإسلام تجاوز كل المبادئ الإنسانية والقوانين الوضعية عندما شرع قطع يدالسارق، وهو في زعمهم بعيد كل البعد عن مجاراة الإنسانية في تقدمها وسباقها العلمي.

وجوه إبطال الشبهة:

1) اشترطت الشريعة الإسلامية لإقامة حد القطع على السارق شروطا صارمة وضوابط دقيقة للاستيثاق قبل الإقدام على التنفيذ.

2)  عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية رادعة، على عكس القوانين الوضعية.

3)  لا تطبق الشريعة الإسلامية حد القطع على السارق عند قيام الشبهة، لقاعدة “الحدود تدرأ بالشبهات”.

4)  القول بقسوة حد السرقة، وانتهاكه حقوق الإنسان غير صحيح، ولا سند له.

التفصيل:

يحرص الإسلام على صيانة الأموال من التلف والضياع، والانتقال من يد مالكها إلى يد أخرى من غير وجه حق. وحماية المال من المصالح الضرورية والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وسرقته جريمة خطيرة تفسد على الجماعة الاستقرار وعلى الأفراد الأمان، ولذلك اعتبر من مات دون ماله فهو شهيد، وعقوبة السرقة قطع اليد؛ لأنها تمتد لأخذ أموال الناس خفية، واليد الخائنة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسد.

أولا. الضوابط التي وضعتها الشريعة الإسلامية لإقامة حد القطع على السارق:

لا تقطع يد من أخذ شيئا من مال غيره إلا بضوابط أو بشروط منها:

أن يكون مكلفا، فإذا كان صبيا أو مجنونا وأخذ شيئا من مال غيره خفية لا تقطع يده لقوله صلى الله عليه وسلم:«رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن المجنون حتى يفيق. وفي لفظ: المعتوه حتى يعقل أو يفيق، وعن الصبي حتى يكب»ر. وفي رواية: «حتى يحتلم»[1].
أن يكون قد سرق مختارا لا مكرها، فلا حد على المكره لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»[2].
ألا يكون في المال الذي أخذه شبهة ملك، فإن كانت له فيه شبهة ملك، فإنه لا يعتبر سارقا في حكم الشرع، ومن ثم لا يحكم بقطع يده، ولهذا لا تقطع يد الأب والأم لسرقة مال ابنهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»[3].
أن يكون المسروق مالا يحل تملكه شرعا، فلا تقطع يد من سرق خمرا أو خنزيرا، وما أشبه ذلك من الأشياء التي يحرم تملكها وبيعها، وأن يكون المسروق مالا متقوما[4] أو ذا قيمة؛ لأن اليد لا تقطع في الشيء التافه، كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أن يكون المال المسروق مقدرا، أي يبلغ المسروق نصابا، والنصاب هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الأمتعة وغيرها. والدليل على ذلك ما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا»[5]. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: «تقطع يد السارق في ربع دينار»[6].

ويؤيد حديث ابن عمر ما ورد في الصحيحين من «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قطع في مجن [7] ثمنه ثلاثة دراهم»[8].

وقد اعترض من ليس له فقه بمقاصد الشريعة وأهدافها على قطع يد السارق في ربع دينار مع أن ديتها لو قطعت ظلما 500 دينار، فقال منشدا:

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار[9]

تناقض مالنا إلا السكوت له

ونستجير بمولانا من العار

فأجابه أحد الفقهاء:

يد بخمس مئين عسجد وديت

لكنها قطعت في ربع دينار

عز الأمانة أغلاها، وأرخصها

ذل الخيانة؛ فافهم حكمة الباري

أي أنها كانت ثمينة حين كانت أمينة، فلما خانت هانت.

أن يؤخذ المال المسروق من حرزه[10]، وهو المكان الذي أعد لحفظه وصيانته كالدار وغيرها، وكل شيء له حرز يناسبه، فإذا لم يؤخذ المال من حرز فلا قطع على من أخذه ولكن يؤدب.

والدليل ما ذكره عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:«سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل، قال صلى الله عليه وسلم: معها حذاؤها وسقاؤها، تأكل الشجر وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها، قال: الضالة من الغنم، قال صلى الله عليه وسلم: لك أو لأخيك أو للذئب، تجمعها حتى يأتيها باغيها، قال: الحريسة [11] التي توجد في مراتعها، قال صلى الله عليه وسلم: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال[12]، وما أخذ من عطنة [13] ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن”، قال: يا رسول الله، فالثمار ما أخذ منها في أكمامها[14]، قال صلى الله عليه وسلم: من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة[15] فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه[16] ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن»[17].

ألا يكون السارق مضطرا لسد جوعه، حيث لم يجد من الطعام الحلال شيئا يأكله، ولهذا منع عمر بن الخطاب قطع يد السارق في عام المجاعة[18]، وذكر أن كل سارق سرق عام المجاعة لم يقطع عمر بن الخطاب يده قائلا: أراه مضطرا، ولم ينكر أحد من الصحابة – أئمة الأمة – عليه هذا الأمر[19].

ثانيا. عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

تعاقب الشريعة الإسلامية على السرقة بالقطع لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).

والعلة في فرض القطع للسرقة هي أن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يفكر في أن يزيد ماله وكسبه بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من طريق الحرام، وهو لا يكتفي بثمرة عمله فيطمع في ثمرة عمل غيره وهو يعقل ذلك؛ ليزيد قدرته على الإنفاق أو الظهور أو ليرتاح من عناء الكد والعمل، فالدافع الذي يدفع إلى السرقة ويرجع إلى هذه الاعتبارات هو زيادة الكسب.

وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ونقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد على المستقبل.

فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة تصرف عن جريمة السرقة فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة، كان في العقوبة التي تصيبه منها ما يغلب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود للجريمة مرة ثانية.

وهذا هو الأساس الذي قامت عليه العقوبة للسرقة في الشريعة الإسلامية، وإنه لعمري خير أساس قامت عليه عقوبة السرقة من يوم أن شرعت حتى الآن.وإنه السر في نجاح عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية قديما، وهو الذي جعلها تنجح كذلك نجاحا باهرا في الحجاز في عصرنا هذا، فحولته من بلد كله فساد واضطراب ونهب وسرقات إلى بلد كله نظام وسلام وأمن وأمان.

لقد كانت الحجاز قبل أن تطبق فيها الشريعة الإسلامية مؤخرا أسوأ بلاد العالم أمنا، فكان المسافر إليها أو المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل، بل ساعة من نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان معظم السكان لصوصا وقطاعا للطرق.

فلما طبقت الشريعة الإسلامية، أصبح الحجاز خير بلاد العالم أمنا يأمن فيه المسافر والمقيم، وتترك فيه الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد من يسرقها، أو يزيلها من مكانها على الطريق حتى تأتي الشرطة فتحملها إلى حيث يقيم صاحبها[20].

عقوبة السرقة في القانون الوضعي:

وتجعل القوانين الحبس عقوبة للسرقة، وهي عقوبة أخفقت في محاربة الجريمة على العموم والسرقة على الخصوص، والعلة في هذا الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس.

وما حاجته إلى الكسب في المحبس، وهو موفر الطلبات مكفي الحاجات؟! فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب، وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته عن طريق الحلال والحرام على السواء، واستطاع أن يخدع الناس، وأن يظهر أمامهم بمظهر الشريف فيأمنوا جانبه ويتعاونوا معه، فإن وصل في الخاتمة إلى ما يبتغيه، فذلك هو الذي أراد، وإن لم يصل إلى بغيته فإنه لم يخسر شيئا، ولم يفته أمر ذو بال.

أما عقوبة القطع فتحول بين السارق وبين العمل، أو تنقص قدرته على العمل والكسب نقصا كبيرا؛ ففرصة زيادة الكسب مقطوع بضياعها على كل حال ونقص الكسب إلى حد ضئيل، أو انقطاعه هو المرجح في أغلب الأحوال، ولن يستطيع أن يخدع الناس أو يحملهم على الثقة به والتعاون معه رجل يحمل أثر الجريمة على جسمه وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه، فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس، وفي طبيعة الناس كلهم، لا السارق وحده ألا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة، وألا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة[21].

والسرقة من جرائم الاعتداء على الأموال، وهي جريمة خطيرة تفسد على الجماعة الاستقرار؛ لأن ضياع المال، الذي هو مصلحة ضرورية لحياة الأفراد والأمم، فيه مفسدة عظيمة[22]، ذلك المال الذي فرض الإسلام له الحماية كغيره من المصالح الضرورية، واعتبر من مات دون ماله فهو شهيد، وجعل حرمته كحرمة العرض في وجوب المحافظة عليه.

وسائل إثبات حد السرقة وما يترتب عليه:

وسائل إثبات السرقة[23]:

يثبت حد السرقة بالإقرار[24] أو البينة[25]، وهي شهادة رجلين مسلمين عدلين، فإن أقر السارق بما سرق عند الحاكم، ولم يرجع في إقراره، وكان ما سرقه يساوي النصاب أمر الحاكم بقطع يده جزاء بما كسب نكالا من الله، وكذلك لو شهد عليه رجلان مسلمان عدلان، ولم يرجع أحد منهما في شهادته أمر الحاكم بقطع يده.

ما يترتب على ثبوت السرقة:

إذا ثبتت السرقة بالأدلة القاطعة؛ فإنه يترتب عليها أمران:

o       ضمان المال المسروق لصاحبه.

o   قطع اليد لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).

 كيف تقطع يد السارق[26]؟

إذا ثبتت جريمة السرقة بالإقرار أو البينة وجب على الحاكم أن يقطع يد السارق، إذا كان مستوفيا الشروط التي منها البلوغ والعقل وعدم الإكراه أو الاضطرار؛ لقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة). وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف فور ثبوت الجريمة، ولا يجوز العفو إذا بلغت الجريمة إلى الحاكم، فقد ورد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[27].

فإذا سرق ثانية تقطع رجله اليسرى، فإذا سرق ثالثة تقطع يده اليسرى، فإذا سرق رابعة تقطع رجله اليمنى، ثم إذا عاد إلى السرقة يعزر ويحبس، ويجب أن تحسم[28] يد السارق بعد القطع بأية طريقة من الطرق التي تحبس الدم، حتى لا يتعرض المقطوع للتلف.

توبة السارق:

قال سبحانه وتعالى: )فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39)( (المائدة). فللسارق توبة قبل أن يصل أمره إلى الحاكم، وقبل أن يثبت عليه الحد بالإقرار، أو البينة بشرط رد المسروق إلى صاحبه[29].

ثالثا. متى لا تطبق الشريعة الإسلامية حد القطع؟

لا يطبق حد السرقة عند قيام الشبهة لقاعدة: “الحدود تدرأ [30] بالشبهات”[31]:

وقد عرض الفقهاء لعدد من هذه الشبهات التي يدرأ بها حد السرقة، وإن كان في بعضها خلاف، ومن هذه الشبهات:

إذا سرق العبد شيئا ينظر هل يطعمه سيده أم لا؟ فإذا كان لا، غرم سيده ثمن المسروق كما فعل سيدنا عمر – رضي الله عنه – في غلمان ابن حاطب بن أبي بلتعة حين سرقوا ناقة رجل من مزينة فقد أمر بقطع أيديهم، ولكن حين تبين له أن سيدهم يجيعهم درأ عنهم الحد، وغرم سيدهم ضعف ثمن الناقة تأديبا له[32].
تكذيب المسروق منه للسارق في إقراره بالسرقة بقوله: لم تسرق مني.
تكذيب المسروق منه ببينته بأن يقول: شهد شهودي زورا.
رجوع السارق عن الإقرار، فلا تقطع يده ويضمن المال؛ لأن الرجوع عن الإقرار يقبل في الحدود ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار، والحد يسقط بالشبهة ولا يسقط المال.
رد السارق المسروق للمسروق منه قبل الحكم عليه والمرافعة، فيسقط الحد حينئذ. أما بعد المرافعة فلا يسقط الحد؛ لأن الخصومة شرط السرقة الموجبة للقطع، فإذا رد السارق المسروق قبل المرافعة بطلت الخصومة بخلاف بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجوب الخصومة.
ملك السارق للمال المسروق قبل رفع الأمر للقضاء، فإذا ملكه قبل رفع الأمر للقضاء فلا يقام عليه الحد، أما إذا وهبه بعد رفع الأمر للقضاء لم يسقط عنه الحد؛ لما جاء «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر في سارق رداء صفوان: أن تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، وهو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني»[33].
ادعاء ملكية المسروق، فإذا ادعى الجاني ملكية الشيء المسروق فعندئذ يرى البعض أن الادعاء يسقط القطع.
عفو المسروق منه عن السارق يسقط الحد، بشرط أن يكون هذا العفو قبل رفع الأمر إلى ولي الأمر[34].

رابعا. هل عقوبة القطع لا تتفق مع مدنية العالم وإنسانيته في العصر الحاضر؟!

إن حد السرقة من الحدود الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وقد أقيم هذا الحد – القطع – في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء والعهود التالية للإسلام في البلاد الإسلامية، وعليه فإن تطبيق حد السرقة واجب التنفيذ شرعا؛ لأن الله أمر بتطبيقه.

وإذا كان أعداء الإسلام يقولون: إن إقامة حد السرقة فيه قسوة وامتهان لكرامة الإنسان، وتقطيع لأطرافه، وتشويه لسمعته، وأن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر، وقالوا: لو نفذنا حد السرقة لشوهنا بذلك نصف المجتمع، ولقضينا على عدد كبير من أبناء البشرية الذين تشل حركتهم حينئذ، ولرأينا بذلك جيشا جرارا من العاطلين، والمشوهين الذين شوهت أطرافهم بحد السرقة.

ونقول لهؤلاء: انظروا إلى المجتمع الذي كان في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين، والأمن الذي كان ينتشر فيه، والسعادة التي كانت ترفرف عليه حين كانوا ينفذون أحكام الشريعة الإسلامية بدقة من غير إهمال، وقارنوا في هذا بينه وبين المجتمعات المعاصرة التي لا تقام فيها الحدود الشرعية.

فعلى الرغم من وفرة المال في كثير من المجتمعات المعاصرة، وانتشار الحضارة والمدنية، فإن الأمن غير مستتب في هذه المجتمعات التي لا تطبق فيها الحدود الشرعية، والناس كذلك غير آمنين فيها على أموالهم وأنفسهم، والفساد قد عم كل مكان، والسرقات من الأفراد والمجتمعات والجماعات والحكومات سرا وعلانية، بل إن العصابات تسطو على الناس في الشوارع والطرقات في الليل وأثناء ركوبهم المركبات؛ وذلك كله لعدم تنفيذ حدود الإسلام.

لذا فإن تنفيذ حد السرقة هو العلاج السليم لمكافحة جريمة السرقة، وأكبر شاهد على ذلك ما نشاهده في السعودية التي وفقها الله لإقامة حدوده، فقد طبقت السعودية هذه العقوبة، فكانت النتيجة أن مجموع من قطعت أيديهم خلال نصف قرن لم يبلغ الخمسين، وتحقق من الأمن في صحاريها الواسعة الخالية، وليس في مدنها فحسب مالم يتحقق في كبريات عواصم أوربا وأمريكا المزودة بقوى الأمن المسلحة.

بل إن ما يحدث بسبب السرقة في عاصمة واحدة من هذه العواصم من إزهاق الأرواح من السارقين والمسروقين، ورجال الأمن في فترة سجن، سنة مثلا، يعادل مئات أضعاف ما حدث في السعودية في خمسين سنة من حوادث قطع اليد فأي النتيجتين أسلم، وأدعى للأمن وأرفق بالإنسان؟ مع العلم أن كثيرا من هؤلاء الذين يقتلون في تلك العواصم ليسوا بمجرمين ولا مذنبين، وأن الذين قطعت أيديهم ولم يقتلوا مجرمون تحققت فيهم صفة الإجرام، ناهيك عما يحدث من ترويع للنفوس الآمنة في البيوت والمعارض وغيرها!!

والعجيب بعد هذا أن يأتي الاعتراض على هذه العقوبة وأمثالها ذات الهدف الاجتماعي والأخلاقي من أبناء شعوب دول ارتكبت الحوادث ومازالت ترتكب حوادث القتل الجماعي من حروب استعمارية، وحروب نشر الإيديولوجيا، وبسط النفوذ.

وأعجب من هؤلاء: التابعون لخطاهم والناعقون وراء افتراءاتهم من أبناء أمتنا الإسلامية الذين صنعت أدمغتهم في معامل أولئك؛ فصموا عن جنايات سادتهم على الإنسانية، وجاءوا ينادون بالإشفاق على المجرمين والاحتجاج على عقوبتهم!!

وأعجب من ذلك من يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصل إليه العالم من الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر. كأن الإنسانية والمدنية هي أن نقابل السارق بالمكافأة على جريمته، وأن نشجعه على السير في غوايته، وأن يعيش المجتمع في خوف واضطراب، وأن نكد ونشقى ليستولي على ثمار عملنا العاطلون واللصوص!!

وكأن الإنسانية والمدنية – في ظنهم – هي أن ننكر العلم الحديث والمنطق الدقيق، وأن ننسى طبائع البشر، ونتجاهل تجارب الأمم، وأن نلغي عقولنا، ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا لنأخذ بقول يقوله قائل، ولا يجد عليه دليلا بعد ذلك إلا التهويل والتضليل.

فإذا كانت العقوبة الصالحة حقا – كما يزعمون – هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء وعقوبة القطع قد كتب لها البقاء؟! ذلك لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس، وطبائع البشر، وتجارب الأمم، ومنطق العقول والأشياء، وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية.

أما عقوبة الحبس، فلا تقوم على أساس من العلم والتجربة، ولا تتفق مع منطق العقول، ولا طبائع البشر.

وإن أساس عقوبة القطع هي دراسة نفسية الإنسان وعقليته؛ فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وهي في الوقت ذاته صالحة للجماعة؛ لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم وتأمين المجتمع. وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة؛ فهي أفضل العقوبات وأعدلها.

ولكن ذلك كله لا يكفي عند بعض من عميت أبصارهم عن الحقيقة – لتبرير عقوبة القطع؛ لأنهم يرونها عقوبة موسومة بالقسوة، وتلك هي حجتهم الأولى والأخيرة، وهي حجة مدحوضة.

وبعد ذلك فإن القانون الوضعي أيها السادة الرحماء يوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة في بعض جرائم السرقة، ويوجب الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة في بعض جرائم السرقة الأخرى.

فكيف ترضى قلوبكم الرحيمة أن يوضع المحكوم عليه بالسرقة في السجن، كما يوضع الحيوان في قفصه أو الميت في قبره طوال هذه المدة محروما من حريته بعيدا عن أهله وذريته؟ وأيهما أقسى: قطع يد المحكوم عليه وتركه بعد ذلك يتمتع بحريته ويعيش بين أهله وولده، أم حبسه على هذا الوجه الذي يسلبه حريته وكرامته وإنسانيته ورجولته؟!

والقانون أيها الرحماء يبيح عقوبة الإعدام؛ وهي تؤدي إلى إزهاق الروح وفناء الجسد، أما عقوبة القطع فهي تؤدي إلى فناء جزء من الجسد فقط، فمن رضي بعقوبة الإعدام – وأنتم بها راضون – وجب أن يرضى بعقوبة القطع؛ لأنها جزء من كل، ومن لم يستفظع عقوبة الإعدام فليس له أن يستفظع عقوبة القطع بأي حال[35]!!

وجريمة السرقة من أشد الجرائم خطورة، فإذا فشت بين الناس فقد هددوا في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم، وأصبحت حياتهم غير آمنة، فالسارق كالحيوان المفترس الذي يفتك بكل ما يلاقيه، لذا فجريمته يجب أن تقابل بالقسوة؛ حتى يقطع دابرها من بين الناس بتاتا.

فإذا تخيل الشخص أن العقوبة شديدة وجب عليه أن يعلم أن فظاعة الجريمة وآثارها في المجتمع أشد وأنكى، ثم إن العقوبات وضعت فيما وضعت لزجر فاسدي الأخلاق، وهؤلاء لا ينزجرون بالرفق واللين بدون نزاع، فإذا لم تتصف العقوبة بالحسم، فإنهم لا ينزجرون أبدا – ما لم تتداركهم رحمة الله -.

والشريعة لم تقطع يد السارق وقت الحاجة وذلك لكونه مضطرا، فمن سرق في أوقات المجاعة لدفع الهلاك؛ فلا قطع ولا تعزير، وقد أسقط عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حد السرقة في عام الرمادة حين جاع الناس.

الخلاصة:

لتنفيذ حد السرقة ضوابط وشروط مشددة للغاية تضمن تنفيذ العقوبة على من يستحقها بالفعل، وهي: أن يكون السارق مكلفا، وأن يكون قد سرق مختارا لا مكرها، وألا يكون في المال الذي أخذه شبهة ملك، وأن يكون المسروق مالا يحل تملكه شرعا، وأن يكون مقدرا، وأن يؤخذ من حرزه، وأخيرا ألا يكون السارق مضطرا لسد جوعه.
يعفي الشرع الإسلامي المجرم من إقامة الحد عليه في ظروف كثيرة كظروف مجاعة عامة، كما حدث أن أوقف الفاروق عمر – رضي الله عنه – تنفيذ الحد في عام الرمادة، لوجود علة الاضطرار للسرقة؛ وهي المجاعة الشديدة.
لا محل لوصف تشريع هذا الحد بالقسوة وعدم التحضر، فالرحمة أساس هذا التشريع، والحسم في تنفيذ هذا الحد بالذات فيه رحمة بالأطراف جميعا؛ فهو رادع للجناة عن الوقوع في الخطأ، ومشعر للمجني عليهم بالطمأنينة والأمان، ومن شأنه أن يشيع الأمن والاستقرار في المجتمع.

(*) الفقه الجنائي الإسلامي، د. فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبة، دمشق، ط1، 1425هـ/ 2004م.

[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25157) بنحوه، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (4400)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4398).

[2]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الطلاق، باب ما قالوا في الرجل يحلف على الشيء بالطلاق فينسي فيفعله أو العتاق (19051) بنحوه، وابن ماجه في سننه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي (2045)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2045).

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6902)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2291)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2291).

[4]. المال المتقوم: ما له قيمة المال الذي يمكن الانتفاع به، المال غير المتقوم نوعان: غير متقوم عند المسلمين ومتقوم عند غيرهم كالخمر والخنزير، غير متقوم عند المسلمين وعند غيرهم كالنجاسات، والمال الذي لا ينتفع به بوجه من وجوه الانتفاع.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب قوله تعالى: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( (المائدة: ٣٨) (6407)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها (4492) بنحوه.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب قوله تعالي: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( (المائدة: ٣٨) (6407)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها (4495) بلفظ: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار.

[7]. المجن: من الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء، وكسرت ميمه؛ لأنه آلة في الاستتار،.وهو الترس يحمله المحارب، لأنه يواري حامله، أي يستره.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب قوله تعالى: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( (المائدة: ٣٨) (641)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها (4500) بنحوه.

[9]. العسجد: الذهب، وقيل: هو اسم جامع للجوهر كله من الدر والياقوت. ويقال: ودى فلان فلانا: إذا أدى ديته إلى وليه، وأصل الدية ودية، فحذفت الواو كما قالوا: شية من الوشي.

[10]. الحرز: هو الموضع الذي يحفظ فيه الشيء والجمع أحراز، وفي اصطلاح الفقهاء: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس كالدار والخيمة والشخص.

[11]. الحريسة: هي التي ترعى في الحقل وتحرس.

[12]. النكل: اسم لما جعلته نكالا لغيره إذا رآه خاف أن يعمل عمله، ونكل به تنكيلا: إذا جعله نكالا وعبرة لغيره، ويقال: نكلت بفلان: إذا عاقبته في جرم أجرمه عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، ونكل بفلان: إذا صنع به صنيعا يحذر غيره منه إذا رآه، والنكال: ما نكلت به غيرك كائنا ما كان.

[13]. العطنة: الحظيرة.

[14]. الكم ـ بالضم والكسر ـ: للطلع وكل نور ولكل شجرة مثمرة: وعاؤه أو برعومته.

[15]. الخبنة: هو معطف الإزار وطرف الثوب، والمعنى: لا يأخذ منه في ثوبه، يقال: أخبن الرجل إذا خبأ شيئا في خبنة ثوبه أو سراويله.

[16]. أجران جمع مفرده جرن: وهو الموضع الذي يداس فيه القمح ونحوه.

[17]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (6683)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين (4959) بلفظ: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبال، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (4959).

[18]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/1997م، مج 2، ص238: 243.

[19]. تلخيص الحبير, ابن حجر العسقلاني, مؤسسة قرطبة, القاهرة, ط2, 2006م, ج4, ص137.

[20]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص652، 653.

[21]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص653، 654.

[22]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م.

[23]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/1997م، مج 2، ص246.

[24]. الإقرار: إخبار بحق للغير على المخبر نفسه ، أو هو خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط.

[25]. البينة: الحجة الواضحة، والجمع بينات، وهي في اصطلاح الفقهاء مخصوصة بالشهود، أو الشاهد واليمين. وهي في كلام الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة: اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم مما في اصطلاح الفقهاء.

[26]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/1997م، مج 2، ص248.

[27]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4885)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4376).

[28]. حسم العرق: قطعه ثم كواه؛ لئلا يسيل دمه، وهو الحسم، وحسم الداء: قطعه بالدواء.

[29]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/1997م، مج 2، ص250.

[30]. الدرء: الدفع. يقال: درأه يدرؤه درءا ودرأة: دفعه. وتدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا. ودرء الحد عن المتهم: دفعه عنه.

[31]. الشبهة: الالتباس في أمر ما. يقال: أمور مشتبهة: مشكلة يشبه بعضها بعضا. وشبه عليه: خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره.

[32]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص546.

[33]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3086)، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز (2595)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2595).

[34]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1984م، ج6، ص126، 127 بتصرف.

[35]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص651: 655 بتصرف.

دعوى تعارض عقوبة الجلد والرجم في الشريعة الإسلامية مع الحرية الشخصية وحقوق الإنسان

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المغرضين أن الشريعة الإسلامية حينما وضعت منهجا محكما للتعامل مع الغريزة الجنسية؛ لتكبح من جموحها، اعتدت بصورة صارخة على الحرية الشخصية، وضيقت منافذ هذه الحرية، بتحريمها أنماطا سلوكية – يراها هؤلاء من صميم الحرية الشخصية – مثل: اللواط والسحاق والزنا، وأنها شرعت لهذه الأنماط السلوكية عقوبات تتعارض مع حقوق الإنسان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) منهج الإسلام في التعامل مع الغريزة الجنسية منهج حكيم يضع التدابير لتهذيبها، أو تصريفها في الحلال، والوقاية من الجنوح نحو الحرام.

2)  الحكمة التشريعية من تحريم الزنا تكمن في الحرص على حماية الأعراض، وحفظ الصحة والأنساب والأموال.

3)  تدرجت الشريعة في عقوبة الزنا، ووضعت شروطا لإثباتها.

4)  عقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية رادعة، أما في القوانين الوضعية؛ فهي هينة واهية مغرية بتكرار الجريمة.

5)  هناك حالات عديدة يؤخر فيها تنفيذ العقوبة رحمة بالمذنب.

6)  للزنا واللواط والسحاق مفاسد وأضرار بالغة.

7)  ليس في حد الزنا قسوة واعتداء على الحرية الشخصية، وانتهاك لحقوق الإنسان، بل ردع ورحمة.

التفصيل:

إن جميع الرسالات والتشريعات السماوية حرمت كل ما هو ضار بالعقل والعرض والمال والنفس والعقيدة، كما حرمت الأديان جميعها الزنا، وحرمه الإسلام وحرم كل وسيلة تؤدي إليه؛ لأن فيه اعتداء على الحرمات واختلاطا للأنساب، وشرع العقوبة لمن ارتكب الزنا واللواط وغيرهما.

أولا. منهج الإسلام في التعامل مع الغريزة الجنسية:

الله – عز وجل – هو خالق الإنسان، وهو العليم بما فطر عليه من الدوافع والغرائز التي ركبت في طبيعته، ولا يملك أن ينفك عنها. والغاية من خلق الإنسان أن يكون خليفة في الأرض عابدا لله، وأن يعمل على تعمير الأرض بكل ما يستطيع من وسائل وسبل، حتى تتحقق الحكمة الإلهية التي جاءت ردا على استفسار الملائكة في قوله سبحانه وتعالى: )أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)( (البقرة).

والشريعة الإسلامية من الله – عز وجل – خالق الإنسان والأعلم به، ومن أجل هذا كان طبيعيا أن يقف الإسلام من الإنسان موقف المدرك لحقيقته، المعترف بغرائزه وميوله، فما من مصلحة لا يستغني عنها الإنسان في حياته إلا وأمرت بها الشريعة الإسلامية، وقررت حمايتها والحفاظ عليها، وما من مفسدة تحد من حركة الإنسان في تعمير الأرض، أو تدخل الانحراف والخلل على حياته إلا وأوصدت الشريعة بابها بالنواهي التي لا تجوز مخالفتها.

ففي مجال الغريزة الجنسية، وقف الإسلام موقف المهذب لهذه الغريزة، فعمل على تنظيمها وتحديدها بما يكفل تصريفها بالوسائل المشروعة، وبما يحد من انطلاقها بصورة تدمر حياة الإنسان، وتهدم كيانه الأخلاقي، وفي إطار ذلك التنظيم شرع الإسلام ما يلي:

شرع الزواج: وجعله طريقا شرعيا للتعامل مع هذه الغريزة، بل جعله آية من آيات الله في خلقه قال سبحانه وتعالى: )ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)( (الروم).

والرسول – صلى الله عليه وسلم – يرشد إلى الزواج في أحاديث منها ما ذكره عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة [1] فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» [2] [3].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة»[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[5].

حرم الرهبانية: وهي العزوف عن الزواج والزهد فيه، واستقذار الغريزة الجنسية بنية التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، وخاصة إذا كان الإنسان قادرا على الزواج؛ يملك المؤونة والطاقة.

عن أنس «أن نفرا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – سألوا أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد – صلى الله عليه وسلم – الله وأثنى عليه ثم فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[6].

اعتبر تصريف الشهوة بالحلال من الأعمال الصالحة [7] التي تستحق الأجر والثواب من الله عز وجل، فقد جاء عن أبي ذر«أن أناسا من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قالوا يا رسول الله، ذهب أهل الدثور[8] بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم قال صلى الله عليه وسلم: أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها في حرام كان عليه وزر؟ وكذلك إذا وضعها في حلال كان له فيها أجر»[9].
لم يتدخل الإسلام في كيفية العلاقة بين الزوجين؛ فأعطى لهما الحرية الكاملة في الممارسة طالما كانت بعيدة عما يجب التعفف عنه، كالإتيان في الحيض أو غير موضع الحرث، ودون ذلك كان صريح القرآن الكريم ناطقا بهذه الحرية في العلاقة بين الزوجين. قال سبحانه وتعالى: )نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم( (البقرة:٢٢٣).

أما في مجال الضوابط التي شرعها الإسلام؛ لتحد من جموح هذه الغريزة وانطلاقها – إذا لم يتيسر للإنسان الزواج – فقد جاء في القرآن الكريم أمر لهم بالعفة حيث قال سبحانه وتعالى: )وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله( (النور: 33).

وتأخذ عفة الإنسان وتساميه وارتقاؤه فوق الطبيعة البهيمية صورا متعددة هي في مجملها – إلى جانب التكليف الشرعي – من مكارم الأخلاق التي لا يستغنى عنها المؤمن الذي عرف حقيقة كرامته الإنسانية، وحقيقة الدنيا من حوله، من هذه الصور:

غض البصر عن المحرمات؛ استجابة لقوله سبحانه وتعالى: )قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون (31)( (النور).

فذكر غض البصر في الآية الكريمة قبل حفظ الفرج له معناه ومدلوله؛ لأن النظر بريد الزنا، وهو من سهام إبليس، وقد حرم الإسلام النظر إلى الأجنبيات، بدليل الآيات السالفة. وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها! فقال صلى الله عليه وسلم: “فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها”، قالوا: وما حق الطريق؟ قال صلى الله عليه وسلم: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»[10].

والشريعة ما حرمت أمرا إلا حرمت ما يؤدي إليه، وقد حرمت الزنا، وحرمت – بالتالي – مقدماته، كالنظر واللمس والتبرج، وغير ذلك مما يحرك غرائز الإنسان، ويفتح الباب واسعا أمام الشيطان ليعبث بالعقول، ثم يتقاذفها كما يتقاذف اللاعبون الكرة، وما أصدق قول الشاعر:

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كل الحوادث مبدؤها من النظر

الأمر بالصيام؛ لأنه يكسر حدة الشهوة عند الإنسان، ويعمل على صفاء نفسه، وتسكين جوارحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»[11].
تحريم الزنا؛ فأمر في سبيل ذلك بالابتعاد عن المثيرات الجنسية، وما يحرك الغرائز الساكنة؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومما لا شك فيه أن النظر إلى النساء الكاسيات العاريات، وقراءة القصص التي يبثها تجار الغرائز الجنسية، ومشاهدة الأفلام الخليعة، كل ذلك مما يثير الغريزة، ويلوث الشرف، ويقتل الكرامة، ويصعق الذاكرة والشخصية؛ فتكون النتيجة أن ينهزم الشباب بعيدا عن ميدان الحرب.

ثانيا. الحكمة التشريعية من تحريم الزنا:

لم يحرم الله – عز وجل – الزنا عبثا، ولا تشديدا دون طائل، إنما يكمن وراء التحريم عبر وعظات ومصالح تعود على المجتمع الإسلامي كله بالطمأنينة والسلام، ويمكن إيجاز الأسباب التي أدت إلى تحريم الزنا فيما يأتي:

المحافظة على الأنساب: ففي تحريم الزنا حماية للأنساب من الاختلاط؛ حيث ينشأ الولد في كنف أبيه يكد ويسعى في تربيته، ولا يبخل عليه، ومن المحتقر أن يربي الإنسان ولد غيره ظنا منه أنه ولده من صلبه.
حماية الأعراض: فالزنا يؤدي إلى النيل من كرامة الإنسان، حينما تكون سيرته على ألسنة الناس، وفي هذا انحطاط أخلاقي، وإشاعة للفاحشة بين الناس، فلم يعد لمن خدش عرضه شيء يحرص عليه أمام الناس؛ فينزلق في الفجور والعصيان.
المحافظة على نقاء النوع الإنساني من الانقراض: لأن ظهور الزنا وشيوعه يؤدي إلى ظهور جيل من اللقطاء الذين لا يعرفون آباءهم، وهم أكثر الناس تعرضا للهلاك، وقد يكونون عرضة للقتل؛ لأنهم يسببون لهم العار.
المحافظة على الصحة: الزنا يؤدي إلى تفشي الأمراض الخبيثة، وبتحريمه تثبت الشريعة الإسلامية أصالتها وسموها على مر العصور والأزمان؛ إذ تثبت الأبحاث العلمية كل يوم مرضا جديدا في جسد الزناة المصرين على الزنا وارتكاب الفاحشة، ولعل الكارثة الكبرى ذلك المرض الفتاك اللعين المسمى بالإيدز، وقد أثبتت الدراسات أن الغالبية العظمى من المصابين بهذا المرض، هم المرتكبون لفاحشة الزنا والشواذ جنسيا، وهم لذلك يعيشون في ظل الموت البطيء الذي حكم عليهم به بسبب فساد طباعهم وانحرافهم عن صراط الله المستقيم[12].
المحافظة على الأموال: حرم الله الزنا محافظة على الأموال؛ لأن انتشار الزنا في أمة يؤدي إلى كثرة المرضى بها، وهذا يؤدي إلى كثرة المتعطلين الذين يعيشون عالة على غيرهم، وبالتالي يقل الإنتاج، ويضعف الدخل.
المحافظة على الأخلاق: ففي تحريم الزنا مراعاة لجانب الأخلاق الذي يقوم عليه المجتمع، فالزنا يفسد الأخلاق، ويؤدي إلى التفكك والانقسام بين أفراد المجتمع.

ثالثا. التدرج في تشريع العقوبة على جريمة الزنا:

جاء الإسلام والزنا منتشر، كشأن غيره من المفاسد التي كانت منتشرة بين العرب في الجاهلية، فكان سبيله في التدرج في تشريع العقوبة عليه، كما هو المنهج في التشريع الإسلامي.

اقتصرت العقوبة في أول الأمر على الحبس في البيوت، والإيذاء بالضرب والتوبيخ، بدليل قوله سبحانه وتعالى: )واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)( (النساء).

فيرى بعض الفقهاء أن الحبس في البيوت هي العقوبة الخاصة بالنساء، وأن الإيذاء هو العقوبة الخاصة بالرجال، بينما يرى بعضهم أن العقوبة جعلت في أول الأمر على النساء؛ لأنها هي السبب المباشر للفعل، فشرع لها عقوبة الحبس في البيوت حتى الموت، ثم جعلت العقوبة للرجل والمرأة معا، لقوله سبحانه وتعالى: )واللذان يأتيانها منكم فآذوهما( (النساء: ١٦).

ثم تدرج التشريع بعد ذلك؛ فنسخت عقوبتا الحبس والإيذاء، وحل محلهما العقوبة الثانية الجلد والرجم، وذلك بما يلي: قال سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور)؛ حيث نسخت هذه الآية )الزانية والزاني( آية الحبس وآية الإيذاء، وبينت عقوبة الزنا.

ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[13].

 وقد رجم الرسول – صلى الله عليه وسلم – ورجم بعده الخلفاء الراشدون، واستقر الحكم على مر العصور الإسلامية المختلفة.

وهنا ملاحظة لا بد أن نشير إليها، وهي أنه لا تخفى المناسبة بين قوله صلى الله عليه وسلم: «قد جعل الله لهن سبيلا»، وبين قوله – سبحانه وتعالى – في الآية الكريمة: )أو يجعل الله لهن سبيلا (15)( (النساء)؛ لأن السنة توضح القرآن وتبين مجمله.

وقد بقي المسلمون في انتظار السبيل الذي يجعله الله – عز وجل – بخصوص الزاني، فجاء السبيل في السنة الشريفة كما تقدم “البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم”، واستقر الأمر في النهاية على جلد غير المحصن ورجم المحصن.

بم يثبت حد الزنا[14]؟

يثبت حد الزنا بواحد من أمرين؛ الإقرار أو البينة:

الإقرار: هو الاعتراف بالزنا، والاعتراف سيد الأدلة، والدليل ما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[15].
البينة: بأن يشهد أربعة من الرجال البالغين العقلاء العدول على رجل وامرأة بالزنا.

ويشترط في الشهود:

أن يكونوا أربعة: قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء( (النور:4).
أن يكونوا مسلمين: قال سبحانه وتعالى: )فاستشهدوا عليهن أربعة منكم( (النساء:١٥).
أن يكونوا عدولا.
أن يكونوا ذكورا.
الشهادة في مجلس واحد… وغير ذلك.

رابعا. العقوبات في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

عقوبة الجلد:

تعاقب الشريعة الإسلامية الزاني الذي لم يحصن بعقوبة الجلد؛ لأن الشريعة الإسلامية عينت العقوبة وقدرتها، فجعلتها مائة جلدة قال سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور).

وقد وضعت العقوبة – أي الجلد – على أساس محاربة الدوافع النفسية التي تدعو إلى الجريمة بالدوافع التي تصرف عن الجريمة، وهذا هو الذي يهدينا إليه التأمل والتفكير في الجريمة وعقوباتها.

والدافع الذي يدعو الزاني للزنا هو اشتهاء اللذة والاستمتاع بالنشوة التي تصحبها، والدافع الوحيد الذي يصرف الإنسان عن اللذة هو الألم، ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة إذا تذوق مس العذاب، وأي شيء يحقق الألم ويذيق العذاب أكثر من الجلد مائة جلدة؟‍‍

فالشريعة الإسلامية حينما وضعت عقوبة الجلد للزنا لم تضعها اعتباطا، وإنما وضعتها على أساس من طبيعة الإنسان، وفهم لنفسيته وعقليته، والشريعة حينما قررت عقوبة الجلد للزنا، دفعت العوامل النفسية التي تدعو للزنا بعوامل نفسية مضادة تصرف عن الزنا، فإذا تغلبت العوامل الداعية على العوامل الصارفة، وارتكب الزاني جريمته مرة، كان فيما يصيبه من ألم العقوبة وعذابها ما ينسيه اللذة ويحمله على عدم التفكير فيها وحرصا من المشرع على القضاء شبه التام على هذه الجريمة، أضاف إليها عقوبة أخرى رادعة وهي “التغريب”، وتعتبر تكميلية للجلد، والمصدر التشريعي لهذه العقوبة حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[16]. ويشترط في التغريب أن يكون مسافة تقصر فيها الصلاة، أي إلى مكان يبعد عن بلده ثمانين كيلو مترا؛ لأن المقصود البعد عن أهله ووطنه[17].

وللتغريب علتان:

التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن، وهذا يقتضي إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة، أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة، فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة.
أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لا بد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقات إلى حد قطع الرزق، وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير؛ فالإبعاد يهيئ الجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة.

وظاهر مما سبق أن التغريب وإن كان عقوبة إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولا ولصالح الجماعة ثانيا، والمشاهد – حتى في عصرنا الحالي الذي انعدم فيه الحياء – أن كثيرا ممن تعيبهم معرة الزنا يهجرون موطن الجريمة مختارين؛ لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان[18].

عقوبة الجلد في القوانين الوضعية:

لقد كانت عقوبة الجلد من العقوبات التي يعترف بها قانون العقوبات المصري سنة 1937، ثم ألغاها المشرع المصري مقلدا في ذلك معظم القوانين الوضعية التي ألغت هذه العقوبة، وأقرت هذه القوانين الحبس عقوبة على الزنا، وهي عقوبة لا تؤلم الزاني إيلاما يحمله على هجر اللذة التي يتوقعها من وراء الجريمة، ولا تثير فيه من العوامل النفسية المضادة ما يصرف العوامل النفسية الداعية إلى الجريمة أو يكبتها.

وقد أدت عقوبة الحبس إلى إشاعة الفساد والفاحشة، وأكثر الناس الذين يمسكون عن الزنا اليوم لا يصرفهم عنه العقوبة، وإنما يمسكهم عنه الدين، والأخلاق الفاضلة التي لم يعرفها أهل الأرض قاطبة إلا عن طريق الدين.

وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للزنا، قد حاربت الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره، أما العقوبة التي قررها القانون، فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه؛ إذ الحبس علاج – إن صلح لأية جريمة أخرى – فهو لا يصلح بحال لجريمة الزنا[19].

عقوبة الرجم:

الرجم عقوبة الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة، ومعنى الرجم: القتل رميا بالحجارة، واتفق العلماء – ما عدا الخوارج – على أن حد الزاني المحصن هو الرجم، بدليل ثبوته في السنة والإجماع والمعقول.

أما السنة: فكثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[20].

ومنها قصة العسيف الذي زنى بامرأة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[21]. وقصة ماعز والغامدية حينما اعترفا على نفسيهما بالزنا، فأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – برجمهما.

وأجمعت الأمة على مشروعية الرجم، والمعقول يوجب مثل هذا العقاب.

وقد وضعت عقوبة الرجم على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة الجلد للزاني غير المحصن، ولكن شددت عقوبة المحصن للإحصان؛ لأن الإحصان يصرف الشخص عادة عن التفكير في الزنا فإن فكر فيه بعد ذلك؛ فإنما يدل التفكير فيه على قوة اشتهائه اللذة المحرمة، وشدة اندفاعه للاستمتاع بما يصاحبها من نشوة، فوجب أن توضع له عقوبة فيها من قوة الألم وشدة العذاب ما فيها بحيث إذا ذكر من هذه اللذة المحرمة وتذكر معها العقوبة المقررة، تغلب التفكير في الألم الذي يصيبه من العقوبة على التفكير في اللذة التي يصيبها من الجريمة.

ويستنكر أناس اليوم عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وهو قول يقولونه بأفواههم، ولا تؤمن قلوبهم به، ولو أن أحد هؤلاء وجد امرأته أو ابنته تزني، واستطاع أن يقتلها ومن يزني بها لما تأخر عن ذلك.

والشريعة الإسلامية قد سارت في هذه المسألة كما سارت في كل أحكامها على أدق المقاييس وأعدلها؛ فالزاني المحصن هو قبل كل شيء مثل سيئ لغيره من الرجال والنساء المحصنين، وليس للمثل السيئ في الشريعة حق البقاء. والشريعة تقوم على الفضيلة المطلقة، وتحرص على الأخلاق والأعراض والأنساب من التلوث والاختلاط، والشريعة توجب على الإنسان أن يجاهد شهوته، ولا يستجيب لها إلا عن طريق الحلال وهو الزواج، وقد أمر إذا كان مستطيعا للباءة أن يتزوج؛ حتى لا يعرض نفسه للفتنة أو يحملها مالا تطيق، فإذا لم يتزوج وغلبته على عقله الشهوات، فعقابه أن يجلد مائة جلدة، وشفيعه في هذه العقوبة المخففة تأخره في الزواج الذي أدى به إلى الجريمة. أما إذا تزوج فأحصن فقد حرصت الشريعة ألا تجعل له بعد الإحصان سبيلا إلى الجريمة، والشريعة أباحت أن تطلب الزوجة الطلاق إذا تعثرت المعيشة، والرجل يطلق ويتزوج أو تتزوج هي غيره.

وبهذا فتحت الشريعة للمحصن كل أبواب الحلال، وأغلقت دونه باب الحرام، وأن يؤخذ المحصن بالعقوبة التي لا يصلح غيرها طالما استعصى على الإصلاح، ولو أن هؤلاء الذين يجزعون من القتل للزاني رجعوا إلى الواقع حين أوجبت الشريعة قتل الزاني المحصن؛ لوجدوا أنها لم تأت بشيء يخالف مألوف الناس، والقانون الآن يعاقب على الزنا بالحبس إذا كان أحد الزانيين محصنا، فإذا لم يكن أحدهما محصنا فلا عقاب ما لم يكن إكراه.

هذا هو حكم القانون، فهل رضى الناس حكم القانون؟ إنهم لم يرضوه ولن يرضوه، بل إنهم حين قبلوا حكم القانون القائم مرغمين أقبلوا على عقوبة الشرع المعطلة مختارين، فهم يقتصون من الزاني محصنا وغير محصن بالقتل، وهم ينفذون القتل بوسائل لا يبلغ الرجم بعض ما يصحبها من العذاب.

فهم يغرقون الزاني، ويحرقونه، ويقطعون أوصاله، ويهشمون عظامه، ولو أحصينا جرائم القتل التي تقع بسب الزنا، لبلغت نصف جرائم القتل جميعا، فإذا كان هذا هو الواقع، فما الذي نخشاه من عقوبة الرجم، إن الأخذ بها لن يكون إلا اعترافا بالواقع، ويدعي هؤلاء أن هذه العقوبة فيها شيء من القسوة التي لا تتناسب مع كرامة الإنسان!

ويرد عليهم بأن هذه العقوبة ما جعلت إلا لصيانة كرامة الإنسان بالمحافظة على أخلاقه من الفساد، ووقاية مجتمعه من الضلال، وصيانة مبادئ دينه من الانتهاك.

ثم إن قولهم: إن في هذه العقوبة قسوة مبني على نظرة عابرة إلى الفرد لا تغوص في أعماق الحقيقة، ونسوا القسوة التي أحدثها المجرم وجنايته على العرض، والفراش، والولد، والأسرة، والمجتمع كله؛ فليس عقابه إذا قسوة، لكنه جزاء رادع، وإنما القسوة في فعله بعد أن توفرت لديه الموانع من ارتكابه.

والرجم هو قتل النفس الشريرة، وكل أنظمة العالم تبيح القتل عقوبة لبعض الجرائم، ولا فرق بين من يقتل شنقا، أو ضربا بالفأس، أو تسميما بالغاز، أو صعقا بالكهرباء، أو رميا بالحجارة والرصاص، فكله قتل، وإن اختلفت وسائله، ولا فرق في النتيجة بين الرمي بالحجارة أو الرمي بالرصاص.

ولقد دلت التجارب على أن حبل المشنقة لا يزهق الروح بسرعة في كثير من الأحوال، كذلك التسمم بالغاز والصعق بالكهرباء يبطيء بالموت أحيانا أكثر مما يبطئ به الشنق أو الرصاص، ومن كان يظن أن الموت يسرع إلى المقتول بالرصاص في كل حال، ويبطئ عن المرجوم بالحجارة في كل الأحوال، فهو مخطئ في ظنه، وقد دلت التجارب على بطلان هذا الظن[22].

ومن هنا يتبين أن الرجم أسهل من القتل بالشنق والتسميم، وأنواع التعذيب الأخرى، والشريعة الإسلامية وهي دين الفطرة يعالج المشاكل الاجتماعية بما يناسبها ويزجر عن ارتكابها، فكان المناسب لجريمة الزاني المحصن هو الرجم.

وكون العقوبة سهلة هينة لا تؤلم يذهب الحكمة من تقريرها والهدف من إيجادها، والموت إذا تجرد من الألم والعذاب كان من أتفه العقوبات، وكثير من الناس يقلعون عن هذه الجريمة، لما يرونه من عذاب على من أوقعت عليه.

وليس من مصلحة المجتمع أن يفهم أفراده أن العقوبة هينة لا تؤلم ولا تدعو للخوف، قال سبحانه وتعالى: )ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله( (النور: ٢)، وإذا كانت العقوبة شديدة الإيلام والعذاب زجرت من يفكر في الجريمة، حتى لا يتعرض للألم، وتلك حكمة الله في شريعته.

خامسا. الأمور التي يؤخر فيها تنفيذ العقوبة رحمة بالمذنب[23]:

يقام الحد على الزاني والزانية وغيرهم بعد الإقرار مباشرة أو بعد البينة، إلا أن هناك أحوالا يؤخر فيها تنفيذ الحد رحمة بالمحدود، منها:

الحر والبرد الشديدان: فلا يجلد الزاني ولا الزانية في الحر الشديد؛ لأنه قد يحدث ضررا شديدا يؤدي إلى هلاكه. ولا يجلد في البرد الشديد، لما في ذلك من القسوة والغلظة ما تأباه سماحة الإسلام.
المرض: يؤخر الحد حتى يبرأ المريض من مرضه.
النفاس: يؤخر الحد حتى تبرأ النفساء من نفاسها.
الحامل: حتى تلد وترضع وليدها، فإذا فطمته أقيم الحد، وهذه من مظاهر رحمة الإسلام بالمحدود.

سادسا. للزنا واللواط والسحاق مفاسد وأضرار بالغة على الإنسان:

الزنا ومفاسده البالغة:

يوضح د. محمد بكر إسماعيل هذه المفاسد قائلا: من المعلوم شرعا أن الشرك بالله أكبر الكبائر عند الله، ويليه في الجرم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ولكن ماذا بعد قتل النفس؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم بعد قتل النفس شيئا أعظم من الزنا، وقد عظم الله تلك الجريمة حيث يقول سبحانه وتعالى: )والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68)( (الفرقان)، فقرن الزنا بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف المهين مالم يتبع العبد ذلك الذنب العظيم بالتوبة والإيمان والعمل الصالح.

وقد قال الله سبحانه وتعالى: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء)، فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر فحشه في العقول، ثم أخبر عن غايته بأنه ساء سبيلا، وعلق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه، فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه، فقال سبحانه وتعالى: )قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7)( (المؤمنون).

وهذا يتضمن ثلاثة أمور، من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح، واستحق اسم العدوان، ووقع في اللوم، وعلى ذلك فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها أيسر من كل ذلك.

وقد «سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: “الفم والفرج»[24]. وذكر أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كاذب، وعائل مستكبر»[25]. أي: فقير يتعالى على الناس.

ولما كان الزنا من أقبح الجرائم وأخطرها على النفس والعقل والدين شددت العقوبة عليه في الدنيا، بحيث جعل حده من أغلظ الحدود، فالجلد مائة والتغريب عام لغير المحصنين، والرجم بالحجارة حتى الموت للمحصن، فهل هناك عقوبة أشد من ذلك؟

إن القاتل أخف عقوبة من المحصن الزاني؛ لأنه يقتل بالسيف ضربة واحدة، وهذا أهون بالطبع من الرجم بالحجارة، وحد الزنا للمحصن مشتق من عقوبة الله تعالى لقوم لوط بالقذف بالحجارة، وذلك لاشتراك الزنا واللواط في الفحش وفي كون كل منهما فساد يناقض حكمة الله في خلقه وأمره، فإن في اللواط مفاسد تفوق الحصر.

المفاسد الاجتماعية والخلقية للزنا:

قال ابن القيم رحمه الله: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رؤوسهم بين الناس.

وإن حملت من الزنا فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإن أبقته، نسبته إلى الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم، وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها.

وأما زنا الرجل فإنه يوجد اختلاطا في الأنساب، وإفسادا للمصونة وتعريضها للتلف، ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، فكم في الزنا من استحلال محرمات، وفوات حقوق، ووقوع مظالم.

ومن خصائص الزنا: أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويجلب الهم، ويشتت القلب ويميته، ويباعد صاحبه عن ربه، ويقربه من الشيطان.

فالزنا أعظم مفسدة من القتل، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو علم العبد أن امرأته قتلت كان أسهل عليه من أن يعلم أنها زنت، فقد جاء أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله»[26].

وظهور الزنا من أمارات خراب العالم وهو من أشراط الساعة.

الزنا وأضراره الصحية:

الزنا ينبوع لأخبث الأمراض وأشدها فتكا بجسم الإنسان، ومن أخطرها الزهري والسيلان والإيدز، وغيرها.

الزهري:

ثالث مرض في العالم منوط به إزهاق النفوس وتضييع الأرواح، ولا يدع المصاب للموت قبل أن يفتت كبده ويذيب فؤاده، ممثلا به شر تمثيل، وهذا الداء ينتشر في العالم بانتشار فاحشة الزنا، وهذا المرض يعدي بمجرد اللمس عن طريق الزنا، أو بمجرد تقبيل المصاب لغيره أو ملامسته، وتسببه جرثومة خاصة تسمى “الأسبيرو شيت باليدا”.

وتستطيع أن تلمس حقيقة هذا المرض، إذا علمت أنه لا يترك جزءا من أجزاء الإنسان حتى يترك فيه آثاره، ولا يدع فيه جهازا حتى يبطل عمله ويفسد وظيفته.

إن ظهور القرحة التآكلية أو التقرحية في موضع الإصابة، ما هو إلا الإنذار الخطير بغزو الجراثيم لجميع أجزاء الجسم عن طريق الأوعية الدموية جميعا، ومن ثم يحمر الجلد، ويأخذ الاحمرار شكل دوائر وردية لا تلبث أن تأخذ شكلا خاصا يتحول إلى ما يسمى بـ “الزهريات الجيبية” بجميع أشكالها، وأنواعها وتصيب جلد المريض بالزهري مظاهر مشوهة لهذا الداء العضال تعم جميع سطح الجسم، مثل: الطفح الزهري الحبيبي، والثعباني، والنكسي والعقدي، والصلع والبهق الزهريين بالإضافة إلى الأظافر التي يسهل إصابتها، وجعلها مشوهة سهلة الكسر مثقوبة القاعدة، وكذلك الأنسجة المحيطة بها لا تنجو من الالتهاب الداحس الزهري، بل هناك القروح العميقة، والأورام الصعبة التي تتغلغل في الجلد حتى تكشف عن العظام، وأربطة العضلات، وتنتشر في السطح الوحشي للركبتين، وفي السطح الخارجي للكتف وفي فروة الرأس، فتتلف العضلات، وتفتت العظام ونسيجها الداخلي، وتغزو الجراثيم مفاصلها؛ فتصيبها بالورم ويلتهب غشاؤها الزلالي.

ولعل أقبح الهدايا التي يقدمها الزاني إلى ذريته التعسة ويبتليهم بها هي الزهري الوراثي، وإن خطره على النسل ليهدد العالم بأشر مما تهدده به الحروب الذرية.

وينذر بأشد مما تنذر به البراكين الملتهبة، والزلازل المهلكة، والنكبات العظمى التي لا تبقي ولا تذر.

وإنك لتجد 40% من وفيات الأطفال في السنة الأولى من حياتهم راجعة إلى الزهري الوراثي، وتجد 60 % من حالات الإجهاض المتكرر في العائلات المصابة بهذا الداء راجعة إليه، وتجد في كل 100 طفل مولود بزهري وراثي 90 يموتون وتجد 20% من الحوامل على وجه العموم مصابة به، وتجد 13 لقيطا مصابا بالزهري الوراثي من كل 100 لقيط، بل تستطيع أن تقول إن 99% من أولاد المصابين يموتون، فيتبين لنا إلى أي مدى بلغ هدم الزنا للأسر وفتكه بالذرية.

مرض الهريس الزهري:

وهو من سلسلة الأمراض الجنسية، وقد تصاعد عدد المصابين في العالم بهذا المرض منذ عام 1390 – 1970، ففي الولايات المتحدة الأمريكية تسجل سنويا مليون إصابة جديدة، ويعد عدد المصابين فيها بحوالي 25 مليون شخص، وتشكل هذه الإصابات 15% من مجمل الأمراض الجنسية، وفي اليابان يفوق عدد الإصابات الجديدة بالقوباء عدة مرات عدد الإصابات بالسيلان والسفلي.

وفي أوربا الغربية يشكل الهريس التناسلي 20% من مجموع الأمراض المتناقلة عبر الجنس، فقد تم رصد أكثر من 10000 حالة في بريطانيا وحدها عام 1980م، وقد ذكر الدكتور مورس[27] – اختصاصي أمراض الهريس – أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوما بعد يوم، وأكثر الإصابات بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم من 15-30 سنة، وأن هذا المرض يتناسب طرديا مع الجنس وطرق ممارسته وازدياده في المجتمع بطريقة غير صحيحة، فيما يقل بالمقابل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه، وقد انتقل هذا المرض إلى عواصم أخرى مثل: بروكسل وأمستردام وكوبنهاجن واستكهولم وبرلين وباريس وجنوب أفريقيا.

السيلان:

من الأمراض الفتاكة التي تسببها هذه الفاحشة، ويسبب هذا الداء جرثومة تسمى بـ “الجونوككس”، ولكي تعرف مقدار انتشار هذا المرض في الهيئة الاجتماعية، ومدى تغلغله في أفرادها يكفيك أن أذكر مثلا من ذلك من إحصائيات لندن:

أن 60% من عدد أفرادها البالغين مصابون بهذا الداء، ويتراوح عدد المصابين في باريس من 75% إلى 90% وفي برلين من 60% إلى 70%، وفي نيويورك يوجد في كل مائة شخص 80 شخصا مصابا بالسيلان، هذا في أرقى البلاد حضارة، وأرسخها في الطب، وأكثرها ادعاء للمدنية والرقي.

وليس مرض السيلان بالعلة الهينة السهلة، التي لا تسترعي الانتباه، بل هو من أكبر المعضلات الاجتماعية الخطيرة، التي حار في علاجها الأطباء والساسة والمشرعون؛ فهو مرض فتاك، يعطل حركة المريض، ويشل تفكيره، وذلك فوق ما تبتلى به النساء، فيجعلهن مستودعا خطرا للعدوى، وأداة لتشويه النسل والقضاء على الذرية.

ولقد ثبت أن كل امرأة اتصلت برجل مصاب بهذا الداء لا بد أن تصاب هي الأخرى به، لاستعدادها لقبول العدوى، ولقابلية جهازها التناسلي لاستقبال جراثيمه المرضية، فتفتك به، وتعطل وظيفته إذا لم تفقدها تماما.

إصابة المرأة وإصابة الرجل:

o      إصابة المرأة:

ويصاب مجرى البول بهذه الجراثيم، فيلتهب ويحمر، وتتضخم حافتاه، ويظهر القيح السيلاني الكريه الرائحة من فتحته، ويحدث تليف في “غدد ليتر” فتضيق فتحة مجرى البول، وتصيب جراثيم المرض “قناتي سكين”، اللتين تظهر فتحتاهما على جانبي مجرى البول.

وكثيرا ما تكون إصابة هذه القناة سببا في الانتكاس بالمرض والعدوى، وتمتد من قناة المجرى البولي إلى المثانة، وتصيب أعضاء أخرى كثيرة من الجهازين البولي والتناسلي،وإصابة المرأة بالسيلان وبال عليها، وعلى أولادها، وعلى زوجها، وعلى الهيئة الاجتماعية بأسرها، وحسبك أن تعلم أن الطب لم يتوصل حتى الآن إلى علاج لهذا المرض.

o      إصابة الرجل:

ويصيب هذا المرض الرجل إصابات بالغة؛ إذ تلتهب عنده فتحة البول ويشتد احمرارها، وتصاب حوافها بالورم، ويمتد الورم في عضو التناسل؛ فيعوق التبول، وتهلك الجراثيم الغشاء الداخلي لمجرى البول ثم ينتهي الأمر بضيق مجرى البول، وتصاب البروستاتا بالسيلان بل وقد تصاب كذلك الكليتان بالالتهابات السيلانية؛ فترتفع درجة حرارة الزاني، وتعتريه القشعريرة؛ وتمتد الإصابة إلى الحوض والكليتين فتصيبهما جميعا. وحسبك انسداد الحالبين، واحتباس البول، والتسمم اليوريمي، والموت بعد الألم المبرح.

إحصائيات مرض السيلان[28]:

يعتبر مرض السيلان من أكثر الأمراض المعدية انتشارا في الوقت الحاضر، وقد يصاب به 200 – 500 مليون شخص في كل عام معظمهم في سن الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15إلى 28سنة، وغالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا يتراوح عدد الإصابات المسجلة رسميا بالسيلان ما بين 4، 5 مليون إصابة.

أما البرازيل فتسجل يوميا حوالي عشرين ألف إصابة جديدة في العيادات، وفي فرنسا يقدر عدد المصابين بالسيلان سنويا 500 ألف رجل وامرأة وطفل، وقد بلغ عدد المصابين بالسيلان لعام 1418هـ / 1998م حسب تقرير منظمة الصحة العالمية حوالي خمسة ملايين شخص.

أما الوفيات فيبلغ عددهم حسب ذات التقرير ثمانية آلاف شخص.

القرحة الرخوة:

والزنا فوق ما يسبب من الزهري، والزهري الوراثي، والسيلان، يعرض الأشرار كذلك للإصابة بالقرحة التي تسببها جراثيم تسمى “باسلات دكري”، ويكثر ظهورها في جسم القضيب أو العانة، وفي الإناث يكثر وجودها في الشفرتين والشوكة والبطين والفخدين، وفي فتحة الشرج، والقرحة سريعة العدوى، ويوجد منها نوعان هما القرحة الرخوة المرتفعة و القرحة الرخوية الثعبانية، وحسبك أنها كثيرا ما تسبب الاختناق أو الانكماش كما يحصل في السيلان. وهذا بجانب تعرض المصاب للغنغرينا والخراجات والأنزفة الدموية، وتقيح الغدد الليمفاوية وقنواتها، وإتلافها التام للعضو المصاب بها، وغير ذلك من مختلف الإصابات.

القرحة الأكالة:

والقرحة الأكالة من الأمراض الخطرة التي يحدثها الزنا، وتمتاز هذه القرحة، – كما يدل اسمها – بشدة تأثيرها، وإتلافها المستمر للأنسجة التي حولها مع عدم رضوخها للعلاج، تعمل على تآكل أعضاء التناسل، وإحداثها للأنزفة الدموية، والغنغرينا، وتسمم الدم، وتهتك الأنسجة المختلفة كالعضل والعظم، إلى غير ذلك من سائر الأجزاء.

أمراض الزنا النفسية:

والزنا يحدث في مقترفيه أمراضا نفسية شاذة، وعللا جنسية مهلكة؛ وذلك لتأثير هذه الجريمة على المجموعة العصبية، ولانحراف المراكز العليا عن وظيفتها الطبيعية، حتى يغدو المرء بممارسة هذه العادة إنسانا غير طبيعي، ويغدو من الناحية الجنسية عليلا شاذا.

وأمثال هذه الأمراض الجنسية النفسية التي تحيط بالزناة وتفقدهم رجولتهم: أمراض العنف واحتمال الأذى، والعشق الخيالي، والنفور الجنسي، وتحقير المرأة، وغيرها من العلل الشاذة.

بل إن الأغرب من ذلك أن الزنا يوقع مرتكبه في مرض أشد منه خطورة وهو اللواط؛ إذ يبلغ الحال بالزاني أن تضطرب أعصابه، ويختل مركز الشعور الجنسي في مخه ويفسد مزاجه فيصبح لائطا، والزنا – بما ذكرنا – وباء وشر مستطير”[29]. وصدق الله العظيم حيث يقول: )ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)( (الإسراء).

مرض الإيدز:

إن عدد الإصابات بوباء الإيدز منذ اكتشافه في أوائل الثمانينات حتى يومنا هذا في تصاعد مستمر ومخيف، فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي كشف النقاب عنها في المؤتمر العالمي الخامس لمرض الإيدز المنعقد بكندا 1989م، فإن عدد الإصابات بهذا المرض حتى عام 1985م لم يتجاوز 70000 إصابة. ثم ارتفع هذا العدد ما بين عامي 1986م – 1988م ليصبح حوالي 300000 إصابة.

ويقدر عدد الإصابات ما بين عامي 1989م ـ1990م بأنه يتراوح مابين 700000 إصابة، ومليون ونصف المليون إصابة، وقد بينت منظمة الصحة العالمية بأنه إذا لم يستطع الأطباء إيجاد وسيلة فعالة للقضاء على هذا الوباء في السنوات المقبلة، فإن عدد الإصابات سيرتفع إلى حوالي خمسة ملايين إصابة. ولكن يبدو أن توقعات منظمة الصحة العالمية عن عدد المصابين لهذا المرض كانت متواضعة، فقد بلغ عدد المصابين بالإيدز عام 1998م حوالي 70930000 إصابة (35 مليون مصاب من الذكور، 34 مليون مصابة من الإناث)، وبلغ عدد الوفيات 2285000 شخص، وذلك حسب الإحصاءات الصادرة عن المنظمة عام1999م.

اللواط والسحاق وأضرارهما:
اللواط: هو إتيان الرجل الرجل، وهو من أغلظ الفواحش تحريما، وقد ذمه الله – عز وجل – وعاب من فعله، قال سبحانه وتعالى: )ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81)( (الأعراف)، فجعله من أقبح الفواحش؛ ولذلك عذب قوم لوط بالخسف؛ حتى لا يأتي ذكر ذكرا. وأكد على ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط ثلاثا»[30].

حد اللواط:

أجمع أهل العلم على تحريمه، واختلفوا في حده إلى أقوال منها:

o  يقتل الفاعل والمفعول به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به»[31].

o      يحد حد الزنا، وقالوا إن اللواط يشبه الزنا من حيث الإيلاج في الفرج فأخذ حكمه.

o      يؤدب بالحبس ويعزر.

السحاق: هو أن تدلك المرأة فرجها بفرج الأخرى. وهو حرام، وتؤدب من فعلت ذلك؛ لأنه مباشرة دون الفرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد»[32].

الأضرار التي تنجم عن اللواط:

وإذا كان الزنا خطرا يهدد البشرية في النواحي الصحية والنفسية والخلقية، فإن اللواط أعظم منه خطرا وأشد ضررا، ففيه ما في الزنا من الأمراض المتقدمة وفيه من العلل والمفاسد الأخرى الكثير والكثير. وقد كتب د. محمد وصفي في كتابه النفيس “القرآن والطب” عن هذه الأضرار فذكر منها:

o  الانعكاس النفسي: إن عادة اللواط لتغزو النفس وتؤثر في الأعصاب تأثيرا خاصا، أحد نتائجه الإصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده أنه ما خلق ليكون رجلا، وينقلب به الشعور إلى الشذوذ، فينعكس شعور اللائط انعكاسا غريبا يميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية.

o  التأثير على المخ: واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالا كبيرا في توازن عقل المرء، وارتباكا في تفكيره، وبلاهة في عقله، وضعفا في إرادته، ويرجع ذلك لقلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد التي فوق الكلى؛ لأنها تتأثر باللواط تأثيرا مباشرا؛ فيضطرب عملها.

وإنك لتجد علاقة وثيقة بين الينورستانيا واللواط، فيصاب اللائط بالبله، والعبط، وشرود الفكر، وضياع العقل والرشاد.

o  علاقة اللواط بالأخلاق: واللواط لوثة أخلاقية، ومرض نفسي خطير لا يفعله إلا سييء الخلق، فاسد الطبع، ضعيف الإرادة، ولا يتحرج بالفعل والسطو على الأطفال؛ لإشباع عاطفته الفاسدة، والتجرؤ على ارتكاب الجرائم التي تسمع عنها وعن فظائع أخبارها في الجرائد والحوادث التي في المحاكم، وفي كتب الطب.

o  اللواط وعلاقته بالصحة العامة: اللواط فوق ما ذكرت يصيب مقترفيه بضيق الصدر، وخفقان القلب، ويعرضه للأمراض.

o  التأثير على أعضاء التناسل: يضعف اللواط مراكز الإنزال الرئيسية في الجسم، ويعمل على القضاء على الحيوانات المنوية فيه، ويؤثر على الجسم، ويؤدي إلى عدم القدرة على التناسل والإصابة بالعقم.

o  التيفود والدوسنتاريا: إن اللواط يسبب العدوى بالحمى التيفودية والدوسنتاريا، وغيرها من الأمراض الخبيثة، التي تنتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزودة بمختلف الجراثيم، المملوءة بشتى أسباب العلل والأمراض[33].

سابعا. هل حد الزنا فيه قسوة واعتداء على الحرية الشخصية، وانتهاك لحقوق الإنسان؟!

الحق أن هذا الإشكال لا يصدر إلا من السذج البلهاء، أو من أعداء الإسلام الذين يريدون تشويهه، وصد الناس عنه.

إن الزنا في نظر الإسلام وفي واقع الأمر جريمة من أشنع الجرائم وأقذرها، ومنكر من أخبث المنكرات، وأنكرها كل دين، بل أنكرها العقلاء والراشدون من الناس، كما أنكرها أصحاب المدنية الغربية جهرا وإن قبلوها سرا، وذلك لما فيها من عدوان على حقوق الأزواج، واختلاط الأنساب، وهدم الأسر.

ثم لعلك لا تعجب لما تقرأ من الأخبار الواردة من أمريكا وأوربا، عن آباء قتلوا أولادهم بأيديهم، وأتوا على الأسرة كلها في لحظة واحدة، دون أن يتعين فيهم شعور التردد قبل الجريمة، أو الندم بعدها؛ وذلك شفاء لما في نفوسهم من شكوك في صحة نسب الأولاد إليهم، وهيهات أن يخلو شعور من الشك في نسب أبنائه إليه مع هذه الإباحة المطلقة بين النساء والرجال في أي مكان وزمان، ولذلك كانت العقوبة شديدة وصارمة؛ لأن في هذه الجريمة هدرا للكرامة الإنسانية، وتصدعا لبنيان المجتمع، وفيها تعريض النسل للخطورة؛ حيث يكثر اللقطاء وأولاد البغاء، ولا يكون هناك من يهتم بهم، وينشئهم النشأة الصالحة.

ومن أهداف الشريعة الإسلامية الغراء، وأغراضها الأساسية حفظ الضرورات الخمس وهي: العقل، والنفس، والدين، والعرض، والمال. وسميت الضرورات أو الكليات الخمس؛ لأن جميع الأديان والشرائع قررت حفظها، وشرعت ما يكفل حمايتها؛ لأنها ضرورية لحياة الإنسان.

ولما كان النسل هو أحد هذه الضرورات؛ لذا شرع الإسلام من العقوبات الصارمة الزاجرة ما يقطع دابر هذه الجريمة، ويحقق الأمن والاستقرار للمجتمع.

ولعل بعض الذين تأثروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات شيئا من الشدة والقسوة، وأنها لا تتفق مع روح العصر، وتعارض الحرية الشخصية، وخاصة حرية المرأة، التي أطلقها لها الغرب باسم التحرر والمساواة تحت شعار الديمقراطية التي كفلها القانون.

والواقع أن هذه العقوبة التي شرعها الإسلام صارمة، ولكنها في نفس الوقت عادلة، وليس فيها شيء من القسوة، بل تكمن الرحمة في طياتها، والذي يعاقب بهذا العقاب، أليس هو الشخص المستخف الذي يسعى في طريق شهوته كالحيوان، لا يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتب عليها من أخطار وأضرار؟!

إن الذي يرتكب هذه الجريمة لمجرد الاستمتاع والشهوة، ليس إنسانا بل هو حيوان؛ لأن الحيوان تسيطر عليه شهوته فهو يسير تبعا لها، أما الإنسان فيحكمه عقله، ولهذا يسير مع منطق العقل. وليست هذه الغريزة التي أودعها الله في الإنسان لمجرد نيل الشهوة أو قضاء الوطر، بل هي من أجل غاية نبيلة سامية هي: بقاء النسل.

والله – عز وجل – بحكمته العالية شرع هذا الارتباط بين الذكر والأنثى، ولكنه لم يسمح به بطريق الفوضى كما تفعل الحيوانات، حيث يعتدي بعضها على بعض وإنما سمح به في دائرة الطهر والعفة، وبطريق الزواج الشرعي الذي يحقق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية في بقاء النوع الإنساني، كما قال سبحانه وتعالى: )والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة( (النحل: ٧٢).

والإسلام يعتبر الزنا لوثة أخلاقية، وجريمة اجتماعية خطيرة ينبغي أن تكافح بدون هوادة، والإسلام رصد العقوبة الرادعة، الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن، وأعداء الإسلام يقولون: إنها عقوبة شنيعة، ويقولون: كيف يحكم الإسلام بإهدار آدمية الإنسان حين يأمر بجلده على مرأى ومسمع من الناس؟! ثم كيف تكون هذه الوحشية في قوتها إلى أن يلقى الإنسان في حفرة، ثم تتناوله الأيدي بالحجارة رجما إلى أن يموت؟! هكذا يقولون.

قال سبحانه وتعالى: )كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)( (الكهف)، ولا ننكر أن في شريعة الإسلام الجلد والرجم، يقول سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: ٢)، وقال صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها»[34]. ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة – الجلد والرجم – لمجرد التهمة أو الظن، بل على العكس يوجب التحقيق والتثبت ويدرأ الحدود بالشبهات، ويشترط شروطا شديدة لا تكاد تتوفر، وهي مشاهدة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافا صريحا لا شبهة فيه من الشخص الذي قارف الجريمة.

وقد رغبت الشريعة الإسلامية في التستر على عورات المسلمين، وإمساك الألسنة عن الجهر بالفواحش – وإن كانت وقعت – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لرجل جاء يشهد: هلا سترتها بثوبك، يقول الله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور).

أبعد هذا كله يقولون: إن الإسلام يظلم الإنسان ويهدر آدميته بما يأخذ به من جلد بالسياط، وفضح أمام الملأ من الناس؟! أفلا يسأل هؤلاء أنفسهم: ماذا يبقى للإنسان من آدميته وكرامته إذا تركت هذه الفاحشة يسعى بها بعض الآدميين من غير استحياء، ثم لا يضرب على أيديهم؟

والغربيون لا يعتبرون الزنا جريمة يعاقب عليها القانون، إلا إذا كان بالإكراه اعتداء على حرية الغير، أما إذا كان بالتراضي فليس هناك ما يدعو إلى العقوبة؛ لأنه حينئذ يخلو من فكرة العدوان، فالزنا – في نظرهم – وإن كان عيبا، إلا أنه ليس بجريمة على كل حال، فإذا زنى الرجل البكر بامرأة بكر، فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة، إلا إذا كان بالإكراه، فإنه يعاقب عقوبة خفيفة، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة، فللزوج أن يطالب بتعويض – غرامة مالية – من الرجل الذي أفسد زوجته.

فنظرتهم إذن هي نظرة مادية، وهم المتحضرون المدنيون، وأصحاب الحضارات هم الذين يعانون من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، والأمراض ظهرت في ساحاتهم بالملايين.

من أجل ذلك تهدم المجتمع، وتخربت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخلقية فيهم، فأين هذا من تشريع العليم الخبير الذي صان الأعراض، وحفظ الأنساب، وطهر المجتمع من لوثة تلك الجريمة الشنيعة؟!

والمتحدثون عن حقوق الإنسان يقولون: لا بأس أن يحبس فترة من الزمن ثم يخرج لكي يمارس عمله، ويتجاهلون أنه في مثل هذا الحبس سوف يخالط من هو أشد إجراما منه ليتعلم منه، ويخرجان إلى المجتمع بعد أن أصبحا إمامين في الضلال؛ ليضلا الناس عن طريق رب الناس، وهذا هو المشاهد.

فضلا عما يترتب على الحد من تكفير لهذا الذنب، والمتتبع يجد أن تنفيذ العقوبة لا يتم إلا في أعداد محدودة، ولا ضرر في ذلك، مادام لصالح المجتمع والفرد، والأسرة، وتوفير الأمن.

الواقع يشهد للشريعة:

لعل ما حدث في أوربا والبلاد الغربية مما يؤيد نظرية الشريعة؛ فلقد تحللت الجماعات الأوربية، وتصدعت وحدتها، وذهب ريحها، وما ذلك إلا من شيوع الفاحشة، والفساد الخلقي، والإباحية التي لا تعرف حدا تنتهي إليه.

وما أشاع الفاحشة، وأفسد الأخلاق، ونشر الإباحية، إلا إباحة الزنا وترك الأفراد لشهواتهم، واعتبار الزنا من الأمور الشخصية التي لا تمس صالح الجماعة.

ولعل ما يواجه البلاد غير الإسلامية اليوم من أزمات اجتماعية وسياسية يرجع إلى إباحة الزنا، فقد قل النسل في بعض الدول قلة ظاهرة، فأنذر بفناء هذه الدول، أو توقف نموها.

وترجع قلة النسل أولا وأخيرا إلى امتناع الكثيرين عن الزواج، وإلى العقم الذي ينتشر بسبب الزنا واللواط بين الناس، وعليه فإن العقوبة إن بدت شديدة فإن الرحمة في طياتها.

يقول صاحب ظلال القرآن: إن الإسلام لا يتشدد في العقوبة هذا التشدد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل، ولا يوقع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها. فالإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم على العقوبة؛ إنما يقوم على توفير أسباب الحياة الطبيعية النظيفة، ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ويتمرغ في الوحل طائعا غير مضطر.

والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطلباتهم وطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرة؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة.

والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه، والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة وإنما يعتمد على الضمانات الوقائية، وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة[35].

وعقوبات الزنا في الشريعة الإسلامية لم تأت ارتجالا، ولم توضع اعتباطا، وإنما جاءت بعد فهم صحيح لتكوين الإنسان وعقليته، وتقدير دقيق لغرائزه وميوله وعواطفه، ووضعت لتحفظ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهي عقوبات علمية؛ لأنها وضعت على أسس العلم بالنفس البشرية، وهي عقوبات تشريعية؛ لأنها شرعت لمحاربة الجريمة، ولقد كان لعقوبات الزنا التي جاءت بها الشريعة الإسلامية أثرها في محاربة الجريمة في كل زمان ومكان”[36].

وقد يكون من الأوفق هنا أن ننهي الحديث في هذا الموضوع بخاتمة إجمالية مبلورة وافية، سجلها الباحث د. عبد الوهاب البطراوي في نهاية دراسة موسعة له بعنوان “جريمة الزنا بين الشرائع السماوية – والقوانين الوضعية” قال فيها: ننتهي بهذا البحث إلى إظهار مدى تفوق الفقه الإسلامي على كل ما سبقه من أفكار دينية، وما تلاه من أفكار وضعية بشأن علاج الظاهرة الجنسية بوجه عام، وجريمة الزنا بوجه خاص.

فالتشريعات الوضعية نظرت إلى الأفعال الجنسية بمنظور فردي مسايرة لمبدأ “الحرية الفردية”، وما تفرع عنه من مبادئ أخرى في شتى المجالات، منها “الحرية الجنسية”، الذي تحول فيما بعد إلى “فوضى جنسية”، حيث ساهم هذا الإسناد في انتشار الفاحشة انتشارا كبيرا، فأصبحت القاعدة هي الإباحة، والاستثناء هو التحريم.

بينما الفقه الإسلامي نظر إلى تلك الأفعال من خلال مبدأ التحريم المطلق، إلا إذا كانت بين رجل وامرأة في ظل علاقة زوجية صحيحة وقائمة، وذلك بقول الله سبحانه وتعالى: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)؛ فالإسلام إذن لم يشأ كبت الغرائز الجنسية، ولا إطلاقها، ولكنه أراد – فقط – تحجيمها، وفي إطار من هدف اجتماعي يقيد الفرد والمجتمع من خلفه، إذا خرجت الغريزة عنه فقدت شرعيتها، وفي ذلك حماية فعالة للمجتمع من الفاحشة.

أما التشريعات الوضعية فترتب على نظرتها لجريمة الزنا – متأثرة بعوامل عدة – أن قام البعض بإباحة الزنا، مكتفيا بمنح الزوج المجني عليه الحق في طلب الطلاق من زوجته الزانية، وهو الاتجاه الراجح بالدول اليهودية والمسيحية، بدعوى أن الويل – كل الويل – لقانون لا يساير الرأي العام، وهو ادعاء باطل، فالويل كل الويل لحياة لا يراقبها دين، وإن كان البعض الآخر يجرم الزنا، فقد قصر التحريم على المتربصين وحدهم، وأباحه لغيرهم، ووضع له عقوبة هشة لا تردع خاطئا، ولا تقوم معوجا.

فاستخف الإنسان بأمر الزنا؛ فارتكبه جهارا نهارا، وبلا خجل أو وجل، حتى أصبحت الفاحشة ظاهرة عامة مميزة للمجتمع المعاصر، وهذا ما يهدد المجتمع البشري في أعز ما يملك (البنية الاجتماعية).

بينما الفقه الإسلامي على النقيض، فقد نظر إلى الزنا بمنظور اجتماعي لا فردي، وفي أحضان العامل الأخلاقي، فاعتبره جريمة من أخطر الجرائم الاجتماعية.

 ومن ثم توسع في مجال تجريمها؛ لتشمل المتزوجين وغير المتزوجين، وتشدد في عقوبتها تبعا لشدة خطرها الاجتماعي.

وفي ذلك صيانة أكيدة للمجتمع من الفاحشة، ومن ثم حماية البنية الاجتماعية كوسيلة للعمران والتقدم، فلا يخفى أن الزنا يدمر الإنسان الفرد بدنيا ومعنويا، ثم يسوق المجتمع كله سوقا حثيثا نحو حفرة القبر عن طريق الأمراض الجنسية السرية.

فكان لتلك الأفكار الرئيسية بصماتها على النصوص الوضعية المعاصرة لجريمة الزنا، التي اتسمت بالقصور والتخاذل في حماية المجتمع، وإخلالها بالمبادئ الأخلاقية، وتعارضها مع القيم الدينية الضابطة للسلوك الاجتماعي، ونذكر من ذلك:

من الناحية التجريمية:
وفقا للتشريعات الوضعية لا يحرم الزنا، إلا إذا كان طرفاه – أو أحدهما – متزوجين، ولا جريمة إذا تم الزنا بين غير المتزوجين، ونظرا لأن طبقة غير المتزوجين تمثل الغالبية العظمي من أفراد أي مجتمع، وأن الحافز الجنسي يكون لدى أفرادها أقوى من المتزوجين – الذين يجدون لغرائزهم مصرفا شرعيا – عمت الفاحشة، وساد الفساد بين الناس أجمعين، وعم الوباء، وظهر القحط وكثرت الأمراض، ونذكر منها مرض الإيدز، الذي أرسله الله ليدمر به ما شاء أن يدمر من المجتمعات التي انتشرت فيها ذات الفاحشة؛ فالجزاء الإلهي مرتبط – ولا بد – بالتحلل الأخلاقي، ولرحمته تعالى كان الدمار بقدر الانتشار.

ومن معجزات الإسلام في هذا المجال أن يتنبأ بما عليه المجتمع البشري اليوم، وذلك منذ خمسة عشر قرنا من الزمان، فيقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[37].

تفرق التشريعات الوضعية بين الزوجة الزانية، والزوج الزاني في المعاملة التجريمية والعقابية، فتتشدد مع الزوجة، وتترفق مع الزوج، وهذا ما يأباه الإسلام، الذي نشر الحق وأقر العدل، فسوى بين الزناة المتزوجين، سواء كانوا رجالا أو نساء، وهذا ما يجب اتباعه، إعمالا لقاعدة المساواة بين الناس أمام القانون.
سارت العديد من التشريعات الوضعية على ضلالها، وفقا لمبدأ الحرية الجنسية؛ فأباحت الزنا بين المحارم إلا إذا كان أحدهما – أو كلاهما – متزوجا، فالزنا بين المحارم مثل الزنا بين غيرهم ولا فرق!! مما يترتب عليه العديد من الآثام والأوزار التي ينفر منها كل عقل بشري متحضر؛ من ذلك إباحة زنا الأخ المراهق بأخته المراهقة، وزنا الابن بأمه المطلقة أو المترملة، بينما الإسلام يتشدد كثيرا في تلك الجريمة عن جريمة الزنا العادية، حيث يفرض عقوبة الإعدام على الزناة بالمحارم، سواء كانوا متزوجين أو غير متزوجين، وهو الاتجاه الواجب العمل به، فالأقارب بوجه عام، والمحارم بوجه خاص، تجمعهم الثقة في التعامل، تلك الثقة التي استخدمها الزناة سلاحا لتسهيل مهمتهم الدنيئة، وسهولة ارتكاب الجريمة يقابلها – ولا بد – قسوة في العقاب.
جنح الفقه والقضاء، في العديد من الدول العربية، عن الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية، وهي صاحبة الاختصاص الأصلي في هذا المجال، حيث اعتبروا الزوجة الزانية في حل من العقاب، متى وقع زناها فور الطلاق البائن[38]، بدعوى تحررها من الالتزام الزوجي، والواجب مساءلة كل زوجة تزني خلال عدتها الشرعية أيا كان نوعها، سواء من طلاق رجعي[39]، أو بائن، أو وفاة، فالهدف من تجريم الزنا، وفرض مدة العدة حماية الأنساب؛ من الاختلاط.
من الناحية الإجرائية:

تفوق الإسلام أيضا في هذا المجال؛ فقد وضع الجانب الإجرائي للزنا باعتباره جريمة غاية في الحساسية، وترتدي ثوبا غاية في الشفافية، وضررها على الأسرة بحجم شيوعها، وعلاجها بمدى كبت هذا الشيوع؛ لهذا حارب انتشار الفاحشة على كل محور، وذلك بتربية رأي عام فاضل يتنزه عن الحديث بأمر الفاحشة، وبالأولى إذاعتها أو إعلانها، فكل ما يسهل قوله يكثر فعله، فيقول سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( (النور: ١٩).

فإذا ارتكبت الفاحشة حرم الإسلام انتشارها عن طريق حد القذف بالزنا، حيث يعاقب من أشاعها بغير بينة شرعية، فيقول سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور:4)، وعكس ذلك التشريعات الوضعية، فهي وإن وضعت – لهذه الاعتبارات – الزنا كجريمة، لكن دعواها تتوقف على شكوى من الزوج المجني عليه، حفظا لكيان الأسرة من التصدع، فقد فاتها الكثير، من ذلك إقرارها للعديد من الدفوع المسقطة للجريمة، التي تعد – بحق – رمزا لشيوع الفاحشة بعد ارتكاب الجريمة ورفع أمرها للقضاء. فإن سقطت الجريمة بحكم قضائي، فالفضيحة لن تسقط، والهمسات لن تكف، والألسنة لن تجف، لمجرد صدور حكم قضائي بانتفاء التهمة، وبالتالي يجب إلغاء كل تلك الدفوع؛ لانتفاء الحكمة من تقنينها.

وكان الإسلام حصيفا لتلك النتيجة منذ البداية، فهو لا يعتد بتلك الدفوع، فالزنا جريمة اجتماعية؛ لأنها تقع على حق من حقوق الله، والدفوع هنا بمثابة مسقطات للجريمة، ولا يوجد من ينوب عن الله في هذا الحق، وقد رورد في الأثر: «إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع»[40].

من الناحية العقابية:

يتفرد الفقه الإسلامي بخطة عقابية سليمة، بناها على أسس أخلاقية رشيدة؛ فالعقوبات الحدية – وإن بناها على أساس نفعي مادي لا اعتبار فيها للظروف الشخصية للجاني، فهي لأمهات الجرائم، عكس ذلك العقوبات التقريرية، فجاءت متسمة بالشدة، إلا أن الله – رحمة منه بعباده – وضع نوعين من المعوقات:

o      معوقات نفسية أمام الإنسان، حتى لا يرتكب الجريمة.

o      ومعوقات قانونية أمام القاضي، تجنبا للحكم بالعقوبة.

 ومثل ذلك في جريمة الزنا الحدية، قطع كل الطرق التي توصل الإنسان إلى الزنا، حيث حرم النظرة الشبقية، والاختلاء بامرأة أجنبية، وتقارب الأنفاس بين الرجال والنساء، وهو ما يمكن تسميته بالسياسة الوقائية في علم الطب، فالطبيب الماهر الذي يريد الوصول بمجتمعه إلى أقصى درجات السلامة، وبمريضه إلى أقصى درجات العافية، يمنعه ابتداء من تناول بعض الأطعمة، وهذا حق؛ فالوقاية خير من العلاج، فالأفضل أن نمنع الجرائم قبل وقوعها، من أن نعاقب عليها بعد أن تقع.

وكذا ألزم القاضي المسلم بنظم الأدلة القانونية – لا الإقناعية – في الإثبات حيث تشدد في قبول الأدلة بهدف التضييق من دائرة التجريم بالزنا، وبالتالي تتحول العقوبة من المجال الحدي إلى المجال التعزيري؛ فالعقوبة الحدية، وإن كان ظاهرها القسوة، فباطنها الرحمة.

فيما يختص بعذر قاتل الزناة: اتجهت التشريعات الوضعية اتجاها غير سليم من الناحية التشريعية والمنطقية، حيث فصلت أحكام العذر عن أحكام جريمة الزنا؛ فترتب على ذلك العديد من المثالب المنطقية، ومن ذلك قصر حق الاستفادة من العذر على الزوج بوصفه رجلا، أو الزوج والزوجة وبعض المحارم في بعض التشريعات، فأصبح العذر خاصا وذا طبيعة مخففة من العقوبة، وقد جلبت تلك الطبيعة العديد من المشاكل القانونية خاصة في مصر؛ فالعذر أصبح يشكل فخا قانونيا لوأد حياة الزوج المجني عليه في جريمة الزنا، الذي ما قنن العذر إلا لصالحه؛ فلزوجته وعشيقها المتلبسين بجريمة الزنا، وعلى سرير زوجها الطاهر، أن يقتلاه فور مشاهدته، وذلك من دون أدنى مسئولية عليها، لا عن جريمة الزنا، ولا عن جريمة القتل!!

تلك النتائج قد نأى عنها الإسلام منذ البداية، حيث ربط أحكام هذا العذر بجريمة الزنا، ربط العلة بمعلولها، فكما أن الزنا جريمة اجتماعية، يكون العذر كذلك؛ حيث منحه لكل إنسان في المجتمع بوصفه مجنيا عليه في جريمة الزنا، وبالتالي يكون العذر عاما، ثم قام الإسلام من ناحية أخرى بربط العذر بأحكام دفع الصائل – الدفاع الشرعي – وهذا حق، فالدفاع عن الشرف أهم من الدفاع عن المال، وبهذا أصبح العذر معفيا من العقاب.

ولهذا وغيره الكثير قلت: إذا كان العالم اليوم يبحث عن بديل عقابي جديد، فالشريعة الإسلامية هي البديل الذي لا بدل منه، وتطبيقها أصبح اليوم ضرورة حتمية لا غنى عنها لارتقاء أمة من الأمم، أيا كانت ديانتها، فالقانون الفرنسي هو النجم الشارد الذي ضل وأضل تلك التشريعات الوضعية من خلفه…

والقانون الإسلامي هو النجم الهادي إلى طريق الحق، فيقول سبحانه وتعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( (فصلت: 53)، ووسيلة ذلك أن يتاح لغير المسلمين العلم بها – كما لو تم نشرها بلغة أجنبية – وتلك مسألة أصبحت وشيكة، فيقول سبحانه وتعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر). فالإسلام هو دين المرونة لا الجمود، دين السماحة لا التعصب، دين مسايرة لا المكابرة، دين الحضارة لا التخلف”[41].

أفشريعة ربانية أبصر وأعلم، أم تشريع بشري وضعي ناقص معيب؟ أيهما أصلح؟! اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

الخلاصة:

الإسلام منهج حياة متكامل لا يعتمد على العقوبة فقط في معالجة الأخطاء، وإنما يحرص أولا على توفير أسباب الحياة الطبيعية، ثم يعاقب بعد ذلك من يعرض عن الأخذ بهذه الأسباب الميسرة.
لقد وضع الإسلام في شأن الزنا منهجا في التعامل مع الغريزة الجنسية، فالله تعالى خالق الإنسان، عليم بما فطر عليه من الدوافع، والغرائز المركبة في طبيعته، وفي إطار هذا التنظيم شرع الإسلام ما يلي: شرع الزواج، وحرم الرهبانية، واعتبر تصريف الشهوة بالحلال من الأعمال الصالحة، ولم يتدخل الإسلام في كيفية العلاقة بين الزوجين وأعطاهما الحرية التامة في أن يعيشا سويا، كما شدد الإسلام على الغض من النظر إلى المحرمات، ووضع طريقا قويما للشباب الذين لا يستطيعون الزواج فنهج لهم الصيام حفاظا على أنفسهم وضمانا لسلامة المجتمع الذين يعيشون فيه..
ومن حكم تحريم الزنا: حفظ الأنساب ونقاوتها، وحماية الأعراض والأخلاق من التلوث، والصحة من الأمراض، مثل: الزهري والسيلان والقرحة الرخوة والقرحة الأكالة ومرض الإيدز، فضلا عن المفاسد الإجتماعية والخلقية لهذه الجريمة، هذا وإن اللواط يشترك مع الزنا في أمراض كثيرة وينفرد عنه بأشياء أخرى مثل: الاضطراب النفسي والخلقي والعاطفي، والسير في طريق الشذوذ بلا نهاية إلا الموت والحتف.
وعقوبة الزنا في القانون الوضعي هي الحبس عند الإكراه، وليست بعلاج رادع؛ فالمحبوس يخرج غالبا وقد خالط الأشرار والمجرمين المحترفين؛ فيخرج أكثر تصميما على الإجرام وأكثر إتقانا له، ونسبة الجرائم واستمرارها في المجتمعات الغربية شاهد على عدم جدوى هذه العقوبة، على عكس العقوبة الشرعية الإسلامية الرادعة الحاسمة.

(*) الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م.

[1]. الباءة: النكاح، وسمي النكاح باءة من المباءة؛ لأن الرجل يتبوأ من أهله، أي يستمكن من أهله كما يتبوأ من داره.

[2]. الوجاء: القطع، يعني: أنه مقطعة للانتشار العروق وحركتها التي تتحرك عند شهوة الجماع.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (4779)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3466)، اللفظ له.

[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12634)، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2052)، وصححه الألباني في الإرواء (1784).

[5]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه (1085)، والطبراني في المعجم الكبير، مسند من يعرف بالكنى من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن لم ينقل، أبو حاتم المزني (762)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1868).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3469) واللفظ له.

[7]. دراسات في أحكام الحدود في الإسلام، د. محمد مرسي غنيم، مجموعة محاضرات ألقاها على طلاب كلية الشريعة والقانون، طبعة خاصة.

[8]. الدثور: جمع دثر وهو المال العظيم.

[9]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2376).

[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات (2333)، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه (5685).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (4779)، ومسلم في صحيحه، كتب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3466) واللفظ له.

[12]. دراسات في أحكام الحدود في الإسلام، د. محمد مرسي غنيم، مجموعة محاضرات ألقاها على طلاب كلية الشريعة والقانون، طبعة خاصة.

[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنا (4509).

[14]. الفقه الميسر، محمد سيد طنطاوي، مطابع الشئون الأميرية، القاهرة، ط4.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود (2190)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4531).

[16]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنا (4509).

[17]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م.

[18]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص636: 640 بتصرف يسير.

[19]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص637: 639 بتصرف.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: ) أن النفس بالنفس والعين بالعين ( (المائدة: ٤٥) (6484)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (4468) واللفظ له.

[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود (2190)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4531).

[22]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص640، 643.

[23]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، مح 2، ص208، 209 بتصرف.

[24]. حسن: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب حسن الخلق إذا فقهوا (294) بنحوه، والترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب حسن الخلق (2004)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (977).

[25]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان غلط تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية (309).

[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الغيرة (4925)، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (7171) بنحوه.

[27]. د. مورس: أستاذ الفيروسات في كلية طب جامعة مانشستر.

[28]. موقع طريق القرآن: ظلم المرأة في الحضارة الغربية.

[29]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، مج 2، ص213 وما بعدها.

[30]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2915)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الرجم، باب من عمل عمل قوم لوط (7337)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3462).

[31]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2732)، وابن ماجه في السنن، كتاب الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط (2561)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2561).

[32]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات (794).

[33]. القرآن والطب، د. محمد وصفي،، نقلا عن: الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، مج 2، ص224: 226 بتصرف.

[34]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود (2190)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4531).

[35]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2490.

[36]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص644.

[37]. حسن: أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الفتن، باب العقوبات (4019)، والطبراني في المعجم الأوسط، باب العين، من اسمه عبد الرحمن (4671)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (106).

[38]. الطلاق البائن: الطلاق الذي لا يحق للزوج إعادة الزوجة إليه فيه إلا بعقد جديد، وهو على نوعين: بينونة صغرى: وهي التي تكون بعد انتهاء العدة بعد طلقة أو طلقتين، أو بعد الخلع، أو بعد الطلاق من غير دخول، أو طلاق القاضي لعيب أو ضرر… إلخ. وبينونة كبرى: وهي التي تكون بعد الطلقات الثلاث.

[39]. الطلاق الرجعي: أن يطلق الزوج زوجته طلقة واحدة أو اثنتين فقط بلفظ الطلاق، ويحق له ارجاعها ما دامت في العدة.

[40]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3087) موقوفا، والطبراني في المعجم الصغير، حرف الهمزة، باب الألف من اسمه أحمد (158).

[41]. جريمة الزنا بين الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، د. عبد الوهاب عمر البطراوي، دار الصفوة، ط2، 1992م، ص503 وما بعدها.

ادعاء أن حد القذف في الإسلام يعد انتهاكا لحقوق الإنسان

مضمون الشبهة:

 يشكك بعض المغرضين في إنسانية الشريعة الإسلامية، ويستدلون على زعمهم الباطل بقسوة عقوبة القذف في الإسلام من حيث: مشروعية الحد، ومقداره، وطرق إثباته. ويتساءلون: ألا يعد تطبيق حد القذف بالصورة التي نادت بها الشريعة الإسلامية انتهاكا لحقوق الإنسان وحريته؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)  شرع حد القذف لما في القذف من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب.

2)  لحد القذف شروط يثبت بها، يتعلق بعضها بالقاذف وبعضها بالمقذوف، وله طرق ينفذ من خلالها.

3) تشترط القوانين الوضعية العلانية في ثبوت القذف، ولا تشترطها الشريعة الإسلامية، فالجريمة في الشرع محرمة لذاتها لا لظروفها.

4)  عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية رادعة، مقارنة بالقوانين الوضعية.

5) حد القذف ليس فيه قسوة بل هو الرحمة والعدل، وهو الحارس على أعراض الناس من أن تمس زورا، والزاجر للألسنة من أن تنطق فحشا، والحارس على المستوى الأخلاقي في المجتمع الإسلامي.

6) سلام القذف بالزنا، وجعله من الكبائر التي حذرنا الله تعالى من ارتكابها تحذيرا شديدا لما فيها من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب. وتوعد من يفعل ذلك بالعذاب الشديد وحذر من نهش الأعراض وأمر بالحفاظ عليها.

أولا. مشروعية حد القذف، وسبب وجوبه، ومقداره[1]:

مشروعيته: القذف من أكبر الكبائر، وهو محرم لما فيه من هتك للحرمات وغمز للأعراض والأنساب، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).

ومن السنة ما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»[2].

حد القذف: الجلد ثمانين جلدة، قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور).
سبب وجوبه: يجب الحد بسبب القذف بالزنا؛ لأن نسبة الزنا تتضمن إلحاق العار بالمقذوف؛ فيجب الحد دفعا للعار، وصيانة لسمعته.

ويعتبر القذف من الجرائم الشنيعة التي حاربها الإسلام حربا لا هوادة فيها، فإن اتهام البريئين والوقوع في أعراض الناس والخوض في المحصنات الحرائر العفيفات يجعل المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ فتصبح أعراض الأمة مجروحة وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد منها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كل زوج فيها شاك في زوجته وأهله.

وجريمة القذف والاتهام للمحصنات تولد أخطارا جسيمة في المجتمع؛ فكم من فتاة عفيفة شريفة لاقت حتفها بكلمة قالها قائل فاجر فوصل خبرها إلى الناس ولاكتها الألسنة، فأقدم أقرباؤها وذريتها على قتلها لغسل العار، ثم ظهرت حصانتها وعفتها، ولكن بعد أن حصل لها ما حصل وفات الأوان؛ لذلك شرع حد القذف صيانة للأعراض من التهجم، وحماية للأنساب، وحماية للأزواج من إهدار الكرامة.

ولقد قطع الإسلام ألسنة السوء، وسد الباب على الذين يلتمسون من الأبرياء العيب، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعرهم، ويخوضوا في أعراضهم عن طريق ثلاث عقوبات:

بدنية: وهي أنه شدد في عقوبة القذف؛ فجعلها ثمانين جلدة، وهو مقدار قريب من عقوبة الزاني البكر.
أدبية – متعلقة بالناحية المعنوية -: وهي أنه أهدر كرامة القاذف وأسقط اعتباره، فكأنه ليس بإنسان لأنه لا يوثق بكلامه، ولا يقبل منه قول عند الناس.
دينية: حيث إنه فاسق خارج عن طاعة الله، وكفى بذلك عقوبة لذوي النفوس المريضة الميتة.

وقد اعتبر الإسلام قذف المحصنات من الكبائر الموجبة لسخط الله وعذابه، وتوعد المرتكبين لهذا المنكر بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة فقال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).

وجعل الولوغ في أعراض الناس ضربا من إشاعة الفاحشة التي يستحق فاعلها العذاب الشديد، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور).

وقد عد الرسول – صلى الله عليه وسلم – قذف المحصنات المؤمنات الغافلات من الكبائر كما مر في الحديث.

غرض الإسلام من هذه العقوبة: صيانة الأعراض، وحفظ كرامة الأمة، وتطهير المجتمع من مقالة السوء؛ لتظل الأسرة المسلمة محفوظة الكرامة بعيدة عن ألسنة السفهاء وبهتان المغرضين.

ثانيا. شروط وجوب حد القذف:

لوجوب حد القذف شروط تتعلق بالقاذف والمقذوف.

شروط القاذف:

يشترط في القاذف الذي يستحق الجلد شروط، منها:

العقل والبلوغ: فلا يقام الحد على مجنون أو صبى؛ إذ لا تكليف عليهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق»[3]. ويجب أن يؤدب الصبي إذا قذف مسلما.
الاختيار: فلا حد على مكره.
أن يكون القاذف ملزما بأحكام الشريعة وعالما بالتحريم.
أن يكون قد قذف مسلما بالزنا، بأن يقول: رأيته يزني، أو رأيت ذكره في فرج امرأة، أو ينفي نسب ولد لأبيه فيقول: هذا الولد ليس من فلان وإنما هو من فلان، من غير بينة تشهد له؛ لقوله عز وجل: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور: ٤).
شروط المقذوف:
العقل والبلوغ: فلا يقام الحد على من قذف مجنونا أوصبيا ولكن يعزر.
الإسلام: فلا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، أو من غيرهم؛ كالمشركين والمجوس والهندوس. هذا ما ذهب إليه أكثر الفقهاء، وإذا قذف رجل منهم مسلما جلد حد القذف ثمانين جلدة.
الحرية: فلا حد على من قذف عبدا؛ لأن مرتبته تختلف عن مرتبة الحر، وإن كان قذف العبد محرما لما جاء أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال»[4].
العفة: العفة عما رماه به، فإن رماه بالزنا أو اللواط ولم يكن مشهورا بذلك؛ جلد حد القذف ما لم يأت بأربعة شهداء؛ فإن كان مشهورا بالزنا أو اللواط؛ لم يكن على قاذفه الحد، ولكن يجب أن يؤدب على خوضه في أعراض الناس بغير حق [5].

ما يثبت به حد القذف[6]:

يثبت القذف بالطرق الآتية:

شهادة الشهود: ويشترط في شهود القذف البلوغ والعقل والحفظ والقدرة على الكلام والعدالة والإسلام وانعدام القرابة وانعدام العداوة وانعدام التهمة والذكورة والأصالة، ويكفي لإثبات واقعة القذف على القاذف شهادة شاهدين فقط.
الإقرار: يثبت القذف بإقرار القاذف أنه قذف المجني عليه، ولا يشترط العدد في الإقرار فيكفي أن يقر مرة واحدة في مجلس القضاء.
اليمين: يثبت عند الشافعي باليمين إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر فله أن يستحلف القاذف فإذا نكل القاذف ثبت في حقه النكول.

وتسقط عقوبة القذف في الأحوال الآتية:

o      أن ينكر القاذف واقعة القذف ثم يستشهد على عدم حصول القذف حين شاء دون التقيد بعدد الرجال والنساء.

o  أن يدعي القاذف أن المقذوف اعترف بصحة القذف ويكفي للإثبات شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وإذا كان زوجا فاعترف بالقذف فله أن يلاعن زوجته.

إجراءات التقاضي في إثبات القذف:

إذا رفعت دعوى القذف إلى القاضي فإما أن ينكر القاذف أو يقر، فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي التأجيل لإقامة البينة وادعى أن له بينة في المصر على قذفه له، فإنه يؤجله إلى أن يقوم من مجلسه ويحبس[7] المدعى عليه القذف في تلك الفترة، فإن أحضر البينة قبل قيام القاضي من مجلسه تم المقصود وإلا خلى سبيله، وإن قال المقذوف: لا بينة لي أو بينتي غائبة، فإن القاضي يخلي سبيل القاذف ولا يحبس بالاتفاق لعدم التهمة.

موقف القاضي من القاذف بعد ثبوت القذف:

إن أقام المقذوف البينة على صحة القول أو أقر القاذف كما ذكر، فإن القاضي يقول للقاذف: أقم البينة على صحة قولك، فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا أو أقر المقذوف بالزنا بين يدي الإمام أربع مرات، سقط الحد عن القاذف، ويقام حد الزنا على المقذوف؛ لأنه ظهر أن القاذف صادق في مقالته. وإن عجز عن إقامة البينة، يقام عليه حد القذف؛ لقوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة( (النور: ٤).

ما يسقط حد القذف:

o      يسقط حد القذف بأحد الأمور الآتية:

o      إثبات الزنا على المقذوف بالبينة أو بإقراره.

o      عفو المقذوف عن القاذف في رأي الشافعية؛ لأنه عندهم حق من حقوق العباد.

o  اللعان بين الزوجين لقوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6)( (النور).

ثالثا. الشريعة الإسلامية لا تشترط العلانية في القذف وتشترطه القوانين الوضعية؟!

لا تشترط الشريعة الإسلامية العلانية في القذف، كما تشترطه القوانين الوضعية؛ ومن ثم تعاقب الشريعة الإسلامية القاذف سواء قذف المجني عليه في محل عام أو محل خاص على مشهد من الناس أو فيما بينهما فقط.

وأساس عدم اهتمام الشريعة بالعلانية: أنها تزن كرامة الإنسان بميزان واحد، وترى أن قيمة الإنسان لا تتغير بتغير الظروف، فقيمته أمام نفسه تساوي قيمته أمام الناس، وحرصه على كرامته في السر يجب ألا يقل عن حرصه على كرامته في العلانية.

والشريعة توجب على المرء أن يكون سره كعلانيته، وتعيب أناسا بأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، وقاعدتها الأساسية تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وتدعو الناس أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه؛ لهذا فهي لا تميز بين جريمة ارتكبت في السر وأخرى في العلانية؛ لأن الجريمة في الشريعة محرمة لذاتها لا لظروفها فمن ارتكب جريمة في السر لم يشهدها أحد، عوقب عليها كما لو ارتكبها علانية على ملأ من الناس.

أما القوانين الوضعية: فلها شأن آخر؛ إذ تميز بين أفعال القذف التي ارتكبت علنا وأفعال القذف التي ارتكبت في غير علانية، وتعاقب على الأولى دون الثانية، فهي تعاقب – إذا عاقبت – على القذف العلني؛ لأنه في الغالب سمعه فريق من الناس، ولا تعاقب في غير علانية لأن القذف لم يصل إلى أسماع الكثير من الناس.

وهكذا تزن القوانين الوضعية كرامة الإنسان بميزانين وتجعل له قيمتين؛ فتحافظ على كرامته وقيمته إذا ضيعت كرامته وانتقصت قيمته أمام الناس وتهدر كرامته وقيمته إذا سب وانتقص دون أن يشتهر ذلك بين الناس، وهكذا تفرض القوانين الوضعية على حياة الناس طابع الرياء والنفاق، وتصرفهم عن الجوهر وتغريهم وتجعل منهم أشخاصا، لا كرامة لهم، ولا عزة فيهم، وأن يتظاهروا بالبراءة والطهارة، وألا يغضبوا لكرامتهم، ولا يثوروا إذا مست في الخفاء، وأن يتظاهروا بالغضب إذا مست في علانية.

والمبدأ الذي أخذت به القوانين الوضعية في العلانية: هو مبدأ متمم لمبدأ عدم جواز إثبات القذف، وكلاهما أساسه فرض حياة الرياء والنفاق على الناس؛ لأن معنى عدم جواز الإثبات هو أن يعاقب الصادق والكاذب على السواء، وألا يستطيع إنسان أن يقول الحق ويصف الناس والأشياء وصفا حقا، وإلا عرض نفسه للعقاب، فإذا لم يرد أن يكون عرضة للعقاب وجب عليه أن يعيش كاذبا، لا يقول الحق ولا يعرف الصراحة.

ومبدأ الشريعة الإسلامية في عدم اشتراط العلانية متمم لمبدأ جواز إثبات القذف، كلاهما أساسه فرض الحياة الفاضلة على الجمهور وأخذه بالاستقامة والاعتزاز بالكرامة، وشتان بين توجيه الشريعة وتوجيه القانون؛ فالشريعة تعاقب على الجريمة لذاتها لا لظروفها، بينما القانون يعاقب على ظروف الجريمة ولا يهتم بذات الجريمة، والشريعة لا تحمي الفاسدين المفسدين من ألسنة الصادقين المصلحين، بينما تحمي الغافلين من ألسنة الكاذبين المدعين.

أما القانون فيتكفل بحماية الفاسدين المفسدين لو تبين فسقهم وفسادهم، ويعاقب المصلحين ولو ثبت صدقهم وصلاحهم، ثم هو بعد ذلك لا يسمح للبرآء الغافلين أن يبرئوا أنفسهم مما ادعى عليهم الكاذبون؛ لأن عقاب القاذف دون أن يسمح له بإثبات قذفه يؤدي إلى منع المقذوف من إثبات براءته، فيعاقب القاذف لمجرد القذف، سواء كان صادقا أم كاذبا، ويبقى المقذوف البريء وقد لصقت به الفرية لا يستطيع منها فكاكا ولا خلاصا”[8].

رابعا. عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية:

للقذف عقوبتان دنيويتان:

الأولى أصلية: وهي الجلد.

والثانية تبعية: وهي عدم قبول شهادته.

والأصل في العقوبتين قوله سبحانه وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور).

عقوبة الجلد: مقدارها ثمانون جلدة، وهي لا تقبل استبدالا ولا عوضا، وليس لولي الأمر حق العفو عن العقوبة، أما المقذوف فله الحق في العفو عنها على رأي بعض الفقهاء، وليس له العفو على رأي بعضهم الآخر.
عدم قبول الشهادة: من المتفق عليه أن القاذف يجب عليه مع الحد سقوط شهادته لقوله سبحانه وتعالى: )ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا( (النور: ٤).
وهناك عقوبة دينية: وهي أن يلقب بـ “الفاسق” لقبا لازما له، وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: )وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور)[9].
عقوبة القذف في القوانين الوضعية:

تعاقب القوانين على القذف بالحبس أو الغرامة أو بهما معا، وهي عقوبات غير رادعة، ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب واللعن زيادة عظيمة. ومع هذا يزعم المغالطون أن الجلد – شرعا – فيه انتقاص لكرامة الإنسان. والصحيح أن فيه حفظا لكرامة الناس وصيانة لها.

فالجلد مطبق في بعض قوانين الدول ولا يزال عقوبة متفقا عليها؛ ففي إنجلترا يعتبر الجلد أحد العقوبات الأساسية في القانون الجنائي، وفي الولايات المتحدة يعاقب المسجونون بالجلد، وقد اقترح فعلا في فرنسا تقرير عقوبة الجلد على أعمال التعدي الشديد التي تقع على الأشخاص، وأنه السبيل الوحيد لإزالة التعديات على الأشخاص.

وقد أدت عقوبة الحبس أو الغرامة – أو بهما معا – إلى إشاعة الفساد، وأكثر الناس الذين يمتنعون عن القذف لا تصرفهم عنه العقوبة، وإنما يمسكهم عنه الدين والأخلاق.

وتمتاز الشريعة الإسلامية بأنها حين جعلت الجلد عقوبة للقذف قد عالجت دواعي الجريمة في النفس قبل أن تحاربها في الحس، عالجتها بالعلاج الوحيد الذي لا ينفعها غيره، أما العقوبة التي قررها القانون فإنها لا تمس دواعي الجريمة في نفس المجرم ولا حسه؛ إذ الحبس علاج لا يصلح بحال لجريمة القذف.

والغريب في الأمر أن عقوبة القذف موجودة كما رأينا في القانون الوضعي – حسبما يقررها هذا القانون – ولم يشمئز هؤلاء المدعون من مجرد وجودها، وإن كانت موجودة مع فارق هائل – في المعاني والحكم والمقاصد – بين وجودها القانوني وبين وجودها الشرعي – لصالح الطرف الشرعي بالطبع – مما يبرر بوضوح وجود هذه العقوبة، بهذا الشكل في منظومة الحدود وعقوباتها في الإسلام[10].

والعقلاء دائما يعولون في تفكيرهم وتقييمهم على الجواهر والمضامين والمقاصد والنتائج لا على الأشكال والشكليات والمظاهر، وخالق النفوس أعلم بأدوائها ودوائها.

حلل هذا الفارق بين الوجودين القانوني والشرعي لجريمة القذف عبد القادر عودة بقوله: “ويختلف قانون العقوبات المصري عن الشريعة من هذه الوجهة كل الاختلاف؛ فالقاعدة فيه أن ليس لمن قذف إنسانا بشيء أن يثبت صحة ما قذفه به وعليه العقوبة، ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا شك فيه، والأساس الذي يقوم عليه القانون المصري هو حماية حياة الأفراد الخاصة، وهو نفس الأساس الذي تقوم عليه القوانين الأوربية؛ لأن مصدرها جميعا واحد هو القانون الروماني.

فالقانون الوضعي يقوم في جرائم القول على قاعدة النفاق والرياء، ويعاقب الصادق والكاذب على السواء، والمبدأ الأساسي في هذا القانون ألا يجوز أن يقذف امرؤ آخر، أو يسبه أو يعيبه، فإن فعل عوقب، سواء كان صادقا فيما قال أم كان كاذبا.

وإذا كان هذا المبدأ يحمي البرءاء من ألسنة الكاذبين الملفقين، فإنه يحمي الملوثين والمجرمين، والفاسقين من ألسنة الصادقين، وإذا كان هذا المبدأ قد عني بحماية حياة الأفراد الخاصة، فإنه قد أدى إلى إفساد الأفراد والجماعة على السواء؛ لأن القانون حين يعاقب على الصدق لا يمنع الصادق من قوله الحق فقط، وإنما يدفعه إلى الكذب، ويشجعه على النفاق والرياء، كما أن القانون لا يصلح الفرد المعوج السيرة بحمايته، وإنما يشجعه بهذه الحماية على الإمعان في الفساد، بل إنه ليغري كثيرا من الأسوياء بسلوك طريق الفساد، ما دام أنهم قد أمنوا من التشنيع والانتقاد، وهكذا تفسد الجماعة، وتهدد الأخلاق الفاضلة؛ لأن القانون يحمي من لا يستحق الحماية على الإطلاق.

بهذا المبدأ الذي قام عليه القانون ينعدم الفرق بين الخبيث والطيب والمسيء والمحسن، وينعدم الحد بين الرذيلة والفضيلة، وبهذا المبدأ انحط المستوى الأخلاقي بين الشعوب؛ فالطيب لا يستطيع أن ينقد الخبيث، والخبيث سائر في غيه، ذاهب إلى نهاية طوره؛ لأنه لا يخشى رقيبا ولا حسيبا من الجماهير.

ولا يستطيع امرؤ طبقا لهذا المبدأ القانوني أن يسمي الأسماء بمسمياتها، وأن يصف الموصوفات بأوصافها، ولا يستطيع أن يقول لمن زنى يا زان، ولا يستطيع أن يقول لمن سرق يا سارق، ولا يستطيع أن يقول للمفتري يا كاذب، فإن قالها باء بالعقوبة، وباء الزاني والسارق والكاذب – فوق حماية القانون – بالتعويض المالي على ما نسب إليهم من قول هو عين الحق والصدق، ذلكم هو مبدأ القانون في جرائم القول، يحرم على الناس أن يقولوا الحق، وأن يتناهوا عن المنكر، وأن يحطوا من قدر المسيء ليرفعوا من قدر المحسن والإحسان، وقد شعر واضعو القانون المصري بخطورة هذا المبدأ على الشعب إذا طبق على إطلاقه، فاستثنوا منه حالات أربع هي:

حالة الطعن في أعمال موظف عام، أو شخص ذي صفة نيابية، أو مكلف بخدمة عامة؛ إذ إن أعمالهم معرضة للانتقاد، فيدعوهم ذلك إلى الإحسان ما استطاعوا.
حالة دعوة الأمة إلى الانتخاب: فإن نص المادة 68 من قانون الانتخابات يبيح الأقوال الصادقة عن سلوك المرشح أو أخلاقه أثناء المعركة الانتخابية، على الرغم من تحريم قانون العقوبات لهذه الأقوال في الأوقات العادية، وقد جعلت هذه الإباحة ليستطيع كل مرشح، وكل ناخب أن يقول ما يعرف عن سلوك المرشح وأخلاقه دون خوف من العقاب؛ ليسهل على الناخبين أن يميزوا بين المرشحين، ويختاروا من يصلح للنيابة عنهم، بعد أن يسمعوا عنه كل ما يتعلق بسلوكه وأخلاقه.
حالة انعقاد البرلمان: فإن أعضاءه لا يؤاخذون على ما يبدون من الأفكار والآراء في المجلسين طبقا لنص المادة 109 من الدستور، وقد وضع هذا النص لتمكين نواب الأمة من أن يقولوا ما يشاءون دون تحرج أو خوف من المحاكمة والعقاب، ويلاحظ أن هذه الحالة تختلف عن الحالتين السابقتين في أن القاذف في الحالتين السابقتين لا ينجو من العقاب إلا إذا كان صادقا فيما قال، أما عضو البرلمان فلا يحاكم ولا يعاقب سواء كان صادقا فيما قال أو مختلقا لما قال.
حالة المحاكمة والتقاضي: فالمادة 309 من قانون العقوبات تنص على الإعفاء من العقاب على القذف والسب الذي يحدث من الخصوم، أو وكلائهم في دفاعهم الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم، ولا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية، أو المحاكمة التأديبية.

ويلاحظ أن القاذف والساب لا يعاقب جنائيا على قذفه أو سبه، سواء كان صادقا أو كاذبا فيما قال.

هذا هو مبدأ القانون المصري في جرائم القول، وهو نفس المبدأ الذي تأخذ به القوانين الوضعية بصفة عامة، وهي مستثنيات المبدأ في مصر، وهي لا تكاد تختلف كثيرا عما في معظم القوانين الوضعية.

والعيب الفني في نصوص القانون المصري هو التناقض الظاهر، وانعدام الانسجام، فبينما المبدأ الأساسي يقوم على حماية الحياة الخاصة للأفراد؛ إذ الاستثناءات تقوم على إباحة الحياة الخاصة والعامة، وبينما المبدأ الأساسي هو تحريم القول الصادق والكاذب على السواء؛ إذ بعض الاستثناءات تبيح القول الصادق فقط، وبعضها يبيح القول الصادق والقول الكاذب معا، وليس بعد هذا من تناقض أو اضطراب، والعيب الخلقي الاجتماعي أن القانون حين قرر حماية الحياة الخاصة للأفراد قد قضى بإفساد الحياة العامة للجماعة؛ لأن الأفراد هم الذين يكونون الجماعة، وإذا صلحوا صلحت الجماعة.

ولا يمكن أن يتصور وجود جماعة صالحة أفرادها فاسدون، ولا شك أن حماية حياة الأفراد الخاصة تؤدي إلى إفساد أخلاقهم وهدم الوازع الأدبي في نفوسهم؛ فمن يحاول أن يوجد جماعة صالحة من هؤلاء قبل اجتثاث الفساد من نفوسهم، فإنما يحاول إقامة بيت من لبنات تالفة غير متماسكة، فلا يكاد ينتهي من بنائه حتى يخر عليه من السقف أو ينقض من القواعد.

أما المبدأ الأساسي للجرائم القولية في الشريعة فأساسه تحريم الكذب والافتراء، وإباحة الصدق في كل الأحوال؛ ولذلك فلا عقاب في الشريعة على من يقول الحق، ولا مؤاخذة على من يسمي الأشياء بأسمائها والموصوفات بأوصافها، ولا عقاب على من يقول للزاني يا زان، إذا ثبت أنه زان، ولا عقاب على من يقول للسارق إنك سارق، إذا ثبت أنه سارق، ولا عقاب على من يقول للكاذب إنك كاذب إذا لم يعتد قول الحق.

وليس لهذا المبدأ استثناءات فكل إنسان يستطيع أن يطعن في أعمال الموظفين العموميين والنواب والمكلفين بخدمات عامة وينسب إليهم عيوبهم ما دام يستطيع إثبات مطاعنه، وله أن يتعدى أعمالهم العامة إلى أعمالهم وحياتهم الخاصة ما دام يستطيع إثبات مطاعنه.

وليس لهم أن يتضرروا من عيوبهم ولا من الصفات القائمة في أعمالهم أو أشخاصهم.

ولم تحم الشريعة الإسلامية الحياة الخاصة للموظفين العموميين، ومن في حكمهم، كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن الشريعة لا تحمي النفاق، والرياء، والكذب؛ ولأن الشخص الذي لا يستطيع أن يسير سيرة حسنة في حياته الخاصة ليس أهلا في نظر الشريعة لأن يتولى شيئا من أمور الناس في حياتهم العامة.

وكل إنسان في وقت الانتخابات وفي غير وقتها يستطيع – طبقا للشريعة – أن يقول عن المحسن: هذا محسن، وعن المسيء: هذا مسيء، ما دام يستطيع أن يثبت إساءة المسيء، وكل إنسان – سواء كان عضوا في البرلمان، أو في أية هيئة أخرى، أو كان عاطلا من عضوية الهيئات على الإطلاق – له الحق في أن ينسب ما يشاء إلى من شاء ما دام يستطيع أن يثبت ما ينسبه إلى هؤلاء، فليس في الشريعة – كما في القانون – ما يدعو إلى تحليل الصدق والكذب في وقت الانتخابات وتحريمه في غير ذلك من الأوقات؛ لأن الشريعة توجب الصدق على الدوام؛ ولا تحرمه في أي ظرف من الظروف أو زمن من الأزمان.

وليس في الشريعة – كما في القانون – ما يدعو إلى حل الصدق والكذب معا لأعضاء البرلمان والمتقاضين؛ لأن ذلك يجعل الصدق والكذب بمنزلة سواء، والشريعة توجب الصدق كل الوجوب، وتحرم الكذب كل التحريم، فلا تجمع في حكم واحد بين المتناقضين، ولأن أعضاء البرلمان هم أهل الرأي والشورى، فإذا أحل لهم الكذب وأمنوا العقوبة عليه كانوا أقرب إلى مظنة الوقوع فيه، وما قيمة الرأي والمشورة من قوم يظن فيهم أنهم لا يصدقون في كل الأحوال.

والشريعة الإسلامية تقوم على المساواة، وفي تميز أعضاء البرلمان والمتقاضين خروج على مبدأ المساواة.

هذه هي الشريعة الإسلامية تقوم على حماية الحياة العامة من الغش والرياء، وحماية الأفراد من مسايرة الأهواء، وترى الصدق فضيلة تستحق التشجيع لا العقاب، وترى أن الفرد الفاسد أحق بأن يتحمل وزر عمله، وألا يتضرر من نتائجه، ومن ثم أباحت إثبات القذف، فإن استطاع القاذف إثبات ما قال فلا عقاب عليه.

وليس للمقذوف أن يتضرر من القذف؛ لأنه نتيجة عمله هو لا عمل القاذف، فإذا عجز القاذف عن الإثبات فهو ظالم يستحق العقوبة، ويجب أن نلاحظ أن في إيقاع العقوبة على القاذف بعد إباحة إثبات القذف له وعجزه عن الإثبات دليل قاطع على عدم صحة القذف. أما إيقاع العقوبة على القاذف مع منعه من إثبات القذف – كما هو الحال في القانون – فإنه لا يبرئ مما يقذف به، ولا يقطع بكذب القاذف، ومن هنا يتبين أن نظرية الشريعة أكرم وأفضل للمجني عليه والجاني من نظرية القانون الوضعي”[11].

خامسا. هل حد القذف فيه قسوة ولا يتناسب مع المدنية وفيه انتهاك لحقوق الإنسان؟!

حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت العقوبة على فاعله، وأوجبت على من قذف عفيفا طاهرا بريئا أو بريئة من الزنا حد القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة نصوحا. قال سبحاته وتعالى: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، وتوعد الخالق – عز وجل – القاذف بأشد وعيد، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23)( (النور).

وقال صلى الله عليه وسلم:«اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، ما هن؟ قال: الشرك بالله عز وجل, والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»[12].

هدف الشريعة من ذلك:

وتهدف الشريعة من ذلك إلى المحافظة على الأخلاق والأعراض من أن تدنس بالشبهة المزيفة والأوصاف المكذوبة، وألا يتجرأ أحد على إلصاق التهمة بشخص آخر إلا حينما يكون هناك دليل قاطع عليها، وإلا اعتبر ذلك بلاغا كاذبا وقولا زورا يستحق عليه العقاب.

فالعرض أعز على الكريم من المال، وترك معاقبة القاذف بالفاحشة بغير بينة يحل حرب الأخلاق وينشر الرذائل ويسهل ارتكاب جريمة الزنا، ويسبب الفوضى؛ فإن المقذوف وعشيرته لا يتركون القاذف دون انتقام، “والبواعث التي تدعو القاذف للافتراء والاختلاق كثيرة منها: الحسد والحقد والمنافسة والانتقام ولكنها جميعا تنتهي إلى غرض واحد يرمي إليه كل قاذف هو إيلام المقذوف وتحقيره.

وقد وضعت عقوبة القذف في الشريعة الإسلامية على أساس محاربة هذا الغرض؛ فالقاذف يرمي إلى إيلام المقذوف إيلاما نفسيا، فكان جزاؤه الجلد ليؤلمه إيلاما بدنيا ونفسيا، يضاف إلى ذلك ما يدل عليه الجلد بأنه كاذب في قوله. وذلك أشد وقعا على النفس والحس معا؛ إذ إن الإيلام النفسي هو بعض ما ينطوي عليه الإيلام البدني، والقاذف يرمي من وراء قذفه تحقير المقذوف، وهذا التحقير فردي؛ لأن مصدره فرد واحد هو القاذف، فكان جزاؤه أن يحقر من الجماعة كلها وأن يكون هذا التحقير العام بعض العقوبة التي تصيبه؛ فتسقط عدالته ولا تقبل له شهادة أبدا ويوصم وصمة أبدية بأنه من الفاسقين.

وهكذا حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية الداعية إلى الجريمة بالعوامل النفسية المضادة التي تستطيع وحدها التغلب على الدوافع الداعية للجريمة وصرف الإنسان عن الجريمة.

فإذا فكر شخص أن يقذف آخر ليؤلم نفسه ويحقر شخصه ذكر العقوبة التي تؤلم النفس والبدن، وذكر التحقير الذي تفرضه عليه الجماعة فصرفه ذلك عن الجريمة، وإن تغلبت العوامل الداعية إلى الجريمة مرة على العوامل الصارفة عنها فارتكب الجريمة كان فيما يصيب بدنه ونفسه من ألم العقوبة وفيما يلحق شخصه من تحقير الجماعة ما يصرفه نهائيا عن العودة لارتكاب الجريمة بل ما يصرفه نهائيا عن التفكير فيها[13].

هذه بعض أهداف إقامة حد القذف ومع وضوح هذه الأهداف نجد من يقول: إن عقوبة الجلد شريرة ولا تناسب المدنية الحديثة. وكان الأجدر بهؤلاء أن يدركوا أولا معنى الجريمة، وما يترتب عليها من الآثار التي تؤذي المجتمع، ثم يقارن بينهما وبين العقوبة ليعلموا أن الغرض من العقوبة هو زجر الناس عن كل فعل أو قول يضر بالمجتمع، ويؤذي أفراده وجماعته؛ فإذا فشت الجرائم بين الناس وأصبح كل واحد غير آمن على عرضه أو نفسه أو ماله فإنه لا يكون لهذا معنى، إلا أن الإنسان الذي ميزه الله بالعقل مساو لعالم الحيوانات المفترسة الذي يعتدي فيه القوي على الضعيف، وذلك هو الهلاك والفناء للأفراد والمجتمعات.

فلا بد من زاجر يزجر المجرمين فاسدي الأخلاق، ولا بد أن يكون ذلك الزاجر قاطعا لدابر الجريمة، كي لا يكون لها أثر بين الناس، فمن مصلحة المجتمع ومصلحة المجرمين أنفسهم أن تكون العقوبة زاجرة. وما نشاهده في القوانين الوضعية لعقوبة القذف بالحبس أو الغرامة أو بهما معا نقول: هي عقوبة غير رادعة غير زاجرة غير مؤلمة؛ ولذلك ازدادت جرائم القذف والسب زيادة عظيمة وأصبح الناس يتبادلون القذف والسب كما لو كانوا يتبادلون المدح بالحق والباطل وكل يريد أن يهدم أخاه ليخلو له الجو فينطلق فيه وسيظلون كذلك حتى يمزقوا أعراضهم ويقطعوا أرحامهم ويهدموا كيانهم بأيديهم.

“ولو أن الشريعة الإسلامية طبقت على هؤلاء بدلا من القانون لما جرؤ أحد على أن يكذب على أخيه كذبة؛ لأنها تؤدي إلى الجلد وتنتهي بإبعاده عن الحياة العامة فلا تقبل له شهادة، وهو من الفاسقين فكيف يقولون إن العقوبة في الشريعة الإسلامية لا تتفق مع المدنية المعاصرة وهذا قانونهم؟!”[14].

مما سبق نقول: إن حد القذف ليس فيه قسوة بل هو الرحمة والعدل، بل إن حد القذف هو الحارس على أعراض الناس من أن تمس زورا، وهو الزاجر للألسنة من أن تنطق فحشا، والحارس على المستوى الأخلاقي في المجتمع الإسلامي حتى ينهج الناس في حياتهم وصلاتهم وعلاقاتهم – في رضاهم وسخطهم، في هدوئهم وثورتهم – منهجا معتدلا منهجا سليما يرضى الله عنه ويرضى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده»[15].

وورد عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»[16].

والشريعة الإسلامية أقامت أحكامها على أساس مراعاة طبيعة البشر، فجاءت أحكامها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن ماهية البشر واحدة في كل مكان، ولأنها لا تتغير بتغير الأزمان وذلك هو السر في صلاحية الشريعة الإسلامية للقديم والحديث، وهو السر في صلاحيتها للمستقبل القريب والبعيد.

الخلاصة:

الإسلام حرم القذف بالزنا، وجعله كبيرة لما فيه من تعد على الحرمات وهتك للأعراض، وتشكيك في الأنساب. ولو انفتح الباب لقذف البرءاء لصار كل فرد متهما أو مهددا بالاتهام، فبهذا الحد – القذف – قطع الإسلام ألسنة السوء وسد بابا من الشر عظيما.
قرر الإسلام عقوبة هذا الحد ثمانين جلدة، بالإضافة إلى عقوبة معنوية، هي عدم قبول شهادة المحدود في القذف ورميه بالفسق.
لا ينفذ حد القذف إلا بشروط هي بمثابة ضمانات تكفل العدالة في تطبيقه، مما يفوت الفرصة على زعم الزاعمين بأن الشرع الإسلامي لا هم له سوى الجلد والرجم والقطع… إلخ.
للقذف عقوبة في القانون الوضعي لا تفي بالغرض، ولا تثمر فاعلية في صون الأعراض، وحفظ كرامة الناس، فهي تمنع القاذف من إثبات دعواه، وتعاقبه في حالتي الصدق والكذب على السواء، وهذا لا يبرئ المقذوف، ولا يقطع بكذب القاذف، فالعقوبة الشرعية أكرم وأفضل للمجني عليه والجاني كليهما من عقوبة القانون الوضعي.

(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.

[1]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ص69.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ( (النساء: ١٠) (2615)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (272).

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24747) بنحوه، وأبو دواد في سننه، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (4405)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4403).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب قذف العبيد (6466)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا (4401) واللفظ له.

[5]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ج3، ص230.

[6]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، مج 2، ص، 231، 232.

[7]. الحبس: الملازمة، أي يقال للمدعي: لازمه إلى هذا الوقت؛ لأن الحبس عقوبة وبمجرد الدعوى لا تقام العقوبة.

[8]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص478، 480.

[9]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص491.

[10]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ص647 بتصرف.

[11]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، مج 2، ص456 وما بعدها.

[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ( (النساء: ١٠ ) (2615)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (272).

[13]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص646.

[14]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص647 بتصرف.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (10)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل (170) واللفظ له.

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي سباب المسلم فسوق (230).

الادعاء أن الخوف من حد القذف يلجئ إلى كتمان الشهادة

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن تشريع حد القذف في الشريعة الإسلامية يلجم الأفواه، ويجعل الناس يتسترون على المجرم فيكتمون الشهادة؛ خوفا من أن يطبق عليهم حد القذف. ويتساءلون: كيف يتمكن أربعة أفراد من رؤية الجريمة عينها؟! ألا يعد ذلك مستحيلا؟! وهل إذا كان الشهود أقل من أربعة يتركون الفاسق يكمل فعلته حتى يكتمل العدد؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة، ترجع في أصولها إلى الردع عن ارتكاب المحظور أو ترك المأمور به؛ لمحو دواعي الجريمة من النفس قبل الحس، ولضمان سلامة المجتمع، والحفاظ على أمنه واستقراره.

2) الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته، أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.

3) الستر على أصحاب المعاصي له أهداف، فإن فضحهم وإقامة الحد عليهم يعني قتلهم معنويا، وذبحهم نفسيا، ولا يعني التستر على الجناة الرضا عما يفعلون؛ بل يعني إتاحة الفرصة لتوبتهم وإصلاحهم، قبل انكشاف حالهم وافتضاح أمرهم.

4) إذا لم يكتمل العدد في الشهادة فلا تقوم البينة، وتبطل الدعوى، وذلك إمعانا في الستر والتثبت؛ حتى لا يخوض الناس بعضهم في أعراض بعض؛ ولأن ثبوت الجريمة يترتب عليه أمر خطير وهو إقامة الحد، وإهدار كرامة الجاني، وتحطيم حصانته.

5) لا يعني عدم اكتمال الشهود أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه من خصائص أمة الإسلام، والإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره.

التفصيل:

أولا. تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة:

إن تشريع الحدود في الإسلام له حكم ومقاصد عظيمة، ترجع في أصولها إلى الردع عن ارتكاب المحظور أو ترك المأمور به؛ لمحو دواعي الجريمة من النفس قبل الحس،ولضمان سلامة المجتمع، والحفاظ على أمنه واستقراره.

محاربة الإسلام للجريمة:

“لقد حارب الإسلام الجريمة بمختلف أنواعها، فرتب على ارتكابها عقوبات زاجرة تحفظ أمن الناس والأمة، وتحفظ النظام العام للدولة؛ حتى لاتكون هناك تجاوزات تخل بالمصالح العامة والخاصة، وتؤدي بالأمة نحو الانهيار والاضطراب والضعف، فالجريمة هي نتاج التربية الفاسدة، وانحلال السلوك الاجتماعي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وضعف المفاهيم السياسية التي تسير النظام العام وتقود الأمة إلى الهاوية.

وتعد الأوضاع الفاسدة التي يعيشها المجتمع العامل الأساسي في نشأة الجريمة والمجرمين، وتمثل في الوقت نفسه الدافع لكل من له ميل لارتكاب الجرائم، فهي تشجع على الفاحشة، وانطلاق الشر داخل المجتمع لينهار ويختل توازنه.

ولقد حاربت الشريعة كل أسباب الجريمة ودوافعها بكل الطرق والسبل؛ حيث حرمت قتل النفس الإنسانية والاعتداء عليها في نصوص كثيرة، منها قوله عز وجل: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( (الإسراء: ٣٣)، كما أنه تعالى جعل عقوبة القتل القتل، وترك أمر المطالبة بالقصاص أو العفو لأولياء المجني عليه لتتحقق العدالة الإلهية بين الناس قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (178)( (البقرة).

كما جعل الشارع الحكيم تواصل الحياة البشرية والحفاظ عليها من كليات الشريعة وأصولها قال سبحانه وتعالى: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)( (البقرة)، وقد حذر من الفساد ونبه على خطورته في قوله سبحانه وتعالى: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)( (البقرة).

كما بين حقيقة القصد في الجناية ففرق بذلك بين القتل العمد العدوان، والقتل الخطأ، فجعل عقوبة الخطأ غير عقوبة العمد في قوله سبحانه وتعالى: )وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)( (النساء).

هذه هي الشريعة الحقة التي راعت في نظام البشر وأمنه واستقراره كل ما هو مصلحة للأمة، وكل ما هو خير لها، فشددت في عقوباتها رحمة بالعباد، ودفعا للفساد وأضراره التي تلحق بهم، فحددت الأفعال الحسنة التي يؤجر عليها الفاعل، وحذرت من إتيان المفاسد والمعاصي والخطايا، وبينت عقوباتها في الدنيا والآخرة: )ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)( (الأنفال) [1].

ثانيا. الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع:

 الأصل في الشهادة – قبل الإجماع – الكتاب والسنة:

“أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: )واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء( (البقرة: ٢٨٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأشهدوا ذوي عدل منكم( (الطلاق: ٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأشهدوا إذا تبايعتم( (البقرة: ٢٨٢)، أمر إرشاد لا وجوب.

وأما السنة فمثل قوله – صلى الله عليه وسلم – لمدع: «شاهداك أو يمينه»[2].

وحكم الشهادة: وجوب القضاء على القاضي بموجبها بعد توافر شروطها، وأما حكم تحمل الشهادة وأدائها، فهو فرض كفائي إذا دعي الشهود إليه؛ إذ لو تركه الجميع لضاع الحق، ويصبح أداء الشهادة بعد التحمل فرض عين، فيلزم الشهود بأداء الشهادة، ولا يجوز لهم كتمانها إذا طالبهم المدعي بها، لقوله سبحانه وتعالى: )ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا( (البقرة: ٢٨٢)، وقوله سبحانه وتعالى:)ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه( (البقرة: ٢٨٣)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأقيموا الشهادة لله( (الطلاق: ٢).

ويجب أداء الشهادة بلا طلب في حقوق الله تعالى، كطلاق امرأة بائنا، ورضاع ووقف وهلال رمضان وخلع وإيلاء وظهار. قال الحنفية: الذي تقبل فيه الشهادة حسبة بدون الدعوى أربعة عشر وهي: الوقف، وطلاق الزوجة، وتعليق طلاقها، وحرية الأمة، وتدبيرها، والخلع، وهلال رمضان، والنسب، وحد الزنا، وحد الشرب، والإيلاء، والظهار، وحرمة المصاهرة، ودعوى المولى نسب العبد، وزاد ابن عابدين: الشهادة بالرضاع.

لكن الشهادة في الحدود: يخير فيها الشاهد بين الستر والإعلام؛ لأنه يكون مترددا بين الشهادة حسبة للأجر في إقامة الحد، والتوقي عن هتك حرمة مسلم، والستر أولى وأفضل؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – للذي شهد عنده: «لو سترته بثوبك كان خيرا لك»[3]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة»[4]. وقد عرفنا في الحدود أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لقن ماعزا الرجوع عن الإقرار بقوله:«لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت»[5]. ففي هذا دلالة ظاهرة على أفضلية الستر.

ولخطورة أمر الشهادة التي يتوقف عليها ثبوت التهمة على الشخص، أو البراءة منه لم يدع الإسلام أمرها بلا ضابط، بل قيدها بالمعاينة أو السماع، ومنها أن يكون الشاهد عاقلا بصيرا وقت التحمل، وأن يعاين المشهود به بنفسه – إلا فيما تصح فيه الشهادة بالتسامح مع الناس.

 ويشترط في الشاهد أهلية العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والبصر، والنطق والعدالة، وعدم التهمة”[6].

وبهذا يتبين لنا مدى دقة التشريع الإسلامي في كل جزئياته، فلا يترك شيئا بدون ضابط؛ حتى لا تحدث فوضى، بل كل شيء مقنن ومحصن ضد أي ثغرات يمكن أن تتخلله وتفقده بعض مقاصده ومراميه، وهذه هي ميزة الشريعة الخالدة، فهي تنزيل من حكيم بأسرار صنعته، خبير بشئون خلقه وما يصلحهم.

وكل هذا التشدد في أمر الشهادة؛ لأجل التأكد والتثبت قبل إصدار الأحكام، وكذلك الندب إلى الستر على المسلم العاصي هدفه عدم إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي؛ لأنه إذا كثرت الشائعات والأخبار عن الفواحش؛ انتشرت وتجرأ الناس عليها، وأصبحت عادة لا يستحي أحد من اقترافها.

يقول سيد قطب: “عند تفسير قوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)( (النور): والذين يرمون المحصنات، وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريم، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة، وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها… بذلك تشيع الفاحشة في النفوس؛ لتشيع بعد ذلك في الواقع، من أجل ذلك وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريق تكيف مشاعرها واتجاهاتها..

ومن ثم يعقب بقوله: )والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)( (البقرة)، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى أمر الظاهر والباطن ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير” [7].

ثالثا. الستر على أصحاب المعاصي له أهداف عظيمة:

إن الستر على أصحاب المعاصي له أهداف عظيمة، وإن فضحهم وإقامة الحد عليهم، يعني قتلهم معنويا ونفسيا، والستر لا يعني الموافقة، أو الرضا عن فعل المعصية، بل يعني إتاحة الفرصة لتوبتهم، وإصلاحهم قبل انكشاف حالهم وافتضاح أمرهم.

ويفصل القول في هذه القضية د. حسني الجندي بقوله: “فقد شرع الله تعالى الستر على صاحب الذنب، وهو ما يتحقق بعدم إعلان الجرائم، وعدم الكشف عنها، أو فضح الجاني أمام الناس، سواء كان ذلك بأن يستتر إلى الله تعالى ويستر على نفسه، فلا يذكر ذلك لأحد، وسواء أكان من مرتكبيها، أم من الغير الذي اطلع على ذلك، بأن يستر عليه ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام.

والستر على الجاني في الحدود من شأنه أن يحفظ للمجتمع نقاءه وصفاءه، ويجعل مقترف الجريمة ينزوي بعيدا عن أعين الناس، فيشعر بأن هناك ازدراء له من المجتمع، وقد يكون ذلك سبيلا إلى تهذيبه وإصلاحه وإيقاظ ضميره، فيتوب توبة صادقة خالصة لوجه الله تعالى. ودليل مشروعية الستر ثابت في السنة النبوية الشريفة، ورأي الصحابة الكرام رضي الله عنهم:

السنة النبوية المطهرة:

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة،ومن سترمسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[8]. وقال أيضا: «من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موءودة»[9]. وجاء عن يزيد بن نعيم «أن ماعزا أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فأقر عنده بالزنا، فأمر برجمه، وقال لهزال: “لو سترته بثوبك لكان خيرا لك»[10].

سيرة الصحابة رضي الله عنهم:

ورد عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: “لو وجدت مؤمنا على فاحشة لسترته بثوبي هذا، إن التوبة فيما بين المؤمن وبين الله”. وقد جاء عن ابن مسعود أنه قال: «ثلاث أحلف عليهن، والرابعة لو حلفت لبررت: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له, ولا يتولى الله عبد في الدنيا فولاه غيره يوم القيامة, ولا يحب رجل قوما إلا جاء معهم يوم القيامة, والرابعة التي لو حلفت عليها لبررت: لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة»[11].

حدود مشروعية الستر:

القول بالستر على مرتكب المعصية ليس مطلقا، وإنما هو مقيد بحدود المصلحة والغاية من تقريره، وقد قيد فقهاء المسلمين قاعدة الستر بقيدين:

القيد الأول: المبادرة للشهادة من غير طلب، وكانت متعلقة بحق الله تعالى، ومما يتأبد فيه التحريم، فيقبل فيه الشهادة على المبادرة “إذ تجب المبادرة بها، وتأخير القيام بها من غير عذر جرحه”.

أما المبادرة إلى الشهادة من غير طلب وكانت متعلقة بحقوق الآدميين، أو بحق من حقوق الله لم يستدم تحريمه، ويلحق بذلك الحدود، فإن الشهادة فيها لا تجب، ويندب للشاهد أن يسكت لما فيه من الستر على الجاني ولكون الحدود تدرأ بالشبهات.

القيد الثاني: الجهر بالمعصية، فيستحب لكل من ارتكب معصية – الحق فيها لله تعالى – ألا يظهرها ليحد أو يعزر، لقول رسول صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»[12].

وفي ذات الوقت استهجن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المجاهرة بالمعصية ممن اقترفها، وإشاعتها والتهتك بها، وخاصة بعد أن ستر الله عليه، وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه»[13].

ومعنى ذلك أن العبد إذا استتر بستر الله تعالى ستر الله عليه في الدنيا، ولم يؤاخذ بما فعل طالما كان في جانب الستر، أما إن أعلن عن جريمته أو ما ارتكبه من فواحش، فإن ذلك مما يستهجنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ إن في الجهر بالمعصية استخفافا بحق الله تعالى ورسوله وبصالح المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف – لأن المعاصي تذل أهلها – ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير – إن لم يوجب حد – وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، ولذلك يلزم محاكمته عما فعل وتوقيع العقوبة المقررة متى ثبت جرمه يقينا، كما يلزم إعلان الحكم بالعقوبة الشرعية ليكون رادعا للجاني، وزاجرا مانعا لغيره، ممن تسول لهم أنفسهم التفكير في الجريمة.

وعلاوة على منع الإسلام من إعلان الجريمة، فإنه اعتبر الجريمة المعلنة جريمتين؛ الأولى: الجريمة المرتكبة، والثانية: جريمة الإعلان، والله تعالى قد أنذر المجاهرين بالفواحش والجرائم، بقوله سبحانه وتعالى: )إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة( (النور: 19).

كما أن ستر الجرائم من شأنه أن يجعل الإثم ينزوي فلا يظهر؛ لأن خشية الإعلان بالمعصية أو بالفاحشة تضعف نزعة الشر لدى المجرم، وتدفعه إلى التوبة. ولا يخفى أن في التكليف بالشهود الأربعة لإثبات حد الزنا والرمي به – يصفون الفعل وصف مشاهدة ينتفي معها الاحتمال – فيه ندب للستر وعدم إشاعة الفاحشة؛ لأن الشيء كلما كثرت شروطه قل وجوده، ووجوده إذا توقف على أربعة، ليس كوجوده إذا توقف على اثنين فاشتراط الأربعة يتحقق به معنى الستر.

ومن ناحية أخرى، يندب للشاهد أن يسكت لما فيه من الستر على الجاني؛ فالشاهد في الحدود مخير بين أن يشهد على الجاني وبين أن يستر عليه، والستر أفضل.

ونخلص مما تقدم أن الشارع الحكيم يغلب جانب العفو والستر على جانب الزجر والردع بالعقوبة، وفي ذلك مراعاة لكرامة الفرد، وقيمته، وحماية لشخصه” [14].

رابعا. إذا لم يكتمل العدد في الشهادة فلا تقوم البينة وتبطل الدعوى، وذلك إمعانا في الستر والتثبت:

“في الوقت الذي شددت فيه الشريعة على المعتدين، أقامت مبدأ الستر والتثبت؛ ليكون له دور أساسي في بيان مدى قوة الأدلة التي تثبت إدانة المجرم بفعله الإجرامي، بحيث لا تحتمل هذه الأدلة أي معنى من معاني الشبهة المسقطة للعقوبة؛ ولذلك كانت الشريعة حريصة كل الحرص في موضوع الاتهام، وعدت الشبهة من الأمور التي تكون في صالح المتهم لا ضده، وبذلك قررت درء العقاب عن المتهم بأي شبهة تظهر أثناء التحقيق.

ويجدر بنا هنا أن نترك صاحب الظلال يبين لنا أهمية التشدد وأهمية مبدأ “درأ الحدود بالشبهات”، ودور ذلك المنهج الرباني في حماية المجتمع وصيانة الأعراض؛ فيقول:

“قد يظن أن العقوبة في الإسلام وهمية لا تردع أحدا؛ لأنها غير قابلة للتطبيق، ولكن الإسلام – كما ذكرنا – لا يقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة إلى الجريمة، وعلى تهذيب النفوس، وتطهير الضمائر، وعلى الحساسية التي يثيرها في القلوب، فتتحرج من الإقدام على جريمة تقطع ما بين فاعلها وبين الجماعة المسلمة من وشيجة، ولا يعاقب إلا المتبجحون بالجريمة، الذين يرتكبونها بطريقة فاضحة مستهترة فيراها الشهود، أو الذين يرغبون في التطهر بإقامة الحد عليهم، كما وقع لماعز ولصاحبته الغامدية، وقد جاء كل منهما يطلب من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يطهره بالحد، ويلح في ذلك، على الرغم من إعراض النبي – صلى الله عليه وسلم – مرارا؛ حتى بلغ الإقرار أربع مرات، ولم يعد بد من إقامة الحد؛ لأنه بلغ الرسول بصفة مستيقنة لا شبهة فيها، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول:«تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[15].

 فإذا وقع اليقين، وبلغ الأمر إلى الحاكم، فقد وجب الحد ولا هوادة، ولا رأفة في دين الله. فالرأفة بالزناة الجناة حينئذ هي قسوة على الجماعة وعلى الآداب الإنسانية وعلى الضمير البشري، وهي رأفة مصطنعة؛ فالله أرأف بعباده، وقد اختار لهم ما يصلحهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم. والله أعلم بمصالح العباد، وأعرف بطبائعهم، فليس لمتشدق أن يتحدث عن قسوة العقوبة الظاهرية؛ فهي أرأف مما ينتظر الجماعة التي يشيع فيها الزنا، وتفسد فيها الفطرة، وترتكس في الحمأة، وتنتكس إلى درك البهيمية الأولى.

والتشديد في عقوبة الزنا لا يغني وحده في صيانة حياة الجماعة، وتطهير الجو الذي تعيش فيه، والإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء الحياة النظيفة – كما قلناـ إنما يعتمد على الضمانات الوقائية، وعلى تطهير جو الحياة كلها من رائحة الجريمة.

لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة، ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور).

إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات – وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا – بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة بتلك التهمة النكراء، ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت في المجتمع مهدد بالانهيار.. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق.

ذلك على أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث، وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!

ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح، وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.

لهذا وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية، فهو منحرف عن الإيمان، خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه؛ فيكون قوله إذن صحيحا، ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.

والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة، كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة، وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء، وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.

وتظل العقوبات التي توقع على القاذف – بعد الحد – مسلطة فوق رأسه، إلا أن يتوب: )إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)( (النور)، وقد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء؛ هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها، فيرفع عنه وصف الفسق، ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة.. فذهب الأئمة مالك، وأحمد، والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، وقال الإمام الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف؛ فحينئذ تقبل شهادته؛ لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف، وبذلك يمحى آخر أثر للقذف، ولا يقال: إنه إنما وقع الحد على القاذف لعدم كفاية الأدلة! ولا يحيك في نفس أي أحد – ممن سمعوا الاتهام – أنه ربما كان صحيحا؛ ولكن القاذف لم يجد بقية الشهود.

بذلك يبرأ العرض المقذوف تماما، ويرد له اعتباره من الوجهة الشعورية بعد رده من الوجهة التشريعية؛ فلا يبقى هنالك داع لإهدار اعتبار القاذف المحدود التائب المعترف بما كان من بهتان”[16].

خامسا. إن عدم اكتمال الشهود لايعني أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

 فإنه من خصائص أمة الإسلام أن الإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[17].

والقرآن الكريم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الخصيصة الأولى التي تميزت بها هذه الأمة المسلمة، وفاقت بها أمم الأرض، وقوله سبحانه وتعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران:١١٠).

قدم الله – عز وجل – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذكر على الإيمان، مع أن الإيمان هو الأساس؛ لأن الإيمان بالله قدر مشترك بين الأمم الكتابية جميعا، ولكن الأمر والنهي فضيلة هذه الأمة[18].

وفي بيان السمات العامة لمجتمع المؤمنين، والتي يتميز بها عن مجتمع المنافقين، يقول القرآن في سورة التوبة: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71)( (التوبة).

ومن الجميل في هذه الآية، أنها قرنت المؤمنات بالمؤمنين، وجعلت الجميع بعضهم أولياء بعض، وحملتهم – رجالا ونساء – مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصلاة والزكاة؛ لأنها السمة الأولى للمجتمع المسلم، وأفراد المجتمع المسلم[19].

 وهذا ما جعل بعض العلماء يجعلها الفريضة الخامسة من فرائض الإسلام، بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، يقول د. القرضاوي: “وهذه هي الفريضة أو الشعيره الخامسة من فرائض الإسلام وشعائره، وهي سياج الشعائر السابقة وحارستها، وربما استغرب بعض الناس أن تكون هذه ضمن الفرائض الأساسية في الإسلام، فالمألوف والشائع هو الأربع التي سلف ذكرها، ولكن المتتبع للقرآن والسنة يجد ذلك أوضح من فلق الصبح[20].

وفي سورة الحج ذكر القرآن أهم واجبات الأمة المسلمة حين يمكن الله لها في الأرض، ويكون لها دولة وسلطان؛ فقال: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور (41)( (الحج).

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – إلى جانب أركان الإسلام الخمسة – أهم ما تقوم به دولة الإسلام، بعد أن يمكن الله لها وينصرها على عدوها، بل هي لا تستحق نصر الله إلا بهذا، كما بينت الآيتان الكريمتان.

هذه فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن، إنها علم على وجوب التكافل الأدبي بين المسلمين، كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بينهم.

وجاء الحديث النبوي فصور هذا التكافل الأدبي أبلغ تصوير، وذلك فيما جاء عن النعمان بن بشير عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا [21] على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»[22].

وإن أسوأ ما يصيب المجتمعات أن يخرس الطغيان أو الخوف فيها الألسنة، فلا تعلن بكلمة حق، ولا تجهر بدعوة ولا نصيحة، ولا أمر ولا نهي، وبذلك تتهدم منابر الإصلاح وتختفي معاني القوة، وتذوى شجرة الخير، ويجترئ الشر ودعاته على الظهور والانتشار، فتنفق سوق الفساد، وتروج بضاعة إبليس وجنوده، من غير أن تجد مقاومة ولا مقاطعة.

وحينئذ يستوجب المجتمع نقمة الله وعذابه، فيصب البلاء والنكبات على المقترفين للمنكر والساكتين عليه، قال سبحانه وتعالى: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)( (الأنفال). وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده»[23].

إن الله لعن بني إسرائيل على لسان أنبيائه، وضرب قلوب بعضهم ببعض، وسلط عليهم من لا يرحمهم، لانتشار المنكرات بينهم دون أن تجد من يغيرها، أو ينهى عنها، قال سبحانه وتعالى: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة).

وأسوأ مما ذكرنا أن يموت الضمير الاجتماعي للأمة أو يمرض على الأقل، بعد طول الإلف للمنكر والسكوت عليه؛ فيفقد المجتمع حسه الديني والأخلاقي، الذي يعرف به المعروف من المنكر، ويفقد العقل البصير الذي يميز الخبيث من الطيب، والحلال من الحرام، والرشد من الغي، وعند ذلك تختل موازين المجتمع وتضطرب مقاييسه، فيرى السنة بدعة، والبدعة سنة، أو يرى ما نحسه ونلمسه في عصرنا عند كثيرين من أبناء المسلمين، من اعتبار التدين رجعية، والاستقامة تزمتا، والاحتشام جمودا، والفجور فنا، والإلحاد تحررا[24].

ويعلق سيد قطب على قوله عز وجل: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: ١١٠)، فيقول: “أما هنا فقد وصفها الله – عز وجل – بأن هذه صفتها، ليدلها على أنها لا توجد وجودا حقيقيا إلا أن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني، فإما أن تقوم بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – مع الإيمان بالله -، فهي موجودة وهي مسلمة، وإما ألا تقوم بشيء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحققة فيها صفة الإسلام.

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تقرر هذه الحقيقة، وفي السنة كذلك طائفة صالحة من أوامر الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتوجيهاته نقتطف بعضها:

عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول:«من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[25].
وعن عرس بن عميرة الكندي – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كمن شهدها»[26].
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الجهاد: كلمة عدل عند سلطان جائر» [27].
وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر، فأمره ونهاه، فقتله» [28].

وغيرها كثير.. وكلها تقرر أصالة هذه السمة في المجتمع المسلم، وضرورتها لهذا المجتمع أيضا. وهي تحتوي مادة توجيه وتربية منهجية ضخمة. وهي إلى جانب النصوص القرآنية زاد نحن غافلون عن قيمته وعن حقيقته[29].

وبهذا العرض الموجز لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتأكد لدى كل عاقل أن الإسلام يوجب تغيير المنكر فورا، وأن العاصي لا يترك في معصيته، بل لا بد من نهيه عن المنكر الواقع فيه، وليس الأمر كما تصور هؤلاء الواهمون أن يترك الفاسق في فسقه والماجن في فحشه، حتى يكتمل الشهود الذين تقوم بهم البينة، فإذا كان الإسلام حريصا على التثبت قبل إقامة الحد، فإنه أيضا أشد حرصا على إزالة المنكر؛ لذلك أوجب تغييره وعدم تركه، وجعل الإثم والعقاب لمن يرى المنكر ولا يغيره حسب استطاعته، وحاله، ومقامه.

وقبل أن نختم البحث في هذا المجال، نود أن نشير إلى نقطة مهمة جدا، وهي إذا كان الإسلام قد شرع حد القذف لمن يرمي غيره بالفحش أو الزنا – ما دام الشهود لم يكتملوا أربعة – فإنما كان ذلك حرصا منه على سلامة الأعراض من التشويه والتجريح، وبالتالي سلامة المجتمع وصيانة أفراده، وإذا كان الأمر كذلك إلا أن الإسلام استثنى من ذلك أن يقذف الرجل امرأته؛ فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات.

والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا؛ لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه؛ لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور).

وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف، ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته، وليس له من شاهد إلا نفسه، فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتسمى هذه “شهادات”؛ لأنه الشاهد الوحيد، فإذا فعل أعطاها قدر مهرها، وطلقت منه طلقة بائنة، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم.. ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها، فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب فيما رماها به، وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة.. بذلك يدرأ عنها الحد، وتبين من زوجها بالملاعنة، ولا ينسب ولدها – إن كانت حاملا – إليه، بل إليها، ولا يقذف الولد، ومن يقذفه يحد.

وقد عقب على هذا بالتخفيف والتيسير، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله: )ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور)، ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات، وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب.. لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا، يتقيه المتقون، والنص يوحي بأنه شر عظيم.

وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم منها:

عن ابن عباس قال: «لما نزلت: )والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون (4)( (النور)، قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم”؟ فقالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته.. فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا تفخدها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.. قال: فما لبثوا إلا يسيرا، حتى جاء هلال بن أمية – وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم – فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني وسمعت بأذني.

فكره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما جاء به، واشتد عليه، واجتمعت عليه الأنصار فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هلال بن أمية، ويبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فقال هلال: يا رسول الله، إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به، والله يعلم إني لصادق. ووالله إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه وجلده – يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي – فنزلت: )والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين (6) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (8) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين (9) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور).

فسري عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا” فقال هلال: قد كنت أرجو ذاك من ربي – عز وجل – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرسلوا إليها” فأرسلوا إليها فجاءت، فقرأها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عليهما، وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها، فقالت: كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لاعنوا بينهما” فقيل لهلال: اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان في الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.

ثم قيل لها: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة – وفي رواية: حتى ظننا أنها ترجع – ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. ففرق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينهما، وقضى أنه لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى هي به، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.

وقال: إن جاءت به أصيهب[30] أريسح[31] حمش الساقين[32] فهو لهلال، وإن جاءت به أورق[33] جعدا [34] جماليا [35] خدلج الساقين[36] سابغ الأليتين[37] فهو الذي رميت به.. فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»[38].

وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل، وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين، قد اشتد على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يجد منه مخرجا، حتى طفق يقول لهلال بن أمية: «البينة أو حد في ظهرك، وهلال يقول: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة»[39]؟

ولقد يقول قائل: أليس الله – سبحانه وتعالى – يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف؟ فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج؟

والجواب: بلى إنه سبحانه ليعلم، ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه، فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه، وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة، ومن ثم عقب عليه بقوله: )ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)( (النور)” [40].

الخلاصة:

يتضح من خلال العرض السابق أنه لا أساس من الصحة لما توهمه المشككون حول حد القذف، وأن الخشية منه تلجئ إلى كتمان الشهادة، أو أن الشريعة الإسلامية تأمر بالتستر على المجرمين في جرائمهم وعدم الإنكار عليهم، وذلك للوجوه الآتية:

لقد حارب الإسلام الجريمة بمختلف أنواعها، فرتب على ارتكابها عقوبات زاجرة تحفظ أمن الناس والأمة، وتحفظ النظام العام للدولة؛ حتى لا تكون هناك تجاوزات تخل بالمصالح العامة والخاصة، وتؤدي بالأمة نحو الانهيار والضعف.
الأمر بأداء الشهادة حكمه الوجوب، إلا إذا كان في الحدود، فإن الشاهد مخير بين الإدلاء بشهادته أو الستر على العاصي، والستر أولى؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع المسلم.
الستر على أصحاب المعاصي له أهداف، فإن إقامة الحد عليهم يعني فضحهم وقتلهم معنويا ونفسيا، والستر لا يعني الموافقة أو الرضا عن فعل المعصية أو التستر على المعاصي، بل يعني إتاحة الفرصة للتوبة قبل انكشاف حالهم.
تبطل دعوى القذف إذا لم يكتمل العدد في البينة، وهم شهود أربعة رأوا بأعينهم عين الجريمة؛ وذلك إمعانا في الستر والتثبت حتى لا يخوض الناس بعضهم في أعراض بعض؛ لأن ثبوت الجريمة يترتب عليه العقاب الأليم من إقامة الحد، وإهدار الكرامة، وتحطيم الحصانة الإنسانية المانعة من ذلك.
لا يعني عدم اكتمال الشهود أن يترك الفاسق في فعله، بل لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه من خصائص أمة الإسلام. والإثم محقق لمن يرى منكرا ولا يغيره بالقوة، أو اللسان، أو القلب، كل حسب استطاعته وحاله ومنزلته.

وبهذا يتضح جليا حكمة الشريعة الإسلامية في معالجة القضية من جميع جوانبها، دون ترك أي ثغرة يمكن أن تنال منها، فكما أن الإسلام حرص على ضرورة التثبت وشرع الستر، وجعل مبدأ “درء الحدود بالشبهات”، كل ذلك صيانة للأعراض من أن تنتهك، كذلك أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على إزالته في الحال، حسبما يقتضيه الواقع والقدرة البشرية.

(*) الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م.

[1]. الفقه الجنائي الإسلامي: القسم العام، د. فتحي بن الطبيب الخماسي، دار قتيبه، دمشق، ط1، 1425 هـ /2004م، ص63، 64.

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود (2525)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة (373).

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث هزال (21942)، وأبو دواد في السنن، كتاب الحدود، باب الستر على أهل الحدود (4379)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3460).

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (2310)، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028) واللفظ له.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غفرت (6438)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4520) بنحوه.

[6]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج6، ص556 وما بعدها.

[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج4، ص2503، 2504.

[8]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028).

[9]. صحيح لغيره: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الستر عن المسلم (4893) بنحوه، والطبراني في المعجم الأوسط، من بقية من أول اسمه ميم من اسمه موسى (8133)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2337).

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث هزال رضي الله عنه (21942)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الستر على أهل الحدود (4379)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3460).

[11]. أخرجه عبد الرزاق في المصنف, كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق, باب المرء مع من أحب (20318), والطبراني في المعجم الكبير, باب العين, عبدالله بن مسعود الهذلي يكنى أبا عبد الرحمن حليف بني زهرة بدري (8799).

[12]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا (3048)، والبيهقي في السنن الصغير، كتاب الأشربة، باب صفة السوط والضرب (2747)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (149).

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (5721)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي من هتك الإنسان ستر نفسه (7676).

[14]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص341، 345.

[15]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4886)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4376).

[16]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج4، ص2494.

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (186).

[18]. ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص57.

[19]. ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص59.

[20]. ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص57.

[21]. السهم: القدح الذي يقارع به والجمع سهام. واستهم الرجلان: تقارعا. واستهموا: اقترعوا. وتساهموا: تقارعوا.

[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه (2361).

[23]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (30)، وأبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4340)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1564).

[24]. ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص60، 61.

[25]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (186).

[26]. حسن: أخرجه أبو دواد في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4347)، والطبراني في المعجم الكبير، باب العين، عرس بن عميرة الكندي (345)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4345).

[27]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الملاحم، با ب الأمر والنهي (4346) بنحوه، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر (2174)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (491).

[28]. صحيح: أخرجه الطبراني في الأوسط، باب العين، من اسمه علي (4079)، والحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب (4884)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحه (374).

[29]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج1، ص448.

[30]. تصغير الأصهب والصهب والصهبة، ومعناه: أن يعلو الشعر حمرة وأصوله سود، فإذا دهن خيل إليك أنه أسود. وقيل: هو أن يحمر الشعر كله.

[31]. أريصح ـ أو أريسح ـ تصغير الأرصح، وهو خفيف الأليتين، أبدلت السين منه صادا، وقد يكون تصغير الأرسع، أبدلت عينه حاء.

[32]. حمش الساقين والذراعين: دقيقهما.

[33]. الأورق من الناس: الأسمر.

[34]. الجعد من الشعر: خلاف السبط. وقيل: هو القصير.

[35]. الجمالي: ضخم الأعضاء تام الأوصال تشبيها له بالجمل لعظمه.

[36]. خدلج الساقين: ممتلئ الساقين وعظيمهما.

[37]. سابغ الأليتين: عظيمهما من سبوغ الثوب والنعمة.

[38]. حسن: أخرجه عبد الرزاق في المنصف، كتاب الطلاق، باب لا يجتمع المتلاعنان أبدا (12444) مختصرا، وأحمد في مسنده، ومسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2131)، وحسنه الأرنؤوط في تعليقات مسند أحمد (2131)، وأورد هذه الرواية البخاري بلفظ مختصر: أن هلال بن أمية قذف امرأته، دون ذكر سعد بن عبادة، كتاب التفسير، سورة النور (4470).

[39]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة النور، قوله تعالى: ) ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات ( (النور: ٨) (4470).

[40]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج4، ص2492، 2493.

مضمون الشبهة:

يدعي المغرضون أن إقامة الحد على متعاطي المسكرات وملحقاتها يضيق منافذ الحرية الشخصية، ولا يناسب طبيعة المجتمعات المدنية المعاصرة، كما أن بعض أنواعها كالمخدرات لم يرد في تحريمها نص شرعي.

وجوه إبطال الشبهة:

1) اهتمت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على العقل البشري؛ لأنه مناط التكليف، وبه يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.

2)  الخمر ما خامر العقل، وأدلة تحريمها ثابتة في الكتاب والسنة.

3)  حد شرب الخمر الجلد، والإسلام والعقل والبلوغ والعلم شرط لإقامته.

4)  الأضرار الصحية والنفسية المترتبة على شرب الخمر فادحة، وقد تودي بحياة الإنسان.

5)  المخدرات تأخذ حكم المسكر، وحدها في الشريعة الإسلامية الجلد.

6)  للشريعة الإسلامية مقاصد عامة جليلة من تحريم المسكرات والمخدرات وملحقاتها وتغليظ عقوبتها.

التفصيل:

أولا. اهتمام الشريعة الإسلامية بالمحافظة على العقل:

لقد فضل الله الإنسان بالعقل، وميزه عن سائر الحيوانات التي تشاركه في بقية المزايا، وبهذا العقل صار الإنسان خليفة الله في أرضه وسخر له ما في البر والبحر بواسطة هذا العقل، وكلفه بعبادته وطاعته اعتمادا على وجود العقل[1].

ولذلك اعتبر العقل أصلا من الأصول التي اتفقت الشرائع على وجوب المحافظة عليها من الإزالة والإضعاف، ومن أجل ذلك حرمت الشرائع المسكرات حرصا على حماية العقل وسلامته.

فلقد ذكر العلامة الفخرالرازي أن عقل الإنسان أشرف صفاته والخمر عدو العقل؛ فيلزم أن يكون شرب الخمر من الأمور الخبيثة، والعقل السليم لايكون إلا في الجسم السليم.

وشرب الخمر محرم بنص الكتاب والسنة، فمن شرب الخمر استحق شرعا إقامة الحد عليه؛ فالإنسان في الشريعة الإسلامية ليس حرا كما يشاء بلا قيد ولا شرط في مأكله ومشربه، وإنما هو مقيد في كل تصرفاته بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين الإسلام ما يحل للمسلم أكله وشربه كما بين ما يحرم على المسلم أكله ومشربه، ومن أمهات المحرمات الخمر، وهي أم الخبائث.

ولقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على سلامة العقل، فشرعت عقوبة قاسية لمن يتعدى على عقل إنسان فيتلفه، ومن ناحية أخرى اتجهت الشريعة إلى حماية العقل بشكل دائم ومستمر عند إقامة حد الشرب أو حد السكر لكونه اعتداء على كرامة العقل.

ولقد حرم الإسلام الخمر لأنها تتعارض مع منهج الله – سبحانه وتعالى – في بناء الإنسان فهي تشل حركة الإنسان وتعطل عقله وتفسد دينه وتضيع ماله وتدمر نفسه ولا يقتصر شرها على الإنسان وحده بل يتجاوزه إلى غيره، فشارب الخمر يقتل ويسرق ويزني.

ثانيا. تعريف الخمر وأدلة تحريمها من الكتاب والسنة[2]:

الخمر في اللغة: لها عدة معان منها: الستر، والمخالفة، والمخالطة، والتغطية، والإدراك، والتغيير، وسميت خمرا؛ لأنها تخامر العقل وتستره لأن الخمار للمرأة ما تستر به رأسها كما جاء ذلك في القرآن الكريم )وليضربن بخمرهن على جيوبهن( (النور: ٣١). ومنه: خمروا آنيتكم، أي: غطوها، ومنها اختمر العجين أي: بلغ وقت إدراكه.

والخمر شرعا: اختلف فيها الفقهاء؛ فالجمهور قالوا: إن الخمر يطلق على كل مسكر، لا فرق بين عصير وغيره – عندهم – كما أنه لا فرق بين الكثير والقليل من المسكر، وقد جاء في “تحفة المحتاج”: كل شراب أسكر كثيره حرم قليله. وقال ابن قدامة في “المغني”: يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا.

قال الشافعي وأحمد: كل الأنبذة المسكرة تسمى “خمرا”. ورأي الحنفية: أن الخمر يطلق على الشيء من ماء العنب، ومن هذه التعريفات يتبين أن الخمر تشمل كل أو جميع المسكرات قديما أو حديثا.

الأدلة على تحريم الخمر من القرآن والسنة:

1- الأدلة من القرآن نذكر منها:

قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)( (المائدة).

وصف الله تعالى شرب الخمر بأنه رجس، أي شيء قذر تنفر منه العقول السليمة، وهو من أكبر الكبائر، ومن أعظم المحرمات، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى( (النساء: ٤٣). والعلة في تحريم الخمر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة…

2- الأدلة من السنة النبوية:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام»[3].

وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[4].

«وعن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهاهم عن الجعة»، وهي نبيذ الشعير، أي: البيرة[5].

وعن النعمان بن بشير أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا»[6].

ومن هذه الأحاديث يتبين لنا أن الخمر حرام شرعا، والأحاديث تدل على أن الخمر اسم للمسكر سواء كان عصير عنب أو غيره، فالأنبذة كلها مسكرة.

فعن أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «حرمت الخمر بعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب»[7]. وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل.

3- وأما الإجماع:

فقد اتفق على تحريم كل مسكر، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم، وقد نصت الآيات والأحاديث والإجماع صراحة على تحريم الخمر وكل مسكر.

مراحل تحريم الخمر:

o  قوله سبحانه وتعالى: )ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا( (النحل: ٦٧). فالرزق الحلال من الثمرات هو الرزق الحسن، والحرام ليس رزقا.

o  قوله سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما( (البقرة: ٢١٩).

o      قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى( (النساء:٤٣).

o      دلنا على تحريم الدخول في الصلاة أثناء السكر.

o      قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)( (المائدة).

ثالثا. حد شرب الخمر وأدلة ثبوته وشروط إقامته:

اختلف الفقهاء في حد شارب الخمر تبعا لاختلاف الأحاديث إلى قولين:

الأول: وأصحابه مالك والليث وأبو حنيفة والشافعي، ويرون أن حد شارب الخمر ثمانون.

الثاني: وأصحابه أحمد وداود والثوري والشافعي في المشهور عنه أن حد شارب الخمر أربعون جلدة؛ لأنها هي التي كانت في زمنه – صلى الله عليه وسلم – وزمن أبي بكر وزمن عثمان رضي الله عنهما.

أدلة القول الأول:

استدلوا بأن عمر – رضي الله عنه – جلد ثمانين جلدة بعدما استشار الصحابة وبما جاء عن على كرم الله وجهه أنه أفتى بجلد ثمانين. فقد ورد عن علي – رضي الله عنه – أنه قال في الشارب: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر عمر فجلد ثمانين»[8].

أدلة القول الثاني:

أن حد شارب الخمر أربعون جلدة لما كان في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وعثمان، وهو القول المرجح هنا، وقد أجمع العلماء على جلد الشارب، واختلافهم في العدد إنما هو بعد الاتفاق على ثبوت مطلق الجلد[9].

ما يثبت به الحد:

ويثبت حد الشارب بالإقرار أو بشهادة رجلين عدلين، فإن أقر أنه شرب الخمر، وهو يعلم أنها خمر، غير مكره على شربه أقيم عليه الحد، وكذلك إذا شهد عليه رجلان عدلان عند الحاكم بأنه شرب الخمر مختارا وهو يعلم أنها خمر أقيم عليه الحد[10].

شروط إقامة الحد:

الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعلم بحرمة الخمر، والاختيار؛ فلا يقام الحد على مجنون أو معتوه أو صبي أو جاهل بالحكم أو مكره.

ولغير المسلمين حكم تفصيلي خاص يفصله الشهيد عبد القادر عودة بقوله: “والقاعدة عند فقهاء الشريعة أن الخمر مباح لغير المسلمين ما دام دينهم لا يحرمها، تطبيقا للقاعدة: “أمرنا بتركهم وما يدينون”[11] [12]. ولكن لما كان السكر مما تحرمه الأديان جميعا، فقد رأى بعض الفقهاء حد غير المسلم على السكر، ورأى بعضهم تعزيره.

ولا خلاف في أن غير المسلم يعزر على التظاهر بالشرب ولو لم يسكر، حتى ولو كان الشرب مباحا في دينه. على أنه ليس في قواعد الشريعة ما يمنع من تطبيق حد الشرب على غير المسلمين، إذا تبين أن السماح لهم بشرب الخمر يؤدي إلى الفساد الاجتماعي، ولا شك أن عدم تحريم الشرب عليهم يؤدي إلى الفساد؛ لأن السماح لهم بالشرب يقتضي وجود الخمر في البلاد وقد يشجع المسلمين على شرب الخمر، وهذا وحده يؤدي إلى هدم قواعد التحريم. وإذا كانت الدول المسيحية والبوذية تحرم الخمر على رعاياها مسيحيين وبوذيين ومسلمين، فأولى بالدول الإسلامية أن تحرم الخمر على رعاياها أيا كانت ديانتهم ومذاهبهم”[13].

رابعا. الأضرار المترتبة على شرب الخمر فادحة:

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حديثه المشهور: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق[14] فملء الكف منه حرام» [15]. ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»[16].

وقد حرم الإسلام شرب الخمور كثيرها وقليلها، ورغم أن هناك من يدعو في أمريكا وأوربا إلى أن شرب كمية قليلة من الخمر ربما يرفع من مستوى الكولسترول المفيد في الدم، ويقلل من نسبة حدوث مرض شرايين القلب التاجية، فإن المنظمات الصحية هناك تحذر من مثل تلك الدعوات؛ حيث إن مخاطر شرب الخمور في أمريكا وأوربا تفوق – بكل المقاييس – تلك الفوائد المزعومة لشرب كمية قليلة من الخمور؛ فالأمراض الناجمة عن الخمور مسئولة عن ربع حالات دخول المستشفيات هناك، والمشاكل الصحية والاقتصادية الناجمة عن شرب الخمور تكلف الميزانية الأمريكية 136 بليون دولار سنويا؛ ولهذا فإن المقالات العلمية تدعو الواحدة تلو الأخرى إلى نبذ فكرة نصح المرضى بشرب كمية قليلة من الخمور.

ففي مقال رئيس نشر في مجلة Can Med Assoc عام 1999 يقول صاحب المقال: “من الحكمة ألا نصف شرب الخمر لمن لا يشرب الخمر”. وإذا كان هناك من يقول بأن في الخمر خاصية رفع كولسترول الدم – بنسبة قليلة بالطبع – فإن دراسة نشرتها مجلة Drugs Exp Clinics عام 1999م أثبتت أن المادة الموجودة في الخمر الأحمر وهي resveratrol، والتي يعزى إليها تلك الخاصية، هي موجودة أيضا وبنفس الفعالية في العنب، ويقول كاتب المقال في نهاية البحث: “وإذا كانت نفس المادة موجودة في العنب الأحمر، فلماذا نعرض الناس لمشاكل الخمور؟ ألا نعلم أن أكثر المشاكل الصحية الناجمة عن الخمور تحدث عند أناس يظنون أنهم لا يشربون إلا كمية قليلة من الخمور”؟

والله سبحانه وتعالى – وهو الخبير بعباده – يعلم أن في الخمر من المـفاسد ما لا يحصى ولا يعد؛ ولهذا حرم حتى التداوي بالخمور.

وتقول عائشة: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله»[17]. وجاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من تداوى بحرام لم يجعل الله له فيه شفاء»[18]. والخمر أم الخبائث كما قرر النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك في قوله: «الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وعمته وخالته»[19].

وشرب المسكرات مشكلة يعاني منها الغرب، ويعاني منها بعض الناس في بلادنا العربية والإسلامية، وإن ما يدعو إلى الأسف الشديد أن نشاهد ازديادا في شرب الخمر في بلادنا الإسلامية، في الوقت الذي يدعو فيه الغرب إلى الابتعاد عن المسكرات.

تقول دائرة معارف جامعة كاليفورنيا للصحة: “تعتبر الخمر حاليا القاتلالثاني – بعد التدخين – في الولايات المتحدة، فشرب المسكرات في أمريكا يسبب الموت لأكثر من 100.000 شخص سنويا هناك، والخمر وحدها مسئولة عن أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق في أمريكا (والبالغة 50.000 شخص سنويا) وليس هذا فحسب، بل إن الخمر مسئولة عن إصابة أكثر من نصف مليون شخص بحوادث السيارات في أمريكا في العام الواحد، وأما في المنازل، فالمسكرات مسئولة عن كثير من حرائق المنازل، وسقوط شاربي الخمر على الأرض، أو غرقهم أثناء السباحة”.

وتتابع دائرة معارف جامعة كاليفورنيا القول: “والمسكرات لا تسبب المشاكل في البيت.. أو على الطرقات فحسب، بل إن خسائر أمريكا من نقص الإنتاج وفقدان العمل نتيجة شرب الخمر تزيد عن 71 بليون دولار سنويا، ناهيك عن الخسائر التي لا تقدر بثمن من مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية. ويحث الكتاب في الجرائد والمجلات الأمريكية الناس على عدم تقديم المسكرات قبل العشاء – أثناء حفلاتهم – وعلى أن يصادروا مفاتيح السيارات من المفرطين في شرب الخمر، حتى لا يقودوا أنفسهم إلى الموت”.

وتذكر موسوعة جامعة كاليفورنيا في مكان آخر: “إن ثلث اليافعين في أمريكا يشرب المسكرات بدرجة تعيق نشاطه الدراسي في المدرسة، أو توقعه في مشاكل مع القانون.. وقد بدأ معظم هؤلاء الشباب شرب المسكرات قبل سن الثالثة عشرة من العمر”.

ويقول البروفيسور شوكيت[20]: “إن 90 % من الناس في الولايات المتحدة يشربون الخمر، وإن 40 – 50 % من الرجال هناك يصابون بمشاكل عابرة ناجمة عن المسكرات، وإن 10 % من الرجال و 3 – 5 % من النساء مصابون بالإدمان على الكحول”.

ويقدر خبراء جامعة كاليفورنيا أن 15 مليون أمريكي يشرب أكثر من كأسين من البيرة – أو ما يعادلها من أنواع الخمر الأخرى – يوميا؛ واستنادا إلى المعهد الوطني الأمريكي للإدمان على الخمر، فإن من يشرب مثل تلك الكمية يعتبر “مفرطا في شرب المسكرات” Heavy Drinker، وأن 18% من هؤلاء يشرب أكثر من 4 كئوس من البيرة – أو ما يعادلها – يوميا، وهذه الفئة مهددة بالإدمان الخطير على الكحول.

هذا ما يجرى في أمريكا، فماذا يحدث على الجانب الآخر من الأطلنطي – وبالخصوص بريطانيا؟

تقول مجلة لانست البريطانية الشهيرة: “إن مئتي ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب المسكرات”.

وذكرت المجلة البريطانية للإدمان British Journal of أن الخسائر الناجمة عن مشاكل الكحول الطبية بلغت 640 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد، وأن الخسارة الإجمالية الناجمة عن شرب المسكرات تقدر بـ 2000 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد”.

وذكرت هذه المجلة أيضا أن 12% من المرضى الذين يدخلون المستشفيات في بريطانيا يدخلونها بسبب مشاكل ناجمة عن المسكرات.

وعودة إلى أمريكا.. فحسب ما جاء في كتاب Cecil الطبي الشهير “فإن الخسائر الكلية الناجمة عن مشاكل المسكرات في أمريكا بلغت ما قيمته 136 بليون دولار في العام الواحد، ويقدر الخبراء أن ربع الحالات التي تدخل المستشفيات الأمريكية سببها أمراض ناجمة عن شرب المسكرات”.

فحذار حذار أيها المسلمون، قبل أن يستشري فينا الداء الذي يريده لنا الغرب، فالأفلام والمجلات الخليعة تدعو الناس صباح مساء في بلادنا العربية إلى شرب المسكرات عن طريق إبراز الفنانين والممثلين، وفي أيديهم كأس من المسكرات، أو عن طريق الدعايات والمقالات.

ويظن بعض الناس أن شرب قليل من المسكرات أمر لا بأس به، ولكن هذا غير صحيح، وقد نبهت على خطورته مجلة لانست البريطانية فتقول: “لقد تبين أخيرا أن معظم الوفيات والاختلاطات الناجمة عن الكحول تحدث عند الذين يظنون أنهم لا يشربون الكثير من الخمور، وعند أولئك الذين كان يظن أطباؤهم أن ما يتناولونه من المسكرات ما هو بالكثير، بل هو في حكم المقبول في عرف المجتمعات الأمريكية والأوربية”.

الخمر والمراكز العقلية:

يورد الدكتور محمد بكر إسماعيل ما قاله د. محمد وصفي في كتابه النفيس “القرآن والطب” معددا أضرار الخمر، ومبينا أخطارها الجسيمة على الجسم، والأعصاب، والعقل، والأخلاق:

“وللخمر تأثير على المراكز العقلية حيث تنبهها في أول الأمر، ولكن لا يلبث الأمر أن تقوم بتخديرها وتعطيل عملها، ومن ثم تتسبب في الموت الذي يكون نتيجة مباشرة لإيقاف عمل المراكز الحيوية في الجسم”.

هذه الحال هي ما نشاهده في شارب الخمر فتراه أولا قد انعدمت عنده العقلية والمروءة والحياء وينطق لسانه بألفاظ لو كان حافظا لقواه العقلية ما فاه بها وتصدر عنه أفعال وحركات تضحك الثكلى، وشر البلية ما يضحك.

هذه الفترة هي التي تجعل من الإنسان حيوانا مهينا مستهترا بالكرامة والدين، معرضا للوقوع في حبائل الرذيلة، فترى الشارب وقد اختلت أعماله وفقد إحساسه وتجسمت فيه البلاهة، وسرعان ما ينتشر السم في مراكزه العصبية الحيوية في الجسم فيعطلها ويعطل عملها، وتحدث الوفاة.

وقد يكون سبب الوفاة تعطيل الخمر لعمل مراكز التنفس والدورة الدموية جميعا، يمتص الخمر بسهولة من المعدة والأمعاء فيصل إلى الدورة الدموية بدون تغير حيث يوزع على سائر أنسجة الجسم، وسوائله فتحدث الوفاة، فهل يعقل بعد هذا أن ينتقد أحد الشرع الإسلامي أن منع الإنسان من تعاطي المسكرات وحافظ على صحته ودينه وأخلاقه؟!

من أضرار الخمر:

الجنون الكحولي: وهو حالة تصل بالإنسان إلى درجة أحط من الحيوان غير العاقل، أو تصل به إلى درجة الحيوان الخطير بما يسلبه صفة الإنسانية والعقل، ويرجع ذلك إلى تأثير الخمر على المخ تأثيرا يفقده وظيفته، وتكون النتيجة بعد ذلك الاختلاط العقلي والموت، وهذا المرض يؤثر في عقل المرء وإدراكه، ويؤثر في شعوره وإحساسه، ويؤثر في عمله.

أما تأثيره في عقله: فهو عدم إدراكه حقيقة الشيء مع وجوده؛ كتخيل أشخاص غير موجودين، أو سماع أصوات غير موجودة؛ وهو ما يؤدي إلى فقد الذاكرة” كما يحصل في الهستريا، إن مجرد اضطراب الذاكرة يقلل من قيمة القوى العقلية، لذا يمنع الدين الإسلامي الأخذ بشهادة شاربي الخمر في المحاكم لاختلال أعصابهم وارتباك مخهم واضطراب ذاكرتهم وشذوذ أفكارهم؛ هذا إشارة لما يصيب إدراك الشخص وعقله.

أما ما يتعلق بشعوره وعمله: فإن الخمر تؤثر في شاربها تأثيرا قد يدعوه إلى الانتحار، أو القتل، أو ارتكاب جرائم جنائية كهتك عرض وغير ذلك؛ وهذا التأثير السبب المباشر في الجرائم الجنسية وقتل الأولاد والزوجات.

الخمر والأخلاق:

والخمر هي الدافع الأساسي لجميع الموبقات، والعامل الوحيد في سقوط الذكور والإناث، كالحمل سفاحا، أو اليأس وحوادث الانتحار، والخمر تحدث هذيان الغيرة، وقتل الأبرياء، ويجب أن نعرف أن الزنا والخمر صنوان، وتحف بهما كل الرذائل المعروفة في العالم مثل: الدعارة، والقوادة، والفحش، والفجور، وضعف الخلق، وفساد النفس، والخبث، والغدر، والنفاق، والخديعة، والمكر إلى غير ذلك من الصفات الخلقية الدنيئة، وهل نجد في العالم ما يؤدي إلى جميع الموبقات غير الخمر؟

قال الضحاك بن مزاحم يوما لرجل يسكر: ما تصنع بالنبيذ[21]؟ فقال: إنه يهضم طعامي. قال: إنه يهضم من دينك وعقلك أكثر.

والعاقل لا يصاحب شارب الخمر، ولا يخالطه، ولا يرتبط به بصلة؛ إذ تكفي سفالة وسطه، وفساد نفسه، وانهيار أخلاقه، وفقد الثقة به، وما فيه من الشذوذ والأمراض النفسية والجنسية.

الخمر وشذوذ العاطفة الجنسية:

يكفي أن نعرف أن الخمر تقتل العواطف السامية في الإنسان، مثل: الحنان والعطف والواجب، وتعمل الخمر كذلك على إضعاف الإرادة وتعطيلها، وتسبب ضعف السيطرة على النفس.

وهذا يعلل ما نشاهده من حالات الاعتداء على الفتيات، والعربدة في المواخير، والاتصال بنساء الطبقات الدنيا من العاهرات والمومسات والزانيات والقوادين وذوي الأخلاق الساقطة من الشباب والرجال، والفحش في الحديث، والسماجة[22]، وغيرها من الصفات الدنيا التي يوصف بها شارب الخمر، بل إن الخمر تحيي في شاربها لوثات وراثية في العاطفة الجنسية كـ:مرض الكشف التناسلي، وعشق الجنس، واللواط، وجماع الحيوانات، وغير ذلك من أمراض العاطفة الجنسية.

الخمر وتأثيرها في الأعضاء التناسلية:

إن كثيرا من ضعاف العقول يحسبون أن الخمر مقوية للناحية الجنسية، ومن هذا الطريق يدخل الشيطان إليهم ليستدرجهم، قال سبحانه وتعالى: )وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120)( (النساء).

والحقيقة أنه ليس للخمر تأثير طبي من هذه الناحية، وأما ما يشاهد من شبق[23] بعض الناس في المراقص ممن يشربون الخمر يرجع ذلك إلى تأثير الخمر على المخ؛ مما يشعر صاحبه بعدم الحياء أو المبالاة.

وهناك حقيقة علمية خطيرة يجب أن يعلمها الناس، وهي أن شارب الخمر ينتهي عادة بالارتخاء التام، والخمر يحدث سرعة الإنزال، والعملية الجنسية لا تتوقف على الجهاز التناسلي فحسب.

تأثير الخمر في النسل:

يجلب شارب الخمر على ذريته خبالا لا يغتفر؛ فإنه يتسبب في وجود أطفال معرضين لتشوهات خلقية وخلقية قبيحة؛ وذلك لأن الخمر تتغلغل في جميع خلايا الجسم، ولا تخلو منها الحيوانات المنوية وتنتقل الإصابات منها إلى بويضة الأنثى، فتصبح العلقة مريضة، وتعتبر الخمر من أهم العوامل الرئيسية المسببة للإجهاض.

وتؤثر الخمر تأثيرا خاصا في نطفة الرجل؛ إذ تفسد سيوتوبلازم الخلايا التناسلية أو تشوهها، وتحمل كروموزمات الاضطرابات المرضية من شارب الخمر إلى نسله.

ومعظم أولاد الجهلاء من شاربي الخمر يصابون بتشوهات كـ: فقد تناسب عظام الجمجمة أو أمراض أخرى مميتة، ويصاب الطفل بجانب الأخلاق الشاذة التي يتصف بها شاربو الخمور – بضعف الأعصاب والذاكرة، وسرعة التهيج وشدة الانفعال، وأمرض الهستريا، والتشنجات العصبية، وسائر الاضطرابات العقلية المتخلفة.

ويتصف أولاد شاربي الخمور بفساد الأخلاق، وضعف النفس، والميل إلى الإجرام، والشذوذ الجنسي والتناسلي، وقد تصاب بناتهم بفقد القدرة على الإرضاع… إلخ.

وهذه الصفات المتقدمة أو بعضها إن لم تصب الطفل صغيرا تلحقه كبيرا، وتختلط به في أي سن من سني حياته، ومن الأمراض والأضرار الخطيرة للخمر أنها تسبب العقم، وتمزق الشرايين، وتمزق الكبد، وتضعف القلب، وتؤدي إلى الوفاة”[24].

الخمر وإضاعة المال:

فإن ضرر الإنسان لنفسه ظاهر – من جراء شربه الخمر – لا يحتاج إلى برهان، وقال عمر – رضي الله عنه – إنها مهلكة للمال مذهبة للعقل؛ فالمال قد يحتاج إليه في ضرورياته وحاجياته، ولكن صاحب الخمر لا يستطيع التخلي عن شربها لشراء الضروريات والحاجيات، بل يضيع المال فيما يفسد عقله وبدنه.

وقد عدد ابن القيم أضرار الخمر، فهي: تورث الخزي والندامة، والفضيحة وينعت شاربها بأنقص نوع من بني الإنسان وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء، وتكسبه أقبح الأسماء والصفات، وتسهل قتل النفس وإفشاء السر، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال، قال سبحانه وتعالى: )إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين( (الإسراء:٢٧)؛ لذا فإن الخمر جماع الإثم، ومفتاح الشر، وسالبة النعم.

وأما في جانب الدين:

فإن الخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وكفى بهذا وحده مفسدة؛ لأن الإنسان إذا صد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فإنه يبوء بالحسرات، قال سبحانه وتعالى: )إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)( (المائدة).

أضرار الخمر على الأمة:

فإن كل أمة انتشر فيها داء المسكرات والمخدرات تصاب بالوهن والتفكك في روابطها وعلاقاتها، ولا تفلح في الدنيا ولا في الآخرة، ويترتب على ذلك ما يأتي:

o  ضعف العلاقات الأسرية والروابط بين أفراد الأمة؛ وذلك من ضغائن العداوة والبغضاء، وبسبب ما يقع من جرائم على النفس والعرض والمال؛ فكل جريمة تخلق عداوة وتنافر بين المعتدي والمعتدى عليه.

o  ضعف القيام بالمسئوليات في محيط الأسرة والخدمات العامة، وبذلك تتفكك الروابط الأسرية بسبب انتشار الطلاق وتشريد الأطفال، وتتعطل المصالح العامة للناس بسبب التقصير في الرعاية وفي توصيل الحقوق لأهلها.

o  ضعف القوة الإنتاجية؛ وذلك بسبب تأثير المخدرات والمسكرات على القوة العاملة والقوة المدافعة عن المحرمات والمقدسات، وذلك من فعل الخمر في أجهزة البدن الدموية والعصبية وما يترتب على ذلك من الأمراض العصبية والنفسية وغيرها.

o  ضعف في الاعتزاز بمقدسات الوطن وحرماته، وبذلك يسهل تسرب أسرار الدولة إلى أعدائها؛ لأن الإنسان إذا سيطرت عليه شهواته وملذاته فلا يبالي كثيرا بكشف سرها، وفي عصرنا الحاضر كثيرا ما تقع حوادث إفشاء أسرار الدولة، وكشف عورات الوطن في حالات السكر، ويتخذ التسكير وسيلة لذلك.

هذا كله يبين لنا سر قوله سبحانه وتعالى: )فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)( (المائدة)، فبعد نهيه عن الخمر والميسر، وبيان مفاسدهما الدينية والاجتماعية، علق فلاح الأمم على اجتناب الخمور والميسر، والمتتبع لأحوال الأمم يعلم علم اليقين أن لا فلاح لها مع انتشار الخمر وتعاطي المخدرات، ولذلك كان الاستعمار قد قهرها فنشر المخدرات في بلادها حتى تستسلم لها؛ فتستسلم له بعد ذلك.

وقد يقال: إن الخمور أصبحت تجارة تدر مالا لخزينة الدولة!! وذلك عن طريق فرض الضرائب على استيرادها أو على مصانعها أو تجارتها.

 ونقول لهؤلاء: إن قولكم بأن الخمور أصبحت تجارة تدر مالا ودخلا لخزينة الدولة هنا قد يكون قولا صحيحا، ولكنها تجارة خاسرة ومحرمة؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، وقد ثبت أن الخمور مضرة بالبدن والعقل، ومفسدة لعلاقات الجماعة، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن المعلوم أن المحافظة على المال – فضلا عن سبل كسبه – من الأمور التي يسأل عنها العبد يوم القيامة، والأمة التي تكسب الأموال عن طريق حرام، يترتب عليه إفساد العقول وضياع الصحة وفساد الأخلاق – يصح وصفها بالبلاهة والسفه.

وقلنا – فيما سبق -: إن مصلحة الدين أساس لجميع المصالح الأخرى ومقدمة عليها، ثم تليها مصلحة النفس، ثم العقل، ثم النسل، ومصلحة المال تأتي في المرتبة الأخيرة، وهذا الترتيب حظى بإجماع المسلمين، وإن المصالح لا تعتبر مصالح إلا إذا كانت سائرة في ظل النصوص الشرعية؛ فكل مصلحة تعارض نصا تعتبر ملغاة بإجماع المسلمين.

ولكن الدولة التي بها أجانب هل يكون لهم الحق في جلب الخمور وما يماثلها في التحريم؟!

القول بأن الأجانب لهم حق استيراد ما يطلبونه من خمور هذا حق مقيد بعدم إلحاق الضرر بالمسلمين، وإغراء أبنائهم بشرب الخمور، فإنه لا يجوز لهم ذلك، وضرر الخمر لا يخفى إلا على من عميت أبصارهم عن أضرارها أو عجزوا عن مقاومة الشهوات.

 ونحن نؤكد أن غير المسلمين قد اعترفوا بفضل التشريع الإسلامي وحكمته حين حرم المسكرات، فبعد أن تقدمت دراسة الغربيين للتشريع الإسلامي اضطروا إلى الاعتراف بفضله، وتفوقه على تشريعاتهم الوضعية في معالجة داء الخمر ومكافحته بطريقة حكيمة ومستمرة؛ فقد قال بنتام في كتابه “أصول الشرائع”:

“النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الإنسان كالأبله وفي الأقاليم الجنوبية يجعله كالمجنون، وقد حرمت ديانة محمد جميع المشروبات وهذه من محاسنها”.

وقال أحد الأطباء الألمان: “اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن المستشفيات والملاجئ والسجون”[25].

خامسا. المخدرات تأخذ حكم المسكر، وحدها في الشريعة الجلد:

عرفت المخدرات بأنها: المادة التي يؤدي تعاطيها إلى حالة تخدير كلي أوجزئي، مع فقدان الوعي بصورة قد تختلف من شخص لآخر.

 وهذا التعريف مأخوذ من أصل الكلمة في اللغة العربية وهو الخدر، والخدر في اللغة: معناه الكسل والثقل، قال صاحب المصباح المنير: يقال خدر العضو خدرا من باب تعب إذا استرخى فلا يطيق الحركة[26].

وقسمها الخبراء حسب مصدرها إلى:

مخدرات طبيعية: وهي المشتقة من نباتات الخشخاش والقنب والكوكا؛ كالحشيش والأفيون والكوكايين وغيرها.

مخدرات تخليقية: وهي التي تصنع في المعامل والمصانع بطريقة كيميائية كالعقاقير المهبطة والمنشطة[27].

أسباب انتشار المخدرات:

وانتشار المخدرات في أمة له أسباب كثيرة منها:

ضعف الوازع الديني في النفوس:

ومتى ضعف الوازع الديني في النفس البشرية أقدمت على اقتراف ما نهى عنه بلا خوف أو حياء، وسارت في طريق المعاصي والشهوات والرذائل، متبعة في ذلك الهوى والشيطان، وكانت عاقبتها الخسران والبوار. قال سبحانه وتعالى: )فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)( (النازعات).

وجود المال بكثرة في أيدي بعض الطوائف الجاهلة:

هذه الفئة التي لم تشكر الله تعالى على نعمة المال، ولم تستعمله في وجوهه المشروعة، ولم تجمعه من طريق الحلال، والمال إذا وجد في يد الإنسان الأحمق الجاحد لنعم الله أهلكه وأباده.

الجهل وعدم الشعور بالمسئولية:

ومتى كثر الجهل وعدم الشعور بالمسئولية في أمة كان أمرها فرطا، وتحولت المفاسد في نظر جهلائها وسفهائها إلى محاسن.

توهم كثير من الذين يتعاطونها أنه لم يرد نص شرعي بتحريمها[28]:

حيث إن النصوص الشرعية وردت في تحريم الخمر، وهذا التوهم فاسد وخاطئ لوجوه منها: أن عدم ورود تحريمها في الكتاب أو السنة لا يعني أنها حلال؛ لأن التحريم للشيء قد يكون بنص أو إجماع أو قياس، والدليل على تحريم المخدرات القياس على الخمر في علة السكر، فكل مسكر حرام كما قال صلى الله عليه وسلم.

انتشار المخدرات بلغة الأرقام:

مشكلة انتشار المخدرات مشكلة عالمية الأبعاد، تشغل الناس في أنحاء الدنيا، ومن أجل مكافحتها عقدت المؤتمرات، وأقيمت الندوات، وعقدت الاتفاقيات بين الدول، وقامت الهيئات والمنظمات لتتصدى لهذه الآفة خاصة حينما تجاوزت المخدرات مفهوم الحرية التقليدية لتصبح خطرا يهدد الأمن الاجتماعي في أغلب بلدان العالم المتقدمة والنامية.

لقد بدأ التصدي العالمي للمخدرات عام 1909م حيث عقد أول مؤتمر عالمي لمكافحة المخدرات بمدينة شنغاهاي بالصين. وبالرغم من الجهود التي بذلت على المستوى العالمي لمكافحة المخدرات بشتى أنواعها فإن انتشارها يزداد عاما بعد عام، وعلى سبيل المثال: كان متوسط ما ضبط من الحشيش خلال المدة من 1947م – 1966م حوالي 342 طنا سنويا، والفترة من عام 1967م – 1974م حوالي 2500 طن سنويا، والفترة من 1975 – 1986م حوالي 9500 طن سنويا وفي عام 1987 حققت رقما قياسيا، فوصلت إلى حوالي 54 ألف طن سنويا.

وبالنسبة للأفيون:

معدل الضبط على مستوى العالم 42 طنا سنويا في الفترة من 1947 – 1966م و44 طنا من 1967 – 1974، 52 طنا من 1975 – 1986م وفي عام 1988م وصلت كمية الأفيون إلى 92 طنا.

وبالنسبة للهروين:

كان معدل ضبطه على مستوى العالم 187 كيلوا جرام سنويا في الفترة من 1947م – 1966م، وارتفع إلى 953 كيلو في الفترة من 1967م – 1974م، ووصل المعدل 7 أطنان سنويا في الفترة من 1975م – 1986م وفي عام 1988 ضبطت أكبر كمية من الهيروين على مستوى العالم حيث بلغت 33 طنا.

المخدرات والإيدز:

ذكر تقرير إعلامي صيني أن أكثر من نصف مرضى الإيدز في الصين أو ما يعادل نسبة 61.6 بالمئة من إجمالي مرضى الإيدز الصينيين أصيبوا بالمرض بسبب تعاطي المخدرات عن طريق الحقن.

ونقلت وكالة الأنباء الصينية “شينخوا” عن المركز الصيني للوقاية من الأمراض والعلاج منها أن 9.4 من المصابين بالإيدز في الصين التقطوا الفيروس عن طريق نقل الدم، فيما أصيب 8.4 من إجمالي مرضى الإيدز في الصين بالفيروس عن طريق الاتصال الجنسي.

وتتناقض تلك الإحصاءات مع تقارير سابقة مفادها أن 50 % من مرضى الإيدز في الصين أصيبوا بالفيروس بسبب تعاطي المخدرات عن طريق الحقن، بينما أصيب 20% من إجمالي مرضى الإيدز في الصين بالفيروس عن طريق نقل الدم.

وأوضح المركز الصحي الصيني أن انتقال الفيروس عن طريق الحقن بالمخدرات أمر شائع في المناطق الحدودية بما فيها إقليم يونان الذي يقع جنوب غرب الصين بالقرب من منطقة جولدن تراينجل – المثلث الذهبي – التي تشتهر بإنتاج الأفيون الوفير والواقعة بين ميانمار ولاوس.

وأفادت “شينخوا” بأن التقرير الذي أصدره المركز الصيني للوقاية من الأمراض والعلاج منها أظهر أن نسبة مرضى الإيدز الذين أصيبوا بالمرض عن طريق تعاطي المخدرات أو نقل الدم تتراجع، فيما ارتفعت نسبة انتقال الفيروس عن طريق الاتصال الجنسي. واستند التقرير إلى إحصاءات ومعلومات رسمية. وتشير تلك الإحصاءات إلى أن هناك 840 ألف شخص يحملون فيروس الإيدز في الصين.

وفي المقابل، ترى المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة أن عدد المصابين بمرض الإيدز في الصين أكبر من الرقم المعلن، محذرة من أن عدد مرضى الإيدز الصينيين قد يرتفع إلى 20 مليون مصاب بحلول عام 2010.

ومما سبق يتضح بلغة الأرقام مدى تزايد انتشار المخدرات بالرغم من الجهود التي تبذل، فكيف انتشرت المخدرات بهذا الشكل مع وجود الجهود العالمية لمكافحة المخدرات؟

لقد أراد العالم كله أن يتصدى لهذه المشكلة من خلال الأنظمة الوضعية فلم يستطع أن يعالجها أو يحد من انتشارها، ولو أخذ العالم بالمنهج الإسلامي لاستطاع أن يضع حدا لهذه المشكلة الخطيرة ويتخلص من شرورها.

إن منهج الإسلام في مكافحة هذه الجريمة هو منهجه في مكافحة الخمر والسكر؛ فإذا كانت الخمر أم الخبائث، فإن المخدرات أم الجرائم.

حد تعاطي المخدرات في الشريعة الإسلامية:

تعاقب الشريعة الإسلامية على شرب الخمر والمسكرات بالجلد 80 جلدة، ويرى بعضهم أن حد الخمر والمسكرات 40 جلدة: وقد مرت أدلة كل فريق.

ومصدر القول بأصل العقوبة هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه»[29].

 وتحريم الخمر في القرآن في قوله سبحانه وتعالى: )إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)( (المائدة) كما قد مر بيانه.

والشريعة الإسلامية بوضعها لعقوبة الجلد لشارب الخمر والمسكر قد وضعتها على أساس متين من علم النفس، وحاربت الدوافع النفسية لتجريبه.

العالم وتحريم المسكرات:

لقد حرم الإسلام الخمر – المسكرات – وعاقب على شربها منذ قرون عديدة خلت، وجاء القرن العشرين ليشهد للإسلام بأنه على حق في موقفه من الخمر والمسكرات، وبأن غيره يعمه في الضلال.

وقد حمل العالم على هذه الشهادة أن العلم أثبت أن الخمر أم الخبائث كما قال الإسلام، وأنها مفسدة للعقل والصحة والمال، وها هو العالم غير الإسلامي لا يكاد يخلو من جماعات تدعو إلى ترك الخمر والمسكرات، ولهذه الجماعات مجلات ورسائل ومؤتمرات. ولقد كان أثر دعاية هذه الجماعات قويا في أمريكا والهند، وكان الرأي العام أسرع استجابة في هاتين الدولتين. فسنت فيه القوانين لتحريم الخمر والمخدرات تحريما تاما، ولكن الكثير من القوانين التي حرمت الخمر أو المخدرات لم تنجح في محاربتها؛ لأن العقوبات التي فرضتها لم تكن رادعة.

وإذا كان الناس جميعا قد آمنوا بأحقية الإسلام في تحريم الخمور والمخدرات فقد بقي عليهم أن يؤمنوا بالعقوبة التي فرضها الإسلام على شارب الخمر والمخدرات، ويوم يؤمنوا بهذا تنجح القوانين التي تسن لتحريم الخمر والمخدرات، وتؤدي مهمتها خير أداء”[30].

حكم المخدرات وأضرارها:

اتفق الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية على تحريم المخدرات بشتى أنواعها، واعتبروا تعاطي المخدرات من الكبائر التي يستحق مرتكبها المعاقبة في الدنيا والآخرة.

وقال ابن تيمية: إن فيها من المفاسد ما ليس في الخمر، فهي أولى بالتحريم، ومن استحلها أو زعم أنها حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.

وقال ابن القيم: يدخل في الخمر كل مسكر مائعا كان أو جامدا، وهي اللقمة الملعونة لقمة الفسق والفجور، والتي تذهب بنخوة الرجال.

ولقد أجمع الفقهاء القدامي والمحدثون على حرمتها، بعد أن تبينوا آثارها السيئة في الإنسان وبيئته ونسله، وعرفوا أنها تفوق آثار الخمر الذي حرمته النصوص الواضحة في كتاب الله وسنة رسوله وحرمه النظر والعقل السليم. والمخدرات حرام لأنها تجلب المفاسد، وليس من ورائها منافع.

الأضرار الناشئة عن تعاطي المخدرات:

تكلم العلماء قديما وحديثا كلاما طويلا عن أضرار المخدرات:

  1. من الناحية الصحية:

إنها تؤثر على أجهزة الجسم فتضعفها بعد أن كانت قوية، وتغرس فيها الكسل والبلادة بعد أن كانت نشطة ذكية. قال بعض العلماء: المدمن للمخدرات يصاب بالوهن والضمور وشحوب الوجه وضعف الأعصاب وغالبا ما ينتهي الإدمان بصاحبه إلى الجنون، وجاء في إحدى نشرات وزارة الصحة: المخدرات تضعف مناعة الجسم، وتقلل من قدرته على مقاومة الأمراض.

  1. من الناحية الاقتصادية:

من الأضرار الاقتصادية أنها تجعل متعاطيها يضيع الكثير من أمواله في هذه السموم التي تفسد عليه معيشته، وقد يبيع ضروريات حياته، وقد يأخذ قوت أولاده، وقد يقترض من غيره قروضا لا طاقة له بسدادها، كل ذلك من أجل شراء تلك المخدرات التي تعود عليه بأسوأ النتائج.

وانتشار المخدرات في أي أمة يؤدي إلى ضعف إنتاجها بسبب شيوع داء الكسل والعجز بين أبنائها، كما يؤدي إلى ضياع عشرات أو مئات الملايين من العملة الصعبة من أموالها، مع أنها في حاجة إلى هذه العملة لزيادة إنتاجها، وأشقى الأمم أمة تنفق الكثير من أموالها في الشر لا في الخير.

  1. من الناحية الاجتماعية:

إن أضرار المخدرات من الناحية الاجتماعية لا تحتاج إلى بيان وتوضيح، فالمخدرات إنما هي رأس الأسباب التي تؤدي إلى تفكك الأسرة وإلى شيوع الطلاق، وعدم الشعور بالمسئولية أمام الأبناء، وكذلك متعاطي المخدرات لا يشعر بالمسئولية نحو أسرته، ومن القواعد أن فاقد الشيء لا يعطيه.

وإن ضرر المخدرات من الناحية الاجتماعية لا يقدر ولا يحصى؛ لأن الإنسان عندما يتعاطى المسكرات توثر في قواه العقلية، وتحرضه على تصرفات الجهلاء، وتسهل الوقوع في الجرائم الضارة بالفرد والمجتمع؛ فالمسكرات أم الخبائث، ومصدر كل الجرائم والمفاسد الاجتماعية، وقاتلة كل حقيقة، وباعثة على كل رذيلة[31].

وقال الشيخ محمود شلتوت في إحدى فتاواه: والحشيش يذهب بنخوة الرجال، وبالمعاني الفاضلة في الإنسان، ويجعله غير واف إذا عاهد، وغير أمين إذا ائتمن وغير صادق إذا حدث، وتميت في الإنسان الشعور بالمسئوليات والكرامات وتملؤه رغبا ودناءة وخيانة لنفسه ولا يعاشر متعاطي الحشيش، وبذلك يصبح عضوا فاسدا منبوذا في المجتمع.

فأضرارها في الأخلاق والدين عظيمة وذلك معروف للعام والخاص، ويكفي أن المتعاطي لهذه السموم قلما يحافظ على فرض من الفرائض، وقلما يعتنق مكرمة من مكارم الأخلاق[32].

وفي الآثار والمضار الصحية يفصل لنا القول د. أحمد شوقي إبراهيم استشاري الأمراض الباطنية والقلب، ورئيس لجنة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فيقول: “السكر حالة تطرأ على المخ تخل ببعض وظائفه، مما يسبب اضطرابا في السلوك والوعي، وانحطاطا في القدرة العقلية، والقدرة على التقييم الصحيح للأمور، فضلا عن إحداث خلل بالقدرات الفكرية، والحركية، والبدنية، كل ذلك نتيجة لتعاطي مادة مسكرة.

والمادة المسكرة في الخمور هي مادة الإيثانول، وهي نوع من الكحول، وتتراوح نسبتها في الخمور بمختلف أنواعها من 5% إلى 50% أو أكثر.

والإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه، ولا يأمر الإسلام إلا بكل ما هو مفيد للإنسان في دنياه وآخرته، ولا ينهى إلا عن كل ما يضره، ولا يريد الله تعالى إلا الخير للإنسان في الدنيا والسعادة في الآخرة.

والمخ هو رافد العقل، فسلامة المخ سلامة للفكر والعقل أيضا، والمخ أكثر أعضاء الجسم تأثرا بالخمر، وقشرة المخ أول ما يتأثر بالخمر، ولما كانت المراكز المتحكمة في كل مراكز المخ الأخرى، موجودة بقشرة المخ، فإن الخمر يزيل التحكم العقلي، والانضباط العصبي على تصرفات الإنسان وحركات الجسم وأفعاله.

وكلما زادت جرعة الخمر دخل شارب الخمر في مراحل أخرى من تلك المراحل، التي يمر بها الإنسان تحت تأثير المخدر، وفي النهاية يدخل شارب الخمر في غيبوبة لا يشعر فيها بشيء.

وفي الجهاز العصبي مواد مورفينية، إذا زاد إفرازها تقلل الإحساس بالألم، وتزيل حالة التوتر والانفعال، إلا أنها لا تخل بالوعي، والذي يتعاطى المسكرات يفسد عمليات إفراز تلك المواد المورفينية، فكثير من المواد المسكرة من مشروبات كحولية ومنومات ومهدئات، تتحول في المخ إلى مادة مورفينية، وبالتالي فكل هذه المواد الإدمانية من كحوليات ومنومات ومسكرات وأفيون، تؤثر في المخ نفس التأثير، فهي تتشابه في التأثير على المخ، وتختلف في التأثير على أعضاء الجسم الأخرى.

وهذه المواد المورفينية الناتجة في المخ من تعاطي تلك المسكرات تخدع خلايا المخ، فتتوقف هذه عن إنتاج المورفينات الطبيعية في الجهاز العصبي المركزي، بحيث إذا توقف الإنسان عن تعاطي المسكرات، توقفت مناعة الجهاز العصبي ضد الشعور بالآلام، وهذا من ضمن الآثار الانسحابية التي يعاني منها مدمن المسكرات والمنومات، ولعل هذا هو سر الشعور الدائم باللهفة لتناول المسكر أو المهدئ أو المخدر بصورة متصلة إدمانية.

ولا شك أن كل الكحوليات والمسكرات والمخدرات تخامر العقل وتخل بالوعي، وبالتالي فهي كلها خمر، ولم تكن هذه الحقائق التي ذكرناها معروفة حتى أوائل القرن الحالي، إلا أنها ذكرت في الحديث النبوي الشريف، فقد جاء عن أم سلمة عن ابن عمر – رضي الله عنهم – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[33].

كل مسكر خمر: ثلاث كلمات تجمع من العلم ما لم يكتشف إلا في العصر الحديث من خلال أبحاث مستفيضة، ودراسات كثيرة منذ أوائل هذا القرن، وتدل هذه الكلمات الثلاث على أن كل مسكر يعتبر خمرا، وله نفس الحكم.

وكل خمر حرام: إنه حكم شرعي صريح، بأن كل مادة تسبب السكر حرام، ولقد جادل بعض الناس أن كلمة حرام أو التحريم لم تذكر في القرآن الكريم في سياق الحديث عن شرب الخمر، وقالوا: إن القرآن لم يذكر أن شرب الخمر حرام، وهم في ذلك مخطئون؛ فالقرآن أمر باجتناب الخمر، والاجتناب أكثر وأشمل وأشد من التحريم، ومع كل ذلك فلقد ذكر الحديث النبوي الصحيح أن كل خمر حرام.

ما دام كل مادة مسكرة تخامر العقل تعتبر خمرا؛ فإننا نجد أن الخمور قد تعددت أنواعها، واختلفت أسماؤها، إلا أنها جميعا تعتبر خمرا، فالكحوليات خمر، والحشيش خمر، والأفيون خمر، والقات خمر، والمنومات خمر، كل هذه خمور: إلا أن الناس في عصرنا الحاضر يطلقون عليها أسماء مختلفة، ويسمونها بغير اسمها “خمر”. ولم يكن السابقون على القرن الحالي من العلماء يعرفون شيئا عن ذلك، إلا أن الحديث النبوي الشريف ذكر هذه الحقيقة العلمية، فلقد ذكر أبو مالك الأشعري – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها»[34]. وفي رواية أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها»[35].

والمواد الإدمانية المسكرة كثيرة، منها المشروبات الكحولية والأفيون، بكل مشتقاته، والكوكايين والحشيش، والقات وغيرها، ويمكننا أن نقسم المواد الإدمانية المسكرة إلى ثلاثة أقسام:

o      المهبطات للجهاز العصبي، ومنها: المنومات والمهدئات والأفيون ومشتقاته.

o      المنشطات للجهاز العصبي: منها الكوكايين، والأمفيتامينات.

o      الهلاوس: مثل عقاقير الهلوسة LsD، والهيروين، ومثل الحشيش.

وتبتدئ قصة الإدمان على المسكر – أي نوع من المسكرات – بتعاطي العقار بطريقة عرضية تشبها بالغير، أو عن طريق الرغبة في التجربة، أو الرغبة في الانتماء لأصدقاء معينين، ويظن أغلب الناس أن هذه بداية هينة وبسيطة، ولكنها في حقيقتها بداية النهاية؛ فالإنسان بهذه البداية قد سعى إلى حتفه بظلفه (بحمق فعاله).

والإدمان حالة من الاستمرار القهري في تعاطي المسكر، والإنسان المدمن لأي نوع من المسكرات مثله مثل الحشرة التي أعجبها بيت العنكبوت من بعيد فثار فيها حب الاستطلاع في تجربة دخول هذا البيت العجيب، وما إن دخلته حتى هاجمتها أنثى العنكبوت، ونفثت فيها سمها وقتلتها، وبذلك كان فضول الحشرة وإعجابها ببيت العنكبوت والرغبة في تجربة الدخول فيه سببا في هلاكها، والأمر نفسه يحدث لأي إنسان صحيح الجسم يثور فيه الفضول ليجرب تعاطي أي نوع من المسكرات، فيمسك الإدمان بتلابيبه تدريجيا، ويحطمه شيئا فشيئا، فتزول عنه الصحة، وتختفي عن جسمه القوة والحيوية والنشاط.

إن أفضل تصرف للإنسان هو الابتعاد عن كل ما له صلة بالمسكرات، وتجنب مجلسها وتجارتها، فضلا عن شرائها وشربها، بل الابتعاد عن كل ما له صلة بالمسكرات من قريب أو بعيد، وإلا كان مصيره مثل مصير الحشرة عندما دخلت بيت العنكبوت.

وقد صور الحديث النبوي الشريف حال المدمن أمام المسكر، وضعفه أمامه وكأنه إله يتعبده، فقد جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «مدمن الخمر كعابد وثن»[36]. وتشبيه مدمن الخمر بعابد وثن في الحديث النبوي الشريف تشبيه بليغ، فشرب الخمر كان قديما متعلقا بالطقوس الدينية في المعابد الوثنية.

كما أن مدمن الخمر أو المخدر لا يستطيع أن يبتعد عنه. فالخمر أمامه كوثن يعبد، يقدم له القرابين من صحته ونفسه وعقله وماله وأسرته، كما كان القدامى يقدمون القرابين للأوثان في المعابد ويشربون الخمور فيها.

ومدمن الخمور يحول عبادته لله تعالى إلى عبادة الشيطان، المتمثلة في زجاجة الخمر التي أمامه. لذلك كان حقا على الله تعالى ألا يدخله الجنة، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر»[37].

ولا تسبب الخمر أي فائدة للإنسان، ومن يدعي غير ذلك فإنما يدعي بغير علم، ولقد ذكرنا من قبل الأضرار النفسية والعصبية للخمر.

ولم تنتشر المسكرات والمفترات والمكيفات في عصر من العصور كما تنتشر في هذا العصر، والعجيب في الأمر انتشار الإدمان على أنواع من المسكرات لم تكن معروفة من قبل، مثل الإدمان على حبوب الهلوسة، أو الهيروين بين الشباب، وخصوصا في البلاد الغربية الصناعية، ومنها انتشر إلى مجتمعات أخرى.

وزاد الإدمان على المشروبات الكحولية بين من تعدوا سن الشباب في البلاد العربية، والإدمان على الحشيش في مختلف مراحل العمر في كثير من بلاد العالم، حتى إنه يمكن القول:

إن العصر الحاضر يسمى عصر إدمان المسكرات، ولقد تحدثنا من قبل عن الآثار الصحية والنفسية للمسكرات بأنواعها المختلفة. وقد اكتشف في السنوات القليلة الماضية آثار وراثية خطرة للمسكرات والمكيفات.

إن أضرار المشروبات الكحولية والمخدرات لا حدود لها، وكل يوم يكتشف العلماء جديدا من الأضرار لها والشرور منها، وكل ذلك تصديق تفسير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر»[38].

فالإسلام لا يريد إيقاع العذاب بالناس رغبة في تعذيبهم، ولكن يريد لهم الحياة السعيدة والخير في الدنيا والآخرة[39].

سادسا. مقاصد الشريعة من تحريم المسكرات والمخدرات وملحقاتها وتشديد عقوبتها:

تناثر الكلام في الصفحات السابقة عن مضار الخمر، والمسكرات، والمخدرات، وما يلحق بها، من وجوه عديدة، مما يصلح أن يكون علة قوية لتحريمها، و ضرورة المعاقبة على تعاطيها، كمقصد من مقاصد الشريعة نحو حفظ الدين والنفس والعقل والمال، وما إلى ذلك.

ولكي تتأصل هذه المعاني وتتمكن من النفوس، نورد فيما يلي مقتطفات من نصوص كتبها، في هذا الشأن فقهاء شرعيون بارزون، وخبراء علميون متخصصون.

تحت عنوان “هذا هو بيت القصيد” يقول د. نبيل غنايم، موضحا أضرار المخدرات والمسكرات: “من نافلة القول أن نقول: إن مضار الخمر كثيرة وشاملة، ولا عجب أن تسمى “أم الخبائث”؛ لأن من يتعاطاها يفعل جميع الكبائر، فقد ورد أن غانية أرسلت جاريتها لأحد العباد تستدرجه لينقذها من خطر، فلما قدم معها أخذت كلما دخل من باب أغلقته حتى وصل إلى سيدتها فإذا بها تدعوه إلى الفاحشة فأبى، فعرضت عليه أن يقتل الغلام حتى لا تفضحه فرفض، فعرضت عليه أن يشرب الخمر وإلا فضحته، فاستخف الرجل بالشرب، ورأى أنه أهون من الفاحشة ومن قتل الغلام ومن الفضيحة، فلما شرب لعبت الخمر بعقله، ثم ارتكب الفاحشة، وقتل الغلام، فارتكب بسبب شربها جميع الخبائث”[40].

أما د. بلتاجي: فيؤصل الكلام في شأن المخدرات وانسحاب حكم الخمور والمسكرات عليها، فيقول: “تعتبر مشكلة المخدرات المعاصرة أعظم، وأخطر من مشكلة الخمر التي وردت في النهي عنها نصوص من القرآن والسنة، وقد وصفت الخمر في القرآن الكريم بأنها: )رجس( – أي شر – )من عمل الشيطان( (المائدة:٩٠)، وأنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه صفات تنال من دين المسلم، وإيمانه، وأخلاقه.

وهي كافية شرعا للعن عشرة أشخاص أو مجموعات من الناس، بمعنى طردهم من رحمة الله تعالى، ومن رضوانه في الدنيا والآخرة؛ لأنهم يشتركون على نحو ما في مسئوليتها، ومخدرات هذا العصر، بخاصة التصنيعية كالهيروين والماكس، أعظم في ضررها كثيرا من الخمر؛ ففيها كل صفاتها السابقة، بالإضافة إلى صفات أخرى أشنع منها وأعم ضررا، فإن المخدرات التي أشرنا إليها تذهب بالمال كله، وبالعرض كله أيضا، وتنتهي في معظم الحالات بإذهاب النفس البشرية، وذلك إلى جانب إضاعتها للدين والعقل، فضررها أعم من الخمر وأشمل؛ إذ يشتمل على الكليات الخمس جميعها فلا يكاد يترك منها شيئا.

وتحريم الشريعة للخمر حكم معلل في النص القرآني السابق بأنها شر من عمل الشيطان يذهب العقل، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، ويصدهم عن ذكر الله، وعن الصلاة. ولما كانت المخدرات المعاصرة تتضمن هذه العلل كلها، وتزيد عليها على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، فإن منطق الاعتبار وقياس الأشباه على الأشباه والأمثال على الأمثال، يوجب علينا دون شك، أن نعطي المخدرات حكم الخمر قياسا بالأولى؛ فالحكم الشرعي للمخدرات أنها تأخذ حكم الخمر وزيادة، وأن العشرة الملعونين في الخمر ملعونون بالأولى في المخدرات.

وأما الزعم بأن الخمر أغلظ حرمة؛ لأن حرمتها وردت في نصوص القرآن والسنة – ولم ترد المخدرات فيهما – فهو زعم جهول لا يقول به إلا من سفه نفسه وعقله، وادعى على دين الله بالزور والبهتان، وهو يساوي تماما الزعم بأن نهر الوالدين أو إظهار التأفف منهما أغلظ من ضربهما وقتلهما؛ لأن النص القرآني ورد في النهر والتأفف، ولم يرد في الضرب والقتل.

وهل يقول بذلك من بقيت عنده – بعد سمادير[41] المخدر – مسحة من عقل ونظر أو من يعرف شيئا عن أصول الإسلام وشريعته؟ فضلا عن أن يكون مجتهدا فيه، فلم حضت نصوص الشريعة إذن على الاعتبار بقياس الأشباه والنظائر؟ وما معنى أن يكون في شيء ما جميع العلل التي بنى عليها الحكم وزيادة؟

لقد نصت الشريعة على أعيان كانت معروفة للناس وقت التنزيل، ثم قال سبحانه وتعالى: )ويخلق ما لا تعلمون (8)( (النحل)، أي: وقت التنزيل، وسيعلمه الذين يوجدون بعد ذلك في عصرهم، وحينئذ فعلى الذين يقومون بمهمة استنباط الأحكام الشرعية منهم – وهم المجتهدون لا غيرهم – أن يحللوا صفاته ومكوناته، ويلحقوه حكما بأقرب ما وردت فيه النصوص، مما وجد وقت التنزيل، فلا شيء يمكن أن يحدث أو يستجد على الإطلاق في حياة الناس، إلا وقد اشتملت على حكمه – على نحو ماـ نصوص شرعية. والزعم بأنه يمكن أن تحدث أشياء لم تشتمل عليها نصوص شرعية – ولو بطريق الاستنباط – تكذيب صريح لقوله سبحانه وتعالى: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)( (النحل).

وهو أيضا تكذيب صريح لمعنى إكمال الدين في قولهسبحانه وتعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: ٣)، ومعنى إكمال الدين وإتمام النعمة أنه تعالى أتم للمسلمين أحكام دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، ولا إلى تشريع غير تشريعه الذي يحتوي حكم كل ما يحدث ويستجد في حياتهم، كما قال الشافعي بحق: “فليس تنزل بأحد من أهل الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”.

وخلاصة هذا: أن المنطق الصحيح للنظر الفقهي واللغوي ينتهي بالضرورة إلى إعطاء المخدرات حكم الخمر بجامع أن كلا منهما يؤثر في العقل ويحوله عن حالته الطبيعية، ثم تزيد المخدرات على الخمور اقتضاء للحرمة وتشديدا فيها بقدر زيادة تأثيرها المدمر على الكليات الخمس على النحو الذي سبق تقريره.

ويؤيد هذا ما سبق أن ذكرناه عن عمر – رضي الله عنه – من قوله: «والخمر ما خامر العقل»[42]. وخامر العقل أي: خالطه فغيره، وهو فعل المخدرات أيضا؛ فمخالطة العقل وتغييره هو مناط الحكم بالحرمة.. وليس مجرد التخمر – وكفى بعمر عالما باللغة، وبمقاصد الشريعة – يقول هذا في جمع الصحابة، فلا ينكر عليه أحد منهم. كذلك يؤيد هذا النظر حديث: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»[43]. فالتأثير في العقل إذن هو مناط الحرمة.

ومن ثم نرى أن تأخذ المخدرات – من حيث التناول – حكم الخمر السابق من حيث جلد أربعين أو ثمانين أو إضافة تعزيرات أخرى عليها. أما من حيث التجارة فلا حجر على ولي الأمر في نوع العقوبة التي يراها مناسبة لتجار المخدرات، ولو وصل بهم إلى التعزير بالقتل”[44].

ويتساءل بعض المدمنين: إن تعاطيهم لتلك العقاقير من ضمن حريتهم الشخصية، فما بال الإسلام يقيد حريتهم الشخصية؟ إنهم يعلمون أن الله سيحاسبهم في الآخرة، وهذا بينهم وبين ربهم، فلماذا يقيدون حريتهم الشخصية في الدنيا؟ ولماذا يعاقبونهم إذا شربوا خمرا، أو تعاطوا مخدرات؟ وهب أن هذا المتعاطي ليس مسلما، فلماذا يحرم الإسلام عليه ذلك؟ ولماذا يوقع عليه الحد؟

وللإجابة عن تساؤلاتهم نقول:

  1. لو فهم شاربو الخمر ومتعاطو المخدرات، ما وجدوا في تحريم الإسلام لكل ذلك قيدا على حريتهم الشخصية، ولوجد كل منهم أن في ذلك مصلحته هو، وحفاظا على مصلحة المجتمع ككل؛ فالإسلام يحرم السرقة ليحمي مال الناس من السارقين، بل يحمي مال السارق نفسه من غيره من الناس السارقين، ولو تصورنا أن الإسلام لم يحرم السرقة ولم يأمر بإقامة الحد على السارق، لكانت أموال الناس وممتلكاتهم نهبا مباحا لأي إنسان يطمع فيها، وماذا تكون النتيجة؟ تكون سلسلة من الجرائم لا نهاية لها.

إن الإسلام حرم الخمر والمخدرات ليحمي الإنسان من نفسه، ويحمي صحته وعقله، ويحافظ على ماله وأسرته، ويحمي المجتمع من المدمنين؛ لأنهم مصدر خطر على غيرهم من الناس، ونظرة واحدة إلى بعض المجتمعات الغربية التي ينتشر فيها شرب الخمر، ويشيع فيها تعاطي المخدرات، وما يحدث من جراء ذلك من جرائم وموبقات وخسائر، تبين مدى أهمية تحريم الخمر والمخدرات، وضرورة ذلك التحريم لسلامة المجتمع الإنساني.

فليس في الأمر اعتداء على الحرية الشخصية تماما، كما يحرم الإسلام على الإنسان أن يقتل نفسه، وليس في ذلك قيد على حريته الشخصية؛ فالحرية الشخصية في الإسلام لها ضوابط وحدود، يضعها الإسلام في موضعها الصحيح في نطاق الحق، والعدل، والنظام، حفاظا على سلامة المجتمع ككل.

  1. إن الخمر والمخدرات كما هي محرمة في الإسلام، فهي محرمة في المسيحية أيضا. ولقد أفتى رؤساء العقائد المسيحية بتحريم الخمور والمسكرات، والمخدرات، فلا يشترط أن يكون الذي يقام عليه الحد مسلما، أو غير مسلم، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يعيشون في دولة مسلمة، يقام على أي واحد منهم الحد، إذا شرب الخمر أو تعاطي المخدرات، خصوصا إذا أدى شربه لها إلى إشاعة هذا المنكر في المجتمع المسلم، فالكتابيون المقيمون في دار الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؛ ولأنها محرمة في عقائدهم أيضا”[45].

هل يبقى بعد كل ما سبق مجال للقول بأن تحريم الإسلام للمسكرات، والمخدرات وما شابهها، فيه اعتداء على الحرية الشخصية، وسلب لها؟ فلو أن الأمر بالتحريم ليس أمر دين، لكان أمر صحة ووقاية ودنيا.

الخلاصة:

  • ميز الله الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل، وبه صار الإنسان مستحقا لأن يكون خليفة في أرض الله، فهو – أي العقل – أصل من الأصول الخمسة التي تهدف الشريعة إلى الحفاظ عليها، والمخدرات والمسكرات وما شابههما، تقصد إلى اغتيال هذا العقل قصدا، إن عاجلا أو آجلا.
  • المسكرات والمخدرات وما يلحق بهما حكمه التحريم بأدلة واضحة قاطعة من الكتاب والسنة.
  • للمسكرات والمخدرات مضار كثيرة وشاملة على مستوى صحة الفرد وأسرته ومجتمعه واقتصاد أمته.
  • الزعم بأن تحريم الإسلام لهذه الأشياء وتغليظ العقوبة عليها فيه اعتداء على الحرية الشخصية وسلب لها، زعم باطل مغالط؛ لأن هذا التحريم يهدف إلى المصلحة الخاصة والعامة، كما حرم الإسلام السرقة ليحمي المجتمع من اللصوص فيعيش الناس آمنين، ولو أهمل ذلك ولم يضع حدا – عقابا – للسرقة لكانت أموال الناس كلا مباحا لكل طامع ومجترئ، وكذا الغرض من عقوبة الزنا، والقصاص وخلافه. وإلا لكان الأمر فوضى، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، فهذا ضد طبائع العمران البشري حتى على المستوى الدنيوي البحت، لا الديني.
  • فللحرية ضوابط وحدود، يضعها الإسلام في موضعها الصحيح، في نطاق الحق، والعدل، والنظام. حفاظا على سلامة المجتمع ككل.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م.

[1]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص325.

[2]. للمزيد انظر: فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، ط2، 1999، مج 3، ص128 وما بعدها.الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م ، مج 2، ص274 وما بعدها.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة (4087)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (5332).

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (5339).

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1102) بنحوه، والنسائي في المجتبى، كتاب الأشربة، باب النهي عن نبيذ الجعة، وهو شراب يتخذ من الشعير (5611) بنحوه، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (5168).

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم(18431)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأشربة، باب ما يكون منه الخمر (3379)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (3980).

[7]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الأشربة، باب في الخمر وما جاء فيها (24067)، والنسائي في المجتبى، كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر (5684)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (5684).

[8]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر (3117)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الحد في الخمر، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر قتادة عن أنس (5288)، وصححه الحاكم في المستدرك (8132)، ووافقه الذهبي في التلخيص.

[9]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج6، ص151 بتصرف.

[10]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1999م، مج 3، ص149 بتصرف.

[11]. ذكره الزيلعي في نصب الراية ولم يخرجه.

[12]. ظن بعض الناس أن هذه العبارة حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنها من كلام الفقهاء كقاعدة للتعامل مع غير المسلمين (أهل الذمة)، وقد أكثر منها فقهاء الحنفية على وجه خاص.

[13]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج2، ص500.

[14]. الفرق: الموجة العالية من البحر، والمقصود: الكثير.

[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24468)، وأبو داود في سننه، كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (3689)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (3687).

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6558)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأشربة، باب ما أسكر كثيرة فقليله حرام (3394)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (10467).

[17]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الطب، باب في الخمر يتداوى به والسكر (23498).

[18]. صحيح: أخرجه أبو نعيم في الطب، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2881).

[19]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب العين، أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم (11372)، والدارقطني في سننه، كتاب الأشربة وغيرها (3)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1853).

[20]. بروفيسور الأمراض النفسية في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز الأبحاث المتعلقة بالإدمان.

[21]. النبيذ: ما يعمل من الأشربة من تمر أو زبيب أو عسل أو شعير… إلخ، وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له نبيذ، ويقال للخمر المعتصرة من العنب نبيذ كما يقال للنبيذ خمر.

[22]. السماجة: القبح.

[23]. الشبق: شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق وامرأة شبقة. وشبق الرجل شبقا فهو شبق: اشتدت غلمته، وكذلك المرأة.

[24]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ص278 وما بعدها.

[25]. للمزيد يرجى مطالعة: تفسير القرطبي عند تفسير الآية رقم 21 من المائدة. تفسير المنار، رشيد رضا. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص325 وما بعدها. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004، ص359 وما بعدها.

[26]. المصباح المنير، محمد بن محمد الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت مادة: خ د ر.

[27]. المخدرات في رأي الإسلام، د. حامد جامع، محمد فتحي عيد، سلسلة البحوث الإسلامية، مجمع البحوث الإسلامية، 1979م، ص20.

[28]. رأي الدين في المخدرات والمسكرات، منشورات وزارة الأوقاف، د.ت.

[29]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه(7748)، والنسائي في المجتبى، كتاب الأشربة، ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر (5661)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (5661).

[30]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص648، 649، 651 بتصرف.

[31]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص342.

[32]. رأي الدين في المخدرات والمسكرات، منشورات وزارة الأوقاف، د.ت.

[33]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام (5337).

[34]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (22951)، وأبو دواد في سننه، كتاب الأشربة، باب في الداذي (3691)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (3688).

[35]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب الخمر يسمونها بغير اسمها (3384) والطبراني في المعجم الكبير، باب الصاد، صدى بن العجلان أبو أمامة الباهلي (7474)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (3384).

[36]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، ومن مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم (2453) بنحوه، وابن ماجه في السنن، كتاب الأشربة، باب مدمن الخمر (3375)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (10800).

[37]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6882)، والنسائي في المجتبى، كتاب الأشربة، باب الرواية في المدمنين في الخمر (5672)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (5672).

[38]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق، باب بر الوالدين (20122)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأشربة، باب الخمر مفتاح كل شر (3371)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (3371).

[39]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، ط1، 2002م، ج3، ص61 وما بعدها.

[40]. قضايا معاصرة، د. نبيل غنايم، دار الهداية، القاهرة، ط1، 2003م، ص179.

[41]. السمادير: ضعف البصر، وقيل: هو الشيء الذي يتراءى للإنسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغشى النعاس والدوار. وطريق مسمدر: طويل مستقيم. وطرف مسمدر: متحير.

[42]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة، باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب (5266)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب التفسير ، باب في نزول تحريم الخمر (7744)، وفي مواضع أخرى.

[43]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام (5339).

[44]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص45 وما بعدها.

[45]. المعارف الطبية في ضوء القرآن والسنة: المحرمات وصحة الإنسان والطب الوقائي، د. أحمد شوقي إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1423هـ/ 2002م، ج3، ص80، 81.

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المغالطين أن حمل السلاح وتهديد الآمنين من الأمور التي تتطلبها بعض الظروف، وما دام هناك مبرر لذلك فلا ضرورة لتشريع حد لمثل هذا التصرف، ولا فائدة من فرض عقوبات على القائمين بذلك، مستدلين على ذلك بأن العالم اليوم لا يعترف بالضعف، ولا سيادة إلا للقوة وصاحب السلاح، ويستنكرون على الإسلام فرضه حد الحرابة قائلين: إن ذلك لا يتناسب مع العالم المتحضر.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الحرابة هي: خروج مسلح لإحداث الفوضى، وسفك للدماء، وتهديد لأمن المجتمع، وتحد لتعاليم الدين وقواعد النظام والقانون.

2)  حكمة تشريع عقوبة الحرابة أو قطع الطريق تتمثل في حفظ الأمن، وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم.

3) قطاع الطرق أنواع منهم: من قتل وسلب، ومن قتل ولم يسلب، ومن سلب ولم يقتل، ومن أخاف فقط، ولكل نوع عقوبة تخصه.

4) لتنفيذ حد الحرابة على قطاع الطرق شروط – منها: التكليف وحمل السلاح والاختيار وأن يكون ذلك في دار الإسلام.

5)  يسقط حد الحرابة عن صاحبه بعدة أمور؛ تطبيقا للقاعدة: “تدرأ الحدود بالشبهات”.

6)  العبرة في العقوبة بما تحققه من نتائج؛ لذا فحد الحرابة صالح للعالم المتحضر وغيره.

التفصيل:

أولا. مفهوم الحرابة، ومتى يتحقق؟

الحرابة هي: خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدية بذلك الدين، والأخلاق، والنظام، والقانون، ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين أو الذميين، ما دام ذلك في دار الإسلام.

وتتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات، وتتحقق كذلك بخروج فرد من الأفراد. فلو كان لفرد من الأفراد شيء من الجبروت والبطش ومزيد قوة وقدرة يغلب بها الجماعة على النفس والمال والعرض فهو محارب وقاطع طريق.

ويدخل في مفهوم الحرابة: العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الأطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الأمن، وعصابة إتلاف الزرع وقتل المواشي والدواب؛ لأن هذه الطوائف الخارجة عن النظام تعتبر محاربة للجماعة من جانب، ومحاربة للتعاليم الإسلامية التي جاءت لتحقيق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها من جانب آخر.

فخروج هذه الطوائف على هذا النحو يعتبر محاربة، ومن ذلك أخذت كلمة “الحرابة”، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة حرابة فإنه يسمى أيضا قطع الطريق؛ لأن الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق فلا يمرون فيه خشية أن تسفك دماؤهم أو تسلب أموالهم أو تهتك أعراضهم أو يتعرضوا لما لا قدرة لهم على مواجهته.

وقد تعددت الأقوال فيمن تنطبق عليه صفة المحارب من المسلمين منها:

  • أنه اللص المجاهر بلصوصيته المصر على ذلك في الصحراء أو المدينة.
  • وأنه المكابر في الفسق والفجور.

والأصح مما تقدم أن المحارب هو الذي يخيف الناس ويعتدي عليهم جهارا بالقتل والسلب والنهب والتخريب وهتك الحرمات، وغير ذلك من المفاسد؛ وذلك لعموم قوله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة).

فالآية بعمومها تقر بأن كل من يهدد أمن الناس، ويعتدي على حرماتهم، ويسعى في الأرض فسادا، فهو محارب لله ورسوله، أي: معتد على دين الله ورسوله مخالف لأوامره تعالى.

وقوله سبحانه وتعالى: )يحاربون الله ورسوله( (المائدة: ٣٣) فيه استعارة ومجاز؛ فالله تبارك وتعالى لا يحارب ولا يغالب؛ لما هو عليه من صفات الكمال؛ ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد، ومعنى: )يحاربون الله(: يحاربون أولياءه، فعبر بنفسه عن أوليائه إكبارا لإيذائهم، فمن آذاهم فكأنه آذاه، وإن كان لا يلحقه من عباده أذى.

أما سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون( نزلت هذه الآية في “العرنيين”، وهم جماعة “بجيلة” نزلوا المدينة فأصابتهم الحمى فأمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بالخروج إلى إبل الصدقة فخرجوا، وأمر لهم بلقاح – وهي الناقة الحلوب – ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل.

فبعث رسول الله في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل[1] أعينهم وتركهم في الحرة [2] يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.

قال أبو قلابة: فهؤلاء الناس سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون(.

 وقد حكى أهل التواريخ والسير أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه يسارا وكان نوبيا. وكان هذا الفعل في السنة السادسة من الهجرة. وقد ثبت أن النبي سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة، فكان هذا قصاصا.

قال صاحب المنار: ومجموع الروايات في قصة العرنيين تفيد أنهم جعلوا الإسلام خديعة للسلب والنهب، وأنهم سملوا أعين الرعاة، ثم قتلوهم، ومثلوا بهم، وفي بعضها أنهم اعتدوا على الأعراض وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – عاقبهم بمثل عقوبتهم عملا بقوله سبحانه وتعالى: )وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40)( (الشورى)، وأن الله تعالى أنزل الآية بهذا التشديد في العقاب على مثل هذا الإفساد لحكمة، وهي سد ذريعة هذه المفسدة، وقد شدد لما فيها – أي الحرابة – من سلب الأموال واعتداء على الأعراض وغيرها.

والتشديد في سد الذرائع ركن من أركان السياسة الشرعية لا تزال جميع الدول تحافظ عليه[3].

ثانيا. حكمة تشريع عقوبة الحرابة أو قطع الطريق:

هي تأمين الناس على حياتهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم في أسفارهم وإقامتهم. ولقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث متعددة أن هؤلاء الذين يقتلون الآمنين أو يعتدون عليهم بأية صورة من صور الاعتداء ليسوا من الإسلام في شيء، ومن هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا»[4].

أي من حمل السلاح لقتال المسلمين أو غيرهم بدون حق فليس على طريقتنا، ولا على هدينا، ولا على شريعتنا؛ لأن شريعة الإسلام تصون الناس وأموالهم، وتعاقب بالعقوبات الرادعة كل من يعتدي على غيره كي يسود الأمن والأمان والاطمئنان في الأمة.

ثالثا. أنواع قطاع الطرق وعقوبة كل نوع:

قطاع الطريق على أربعة أقسام، وكل قسم منهم له عقوبته الخاصة به:

  1. إن كان قطاع الطرق قد قتلوا فقط ولم يأخذوا مالا من المقتول قتلهم ولي الأمر.
  2. إن كانوا قد قتلوا وسلبوا المال من المقتول قتلوا وصلبوا على خشبة ونحوها.
  3. إن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
  4. إن كانت الحرابة مقتصرة على إخافة المارة وقطع الطريق دون أن يتعرضوا لهم بالقتل والسلب ولكنهم يهددون الناس ويخوفونهم يعاقبون بالنفي إلى مكان بعيد[5].

رابعا. شروط تنفيذ حد الحرابة:

من الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يقام عليه حد الحرابة أو قطع الطريق ما يأتي:

  1. أن يكون مكلفا أي بالغا عاقلا؛ فالصبي والمجنون لا يعد الواحد منهما محاربا أي قاطع طريق لعدم تكليفهما شرعا؛ ولأن الحد عقوبة تستدعي جناية؛ وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية[6].
  2. أن يكون حاملا للسلاح الذي من شأنه أن يخيف الناس؛ لأن قوة قطاع الطرق في اعتمادهم على أسلحتهم، وأية أسلحة من شأنها أن تقتل، أو بها يحصل ما يؤدي إلى القتل تعد من باب الحرابة.
  3. أن يكون مختارا، فإن ثبت أنه مكره أو مجبر، لا يقام عليه حد قاطع الطريق؛ وإنما مرجع الحكم إلى ما تراه الهيئات القضائية بشأنه.
  4. أن يكون قطع الطريق والعدوان على الناس داخل المدن أو خارجها في صحراء أم غير صحراء؛ لأن الآية بعمومها تتناول كل من يسفك الدماء في الصحراء وغيرها.
  5. أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام، فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد؛ لعدم ولاية الإمام في دار الحرب، فلا قدرة له على إقامة الحد.
  6. أن يكون مسلما أو ذميا.

بم يثبت حد الحرابة؟

يثبت حد الحرابة بأحد أمرين: الإقرار أو الشهادة.

خامسا. مسقطات حد الحرابة:

يسقط حد الحرابة بعدة أمور منها:

  • تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق.
  • رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق.
  • تكذيب المقطوع عليه البينة.
  • ملك القاطع الشيء المقطوع له، وهو المال قبل الترافع أو بعده عند الحنفية، خلافا لغيرهم.
  • توبة القاطع قبل قدرة السلطان عليه. لقوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)( (المائدة)، وهذا باتفاق الأئمة[7].

سادسا. عقوبة الحرابة ليست عقوبة قاسية، وهي تصلح للعالم المتحضر وغيره:

إن الأمن من الأمور التي ينشدها الناس وتسعى لها المجتمعات، وقد اهتم الإسلام بالمحافظة عليه بإقرار عقوبة صارمة لكل من يعتدي على أمن الناس، هذه العقوبة – حد الحرابة – جعلها الباري – سبحانه وتعالى – لكل من يستعمل القوة؛ ليعتدي على الآخرين بالنهب والسلب، أو بالاعتداء على الأرواح والأعراض، مما يعد خروجا على النظم والروابط الاجتماعية بقوة السلاح والغلبة. قال سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة).

 والواقع أن آية المحاربة هدفها الهيمنة على كل الجرائم التي تشكل خطورة على المجتمع، و الجرائم التي تجاوزت الاعتبارات العادية التي تنطلق منها الجريمة.

من خلال الآية حكم الله تعالى على الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ذلك الحكم، بحيث يضعهم تحت إحدى عقوبات أربع يأخذهم ولي الأمر بها – حسب أفعالهم التي تصدر منهم – بشرط أن يقعوا بأيدي المسلمين وهم في حال محاربة لهم، فإن هم تابوا قبل أن تتمكن يد المسلمين منهم خرجوا بهذا عن حكم المحاربين، ولم يقم عليهم حد الحرابة وهذا ما أشار إليه بقوله سبحانه وتعالى: )إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)( (المائدة).

والحرابة جريمة شنعاء على المجتمع تخل بنظامه، وتدل على الاستهانة بنظام الحكم وسلطة الدولة، كما هي اعتداء على الأخلاق بتقطيع أواصر المحبة وإشاعة الفساد في الأرض؛ فلذلك كانت عقوباتها من أقسى العقوبات في الشريعة الإسلامية. ويفضل الأستاذ عبد القادر عودة هذه العقوبات، وذلك على النحو الآتي:

عقوبات الحرابة:

  1. القتل:

لقد جعل الله عقوبة القتل لقطاع الطرق حدا لمن اعتدى منهم على قتل معصوم الدم – هذه العقوبة الأولى – وتجب هذه العقوبة على المحارب إذا قتل، وهي حد لا قصاص بمعنى أنها لا تسقط بعفو المجني عليه.

ووضعت الشريعة الإسلامية هذه العقوبة على أساس من العلم بطبيعة الإنسان البشرية. فالقاتل تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء بقتل غيره ليبقى هو، فإذا علم أنه حين يقتل غيره إنما يقتل نفسه أيضا امتنع في الغالب عن القتل؛ فالشريعة بتقريرها عقوبة القتل دفعت العوامل النفسية الداعية للقتل بالعوامل النفسية المضادة التي يمكن أن تمنع من ارتكاب الجريمة، بحيث إذا فكر الإنسان في قتل غيره ذكر أنه سيعاقب على فعله بالقتل؛ فكان في ذلك ما يصرفه غالبا عن الجريمة، بخلاف القانون الوضعي الذي لم يشرع القتل في هذا المجال لهذا الهدف النبيل، وإنما للحفاظ على دستور الدولة ونظامها العام؛ إذ إن هذا العمل الإجرامي اختراق للنظام الدولي العام.

   2- القتل مع الصلب:

تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال؛ فهي عقوبة على القتل والسرقة معا؛ أو هي عقوبة على جريمتين كلاهما اقترنت بالأخرى، أو ارتكبت إحداهما، وهي القتل، لتسهيل الأخرى، وهي أخذ المال.

والعقوبة حد لا قصاص؛ فلا تسقط بعفو المجني عليه، وقد وضعت العقوبة على نفس الأساس الذي وضعت عليه عقوبة القتل، لكن لما كان الحصول على المال هنا يشجع بطبيعة الحال على ارتكاب الجريمة وجب أن تغلظ العقوبة، بحيث إذا فكر الجاني في الجريمة، وذكر العقوبة المغلظة، وجد فيها ما يصرفه عن الجريمة المزدوجة.

وقد أحسنت الشريعة الإسلامية في التفريق بين عقاب القتل وحده، والقتل المقترن بأخذ المال؛ لأن الجريمتين مختلفتان، وكلاهما لا تساوي الأخرى فوجب من ناحية المنطق والعقل أن تختلف عقوبة إحداهما عن الأخرى، وقد يقال: إنه لا فائدة لأي عقوبة أخرى مع عقوبة القتل خصوصا وأن الصلب مع القتل ليس إلا القتل مصحوبا بالتهويل؛ فالصلب زيادة لا فائدة منها.

والرد على ذلك من أهون الأمور، فلكل عقوبة غرضان؛ وهما تأديب الجاني وزجر غيره، وإذا كان كل تأديب لغوا بعد عقوبة القتل فكل عقوبة أخرى مهما صغرت لها أثرها في الزجر إذا صحبت عقوبة القتل، والصلب حقيقة لا يؤثر على المحكوم عليه خصوصا إذا كان الصلب بعد الموت، ولكن أثر الصلب على الجمهور شديد، بل قد يكون هو الشيء الوحيد الذي يجعل لعقوبة القتل قيمتها بين الجمهور عامة وبين قطاع الطرق خاصة. فالصلب له أثره الذي لا ينكر في زجر الغير وكفه عن الجريمة.

    3- القطع:

تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخذ المال ولم يقتل، والمقصود بالقطع قطع يد المجرم اليمنى ورجله اليسرى دفعة واحدة، أي قطع يده ورجله من خلاف.

وقد وضعت هذه العقوبة على الأساس نفسه الذي وضعت عليه عقوبة السرقة، وهو دراسة نفسية الإنسان وعقليته، فهي إذن عقوبة ملائمة للأفراد، وفي الوقت ذاته صالحة للجماهير؛ لأنها تؤدي إلى تقليل الجرائم وتأمين المجتمع، وما دامت العقوبة ملائمة للفرد وصالحة للجماعة، فهي أفضل العقوبات وأعدلها، إلا أنه كلما كانت الجريمة ترتكب عادة في الطريق وبعيدا عن العمران كان قاطع الطريق في أغلب الأمر على ثقة من النجاح، وفي أمن من المطاردة.

وهذا مما يقوي العوامل النفسية الداعية للجريمة، ويرجحها على العوامل الصارفة التي تبعثها في النفس عقوبة السرقة العادية؛ فوجب من أجل ذلك تغليظ العقوبة حتى تتعادل العوامل النفسية التي تصرف عن الجريمة مع العوامل النفسية التي تدعو إليها. وإذا كانت الشريعة تضاعف العقوبة المقررة للسرقة العادية وتجعلها عقوبة لقاطع الطريق فإن القانون يجعلها خمسة أمثال العقوبة المقررة للسرقة العادية على الأقل.

فالقانون يعاقب على السرقة المصحوبة بظروف بسيطة بالحبس لمدة ثلاث سنوات، ويعاقب على السرقة التي تقع في الطرقات العمومية بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة حدها خمسة عشر عاما، فهي خمسة أمثال عقوبة الحبس من حيث عدد السنوات.

وسنرى فيما بعد أن حوالي نصف المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يعودون إلى ارتكاب الجرائم في ظرف سنة من تاريخ الإفراج عنهم، وأنهم يخرجون من السجن وهم أشد ميلا للإجرام وأكثر حذقا له، وأنهم يصبحون بعد خروجهم خطرا يهدد الأمن والنظام، ومن السهل أن يصدق كل إنسان هذا القول ويؤمن به.

ولكن هل يستطيع أحد – مهما بعد به الخيال – أن يصدق أن رجلا مقطوع اليد والرجل يصلح لارتكاب الجرائم، أو يدفعه شيء للإجرام، أو يستطيع أن يصبح خطرا على الأمن والنظام؟

والغرابة ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا ترتقي إلى ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية في عصرنا الحاضر، وكأن على الإنسانية والمدنية أن تقابل قاطع الطريق بالمكافأة على جريمته، وأن تشجعه على السير في غوايته، وأن نعيش نحن في خوف واضطراب!

ثم نعجب مرة ثانية ممن يقولون: إن عقوبة القطع لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية، وكأن على الإنسانية والمدنية أن تنكر العلم الحديث والمنطق الدقيق، وأن تنسى طبائع البشر، وتتجاهل تجارب الأمم، وأن نلغي عقولنا ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا؛ لنأخذ بما يقوله قائل فلا يجد عليه دليلا إلا التهويل والتضليل.

وإذا كانت العقوبة الصالحة حقا هي التي تتفق مع المدنية والإنسانية، فإن عقوبة الحبس قد حق عليها الإلغاء وعقوبة القطع قد كتب له البقاء؛ لأن الأخيرة تقوم على أساس متين من علم النفس وطبائع البشر وتجارب الأمم ومنطق العقول والأشياء، وهي نفس الأسس التي تقوم عليها المدنية والإنسانية.

أما عقوبة الحبس؛ فلا تقوم على أساس من العلم والتجربة، ولا تتفق مع منطق العقول ولا طبائع البشر، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوباتها لمحاربة الجريمة والإجرام فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة وتفوقها على القوانين الوضعية.

وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء، وإنما العبرة في هذا الأمر ليس الوسائل أو الغايات، وإنما العبرة بكفاية الوسائل لإدراك ما وضعت له من غايات، والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت إلى محاربة الإجرام والجريمة، ووضعت عقوبات معينة لهذا الغرض ولكنها فشلت في القضاء على الإجرام.

والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية، ولا عبرة بالمنطق المزور الذي يصلح مرة ويخيب أخرى، ولسنا نأتي بجديد حينما نقول هذا وإنما نكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي؛ حيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عمليا إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة، وأن التجارب وحدها الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود، ولقد أبرزت التجارب الحديثة أن أحسن الأنظمة الجنائية هو النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية وأثبت ذلك بالتجربة الكلية في المملكة العربية السعودية.

فقد بدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي أكثر من عشرين عاما حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقا تاما ونجحت نجاحا منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلا في الحجاز بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام؛ فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حضر في نهار أو ليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عليهم وعنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم.

وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية، فانقلبت الحال بين يوم وليلة وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عهد الخطف والنهب والسلب وقطع الطريق، وأصبحت الجرائم القديمة أخبارا تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها، وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع الأخبار عن الحجاز، أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام فلا يكاد يذهب إلى دار لشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضا للتعرف عليه، وهذا ترك عصاه في الطريق فتتوقف حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها، وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها ولكنه يجد الشرطة تبحث عنه لترد إليه ما فقد منه، وبعد أن كان الأمن تعجز عن حفظه قوات عسكرية من الداخل وقوات عسكرية من الخارج أصبح الأمن محفوظا بحفنة من الشرطة المحليين.

تلك هي التجربة، وكفى بها دليلا على أن النظام الجنائي في الإسلام يؤدي إلى قطع دابر الجريمة، وأنه النظام الذي يبحث عنه اتحاد القانون الدولي.

    4- النفي:

تجب هذه العقوبة على قاطع الطريق إذا أخاف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل. وتعليل هذه العقوبة أن قاطع الطريق الذي يخيف الناس ولا يأخذ منهم مالا ولا يقتل منهم أحدا إنما يقصد الشهرة وبعد الصيت؛ فعوقب بالنفي وهو يؤدي إلى الخمول وانقطاع الذكر، وقد تكون العلة أنه بتخويف الناس نفي الأمن عنه في كل الأرض. وسواء صحت هذه العلة أو تلك فالعوامل النفسية التي تدعو للجريمة في كل حال، قد دفعتها الشريعة بالعوامل النفسية الوحيدة المضادة التي تصرف عن الجريمة؛ فهو إذا فكر في الجريمة لتجلب له الشهرة ذكر العقوبة فعلم أنها تجر عليه الخمول، وهو إذا فكر في الجريمة ليخيف الناس وينفي الأمن عنهم في بعض الأرض ذكر العقوبة فعلم أنه سينفي عنه الأمن في كل الأرض، وحينئذ ترجح في أغلب الأحوال العوامل النفسية الصارفة عن الجريمة على العوامل النفسية الداعية إليها.

فأساس العقوبة هو العلم بطبيعة النفس البشرية، وعقوبة النفي تقابل عقوبة الإرسال إلى الإصلاحية التي عرفتها أخيرا القوانين الوضعية التي تقوم على حبس المحكوم عليه في مكان خاص مدة غير محدودة بشرط ألا يحبس أكثر من مدة معينة، وهذه العقوبة تطبيق لنظرية العقوبة غير المحددة وهي من أحدث نظريات العقاب في القوانين الوضعية. وإذا كانت القوانين الوضعية لم تعرف نظرية العقوبة غير المحددة إلا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فإن الشريعة الإسلامية قد عرفت هذه النظرية وطبقتها منذ أربعة عشر قرنا، وتلكم عقوبة النفي هي الشاهد على ذلك فمن كان يظن أن القوانين الوضعية حين أخذت بهذه النظرية قد جاءت بشيء جديد فليعلم أنها لم تجيء إلا بأقدم النظريات في الشريعة الإسلامية.

لهذا فإن الشريعة الإسلامية تشدد العقوبة على هذه العصابات أكثر مما تشدد على جرائم الأفراد؛ لأن الفرد الذي يرتكب جريمة بمفرده أقل خطرا على أمن الجماعة وسلامتها من الذين يجتمعون للشر ويتفقون فيه، فهم لكونهم جماعة قادرون على تنظيم أنفسهم، بحيث يرتكبون أكبر قدر من الشر دون أن ينالهم أذى كبير، فلا بد أن تكون العقوبة من جانب الشريعة الإسلامية عنيفة قاسية ليرتدع من لا ضمير له من المجرمين.

لكن بعض الناقدين الذين يحاولون أن يتظاهروا أمام المجتمع بأنهم حريصون على رضائه ورغد عيشه وشفقتهم على أفراده يستبشعون هذه العقوبة، ويعدونها همجية بربرية للعالم المتحضر في القرن العشرين، ونقول لهم: إنه لا يوجد نظام على ظهر الأرض شرقها وغربها يصون كرامة الفرد وإنسانيته بقدر ما يصنع الإسلام، الذي يعتبر الاعتداء على حق الفرد أو الجماعة جريمة، وهو الذي يحافظ على حياة الإنسان؛ فيبيح له الإسلام حق مطالبة الجماعة بالضمانات التي تكفل له الحياة وله حق طلب معاقبتها إذا هي امتنعت، ولا يترك ذلك أماني في الضمير ولا دعاية شفهية، بل يجعله جزءا من التشريع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»[8].

وقال صلى الله عليه وسلم: «على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد، قال: “يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق”. قالوا: فإن لم يجد، قال: “يعين ذا الحاجة الملهوف”، قالوا: فإن لم يجد، قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة»[9].

إلا أن هذا التكريم لا يكون إلا للفرد المعصوم المستقيم الذي يحافظ على أمن الجماعة وسلامتها، أما من يعتدي على الناس، ويخل بالأمن ويحدث الفوضى، فهذا يجازى بعقوبة رادعة مساوية للجريمة التي ارتكبها، ومن كان يظن أن عقوبات الشريعة لا تصلح للعصر الحديث فلعله يستبين مما تقدم ومما سيأتي أن عقوبات الشريعة ألزم الأشياء لهذا العصر الحديث”[10].

وحين قررت الشريعة الإسلامية عقوبة قطع الطريق لم تكن قاسية، وهي الدستور الوحيد في العالم الذي لا يعرف القسوة.

والواقع شاهد؛ فالإسلام حكم العالم ألف سنة، وما كانت تعرف الجرائم إلا نادرا، فلما أبعد الإسلام عن ميدان الحياة وعن سياسة الدولة أصبح العالم – كما نرى – يعاني جرائم متنوعة وخوف واضطراب وقلق وهموم، ولن يعود للعالم أمنه واستقراره إلا إذا كانت السلطة والحكم للإسلام.

ولا يستقيم أمر العالم إلا إذا كان التشريع والنظام للإسلام، ولن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فالواجب على العالم الإسلامي أن يعود إلى الله، وإلا ستتحول الحال من سوء إلى أسوأ ومن تقهقر شنيع إلى أشنع، وليتأكد أنه لن ينعم العالم بالأمن والاستقرار مالم تتداركه رحمة الله وتوفيق قادته لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة حدودها.

ولعل الاستهجان الحاصل تجاه نظام العقوبات في الشريعة الإسلامية، والخشية المستشعرة حيال قسوة منظومة الحدود في الإسلام، تعود لدى بعض هؤلاء إلى طبيعة التجارب غير الموفقة والمحاولات المجتزأة المبتسرة لتطبيق الشريعة التي حاولها بعض الحكام – في الفترة المعاصرة – لا لابتغاء وجه الله، وإنما لغرض آخر في الغالب فهم لم يهيئوا الظروف ويكيفوا الأحوال ويوفروا الشروط اللازمة للتطبيق، وإنما سارعوا – بين عشية وضحاها – إلى القطع والجلد والرجم بشكل طفولي أساء للتجربة ولمرجعيتها أكثر مما أحسن.

في هذا السياق يقول د. أحمد شوقي الفنجري: تحت عنوان “الحدود والعقوبات في الإسلام هل تتناسب مع عصرنا الحاضر؟”: “أصدرت منظمة العفو الدولية نداء إلى الدول الإسلامية التي طبقت نظام العقوبات الإسلامية في بلادها تحارب فيه هذا النظام، وتطالب بإيقافه، كما طالبت أطباء تلك البلاد بالامتناع عن المشاركة في عمليات قطع الأيدي، والأرجل، باعتبار أن ذلك مخالف للقسم الطبي الذي يقسمونه”.

وإلى جانب ذلك فهناك كثير من المفكرين في أوربا، وفي العالم الإسلامي يرون أن نظام العقوبات في الإسلام بالغ القسوة والشدة، وأنه غير عملي لعصرنا الحاضر.

ويقول هؤلاء: إن العالم المتحضر يتجه اليوم إلى إلغاء أي نوع من العقوبات البدنية. بل هناك دول تمنع حتى الضرب في السجون. وإن العلم الحديث ينظر إلى اللص على أنه أحد شخصين؛ إما محتاج واضطرته الحاجة إلى السرقة، وهذا النوع في الواقع ضحية إهمال المجتمع، وعلاجه أن يتعلم حرفة أو صنعة في مدة سجنه تعينه بعد قضاء عقوبته. وإما منحرف لأسباب نفسية ومرضية أهمها تعاطي المسكرات والمخدرات، وهذا يحتاج إلى التوعية والعلاج النفسي والطبي. وبهذا يمكن أن يتحول اللص إلى مواطن صالح وتغفر له أخطاؤه. أما إذا قطعنا يده، فإن في هذا القضاء التام على كل أمل له في الصلاح، والحياة الشريفة.

ويهمنا هنا أن نناقش هذه الآراء بمنطق هادئ وبالحجة العلمية والعملية، والواقع أن أصحاب هذا الاعتراض معهم كل العذر؛ لأنهم ينظرون إلى هذا التطبيق السيئ والمشين، الذي تنفذ به بعض الدول الإسلامية حدود الله. فبعض الحكام العرب كان يستغل الدين لأغراضه السياسية، ولكسب أصوات بعض الأحزاب، وليس إرضاء لوجه الله تعالى.

فأصدر بين يوم وليلة قوانين غير مدروسة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأخذ يصدر أحكاما بالرجم والجلد وقطع الأيدي والأرجل على فقراء الأمة والمستضعفين الذين تضطرهم الحاجة إلى الانحراف. وما أن انتهت فترة حكمه حتى بلغت نسبة المعوقين في الأمة قدرا مذهلا. وهذا قطعا ضد الإسلام ولا يرضى به الله ورسوله.

فما هو التطبيق السليم؟

لكي نفهم روح الإسلام، وحكمته في الحدود، فلا بد أن نعلم شروط الحد، فالحدود هي آخر ما يطبق من نظام الحكم بالإسلام، ولا يجوز البداية بها، لا بد من إقامة مجتمع إسلامي مثالي أولا. ربما يرد التساؤل هنا: هل هذا ممكن إلى هذه الدرجة؟ أقصد هل من الضروري الانتظار حتى يتحقق ما اشترطه د. الفنجري من وصول المجتمع الإسلامي إلى درجة المثالية؟ إن أمكنت في الواقع، أم مطلوب درجة معقولة من الحرية السياسية والكفاية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؟ بحيث يكون متكاملا من النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

أما أن تطبق الحدود ويهمل كل ما سوى ذلك من أركان الإسلام ونظامه فمعناه هدم للإسلام، وإساءة بالغة إليه وفشل وخزي في الدنيا والآخرة، وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب( (البقرة:85).

والحكمة في ذلك أن نظام الحكم في الإسلام أشبه بالميزان الدقيق الحساس؛ ففي إحدى كفتيه توضع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها كل فرد في الرعية. وفي الكفة الأخرى توضع الواجبات والحدود التي تنطبق على أي فرد منهم.

وبقدر ما نجد الإسلام شديد السخاء فيما يعطيه من حقوق وامتيازات لأبنائه فهو بالتالي يطلب منهم أعظم التضحيات وأقصى الجهد، ويوقع على المذنب منهم أشد العقاب، ومن قوانين الطبيعة والعلم أنه لا يمكن أبدا لأي ميزان أن يعمل بكفة واحدة، وإلا اختل وتحطم.

من هنا نجد أن الإسلام يرفض بكل شدة أن يطبق منه جزء ويترك جزء آخر، ويعد من يفعل ذلك بالويل والعذاب.

وقد وضع الإسلام شروطا لإقامة المجتمع الإسلامي تسبق تطبيق العقوبات. وهذه الشروط هي:

  1. أن يطبق ركن الشورى، فلا يجوز للحاكم أن ينفذ النظام الذي يحاسب الناس ويسقط أو يهمل النظام الذي يحاسبه شخصيا، إذا أهمل في إيصال الحقوق إلى الرعية؛ فالحكم السليم هو الصمام الأول لمنع كل أنواع الجرائم والانحرافات، ويحضرنا هنا قول عمر بن الخطاب حين سأل أحد ولاته: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ فقال الوالي: أقطع يده، فرده عليه عمر قائلا: إذا فلتعلم أنه إذا جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك يا هذا. إن الله تعالى قد كرمنا بهذه الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد لها في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا. فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية، ثم وجه الخطاب إلى سائر الولاة قالا: “إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطينا هذه النعمة تقاضيناهم شاكرين”. وهذا هو المفهوم الصحيح الحق لشريعة الله وحدوده.
  2. إصلاح الاقتصاد ورفع مستوى الدخل وإيجاد عمل لكل فرد في الرعية. بحيث نصل بالمجتمع إلى حد الكفاية أو ما يعرفه الفقهاء بحد الغنى ومعناه أن يكون لكل فرد مسكن يحميه من البرد والمطر ومن الشمس والحر، وأن تكون له الكفاية في مأكله وملبسه وعلاجه.

ولا يضطر أحد إلى السرقة بسبب الفقر والجوع، ولا يضطر شاب إلى الزنا بسبب عدم مقدرته على الزواج، ولا تضطر امرأة إلى الانحراف لكي تعول نفسها وأسرتها.

وفي عام الرمادة أوقف عمر تنفيذ حد السرقة؛ لأن أحد الشروط الرئيسية لم يكن متوفرا. وهو حد الكفاية بسبب ظهور المجاعة. والعالم الإسلامي اليوم يمر بما يشبه عام الرمادة. ولكنها مجاعة لم تنجم عن القحط، وقلة الموارد، بل بسبب سوء الإدارة والتسيب، والانحراف في أجهزة الحكم، وبسبب سوء توزيع الثروة والدخل، وإهمال المشروعات النافعة للأمة.

     3- إقامة المجتمع الإسلامي النظيف المثالي الخالي من كل مسببات الانحراف كالخمور، والمخدرات، وبؤر الفساد، والفتنة، والإثارة الجنسية، بحيث لا يضطر أحد إلى السكر أو المخدرات؛ لأنه لن يجدها في المجتمع كله. ولن يجد من يتاجر في هذه السموم أو يغريه بها.

     4- التربية الدينية منذ الصغر، فهي التي تعصم الشباب من الزلل.

     5- شغل أوقات الفراغ بالجهاد في سبيل الله عن طريق عمل الخير وخدمة المجتمع إلى جانب التربية الرياضية والفنية.

خلاصة القول أن نظام العقوبات في الإسلام لا يجوز تطبيقه إلا في مجتمع إسلامي مثالي متكامل، وهذا هو ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد أمضى ثلاثة عشر عاما يبني المجتمع الإسلامي السليم، ثم لم يبدأ في تطبيق العقوبات إلا في أواخر دعوته وحكمه، وبعد أن أقام هذا المجتمع.

والآن قد يقول قائل: إن معنى ذلك أنه إذا قام حكم إسلامي في أي دولة فلن يستطيع تطبيق العقوبات إلا بعد عمر طويل حتى يحقق كل هذه الإصلاحات، ونقول لهؤلاء: علام الاستعجال؟ لقد عاش العالم الإسلامي مئات السنين والعقوبات موقوفة، فماذا يضيرنا أن نوقفها لسنوات أخرى، ولو كانت عشر سنين، إلى أن يتم إصلاح المجتمع ونعمل بهمة في هذه الأثناء على إنجاز هذه الإصلاحات، فهذا الانتظار خير ألف مرة من ظلم مسلم واحد أو قطع طرف من جسمه في جرم اضطرته ظروف المجتمع إلى ارتكابه.

ومع ذلك، فلنا هنا استثناء من هذه القاعدة يجب أن يوضع في الحسبان، وهو الجرائم العامة التي تتعلق بالأمن العام للرعية وسلامة المجتمع؛ فمثل هذه الجرائم يجب أن تطبق فيها الحدود الإسلامية فورا ودون تردد أو انتظار، وذلك لأن مرتكبيها ليس لهم أي عذر أو حاجة أو اضطرار لارتكابها. إنما هم قوم استهانوا بالقوانين الوضعية، ووجدوا فيها من اللين والضعف ما يشجعهم على تحدي أمن المجتمع، ومن أهم هذه الجرائم هتك العرض بالسلاح – بالعنف – وتجارة المخدرات، والرشوة، واختلاس الأموال العامة. ومن كثرة ما روع هؤلاء المجرمون العتاة أمن المجتمع وخربوا اقتصاده، أصبح المجتمع الإسلامي كله يطالب من الآن بتطبيق الحدود الإسلامية عليهم فهي وحدها الكفيلة بردعهم.

لقد كثرت حوادث اغتصاب النساء البريئات في الطريق، وتكررت بصورة بشعة تهدد أمن كل أسرة مسلمة، حيث يجتمع جماعة من الشبان العاطلين ويتناولون الخمر أو المخدرات، وقد يشاهدون فيلما من أفلام الجنس، ثم يخرجون في حالة هياج، وكأنهم قطيع من الذئاب الكاسرة، يتخطفون أية امرأة، ولو كانت تسير مع زوجها أو أخيها أو أبيها، ثم يتناوبون على اغتصابها، وقد صرخ الرأي العام مطالبا لهم بأشد العقوبات، وفعلا كان يتم إعدامهم جميعا تقريبا، ومع ذلك فقد كانت وما تزال حوادث الاغتصاب تتكرر، والسبب في ذلك أن الذي يتم إعدامه إنما نفعل به ذلك في غرفة مغلقة، فلا يدري به أحد ولا تتم الموعظة المطلوبة.

ومن هنا كانت المطالبة بأن يتم الإعدام علنا، ويعرض على الناس. ونحن نرى أن العقوبة الإسلامية في مثل هذه الحالة قد تكون حد المحاربة – أي قطع الطريق – الحرابة، وهي تنص على أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وبذلك يظل هؤلاء مثلا حيا وعبرة لغيرهم، ودرسا حيا لا ينساه أحد، أما موتهم في الخفاء فلن تكون فيه موعظة لأحد، ومن هذه الأمثلة أيضا تجار المخدرات الذين يقدمون هذه السموم لضحاياهم طمعا في الثراء والغنى على حساب خراب الأمة.

لقد عجز القانون الوضعي عن ردعهم، وأصبحوا كلما قضوا فترة العقوبة في السجن يعودون منه أقوى مما كانوا، بل إن معظمهم يسير أموره ويواصل تجارته، وهو داخل السجن. وقد طالب الشعب لهم بالإعدام دون جدوى، والحل الإسلامي هو تطبيق عقوبة بائع الخمر وصانعها، وهي الجلد علنا، وفي جمع من الناس، منهم أهله وجيرانه، فإذا عاود تكون عقوبته القتل.

ومن هذه الأمثلة أيضا جريمة اختلاس أموال الدولة وجريمة الرشوة، فهذه الجرائم التي كثرت بسبب استهتار هؤلاء القوم بالعقوبات الوضعية، يجب أن يطبق عليهم حد السرقة، وهو القطع؛ لأن الاختلاس والرشوة من أخطر أنواع السرقة لأموال الرعية.

كانت هذه أمثلة من عقوبات يمكن أن يبدأ الحاكم بها، إذا أراد تطبيق الشريعة منذ بداية حكمه؛ وذلك لأنها تتعلق بجرائم كبيرة تمس الأمن العام واستقرار الحكم.

فهل العقوبات الإسلامية قاسية، ولا تناسب العصر؟!

ننتقل الآن من الجو الملائم لتطبيق الحد، إلى ما جاء في بيان منظمة العفو الدولية، والذي تقول فيه: “إن العقوبات البدنية التي جاء بها الإسلام تعتبر في نظر العالم المتحضر قاسية”.

ونرد على ذلك بأنها تعتبر قاسية فعلا لو طبقت في مجتمع غربي أوربي، ولكنها ليست قاسية لو طبقت في مجتمع إسلامي، لماذا؟!

في المجتمع الأوربي يسمحون بكل عناصر الفساد والانحراف؛ فالخمارات ودور الدعارة، والإغراء الجنسي ترخص بالقانون، ولكن إذا سكر أحدهم، وخرج عن وعيه، فقتل أو سرق، فإنهم يعاقبونه بالسجن، وهذا نوع من التناقض الغريب، والظلم لهؤلاء الضعفاء، تبيع لهم الخمر، وتغريهم بشربها، ثم تعاقبهم إذا لعبت الخمر بعقولهم، وتفتح لهم دور الفساد، والإغراء الجنسي، ثم تعاقبهم إذا خرجوا يغتصبون الفتيات في الطريق!! وتقدم لهم الأفلام البوليسية التي تمجد السرقة، والسطو على البنوك؛ ثم تعاقبهم إذا قلدوها ولو من باب المغامرة!!

فهذا النوع من مسببات الانحراف غير موجود في المجتمع الإسلامي بهذا المستوى الفاحش، في ظل دولة الإسلام – كما نتوقع – ومن هنا فلا عذر لمن ينحرف بعد ذلك؛ لذا يجب أن يكون العقاب رادعا وصارما.

والإسلام دقيق كل الدقة، حريص كل الحرص في تطبيق العقوبات، فلكل عقوبة شروطها، التي بغير توافرها لا يمكن إقامة الحد.

والحدود في الإسلام، إذا طبقت في مناخ إسلامي، وبالشروط الإسلامية فليس فيها أي إجحاف، بل هي القصاص العادل الذي لا بد منه لمن ينحرف بعد كل ما يقدمه له الإسلام من كفالات للحياة الشريفة المستقيمة.

ويكفي دليلا على ذلك أن عقوبة قطع اليد لم تنفذ في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – غير مرة واحدة، وعهد الخلفاء الراشدين – جميعهم – لم يشهد سوى بضع مرات، تعد على الأصابع؛ مما يدل على أن العقوبة، إذا طبقت في مناخ إسلامي، فلن تكون هناك حادثة واحدة نحتاج إلى استعمالها فيها.

ويحضرنا هنا مثال بسيط: عندما أصدر الاتحاد السوفيتي – السابق – قرارا بعقوبة الإعدام للمرتشي، وبعدها تقابل الزعيم الأمريكي بالزعيم السوفيتي، قال له: “إن هذه العقوبة القاسية تدل على أن الإنسانية عندكم لا قيمة لها”. فقال له الزعيم الروسي: “حقيقة إنها عقوبة قاسية، ولكن منذ أصدرناها، لم تحدث لدينا حادثة رشوة واحدة، ولم نحتج إلى تطبيقها”[11].

وفي الموضوع ذاته يقول سعيد حوى مركزا على توازن السياسة الجزائية في الإسلام، وفعاليتها الحقة – مما يمنحها الصلاحية للتطبيق، بغض النظر عن الزمان والمكان – ردا على من يزعمون أنها ليست عصرية، وليست ملائمة لهذا الزمان: “نظام العقوبات في الإسلام: ليس إلا حلقة من حلقات النظام الإسلامي المتكامل الذي أنزله الله – سبحانه وتعالى – على رسوله الأمين محمد – صلى الله عليه وسلم – ليكون للبشرية – منهاجا وسبيلا تسلكه لتصل به إلى خيرها وسعادتها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وتستطيع أن تؤدي الرسالة التي خلقها الله لأجلها على الوجه الأتم الأكمل.

ولما كان النظام الإسلامي منزلا ليوضع موضع التنفيذ، ولما كان مجال تنفيذه ذلك الإنسان الذي قد يضعف أمام شهوته، وحبه لها، ويطغى بذلك على حقوق غيره، ويهدد مصالح المجتمع؛ لذلك كان لا بد من وسيلة رادعة توقفه عند حده، فلا يتجاوز حقوقه إلى حقوق غيره، وكانت هذه الوسيلة هي العقوبة، لكن النظام الإسلامي لم يلجأ إلى العقوبة إلا كسلاح أخير لا بد منه، وذلك عندما تفشل كافة الروادع الأخرى في منع الفرد من تجاوز حده.

فقد اعتنى الإسلام بإصلاح نفس الإنسان، وبإعمار قلبه بخشية الله، وبإشعاره بمسئوليته يوم القيامة، وبأن ينشئ فيه الميل إلى طاعة الله، والرسول التي هي أول مقتضيات الإيمان، ثم نبهه إلى ما في ارتكاب الأفعال المحرمة، وإلى الأضرار التي تلحق به، وبإخوانه نتيجة لها، ثم – من جهة أخرى – وفر له بنظامه المتكامل المتماسك سبيل الابتعاد عن المحرمات؛ حتى لا يكون هناك مجال لشيء من الأضرار، والحاجة إلى ارتكاب هذه الأفعال.

وهكذا أصبح من الحق والعدل إيقاع العقاب بهذا الذي تخطى كافة الحدود والسدود، وأوغل في الخضوع لرغباته وشهواته وعواطفه؛ فأدى به إلى هذا الخروج على نظام الجماعة، وهدد بذلك مصالح المجموع.

وللإسلام في الجريمة والعقاب رأي ينفرد به بين كل نظم الأرض، ويمسك فيه بميزان العدالة المطلقة، بقدر ما يمكن أن تتحقق في دنيا البشر؛ فلا يسرف في تقديس حقوق الجماعة، ولا يسرف في تقديس حقوق الفرد، وذلك تبعا لنظريته المتوازنة التي ينظر بها إلى الناس، والتي تهدف إلى تحقيق مصلحة الفرد والجماعة معا فهو يحرص أشد الحرص على أمن الجماعة ونظامها وسلامتها؛ لأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يكفل لجميع الأفراد أكبر قسط من السعادة، باعتبار أن الجماعة هي مجموع الأفراد، وهو في ذات الوقت يحفظ للفرد حريته وكرامته وإنسانيته.

لذلك نرى جميع الجرائم التي حرمها الإسلام هي:مجرد أفعال تفسد أمن المجتمع، وتؤدي – لو تركت وشأنها – إلى اضطراب الأمور وإشاعة الفوضى، والقلق في النفوس، وبالتالي تؤدي إلى دمار المجتمع” [12].

وحول الفكرة نفسها – عصرية الحدود الشرعية، ومنها الحرابة من عدمهاـ يقول الشيخ محمد الغزالي: “إن الحدود حق، وإقامتها – بصورتها الشرعية – مطلوبة إلى آخر الدهر، وما يقال عن قسوتها ضرب من الهراء، ونحن نستبين ذلك كل الاستبانة، عندما نتوسم أحوال المجتمعات التي أنكرتها، أو تركتها.

يقول الصحفي أنيس منصور: “إذا سرت في شوارع أمريكا؛ فلا تحمل فلوسا كثيرة؛ فقد يستوقفك أحد الزنوج، وفي يده سكين، وإذا ذهبت إلى محل لشراء شيء فلا تخرج من جيبك مالا كثيرا؛ للسبب نفسه. إن الأمريكيين يتعاملون بالبطاقات المالية، ودفاتر الشيكات، ولا يحملون مالا. وفي الفنادق يطلبون منك أن تضع فلوسك عندهم؛ وإلا فأنت المسئول إذا سرقت أموالك، أو أشياؤك الثمينة، وقد تجد مكتوبا على باب الحمام: أغلق عليك الحمام من الداخل، وإذا هاجمك أحد؛ فاطلب رقم كذا… بسرعة.

وهم ينصحونك ألا تمشي وحدك في الشوارع، فإذا اضطررت إلى ذلك؛ فكن متجهما بادي القوة، حتى لا يظن بك الخوف، قال: “ونزلت أمشي وحدي قريبا من البيت الأبيض، وكان الشارع خاليا تماما من المارين، وفجأة وجدت رجلا يتوكأ على عصاه استوقفني، وسألني: كم الساعة؟ فتوقفت أنظر في ساعتي، فإذا هو يخرج سكينا من بين ملابسه؛ فأعطيته الساعة! ونظرت، فإذا هو يزيح القناع عن وجهه فيبدو شابا صغيرا! لم يكن شيخا ولا زنجيا؛ فضحك وضحكت.

وبينما أنا أنظر إلى الشاب، إذ قفز إلى جواري شاب آخر، فرفعت يدي إلى أعلى، مظهرا أنه ليس معي شيء، فأشار إليه اللص الأول من بعيد، فتركني. وعرفت أن الزنوج ليسوا وحدهم قطاع الطرق في أمريكا.

لقد فقد هذا السائح المصري ساعته؛ لأنه سار وحده؛ فالأمن مفقود في العاصمة الكبيرة، لا أرتاب أن الساري لو كان أنثى؛ لفقدت مالها، وعرضها جميعا، وإذا قاومت مغتصبها فقدت حياتها، وقد يكون القتيل رب أسرة ولا يعود إليها.. وعجبت لعمى القانون عندما قرأت أن لصا أطلق النار على جندي كان يطارده، ثم قبض بعد ذلك على اللص، وأودع السجن، وقضي الأمر. ماذا حدث؟!! إن عقوبة الإعدام ملغاة؛ لأن القصاص وحشية!!

لقد قلت في مكان آخر: إن رب الحياة الخبير بدروبها ومتاهاتها، وضع رسما لمعالم الطريق إذا التزمه الأحياء لن يضلوا، فما معنى الإعراض عنه؟!! إن المصنع الذي أخرج الآلة وضع تعليمات بطريقة استخدامها، فلماذا نرفض هذه التعليمات؟![13]

الخلاصة:

  • الحرابة: خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام؛ لإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل – أو فرد قوي قادر على ذلك – متحدية بذلك الدين، والأخلاق، والنظام، والقانون.
  • وتدخل في هذا المفهوم العصابات بشتى أنواعها، وجزاؤها القتل، أو القتل مع الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي.
  • والحكمة من تغليظ العقوبة هي: تأمين الناس على حياتهم وأموالهم وأعراضهم في حلهم وترحالهم؛ ليسود الأمان ويقمع المتجرءون.
  • وهذا ما تنشده كل المجتمعات في كل عصر ومصر، فليس منطقيا، ولا واقعيا: الزعم بأن حد الحرابة لا يناسب العصر والزمان، والعبرة ليست بظاهر العقوبة وإنما بالنتائج المتحققة على الأرض؛ وفعالية الحدود الشرعية – لا القوانين الوضعية – ثابتة متحققة في كل محاولة لتطبيقها، شريطة أن تتوفر للتجربة عوامل النجاح: من توافر الظروف الملائمة مجتمعيا، ومن درء الحدود بالشبهات، وما إلى ذلك…، بمعنى توفير المناخ الإسلامي الملائم للتطبيق.
  • رب الحياة هو الخبير بدروبها، ومتاهاتها، وقد وضع رسما لمعالم الطريق، إذا التزمه الأحياء لم يضلوا، فما معنى الإعراض عنه؟!! إن المصنع الذي أخرج الآلة وضع تعليمات بطريقة استخدامها، فلماذا نرفض هذه التعليمات؟!! على حد تمثيل الشيخ الغزالي – رحمه الله.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م.

[1]. سمل العين: فقأها.

[2]. الحرة: أرض خارج المدينة سوداء الحجارة.

[3]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/1997م، ج2 ص252: 254.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: ) ومن أحياها ( (المائدة: ٣٢) (6480)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي: “من حمل علينا السلاح فليس منا” (291)، وفي مواضع أخرى.

[5]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص647.

[6]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج6، ص131.

[7]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج6، ص141.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (5673)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (182)، وفي مواضع أخرى بنحوه.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب على كل مسلم صدقة، فمن لم يجد فليعمل بالمعروف (1376)، وفي موضع آخر.

[10]. التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م، ج1، ص656 وما بعدها.

[11]. كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية، د. أحمد شوقي الفنجري، الهيئة العامة للكتاب، 1990م، ص63 وما بعدها.

[12]. الإسلام، سعيد حوى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 2004م، ج3، ص119 وما بعدها.

[13]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص252 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

 يزعم بعض المشككين أن حد الردة المقرر في الشريعة الإسلامية لا يتفق مع حرية الاعتقاد التي يتشدق بها المسلمون من خلال قوله سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين( (البقرة: ٢٥٦)، ويتساءلون: ألا يعد هذا إكراها على البقاء في الإسلام؟

وجوه إبطال الشبهة:

1)  حرية الاعتقاد أولى قواعد الحريات في الإسلام وأهمها.

2) معنى الردة وموجباتها والأضرار الناجمة عنها تقتضي بأن حد الردة ليس كبتا لحرية الاعتقاد، والمسألة ليست شخصية، بل هي مصير أمة ومستقبل دين.

3)  يختلف الحكم باختلاف الأحوال، فالكفر علة موجبة للقتل في حالة الردة، وليس علة له في حالة الكفر الأصلي.

4) وضع الإسلام مجموعة من الضوابط الدقيقة لإقامة حد الردة، وأعطى سلطة إقامة هذا الحد لولي أمر المسلمين – أو من ينوب عنه – دون غيره.

التفصيل:

أولا. حرية الاعتقاد أولى قواعد الحريات في الإسلام وأهمها:

في هذا المبدأ يتجلى تكريم الله تعالى للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه.

وهذه أخص خصائص الحرية الإنسانية؛ لأن التحرر الذي ننكره على الإنسان في زماننا هذا مذاهب متعسفة ونظم مذلة، لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله تعالى – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية، وما تملكه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها، فإما أن يعتنق مذهب الدولة وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب.

فإن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف “إنسان”، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء.

والإسلام ينادي بأن لا إكراه في الدين، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين، فلا يجوز إرغام أحد على ترك دينه، واعتناق دين آخر.

فحرية الإنسان في اختيار دينه هي أساس الاعتقاد، ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدا لا يقبل التأويل في قوله سبحانه وتعالى: )فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر( (الكهف: ٢٩). وقد أقر النبي – صلى الله عليه وسلم – الحرية الدينية في أول دستور للمدينة المنورة حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة.

فكان من سياسة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحسن تدبيره أن يبدأ هؤلاء اليهود بالمودة ويبسط لهم يد الأخوة، ويتفق معهم على التعاون؛ حتى تكون المدينة كلها صفا واحدا، فكتب – صلى الله عليه وسلم – معاهدة بين فيها حقوق المسلمين وواجباتهم، وحقوق اليهود وواجباتهم، وقد جاء في هذه المعاهدة: “وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”[1]. فهي تقرر حرية العقيدة في أسمى معانيها.

ومن منطلق الحرية الدينية التي يضمنها الإسلام للبشرية كلها كان إعطاء الخليفةالثاني “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه للمسيحيين – من سكان القدس – الأمان: “على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم، لا يضار أحد منهم، ولا يرغم بسلب دينه”.

ولقد كفل الإسلام أيضا حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعي بعيدا عن المهاترات أو السخرية من الآخرين، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: ١٢٥).

وعلى هذا الأساس من المبادئ السمحة ينبغي أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين، وقد وجه القرآن الكريم هذه الدعوة للحوار إلى أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).

ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة فلكل دينه الذي يقتنع به، وهذا ما عبرت عنه أيضا الآية الأخيرة من سورة الكافرون التي ضمت قوله – سبحانه وتعالى – للمشركين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: )لكم دينكم ولي دين (6)( (الكافرون).

وهنا نتساءل: هل حرية الرأي تعطي صاحبها في أي مجتمع إنساني حق الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه؟ وهل خيانة الوطن، أو التجسس لحساب أعدائه من الحرية؟ وهل إشاعة الفوضى في جنبات المجتمع الإسلامي والهزء بشعائره ومقدساته من الحرية؟!

لذا فإن قضية الارتداد تحتاج إلى إيضاح لنعرف أبعادها، فإن كتاب الله عز وجل – القرآن الكريم – ومنهاج نبيه – صلى الله عليه وسلم – يقرران مثلا أن الله واحد والآخرة حق، وأن القصاص حق، وأن الصيام حق…

ومعنى ذلك أن الذي يدخل الإسلام يرتضي كل هذه التعاليم وينفذها، فإذا جاء من يقول: أؤمن بالله وأرفض الإيمان بالآخرة، أو: أؤمن بهما وأرفض شريعة الصيام، وشريعة القصاص… وما أشبه ذلك، فهل يترك هذا الشخص ليعبث بدين الله – عز وجل – على هذا النحو؟

كلا وألف كلا…! فإما أن يثوب إلى رشده ويرجع إلى الجماعة، وإلا فالخلاص منه أمر لا بد منه حفاظا على الدين من عبثه، فلو أن إنسانا ثارت في صدره شبهة لوجب على الراسخين في العلم أن يزيلوها، ولو بقيت في نفسه هذه الشبهة فاعتزل بها ما أحس خطره أحد ولا خطورتها، أما أن تنبت في رأسه فكرة أن الرجل مثلا لا يجوز له أن يرأس البيت، ولا أن يضاعف له في الميراث، أو تنبت في رأسه فكرة أن نظام الربا يجب أن يسود ويمتد ويوجه الاقتصاد كله، ثم يتحول هذا الشخص إلى داعية لفكرته ويحاول تنفيذها بشتى الطرق، فذاك ما لا يمكن قبوله باسم الإسلام، وإقناع الإسلام بقبول هذا الوضع سفه، ومطالبته بتوفير حق الحياة والحركة لمن يريد نقض بنائه وتنكيس لوائه أمر عجيب، فلا يوجد في الدنيا مجتمع ينتحر بهذه الطريقة السقيمة.

فكان لا بد من وضع حد لهذا المستهتر في ظل تخبطه وقلقه النفسي، لذا فقد وضع الإسلام حد الردة لإزالة هذا التخبط الفكري، فما الردة؟ وما موجباتها؟

ثانيا. معنى الردة وموجباتها والأضرار الناجمة عنها تحتم بأن حد الردة ليس خروجا على حرية الاعتقاد:

الردة والارتداد: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردة تختص بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره كما ورد ذلك في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه( (المائدة: ٥٤)، وقوله سبحانه وتعالى: )ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر( (البقرة: ٢١٧)، وهو الرجوع من الإسلام إلى الكفر، وفي هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى: )فارتدا على آثارهما قصصا (64)( (الكهف)، يعني: موسى – عليه السلام – وفتاه، وقال سبحانه وتعالى: )ولا ترتدوا على أدباركم( (المائدة: ٢١)، يعني: إذا تحققتم أمرا وعرفتم خبرا فلا ترجعوا عنه؛ فالردة هي كفر المسلم، وقد عرفها الفقهاء: بأنها قطع الإسلام بنية الكفر، وقيل: المقصود من الارتداد ترك المسلم دينه الذي ارتضاه الله له، واعتناق دين آخر يتنافى مع نظام الإسلام[2].

و الردة تكون بصريح القول كقوله أكفر أو أشرك أو ألحد، أو بلفظ يقتضي الكفر، كجحده ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا، والقتل بغير حق، أو بفعل يستلزم الكفر التزاما بينا كإلقاء مصحف، أو جزء منه ولو آية في القذر، ولو كان المستقذر طاهرا شرعا كالبصاق ونحوه، وكل فعل يقصد به الاستخفاف بكلماته وشريعته، كمن استخف بآية من القرآن مجمع على ثبوتها، أو زاد فيه آية معتقدا أنها منه، أو استخف بسنة، كما لو قيل له: قلم أظافرك فقال: لا أفعل وإن كان سنة، وقصد الاستهتار بذلك، أو قال: لو أمرني الله ورسوله بكذا ما فعلته. إلى غير ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه.

فمن ارتد عن دين الإسلام بشيء مما تقدم بيانه أو بغيره مما تقرر في المبسوطات الفقهية وغيرها، استتيب وجوبا قبل قتله حدا بأن يؤمر بالشهادتين، فيأتي بهما مع ترتيبهما وموالاتهما، وإن كان مقرا بإحداهما مع الاعتراف بما أنكره، والعلة في وجوب الاستتابة قبل قتله أنه كان محترما بالإسلام.

ولكن ربما عرضت له شبهة، فيسعى في إزالتها؛ لأن الغالب أن الردة تكون عن شبهة عرضت، والاستتابة تكون حالا، لأن قتله المترتب على الردة حد، فلا يؤخر كسائر الحدود، وتكون الاستتابة ثلاثة أيام من يوم الردة على أرجح الأقوال[3].

فإن تاب وعاد إلى الإسلام صح إسلامه؛ لقوله سبحانه وتعالى: )قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف( (الأنفال: ٣٨)، وإن لم يتب قتل وجوبا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[4]؛ حيث أمر بضرب عنقه بالسيف، وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة»[5].

لماذا يقتل المرتد؟

إذا آمنا بالحرية الدينية التي أمنها الإسلام للبشرية كلها، حيث يقول سبحانه وتعالى: )لا إكراه في الدين(، فلماذا يقتل المرتد، وكيف نوفق بين هذه الآية، وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»[6].

وللإجابة عن هذا نقول: إن الارتداد ليس مسألة شخصية، وإن بدا ذلك في ظاهر الأمر، فإذا بحثنا في معظم المرتدين الأوائل، فإننا نجدهم قد ارتدوا بسبب امتناعهم عن دفع الزكاة، فهم إذن يمتنعون عن أداء فريضة يعود خيرها على المجتمع، ويستفيدون بمزايا وجودهم فيه، فقد كانت مقاتلتهم لذلك باسم هذا المجتمع، وباسم المصلحة العامة، ولم تكن قطعا لمصلحة الحاكم ذاته. ونضيف هنا أن حظر الارتداد في هذا المجتمع كحظر الخمر والزنا فيه العدوى التي لو بقيت من غير عقاب لانتشرت.

و الارتداد تحلل من الالتزامات، ولا يمكن أن يتحلل فرد من التزاماته نحو ربه – عز وجل – ونحو المجتمع؛ لأن ترك الالتزامات نحو الخالق هي في الوقت ذاته ترك لالتزامات نحو نفس المرتد وجماعته التي يعيش فيها، فهو بتحلله خطر على بقية المجتمع، فالارتداد لا يدخل في نطاق الحرية الشخصية لأسباب نضيفها:

  • إن المرتد يعتبر نفسه هو المهتدي، والآخرون – من المؤمنين – مغفلون، يقيدون أنفسهم بالتزامات تحد من استمتاعهم بحيوانيتهم المطلقة؛ لأنه يدعوهم إلى الهدى، ويبشرهم بالنور الجديد، والاستجابة لدعوته، ألا وهي الانطلاق من القيود دون إرهاق أو جهد، إذ الإنسان أقرب إلى الهبوط منه إلى الصعود، فالتسامي والارتفاع هو الذي يحتاج إلى جهد دائب.
  • إن المرتد مفسد، لأنه يعلن شره وإفساده، وإذا قال المرتد: إنه ارتد – فلسفة – وأنه يراعي قواعد الأخلاق نقول له: إن حبك للانفلات من قيود الأخلاق هو الدافع الأصيل الذي دفعك إلى الهروب من الدين.
  • والارتداد عن دين الله بعد الإيمان، معناه إفساد النظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية، لأن الإسلام نظام عملي قائم على عقيدة، ومجتمع قائم على هذا النظام وأوامره مفروضة لصالح الفرد أولا، ولصالح المجتمع في الوقت ذاته، فهي إذن ليست مسألة شخصية وإنما يرجع الضرر والنفع فيها على المجتمع.

وبناء على هذا فإن الإسلام قد نص على قتل المرتد، الذي بدأ يدعو لخرق مبادئ الإسلام جهرة وفي كل ميدان أو مجلس، لا الذي احتفظ بفكره لنفسه، كما أن المرتد يدعى لنقاش مع كبارالعلماء لمدة ثلاثة أيام، ثم إن كابر يقتل بدون خلاف، فلماذا إذا يعاب على الإسلام في أن يقتل هذه الجرثومة المضللة، التي لو تركت لأفسدت الناشئة والجيل الصاعد، الذي تضله لا عن علم وحقيقة وبينة بل عن مراوغة في نفسه وسوء في فهمه وانحراف في روحه؟! والجيل الصاعد برئ من كل هذا لأنه لم يكتمل علمه، فهو واثق من المجتمع الطاهر النقي الذي يعيش فيه، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى: فإن التخريب أهون على المرتد من البناء على المؤمن، فالارتداد لعب بالدين، وتضليل للمتدينين، لذلك اعتبر القرآن الردة من أشد التضليل، قال سبحانه وتعالى: )إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137)( (النساء).

ويمكن أن نجمل أسباب قتل المرتد فيما يلي:

  1. إن الإسلام يجعل الفرد الذي يقدم على الدخول فيه، لا يقدم على الدخول فيه إلا بعد اطلاع واقتناع ودراية وفهم لجميع جوانبه، فإن حصل الاقتناع – ولو بعد سنين – فأهلا وسهلا به مسلما مؤمنا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإن لم تحصل منه قناعة بهذا الدين، فله دينه الذي هو عليه، ويبقى ذميا في دولة الإسلام تطبق عليه قوانين الذميين؛ ولذا فقد تم تعيين الدعاة في أيام عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وهشامالثاني ليكون الدخول في الإسلام عن مناقشة ودراية ووعي وقناعة.
  2. إن في الارتداد إساءة إلى الإسلام، واستهزاء قد يكون مدروسا أو مخططا له من فئات غير إسلامية من الداخل، أو من الخارج، فكأن المرتد يقول: دخلت الإسلام وتركت ديني السابق، ثم اطلعت على الإسلام عمليا، وجربته مدة طويلة فوجدته لا يرقى إلى مرتبة الدين السابق، فديني الأول أفضل، وها أنذا أرتد عن الإسلام بعد تجربته واقتناعي بفساده، فكأن المرتد لسان دعاية خطرها هائل، ليمنع دخول الشعوب في دين الإسلام الذي جربه هو – بعقله الخرب – أو ذكاء منه ليمنع الناس من الدخول في دين لو اطلع عليه أي فرد بتجرد وموضوعية لعشقه.
  3. ويعد الارتداد – بمختلف صوره – كالامتناع عن تطبيق قواعد الإسلام، كترك الزكاة، أو اتباع المتنبئين أو ترك الدين جملة – ثورة داخلية مضادة، إن تركت هذه تفشت، وخربت المجتمع، وهذا في عرف العصر الحاضر عقوبته الإعدام في دول العالم كله.

وهكذا يظهر الارتداد نفوسا خبيثة – هذه النفوس – إما أن تكون مخططة لغاية بعيد مداها، ألا وهي طعن الإسلام إعلاميا، أو مترددة ومتذبذبة غير مستقرة، تجعل مصيرها الدنيوي والأخروي لهوا وألعوبة.

ونحن بدورنا نسأل: ما عقوبة الخارج على قوانين دولة ما في العالم؟ بم يعاقب المجاهر بالعداء لها، والمحطم لنظامها، والداعي إلى القيام بثورة داخلية مضادة فيها؟

أليس القتل هو العقوبة المقررة؟ فلم يعاب على الإسلام إن قرر ذلك؟ ومن ذا يحمل عليه إلا أن يكون حاقدا مفتريا؟!

إن عزم الحرابة في نفس المرتد واضح إلى درجة القطع واليقين.

وهل في أنواع الحرابة ماهو أشد وأخطر من الكيد للإسلام والمسلمين عن طريق بث عوامل الزيغ والسعي إلى تشكيك الناس في عقائدهم، ومبادئهم الإسلامية؟

وإن هذا الأمر ليزداد وضوحا إذا علمت أن الدول الإسلامية أو العالم الإسلامي تحيط به قوى استعمارية طامعة، تراقب حاله عن كثب، وتبحث في داخله – بالسبل المختلفة – عن أجراء وعملاء أو خارجين على الجماعة ودين أمتهم؛ لتستعين بهم وتوظفهم كأسلحة فعالة نادرة، في تمزيق وحدة المسلمين وفتح الثغرات الفكرية فيما بينهم، تمهيدا بين يدي اختراقاتهم الاستعمارية وعملياتهم العسكرية.

إذا نظرت متأملا في قائمة من أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام في هذا العصر، وعلى رأسهم سلمان رشدي صاحب الآيات الشيطانية، ترى – ولا شك – كيف قفزوا من حرية الاعتقاد والفكر، إلى ساحة الحرب المعلنة ضد الإسلام وأهله، وضد وحدة المسلمين على شتى مستوياتها، أي وحدة الأسرة الواحدة الوطنية ووحدة الأمة.

وبديهي أن دخول هذه الساحة يستلزم تنسيقا مع القوى الخفية التي لم يعد أكثرها خفيا اليوم، وأكثرها قوى استعمارية صهيونية الجذور، تتحرك على الساحة ذاتها في نشر سمومها.

وهذا يجرنا إلى التساؤل البديهي والمنطقي…

ثالثا. لماذا كان الكفر علة موجبة للقتل في حالة الردة، ولم يكن علة كذلك في حالة الكفر الأصلي، وهل لهذا نظير في مواد التشريع[7]؟

نقول: إن كفر المسلم بعد إسلامه في حد ذاته أخطر ما يكون على النظام، وذلك لأنه لم يكره على الدخول في الإسلام، بل دخل فيه بعد اقتناع، فكونه يدخل بطوعه، ثم يعلن خروجه، فذلك فوضى اعتقاد، وفيه إدخال الشكوك في قلوب البسطاء تجاه هذا الدين أو هذا النظام، ويرشدنا إلى هذه الحقيقة قوله سبحانه وتعالى: )وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72)( (آل عمران).

 لذا فالارتداد يكون ذريعة إلى إدخال الخلل في صفوف المسلمين، وفي تفكك جبهتهم الداخلية، وفي ذلك فساد كبير وشر مستطير.

ثم إن المرتد بعد أن أتيحت له فرصة الاطلاع على الأدلة التي جعلته يؤمن بالإسلام، ويدخل فيه بمحض اختياره ليس له عذر في ارتداده.

أما الكافر الأصلي الذي قد لا يتمكن من الاطلاع على تلك الأدلة، فمعذور لأنه يرجى منه أن يطلع عليها، أو أنه قد اطلع عليها ولكن لم يحصل منه اقتناع بها، فيرجى منه أيضا أن يصل إلى درجة الاقتناع.

“أما ما يشبه هذه التفرقة الحاصلة في كفر المرتد وكفر الكافر الأصلي، فإننا نجده في التفرقة بين زنى المحصن وزنى غيره، فإن المحصن يستحق الشدة بعد أن سلك الطريق المستقيم في تلبية مطالب الغريزة النوعية، أعرض عنه وسلك طريق الإفساد والفوضى، وفي هذا تشكيك للآخرين في قيمة الطريق الأول، فكان من المناسب أن يعطى أشد العقاب عظة لغيره وهو الرجم حتى الموت.

أما غير المحصن عندما يجرب السير على هذا الطريق الفوضوي، ويفاجأ بما يلاقيه من عقاب أليم ينال جسمه يلهب الجلد، ويحط من مكانته بين الناس، فإن هذا يجعله يفيء ويعرض عن هذا الطريق إلى الطريق المستقيم، وهو النكاح[8]، وهذا نظير ما في كفر المرتد وغيره.

رابعا. ضوابط تطبيق حد الردة:

إن عقيدة المسلم هي أغلى ما يملك؛ لهذا وجب الحذر الشديد، والتحوط الدقيق قبل التشكيك، أو الطعن فيها، ولكي تطمئن نفوس المشغولين بحقوق الإنسان والمهمومين بمنافاة الحدود الشرعية – ومنها حد الردة – لها، المتخوفين من غلظتها وقسوتها – أي الحدود – التي لا تناسب روح العصر!!

لذا نؤكد أن الشرع الإسلامي قد وضع شروطا وضوابط لتطبيق هذا الحد – الردة – كغيره من الحدود الشرعية التي وصلت – كالعادة – في الدقة والاستيفاء للظروف والملابسات والاحتمالات، ما لم تبلغ نظيراتها في أية منظومة قانونية وضعية، نقول هذا ونؤكده، عل نفوسهم الوالهة تهدأ، وعيونهم الدامعة تكف عن سكب دموع التماسيح.

وقد حرر هذه الضوابط بخصوص تطبيق حد الردة الدكتور يوسف القرضاوي، فقال: “… والذي أريد أن أذكره هنا جملة أمور:

  1. إن الحكم بردة مسلم عن دينه أمر خطير جدا، يترتب عليه حرمانه من كل ولاء وارتباط بالأسرة والمجتمع، حتى إنه يفرق بينه وبين زوجه وأولاده؛ إذ لا يحل لمسلمة أن تكون في عصمة كافر، كما أن أولاده لم يعد مؤتمنا عليهم، فضلا عن العقوبة المادية التي أجمع عليها الفقهاء في جملتها.

لهذا وجب الاحتياط كل الاحتياط عند الحكم بتكفير مسلم، ثبت إسلامه؛ لأنه مسلم بيقين، فلا يزال اليقين بالشك، ومن أشد الأمور خطرا تكفير من ليس بكافر، وقد حذرت من ذلك السنة النبوية أبلغ التحذير، وقد كتبت في ذلك رسالة “ظاهرة الغلو في التكفير”. لمقاومة تلك الموجة العاتية، التي انتشرت في وقت ما، وهي التوسع في التكفير، ولا يزال يوجد من يعتنقها.

     2- إن الذي يملك الفتوى بردة امرئ مسلم، هم الراسخون في العلم، من أهل الاختصاص الذين يميزون بين القطعي والظني، بين المحكم والمتشابه، بين ما يقبل التأويل وما لا يقبل التأويل، فلا يكفرون إلا بما لا يجدون له مخرجا، مثل إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، أو وضعه موضع السخرية من عقيدة أو شريعة، ومثل سب الله تعالى ورسوله وكتابه علانية، ونحو ذلك.

مثال ذلك: ما أفتى به العلماء من ردة سلمان رشدي، ومثله رشاد خليفة، الذي بدأ بإنكار السنة، ثم أنكر آيتين من القرآن في آخر سورة التوبة، ثم ختم كفره بدعوى أنه رسول الله، قائلا: إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين، وليس خاتم المرسلين!! وقد صدر بذلك قرار من مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي.

ولا يجوز ترك مثل هذا الأمر إلى المتسرعين أو الغلاة، أو قليلي البضاعة من العلم، ليقولوا على الله ما لا يعلمون.

     3- إن الذي ينفذ هذا هو ولي الأمر الشرعي، بعد حكم القضاء الإسلامي المختص، الذي لا يحتكم إلا إلى شرع الله – عز وجل – ولا يرجع إلا إلى المحكمات البينات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهما اللذان يرجع إليهما إذا اختلف الناس: )فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء).

 والأصل في القاضي في الإسلام أن يكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يتوافر فيه ذلك استعان بأهل الاجتهاد؛ حتى يتبين له الحق، ولا يقضي على جهل، أو يقضي بالهوى، فيكون من قضاة النار.

      4- إن جمهور الفقهاء، قالوا بوجوب استتابة المرتد، قبل تنفيذ العقوبة فيه.. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب “الصارم المسلول على شاتم الرسول”: هو إجماع الصحابة – رضي الله عنهم – وبعض الفقهاء حددها بثلاثة أيام، وبعضهم بأقل وبعضهم بأكثر، والمقصود بذلك إعطاؤه الفرصة ليراجع نفسه عسى أن تزول عنه الشبهة، وتقوم عليه الحجة، إن كان يطلب الحقيقة بإخلاص، وإن كان له هوى، أو يعمل لحساب آخرين يوليه الله ما تولى.

ومن المعاصرين من قال: إن قبول التوبة إلى الله وليس إلى الإنسان، ولكن هذا في أحكام الآخرة، أما في أحكام الدنيا فنحن نقبل التوبة الظاهرة، ونقبل الإسلام الظاهر، ولا ننقب عن قلوب الخلق؛ فقد أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. وقد صح في الحديث أن من قالوا: لا إله إلا الله عصموا دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله تعالى، ونصه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»[9]. يعني: فيما انعقدت عليه قلوبهم.

ومن هنا نقول: إن إعطاء عامة الأفراد حق الحكم على شخص ما بالردة، ثم الحكم عليه باستحقاق العقوبة، وتحديدها بأنها القتل لا غير، وتنفيذ ذلك بلا هوادة، يحمل خطورة شديدة على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم؛ لأن مقتضى هذا أن يجمع الشخص العادي – الذي ليس له علم أهل الفتوى، ولا حكمة أهل القضاء، ولا مسئولية أهل التنفيذ – سلطات ثلاثا في يده، يفتي وبعبارة أخرى: يتهم، ويحكم، وينفذ، فهو الإفتاء والادعاء والقضاء والشرطة جميعا”[10]!!

ونختم هذه المناقشة بكلام د. القرضاوي أيضا، فقد ناقش بعض اعتراضات المعاصرين على حد الردة، ورد عليها بوضوح، فقال:

“ولقد اعترض بعض الكاتبين في عصرنا – من غير أهل العلم الشرعي – على عقوبة الردة بأنها لم ترد في القرآن الكريم، ولم ترد إلا في حديث من أحاديث الآحاد، وحديث الآحاد لا يؤخذ به في الحدود؛ فهم لذلك ينكرونها.

وهذا الكلام مردود من عدة أوجه:

  1. أن السنة الصحيحة مصدر للأحكام العملية باتفاق جميع المسلمين، وقد قال سبحانه وتعالى:)قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (النور: ٥٤)، وقال: )من يطع الرسول فقد أطاع الله( (النساء: ٨٠)، وقد صحت الأحاديث بقتل المرتد، ونفذه الصحابة في عهد الراشدين.

والقول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في الحدود غير مسلم به، فجميع المذاهب المتبعة أخذت بأحاديث الآحاد في عقوبة شارب الخمر، مع أن ما ورد في عقوبة الردة أصح وأوفر، وأغزر مما ورد في عقوبة شرب الخمر، ولو صح ما زعمه هؤلاء: أن أحاديث الآحاد لا يعمل بها في الأحكام، لكان معناه إلغاء السنة من مصدرية التشريع الإسلامي، أو على الأقل إلغاء 95%، إن لم نقل 99% منها، ولم يعد هناك معنى لقولنا اتباع الكتاب والسنة.

فمن المعروف لدى أهل العلم أن أحاديث الآحاد هي الجمهرة العظمى من أحاديث الأحكام، والحديث المتواتر – الذي هو مقابل الآحاد – نادر جدا، حتى زعم بعض أئمة الحديث أنه لا يكاد يوجد، كما ذكر الإمام ابن الصلاح في مقدمته الشهيرة في علوم الحديث.

على أن كثيرا ممن يتناولون هذا الأمر، لا يدركون معنى حديث الآحاد، ويحسبون أنه الذي ذكره واحد فقط، وهذا خطأ، فالمراد بحديث الآحاد: ما لم يبلغ درجة التواتر، وقد يرويه اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من الصحابة، وأضعافهم من التابعين.

وحديث قتل المرتد قد ذكره جم غفير من الصحابة، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة.

    2- إن من مصادر التشريع المعتمدة الإجماع، وقد أجمع فقهاء الأمة من كل المذاهب – السنية وغير السنية – على عقوبة المرتد، وأوشكوا أن يتفقوا على أنها القتل، إلا ما ورد عن عمر والنخعي والثوري، ولكن العقوبة في الجملة مجمع عليها.

   3- إن من علماء السلف من قال: إن آية المحاربة المذكورة في سورة المائدة تختص بالمرتدين، وهي قوله سبحانه وتعالى:)إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا( (المائدة: ٣٣)، وممن قال بأن هذه الآية في المرتدين أبو قلابة وغيره.

ومن كلام ابن تيمية: إن محاربة الله ورسوله باللسان أشد من المحاربة باليد، وكذلك الإفساد في الأرض، مما يؤيد ذلك أن الأحاديث التي قررت استباحة دم المسلم بإحدى ثلاث، ذكر بعضها: «ورجل خرج محاربا لله ورسوله، فإنه يقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض»، كما في حديث عائشة بدلا من عبارة «ارتد بعد إسلام»أو «التارك لدينه»… إلخ. وهو ما يدل على أن الآية تشمل فيما تشمل المرتدين الداعين إلى ردتهم”[11].

الخلاصة:

  • يحترم الإسلام حق أي إنسان أن يؤمن أو يكفر ما لم تتضح له الأمور، فله أن يدرس ويوازن ويرجح، لكنه حين يؤثر الإسلام، وقد دخله قانعا لا مجبرا، – بناء على حرية الاعتقاد المكفولة له – فعليه أن يخلص له – ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه.
  • فالارتداد – بعد إيمان – ليس مسألة شخصية، وإن بدا ذلك في ظاهر الأمر، فالارتداد تحلل من الالتزامات، وإفساد للنظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية – عند المجاهرة بالردة؛ إذ الإسلام نظام عملي قائم على عقيدة، ومجتمع قائم على هذا النظام، وأوامره لصالح الفرد والمجتمع في الوقت ذاته، فهي إذن ليست مسألة شخصية، وإنما يرجع الضرر والنفع فيها على المجتمع.
  • من حق الأمة الإسلامية أن تحافظ على عقيدتها ونظامها كأي مجتمع، أو دولة عصرية تجرم الخارجين عليها، وتتهمهم بأقصى الاتهامات وتعاقبهم بأشد العقوبات التي تصل إلى الإعدام في أحايين كثيرة.
  • وضع الإسلام لتطبيق الردة ضوابط منها أن من يقضي بردة المرتد هم أهل العلم والاجتهاد وأن من ينفذ العقوبة هو ولي الأمر الشرعي، وأن المرتد يستتاب قبل التنفيذ أملا في توبته ودرء العقوبة عنه، فالإسلام – بعد أن كفل حرية العقيدة للناس – لا يعاقب على الكفر الأصلي، وإنما يعاقب على الكفر بعد الإيمان.

(*) عقوبتا الزنا والردة في ضوء القرآن والسنة، د. عماد الشربيني، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 2005م.

[1]. أخرجه القاسم بن سلام في الأموال، كتاب افتتاح الأرضين صلحا وأحكامها وسننها، باب وهذا كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى خزاعة (443 ـ 444)، وابن زنجوية في الأموال، كتاب العهود التي كتبها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، باب هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(574).

[2]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص258، 259.

[3]. الفقه الواضح من الكتاب والسنة على المذاهب الأربعة، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط2، 1418هـ/ 1997م، ج2، ص271 بتصرف. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص722 بتصرف.

[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتابه استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6524)، وفي مواضع أخرى.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: ) أن النفس بالنفس والعين بالعين ( (المائدة: ٤٥) (6484)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم (4470) بنحوه.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابه المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6524)، وفي مواضع أخرى.

[7]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص261، 262.

[8]. المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص263.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، با ب قوله تعالى: ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ( (التوبة: ٥) (25)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (135)، وفي مواضع أخرى.

[10]. جريمة الردة وعقوبة المرتد، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 2005م، ص58 وما بعدها.

[11]. جريمة الردة وعقوبة المرتد، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 2005م، ص63 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المشككين أن الإسلام حينما قرر عقوبة البغي تحدى الفئة العاقلة والقادرة في المجتمع، وطالبهم بالخضوع التام للحاكم الظالم، وعدم الخروج عليه أيا كانت تصرفات هذا الحاكم، ويرون في ذلك كبتا لحرية المعارضة السياسية.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  البغي لغة: الطلب، واصطلاحا: خروج قوم ذوي شوكة على الإمام بتأويل سائغ.

2)  يجب توافر شروط معينة في المجرمين البغاة حتى يعتبر خروجهم بغيا.

3)  للبغاة حقوق وعليهم مسئوليات قبل الثورة، ولهم حقوق وعليهم مسئوليات أثناء الثورة وبعدها.

4)  عقوبة البغاة أو المجرمين السياسيين في الشريعة الإسلامية تختلف باختلاف الأحوال.

5)  القوانين الوضعية أشد وحشية في مواجهة الخارجين عن القانون.

6)  ليس في حد البغي من القسوة والوحشية ما يتنافى مع حقوق الإنسان.

7)  للمعارضة في النظام السياسي الإسلامي كيفيتها وضوابطها وأحكامها؛ حرصا على مصلحة الأمة.

التفصيل:

أولا. تعريف البغي لغة واصطلاحا:

البغي لغة: هو طلب الشيء، فيقال: بغيت كذا إذا طلبته، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )قال ذلك ما كنا نبغ( (الكهف: ٦٤)، ثم اشتهر البغي في العرف بطلب ما لا يحل من الجور والظلم.

البغي اصطلاحا: خروج قوم على الإمام بتأويل سائغ ولهم منعة وشوكة[1]. فالبغاة إذن جماعة خالفت الإمام وامتنعت عن طاعته، وتوافرت لهم قوة وبأس، ورئيس يأتمرون بأمره، وتأويل لمشروعية هذه المخالفة[2].

ثانيا. الشروط التي يجب توافرها في المجرمين البغاة حتى يعتبر خروجهم بغيا:

نستطيع أن نستخلص من تعريف البغاة الشروط التي يجب توافرها في المجرم وعمله، ليعتبر مجرما باغيا:

  1. الغرض من الجريمة:

يشترط أن يكون الغرض من الجريمة إما عزل رئيس الدولة أو الهيئة التنفيذية، وإما الامتناع عن الطاعة. فإذا تحقق الغرض على هذا الوجه مع توفر الشروط الأخرى، كانت الجريمة سياسية، أي: بغيا والمجرم باغيا. أما إذا كان الغرض من الجريمة إحداث أي تغيير يتنافى مع نصوص الشريعة، كإدخال نظام غير إسلامي يخالف النظام، أو تمكين دولة أجنبية من التسلط على البلاد أو إضعاف قوة الدولة أمام غيرها من الدول، إذا كان الغرض من الجريمة شيئا من هذا أو مثله، فإن الجريمة لا تكون بغيا، أي سياسية، وإنما هي إفساد في الأرض ومحاربة لله ورسوله، وهذه الجريمة قررت لها الشريعة الإسلامية عقوبة قاسية[3].

        2- التأول:

يشترط في البغاة أن يكونوا متأولين، بأن يدعوا سببا لخروجهم ويدللوا على صحة ادعائهم، ولو كان الدليل في ذاته ضعيفا، كادعاء الخارجين على الإمام علي – رضي الله عنه – بأنه يعرف قتلة عثمان – رضي الله عنه – ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم. وكتأويل بعض مانعي الزكاة في عهد أبي بكر – رضي الله عنه – بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكنا لهم طبقا لقوله سبحانه وتعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم (103)( (التوبة)، فإذا لم يدعوا سببا للخروج أو ادعوا سببا لا تقره الشريعة الإسلامية، كأن يطلبوا عزل رئيس الدولة دون أن ينسبوا إليه شيئا أو طلبوا عزله لأنه ليس من بلدهم، فهم قطاع طريق يسعون في الأرض فسادا، ولهم عقوبتهم الخاصة وليسوا – بأي حال – بغاة أو مجرمين سياسيين[4].

        3- الشوكة:

يشترط في الباغي أن يكون ذا شوكة وقوة لا بنفسه، بل بغيره ممن هم على رأيه، فإن لم يكن من أهل الشوكة على هذا الوصف، فلا يعتبر مجرما سياسيا ولو كان متأولا[5].

     4-  الثورة والحرب:

ويشترط بعد ذلك كله أن تقع الجريمة في ثورة أو حرب أهلية اشتعلت لتنفيذ الغرض من الجريمة، فإن وقعت الجريمة في غير حالة الثورة الأهلية، فهي ليست بغيا، وإنما هي جريمة عادية، يعاقب فاعلها بالعقوبة العادية المقررة لها، وتلك هي سنة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الخوارج، فقد عرض قوم من الخوارج به، فتنادوا وهو يخطب على منبره: لا حكم إلا لله، وهم بذلك يعرضون به؛ لأنه قبل التحكيم، فرد عليهم وهو على المنبر قائلا: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدأكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء[6] ما دامت أيديكم معنا، أي ما دمتم لم تثوروا علينا[7].

ثالثا. حقوق البغاة ومسئوليتهم:

للبغاة قبل الثورة وفي أثنائها وبعدها حقوق وعليهم مسئوليات نجملها في أمرين:

  1. حقوق البغاة ومسئوليتهم قبل الثورة:
  • حق الدعوة إلى ما يعتقدون:

للبغاة أن يدعوا إلى ما يعتقدون بالطريق السلمي المشروع، ولهم الحرية في أن يقولوا ما يشاءون في حدود نصوص الشريعة، وللعادلين أن يردوا عليهم ويبينوا لهم فساد آرائهم، فإذا خرج أحد الفريقين في قوله أو دعوته على النصوص الشرعية، عوقب على جريمته باعتبارها جريمة عادية، فإن كان قاذفا حد، وإن كان سابا عزر، وإن ارتكب أحد البغاة أية جريمة، عوقب عليها باعتبارها جريمة عادية[8].

  • حق الاجتماع:

فإذا اجتمعوا في مكان معين فلا سلطان عليهم ما داموا لم يمتنعوا عن حق أو يخرجوا عن طاعة، وهذه أيضا سنة علي بن أبى طالب كرم الله وجهه في الخوارج؛ فقد اعتزلت طائفة من الخوارج عليا – رضي الله عنه – بالنهروان، فولى عليهم عاملا أقاموا على طاعته زمنا وهو لهم موادع إلى أن قتلوه، فأرسل إليهم علي أن سلموا إلي قاتله، فأبوا وقالوا: كلنا قاتله، فلما خرجوا عن الطاعة وجاهروا بالعصيان قاتلهم علي رضي الله عنه[9].

ويشترط مالك والشافعي وأحمد أن يبدأ أهل البغي بالقتال حتى يقاتلوا أهل العدل، وفي هذه الحالة تستحل دماؤهم، أما أبو حنيفة فيكتفي بتجمعهم وامتناعهم، ويرى في ذلك ما يكفي لقتالهم.

      2- حقوق البغاة ومسئوليتهم في أثناء الثورة وما بعدها:

فإذا اشتعلت الثورة أو قامت الحرب الأهلية، كان على ولي الأمر أن يقصد من القتال ردع البغاة لا قتلهم وإفناءهم، وأن يقاتل من أقبل منهم، ويكف عن من أدبر وهرب، وألا يجهز على جريحهم، وألا يقتل أسيرهم[10]. أو من ألقى سلاحه منهم، وألا يصادر أموالهم، وألا يستولي على نسائهم وأولادهم؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “منعت دار الإسلام ما فيها”[11].

فإذا انتهت حالة الحرب وانطفأت الثورة وجب على ولي الأمر أن يرد على البغاة أموالهم التي في يد أهل العدل، وما تلف منها في غير قتال فهو مضمون على متلفيه، وأما ما أتلفه أهل البغي في ثائرة الحرب من نفس ومال فهو هدر، وما أتلفه على أهل العدل في غير ثائرة الحرب من نفس ومال فهو مضمون عليهم، وهم مسئولون عنه، وهذا هو الرأي الراجح عند الفقهاء، أما الرأي الآخر فيرى أصحابه تضمين البغاة ما أتلفوه في الحرب، وحجتهم أن المعصية لا تبطل حقا، ولا تسقط غرما.

أما حجة أصحاب الرأي الأول فهي أن الفتنة العظمى وقعت أيام علي ومعاوية، فأجمع الصحابة ألا يقام حد على رجل ارتكب محرما بتأويل القرآن الكريم، ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن الكريم، ويحتجون كذلك بأن البغاة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ، فلا تضمن ما أتلفته مع أهل العدل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه، ولأن تضمين أهل البغي يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة[12].

وإذا كان البغاة لا يسألون عن الجرائم التي ارتكبوها أثناء الثورة من إهلاك للأموال والأنفس فإن لولي الأمر إن لم يعف عن جرائمهم أن يعاقبهم على خروجهم عن الطاعة بعقوبة تعزيرية إن رأى في ذلك مصلحة، ولكن بشرط ألا تكون هذه العقوبة القتل عند مالك والشافعي وأحمد؛ لأنهم لا يبيحون قتل الجريح ولا الأسير، فأولى ألا يباح قتل المستسلم. أما أبو حنيفة فيبيح قتل الأسير للمصلحة العامة، ويبيح قتل البغاة بعد الظهور عليهم؛ فالقياس عنده أن يقتل الباغي تعزيرا، وعلى كل حال فإن سلطة القاضي في الجرائم التعزيرية واسعة، بحيث يجوز له أن يختار العقوبة الملائمة من عدة عقوبات، كما أن لولي الأمر حق العفو عن العقوبة كلها أو بعضها.

رابعا. عقوبة البغاة أو المجرمين السياسيين في الشريعة الإسلامية:

“تختلف عقوبة البغاة باختلاف الأحوال؛ فالجرائم التي يرتكبونها قبل الثورة والحرب أو بعدها يعاقبون عليها بعقوباتها العادية؛ لأنها جرائم عادية لم تقع في حالة ثورة أو حرب، أما الجرائم التي ترتكب في أثناء الثورة أو الحرب الأهلية، فما اقتضته منها حالة الثورة أو الحرب كمقاومة رجال الدولة وقتلهم والاستيلاء على البلاد وحكمها، والاستيلاء على الأموال العامة وإتلاف الطرق والكباري وإشعال النار في الحصون ونسف الأسوار والمستودعات وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة الحرب، فهذه الجرائم هي الجرائم السياسية.

وتكتفي الشريعة الإسلامية فيها بإباحة دماء البغاة، وإباحة أموالهم بالقدر الذي يقتضيه ردعهم والتغلب عليهم، فإذا ظهرت الدولة عليهم وألقوا سلاحهم عصمت دماءهم وأموالهم، وكان لولي الأمر أن يعفو عنهم، أو أن يعزرهم على خروجهم لا على الجرائم التي ارتكبوها في أثناء خروجهم، فعقوبة الخروج – إذن – هي التعزير، وهي جريمة سياسية، أما عقوبة الجرائم التي تقتضيها حالة الحرب أو الثورة فهي القتل بالشروط التي ذكرناها سابقا.

هذا هو حكم الجرائم التي تقع في أثناء الثورة أو الحرب وتقتضيها طبيعة الحرب والثورة، أما الجرائم التي تقع من البغاة ولا تستلزمها طبيعة الثورة والحرب، فهذه جرائم عادية يعاقبون عليها بالعقوبات العادية، حتى ولو وقعت في أثناء الثورة أو الحرب كشرب الخمر والزنا والقتل والسرقة وغير ذلك” [13].     

خامسا. بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

“كانت القوانين الوضعية إلى ما قبل الثورة الفرنسية تعتبر الجريمة السياسية أشد خطرا من الجريمة العادية، وكانت تعامل المجرم السياسي معاملة تتنافى مع أبسط قواعد العدالة، وتأخذ أهله بذنبه وتحرمه من الحقوق التي يتمتع بها المجرمون العاديون، ثم ابتدأت القوانين الوضعية تغير نظرتها إلى الجريمة السياسية بعد الثورة الفرنسية، وبعد أن كثرت الثورات في البلاد الأوربية، وتعددت الانقلابات في النظم السياسية، فأصبح المجرم السياسي ينظر إليه نظرة عطف وإشفاق، ووضعت للجرائم السياسية عقوبات هي في مجموعها أخف من العقوبات العادية.

وقد اختلف الشراح في الحد الذي يميز بين الجريمة العادية والسياسية:

  1. فرأى فريق أن الحد المميز الوحيد هو غرض المجرم من الجريمة، فإن كان يرمي إلى تحقيق غرض سياسي، فالجريمة سياسية والأخرى عادية.

وعيب هذا المذهب أنه يحكم الباعث على الجريمة في تحديد ماهية الجريمة، ويخول للقتلة والسارقين أن يتمتعوا بميزات لا يصح أن يتمتعوا بها.

    2- ورأى فريق آخر أن العبرة في تحديد نوع الجريمة بطبيعة الحق المعتدى عليه بصرف النظر عن الدوافع إلى الجريمة، فلا تعتبر الجريمة جريمة سياسية طبقا لهذا الرأي إلا الجريمة التي تمس كيان الدولة أو نظامها.

وعيب هذا الرأي أنه يجعل بعض الجرائم التي لا شك في أنها سياسية جرائم عادية، كالجرائم التي ترتبط بأعمال الثورة أو الحرب الأهلية.

    3- وقد رأى فريق من الشراح أن يفرقوا بين الجرائم التي ترتكب في حالة ثورة والتي ترتكب في الأحوال العادية.

والاتجاه الحديث في القوانين الوضعية يعتبر الجرائم الموجهة ضد النظام الاجتماعي كجرائم الشيوعية والفوضوية جرائم عادية، كما يعتبر كل الجرائم الخاصة باستقلال الدولة جرائم عادية؛ لأنها تمس الوطن ولا تمس نظام الحكم.

وهذا الرأي الذي أقره معهد القانون الدولي في عام 1892م، حيث قرر أنه لا يعد من الجرائم السياسية من حيث تطبيق قواعد تسليم المجرمين الأعمال الجنائية الموجهة إلى النظام الاجتماعي.

ويتضح مما سبق أن أحدث الآراء في القوانين الوضعية تعتبر الجريمة سياسية إذا كانت موجهة ضد الحكام وشكل الحكم الداخلي فقط، لا ضد النظام الاجتماعي، ولا ضد الدولة واستقلالها وعلاقتها بغيرها من الدول، وبشرط أن تقع في حالة ثورة أو حرب أهلية، وأن تكون مما تقتضيه طبيعة الثورة أو الحرب.

وهذا يتفق مع الحدود التي وضعتها الشريعة الإسلامية للجريمة السياسية من ثلاثة عشر قرنا، ولا فرق بين الشريعة والقوانين في هذه النقطة إلا أن الشريعة قد سبقت بالتفرقة بين الجرائم العادية والسياسية وتحديد الجرائم السياسية، وأن القوانين الوضعية تسير في أثر الشريعة وتأخذ بمبادئها”[14].

سادسا. هل حد البغي فيه من القسوة والوحشية ما يتنافى مع حقوق الإنسان؟

للرد على هذا التساؤل نقول: أوجبت الشريعة الإسلامية طاعة ولي الأمر؛ لأن في طاعته طاعة لله تعالى، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء)، قال أبو هريرة – رضي الله عنه – لما قرأ هذه الآية: أمرنا الله بطاعة الأئمة، وطاعتهم من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله.

والبغي شرعا: خروج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ، وقد ورد حكمهم في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: )وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9)( (الحجرات).

ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»[15].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة؛ قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم[16]، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال: التحليق»[17] [18].

وعليه فإن حد البغي مقرر عند خالق الخلق، وهو – عز وجل – أعلم بمصالحهم التي تتمثل في أمور منها الأمن والاستقرار، وقد اقتضت حكمة الله تعالى ألا يستقيم الدين ولا يحفظ الشرع إلا بوجود إمام يقيم الحدود وينظم الحقوق ويمسك بزمام الأمور؛ فالخروج على الإمام الذي يرضاه الإسلام إماما، وشق عصا الطاعة عليه اعتداء على حرية الدولة الإسلامية، ومحاربة لإمام المسلمين الذي بايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا الفعل جريمة تسبب القلاقل والفتن في البلاد وتفرق جمع المسلمين.

ويشدد الإسلام في جريمة البغي؛ لأنها موجهة إلى نظام الحكم والقائمين بأمره، فرغبة البغاة في إزاحة الوالي ومحاولة التخلص منه بأي وسيلة حتى ولو بالقتل، ليحل محله من يريدون ممن يتبع أهواءهم، هذه الرغبة المريضة لا يقمعها إلا عقوبة القتل، ثم إن التساهل في عقوبة هذه الجريمة يؤدي إلى الحرب والاضطرابات وعدم الاستقرار، وتؤدي إلى تأخر الجماعة وانحلالها. ولا شك أن عقوبة القتل هي أقدر العقوبات على صرف الناس عن هذه الجريمة التي دفع إليها الطمع وحب الاستعلاء.

والإسلام حين شرع عقوبة القتل جزاء لجريمة البغي لم يأمر بها من أول وهلة، وإنما جعلها عند الضرورة إذا تعذر دفع شرهم بغير القتل، وأوجبت الشريعة على الحاكم اتباع إجراءات محددة تجاه البغاة قبل قتالهم، فمتى استنفد الحاكم هذه الإجراءات جميعها دون الوصول إلى إنهاء الفتنة، عندها فقط يصح له اللجوء إلى استعمال القوة والقتال.

والواقع أن البغي في الإسلام هو ما يسمى في عصرنا الحاضر بـ “التمرد والعصيان”، وهو صورة من صور العنف السياسي التي تؤدي إلى الحروب الأهلية أحيانا، بل إن جريمة البغي تشمل كل عناصر التمرد والعصيان الواردة في تقسيمات رجال السياسة في العصر الحديث، وكل الصور المصاحبة.

وعقوبة البغي القتل، وقد وضعت العقوبة على أساس من العلم بطبيعة الإنسان البشرية؛ فالقاتل والباغي تدفعه إلى القتل غريزة تنازع البقاء يقتل غيره ليبقى هو ويقلب نظام الحكم، فإذا علم أنه سيقتل إذا فعل ذلك امتنع عن هذه الجريمة، فالشريعة بتقريرها عقوبة القتل دفعت العوامل النفسية الداعية للبغي بالعوامل النفسية المضادة، التي يمكن أن تمنع الإنسان من ارتكاب الجريمة، بحيث إذا فكر الإنسان في هذه الجريمة ذكر أنه سيعاقب على فعله بالقتل، فكان في ذلك ما يصرفه غالبا عن الجريمة.

والعجب ممن يقولون: إن عقوبة القتل لا تتفق مع ما وصلت إليه الإنسانية والمدنية،‍‍‍‍‍‍‍‍ وكأن الإنسانية والمدنية أن تنكر العلم الحديث والمنطق الدقيق، وأن تنسى طبائع البشر وتتجاهل تجارب الأمم، وتريدنا أن نلغي عقولنا ونهمل النتائج التي وصل إليها تفكيرنا، لنأخذ بما يقوله هؤلاء، فلا نجد عليه دليلا إلا التهويل والتضليل.

ونقول: إن عقوبة البغي عقوبة عادلة وليست قاسية، فهي لم توضع إلا رحمة بالإنسان، والدول على اختلاف فلسفاتها ونظراتها للحياة والإنسان والكون تعاقب الخارجين عليها بعقوبات قد تتجاوز العقوبات الإسلامية من حيث الشدة، ومن ذلك أنواع التعذيب والتمثيل التي يلحقونها بالمعتقلين السياسيين.

 هذه العقوبة – القتل – التي فرضتها الشريعة الإسلامية على البغاة قد شددت فيها على البغاة أكثر مما شددت على جرائم الأفراد؛ لأن الفرد الذي يرتكب الجريمة بمفرده أقل خطرا على أمن الجماعة وسلامتها من الذين يجتمعون للشر لكونهم جماعة قادرة على تنظيم نفسها، بحيث يرتكبون أكبر قدر من الشر دون أن ينالهم أذى كبير، لا بد أن تكون العقوبة من جانب الشريعة الإسلامية شديدة ليرتدع من لا ضمير له من المجرمين.

ومن المؤسف أن ترتفع بعض الأصوات من الغرب تهول من هذه العقوبة التي فرضها الإسلام امتثالا لأمر الله – عز وجل – بإقامة الحدود الشرعية على المحاربين والبغاة بزعم أن هذه العقوبات إهدار لكيان الفرد في العصر الحديث، وبالتالي لا تصلح للعالم المتحضر في هذا العصر وما يتلوه من عصور، غير مدركين أنه لا يوجد نظام على وجه الأرض يصون كرامة الفرد وإنسانيته بقدر ما يصنع الإسلام، إلا أن هذا التكريم لا يكون إلا للفرد المستقيم الذي يحافظ على أمن الجماعة وسلامتها، أما من يتعدى على الناس ويخل بالأمن والنظام ويحدث الفوضى، فهذا يجازى بعقوبة رادعة مساوية للجريمة التي ارتكبها.

إن الشريعة الإسلامية حين قررت القتل لم تكن قاسية كما يدعي البعض، وهي الشريعة الوحيدة في العالم التي لا تعرف القسوة، وما يراه البعض قسوة إنما هو القوة والحسم اللذان تمتاز بهما الشريعة الإسلامية، ولعل لفظ الرحمة ومشتقاته من أكثر الألفاظ ورودا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ فالرحمة أساس من أسس الشريعة الإسلامية، وشريعة هذا شأنها لا يمكن أن تعرف للقسوة سبيلا إلا في المواضع التي تستحق القسوة[19].

سابعا. كيفية المعارضة في النظام السياسي الإسلامي:

لعلنا نلمح من مضمون هذه الشبهة طرفا من المعنى المتردد في كثير من الكتابات المغالطة غير الدقيقة حول الإسلام وتعاليمه؛ والذي يشير إلى أن توجيهات الشرع بخصوص العلاقة بولي الأمر قد حضت على طاعته على الدوام وحذرت من الخروج عليه مهما كانت الأسباب ومهما ظهر من شروره وعدم التزامه جادة الصواب الشرعي في أحكامه، وبالتالي فإن هذه التعاليم الشرعية – في زعم هؤلاء الزاعمين – قد وأدت كل محاولة للمعارضة وحرية إبداء الرأي في وجه الحاكم والاستدراك على أحكامه وسلوكياته، وحرصت على تسكين الأمور ومصانعة أئمة الجور وطأطأة الرأس لهم، وبهذا كله فتعاليم الإسلام – في زعمهم – في الجانب السياسي والحقوق السياسية، متخلفة جامدة لا تجاري نظيراتها في النظم الغربية الحديثة.

ولكن العارف بأحكام الإسلام الصحيحة بدقة، يدرك خلو هذا الكلام من الحقيقة ومجافاته للدقة والموضوعية؛ فقد حمل الإسلام على الحاكم الظالم ودعا إلى تغييره ودرء مفاسده، لكنه نظم قضية الخروج عليه تنظيما دقيقا وأحاطها بكثير من المحترزات كي تؤتي ثمارها وتجني الرعية من هذا التغيير أو محاولته الخير لا الشر، على قاعدة أن: “درء المفاسد مقدم على جلب المنافع”، وإلا فالصبر أولى حتى يأتي الفرج وتتبدل الأحوال وتسنح الفرصة ويأذن الله في الأمر، فالمسألة ليست قضية فردية أو محلية بسيطة وإنما هي تخص أمن مجتمع ومصالح رعية ومستقبل أمة.

تحت عنوان “عزل الخليفة أو رئيس الدولة” يقول د. عبد الله محمد جمال الدين: “يعزل الخليفة إذا ثبت عجزه أو فساده، وتنعزل الحكومة والوزراء بعزله؛ لأنه عينهم لمعاونته، أما باقي العاملين فلا ينعزلون بعزله؛ لأنه إنما ولاهم باسم الأمة نيابة عنها، ويقوم باتخاذ قرار عزل الإمام – نيابة عن الشعب – أهل الحل والعقد؛ ذلك أنه من حقهم – وقد ولوه باسم الأمة مصدر السلطة الأصلية – أن يقوموا بعزله حين تكون المصلحة في ذلك. أي إذا اقتضت الضرورة القصوى ذلك، وبعد استنفاد كافة الوسائل الرامية لنصحه ورده إلى الصواب؛ لأن منصب الخلافة من المناصب المهمة التي لا ينبغي أن تكون عرضة للأهواء، فهي تتعلق بحماية الدولة وحقوق الأمة، فعزل الإمام إجراء استثنائي بالغ الشدة، ولهذا لا يعزل إلا إذا فارق الكتاب والسنة أي الدستور الإسلامي وإلا إذا كان في عزله مصلحة تفوق المصلحة من بقائه.

إن الإمام لا يعزل إلا إذا تغيرت حاله، كما يقول الماوردي، فثبت به جرح في عدالته أو نقص في دينه، فأما الجرح في عدالته فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه المحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد. وأماالثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد…” [20].

لا يصح إذن أن يطلق الكلام على عواهنه بخصوص نظرة الإسلام إلى معارضة الحاكم ومحاسبته، وصولا إلى الخروج عليه – ما أمكن – بغية الإصلاح، بحيث يزعم أن الإسلام يئد كل معارضة للحاكم، بغض النظر عن صلاحه أو فساده، فهذا تعميم باطل وإجمال غير دقيق، كما رأينا.

الخلاصة:

  • البغي لغة: الطلب، واصطلاحا: خروج قوم ذوي شوكة على الإمام بتأويل سائغ.
  • لا بد أن تتوفر في المجرمين البغاة شروط معينة حتى يعتبر خروجهم بغيا. فخروجهم يكون على الحاكم لعزله أو الامتناع عن طاعته بتأويل سائغ، ولو كان ضعيفا.
  • للبغاة حقوق قبل الثورة وأثنائها وبعدها تحترم ولا تهدر.
  • عقوبة البغاة تختلف باختلاف الأحوال، وصرامتها وشدتها مناسبة لردع من يقوم بالبغي لخطورة ما يقدم عليه؛ عله يرتدع.
  • حمل الإسلام على الحاكم الظالم، ونظم كيفية معارضته؛ بحيث نضمن درء المفاسد قبل جلب المنافع، حرصا على مصلحة الأمة.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م.

[1]. شرح منتهى الإرادات مع كشاف القناع، البهوتي، دار الفكر، بيروت، ج4، ص14.

[2]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص26.

[3]. المغني، ابن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، ج1، ص52. نهاية المحتاج، الرملي، مطبعة الحلبي، ج7، ص382.

[4]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص103.

[5]. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الرملي، مطبعة الحلبي، ج7، ص385.

[6]. الفيء: ما رد الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف دينه بلا قتال، إما بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رءوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم، فهذا المال هو الفيء في كتاب الله، وأصل الفيء: الرجوع. وسمي هذا المال فيئا؛ لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكفار عفوا بلا قتال.

[7]. المغني، ابن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، 1984م، ج1، ص58.

[8]. الأحكام السلطانية، الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص58.

[9]. نهاية المحتاج، الرملي، مطبعة الحلبي، ج7، ص376. المغني، ابن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، 1984م، ج1، ص53: 58.

[10]. البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ابن نجيم الحنفي، دار المعرفة، بيروت، ج5، ص153.

[11]. الأحكام السلطانية، الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ص49.

[12]. نهاية المحتاج، الرملي، مطبعة الحلبي، ج7، ص386، 387. البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن نجيم الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1997م، ج5، ص153.

[13]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص671 وما بعدها.

[14]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص107: 109.

[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (4904).

[16]. الترقوتان: العظمان المشرفان بين ثغرة النحر والعاتق تكون للناس وغيرهم. والترقوة على وزن فعلوة، ولا تقل: ترقوة بالضم، وجمعها التراقي.

[17]. سيماهم التحليق: أي علامتهم، وهو حلق الرأس واستئصال الشعر. قال النووي: استدل به بعض الناس على كراهة حلق الرأس، ولا دلالة فيه، وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام وقد تكون بمباح.

[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (13362)، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في قتال الخوارج (4767)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4765)، وقد أخرجه البخاري بنحوه في كتاب التوحيد، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم (7123).

[19]. للمزيد يرجى مطالعة: المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص242 وما بعدها، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص671 وما بعدها.

[20]. نظام الدولة في الإسلام، د. عبد الله جمال الدين، دار الهاني، القاهرة، 2007م، ص175 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن العمل بقاعدة درء الحدود بالشبهات يؤدي إلى تعطيل الحدود وعدم إقامتها؛ لأنه ما من جريمة إلا ويمكن إيجاد ثغرات بها تكون بمثابة الشبهات التي تحول دون تطبيق الحدود، كما أن هذه القاعدة تتصادم مع تعاليم الإسلام التي تأمر بحتمية تطبيق الحدود دون مجاملة أو مراعاة للوم اللائمين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) قاعدة “درء الحدود بالشبهات” هدفها حماية الفرد من الضرر وافتراض براءته أولا، وتفسير الاحتمال لصالحه ثانيا،وهذا يدل على حرص الشريعة الإسلامية على إنصاف المتهمين في الجرائم المنسوبة إليهم.

2) هذه القاعدة تقوي الأدلة التي تثبت الإدانة، وتجعل القاضي المسلم على بينة من حق الفرد في الأمن بحيث لا يقضي بالإدانة إلا بعد ثبوت دليل الإدانة لديه ثبوتا يقينيا قطعيا.

3) ليست كل شبهة مسقطة للحد، بل هناك ضوابط تحكم هذه القاعدة، وهي من أهم مميزات الشريعة الإسلامية وخصائصها التي تفوقت بها على كل النظم والقوانين الوضعية مهما تطور واضعوها وأوغلوا في المدنية والحضارة.

التفصيل:

أولا. قاعدة “درء الحدود بالشبهات” هدفها حماية الفرد من الضرر وافتراض براءته، وتفسير الاحتمال لصالحه، وهذا يدل على عدالة الشريعة الإسلامية:

يعتبر مبدأ درء الحدود بالشبهات من المبادئ الأساسية في الإثبات الجنائي في الشريعة الإسلامية، وعن المقصود من هذا المبدأ وعلته وطبيعته، وعن التمييز بين هذا المبدأ ومبدأ تعارض الأدلة يتحدث د. حسني الجندي موضحا هذه الأمور: توضيحا مسهبا، فيقول: “يقصد بهذا المبدأ تفسير الدليل عند الشبهة أو الشك فيه لصالح المتهم؛ لأنه يكفي بهذه الحالة لتأكيد قرينة البراءة التي يتمتع بها، ويقصد بها في عبارة أخرى: إسقاط عقوبة الحد متى قامت لدى القاضي شبهة حول ثبوت ارتكاب الجريمة الموجبة لهذه العقوبة.

علة القاعدة:

وقد وضعت قاعدة “درء الحدود بالشبهات” – التي قررها الفقهاء – استنادا إلى التطبيق النبوي لحماية الفرد من الضرر وافتراض براءته أولا، وتفسير الاحتمال لصالحه، والتضييق من نطاق العقوبة ثانيا، وجعل القاضي المسلم على بينة من حق الفرد في الأمن ثالثا، وبالتالي افتراض براءته من الفعل المنسوب إليه، بحيث لا يقضي بالإدانة إلا بعد ثبوت دليل الإدانة لديه ثبوتا يقينيا قطعيا، وليس كل شبهة دارئة للحد، إنما على القاضي أن يستنفد جميع الطرق الممكنة للتوصل إلى إثبات الإدانة أو نفيها.

طبيعة القاعدة:

وقد ثار التساؤل حول قاعدة درء الحدود بالشبهات، وهل تدرأ الحدود فعلا بالشبهات؟ وتفرع عن ذلك تساؤل آخر مفاده هل هي قاعدة نصية أم فقهية؟ وفي عبارة أخرى: هل مصدر تلك القاعدة هو النص أم أقوال الفقهاء؟

اختلف فقهاء المسلمين حول هذه المسألة، وتفرع الخلاف إلى رأيين:

الرأي الأول: يقول بأن الحدود تدرأ بالشبهات. وهو رأي الجمهور من الحنفية والمالكية و الشافعية.

ويرى أنصار هذا الرأي أن قاعدة الدرء بالشبهة قاعدة نصية أساسها نص صحيح وارد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأقوال الخلفاء الراشدين، وأقوال صحابة رسول الله – رضي الله عنهم – والسلف الصالح، ويذكرون من هذه النصوص ما يلي:

  • السنة النبوية المطهرة:

o  فقد جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، إني زنيت، فوقع اعترافه وقعا شديدا من النبي – صلى الله عليه وسلم – فأخذ يستوثق منه ويعرض عليه الشبهات التي تدفع عنه الحد؛ فيقول له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت»، فلم يزدد الرجل إلا إصرارا، فلم يسع النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن أمر بإقامة الحد عليه وهو كاره – صلى الله عليه وسلم – وذلك أخذا بتلك القاعدة[1].

o  ومما يقوي هذا الرأي – أيضا – قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قصة رجم ماعز فيما أخبرنا به جابر بن عبد الله: «فلما وجد مس الحجارة قد اشتد، فر حتى مر برجل معه لحي بعير فضربه وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: هلا تركتموه». وهذا مبني – من جهة أصحاب هذا الرأي الأول – على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن ماعزا قال: «إن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غير قاتلي. وكان ذلك شبهة له»[2].

  • الخلفاء الراشدون والصحابة والسلف الصالح:

o      قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات”[3].

o      قال معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر: “إذا اشتبه عليك الحد فادرأه”[4].

o      قال الإمام الزهري: “ادفعوا الحدود بكل شبهة”[5].

الرأي الثاني: هو المنكر لدرء الحدود بالشبهات. وهو رأي ابن حزم وأصحابه في مذهب الظاهرية، فيذهب إلى أن الحد بعد ثبوته لا يحل أن يدرأ بشبهة، وشنع على ذلك بأن الآثار المذكورة لإثبات الدرء بالشبهات ليس فيها عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيء، بل عن بعض الصحابة من طرق.

وأشار ابن حزم إلى أن هذا لفظ إن استعمل أدى إلى إبطال الحدود جملة. وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام وخلاف الدين وخلاف القرآن والسنن؛ لأن كل أحد يستطيع أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه، فبطل أن يستعمل هذا اللفظ، وسقط أن تكون فيه حجة.

ويؤيد ذلك، رأي في الفقه الحديث، فيذهب إلى نفس ما ذهب إليه الفقيه ابن حزم، ويعتبرها بالتالي قاعدة فقهية أخذ بها، وهي قاعدة اعتبرها الفقهاء كجزء لا ينفصل عن نظام الفقه الجنائي.

الرأي الراجح: هو الأخذ بقاعدة درء الحدود بالشبهات، وهي قاعدة نصية تستند إلى أحاديث الرسولصلى الله عليه وسلم، ولذلك يكون الرأي الأول هو الأولى بالاتباع، ومما يؤيد ذلك:

o  أن الحدود عقوبات جسيمة وقاسية في نفس الوقت: لأنها من ناحية، تنصب – من حيث المحل – على حق الإنسان في الحياة، وتنفيذها قد يودي بهذه الحياة، وحقه في سلامة جسده.

o  كما أن هذا التنفيذ يؤدي من ناحية أخرى إلى إيلام المحكوم عليه والإضرار به، وقد يمتد إلى سمعته واعتباره. ومن أجل ذلك، كانت إدانة المذنب تستلزم دليلا يقينيا لا يتطرق إليه الشك، فإذا وجد هذا الشك، انتفى اليقين الذي نبني عليه الأحكام، ولا يعتد بالتهم والظنون، لأنها مظنة الخطأ.

o  مصدر هذا المبدأ هو الآثار المروية عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وعن الصحابة رضي الله عنهم، وما يجمع عليه فقهاء المسلمين ماعدا الظاهرية.

ومبدأ درء الحدود بالشبهات ذو نطاق عام من حيث التطبيق؛ إذ يسري على العقوبات المقررة حقا لله تعالى، وتلك المقررة حقا للعبادة، أي لا يقتصر تطبيقه على الحدود فقط، وإنما يشمل عقوبات القصاص، والتعزيز أيضا.

وقد أفاضت كتابات فقهاء المسلمين في شرح هذا المبدأ، وعرضت الصور المختلفة للشبهة؛ فهي إما شبهة تتعلق بالركن الشرعي للجريمة، ويتحدد مجال إعمالها في أسباب الإباحة، دون نصوص التجريم التي تكون ثابتة بالكتاب والسنة في جرائم الحدود ولا مجال للاختلاف عليها، كما في شبهة الحق المسقطة لحد السرقة، وهو ما ينطبق على سرقة الوالد مال ولده، تطبيقا لحديث رسول صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»[6].

وإما شبهة متعلقة بالإثبات، كشبهة التأخير في تقديم الدليل لأنه يورث الشبهة.

ويتبين مما تقدم أن الشريعة الإسلامية شريعة رحمة وعدل، فهي بقدر ما تقرر من عقوبات شديدة، فهي – في المقابل – تتشدد في إثبات الجرائم المقررة لها هذه العقوبات، وترخص في درء العقوبة إذا ما شاب دليل إثبات الجريمة شبهة أو شك. وتأمر الحاكم بالبحث عن الوسائل التي تمكنه من درء العقاب، ولا يضيرها في هذا الصدد إفلات مجرم أو أكثر من هذا العقاب في كل حالة تتمكن فيها الشبهة.

والأمور التي عرضها فقهاء المسلمين ليست ببعيدة عما تقرره الأنظمة القانونية المعاصرة، فهي وإن لم تجعل من سرقة الولد لمال والده سببا للإباحة أو شبهة تدرأ العقاب، فإنها قد أدخلتها في عدد الجرائم التي تتقيد فيها سلطة النيابة العامة في رفع الدعوى الجنائية عنها على تقديم المجني عليه شكوى عليها، فإن لم تقدم الشكوى لا تملك النيابة العامة الحق في رفع هذه الدعوى. كما أن نظام التقادم معمول به في قوانين الإجراءات الجنائية، وإن كان يوجد اختلاف بين رفع الدعوى وتقديم الدليل على الجريمة، فطالما رفعت الدعوى الجنائية عن الجريمة فإنها تظل قائمة إلى أن تنقضي بأحد أسباب الانقضاء، أما تقديم الدليل فإنه يكون مقبولا في أي وقت طالما لم تسقط الدعوى بالتقادم، ويترك تقديره في هذه الحالة لسلطة قاضي الموضوع.

التمييز بين هذه القاعدة وقاعدة تعارض الأدلة أو البينات:

سبق القول بأن قاعدة “درء الحدود بالشبهات” قاعدة أصولية سندها النص، وهي أصل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما قاعدة تعارض الأدلة أو البينات فهي فرع عنها، وتؤدي إلى تلك النتيجة التي تؤدي إليها القاعدة الأولى، وهي البراءة. فمتى كانت الأدلة والبيانات المقدمة في الدعوى غير كافية لتكوين اقتناع القاضي بثبوت الجريمة ضد المتهم، فإنه يتعين الحكم بالبراءة.

العلاقة بين هذه القاعدة والقواعد المتعلقة بالإثبات لمصلحة المتهم:

من بين تلك القواعد توجد قاعدة “افتراض براءة المتهم”، وهي قاعدة أصلية في الشريعة الإسلامية، بل هي أصل قاعدة درء الحدود بالشبهات.

فالأصل في الإنسان براءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات، ومن الأقوال كلها ومن الأفعال بأسرها.

ومقتضى هذه القاعدة أن “المتهم بريء في نظر العدالة حتى تثبت إدانته بدليل صحيح”، والدليل الصحيح للإدانة هو الثابت بيقين، أما إذا كان صحيحا على الظن والاحتمال، فإنه يلزم الحكم بالبراءة.

تطبيقات القاعدة:

يظهر تطبيق قاعدة “درء الحدود بالشبهات” بوضوح في الصور الآتية:

  1. تخلف شرط الحرز أو النصاب في السرقة، الذي ينفي حد السرقة، وإن كان ذلك لا يمنع من العقاب تعزيرا على الفعل.
  2. كما أن تخلف شرط الإحصان في القذف، يستبعد معه حد القذف، وهو الجلد ثمانون جلدة.
  3. تخلف شرط الوطء في الزنا، ويتحقق فيما يأتي:
  • إنكار المشتبه فيه يعد شبهة تدرأ الحد، وذلك تأسيسا على حديث سهل بن سعد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن رجلا أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له، فبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى المرأة فسألها عن ذلك، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها”[7].
  • وإذا شهد على شخص ثلاثة بالزنا، وقال الرابع: لم أر ما قالوا ولكني رأيتهما في لحاف واحد فشهادتهم باطلة؛ لأن الرابع ما شهد بشيء، فلم يتكامل عدد شهود الزنا فلا يجب الحد على المشهود عليه، والأصل في ذلك حديث المغيرة بن شعبة، فإن عمر – رضي الله عنه – أقام الحد على الثلاثة حين امتنع زياد من الشهادة على صريح الزنا ولم يقم الحد على زياد.
  • وإن كان الرابع قال: أشهد أنه زان، ثم سئل عن صفته فلم يصف ذلك، سقط حد الزنا”[8].

ثانيا. هذه القاعدة تقوي الأدلة التي تثبت الإدانة، وتجعل القاضي المسلم على بينة من حق الفرد في الأمن؛ حيث لا يقضي بالإدانة إلا بعد ثبوت الدليل لديه ثبوتا يقينيا:

يشير د. فتحي الخماسي إلى تفعيل هذه القضية في القضاء الإسلامي فيذكر أنه في الوقت الذي شددت فيه الشريعة على المعتدين أقامت مبدأ “درأ الحدود بالشبهات” ليكون له دور أساسي في بيان مدى قوة الأدلة التي تثبت إدانة المجرم بفعله الإجرامي، بحيث لا تحتمل هذه الأدلة أي معنى من معاني الشبهة المسقطة للعقوبة، ولذلك كانت الشريعة حريصة كل الحرص في موضوع الاتهام والإدانة على مصلحة المتهم، وعدت الشبهة من الأمور التي تكون في صالح المتهم لا ضده، وبذلك قررت درء العقاب عن المتهم بأي شبهة تظهر أثناء التحقيق.

وإن أخذ القضاء الإسلامي بهذا المبدأ كقاعدة في الحكم يدل دلالة واضحة على عدالة الشريعة الإسلامية وحرصها على إنصاف المتهمين في الجرائم المنسوبة إليهم، وقد جعلت الشبهات التي تسقط العقوبة عن الجاني أو يكون لها تأثير في تخفيف العقوبة المقررة – مبدأ عاما في قضايا القصاص والحدود والتعازير.

فهي بذلك تعد قاعدة من القواعد العامة والهامة في التشريع الإسلامي التي يعتمد عليها القضاء في الحكم، ولا يمكن للقاضي أن يبت في قضية من القضايا أو خصومة من الخصومات حتى ينظر في هذا المبدأ العام، ويتثبت من عدم وجود شبهة تسقط العقوبة عن المتهم؛ فيكون بهذا قد راعى النصوص الشرعية وتقيد بها والتزم محتواها. وإن دليل الفقهاء: “ادرءوا الحدود بالشبهات…” دليل صريح على تقرير هذا المبدأ العام، وهو – بلا ريب – يتضمن مفهومه تضييق العقوبات وإسقاط الحدود المقدرة شرعا؛ حيث لا يؤخذ أحد بشبهة من الشبهات ولا بمظنة لقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6)( (لحجرات).

وإن الأخذ بمبدأ “درء الحدود بالشبهات” القصد منه أن تكون شريعة الحد قائمة والتنفيذ القليل منها صالحا لإنزال النكال بالمذنبين، أو بعبارة أدق: من يكون بصدد الوقوع في الجريمة.

أنواع الشبهات:

وإذا كان الفقهاء قد أقروا هذا المبدأ، فإنهم لم يتفقوا على كل الشبهات، ولكنهم اختلفوا في الصورة التي تكون شبهة والتي لا تكون شبهة، فالذي يرى انتفاء الشبهة يوجب إقامة الحد، والذي لا يرى ثبوت الشبهة يوجب إسقاط الحد.

وتنقسم الشبهة عند الفقهاء إلى أربعة أقسام نذكرها بشيء من التفصيل:

  1. الشبهة في تحقق الركن: إن إثبات الجريمة يحتاج إلى تحقق أركانها ليدان المتهم بفعله، فإذا كانت الشبهة قائمة في ركن من هذه الأركان؛ فإن المدعى عليه يبرأ من الجناية المنسوبة إليه، كما تختلف أركان كل جريمة عن أركان غيرها من جرائم الجنايات والجنح، وإن ثبوت الركن لثبوت الجريمة يعتمد على الحرمة القطعية، أما إذا كان التجريم موضع شك وريبة، وتضمن شبهة من الشبهات؛ فإنه يوجب بذلك إسقاط العقوبة عن الفاعل، كذلك إذا كانت الشبهة قائمة في انطباق النص المحرم على الفعل المنسوب للمتهم، فإنه في هذه الحال لا يعاقب لا حدا ولا تعزيرا، وكذلك شرط الفعل أن تكون الشبهة قائمة في ثبوت الجريمة والأمثلة على ذلك كثيرة نورد بعضها لبيان أحوال هذه الشروط في الشبهة:

فمثال الأول: إذا وقع الرجل على غير زوجته على اعتقاد أنها حليلته سقط عنه حد الزنا لانعدام تحقق القصد الجنائي باعتبار أنه ركن من أركان جريمة الزنا.

ومثال الثاني: الزواج بغير الشهود، فرأي الإمام مالك أن إنشاء العقد صحيح؛ لأنه لم يشترط الشهادة في صحة مباشرة العقد، إلا أنه شرط لإمضاء العقد بالدخول الإعلان والإشهار، فخالف بذلك جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى القول بعدم صحة إنشاء العقد من غير الشهود، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» [9].

 ولكن هذا الخلاف قد ورث شبهة؛ لأن القول بالنكاح من غير شهود لا يثبت معه الحل، كما أن الزواج بالشهود من غير الإعلان لا يثبت معه صحة العقد للخلاف المذكور بين الفقهاء.

ومثال الثالث: أن التأخر في تأدية الشهادة لإدانة المتهم بجريمة السرقة، أو الزنا أو نحوهما من الجرائم يعد شبهة مسقطة للحد عند الحنفية.

       2- شبهة الدليل: إن الاختلاف في المسائل الفقهية بين الفقهاء مبني في مجمله على مدى قوة الدليل واعتمادهم له؛ إذ إن رؤيتهم للنصوص الشرعية كدليل على آرائهم في القضايا والمسائل الفقهية تختلف بحسب أصول كل مذهب واتجاهه في قبول هذا الدليل، أورده لأي سبب من الأسباب، وإن اختلافهم في إثبات ركن من أركان الموضوعات الفقهية – وخصوصا منها أركان الجريمة – يتنازعه دليلان، أو دليل احتمل معنيين، ويمثل هذا النزاع شبهة في الدليل الذي استدل به كل فريق من الفقهاء. ولقد تواضع الفقهاء لهذه الشبهة على قاعدة فقهية: إن كل فعل يختلف فيه الفقهاء حلا وتحريما يكون شبهة تمنع إقامة الحد.

وقد ذكر ابن قدامة في المغني قوله: “ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح الأخت في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهة.

ومن هنا كان لثبوت الشبهة أثر في عدم تحقق الركن، وهو كون الفعل الذي قام به محرما شرعا من غير شبهة تمنع الحد.

       2- شبهة الملك: وهي من الشبهات التي تكون في أغلب الجرائم مسقطة للعقوبة؛ لأنها شبهة تقوت بدليل يبيح حق الملكية للمتهم بالجريمة؛ فلو سرق الأب مال ابنه أو جزءا منه، وثبتت عليه التهمة بثبوت الأركان جميعها يسقط عنه حد القطع؛ لأن الشريعة جعلته مالكا حقيقيا لمال ولده، وأعطته الحق في تملكه متى شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»[10].

فإن اعتبار الأب مالكا لمال أولاده يعد شبهة في الملك تدرأ عنه الحد إذا امتدت يده خفية لأخذ ما يريد من ممتلكاتهم، وكذا من أخذ المال خفية معتقدا أنه يأخذ مال غيره فاكتشف أنه سرق ماله، فلا حد ينزل به لعدم توفر ركن من أركان جريمة السرقة، وهو كون المال لغيره، ولكنه يحاسب تعزيرا حسب رأي من يرى توفر القصد الإجرامي. وإن جملة الأمثلة التي تقدم منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، كلها تدور حول شبهة أساسها ثبوت الملكية، أو الاشتباه في ثبوتها.

     3- شبهة الحق: وهي شبهة تثبت الحق لشخص في شيء من الأشياء المباحة له شرعا المحرمة صورة. أي أن الشارع قد حرم هذا الفعل ومنعه، ورتب عليه عقوبة استثنى منه بعض القضايا التي فيها شبهة حق للفاعلين، كمن سرق زوجته، أو كمن سرقت زوجها، وكذا من سرق من بيت المال، أو من ذي الرحم المحرم غير الآباء، فقد عد الفقهاء الأخذ خفية في هذه الصورة شبهة حق لمن قام بالجريمة، وأسقطوا عنه بموجبها حد القطع، وكذا قتل الوالد لولده.

     4- واختص أبو حنيفة بزيادة شبهة العقد وأثبتها به، ولو كان هذا العقد متفقا على تحريمه شرعا، وكان الجاني عالما بهذا التحريم، كمن تزوج امرأة لا تحل له وهو عالم بذلك، فإنه عدها شبهة تعلقت بركن الجريمة، وعد صدور العقد من أهله مثبتا للشبهة التي تسقط الحد عن الفاعل، ولقد ذكر الكاساني رأي أبي حنيفة فقال: “والأصل عند أبي حنيفة – رحمه الله – أن النكاح إذا وجد من الأهل مضافا إلى محل قابل لمقاصد النكاح يمنع وجوب الحد سواء كان حلالا أو كان حراما، وسواء كان التحريم مختلفا فيه، أو مجمعا عليه، وسواء ظن الحل فادعى الاشتباه، أو علم بالحرمة”.

     5- وزاد بعض الفقهاء شبهة الجهل بالحكم الشرعي في مختلف القضايا الفقهية إلا أن الجهل ببعض المسائل في الشريعة يعذر فيه المتهم؛ لأن طريق تحصيل معرفتها والإحاطة بمعانيها وأحكامها يكون غالبا صعبا، وذلك راجع إلى اختصاص الفقهاء بهذه المسائل، وغياب التطبيق للأحكام والمعاملات يفضي إلى الجهل إلا بما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لذلك عد الفقهاء الجهل في مثل هذه الحالات عذرا مسوغا لإسقاط الحد والاستعاضة عنه بعقوبة تعزيرية؛ لأن المتهم قام بفعل محرم دون الاستفسار عنه، ومعرفة حكمه من العلماء المختصين بالفقه كمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أختا له من الرضاعة، ولم ينتبه إلى ذلك أحد ممن يعلم حقيقة الأمر، فيكون عدم علمه بالأمر عذرا مسوغا لإسقاط الحد من غير عقوبة تعزيرية، كذلك الأمر بالنسبة لمن شرب الخمر وادعى أنه لا يعلم حرمتها، وهو حديث عهد بالإسلام يقيم في عمران غير المسلمين، فإن جهله يعد عذرا مبررا لفعله أمام القاضي، فيسقط به عقوبة الحد ويستعيض عنها بعقوبة تعزيرية.

وإن الجهل بالأحكام الشرعية لا يكون دائما مسوغا لإسقاط العقوبات إلا في الأمور التي يقررها القضاء، ويعدها سببا كافيا وعذرا شرعيا في التغاضي عنه والعفو، وقد جاء في كشاف القناع للبهوتي ما نصه: “وإن جهل تحريم الزنا لحداثة عهده بالإسلام أو نشأته ببادية بعيدة عن دار الإسلام، أو جهل تحريم نكاح باطل إجماعا كخامسة فلا حد للعذر، ويقبل منه ذلك لأنه يجوز أن يكون صادقا، ولا يسقط الحد بجهل العقوبة إذا علم التحريم.

وإن للجهل بالحكم الشرعي حالات، نذكر منها:

  • الجهل بأصل التحريم ليس عذرا: إن الجهل في هذا الموضع يكون محصورا في الأحكام الفقهية المجمع عليها إجماعا تاما من غير مخالف لها، فإذا خالف أحد الفقهاء لم ينعقد الإجماع على ذلك الحكم، وبالتالي يكون الخلاف شبهة كافية لإسقاط الحد. وإن الأحكام المجمع عليها لا يعذر فيها متهم ولا يعد جهله بأصل التحريم المجمع عليه مبررا لفعله، وتلحقه العقوبة؛ لأنه يعد في نظر الشريعة جانبا مستحقا للعقاب المقدر.
  • الجهل بالأحكام التعزيرية: إن الأحكام التعزيرية غير العقوبات المقدرة شرعا كالحدود والقصاص، تركها الشارع لأصحاب الرأي المختصين لتقدير العقوبات التعزيرية الرادعة للجاني والمؤدبة له؛ حيث يعد الجهل بها عذرا مسوغا لتخفيف العقوبة كالغش في البيع، والرشوة ونحوها من الأمور التي نهى عنها الشارع، ولم يحدد لها عقوبة.

ثالثا. ليست كل شبهة مسقطة للحد، بل هناك ضوابط تحكم هذه القاعدة:

تختلف الشبهات في المرتبة من حيث القوة والضعف بحسب ما تتعلق به، ولا يوجد ضابط يضبط قوة الشبهة أو ضعفها إلا بالنظر إلى نوع الجريمة وأركانها الخاصة بها، فإذا كانت هذه الشبهة متعلقة بالركن الأصلي للجريمة، فهي من أقوى الشبهات المسقطة للحد والتعزير معا، وتكون إما: شبهة دليل، أو شبهة ملك، أو شبهة حق، أو شبهة عقد، فإن سرقة الوالد لمال ولده يعد شبهة قوية في الملك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»[11].

ولا يوجب العقوبة، ولا التعزير؛ فيمحو بذلك وصف جريمة السرقة عنه.

أما إذا تعلقت الشبهة بجهل المتهم بالأحكام التي تحرم الأفعال التي أتى واحدة منها، أو بعضها، فإنها تختلف باختلاف مظنة الجهل يقدرها القاضي بحسب الظروف والحادثة، ولا نستطيع أن نعدها ضعيفة إذا كانت مظنة الجهل قوية، ولا يمكن أن تكون الشبهة قوية ومظنة الجهل ضعيفة.

وكذلك شبهة الإثبات؛ فإنها تحتاج إلى ضوابط كي تكون معتبرة لدى القضاء، فإذا تأخر تنفيذ الحكم، أو تأخر الشهود عن أداء الشهادة لغير عذر شرعي، يكون هذا التأخير مسقطا للحد عند الحنفية باعتباره شبهة قوية عندهم. ولا بد أن يؤخذ ذلك بعين الاعتبار في تخفيف العقوبة من عقوبة حد إلى عقوبة تعزير.

وفي كل الأحوال، يعد القاضي المسئول الوحيد في تقدير الشبهة من حيث القوة والضعف معتمدا على اجتهاده ومعرفته لنوع الجريمة الواقعة، وحالة المجرم وظروفه؛ لأن ذلك كله يعطيه القدرة على اختيار الحكم المناسب، فإما أن يقضي بالحد، أو يسقطه عن الجاني ويأمر بعقوبة تعزيرية، أو يسقط الحد والتعزير معا”[12].

الخلاصة:

  • إن قاعدة “درء الحدود بالشبهات” من المباديء الأساسية في الإثبات الجنائي في الشريعة الإسلامية ويقصد بها تفسير الدليل عند الشبهة أو الشك فيه لصالح المتهم؛ لأنه يكفي بهذه الحالة لتأكيد قرينة البراءة التي يتمتع بها.
  • ولقد وضعت هذه القاعدة استنادا إلى التطبيق النبوي لحماية الفرد من الضرر وافتراض براءته أولا، وتفسير الاحتمال لصالحه، والتضييق من نطاق العقوبة ثانيا، وجعل القاضي المسلم على بينة من حق الفرد في الأمن ثالثا، وبالتالي افتراض براءته من الفعل المنسوب إليه، بحيث لا يقضي بالإدانة إلا بعد ثبوت دليل الإدانة لديه ثبوتا يقينيا قطعيا.
  • وليس كل شبهة دارئة للحد؛ إنما على القاضي أن يستنفد جميع الطرق الممكنة للتوصل إلى إثبات الإدانة أو نفيها.

(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت (6438)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا (4520) بنحوه.

[2]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4422)، والنسائي في المجتبى، كتاب الرجم، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه (7207)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4420).

[3]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الحدود، باب في درء الحدود بالشبهات (28493).

[4]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الحدود، باب في درء الحدود بالشبهات (28494)، والدارقطني في سننه، كتاب الحدود والديات وغيره (10).

[5]. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الحدود، باب في درء الحدود بالشبهات (28497).

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6902)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2291)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2291).

[7]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب إذا أقر الرجل بالزنا ولم تقر المرأة (4468)، وفي موضع آخر، والطبراني في المعجم الكبير، باب السين، سهل بن سعد الساعدي ذكر سن سهل بن سعد ووفاته (5924)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4437).

[8]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص729 وما بعدها.

[9]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في المنصف، كتاب النكاح، باب النكاح بغير ولي (10473)، والطبراني في المعجم الكبير، باب العين، عمران بن حصين يكنى أبا نجيد ومن أخباره وذكر نسبته (299)، وصححه الألباني في الإرواء (1860).

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6902)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2291)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2291).

[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6902)، وابن ماجه في سننه، كتاب التجارات، باب مال الرجل من مال ولده (2291)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2291).

[12]. الفقه الجنائي الإسلامي: القسم العام، د. فتحي بن الطبيب الخماسي، دار قتيبه، دمشق، ط1، 1425 هـ /2004م، ص65 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن موقف التشريع الإسلامي من قبول شفاعة الشافعين في الحدود موقف غير واضح، بل هو مضطرب ومتناقض؛ حيث تقبل الشفاعة في الحد قبل بلوغ الإمام، أما بعد ذلك فلا تقبل. ويتساءلون: ما الفرق بين الحالين؟ ولماذا يفرق الإسلام بين الأمر قبل بلوغ الإمام وبعده؟ حيث لا توجد ثمة حكمة توجب التفريق.

وجوه إبطال الشبهة:

1) تهدف المنظومة العقابية في النظام الإسلامي إلى تحقيق مصالح المجتمع والدولة في جميع مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والتربوية، فهي منظومة تتسم بالشمولية، والكمال، والمرونة، مما أكسبها صلاحيتها لكل عصر ومصر.

2) الإمام هو القائم على الحدود وتنفيذها، وهو المسئول عنها أمام الله وأمام المجتمع، وليس للأفراد أن يتولوا هذا العمل من تلقاء أنفسهم؛ لذلك حرمت الشريعة الشفاعة في الحد إذا بلغ الإمام.

3) تحريم الشفاعة في الحدود بعد بلوغ الأمر إلى الإمام له حكم ومقاصد، أوجزها النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»[1]. فالشفاعة تؤدي إلى المجاملة، والتمييز بين الناس، وخلق الطبقات والطوائف في المجتمع، وتعطيل الحدود، وهذا من أعظم الأخطار التي حاربتها شريعة الإسلام.

التفصيل:

أولا. تهدف المنظومة العقابية في التشريع الإسلامي إلى تحقيق مصالح المجتمع في جميع مجالات الحياة، فهي تتسم بالشمولية والكمال والمرونة وصلاحية لكل عصر:

وعن ماهية العقوبة وعناصرها وخصوصيتها يقول د. فتحي الخماسي: “إن المنظومة العقابية في التشريع الإسلامي، تهدف إلى تحقيق مصالح المجتمع والدولة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية… ونحوها من الأمور والقضايا التي يرتبط بها مصير الأمة مثل الأمن، والاستقرار التام، وحفظ نظام العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، والطوائف، والعقائد، كما يحرص النظام القضائي على نشر العدالة ويعمل جاهدا للقضاء على أنواع الظلم، ومظاهر الفساد والانحراف، والانحلال، لإنهاء الجريمة وإزالة آثارها من أوساط المجتمع الإسلامي.

وبذلك يعبر النظام العقابي في التشريعات الإسلامية عن شموليته وكماله ومرونته، وأنه أصلح في الحكم والتطبيق، أي صالح لكل زمان ومكان، لايقبل أي تعديل ولا تبديل، ولا يتم اجتهاد إلا في إطار ما ورد من النصوص التي دلت على العقوبات المقررة من قبل المشرع.

فإن النظام العقابي مرتبط ارتباطا جدليا بالنظام الجزائي، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، والأمثلة على ذلك كثيرة من مصادرها الأصلية، حيث عبرت جملة القواعد القانونية عن موضوع العقوبة والجزاء، وشروط كل جريمة وأركانها بحسب التصنيف القانوني للجرائم.

وإذا تدبر الإنسان أحكام الشريعة في عقوباتها، من حيث التناسب بينها وبين الجرائم؛ أدرك الحكم والمقاصد التي أرادها الشارع لخلقه، وأدرك الأهداف الحقيقية والواقعية التي لأجلها وضعت الأحكام، وأوجب على أولي الأمر تطبيق المنظومة القانونية داخل الواقع الإسلامي استجابة لأمر الله وطاعة له. ولإيضاح ذلك نورد عدة مطالب:

  1. ماهية العقوبة: تفيد العقوبة على إطلاقها كل أنواع الردع والزجر، بمختلف الأنواع، والأشكال، والصور، ويكون دور القانون ووظيفته منحصرة في بيان أنواع العقوبات، ومقاديرها الشرعية المقررة من قبل المشرع سبحانه وتعالى، أومن أوكل إليهم المشرع من الفقهاء المجتهدين مهمة استنباط بعض العقوبات وتحديدها للأفعال الجرمية، التي لم تشملها النصوص الشرعية بأحكامها.

وإن استنباط بعض الأحكام التشريعية لبعض الجرائم، يعبر في حقيقته عن الجزاءات التي يقررها القانون، وتوقعه المحكمة على كل من تثبت مسئوليته عن الفعل الجرمي مسئولية كاملة وتامة.

     2 – عناصر العقوبة: يتمثل مضمون العقوبة في أمور:

  • مادي يختص بإيلام الجاني، الذي حكم عليه بدنيا بحيث يتنوع الإيلام ما بين الجلد، والرجم، والقطع، والجرح، والقتل.
  • معنوي يؤدي فيه تنفيذ العقوبة، إلى شعور المحكوم عليه بالمهانة التي ينتج عنها احتقار المجتمع له.
  • المساس بحرية المحكوم الذي يقضي عقوبته بالسجن نتاج فعله الجرمي.
  • الغرامات المالية والضمان لما أتلف أو سرق.

فالعقوبة المقررة، تعبر في الحقيقة الشرعية عن الأذى المقصود الذي يلحق كل محكوم عليه، ويكون الهدف منه ردع المجرمين، وتحقيق إصلاح المحكومين، وتأهيلهم بطريق فرض هذه العقوبات وتطبيقها.

وتستند كل جريمة وما تستوجبه من عقاب، على معايير متنوعة تتعلق بالقيم الاجتماعية التي أصابتها أضرار مادية ومعنوية، تسهم في هدم البناء الخلقي والقيمي للأمة.

      3- خصوصية العقوبة: إن المنظومة القانونية التي تعبر عن روح التشريع الإسلامي، منضبطة بعدة مبادئ قانونية تنظم المسائل الخاصة ببيان أنواع العقوبات، بيان كيفية تنفيذها على المحكوم عليهم في إطار مبدأ الشرعية.

وتعد العقوبة الشرعية رسمية، إذا خضعت لعدة أمور لا بد من توافرها لتحقيق العدالة:

  • أن تكون العقوبة محددة بنص شرعي (مبدأ الشرعية).
  • أن تنفذ على الشخص الذي ارتكب الجناية في إطار مبدأ شخصية العقوبة.
  • ألا تنفذ العقوبة إلا بحكم قضائي في إطار مبدأ قضائية العقوبة مع ضرورة تحقق الهدف من العقوبة المتمثل في الإيلام الذي يجب أن يكون متناسبا مع الجريمة في إطار مبدأ تناسب العقوبة مع الجريمة.

      4- الباعث على العقوبة: إن الشريعة الإسلامية قد احتوت جملة الأحكام والقوانين، لتنظيم علاقات البشر بعضهم ببعض في جميع جوانب الحياة، فكان الحفاظ على المصالح العامة والخاصة للأمة، من أهم البواعث على وجود العقوبات التي تضبط كل الأمور، وتحفظ الحقوق، وتصون الكليات.

فانتشار السرقة، ونهب أموال الآخرين من الأمور التي حرمتها الشريعة تحريما قطعيا، وشددت في عقوبتها لحفظ المال، ومصلحة الأفراد والجماعات كما عدت الزنا جريمة اجتماعية تهدم المجتمع، وتفكك الروابط الأسرية، وتضيع الأنساب، وتزرع العداوة والكراهية بين الناس، فكان حكمها رجم المحصن، وجلد العزب، واللعان بين الزوجين.

كما أن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق من أخطر الجرائم التي تذهب بحياة الناس، وتهدد أمنهم واستقرارهم، لذلك جعل الشارع عقوبتها القصاص؛ لقوله عز وجل: )فكأنما قتل الناس جميعا( (المائدة: ٣٢)، وهكذا كل الجرائم.

والحقيقة أن الباعث على شرعية العقوبة، هو جلب المصالح ودرء المفاسد، أي الحفاظ على المقصد العام من التشريع الإسلامي، الذي تتحقق به سعادة البشر في الدنيا والآخرة، كما أراد لها ربها وارتضى لها ذلك.

      5- بيان عموم العقاب: لم يقتصر التشريع الإسلامي في فرض العقوبات على جانب معين من جوانب الحياة الإنسانية، وإنما تعدى ذلك كل العلاقات بمختلف نظمها وتنظيماتها، فأحاط بالحياة كلها ولم يترك شيئا إلا وشرع له حكما، ورتب عليه عقوبة، كل ذلك من أجل حماية المصالح الإنسانية المقررة إلى جانب تحقيق العدالة الاجتماعية باعتبارها من المقررات الشرعية. فالشريعة لم تضيع أي حق من الحقوق؛ لأنها ذكرت قواعد عامة تدل دلالة واضحة وصريحة على الحماية العامة، كقول علي – رضي الله عنه – في قضية من القضايا التي كان يحكم فيها: “لا يبطل دم في الإسلام”[2].حيث يعبر هذا القول عن روح التشريع وعدالته، إذ لايذهب دم بغير حق، ولا تمر جريمة من جرائم الجنايات أو الجنح أو المخالفات من غير عقوبة شرعية، وبحسب ما اقتضته النصوص، والأمثلة على النواحي الأخرى من الجنح والعقود المدنية كثيرة، حيث إن الشريعة شملت بأحكامها كل ميادين الحياة، ونظمت جميع العلاقات بين الأفراد والجماعات وبين الدول وبين الأديان؛ إذ إنها لم تترك شيئا إلا وتكلمت فيه.

       6- قصر العقاب على المجرم: لقد بينت النصوص الشرعية العقوبات التي تنزل بالمجرم عموما، غير أنها لم توضح من هو المجرم؟ هل تختص العقوبة بالمجرم الحقيقي الذي باشر الجريمة؟ أم أن العقوبة تشمل المباشر للفعل من الجناة وغير المباشر منهم؟

لقد أدى هذا العموم في النصوص إلى اختلاف الفقهاء في إلحاق الحكم بغير المباشر، فذهب بعضهم إلى قصر العقوبة على المباشر للجريمة دون المشاركين غير المباشرين للجريمة وذهب الآخرون إلى إلحاق العقاب بغير المباشر، وعدوه شريكا حقيقيا في حدوث النتيجة وتحققها؛ لأن المشاركة تستوي عندهم سواء أكانت شكلية أم فعلية.

ومثال الفعلية كأن يمسك المساهم في الجريمة شخصا، وينفذ آخر القتل، أو الجرح أو القطع أو الاعتداء بالضرب ونحوه، فإنه يعد بهذا الفعل مباشرا للجريمة؛ لأن الأصل في ارتكابها مباشرة الفعل الجرمي الذي نهى الشارع عن إتيانه، وعده من الكبائر التي تلحق بالأفراد الضرر، وتقود الأمة جميعها إلى الفساد وإيقاد نار الفتنة.

      7- العقوبات القاسية: إن تناسب العقوبة مع الجريمة من الأمور التي قدرها رب العباد، الذي يعلم تناسب الأحكام الشرعية وعدالتها، حيث يلقى المجرم جزاءه على فعله المشين، ولعل أقسى العقوبات التي وردت في النصوص الشرعية عقوبة قطع الطريق في قوله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (34)( (المائدة).

 ولا شك أن تلك الغلظة في العقوبة تتكافأ مع الغلظة في الجريمة، لا من حيث مقدار الفعل الذي وقع منهم، بل من حيث الفساد الذي أوجدوه، والذعر الذي أذاعوه، والاضطراب الذي استولى على نفوس الناس، فإنهم يتفقون فيخرجون متعاونين على الإثم والعدوان، ويقطعون طريق السابلة، فلا يمر مال إلا أخذوه ومن قاومهم قتلوه؛ فيضعفون بذلك هيبة الحكم، وتصبح شئون الناس فوضى لا ضابط ولا نظام، بل اضطراب وفساد، فلا عدل يقام حيث يعم الظلم ويستشري الفساد، لذلك يكون الردع قاسيا ليتناسب مع هذا الجرم الكبير، فإنه في معظم البلاد الأمريكية والأوربية تنشأ العصابات، وتتشكل لقطع الطريق في مختلف أنحاء البلاد والمواقع بقوة الأسلحة التي تمتلكها، ودقة التنظيم الذي تنهجه، فتغير على المصارف والخزائن ولا قبل للشرطة بمقاومتها، مما جعل هذه العصابات تتفاخر بغاراتها، كما كان يتفاخر الشطار في عصور الجاهلية، وكما كان يتفاخر قراصنة البحار الذين كانوا ينهبون ما يجدون من سفن وتجارات”[3].

ثانيا. الإمام هو القائم على الحدود وتنفيذها، وهو المسئول عنها أمام الله وأمام المجتمع:

حرمت الشريعة الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام؛ لأن عبء إقامة الحد وتنفيذه يقع على ولي الأمر أو الحاكم، أي على إمام المسلمين، أو نائبه إذا فوض من نصبه لاستيفاء العقوبات. وليس للأفراد أن يتولوا هذا العمل من تلقاء أنفسهم، وبناء على ذلك، يكون للقاضي إقامة الحد أساسا بالنسبة للأحرار، أما العبيد والإماء فله أن يأذن للمولى أو السيد في إقامته عليهم.

وأساس ذلك وسنده، أن الله – عز وجل – قد أمر عباده بإقامة الحدود، وذلك أيا كان هذا الحد، يستوي أن يكون حدا لله تعالى، كحد الزنا، أم حد لآدمي كحد القذف.

وآيات الله البينات التي تنص على عقوبات الحدود، تحمل هذا المعنى. ففي قول سبحانه وتعالى: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: ٢)، وقوله سبحانه وتعالى: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( (المائدة: ٣٨)، وقوله سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض( (المائدة:٣٣). فكل تلك الآيات البينات تتضمن أمرا بإقامة العقوبة المنصوص عليها.

والتكليف في هذه النصوص موجه إلى جميع المسلمين، ولكن الأئمة ومن يليهم من جهتهم، ومن له قدرة على تنفيذ حدود الله مع عدم وجود الإمام، يدخلون في هذا التكليف دخولا أوليا، ويتوجه إليهم الخطاب توجها كاملا.

كما أن الإمام عبد من عباد الله – سبحانه وتعالى – أنعم عليه بأن جعل يده فوق أيديهم، وجعل أمره نافذا عليهم، وأهم ما يجب عليه العمل بما شرعه الله لعباده، وحمل الناس عليه، وتنجيز ما أمر الله به، وعليهم إقامة الحدود.

علاوة على ذلك فإن الإمام والسلطان لهم الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يقيم الحدود على من وجبت عليه، بمقتضى ولايته في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

والحد حق الله تعالى – سواء كان حقا لله صرفا أو مشوبا بحق العبد – ومشروع لصالح الدين والجماعة، فمن الضروري أن يقوم به من يتولى أمر الناس، واستمد سلطانه من الشرع، وليس لأي أحد، فردا كان أو جماعة، أن يسلب هذا الحق من ولي الأمر، أو يفتأت عليه.

وقد قيل بأنه إذا كانت العقوبات قد شرعت للردع وفقا لأحكام الشرع، وكان استيفاؤها من باب السياسة للزجر عنها وقاية لأمر المجتمع من الضاربين به من أهل الرذالة والفساد، فإن ذلك ولاية أصيلة للإمام، لأنه يمثل السلطة الشرعية لحراسة الدين وسياسة الدنيا. وعندما تكون العقوبة غير واردة في نصوص مكتوبة، وليست لها عقوبة شرعية، فإن من حسن السياسة العقابية أن يقوم بها ولي الأمر – الحاكم – أو من يفوضه في ذلك.

هل يجوز لغير الحاكم أو الإمام إقامة الحدود؟

المتفق عليه أنه إذا كان للإمام إقامة الحدود، له أن يباشر ذلك بنفسه، أو يفوض من ينوب عنه في إقامة الحد، ومعنى ذلك أنه ليس هناك ما يمنع الإمام من تفويض نائبه – أو المتولي من جهة أحدهما، أو منتصب بالصلاحية في كل قطر من أقطار المسلمين – في إقامة الحد.

وعلة ذلك: أن الحد عقوبة مقدرة، ولذلك يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن عند استيفاء الحد من الحيف[4]، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه، وهو الإمام أو ولي الأمر، كما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقيم الحد في حياته، وأقامه خلفاؤه من بعده. ويقيم الإمام، أو من فوض إليه الإمام ذلك الحدود على الأحرار، أما العبيد فإن للسيد إقامة الحد عليهم.

ثالثا. تحريم الشفاعة في الحدود بعد بلوغ الإمام له حكم ومقاصد وعكسه يؤدي إلى المجاملة والتمييز بين أفراد المجتمع وتعطيل الحدود[5]:

يوجب الشارع الإسلامي إقامة الحد على المحكوم عليه، متى توافرت أركان قيام الحد وعناصره وشروطه.

ويقصد بوجوب إقامة الحد أن يعمل الحاكم – أو الإمام – على تنفيذ هذه العقوبة على المحكوم عليه بها؛ إذ إن هذه الإقامة هي من مهام الإمام – أولي الأمر في الدولة الإسلامية – لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق العباد من الإتلاف والإفساد، وليس لأحد إليها من سبيل سواه؛ تحقيقا للأمن، ودرءا للفتن، وعصمة من الفوضى، وقطعا على الأهواء.

ويستند في هذا الوجوب إلى الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة:

  • القرآن الكريم:

أمر الله – عز وجل – عباده بإقامة الحدود، ففي وجوب إقامة حد الزنا قال عز وجل: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: ٢)، وفي وجوب إقامة حد السرقة قال سبحانه وتعالى:)والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة)، وهو نفس المعنى الذي يحمله قوله – عز وجل – لوجوب إقامة حد الحرابة )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض( (المائدة:٣٣).

كما أن قول الله عز وجل: )ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر( (النور: ٢) يعني إقامة الحدود، فالرأفة المنهي عنها هي التي تأخذ المتولين إقامة الحد. ويفسر العلماء هذه الآية بأن معناها يشير إلى عدم تعطيل إقامة الحد، أي لا تعطلوا حدود الله، ولاتتركوا إقامتها للشفقة والرحمة، لأن الرحمة بالمجتمع أهم بكثير من الرحمة بالفرد.

وفي هذا المقام أيضا يفسر العلماء قول الله سبحانه وتعالى: )ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)( (الروم)، بأن إحياء الأرض لا يكون بالمطر وحده، وإنما يبعث الله تعالى رجالا فيحيون العدل؛ فتحيا الأرض لإحياء العدل ولإقامة الحد فيه.

  • السنة النبوية المطهرة:

ومما يدل على تأكيد الوجوب، ما ثبت من حديث السيدة عائشة – رضي الله عنه – أنها قالت: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد – رضي الله عنه – فكلموه، فكلم النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل”، ثم قام النبي – صلى الله عليه وسلم – خطيبا فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». فقطع يد المخزومية [6]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أن رسول – صلى الله عليه وسلم – قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[7].

  • منهج الخلفاء الراشدين:

كتب علي – رضي الله عنه – إلى رفاعة: “أقم الحدود في القريب، يجتنبها البعيد، لا تطل[8] الدماء، ولا تعطل الحدود”.

والتكليف بإقامة الحد يكون موجها إلى جميع المسلمين، يدخل في هذا التكليف الأئمة والحكام ومن يليهم من جهتهم، ومن له قدرة على تنفيذ حدود الله، ويتوجه إليهم الخطاب توجها كاملا.

  • المعقول:

إن إقامة الحد عند توفر شروطه هو أمانة، ويقول الله – عز وجل – في محكم آياته: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها( (النساء: ٥٨)، ومقتضى ذلك وجوب أداء الأمانة، وذلك بإقامة الحد. وتنفيذ واجب أداء الحد فيه طاعة لله تعالى ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – لقول الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم( (النساء: ٥٩)، كما أن في إقامة الحد حفظا للدين وسياسة للدنيا.

فضل إقامة الحد:

إن ارتكاب الإثم الموجب للحد هو من قبيل التعدي على حرمات الله تعالى، وفي إقامة الحد على الجاني انتقام لحرمات الله سبحانه وتعالى، وصيانة لها عن الانتهاك، وحفظ لحقوق العباد عن الإتلاف والإفساد.

وفي ذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «ما خير رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها»[9].

ولذلك حث الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – المسلمين على إقامة الحدود، فقال صلى الله عليه وسلم: «حد يقام في الأرض خير للناس من أن يمطروا ثلاثين أو أربعين صباحا»[10]. وجاء عن علي – رضي الله عنه – أنه قال: “لا يسعد أحد إلا بإقامة الحد، ولا يشقى أحد إلا بإضاعتها”.

ويستحب حضور الجمع من الناس، والمقصود بذلك إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من رفع التهمة عمن يجلد؛ ولذلك قال – عز وجل – عند تنفيذ حد الزنا بالرجم أو بالجلد: )وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور)؛ ليكون ذلك أعظم في الزجر، فيخاف المحكوم عليه من حضورهم، فيكون ذلك أقوى في زجره.

آثار الوجوب:

يترتب على وجوب إقامة الحد عدة آثار منها:

  1. عدم جواز إسقاط الحد عن المحكوم عليه به: فالحاكم أو الإمام عبد من عباد الله سبحانه، أنعم عليه بأن جعل يده فوق أيدي بقية الرعايا، وأمره نافذ عليهم، وأهم ما يجب عليه هو العمل بما شرعه الله لعباده وحمل الناس عليه، وتنجيزه ما أمر الله به، ومن أعظم ما شرعه لهم وعليهم إقامة الحدود، وبناء على ذلك لا يجوز لهذا العبد أن يبطل ما أمر الله به، ويهمل ما شرعه الله لعباده، وأمرهم بأن يفعلوه. وقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الوعيد الشديد على من تسبب في إسقاط الحد، سواء أكان هذا بشفاعة أو غيرها.

والحكام والأئمة لهم في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الأسوة الحسنة، فقد كان يقيم الحدود على من وجبت عليه، ولم يسمع عنه أنه أهمل حدا بعد وجوبه ورفعه إليه.

      2 – الاستثبات: أي بيان أدلة الجريمة ومدى ثبوتها على الجاني.

      3 – درء الحدود بالشبهات: ليس للشارع الحكيم هدف في إلصاق التهم بالمنضوين تحت لواء الدين الإسلامي الحنيف.

وقيل: إن سند ذلك ودليله قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قصة رجم ماعز – فيما ذكره جابر بن عبد الله: «فلما وجد مس الحجارة قد اشتد، فر حتى مر برجل معه لحي[11] بعير، فضربه وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه»، وهذا مبني – من وجهة صاحب هذا القول – على أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن ماعزا قال: «إن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غير قاتلي». وكان ذلك شبهة له[12].

وبناء على ذلك، ليس للإمام:

o  إسقاط ما أوجبه الله إلا ببرهان من الله لا من جهة نفسه، فإنه لم يفوض إليه ذلك، ولا من عهدته، ولا مما له مدخل فيه، فإن فعل ذلك فهو معاند لله ولرسوله، مضاد له، خارج من طاعته، تارك للقيام بما أمره به.

o  تأخير ما قد وجب، وسند ذلك ما جاء أن عليا – رضي الله عنه – شهد عنده ثلاثة نفر على رجل بالزنا، فقال علي: أين الرابع؟ فقالوا: الآن يجيء، قال: خذوهم، فليس في الحدود نظرة ساعة، وقال رضي الله عنه: “متى وجب الحد أقيم، وليس في الحدود نظرة”. وقال أيضا: “إذا كان في الحد لعل وعسى، فالحد معطل”.

o      التثبيط عما قد ثبت، فإنه عبد مكلف مأمور منهي، ليس بمعصوم ولا شارع.

      4 – النهي عن تعطيل الحدود: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن تعطيل الحدود، وقال: “إنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم كانوا يقيمون الحدود على الوضيع دون الشريف”. وعن علي – رضي الله عنه – أنه حضر عثمان بن عفان -رضي الله عنه – وقد أتي بالوليد بن عقبة، وقد وجب عليه حد، فقال عثمان: من رأى أن هذا الحد قد وجب عليه فليقم وليحده، فكاع – أي: جبن – الناس عنه وعلموا رأيه فيه، فقام إليه علي – رضي الله عنه – وتناول السوط وجلده الحد بيده.

  1. تحريم الشفاعة في الحدود: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الشفاعة في الحدود، وثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة، ويؤكد ذلك:
  • ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[13].
  • وما ورد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره»[14].

وهذا هو أيضا منهج الخلفاء الراشدين، والصحابة رضي الله عنهم:

  • فقد ورد عن علي – رضي الله عنه – أنه أخذ رجلا من بني أسد في حد من حدود الله وجب عليه ليقيمه عليه، فذهب بنو أسد إلى الحسين بن علي – رضي الله عنهما – يستشفعون به، فأبى عليهم ذلك، فانطلقوا إلى علي – رضي الله عنه – فسألوه، فقال: لا تسألوني شيئا أملكه إلا أعطيتكموه، فخرجوا مسرورين، فمروا بالحسين – رضي الله عنه – فأخبروه بما قال، فقال: إن كان لكم بصاحبكم حاجة فانصرفوا فلعل أمره قد قضي، فانصرفوا إليه، فوجدوه أن عليا – رضي الله عنه – قد أقام عليه الحد، قالوا: ألم تعدنا يا أمير المؤمنين، قال: لقد وعدتكم بما أملكه، وهذا شيء لا أملكه”.
  • وورد عن الزبير بن العوام – رضي الله عنه – أنه: «لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به السلطان، فقال: الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع»[15].

ويستخلص من هذه الأحاديث أن الشفاعة في الحدود تفترض أن شخصا نسب إليه ارتكاب جريمة من جرائم الحدود المتعلقة بحق الله، ووصل خبر اقترافه لهذه الجريمة إلى الحاكم أو الإمام، وثبت ما يوجب تطبيق عقوبة الحد على الجاني، وتقدم شخص آخر إلى الإمام أو القاضي طالبا – أو ملتمسا – عدم توقيع هذه العقوبة على الجاني، أو وقفها، أو العفو عنه، فلا تقبل هذه الشفاعة من ذلك الشخص أو من غيره، ولا يجوز للحاكم أو القاضي الاستجابة إلى تلك الشفاعة.

ويشترط لعدم إعمال الشفاعة في الحد توافر الشروط الآتية:

  • ارتكاب الجاني لجريمة يقرر لها الشرع عقوبة الحد.
  • تعلق الحد بحق من حقوق الله تعالى.
  • وصول خبر الجريمة إلى الحاكم أو السلطان.
  • ثبوت هذا الحد على الجاني، لدى القاضي.
  • حصول الشفاعة من شخص آخر، وقد يصدر طلب الشفاعة من الجاني نفسه، أو من ذويه، أو شخص آخر يوسط في ذلك.

الخلاصة:

ومن هذا البيان يتضح أن موقف الشريعة الإسلامية من قبول الشفاعة في الحدود موقف واضح ومضبوط بالضوابط الشرعية، وليس كما يزعم هؤلاء الواهمون من أنه موقف مضطرب ومتناقض، وأي اضطراب أو تناقض والقاعدة واضحة وهي أن الشفاعة تقبل في الحد قبل بلوغ الإمام أما بعد ذلك فلا تقبل للمقاصد التالية:

  • لئلا يؤدي الأمر إلى المجاملة والتمييز بين الناس ومعافاة الغني أو طبقة النبلاء المتميزين وكل من له سند أو ظهير، ثم إقامة الحد على الضعفاء المساكين؛ وبهذا تتعطل الحدود وتعظم البلية ويقسم الناس إلى طوائف وطبقات، وهذا من أعظم الأخطار التي جاءت الشريعة الغراء لمحاربتها، وإقامة العدل والمساواة بين الناس لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
  • الإمام هو القائم على الحدود، وهو المسئول عن تنفيذها أمام الله تعالى وأمام المجتمع، وليس للأفراد أن يتولوا ذلك من تلقاء أنفسهم لذلك حرمت الشريعة الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط2، 1406هـ/1986م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3288)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغير والنهي عن الشفاعة في الحدود (4506).

[2]. أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب العقول، باب القسامة (18269).

[3]. الفقه الجنائي الإسلامي: القسم العام، د. فتحي بن الطبيب الخماسي، دار قتيبه، دمشق، ط1، 1425 هـ /2004م، ص57 وما بعدها.

[4]. الحيف: الميل في الحكم والجور والظلم. حاف عليه في حكمه يحيف حيفا: مال وجار.

[5]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص346 وما بعدها.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4053)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (4506) واللفظ له، وفي مواضع أخرى بنحوه.

[7]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4886)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4376).

[8]. طل دمه: أهدره، ولا يقال: طل دمه بالفتح. وأبو عبيدة والكسائي يقولانه، وقال أبو عبيدة: فيه ثلاث لغات؛ طل دمه وطل دمه وأطل دمه. والطل: هدر الدم. وقيل: هو أن لا يثأر به أو تقبل ديته.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3367)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب مباعدته للآثام واختياره من المباح أسهله (6190).

[10]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8723)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب الترغيب في إقامة الحد (4904)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي (4904).

[11]. لحي بعير: عظم ذقنه، وهو الذي ينبت عليه الأسنان.

[12]. حسن: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك (4422)، والنسائي في سننه الكبرى، كتاب الرجم، باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه (7207)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود (4420).

[13]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4886)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (4376).

[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (5385)، وأبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها (3599)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (437).

[15]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3087)، والطبراني في الأوسط، باب الألف، من اسمه أحمد (2284)، والدار قطني في سننه، كتاب الحدود والديات وغيره (364).

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المغرضين أن الشريعة الإسلامية ظلمت المرأة في باب القصاص والعقوبات؛ فبينما تعطى نصف ما يعطى الرجل في الميراث، تتساوى معه في القصاص والعقوبات كـعقوبة: القتل، والزنا، والقذف، والسرقة… وغيرها، وكان الأحرى في زعمهم أن يطبق عليها نصف عقوبة الرجل مماثلة بالميراث. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في عدالة نظام العقوبات في الإسلام.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الرجل في الميراث الإسلامي ليس في كل الحالات، إنما يكون في الحالات التي تجتمع مع من يساويها في درجة القرابة من الذكور، أما في بعض الأحوال، فإنها تعطى مثل الرجل، بل وتحرمه في أحوال أخرى.

2) إن مساواة المرأة بالرجل في القصاص احترام لآدميتها، وتقدير لإنسانيتها؛ حيث ينظر الإسلام للعقل في المرأة مثل الرجل، ويعتبرها مسئولة عن أفعالها مثله، وهذه التسوية بين الرجل والمرأة في العقاب من أعظم مظاهر المساواة في الإسلام.

التفصيل:

أولا. إعطاء المرأة نصف ما يعطى الرجل في الميراث ليس في كل الحالات، بل هناك حالات تساوي فيها المرأة الرجال أو تفضلهم أو تحجبهم:

وهذه الحالة التي يعطى فيها الرجل ضعف نصيب المرأة، هي عندما يتساويان في نفس الدرجة من القرابة، وذلك كله يرجع إلى ما أوجبه الإسلام على الرجل من النفقة على كل ذويه من النساء، سواء كانت أما أو أختا أو زوجة أو ابنة.

 يقول د. محمد بلتاجي: وفي وجوب النفقات على الرجل تفسير ذلك، فإذا كانت النفقات عليه في الزواج، وليس على المرأة شيء منها، وأخذت هي نصف ما يأخذ خالصا لها، لم يكن في هذا شيء من الإجحاف بها، فالرجل يحتاج إلى الإنفاق على نفسه، وعلى زوجه، وعلى أولاده، وعلى كافة من يلزمه نفقتهم بحسب حاله.

أما المرأة، فهي تنفق على نفسها – إن كان لها مال – حتى تتزوج فتكون نفقتها على زوجها، ويخلص لها مالها، وفي كثير من حالاتها يكون نصيبها من الميراث أكبر مما قد تحتاجه، بينما يكون نصيب قريبها الذي أخذ مثليها أقل مما يحتاجه، لما يلزمه من نفقات، فيكمل ذلك بكسبه الخاص، وكدحه في سبيل الرزق، وعلى هذا تبطل حجة القائلين بأن المرأة كان يجب أن تأخذ مثل الرجل – على الأقل – في الميراث، لكون الأصل فيها أن تلزم البيت ولا تمتهن حرفة للكسب كالرجل، ولأن منعها من الاحتراف حق للزوج، ذلك أن قائل هذا الرأي إذا وضع في اعتباره وجوب النفقات على الرجل، فإنه سيرى حتما أن الشريعة الإسلامية قد أكرمت النساء، ووفرت لكل منهن نصيبا – إن يكن غالبا نصف الرجل – فكثيرا ما يكون خالصا لها، وقد يشبه هذا – على نحو ما – أن يقال: إن فلانا أخذ مئة جنيه، وللضرائب فيها ثمانون، وأخذ الآخر خمسين خالصة من الضرائب أو خاضعة لشيء يسير منها.

فتميز الرجل على المرأة في الميراث يجد تفسيره الواضح في إيجاب الشريعة الإسلامية النفقات على الرجل، فالميراث والنفقات بابان في النظام المالي الإسلامي يكمل كل منهما الآخر[1].

ثانيا. مساواة المرأة بالرجل في القصاص احترام لآدميتها وتقدير لإنسانيتها، حيث ينظر الإسلام للعقل في المرأة مثل الرجل، ويعتبرها مسئولة عن أفعالها مثله:

إننا لا نكون قد أتينا بجديد حين نذكر “أن الأصل في الإسلام هو التسوية بين الرجل والمرأة في كافة الأمور، إلا ما اقتضت الطبيعة فيه بالتمايز؛ أو ما كانت التسوية فيها ظلم لطرف على حساب الآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال»[2]. والنصوص القرآنية و الأحاديث النبوية قد أكدت بكثرة على هذا الأصل.

فكما يقرر الإسلام التساوي بين الرجل والمرأة في العقوبات يقرر – أيضا – التساوي في سائر العقود والتصرفات المالية، وهنا نسأل لماذا لم يعترض هؤلاء المشككون على تساوي الرجل والمرأة في الإسلام في حرية التعاقد، والتصرف المالي، أم أنه لما كان ذلك من مزايا الإسلام سكتوا عنه.

 يقول د. البلتاجي: يقرر الإسلام التساوي بينهما فيما يتصل بحرية التعاقد والتصرف المالي فيما يملكه كل منهما، فالرجل البالغ العاقل الرشيد له الشخصية القانونية الكاملة في أن يتصرف فيما يملكه ملكا حرا بالبيع، والهبة، والوصية، والإيجار، والتوكيل، والرهن، والشراء.. وغيرها من مختلف التصرفات المالية، ومثله في هذا تماما المرأة العاقلة البالغة الرشيدة – سواء أكانت أيما أم متزوجة – فليس لأبيها، أو زوجها، أو ابنها، أو أخيها أن يمنعها من شيء من ذلك.

ولا يعطي عقد الزواج في التشريع الإسلامي أي حق للزوج في أن يتدخل في أمور أو تصرفات زوجه المالية؛ لأن حق قوامته عليها حق شخصي لا مالي، فليس له أن يتدخل في تصرفاتها المالية، إلا إذا كانت تصرفاتها ماسة بالسلوك الخلقي، وماله في حق القوامة الشخصي، فحينئذ يمارس قوامته في الجانب المقتصر على التصرفات الشخصية وحدها، دون أن يعرض للجانب المالي الخالص.

وقد يكون من مظاهر احتفاظ الزوجة بكامل شخصيتها المالية بعد الزواج في الإسلام، أنها تحتفظ باسم أسرتها دون أدنى مساس به، فلا يغير الزواج شيئا فيه، فاسم عائشة بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – بعد زواجها من النبي – صلى الله عليه وسلم – ظل كما هو عائشة بنت أبي بكر، ولم تنسب إلى زوجها سيد الخلق وخاتم النبيين والمرسلين – صلى الله عليه وسلم – ولا إلى عائلته وعشيرته، على خلاف ما يحدث في البلاد الأوربية والأمريكية ومن نهج نهجها من خلع اسم أسرة الزوج على زوجته، وتناسي اسم أبيها وأسرتها.

وليس هذا مجرد أمر شكلي في التسمية وحدها، بل إن له انعكاسا علميا في الشخصية القانونية للزوجة، يؤثر في نفاذ تصرفاتها المالية على نحو لا يتسع المجال هنا لتفصيل القول فيه.

ونضيف إلى هذا أن الإسلام – منذ ظهر – وللمرأة فيه شخصية قانونية مستقلة ومتميزة في الأموال، في حين لم تتجه التشريعات الأوربية والأمريكية إلى إعطاء المرأة شخصيتها القانونية المستقلة على نحو نسبي إلا في العصر الحديث، وبدرجات متفاوته.

أما في الإسلام، فمنذ عصر الرسالة والقرآن الكريم يخاطب الناس: )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله( (الأحزاب: ٥)، كما يخاطب الأزواج: )وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21)( (النساء).

فإذا كان يحرم على الزوج أن يأخذ شيئا مما كان قد دفعه لها مهرا ما دام قد دخل بها، ولو كان هذا المهر مقدارا هائلا يصل إلى اثني عشر ألف أوقية ذهبا -، فإن ما يدخل ذمتها من أموال وممتلكات أخرى – بطريق الكسب أو الميراث أو الوصية أو الهبة أو غيرها – ينبغي أن يكون أبعد عن طمع الزوج فيه مما كان في أصله مالا خالصا له، دفعه لها عند الزواج مهرا، فقد يكون له به شيء من التعلق النفسي عند انتهاء الزواج بالطلاق، وبخاصة إذا كان مالا كثيرا، لكنها لو طابت نفسا بأن ترد إليه شيئا من المهر دون إكراه أو إيذاء فإن الحكم في ذلك هو الحكم العام الذي بينه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه»[3]. وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: )وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)( (النساء).

وفي قوله تعالى في صدر الآية: )وآتوا النساء( أمر واضح باختصاص المرأة بمهرها دون أبيها أو قرابتها، وقد جاء في سبب نزولها أن الرجل كان إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، ونزلت الآية.

وهناك إجماع عملي متتابع في الزمن منذ عصر الرسالة – لا شك فيه – يتمثل في قيام النساء في كل عصر بأمور البيع، والشراء، والإجارة، والمشاركة، والهبة، والوصية، وسائر التصرفات المالية[4].

وفي إطار هذه التشريعات الإسلامية الخاصة بالمرأة كلها، يستطيع المنصف أن يقيم النصوص الإسلامية من القرآن والسنة.. هذه النصوص التي أعلت من شأن المرأة، وسوت بينها وبين الرجل في جميع الحقوق، التي مبدؤها حق الحياة الكريمة التي أرادها الله تعالى للجنس البشري ذكوره وإناثه على قدم المساواة، حيث قال سبحانه وتعالى: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء). وحينئذ يعلم المنصف المتأمل أن البشرية لم تصل إلى الآفاق الإسلامية في هذا التكريم، على الرغم من كل دعاوى التقدم و الحضارة ومزاعمها، ولله المثل الأعلى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الخلاصة:

مما سبق تتجلى عظمة التشريع الإسلامي، وسبقه لجميع التشريعات حتى يومنا هذا في جميع المجالات، ومنها مجال القصاص والعقوبات بالنسبة للرجل والمرأة، وقد اتضح مما سبق بيانه ما يلي:

  • إن إعطاء المرأة نصف ما يعطى الرجل في الميراث ليس في كل الحالات، بل في الحالات التي تتساوى درجة القرابة بينهما كأن يكونا أخوين، وذلك في مقابل أن الإسلام أوجب على الرجل نفقات لم يوجبها على المرأة، فالنفقة واجبة على الرجل تجاه زوجه، وأمه، وابنته، وأخته.
  • إن مساواة المرأة بالرجل في القصاص احترام لآدميتها وتقدير لإنسانيتها، وهذا من أعظم مظاهر التسوية بين الرجل والمرأة.

(*) افتراءات على الإسلام و المسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، القاهرة.

[1]. مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، ص304.

[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، (26238)، وأبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2863).

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث عم أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنهما (20714)، وأبو يعلى في مسنده، مسند أبي حرة الرقاشي (1570)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (13620).

[4]. مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، 1996م، ص123، 124.

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المشككين أن التشريع الإسلامي قد انحاز إلى جانب الرجل ضد المرأة في مسألة الدية؛ لأنه جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل.

وجها إبطال الشبهة:

اختلف الفقهاء في مسألة دية المرأة على النحو الآتي:

1) إن دية المرأة – عند بعض الفقهاء – مثل دية الرجل، وليست نصفها؛ وعلى هذا الرأي لا يكون هناك شبهة من الأساس.

2) إن القائلين بأن دية المرأة نصف دية الرجل يعللون ذلك بأن الدية ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، والدليل على ذلك: أنها تتساوى مع الرجل في القصاص حين يكون القتل عمدا؛ لأن القصاص تقدير لقيمة الإنسانية في القتيل.

التفصيل:

أولا. من الفقهاء من قال: إن دية المرأة مثل دية الرجل، وعلى هذا الرأي فلا شبهة أصلا:

وهذا هو الرأي الذي يرجحه د. القرضاوي، حيث أشار إلى أن الحكم بأن دية المرأة نصف دية الرجل لا يسنده نص صحيح الثبوت، وأن هذا الأمر من الأمور التي تقبل الاجتهاد، والتجديد؛ لتغير ظروف العصر من زمان، ومكان، وإنسان.

 يقول د. القرضاوي: وقد غصت في كتب التفسير، والحديث، وفي كتب السنن والآثار، وفي كتب الفقه والأصول، مناقشا الموضوع من جذوره، وراجعا إلى الأدلة التي تستنبط منها الأحكام، والتي يعتمد عليها أهل الفقه والاجتهاد والفتوى: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والمصلحة، وأقوال الصحابة.

وبعد مناقشة الأمر بحياد وموضوعية، تبين أن هذا الحكم الذي اشتهر لدى المذاهب المتبوعة – أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، والذي استمر قرونا معمولا به – لا يسنده نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، من كتاب، ولا سنة، كما لا يسنده إجماع، ولا قياس، ولا مصلحة معتبرة، ولا قول صحابي ثابت.

وقد تساءلت: لماذا سكت المجتهدون، والمجددون طوال العصور عن هذه القضية، ولم تظهر فيها آراء تجديدية، كما ظهر في قضية الطلاق عند الإمام ابن تيمية ومدرسته؟

تبينت أن قتل المرأة خطأ، أوشبه عمد في الأزمنة الماضية كان من الندرة بمكان، وليس كعصرنا الذي يكثر فيه القتل الخطأ في حوادث السير، وتصاب فيها المرأة كما يصاب الرجل، فلم تثر مشكلة حول الموضوع، حتى تستدعي اجتهادا جديدا من العلماء.

ويستدل د. القرضاوي على رأيه بقوله: وموضوع الديات من الموضوعات التي أقرها الإسلام من عمل الجاهلية، إلا أنه ضبطه بمجموعة من الأحكام تحدد نطاقه، وتحفظ حدوده.

وقد عني القرآن الكريم بهذا الأمر، وجاءت فيه آية محكمة من كتاب الله: )وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92)( (النساء). كما جاءت عدة أحاديث عن الدية ومقدارها، وعلى من تجب، ولمن تجب؟ إلى آخره.

ولا بد لمن يريد تجديد الاجتهاد في هذه القضية – دية المرأة – أن ينظر فيها من خلال أدلة الأحكام، أو مصادر التشريع كلها: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والمصادر التبعية كلها: المصالح المرسلة، والاستحسان، وغيرهما.

  1. القرآن الكريم:

ومن نظر في القرآن وجد فيه الآية الكريمة التي ذكرناها من سورة النساء، وهي آية بينة، محكمة، واضحة الدلالة، والمتأمل فيها: يرى أنها لم تميز في الحكم بين رجل وامرأة في وجوب الدية، والكفارة. والدية هي: حق أولياء الدم، والكفارة هي: حق الله.

إنما فرقت بين المؤمن الذي يعيش في دار الإسلام ومجتمع المسلمين، والمؤمن الذي يعيش في دار الأعداء المحاربين، وفي رحاب مجتمعهم، إذا قتله المسلمون أو أحدهم خطأ، فهنا تجب الكفارة على القاتل المخطئ، ولا تجب الدية؛ لأنها إذا دفعت لأهله وهم محاربون للمسلمين تقووا بها على حرب المسلمين.

فلا فرق في نظر القرآن في العقوبة الدنيوية بين الرجل والمرأة في الدية، كما لافرق بينهما في القصاص، فإن الذي يقتل المرأة يقتل بها قصاصا، سواء كان قاتلها رجلا أو امرأة، حتى لو أن قاتلها كان زوجها – يقتل بها – وقد فعل ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه؛ فقتل رجلا اعتدى على امرأته فقتلها.

  1. السنة النبوية:

ولكن الخلاف في تمييز دية الرجل عن دية المرأة جاء من ناحية النظر في السنة النبوية، وما ورد في ذلك من أحاديث استنبط منها جمهور العلماء ذلك الحكم؛ ومن ثم وجب على الفقيه المعاصر – الذي يريد تجديد الاجتهاد في هذا الحكم الذي انتشر واشتهر العمل به قرونا طويلة – أن ينظر نظرة مستوعبة مستقلة في هذه الأحاديث: هل هي صحيحة الثبوت، لا يطعن في سندها؟! وهل هي صريحة الدلالة لا احتمال في دلالتها على الحكم؟!

وإذا نظرنا في الصحيحين – صحيحي البخاري ومسلم – لم نجد في أي منهما أي حديث عن التمييز بين دية المرأة ودية الرجل؛ لا حديثا مرفوعا ولا موقوفا ولا مسندا ولا معلقا من أحاديث البخاري، ولا من أحاديث الدرجة الأولى في أحاديث الأصول، ولا من أحاديث الدرجة الثانية أحاديث التوابع بل إذا نظرنا في كتب السنن الأربعة: سنن أبي داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، لم نجد فيها حديثا يميز في الدية بين المرأة، والرجل.

وانتهى عصر أئمة السنن الأربع، وآخرهم النسائي، ثم انتهى القرن الرابع الهجري، وظهر جماعة من الأئمة المحدثين الكبار المكثرين، أمثال: أبي يعلى في مسنده، وأبي بكر بن خزيمة في صحيحه، وأبي جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار، وأبي الحسن الدارقطني في سننه، وأبي عبدالله الحاكم في مستدركه، ولم يرو واحد من هؤلاء أية أحاديث في تنصيف دية المرأة.

ثم جاء الحافظ الكبير الإمام البيهقي ليذكر لنا في سننه الكبرى حديثا عن معاذ بن جبل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل»[2].

وهذا الحديث ضعيف ولا يعمل به، والمعمول به في السنة النبوية وسيرة السلف الصالح أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في الدية على اعتبار أن لكل منهما نفسا، ولا عبرة باعتبار الذكورة والأنوثة في ذلك.

  1. الإجماع:

وإذا لم نجد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية نصا ثابتا يدل على هذا الحكم – أن دية المرأة على النصف من دية الرجل – فهل يمكن الاعتماد على المصدر الثالث في ذلك، وهو الإجماع؟

ولا نريد أن نناقش هنا قضية الإجماع، وما فيها من كلام كثير عند الأصوليين في إمكانه، وفي وقوعه بالفعل، وفي العلم به إذا وقع، وفي حجيته بعد التأكد من وقوعه. وقد ذكر ذلك الغزالي في المستصفى، والآمدي في الإحكام.

وقد قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب؛ ما يدريه، لعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، فإن كان ولا بد فليقل: لا أعلم، الناس اختلفوا.

ومن تأمل ما كتبه الإمام الشوكاني عن الإجماع في إرشاد الفحول وجد أنه يميل مع المخالفين في إثباته أكثر من ميله مع الموافقين، انظر ما قاله في إمكان العلم به إذا وقع، قال: العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعا، ومن ذاك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب، وسائر البلاد الإسلامية؟ فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم، فضلا عن اختبار أحوالهم، ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم، ومن لم يكن من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به!، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد، بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم؛ فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة، فضلا عن الإقليم الواحد، فضلا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام. ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب – والعكس – فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل، وبكيفية مذهبه، وبما يقوله في تلك المسألة بعينها.

وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة، بسبب عدم ظهوره بالخلاف؛ تقية وخوفا على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام، فإنهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم.

وهذا الذي أسلفنا هو ما استند إليه العلامة ابن قدامة الحنبلي في كتابه “المغني”؛ فقال: قال ابن عبد البر وابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة المسلمة نصف دية الرجل. قال: وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «في النفس مائة من الإبل»[3].

قال ابن قدامة: وهذا قول شاذ، يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي، فإن في كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على النصف من دية الرجل. وهو أخص مما ذكروه، وهما في كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا: مفسرا لما ذكروه، مخصصا له.

ولا يمكن أن يثبت الإجماع، وقد خالف فيه هذان الإمامان (ابن علية والأصم)، وإنما خالفا الجمهور في ذلك؛ لأنه لم يثبت لديهما دليل على التمييز بين الذكر والأنثى.

وقول ابن قدامة: “هذا قول شاذ” مردود؛ إذ لا وجه لوصفه بالشذوذ، فكثيرا ما ينفرد الإمام الواحد عن جمهور الأمة بالقول المخالف، ولا يوصف بالشذوذ، وهذا مروي كثيرا عن فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن المعروف: أن الإمام أحمد له (مفردات) في سائر أبواب الفقه قد انفرد بها عن الأئمة الآخرين، ونظمها بعض الحنابلة في كتاب معروف.

ودعوى مخالفة إجماع الصحابة غير مسلمة؛ فلم يثبت أنهم أجمعوا، بل لم يثبت عن واحد منهم تنصيف الدية للمرأة بسند صحيح صريح. وكذلك دعوى مخالفة سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – في التفريق بين الرجل والمرأة فقد بينا من قبل كلام أئمة الحديث المعتبرين أنه لم تصح سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في التفريق بين الرجل والمرأة.

ويستخلص مما تقدم: أن المرأة تساوي الرجل في الدية، لا فرق بينهما في ذلك. وهذا هو الرأي الذي أخذ به مشروع قانون الجناية على النفس الذي وضعته اللجنة العليا لتطوير القوانين وفق أحكام الشريعة الإسلامية في مصر، حيث نصت المادة الأولى منه على أن “كل بالغ قتل نفسا عمدا يعاقب بالإعدام قصاصا إذا كان المقتول معصوم الدم، وليس غرما للقاتل. ونفس الذكر والأنثى، والمسلم وغير المسلم سواء”[4].

ويسري ذلك أيضا على دية الأطراف بين الرجل والمرأة، وهو ما أخذ به مشروع القانون المصري في شأن جرائم الاعتداء على ما دون النفس، حيث اشترط في المادة (11)، المبينة لشروط العقاب بالقصاص في هذه الجرائم:…أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني – على الأقل – وفي تطبيق هذا الشرط تعتبر الأنثى مكافئة للذكر، ويعتبر كل من الذمي والمستأمن مكافئا للمسلم.

ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أن الدية في مقابلة الدم فقط، والناس في نظر الشريعة من هذه الناحية سواء، كما أن آيات الكتاب الحكيم في شأن الدية وردت بصيغة عامة ومطلقة، “ولم تميز الرجل بشيء منها عن المرأة، ويؤيد ذلك قول الله سبحانه وتعالى: )ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله( (النساء:٩٢)، ولا فرق في وجوب الدية بالقتل الخطأ بين الذكر والأنثى، ومن ثم وجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية.

وهذا هو الرأي الراجح، كما أنه المتفق مع مبادئ وتعاليم الإسلام والحكمة من تشريع القصاص والدية، ومن بين هذه المبادئ: المساواة بين جميع الناس، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، ولا بين حر وعبد.

ومما يدل على ذلك: تسويته – عز وجل – بين النفس والنفس، سواء بين ذكر وذكر، أم أنثى وأنثى، أو بين ذكر وأنثى، وأنثى وذكر.

كما أن السنة النبوية الشريفة طبقت تلك القاعدة؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلمون تتكافأ دماؤهم”[5]. وهذه العبارة الواردة في الحديث جاءت عامة تسري على الذكر والأنثى، فلا فرق في الحالتين بين نفس الذكر ونفس الأنثى، ولا بينهما في الدية.

وأهل الجاهلية كانوا لا يساوون الرجل بالمرأة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )النفس بالنفس( (المائدة: ٤٥)، فجعل الأحرار سواء فيما بينهم من العمد، رجالهم ونساءهم في النفس، وفيما دون النفس[6].

ثانيا. إن جمهور الفقهاء الذين قالوا بأن دية المرأة على النصف من دية الرجل لم يقصدوا الإقلال من قيمتها أو الزراية بها على أي نحو:

وإنما هو تقدير ما أصاب الأسرة من نقص وخسارة بسبب فقد واحد منهما بطريقة لا توجب القصاص وإنما توجب تعويضا ماليا لهم عن فقده. ويستدلون بحديث: «دية المرأة على النصف من دية الرجل»[7]. وهو حديث قد ضعفه أصحاب الرأي الأول كما سبق، كما استدلوا بالإجماع الذي ذكره أصحاب الرأي الأول أيضا كما سبق بيانه.

وإذا كان هذا هو رأي جمهور الفقهاء، فهل يكون الإسلام بذلك قد ظلم المرأة أو حط من قدرها؟! الحقيقة أنه على هذا الرأي لا يكون قد ظلم المرأة، أو حط من قدرها إذا نظرنا إلى المنظومة العامة لجميع الأحكام التي تخص المرأة في الإسلام؛ يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم: إن دية المرأة التي قتلت خطأ أو التي لم يستوجب قتلها عقوبة القصاص؛ لعدم استيفاء شروطه، بما يعادل نصف دية الرجل، والقتل العمد يوجب القصاص من القاتل سواء كان المقتول رجلا أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلا أو امرأة، وهذا لأننا في القصاص نريد أن نقتص من إنسان لإنسان، والرجل والمرأة متساويان في الإنسانية، قال سبحانه وتعالى: )وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس( (المائدة: ٤٥).

أما في القتل الخطأ وما أشبهه، فليس هناك إلا التعويض المالي الذي يجب أن تراعى فيه الخسارة المالية الناجمة عن القتل: قلة، وكثرة، فهل خسارة الأسرة بالرجل كخسارتها بالمرأة؟! إن الأولاد الذين قتل أبوهم خطأ، والزوجة التي قتل زوجها خطأ، قد فقدوا عائلهم الذي كان يقوم بالإنفاق عليهم، والسعي في سبيل إعاشتهم. أما الأولاد الذين قتلت أمهم خطأ، والزوج الذي قتلت زوجته خطأ، فهم لم يفقدوا إلا ناحية معنوية لا يمكن أن يكون المال تعويضا عنها.

إن الدية ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، وهذا هو الأساس القويم الذي لا يماري فيه أحد. إن هذا التشريع الحكيم مرتبط بنظام الإسلام في عدم تكليف المرأة بالكسب للإنفاق على نفسها وعلى أولادها؛ رعاية لمصلحة الأسرة والمجتمع[8].

ويوضح د. بلتاجي هذه المسألة بعد أن ينقل عن الجمهور: أن المرأة تقتل بالرجل في القتل العمد بقوله: أما في القتل الخطأ وما يأخذ حكمه شرعا مما تجب فيه الدية، فهناك اتفاق على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وليس سبب هذا هو الإقلال من قيمتها، أو الإزراء بها على أي نحو؛ فقد انتبه العلماء في القديم، والحديث إلى أن الدية على وجه العموم ليست إلا تعويضا ماليا لورثة المقتول عما أصابهم من نقص بسبب فقد مورثهم، وهذا النقص يختلف مقداره عند فقد الرجل الذي تجب عليه النفقات عادة في الشريعة، عنه عند فقد المرأة التي لا تجب عليها نفقات للأسرة – مهما بلغ ما تملكه من مال -.

فليست المسألة هنا نقص قيمة نفس المرأة عن نفس الرجل، فقد رأينا أن الشريعة توجب القصاص – في النفس – بين الرجل والمرأة على قدم المساواة حينما يكون الأمر هو: تقدير قيمة النفس البشرية، فهنا يرد التساوي بينهما، ويجب شرعا، أما حينما يكون الأمر أمر تقدير ما أصاب الأسرة من نقص وخسارة بسبب فقد واحد منهما بطريقة لا توجب القصاص، وإنما توجب تعويضا ماليا لهم عن فقده، فلا بد من أن يدخل في تقدير ذلك مدى الالتزام الذي كان يلتزم به فقيدهم تجاههم – وهو ما يختلف فيه قطعا التزام كل من الرجل والمرأة بالنفقة تجاههم – ولا يحتج على هذا بفقد الأمور المعنوية؛ لأننا هنا لا نتكلم عن قتل عمد، إنما نتكلم عن حادث قد وقع بطريق الخطأ أو ما نزل منزلته.. فحكمة الشريعة هنا في التفرقة بين القصاص والدية واضحة جلية لكل ذي عقل.

وقد طعن في هذه التفرقة بعض الملاحدة، وأعداء الإسلام، واعتبروا أنها دليل على تناقض الشريعة، وإهدار منزلة المرأة.

ولا تناقض في الحقيقة، ولا إهدار، بل هي الحكمة المنزهة؛ لأنها تقدير العزيز الحكيم العليم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونستدل على ذلك بأدلة منها:

  1. أن الشريعة الإسلامية لم تنفرد بهذه التفرقة، ذلك أن القوانين الوضعية – التي لم تلغ عقوبة الإعدام على القتل العمد بشروطه – تعاقب بها على “قتل النفس عمدا مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد”. (مادة 230 في قانون العقوبات المصري مثلا)، لكنها في القتل الخطأ – أو غير المستوجب للإعدام بشروطه – تحيل دعاوى التعويض – المقابل للدية – إلى قاضي الموضوع؛ ليقدره بناء على حجم الخسارة والنقص، اللذين لحقا بالورثة بسبب فقد فقيدهم.. فما الذي فعلته الشريعة – في حقيقة الأمر – غير مراعاة ذلك؟

لكن الأمر حين يأتي عن طريق الفكر الوضعي فهو على أعين هؤلاء الطاعنين ورءوسهم، بخلاف ما لو أتى به الإسلام!

  1. أن الإسلام لم يفرق في دية الجنين بين كونه أنثى أو ذكرا؛ حيث قضى فيه بغرة[9]عبد أو أمة؛ وعلة عدم هذه التفرقة أن الجنين ذكرا كان أم أنثى لم يكن قد دخل بعد في المسئولية عن نظام النفقات في الأسرة؛ لأنه لم يولد حيا – حتى يصبح بعد ذلك كاسبا – فحكمه على التساوي الأصلي بين الذكر والأنثى في النفس، وإن كان في الديات، فليتأمل[10]!!

الخلاصة:

مما سبق يتبين لنا أن الزعم القائل بأن الإسلام قد انحاز للرجل ضد المرأة في موضوع الدية زعم باطل؛ لأن الإسلام هو الذي كرم المرأة، ورفعها بالمساواة مع الرجل في كل الأمور التي لا بد من المساواة فيها. والدية من أهم المظاهر التي توضح تكريم الإسلام للمرأة، وحفظه لكيانها. وإن كان السلف والخلف قد اختلفوا في مقدار ديتها على رأيين هما:

  • أن دية المرأة: مثل دية الرجل وعلى هذا لا توجد شبهة من الأصل.
  • أن دية المرأة: على النصف من دية الرجل، وعلى هذا أيضا لا يكون هناك إجحاف بالمرأة؛ لأن الإسلام رفع عن المرأة مسئولية الكسب، والإنفاق، وأوجبها على الرجل؛ ولأن الدية: ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده، وهذا هو الأساس القويم الذي لا يماري فيه أحد، والدليل على ذلك أن المرأة تتساوى مع الرجل في القصاص حين يكون القتل عمدا؛ لأن القصاص تقدير لقيمة الإنسانية في القتيل.

وبهذا يتضح أن لا ظلم للمرأة ولا تحيز للرجل في موضوع الدية؛ حتى لو كانت دية المرأة نصف دية الرجل.

(*) افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، مصر، طـ1، 1422هـ/ 2002م.

[1]. الدية: مال يعطى لأولياء المقتول تطييبا لخاطرهم وعوضا لهم عما وقع لهم بسبب فقد عائلهم، وتختلف باختلاف الشيء الذي تدفع الدية عوضا عنه، وقد تكون دية عن نفس أو دون النفس؛ وقد تكون دية عن عمد إذا عفي عن القصاص، أو دية عن خطأ.

[2]. ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب العقول، باب متى يعاقل الرجل المرأة (17752)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الديات، باب ما جاء في دية المرأة (16084) من طريق عبادة بن نسي، قال: وفيه ضعف، وضعفه الألباني في الإرواء (2250).

[3]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب العقول، باب ذكر العقول، (3139)، والنسائي في المجتبى، كتاب القسامة، ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (4857)، وصححه الألباني في الإرواء (2248).

[4]. سار المشرع اليمني على هذا النهج في مشروعي الجرائم والعقوبات المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية، فقد نصت المادة( 58) على أن ” الرجل أو المرأة بالرجل أو المرأة، والجماعة بالواحد مهما تعدد الجناة”. وهو أيضا ما قرره مشروع القانون الشرعي للجرائم، والعقوبات؛ حيث نص في المادة (59) على أن ” يقتص من الرجل بالمرأة ومن الجماعة بالواحد مهما تعدد الجناة “.

[5]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الديات، باب إن المسلمين تتكافأ دماؤهم (27969)، وابن ماجه في سننه، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم (2683)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2683).

[6]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص444، 445.

[7]. ضعيف: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب العقول، باب متى يعاقل الرجل المرأة (17752)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الديات، باب ما جاء في دية المرأة (16084) من طريق عبادة بن نسي، قال: وفيه ضعف، وضعفه الألباني في الإرواء (2250).

[8]. المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية، محمد أحمد إسماعيل المقدم، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص149.

[9]. الغرة: دية الجنين إذا أسقط ميتا، وقدرها عبد أو أمة، أو نصف عشر الدية الكاملة للقتل الخطأ للذكر، وللأنثى عشر دية أمة.

[10]. مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، 1996م، ص546: 548. افتراءات على الإسلام والمسلمين، د. أمير عبد العزيز، دار السلام، مصر، طـ1، 1422هـ/ 2002م، ص62، 63.

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المغرضين أن الإسلام قد جانب العدالة بإقراره نظام العاقلة في الدية، الذي يحمل الإنسان وزر غيره في زعمهم، وأن هذا النظام غير واقعي، بمعنى أنه غير قابل للتطبيق في ظل ظروف العصر الراهنة.

وجها إبطال الشبهة:

1) خفاء علة الحكم الشرعي في أمر من الأمور، لا يعني مطلقا انتفاء الحكمة الكامنة فيه؛ لأنه تشريع من الحكيم الخبير.

2) نظام العاقلة ناسب قديما عصبة القبيلة والعشيرة، وما يزال يلائم عصبات اليوم مثل: عصبة المهنة، أو الحرفة، أو التخصص، وإلا فالسلطان ولي من لا ولي له، كما أنه وارث من لا وارث له.

التفصيل:

أولا. خفاء العلة لا يعني انتفاء الحكمة:

من البديهيات القول بأن المولى – عز وجل – لم يخلق شيئا عبثا، وكذلك لم يشرع شيئا عبثا، وإنما خلق كل شيء بقدر، وقد علل د. القرضاوي اهتمامه بفقه المقاصد بقوله: “وكان سبب إيماني بهذه المقاصد: إيماني بحكمة الله تعالى، وأن من أسمائه الحسنى: الحكيم، وقد ذكر اسم الحكيم في القرآن الكريم أكثر من تسعين مرة، وهو سبحانه حكيم فيما خلق، فلا يخلق شيئا لعبا ولا باطلا، كما أنه حكيم فيما شرع، فلا يشرع شيئا عبثا ولا اعتباطا” [1].

وقد فصل القول في ارتباط التشريع بالحكمة والمصلحة، مهما تقلبت الأزمان وتغير المكان، العلامة ولي الله الدهلوي فقال: “وقد يظن أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح، وأنه ليس بين الأعمال وبين ما جعل الله جزاء لها مناسبة، وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل سيد أراد أن يختبر طاعة عبده، فأمره برفع حجر، أو لمس شجرة مما لا فائدة فيه غير الاختبار، فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله، وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجماع القرون المشهود لها بالخير.

ثم إن النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أسرار تعيين الأوقات في بعض المواضع، كما قال في أربع قبل الظهر: «إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح»[2]. وبين في بعض المواضع الأخرى أسرار الترهيب والترغيب، وراجعه الصحابة في المواضع المشتبهة، فكشف شبهتهم، ورد الأمر إلى أصله، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقال أبو بكرة: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه»[3]. إلى غير ذلك من المواضع التي يعسر إحصاؤها…

وبين ابن عباس – رضي الله عنهما – سر مشروعية غسل الجمعة، وزيد بن ثابت سبب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وبين ابن عمر سر الاقتصار على استلام ركنين من أركان البيت، ثم لم يزل التابعون، ثم من بعدهم العلماء المجتهدون يعللون الأحكام بالمصالح، ويفهمون معانيها، ويخرجون للحكم المنصوص مناطا مناسبا لدفع ضر أو جلب نفع، كما هو مبسوط في كتبهم ومذاهبهم.

ثم أتى الغزالي والخطابي وابن عبد السلام وأمثالهم – شكر الله مساعيهم – بنكت لطيفة وتحقيقات شريفة، من ذلك أن: نزول القضاء بالإيجاب والتحريم سبب عظيم في نفسه، مع قطع النظر عن تلك المصالح لإثابة المطيع وعقاب العاصي، وأنه ليس الأمر على ما ظن من أن حسن الأعمال وقبحها، بمعنى استحقاق العامل الثواب والعذاب، عقليان من كل وجه[4].

ثانيا. ملاءمة نظام العاقلة لظروف المجتمعات كافة:

العاقلة: هي التي تتحمل العقل، أي: الدية، أو بعضها، عن القاتل في حالة القتل شبه العمد، وقد سميت الدية عقلا؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك، أي تمسكها وتحفظها، بطريق الطابع الجماعي للعقوبة، وتكون العاقلة – في الأصل – من عصبة[5] الجاني وعشيرته.

ونظام العاقلة كان سهل التطبيق في ظل المجتمع القبلي، حيث التمايز القبلي كان واضحا، والعصبية ظاهرة، أما وقد تلاشى كثير من هذه الملامح في ظل تعقد تركيب المجتمعات المدنية في الوقت الراهن، فما مصيره في عصرنا هذا؟ وما مدى ملاءمته له؟

نظرا لطبيعة الظروف الراهنة، فإن د. وهبة الزحيلي يعود بالدية على القاتل، وهي موافقة لرأي في الفقه الإسلامي قديما، يجعل هذه الدية من الأصل على الجاني، لا على العاقلة؛ تقريرا لمبدأ المسئولية الفردية، يقول: “إن نظام العواقل مستثنى من القاعدة العامة في تحمل كل مخطئ وزر نفسه، ولكن دون أن يلزم العاقلة شيء من ذنب الجاني أخرويا.

والسبب في هذا الاستثناء هو مواساة القاتل ومناصرته وإعانته والتخفيف عنه، ودعم أواصر المحبة والألفة والإصلاح بين أفراد الأسرة، والحفاظ على حقوق المجني عليه؛ حتى لا تذهب الجناية عليه هدرا إذا كان القاتل فقيرا، وأغلب الناس فقراء، فكان في ذلك النظام عدالة ومساواة في المجتمع، حتى لا يحرم أحد من التعويض بسبب فقر الجاني، ثم إن هذا النظام فيه تقدير للباعث الذي يشاهد عند القاتل؛ إذ لولا استنصاره بأسرته، واعتماده على قوتهم، لتثبت في الأمر مليا، وصدرت أفعاله عن روية كاملة ووعي تام، لذا اعتبر الفقه الإسلامي أن الجناية الواقعة منسوبة ضمنا إلى كل فرد من أفراد العاقلة، فأوجبت الدية عليهم جميعا، وكان بذل المال من العاقلة بديلا عن النصرة التي كانت في الجاهلية، حيث كانت القبيلة تمنع الجاني وتحميه كيلا يدنو منه أولياء القتيل للأخذ بالثأر.

وعلى الرغم من كل هذه المزايا، فإن نظام العاقلة كان مناسبا للبيئة التي كانت فيها الأسرة الواحدة متماسكة البنيان، متناصرة فيما بينها على السراء والضراء. أما وإنه قد تفككت الأسر، وتحللت عرى الروابط بين الأقارب، وزالت العصبية القبلية، ولم يعد الاهتمام بالنسب أمرا ذا بال، فلم يبق بالتالي محل لنظام العواقل، لفقدان معنى التناصر بين أفراد الأسرة.

وهذا يرشد إلى أن نظام العاقلة تطور – في رأي الحنفية – من الأسرة إلى العشيرة، فالقبيلة، ثم إلى الديوان، ثم إلى الحرفة (أو النقابة في عصرنا) ثم إلى بيت المال.

وبما أن نظام العشيرة قد زال، وبيت المال قد تغير نظامه، واختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه زمن العرب، وفقدت عصبة القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون قبيلته، كما في النظام الحاضر، فإن دية القتل الخطأ أو شبه العمد أصبحت في زماننا هذا واجبة في مال الجاني وحده، وقد نص عليه الحنفية، وهذا موافق لرأي أبي بكر الأصم والخوارج، الذين يجعلون الدية على القاتل لا على العاقلة، أخذا بعموم الآيات والأحاديث التي تقرر مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن الأفعال، وهو أيضا منسجم مع رأي باقي المذاهب التي قررت وجوب الدية على الجاني إذا لم توجد له عاقلة، ولم يوجد بيت المال[6].

أما الأستاذ عبد القادر عودة فيوكل أمر العاقلة وتحمل الدية – في ظل الظروف الراهنة – إلى ولي الأمر الذي يمكن أن يستحدث لهذا الأمر ضريبة خاصة أو ما شابه، يقول: “لكن هذا النظام – العاقلة – على ما فيه من عدالة وتسوية بين المتهمين والمجني عليهم، لا يمكن أن يقوم في عهدنا الحاضر؛ لأن أساسه وجود العاقلة، ولا شك أن العاقلة ليس لها وجود الآن إلا في النادر الذي لاحكم له، وإذا وجدت فإن عدد أفرادها قليل لا يتحمل أن يفرض عليه كل الدية، ولقد كان للعاقلة وجود طالما احتفظ الناس بأنسابهم وقراباتهم وانتموا إلى قبائلهم وأصولهم، أما الآن فلا شيء من هذا، بحيث يندر أن تجد شخصا يعرف جده الثالث، وإذن فلا محيص من الأخذ بأحد الرأيين اللذين أخذ بهما الفقهاء من قبل، إما الرجوع على الجاني بكل الدية، وإما الرجوع على بيت المال، والرجوع على الجاني يؤدي إلى إهدار دماء أكثر المجني عليهم؛ لأن أكثر المتهمين فقراء، وهذا لا يتفق مع أغراض الشريعة التي تقوم على حفظ الدماء وحياطتها وعدم إهدارها، والرجوع إلى بيت المال يرهق الخزانة العامة، ولكنه يحقق المساواة والعدالة، ويحقق أغراض الشريعة، والخوف من إرهاق الخزانة لا يجب أن يقف حائلا دون تحقيق المساواة والعدالة، ولا يصح أن يحول دون تحقيق أغراض الشريعة.

فالحكومة تستطيع أن تدبر أمرها، بفرض ضريبة عامة يخصص دخلها لهذا النوع من التعويض، ونستطيع أن نفرض ضريبة خاصة على المتقاضين لهذا الغرض. وإذا كانت الحكومات العصرية تلزم نفسها بإعانة الفقراء أو العاطلين، فأولى أن تلزم نفسها بتعويض ورثة القتيل المنكوبين، ولقد سبقتنا بعض البلاد الأوربية إلى هذا العمل، فأنشأت صندوقا لتعويض المجني عليهم في الجرائم، إيراده المبالغ المتحصلة من الغرامات التي تحكم بها المحاكم، وهذا هو بالذات ما قصدته الشريعة الإسلامية من نظام العاقلة… فأولى بنا وهو نظامنا أن نقيمه بيننا على الوجه الذي يتلاءم مع ظروفنا وحالاتنا[7].

وقياسا على قاعدة: أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، فإن العلامة القرضاوي قد أفتى بأن تعتبر النقابة المهنية التي ينتمي إليها الجاني عاقلة؛ إذ إن هذا أمر لا بد منه، خصوصا في المجتمعات ذات العوائل محدودة العدد، كما في المجتمع المصري، فليس لكثيرين فيه عاقلة من عصبته تتحمل الدية عنه، يقول في هذا وهو بصدد الحديث عن فقه المقاصد، وضرورة اعتبار الحكم والعلل في الأحكام، والفتاوى، وعدم الجمود على ظواهر النصوص، متمثلا باجتهادات الفاروق عمر رضي الله عنه: “ووجدنا الفاروق عمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة – ينقل العاقلة من القبيلة إلى الديوان، بعد أن دون الدواوين، وقيد عليها المستحقين للعطاء من الدولة، وذلك أن التناصر الذي كان أساسه من قبل العصبية القبلية قد تغير الآن – وقد كان هذا التناصر القبلي هو علة فرض تحمل العصبة أو القبيلة للدية – فما دام قد تغير أساس التناصر، فإن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، ولا يتصور من عمر أن يخالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عرف المقصود فوقف عنده.

وقد اختلف أئمة المذاهب فيما ذهب إليه عمر وأقره عليه الصحابة، فمنهم من وقف عند ظاهر قضائه – صلى الله عليه وسلم – بالدية في قتل الخطأ، وشبه العمد على العاقلة، وهم عصبة الرجل من قبيلته أو عشيرته، فأخذ بظاهر ذلك، وأوجبوا أن تكون العاقلة هي العصبة أبدا، ولم ينظروا إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – إنما ناط الدية بالعصبة، لأنهاـ في ذلك الزمن – كانت محور النصرة والمعاونة والمعاضدة.

وخالفهم آخرون كالحنفية، مستدلين بفعل أمير المؤمنين عمر الذي جعلها في عهده على أهل الديوان، ناظرا إلى مقصود ما شرعه النبي – صلى الله عليه وسلم – فقضى بالدية على العاقلة، وهم الذين ينصرون الرجل ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عصبته، فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان، ولهذا اختلف فيها الفقهاء، فيقال: أصل ذلك أن العاقلة هل هم محددون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟ فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ لأنهم العاقلة على عهده. ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمن ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان؛ إذ لم يكن على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – ديوان ولا عطاء.

فلما وضع عمر الديوان، كان معلوما أن جند كل مدينة ينصر بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة، وهذا أصح القولين وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا لو سكن رجل من المشرق بالمغرب، وليس هناك من ينصره ويعينه فيها، كيف تكون عاقلته؟ من بالمشرق؟ في مملكة أخرى؟! (أي من عصبته) ولعل أخباره قد انقطعت عنهم… ولهذا أفتيت – والحديث للقرضاوي – في عصرنا، بأن العاقلة اليوم يمكن أن تنقل إلى النقابات المهنية، فإذا قتل الطبيب خطأ، فديته على نقابة الأطباء، والمهندسين على نقابة المهندسين، وهكذا.

وهذا لا بد منه في المجتمعات التي تقوم على عوائل محدودة العدد، محدودة القدرة، لا على قبائل وعشائر كبيرة، مثل المجتمع المصري وغيره، فلا يوجد لجمهور الناس عاقلة من عصبتهم يمكن أن تتحمل ديتهم، إذا قتل خطأ كما في حوادث السير التي تكثر في هذا الزمن[8].

مما سبق يتضح لنا أن تشريع الله – عز وجل – لا يخلو من حكمة، وأن نظام العاقلة عملي واقعي مناسب لكل عصر حسب ظروفه وبالصورة الملائمة له، لكن وجوده بالأخص في العصر الحاضر مجد، خاصة بالنسبة لأهل القتيل. ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من العوائل، خاصة في الأرياف مازالت تأخذ به في أعرافها.

الخلاصة:

  • من البديهي القول: بأن خفاء علة الحكم والمقصد منه، لايعني انتفاء الحكمة من تشريع هذا الحكم الشرعي، لأنه من لدن حكيم خبير.
  • نظام العاقلة ناسب النظام القبلي في وقته، وما يزال يناسب كل عصر حسب ظروفه، وبالصورة الملائمة له، كعصبة المهنة، أو الحرفة، أو التخصص في عصرنا. مع بقاء ضرورته الملحة، خصوصا في عصرنا بالأحرى لصالح أهل القتيل. ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من العوائل – الريفية بالذات – ماتزال تعمل بنظام العاقلة في أعرافها.
  • قياسا على قاعدة: أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، فقد أفتى فقهاء العصر الحديث بأنه تعتبر النقابة المهنية التي ينتمي إليها الجاني عاقلة، إذ إن هذا أمر لا بد منه، خصوصا في المجتمعات ذات العوائل محددة العدد، كما في المجتمع المصري، فليس لكثيرين فيه عاقلة من عصبته تتحمل الدية عنه.

(*) مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، د. محمد بلتاجي، مكتبة الشباب، القاهرة، 1996م.

[1]. دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2006م، ص11.

[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه (23597)، والترمذي في سننه، أبواب الوتر، باب الصلاة عند الزوال (478)، وصححه الألباني في المشكاة (1169).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قوله تعالى: ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ( (الحجرات: ٩) (31)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما (7434) بنحوه، وفي موضع آخر بنحوه.

[4]. حجة الله البالغة، ولي الله الدهلوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1995م.

[5]. عصبة الرجل: قومه الذين يتعصبون له وينصرونه، أو بنوه وقرابته لأبيه، ويستخدم الفقهاء هذا المصطلح في علم الميراث في مقابل “أصحاب الفروض”، ويعنون به: الوارث الذي يأخذ ما أبقته الفرائض، ويقسمونها إلى:

  • عصبة نسبية، وهي على ثلاثة أنواع:

o         العاصب بنفسه: كل ذكر من أصول الرجل أو فروعه أو فروع أبيه أو فروع جده لا تدخل في نسبته إليه أنثى.

o    العاصب بغيره: هن النسوة اللاتي فرضهن في الميراث النصف والثلثان ـ وهن البنات وبنات الابن والأخوات ـ عندما يكون معهن ذكر من إخوتهن، فإنهن يصرن عصبة به.

o         العاصب مع الغير: هن كل أنثى تصير عصبة إذا اجتمعت مع أنثى غيرها، وهي الأخت تصير عصبة إذا اجتمعت مع البنت في الميراث.

  • أما العصبة السببية: فهي على نوعين بحسب سببها:

o         عصبة سببها العتق: كل من أعتق رقيقا كان له الولاء عليه، فهو عصبته وله ميراثه إن لم يكن له وارث، ويسمى بـ “مولى العتاقة”.

o         عصبة سببها العقد: وهي أن يقول الرجل للرجل: أنت وليي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت، ويسمى بـ “مولى الموالاة”.

[6]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج6، ص325.

[7]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج2، ص199، 200.

[8]. دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2006م، ص81، 82.

مضمون الشبهة:

يتوهم بعض المشككين أن الفقه الجنائي الإسلامي أطلق يد الحاكم في أمر العقاب بالتعزير في كثير من الجنايات والمخالفات في كافة مجالات الحياة، ويتساءلون: ألا يعد هذا عيبا في التشريع الإسلامي، حينما يترك الحاكم يعاقب الناس كيفما شاء، حسب رأيه وهواه، بلا ضابط، أو مرجعية تحدد تلك العقوبات التعزيرية؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) التعزير عقوبة غير مقدرة في الكتاب والسنة، تجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. ولا خطر في إطلاق يد الحاكم فيها؛ لأنها جرائم ليست خطيرة، ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الكبيرة فقد حددت لها الشريعة عقوبات معينة.

2) للقاضي سلطات واسعة في تحديد العقوبة التعزيرية، إلا أنها ليست مطلقة، فمعظم العقوبات متعارف عليها، وما وظيفته إلا الاختيار غالبا.

3)  هناك ضوابط لا بد للقاضي من مراعاتها عند تحديده للعقوبة التعزيرية، هي:

  • الاجتهاد بما تقتضيه النصوص.
  • ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.
  • مراعاة الأحوال والظروف والمآلات في تقدير العقوبة.

التفصيل:

أولا. بيان المقصود من التعزير في الشريعة الإسلامية:

فالتعزير: هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود أي: هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لها عقوبة مقدرة.

والتعازير: هي مجموعة من العقوبات غير المقدرة، تبدأ بأخف العقوبات، كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات، كالحبس والجلد، بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويترك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة ولحال المجرم ونفسيته وسوابقه.

ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود، وجرائم القصاص والدية، فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها بالتعزير باعتباره عقوبة أصلية، وإنما باعتباره عقوبة بدلية تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توافر شروط الحد، أو باعتباره عقوبة مضافة تضاف إلى العقوبة الأصلية، كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي.

وقد جرى التشريع الجنائي الإسلامي على ألا يفرض لكل جريمة من جرائم التعزيز عقوبة معينة كما تفعل القوانين الوضعية؛ لأن تقييد القاضي بعقوبة معينة يمنع العقوبة أن تؤدي وظيفتها، ويجعل العقوبة غير عادلة في كثير من الأحوال؛ لأن ظروف الجرائم والمجرمين تختلف اختلافا بينا، وما قد يصلح مجرما بعينه قد يفسد آخر، وما يردع شخصا عن جريمة قد لا يردع غيره، ومن أجل هذا وضعت الشريعة لجرائم التعازير عقوبات متعددة مختلفة، وهي مجموعة كاملة من العقوبات تتسلسل من أخف العقوبات إلى أشدها، وتركت للقاضي كي يختار من بينها العقوبة التي يراها كفيلة بتأديب الجاني وإصلاحه، وبحماية الجماعة من الإجرام، وللقاضي أن يعاقب بعقوبة واحدة أو بأكثر منها، وله أن يخفف العقوبة أو يشددها إن كانت العقوبة ذات حدين، وله أن يوقف تنفيذ العقوبة إن رأى في ذلك ما يكفي لتأديب الجاني وردعه وإصلاحه.

وليس ثمة خطر من إعطاء القاضي هذا السلطان الواسع في جرائم التعزير؛ لأنها ليست في الغالب جرائم خطيرة؛ ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، أما الجرائم الخطيرة وهي جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فقد وضعت لها الشريعة عقوبات مقدرة، ولم تترك للقاضي أي سلطان عليها إلا تطبيق العقوبة المقررة كلما ثبتت الجريمة على الجاني.

وإذا كانت الشريعة قد عرفت عقوبات تعزيرية معينة فليس معنى ذلك أنها لا تقبل غيرها، بل إن الشريعة تتسع لكل عقوبة تصلح الجاني وتؤدبه وتحمي الجماعة من الإجرام، والقاعدة العامة في الشريعة: أن كل عقوبة تؤدي إلى تأديب المجرم وإصلاحه وزجر غيره وحماية الجماعة من شر المجرم والجريمة، هي عقوبة مشروعة[1].

ثانيا. للقاضي سلطات واسعة في تحديد العقوبة التعزيرية، إلا أنها ليست مطلقة:

وحتى نعلم مدى حرص الإسلام على أن يكون الأمر بضوابط ينبغي لنا أن نعرج على بيان شروط إعمال العقوبة التعزيرية، وصور التعزير، وكيفيته كما وضحته كتب الفقه الإسلامي، ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد أن نعلم أن التعزير هو السلطة التشريعية التي أذنت بها السنة الشريفة لولي الأمر في مجال الجنايات للتجريم وما يلزم عنه، أو هو السياسة الشرعية في المجال الجنائي، وتلك السياسة مشروطة بضرورة أن تكون موافقة للأصول والمبادئ العامة الثابتة في الشرع الإسلامي.

وقد ظل صاحب هذه السلطة في العهود الإسلامية الأولى هو الحاكم الذي يجمع في يده سلطتي القضاء والتشريع، يؤازره ويسانده الفقه بالاجتهاد لتظل السياسة الجنائية في مجال التعزير شرعية وفقا لهذا المعنى.

ومن هنا فإن التعزير هو تشريع لا يقيده إلا قيد الأصول الكلية للشرع الإسلامي، فضلا عن قيد المصلحة العامة والعرف الاجتماعي فيما يتصل بالتجريم وما يقابله من رد الفعل الجنائي، وفي هذين القيدين يتمثل مضمون مبدأ الشرعية الجنائية” في مجال التعزير بالنسبة لطرفي التجريم، ويعرض د. حسني الجندي لذلك فيما يلي:

شروط إعمال العقوبة التعزيرية:

سبب وجوب التعزير: هو ارتكاب جناية ليس لها حد مقدر ولا كفارة في الشرع، سواء كانت الجناية على حق الله تعالى، أم اعتداء على حق من حقوق الآدميين.

ومن أمثلة الجنايات التي تعد اعتداء على حق من حقوق الله تعالى، ارتكاب أفعال الفسق والفجور التي لا تصل إلى درجة الذنوب المعاقب عليها بعقوبة الحد، ولذلك يقدر لها عقوبة تعزيرية، وفيه دفع للضرر عن الأمة، وتحقيق للنفع العام.

أما ما يتعلق بحق الآدميين؛ فمنها إيذاء مسلم بغير حق بفعل أو بقول يحتمل الصدق أو الكذب، بأن قال له: يا خبيث، يا فاسق، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب الخمر، ونحو ذلك، وهذه الأفعال توجب التعزير؛ لأن الجاني ألحق العار بالمقذوف؛ إذ الناس بين مصدق ومكذب، فعزر دفعا للعار عنه.

والتعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. وتطبيقاته كثيرة، منها:

  • في جريمة الزنا، الاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وكذلك إتيان المرأة المرأة، أي المساحقة.
  • وبالنسبة للسرقة، سرقة ما لا قطع فيه لعدم الحرز، أو لكونه دون ربع دينار ونحوه، وارتكاب أعمال نهب أو غصب أو اختلاس.
  • وجناية لا قصاص فيها، كالصفع والوكز – وهو الدفع – والضرب بجمع الكف.
  • ويجب التعزير على ترك الواجبات، وغير ذلك من المحرمات التي لا حد فيها ولا كفارة.

ويجب التعزير على مثل هذه الأفعال، من المكلف وجوبا؛ لأن المعصية تفتقر هنا إلى مايمنع من فعلها، فإذا لم يجب فيها حد ولا كفارة وجب أن يشرع فيها التعزير؛ ليتحقق المانع من فعلها.

والقول بأن التعزير يجب فيما لا حد فيه، يخرج منه ما أوجب الحد من الزنا والقذف والسرقة ونحوها. والقول بأنه يكون فيما لا كفارة فيه، يخرج به الظهار، والإيلاء، وشبه العمد، ومما يستوجب العقاب تعزيرا لوجود سببه، جرائم الغش والتدليس وغش المكاييل والموازين[2].

وجرائم الشهادة الزور التي تعد من المعاصي التي حرمتها الشريعة الإسلامية واعتبرتها من الكبائر، غير أن الشريعة لم تقدر عقوبة لشاهد الزور، ومن ثم يطبق القاضي عقوبة تعزيرية، ويعزر شاهد الزور.

وإن تاب قبلت شهادته كسائر التائبين، وللحاكم أن يجمع لشاهد الزور عددا من العقوبات إن لم يرتدع إلا بها، ولا يعزر حتى يتحقق أنه شاهد زور، وأنه تعمد ذلك: إما بإقراره بذلك، أو يشهد بما يقطع بكذبه فيه، أو شهد على رجل أنه قتل في وقت كذا وقد مات قبل ذلك، وأشباه هذا بما يعلم به كذبه ويعلم تعمده لذلك[3]، وإلا لم يعزر؛ لأن التعزير يدرأ بالشبهة بذلك، أي بما يقطع بكذبه فيه أو أن الحكم كان باطلا لعدم مطابقته للواقع، ولزم نقضه لعدم نفوذه.

ولا تقبل الشهادة من ناطق إلا بلفظ الشهادة؛ لأن الشهادة حضور، لا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها، ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها؛ بدليل أنها تستعمل في اللعان، ولا يحصل بغيرها.

فإن قال: أعلم أو أحق أو أتيقن ونحوه لم تقبل؛ لأن الحاكم يعتمد لفظ الشهادة ولم يوجد، أو قال آخر بعد شهادة الأول: أشهد بمثل ما شهد به، أو قال من كتب شهادته: أشهد بما وضعت به خطي، لم يقبل فلا يحكم بها. وإن قال بعد الأول: وبذلك أشهد قبلت.

ويعد من قبيل الجرائم التعزيرية في الشريعة الإسلامية انتهاك حرمة ملك الغير تطبيقا لقول الله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: ٢٧).

شرط وجوب التعزير:

أن يكون الجاني عاقلا. فيعزر كل عاقل ارتكب جناية ليس لها حد مقدر، سواء كان حرا أوعبدا، ذكرا أو أنثى، مسلما أو كافرا، بالغا أو صبيا بعد أن يكون عاقلا، لأن هؤلاء من أهل العقوبة.

أما الصبي العاقل فيتفق الفقهاء على أنه يعزر تأديبا لا عقوبة؛ لأنه من أهل التأديب، استنادا إلى ما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:«مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا»[4]. وتطبيقا لذلك يؤدب الصبي على الطهارة والصلاة إذا بلغ عشرا، وذلك ليتعود، وكذا الصوم إذا أطاقه.

والعقوبة تستدعي الجناية، وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية، بخلاف المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأنهما ليسا من أهل العقوبة ولا من أهل التأديب.

ولا يحتاج التعزير إلى مطالبة في هذه الصورة، لأنه مشروع للتأديب، فيقيمه الإمام إذا رآه.

ويجوز نقص التعزير عن عشر جلدات؛ إذ ليس لأقله مقدارا، فيرجع إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص. ولا يجرد للضرب، بل يكون عليه القميص والقميصان كالحد.

وسبق القول بأن التعزير يكون بالضرب والحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية، وإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، كما لو تكرر منه جنس الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على الفساد فهو كالصائل لا يندفع إلا بالقتل فيقتل.

وقد يكون التعزير بالنيل من عرض الجاني، مثل أن يقال له: يا ظالم يا معتدي. وقد يكون التعزير بإقامته من المجلس. وقيل: التعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا.

التعزير يكون على فعل المحرمات، وعلى ترك الواجبات. ومن جنس ترك الواجبات من كتم ما يجب بيانه، كالبائع المدلس في المبيع بإخفاء عيب ونحوه، والمؤجر المدلس، والناكح المدلس وغيرهم من المعاملين إذا دلس، وكذا الشاهد والمخبر الواجب عليه الإخبار بما علم.

ويضاف إلى العقوبة التعزيرية الضمان؛ لأن كتمان الحق سببه الضمان، مثال ذلك، من كتم شهادة كتمانا أبطل به حق مسلم ضمنه، كأن يكون عليه حق وقد أداه، وكان على ذلك بينة بالأداء، فتكتم الشهادة حتى يغرم ذلك الحق.

ما يحرم في التعزير:

  • يحرم التعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة[5]، وتسويد وجهه.
  • ولا يجوز في التعزير قطع شيء من الجاني، أي ممن وجب عليه التعزير، ولا جرحه؛ لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به، ولأن الواجب تأديب، والتأديب لا يكون بالإتلاف. ويجوز أن ينادى عليه بذنبه إذا تكرر الذنب منه ولم يقلع.
  • ويعزر من وجب عليه التعزير بما يردعه؛ لأن القصد هو الردع؛ وقد يقال بقتله، أي من لزمه التعزير للحاجة، ومن ثم يكون من التعزيرات قتل مبتدع داعية. ويجوز قتل مسلم جاسوس للكفار.
  • وهناك من قال بقتل من تكرر شربه للخمر ما لم ينته بدونه، وفي المبتدع الداعية يحبس حتى يكف عنها، ومن عرف بأذى الناس وأذى مالهم حتى بعينه ولم يكف عن ذلك حبس حتى يموت أو يتوب.
  • ومن مات من التعزير المشروع لم يضمن؛ لأنه مأذون فيه شرعا كالحد.

قدر التعزير:

إن وجب التعزير بجناية ليس من جنسها ما يوجب الحد، كما إذا قال لغيره: يا فاسق، يا خبيث، يا سارق، ونحو ذلك، فالإمام فيه بالخيار إن شاء عزره بالضرب، وإن شاء بالحبس، وإن شاء بالقهر والاستخفاف بالكلام. وعلى هذا يحمل قول سيدنا عمر – رضي الله عنه – لعبادة بن الصامت: يا أحمق. إن ذلك كان على سبيل التعزير منه إياه، لا على سبيل الشتم؛ إذ لا يظن ذلك من مثل سيدنا عمر رضي الله عنه. وإن وجب بجناية في جنسها الحد لكنه لم يجب لفقد شرطه، كما إذا قال لصبى أو مجنون: يا زان. أو لذمية أو أم ولد: يا زانية.

ولا خلاف في أنه لا يبلغ التعزير الحد. واختلف في قدره؛ فورد عن أحمد أنه لا يزاد على عشر جلدات. لما جاء أبو بردة قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى». [6]

وفي الرواية الثانية عن أحمد: “لا يبلغ به الحد”، أي لا يبلغ به أدنى حد مشروع. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا، ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف أدنى الحدود ثمانون، فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين.

ويحتمل كلام أحمد أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها، ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها. وإذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا؛ لأنه لو تقدر لكان حدا؛ ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدر أكثره ولم يقدر أقله، فيرجع فيه إلى اجتهاد القاضي فيما يراه ويقتضيه حال الشخص.

صور التعزير وكيفيته:

يكون التعزير – بحسب الأصل – بما يردع به الجاني ويزدجر، أو بما يؤدي إلى هدايته وإصلاحه وتوبته، وتهدئة وتسكين المجني عليه، وتطهير نفس الجاني.

ومن أجل ذلك تدرجت وسائل التعزير وصوره، حسب الهدف الذي يسعى الشرع إلى تحقيقه؛ فبدأت بالنصح أو التوبيخ بالكلام، ثم الضرب أو الجلد. وقد يكون التعزير بالمال أو الحبس، وقد يكون بالقتل، بحسب ما يراه ولي الأمر رادعا للشخص، وبحسب اختلاف حالات الناس.

ويكون التعزير بالتوبيخ، أو بالضرب، أوبالمال، أوبالحبس، وقد يكون بالقتل، وكل صورة من هذه الصور تتناسب مع جسامة الذنب، وتتلاءم في ذات الوقت مع ظروف المذنب وحالته، بل وتهدف إلى تحقيق غايات ومقاصد العقوبة.

  • ويكون توبيخ الجاني بما يحقق إشعار المذنب بالندم على ما بدر منه، فيكون في ذلك الكفاية لتحقيق الغرض الذي يهدف القاضي إليه، وهو عدم معاودة الذنب، ويتحقق ذلك بإعراض القاضي عنه، أو بالنظر إليه بوجه عبوس، وقد يتحقق الغرض بالإعراض عن المذنب وهجر مخالطته.
  • ولا يصل الأمر إلى التعزير بالضرب أو الجلد، إلا إذا كان الجاني من ذوي السفاهات، الذين اعتادوا الإجرام ويستحقون الإيلام. وتعد من أكثر العقوبات التعزيرية ردعا للمجرمين، حتى لايعودوا إلى التفكير في الجريمة مرة أخرى، ويكون إنزالها بكل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته، وشخصيته في آن واحد، وله أثر إيجابي في منع الجرائم وانتشارها.
  • أما التعزير بالحبس فيتقرر أحيانا للتأديب والردع، وهو يشبه الحبس الاحتياطي في زماننا الحالي. وقد فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن حبس رجلا في تهمة، ثم خلى عنه.
  • وقد ينصرف الحبس إلى النفي، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )أو ينفوا من الأرض( (المائدة: ٣٣)، ومن هذا القبيل أيضا حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظا لمحل القصاص، وحبس الجاني تعزيرا وردعا عن معاصي الله تعالى.
  • التعزير بالمال يقصد به إمساك شيء من مال الجاني عنه مدة من الزمن؛ لينزجر عما اقترفه، ثم يعيده الحاكم إليه؛ إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي.

والعقوبات المالية ثلاثة أقسام: الإتلاف، التغيير، التمليك. ويجوز التعزير بتغريم المال، أو العقوبات المالية.

  • والأصل أن التعزير للتأديب، ويجوز بما أمنت عاقبته غالبا، فلا ينبغي أن يصل به الحاكم إلى مهلكة، ومن ثم لا يجوز فيه القتل أو القطع بحسب الأصل، بل يجب أن يقتصر على القدر الذي يظن انزجار الجاني به ولا يزيد عليه. ومع ذلك، يجوز – استثناء – التعزير بالقتل سياسة، أو إذا اقتضت المصلحة المبالغة في الردع درءا للخطر والفساد.

الحكمة من تشريع التعزير:

وللتعزير أهمية كبيرة في التشريع الجنائي الإسلامي، لأنه يتناول نطاقا واسعا من الجرائم التي لم يقرر الشارع لها عقوبة حد أو قصاص أو كفارة، مما يجعله نظاما يتسم بالمرونة والصلاحية.

ولا ينحصر تفعيل عقوبات التعزير في النطاق السابق، وإنما ليس هناك ما يمنع من الجمع بينها وبين العقوبات المقدرة كالحد والقصاص والكفارة.

والغرض من ذلك: عدم ترك الأفعال غير المشروعة بدون عقاب، وعلى الخصوص إذا تخلف أحد أركان الحد أو القصاص، وحتى لا يظل الجاني بدون عقاب يردعه. مثال ذلك: السرقة التي لا توجب حدا يكون فيها التعزير.

وقد تكون الحكمة من الجمع هي تحقيق قدر أكبر من زجر الجناة، وزيادة الردع الذي يؤدي إلى الكف عن الإجرام.

و يقرر الشارع مجموعة من العقوبات الإضافية إلى جانب عقوبة الحد المقررة للجريمة، منها:

  • عقوبة التغريب للزاني غير المحصن التي تضاف إلى جانب عقوبة جلد مائة.
  • تبكيت شارب الخمر بعد جلده عقوبة الحد، وهو نوع من التعزير بالقول.
  • وتعليق يد السارق في رقبته بعد قطعها، زيادة على الحد المقدر، وحتى يعرف الناس عاقبة السرقة، فيكون عبرة لغيره، كما أنها للزجر والتنكيل بالجاني.
  • كما يجوز الجمع بين الكفارة والتعزير: مثال ذلك أن يجامع الرجل زوجته في نهار رمضان، والتعزير مشروع في هذا الفرض لتعلقه بحق الله تعالى، وليندفع ضرر عام عن الناس من غير أن يكون مختصا بأحد. ويمكن تأسيس التعزير في بعض الحالات على قاعدة: “وجزاء سيئة سيئة مثلها”[7].

ثالثا. هناك ضوابط لا بد للقاضي من مراعاتها عند تحديده للعقوبة التعزيرية يمكن إيجازها في الآتي:

  • عدم مخالفة العقوبة لنصوص الشريعة وقواعدها المتعلقة بالعقاب.
  • الاجتهاد في ضوء النصوص.
  • ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.
  • مراعاة الأحوال والظروف والمآلات في تقدير العقوبة.
  • عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني.

وقبل أن نشرع في تفصيل هذه النقاط نؤكد على أنه لاخلاف بين الفقهاء في أنه لايبلغ التعزير الحد كما سبقت الإشارة.

يؤكد د. حسني الجندي على:”أنه إذا كان التعزير عقوبة غير مقدرة، لم يحدد لها الشرع حدا معينا فكان لابد لولي الأمر أو الحاكم من وضع عقوبة لكل جريمة لا حد فيها؛ لأن ترك الجريمة بدون عقاب هو نوع من العبث.

ولا يترك الشارع لأي شخص مهمة وضع هذه العقوبة وتحديدها، وإلا كان في ذلك نوع من الفوضى؛ لأن العقوبة تنطوي على قسر وإجبار يخضع له الجاني، وقد تصل إلى استئصاله، فكان لا بد من أن يوكل بهذه المهمة إلى الشارع، وهو هنا ولي الأمر أو الحاكم أو السلطة التي تفوض في ذلك، ومن ثم كان التعزير ذا طبيعة تفويضية.

ويختار ولي الأمر أو القاضي في كل حالة تعرض عليه العقوبة أو العقوبات التي يراها كافية لزجر الجاني، ولا يزيد عليها، ويراعي في ذلك ظروف الجاني والجريمة والمجني عليه والزمان والمكان.

ويتم تحديد العقوبة التعزيرية وتقديرها، بشرط عدم مخالفتها لنصوص الشريعة وقواعدها المتعلقة بالعقاب.

ويستدل من النصوص التي تقضي بحرمة الربا، وشهادة الزور، والغش في الكيل والميزان، أنها وإن أوردت التحريم، لم تأت بعقوبة محددة بشأنها، فكانت تقتضي عقوبة تعزيرية، يترك تقديرها لولي الأمر، ويتولى القاضي تطبيقها على كل جريمة على حسب ظروفها.

وإذا كان ذلك هو شأن نصوص التحريم، فإن للقاضي مهمة أخرى بشأن تطبيق النصوص سالفة الذكر، وهي تلخص في أن يجتهد في الحكم بما تقتضيه هذه النصوص، وأن يكون حكمه بما أنزل الله وألايخرج عن مقتضاه، وإلا كان متبعا للهوى؛ ويعني ذلك أن يكون اجتهاده بعيدا عن ميوله الشخصية أو ميول غيره، تطبيقا لقول الله سبحانه وتعالى: )يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله( (ص: ٢٦)، وقوله سبحانه وتعالى: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم( (المائدة: ٤٩)، وإذا ثبت أن حكم القاضي أو الحاكم أو ولي الأمر كان مخالفا لنصوص الشريعة وقواعدها العامة المتعلقة بالعقاب، كان حكمه غير معتبر، ولا يطاع في ذلك؛ لأنه كما قال النبي: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف»[8].

ويجب على القاضي أن يراعي الملاءمة بين العقوبة وشخص الجاني؛ فإذا كان تقدير العقوبة التعزيرية يترك لاجتهاد القاضي، وكان هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص، كان من اللازم أن يراعي القاضي حالة الجاني، وأن يناسب بينها وبين العقوبة التي يقضي بها.

وبناء على ذلك، فليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه، ولا بقدر من العقاب لايزجر الجاني أو يصلحه. ويتعين على القاضي أن يضع في الاعتبار:

o      حال الجاني: فمن الجناة من يقتضي حاله التوبيخ، وآخر يستحق التعزير بالضرب، وثالث يكفي معه الحبس.

o  مدى ما تحققه العقوبة في نوعها أو قدرها من زجر للجاني أو إصلاح؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر، والناس تختلف أحوالهم في الانزجار، فيراعى في التعزير التدرج والترتيب، بما يراعى في دفع الصائل مثلا. وإذا رأى القاضي – وقد اختار التعزير بالضرب – أن الحد الأقصى منه غير كاف لزجر الجاني، فليس له – عند الحنفية – أن يزيد في الضرب عن هذا الحد، ولكن له أن يبدل نوعا آخر من أنواع العقوبات في التعزير بما كان يكفي من الضرب فوق الحد الأقصى، فله أن يحكم بالحبس مع الضرب، أو الإبعاد مع الضرب، أو أية عقوبة يراها مناسبة.

وأورد الماوردي في “الأحكام السلطانية” في ذلك أن: تأديب ذي الهيبة من أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»[9]. فتدرج في الناس على منازلهم، فإن تساووا في الحدود المقدرة فيكون تعزير من جل قدره بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف، وتعزير من دونه بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف الذي لاقذف فيه ولا سب، ثم يعدل بمن دونه ذلك إلى الحبس، الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم وبحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يوما، ومنهم من يحبس أكثر منه إلى غاية غير مقدرة… ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي والإبعاد، إذا تعددت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها.

وقال ابن تيمية في السياسة الشرعية: “يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب وقلته، فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال الذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لايعاقبه من لم يتعرض إلا لامرأة واحدة أو صبي واحد.

o  عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني إلى نوع أعلى منه، ويجب أن يقتصر التعزير على نوع العقوبة الذي يكفي للزجر دون زيادة، وعند مالك: للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للجرم الذي يحكم به نوعا وقدرا، فلا يتجاوز هذا القدر، ولايزيد عليه، ولا يبدله إلى غيره، مما لا يقتضيه زجر الجاني.

والضابط السابق يتعلق بقدر العقوبة الذي يكفي للزجر، أما هذا الضابط فيتعلق بنوع العقوبة. فالقاضي مفوض في اختيار نوع العقوبة الذي يراه مناسبا – من حيث الكفاية للزجر. فإذا كان نوع التعزير كافيا لزجر الجاني، فلا يجوز للقاضي أن يتجاوزه إلى نوع آخر. فالتفويض مقيد بقيدين: النوع والقدر معا.

ويكمل ما تقدم الحديث عن صفات التعزير، منها: فإذا كان ضرب التعزير أشد الضرب، فإن الفقهاء اختلفوا في المراد بالشدة المذكورة:

قال بعض الناس: أريد بها الشدة من حيث الجمع، وهي أن يجمع الضربات فيه على عضو واحد، ولا يفرق، بخلاف الحدود.

وقال آخرون: المراد منها الشدة في نفس الضرب، وهو الإيلام.

وقيل: إنما كان أشد الضرب لوجهين:

  1. أنه شرع للزجر المحض، ليس فيه معنى تكفير الذنب بخلاف الحدود، فإن معنى الزجر فيها يشوبه معنى التكفير للذنب، وقد ورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا»[10]؟ فإذا تمحض التعزير للزجر، فلا شك أن الأشد أزجر، فكان في تحصيل ما شرع له أبلغ.
  2. أنه قد نقص عن عدد الضربات فيه، فلو لم يشدد في الضرب لا يحصل المقصود منه وهو الزجر.

ومنها أنه يحتمل العفو والصلح والإبراء، لأنه حق العبد خالصا فتجري فيه هذه الأحكام كما تجري في سائر الحقوق للعباد من القصاص وغيره، بخلاف الحدود. ومنها أنه يورث كالقصاص وغيره. ومنها أنه لا يتداخل؛ لأن حقوق العبد لا تحتمل التداخل بخلاف الحدود.

ويؤخذ فيه الكفيل، إلا أنه لا يحبس لتعديل الشهود، أما التكفيل فلأن التكفيل للتوثيق، والتعزير حق العبد فكان التوثيق ملائما له، بخلاف الحدود.

وأما عدم الحبس، فلأن الحبس يصلح تعزيرا في نفسه، فلا يكون مشروعا قبل تعديل الشهود، بخلاف الحدود فإنه يحبس فيها لتعديل الشهود؛ لأن الحبس لا يصلح حدا”[11].

الخلاصة:

من خلال العرض السابق لحقيقة التعزير وأبعاده في الفقه الإسلامي الجنائي يتضح زيف الادعاء القائل بأن التعزير إطلاق ليد الحاكم في معاقبة الناس بلا ضابط وذلك للآتي:

  • هناك ضوابط لا بد للقاضي أو الحاكم من مراعاتها عند تحديد العقوبة التعزيرية وهي:

o      الاجتهاد بما تقتضيه النصوص.

o      ملاءمة العقوبة للجريمة أو المعصية.

o      مراعاة الأحوال والظروف في تقدير العقوبة.

o      عدم مجاوزة النوع الذي فيه الكفاية لزجر الجاني.

  • إذا كان للقاضي سلطات في تحديد العقوبة التعزيرية إلا أنها ليست مطلقة، فمعظم العقوبات متعارف عليها، ويقوم القاضي باختيار الأنسب للعقوبات حسب الحالة التي بين يديه، وهذا ما يعمل به في القانون الوضعي أيضا.
  • لا خطر في إطلاق يد الحاكم في عقوبة التعزير؛ لأنها تقدر على جرائم غير خطيرة، ولأن التساهل فيها قد يصلح الجاني أكثر مما يفسده، وأما الجرائم الكبيرة فقد حددت لها الشريعة عقوبات معينة.
  • لا مانع في الشريعة من اجتماع أهل الحل والعقد وتحديد العقوبات التعزيرية وتقنينها؛ فهي أمور تقديرية، تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان حسبما تقتضيه الظروف والأحوال، وذلك من مرونه الشريعة ودليل على عظمتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتلك ميزات لا عيوب.

(*) المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م.

[1]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص485، 486.

[2]. يعاقب على هذه الجريمة في مصر بمقتضى القانون رقم48 لسنة 1941م وتعديلاته الخاص بقمع التدليس والغش.

[3]. يعاقب على جريمة الشهادة الزور في المادة 294 من قانون العقوبات المصري.

[4]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة (3482)، وأحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6689)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته (7473).

[5]. المثلة: قطع الأنف والأذن ونحوهما، يقال: مثل بالقتيل: إذا جدع أنفه أو أذنه أو مذاكيره أو شيء من أجزائه.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب كم التعزير والأدب (6456)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير (4557) بنحوه.

[7]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص264 وما بعدها.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم (6830)، وفي مواضع أخرى بنحوه، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4871)، وفي موضع آخر بنحوه.

[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه (4377)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).

[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب البيوع (2174)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الأشربة والحد فيها، باب الحدود كفارات (17373)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2217).

[11]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص480 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين عدم قدرة نظام العقوبات في الشريعة الإسلامية على مواكبة المستجدات في مجال الجريمة، ومعالجة مستحدثات الإجرام العصري.

ويدعون تخلف النظام العقابي الإسلامي عن مواجهة تطورات الجريمة المعاصرة، خاصة ميادينها الطارئة مع متغيرات العصر، كالاتجار في المواد الضارة والمحرمة، وتزييف النقود اقتصاديا، وإشاعة الفاحشة، وإفساد النشء خلقيا، وجنايات الأطباء، وعرض الأطعمة الفاسدة صحيا، ومخالفة القواعد المرخص بها مروريا، وإخفاء الوثائق المعينة على الحكم بالعدل قضائيا.. إلخ.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  الجريمة في النظام العقابي الإسلامي نوعان:

  • جرائم معينة عقوبتها محددة، هي الجرائم التي تستوجب حدا من الحدود التي قررتها الشريعة الإسلامية، ويدخل فيها جرائم القصاص والدية.
  • جرائم غير معينة عقوبتها غير محددة وهذه الجرائم هي التي ليس فيها حد معين، وإنما تترك لاجتهاد القاضي وفق معايير معينة.

2)  التعزير وسيلة عقابية مرنة، تعالج كل جرائم النوع الثاني بجميع مستحدثاتها.

3)  هناك اجتهادات عديدة لضبط مستجدات الجريمة بضوابط نظام العقوبات الإسلامي.

التفصيل:

أولا. أنواع الجرائم في النظام العقابي الإسلامي:

 هناك جرائم معينة لها عقوبات محددة وهي المعروفة بجرائم الحدود والقصاص والدية، وجرائم غير محدودة تدخل فيها المستجدات في ميدان الجريمة، وليس لها حد عقابي محدد معروف كسابقتها، وإنما يخضع تقدير عقوبتها للقاضي، أو ولي الأمر فيما يسمى بنظام التعزير.

وعن أنواع الجريمة وتقسيماتها في التشريع الإسلامي، يقول عبد القادر عودة: “تتفق الجرائم جميعا في أنها فعل محرم معاقب عليه، ولكنها تتنوع وتختلف إذا نظرنا إليها من غير هذه الوجهة، وعلى هذا يمكننا أن نقسم الجرائم أقساما متنوعة، تختلف باختلاف وجهة النظر إليها.

تنقسم الجرائم بحسب جسامة العقوبة المقررة عليها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: جرائم الحدود:

وهي الجرائم المعاقب عليها بحد، والحد: هو العقوبة المقدرة حقا لله تعالى، ومعنى العقوبة المقدرة أنها محددة معينة، فليس لها حد أدنى ولا حد أعلى، ومعنى أنها حق لله، أنها لا تقبل الإسقاط، لا من الأفراد، ولا من الجماعة.

وجرائم الحدود معينة ومحدودة العدد، وهي سبع جرائم: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الحرابة، الردة، البغي. ويسميها الفقهاء “الحدود”، دون إضافة لفظ جرائم إليها، وعقوباتها تسمى الحدود أيضا، ولكنها تميز بالجريمة التي فرضت عليها، فيقال: حد السرقة، وحد الشرب، ويقصد من ذلك: عقوبة السرقة، وعقوبة الشرب.

القسم الثاني: جرائم القصاص والدية:

وهي الجرائم التي يعاقب عليها بقصاص أو دية، وكل من القصاص والدية عقوبة مقدرة حقا للأفراد، ومعنى أنها مقدرة أنها ذات حد واحد، فليس لها حد أعلى وحد أدنى تتراوح بينهما، ومعنى أنها حق للأفراد أن للمجني عليه أن يعفو عنها إذا شاء، فإذا عفا أسقط العفو العقوبة المعفو عنها.

وجرائم القصاص والدية خمس: القتل العمد، القتل شبة العمد، القتل الخطأ، الجناية على ما دون النفس عمدا، الجناية على ما دون النفس خطأ.

ومعنى الجناية على ما دون النفس، الاعتداء الذي لا يؤدي للموت كالجرح والضرب، ويتكلم الفقهاء عن هذا القسم عادة تحت عنوان الجنايات، متأثرين في ذلك بما تعارفوا عليه من إطلاق لفظ الجناية على هذه الأفعال…

القسم الثالث: جرائم التعازير:

وهي الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة أو أكثر من عقوبات التعزير ومعنى التعزير: التأديب، وقد جرت الشريعة على عدم تحديد عقوبة كل جريمة تعزيرية، واكتفت بتقرير مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم، تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة أو العقوبات المناسبة في كل جريمة، بما يلائم ظروف الجريمة وظروف المجرم؛ فالعقوبات في جرائم التعزير غير مقدرة.

ثانيا. التعزير وسيلة عقابية مرنة:

وجرائم التعزير غير محددة، كما هو الحال في جرائم الحدود، أو جرائم القصاص والدية، وليس في الإمكان تحديدها، وقد نصت الشريعة على بعضها، وهو ما يعتبر جريمة في كل وقت، كالربا، وخيانة الأمانة، والسب، والرشوة. وترك لأولي الأمر النص على بعضها الآخر، وهو القسم الأكبر من جرائم التعازير، ولكن الشريعة لم تترك لأولي الأمر الحرية في النص على هذه الجرائم، بل أوجبت أن يكون التحريم بحسب ما تقتضيه حال الجماعة، وتنظيمها، والدفاع عن صالحها، ونظامها العام، وألا يكون مخالفا لنصوص الشريعة ومبادئها العامة.

وقد قصدت الشريعة من إعطاء أولي الأمر حق التشريع في هذه الحدود، تمكينهم من تنظيم الجماعة، وتوجيهها الوجهات الصحيحة، وتمكينهم من المحافظة على صوالح الجماعة والدفاع عنها، ومعالجة الظروف الطارئة.

والفرق بين الجريمة التي نصت عليها الشريعة، والعمل الذي يحرمه أولو الأمر: أن ما نصت عليه الشريعة محرم دائما؛ فلا يصح أن يعتبر فعلا مباحا، أما ما يحرمه ولي الأمر اليوم فيجوز أن يباح غدا، إذا اقتضت ذلك مصلحة عامة[1].

بهذه المساحة الواسعة في تحديد جرائم التعزير، وتقدير عقوباتها المنوطة بولي الأمر، تتحقق مرونة التشريع العقابي الإسلامي، ويمكنه استيعاب كل ما يستجد في مجال الجريمة بمختلف أشكالها وتنوع طبيعتها، وعلى هذا فلا يصح وصم هذا النظام العقابي الإسلامي، بالتقهقر عن مجاراة تطورات الجريمة العصرية المتسارعة، وضبط وتكييف قواعد العقوبات حيالها.

ثالثا. اجتهادات ضبط مستحدثات الجريمة بضوابط الشرع:

نظرا للمرونة الهائلة في مجال العقوبات التعزيرية، واتساع هذا المجال اتساعا مكن التشريع العقابي الإسلامي من مواكبة كل جديد في ميدان الإجرام، فإن هذا المجال مثل ساحة خصبة للاجتهاد، وكذا مصدر فخر للتشريع الإسلامي، ولقابليته للتجدد والمتابعة، وفي هذا السياق يقول د. محمد بلتاجي – رحمه الله – عن جرائم التعزير: وهي كل جناية على إحدى الكليات الخمس لم تتضمنها المجموعتان السابقتان، والشريعة – كما سبق – تفوض للقاضي أمر العقاب فيها، غير محكوم إلا بمراعاة مبدأ الملاءمة بين الجناية والعقوبة التي يقدرها، مع اعتبار حال الجاني، وكافة الظروف التي أحاطت بجنايته في كل قضية تعرض عليه، كذلك ينبغي على القاضي أن يضع في اعتباره – عند النظر في قضايا التعزير – مقاصد الشريعة الإسلامية، ومقرراتها العامة في التجريم وفلسفة العقوبات.

وتشمل دائرة التعزير آلاف الجنايات والمخالفات في كافة مجالات الحياة:

  1. الاقتصادية: مثل التعامل بالربا، والرشوة، والاحتكار، وأكل المال بالباطل، والغش، والاتجار في المواد الضارة أو المحرمة، أو تزييف النقود، والاستيلاء على المال العام، والتربح غير المشروع من الوظائف العامة..إلخ.
  2. الأخلاقية: مثل إشاعة الفاحشة في المجتمع، وتزيين الفساد الخلقي، ومعاكسة النساء، والقيادة عليهم – من القود -، والقواد: القائم على تيسير وتنظيم سبل الفاحشة وترويجها، وإفساد النشء خلقيا.. إلخ.
  3. الصحية: مثل جنايات الأطباء والموكول إليهم أمر علاج الناس صحيا، وإلقاء القاذورات في الطريق، والإسهام في إفساد مصادر المياه وتلويثها، وعرض الأطعمة الفاسدة للبيع، واستيرادها من الخارج، وتصنيعها في الداخل، وصناعة الأدوية المغشوشة، وتزييف تواريخ صلاحيتها… إلخ.
  4. الأسرية: مثل إهمال ولي أمر الأسرة الإنفاق عليها أو علاج أفرادها، أو الإهمال في تربية الأبناء وتعليمهم، أو العمل على إفسادهم.. إلخ.
  5. المرورية: مثل قيادة مركبة غير صالحة، أو تعرض الناس في الطريق إلى الحوادث، ومخالفة التراخيص المأذون بها في السرعة، أو غيرها مما يعرض الناس للخطر.. إلخ.
  6. القضائية: مثل جور القاضي ومخالفته للقانون عمدا، وشهادة الزور، وإخفاء المحامين والموظفين القضائيين للوثائق التي تعين على الحكم بالعدل..إلخ.

وغير ذلك كثير مما يشمل كافة مجالات الحياة بإطلاق، وسلطة ولي الأمر في التحريم هنا سلطة مطلقة، غير محكومة إلا بمقاصد الشريعة العامة في تحقيق العدل والمصلحة، كما قال سبحانه وتعالى: )لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط( (الحديد: ٢٥)؛ فكل ما يقوم على القسط وهو العدل، وتتحقق به مصالح الناس، فهو في سلطة ولي الأمر.

بل إن مجال الجنايات في القسمين السابقين يدخل – أيضا – في مجال التعزير حينما تقوم الشبهة المطلقة للحد مع توفر ركن المخالفة؛ فيسقط الحد لكن يجب التعزير، كمن سب آخر أو شتمه بما لا يوجب حد القذف، لكنه يخضع للتعزير، وكمن ضبط في ريبة مع امرأة أجنبية، لكن لم يثبت عليهما الزنا بطريق الثبوت الشرعي، وكمن سرق ما لايجب فيه القطع؛ فيسقط الحد ويخضع الفاعل للتعزير.

كذلك حين يسقط القصاص – لعدم توفر شروطه الشرعية – مع ثبوت التعدي والجناية، كالحالات التي يتعذر فيها القصاص فيما دون النفس؛ فإن هذه الجناية تخضع للتعزير.

فالتعزير – إذن – هو المجال المتجدد المرن للتجريم في المجتمع الإسلامي، وهو – فيما يبدو – جانب من عظمة الشريعة الإسلامية، التي تجمع في كل مجال بين الثابت والمتطور؛ ففي مجال السياسة والحكم مثلا توجب الشورى، وهذا هو الثابت الذي لا يقبل التغيير، لكنها تترك تفصيلات – كيف تتحقق هذه الشورى في كل مجتمع – لاجتهاد المجتهدين وأولي الأمر؛ حيث قبلت الشريعة ثلاثة نماذج في اختيار الحاكم في أقل من خمس وعشرين سنة، وفي مجال الاقتصاد توجب العدل، وتحرم الربا والغش وأكل المال بالباطل والاحتكار والغرر والمقامرة – وهذا هو الثابت الذي لا يقبل التغيير – ثم تدع أمر التطبيق التفصيلي، والإطار العام للمجتهدين وأولي الأمر في كل مجتمع.

وهكذا في كل مجال تجمع الشريعة بين الثابت الذي يمثل أصول الإسلام التي لا ينبغي مخالفتها أو الجدل فيها، كما يقول الإمام الشافعي – وبين المتغير وبذلك تتيح للتطور والتغيير – وهما سنة كونية – مجالهما الذي يشرع الاجتهاد له، بحسب شروطه وقواعده المقررة في الإسلام[2].

تتعدد أنواع عقوبات التعزير وتتنوع، ولولي الأمر أن يختار منها في كل حالة ما يراه مناسبا محققا لأغراض التعزير، وهذه العقوبات قد تنصب على البدن، وقد تكون مقيدة للحريات، وقد تصيب المال، وقد تكون غير هذا كله، فمن أمثلة العقوبات البدنية: التعزير بالقتل، وبالجلد، وبالحبس، وبالنفي (التغريب)، وهناك أنواع أخرى من العقوبات؛ كالتوبيخ أو الهجر، كقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأبي ذر – رضي الله عنه – عندما سب رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية»[3]. وبالهجر كهجر المرأة الناشز.

ومن المجالات التي يواكب بها النظام العقابي في الإسلام مستجدات الجريمة، عبر عقوبات التعزير، مجال الجرائم المضرة بالمصلحة العامة، وعنها يقول مؤلفو الموسوعة الفقهية: “توجد جرائم مضرة بالمصلحة العامة ليست فيها عقوبات مقدرة، وفيها التعزير، ومن هذه الجرائم: التجسس للعدو على المسلمين، فهو منهي عنه لقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)( (الحجرات)، وقوله: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة( (الممتحنة: ١)، ولما كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدرة ففيها التعزير” وقد فصل هؤلاء القول في حكم التجسس، بما يعطي حالاته الراهنة في عصرنا، فقالوا: “التجسس تعتريه أحكام ثلاثة: الحرمة، والوجوب، والإباحة”.

فالتجسس على المسلمين في الأصل حرام منهي عنه، لقوله سبحانه وتعالى: )ولا تجسسوا(؛ لأن فيه تتبع عورات المسلمين ومعايبهم، والاستكشاف عما ستروه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه، وهو في بيته»[4]. ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعث الجواسيس؛ لتعرف أخبار جيش الكفار من عدد وعتاد… وما إلى ذلك.

أما عن التجسس على المسلمين في الحرب، ففيه أن: الجاسوس على المسلمين إما أن يكون مسلما ذميا، أو من أهل الحرب، وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرشيد فيما يتعلق بالحكم فيهم، فقال: وسألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس، يوجدون وهم من أهل الذمة، ممن يؤدي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة، وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة.

مما تقدم يتبين أن الجاسوس الحربي – أي المحارب للمسلمين – مباح الدم يقتل على أي حال عند الجميع، أما الذمي والمستأمن، فقال أبو يوسف وبعض المالكية والحنابلة: يقتل، وللشافعية أقوال أصحها: أنه لا ينتقض عهد الذمي بالدلالة على عورات المسلمين، لأنه لا يخل بمقصود العقد، وأما الجاسوس المسلم فإنه يعزر ولا يقتل عند أبي يوسف، ومحمد، وبعض المالكية، والمشهور عند الشافعية وعند الحنابلة أنه يقتل، وهكذا نرى أن عقوبات التعزير قد اتسعت لتغطي كل صفوف التجسس، مثل:

  1. الرشوة: “وهي جريمة محرمة بالقرآن؛ لقوله سبحانه وتعالى:)سماعون للكذب أكالون للسحت( (المائدة: ٤٢)، وهي في اليهود، وكانوا يأكلون السحت من الرشوة، وهي كذلك محرمة بالسنة لحديث: «لعن رسول الله الراشي والمرتشي»[5]. ولما كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدرة ففيها التعزير.
  2. تقليد المسكوكات الزيوف والمزورة: تقليد المسكوكات التي في التداول والإعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة فيها التعزير؛ ففي “عدة أرباب الفتوى” في رجل يعمل السكة المصنوعة ريالا وذهبا وروبية، وفي رجل ينشر هذه المسكوكات الزائفة ويروجها: أنهما يعزران.
  3. التزوير: في هذه الجريمة التعزير، فقد جاء أن معن بن زياد عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال فأخذ مالا، فضربه عمر – رضي الله عنه – مائة جلدة، وحبسه، ثم ضربه مائة أخرى، ثم ثالثة، ثم نفاه. ومن موجبات التعزير: كتابة الخطوط والصكوك بالتزوير.
  4. البيع بأكثر من السعر الجبري: قد تدعو الحال لتسعير الحاجيات، فإن كان ذلك؛ فالبيع بأكثر من السعر المحدد فيه التعزير ومن ذلك: الامتناع عن البيع؛ ففيه الأمر بالواجب والعقاب على ترك الواجب، ومن ذلك: احتكار الحاجات للتحكم في السعر لحديث: «من احتكر فهو خاطئ»[6].
  5. الغش في المكاييل والموازين: يقول الله سبحانه وتعالى:)أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182)( (الشعراء). وفي الحديث: «من غشنا فليس منا»[7]. وبناء على ذلك: فالغش في الكيل والوزن معصية، وليس فيها حد مقدر؛ ففيها التعزير.
  6. المشتبه فيهم: قد يكون التعزير لا لارتكاب فعل معين، ولكن لحالة الجاني الخطرة، وقد قال بعض الفقهاء بتعزير من يتهم بالسرقة ولو لم يرتكب سرقة جديدة، ومن يعرف أو يتهم بارتكاب جرائم ضد النفس، كالقتل والضرب والجرح[8].

إن ما قامت به المملكة العربية السعودية لتقنين أحكام التعزير في الوقت الراهن – تدليلا على مرونة الشريعة واستيعابها لمستحدثات الجريمة – ليعد نموذجا تطبيقيا في هذا الشأن، وهو ما يشير إليه د.بلتاجي بقوله: أما بالنسبة للجرائم التعزيرية: فقد لجأت الدولة – تبعا لمقتضيات التطور – إلى إصدار عدد من الأنظمة التعزيرية بشأن بعض الجرائم المهمة، التي تمثل مساسا خطيرا بمصالح المجتمع الحيوية خارج إطار الحدود والقصاص. وقد حددت هذه الأنظمة الجهات القضائية التي تتولى الفصل في كل جريمة على حدة. وتعتبر هذه الجهات أجهزة شبه قضائية، حيث تشكل وتعمل في إطار إداري قضائي وتتسم بطابع مختلط، يجمع بين هذين الوصفين، بيد أن هذه الأنظمة لم تغط جميع الأفعال التي تستوجب التعزير، ولذا فإن الاختصاص الأصيل للمحاكم الشرعية يظل قائما بالنسبة لغير ما صدر بشأنه أنظمة من أفعال تعزيرية…

وعليه فقد اتسع نطاق التعزير، ليشمل الجرائم الاقتصادية والمالية، وجرائم النشر والصحافة والرأي، وغيرها من الجرائم التي تمثل اعتداء على أوضاع المجتمع المشار إليها أو تهددها بالأخطار.

وفي الإطار المتقدم أصدر ولي الأمر بالمملكة العربية السعودية عدة أنظمة جنائية، أهمها:

 نظام مكافحة الرشوة، ومكافحة التزوير، ومكافحة الغش التجاري، ونظام الجمارك، والأوراق المالية، والأوراق التجارية، ومنع الاتجار بالمواد المخدرة والعقوبات الملحقة به، ونظام سلاح الصيد وجلبه واستعماله، ومنع بيع الأسلحة واقتنائها، ونظام المرور، ونظام اتفاقية الجنح والأفعال الأخرى المرتكبة على الطائرات، ونظام محاكمة الوزراء، بالإضافة إلى النصوص الجنائية الأخرى التي وردت في أنظمة غير جنائية، لتبين العقوبات التي توقع عند مخالفة أحكامها، كنظام الإقامة ونظام الجنسية… إلخ.

كذلك أخذت الأنظمة الجنائية الصادرة في المملكة ببعض النظم والاتجاهات الجنائية التقليدية الحديثة والمعاصرة، وأهمها:

نظام العقوبات المتراوحة بين حدين، أعلى وأدنى: ومن ذلك ما ورد في نظام مكافحة الرشوة، بشأن معاقبة المرتشي بالسجن من سنة إلى خمس سنوات، وبالغرامة من خمسة آلاف إلى مائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين… وما ورد في نظام الجمارك من النص على أن تكون غرامة التهريب الجمركي، ضعف الرسوم الجمركية مضافا إليه قيمة العوائد، وفي حالة العود تضاعف هذه الغرامة، ويجوز إبلاغها في هذه الحالة الأخيرة إلى أربعة أمثالها…

ويوافق الفقه الإسلامي في مجموعه على أن من حق المشرع والقاضي، أن يصلا بالعقوبة التعزيرية إلى حد الإعدام في حالات خاصة، ومن أصول الحنفية أن ما لا قتل فيه عندهم كالجماع في غير القبل، إذا تكرر فللإمام أن يقتل فاعله تعزيرا ويسمونه “القتل سياسة”، وكأن حاصله أن يعزر بالقتل في الجرائم التي تعاظمت بالتكرار، وشرع القتل في جنسها، ومن ذلك أن الإمام يقتل السارق سياسة، إن تكرر هذا الفعل منه….

وقد أخذ قانون العقوبات المصري بعقوبات تصل إلى حد الإعدام في حالات منها: من ارتكب عمدا فعلا يؤدي إلى المساس باستقلال البلاد، أو وحدتها، أو سلامة أراضيها، ومن التحق بأي وجه بالقوات المسلحة لدولة في حالة حرب مع مصر، ومن سعى لدى دولة أجنبية، أو تخابر معها، أو مع أي ممن يعملون لمصلحتها للقيام بأعمال عدائية ضد مصر…

إن هناك مسوغا حضاريا يبرر البلوغ بالعقوبة التعزيرية حد الإعدام؛ ذلك أن المجتمعات – وهي بسبيل تطورها – يعرض لها من المصالح المستجدة ما يستوجب الحماية، بحيث يكون الاعتداء على مثل هذه المصالح الجديدة معبرا عن أشكال جديدة من الجريمة، يقرر لها الشارع عقوبة دون تقدير أي عقوبة تعزيرية، فيكون من مهمة ولاة الأمر تقدير عقوبات لهذه الجرائم الجديدة تتناسب مع درجة خطورتها على هذه المصالح.

وهذا يعني أن التعزير يعد صمام أمان تشريعي به يستطيع المجتمع أن يحمي ما يستجد له من مصالح لم يكن بشأن الاعتداء عليها عقوبات مقدرة من قبل.

وهذا – كما سبق – وجه من وجوه مرونة التشريع الإسلامي، وصلاحيته للتطبيق وتحقيق المصالح الفردية والجماعية في كل عصر مع تطور الأوضاع والعلاقات والجرائم[9].

الخلاصة:

  • للجريمة في النظام العقابي الإسلامي نوعان:

الأول: جرائم معينة عقوبتها محددة.

الثاني: جرائم غير معينة عقوبتها غير محددة. والتعزير – وعقوباته التقديرية، والمرجع فيها ولي الأمر، هو الوسيلة العقابية الشرعية المرنة، التي تعالج كل جرائم النوع الثاني بجميع مستحدثاتها.

  • عبر العقوبات التعزيرية تعددت اجتهادات ضبط مستحدثات الجريمة بضوابط الشرع، واتسع هذا المجال اتساعا مكن التشريع العقابي الإسلامي من مواكبة كل جديد في ميدان الإجرام، واقتراح العقوبة المناسبة له. ومن نماذج هذه الاجتهادات التطبيقية لتقنين أحكام التعزير في الوقت الراهن، ما تم في المملكة العربية السعودية، وبعض ما تضمنته قواعد القانون العقابي المصري.
  • ونخلص من هذا إلى أن عقوبات التعزير تعد بابا من أبواب المرونة التشريعية، ومصدرا من مصادر الفخر التشريعي الإسلامي، وصمام أمان تشريعي، فللمشرع الإسلامي أن يحمي مصالح المجتمع المستجدة بعقوبات لم تكن مقدرة من قبل، تناسب خطورة الجرائم الواقعة عليها.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م.

[1]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص78: 81.

[2]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص59: 61 بتصرف يسير.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4403)، وفي مواضع أخرى.

[4]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث أبي برزة الأسلمي (19791)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الغيبة (4882)، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزياداته (13944).

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما (6532)، وأبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة (3582)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (3580).

[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات (4206).

[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي: “من غشنا فليس منا” (294).

[8]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط1، 1408هـ/ 1987م، مادتا: تجسس، وتعزير.

[9]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص65 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن العقوبات، والقصاص المعلن أمام الناس، تشهير بمن تقع عليه تلك العقوبات؛ إذ يفتضح أمره، مما يترك عليه أثرا نفسيا سيئا؛ يجعله يائسا من الحياة، وقد يدفعه إلى الانتحار. ويتساءلون: ألا يتنافى هذا مع تعاليم الإسلام التي تأمر بالستر؟!

وجها إبطال الشبهة:

1) العقوبات في الإسلام شرعت؛ لتقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من هذه الجرائم التي تهدد المجتمعات الإنسانية، وتقضي على مقوماتها الأساسية: الأعراض والأموال والعقول والأرواح.

2) لقد قررت الشريعة الإسلامية من القواعد والمبادئ ما يكفل سلامة المجتمع ويضمن تطبيق العقوبات، ويراعي حقوق الإنسان وكرامته، حتى لو كان مجرما؛ لاشتمالها على أرقى المبادئ الجنائية.

التفصيل:

أولا. قصد الشارع الحكيم من فرض هذه الحدود:

كان الهدف الرئيسي من فرض الحدود هو تقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من هذه الجرائم التي تهدد المجتمعات الإنسانية بالقضاء على مقوماتها الأساسية: الأعراض، والأموال والعقول والأرواح، ويعرض لنا د. حسني الجندي هذا الأمر قائلا:

فهناك من النوازع الشريرة التي يستجيب لها الإنسان؛ فينتهك الأعراض في غفلة من ضميره؛ مدفوعا بدافع الغريزة الجنسية، ومستسلما للمثيرات الخارجية، أو يسرق الأموال مدفوعا بدافع التملك، وقد يشرب الخمر؛ تلبية لنداء شهوة عارضة، وقد يقطع الطريق، مستوليا على أموال الناس، ومزهقا أرواحهم؛ استهانة منه بالأحكام الشرعية، والتقاليد المرعية؛ ولذلك حارب الإسلام هذه الجرائم، ووضع لها من العقوبات الرادعة ما يجنب المجتمع شر الوقوع فيها. فشرعت الحدود عقابا على هذه الجرائم؛ وردعا لمرتكبيها، وتقويما لسلوكهم، وعظة لغيرهم؛ حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه هؤلاء المعتدون، وهو ما يؤكده قوله – عز وجل – في عقاب الزنا: )وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور: ٢)، وبذلك: صان الإسلام الأعراض، فلم تنتهك بفعل أو قول، ومن انتهكها بفعل حد حد الزنا، ومن انتهكها بقول حد حد القذف.

ومما سبق يتضح لنا حرص الإسلام على حماية الأعراض، وصيانتها بسائر الوسائل الممكنة، ومن بين هذه الوسائل سن التشريعات الكفيلة بحمايتها، والمحافظة عليها. إذ لا يخفى – علينا – ما في انتهاكها من أخطار جسيمة: على الأسرة، والمجتمع؛ فالأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع، فإذا فسدت فسد المجتمع الذي يتكون منها، وإذا صلحت صلح المجتمع، وصار جديرا بالحياة.

كما صان الإسلام الأموال، واحترم الملكية الفردية؛ تشجيعا للعامل، وأخذا بيد المجد إلى الأمام؛ «فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»[1]. وقد حاربت الشريعة الإسلامية الدوافع النفسية إلى جريمة السرقة بعوامل نفسية تصرف الإنسان عن ارتكابها، فإذا ساومت الإنسان الدوافع الشريرة، قاومتها الصوارف النفسية التي ولدتها عقوبة القطع؛ فينصرف عن ارتكاب جريمته.

وصان الإسلام العقول؛ فحرم الخمر لما فيها من ضرر يلحق العقل، ولما فيها من قضاء على الأموال في غير طائل.

وحرصا من الإسلام على حماية النفوس البريئة، والأموال والملكيات؛ فقد شرع عقوبة لهؤلاء الذين ينهبون الأموال، ويقتلون الأنفس؛ معتمدين على قوتهم وشوكتهم قال سبحانه وتعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33)( (المائدة).

ومع ذلك فلا يغرب عن البال: أن الإسلام حريص كل الحرص على ألا يقام الحد، إلا حيث يتبين على وجه اليقين ثبوت ارتكاب الجرم، وذلك بتشدده في وسائل الإثبات، ثم إنه بعدئذ يدرأ الحد بالشبهات، كل هذا تفاديا لتوقيع الحدود، إلا في حالات استثنائية محضة، ويكفي توقيعها في هذه الحالات حتى يتحقق أثرها الفعال في منع الجريمة، وتضييق الخناق عليها إلى أقصى حد ممكن، بل إن تطبيق بعض الحدود كالجلد – بأصوله الشرعية – أحب إلى كثير من العصاة من الحبس في غياهب السجون مدة من الزمن – قلت أو كثرت – وأما الرجم فهو مجرد قتل بوسيلة إعلامية زاجرة، تمثل انتقام المجتمع ممن سطا على الأعراض[2].

ويستمر د. حسني الجندي في عرض أغراض العقوبة بصفة عامة، وتحديدها قائلا: والهدف الأخير للعقوبة، – أو الغرض الحقيقي لها – هو حماية الحقوق والمصالح التي قدر الشارع أنها جديرة بالحماية الجنائية – وهي بلا شك حقوق فردية واجتماعية – ومكافحة الإجرام.

ولكن نظام العقوبات، وتطبيقها يهدف إلى إدراك هذا الهدف عن طريق أغراض أخرى قريبة لها، يعد تحقيقها بمثابة الوسيلة إلى بلوغ ذلك الهدف، بل إن تحقيق هذه الأغراض – أو الوسائل – يتم بالسعي إلى إدراكها عن طريق وسائل أخرى يرجى من وراء تحقيقها تحقيق الوسائل السابقة، والتي يرمى منها بدورها إلى إبراز الغرض الحقيقي والوحيد.

وإذا كان السائد في الوقت الحاضر أن غرض العقوبة هو إصلاح المجرم وتأهيله في المجتمع؛ فإن هذا الغرض لا يفهم مجردا دون الإلمام بفهم الأغراض الأخرى.

وقد نالت أغراض العقوبة الاهتمام البالغ من المفكرين؛ فكانت الأنظمة القديمة تحدد للعقوبات أغراضا تهدف إليها، واستقر الرأي على أن للعقوبة نوعين من الأغراض، أو نوعين من المقاصد – كما يقول علماء الشريعة -: مقاصد مادية وأخرى معنوية. وبالجملة، هي في النظام الوضعي ثلاثة أغراض: تحقيق العدالة، والردع العام، والردع الخاص. ويمكن أن يضاف إليها أغراض أخرى، كالجبر وإصلاح المجرم.

والله – عز وجل – قصد بأحكام الشريعة إقامة المصالح الأخروية والدنيوية معا، وما دامت كذلك، لا بد أن يكون وضعها على هذا الوجه أبديا، وكليا، وعاما، في جميع أنواع التكليف، والمكلفين، وفي جميع الأحوال، أي – كما جاء في قول الله: )إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)( (مريم).

يستخلص مما تقدم أن:

  • الإسلام ضرب حول كل جريمة خطيرة سياجا؛ ليمنع المسلم من الاقتراب منها؛ فدعا إلى الأخذ بالحلال وترك الشبهات، عملا بما بقول النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[3].
  • الشريعة الإسلامية وإن أبعدت الإنسان عن طريق الجريمة – بأن حاولت القضاء عليها في مهدها، وقبل أن تبدأ داخل النفس – فإنها أيضا وعدته بالجزاء الحسن على مجرد عدم ارتكابها.
  • لا ينبغي أن نغفل أن الإسلام وضع نظاما موازيا لنظام العقوبات، هو نظام التوبة؛ كي يحول بين الإنسان وبين التردي في هاوية اليأس، والأمل في الوصول إلى رضا الله – عز وجل – عنه، فتسعه مغفرته ورحمته، ويتم له التطهر من الآثام[4].

ومن هنا يتبين لنا أن هذه العقوبات جاءت صيانة للمجتمع، وتأمينا لأفراده عموما؛ إذ ليس الهدف من تطبيق العقوبات على أفراد بعينهم تشهيرا بهم، وفضحا لهم، وإن كان التشهير بواحد في المجتمع يتنافى مع الأمر بالستر، إلا أن فيه ردعا لمن تسول له نفسه بأن يسعي في زلزلة المجتمع كله، فإن العضو المريض إذا استأصل صلح الجسد كله وإن ترك فسد الجسد كله.

ثانيا. لقد قررت الشريعة الإسلامية من المبادئ ما يكفل سلامة تطبيق العقوبة:

ومن انعكاسات حقوق الإنسان الإسلامية على العقوبات أن الشريعة الإسلامية قررت في مجالها القواعد العامة الآتية:

  1. أن الأصل في الإنسان على وجه العموم براءة ذمته من ارتكاب كافة الجرائم:

وهذا الأصل يستصحب في التعامل معه حتى يقوم الدليل القطعي – الذي لا شك فيه ولا شبهة – على أنه ارتكب جرما منها، وعبء إثبات ذلك على الذي يتهمه – كائنا من كان من فرد أو سلطة – وليس عليه هو بداية أية تبعة لإثبات براءته الأصلية؛ لأنها حق أساسي له يولد معه باعتباره إنسانا، ويظل مستصحبا في التعامل معه حتى يثبت نقيضه بأدلة الجرم المعتمدة شرعا في كل جريمة.

وقد ثبتت هذه القاعدة بالقرآن والسنة؛ حيث قال سبحانه وتعالى: )لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)( (النور)، كما ورد في الحديث: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه»[5]. ومن هنا جاءت القاعدة الأصولية: “ليس على النافي دليل؛ إنما الدليل على المثبت الذي يتولى عبء الاتهام”.

وبناء على هذه القاعدة يتبين أنه ليس من الإسلام ما تقوم به السلطات الغاشمة من النظر للمواطن ومعاملته على أن الأصل فيه أنه مجرم، وأن عليه أن يثبت العكس، كما أنه ليس من الإسلام تعذيب المتهم الذي ليس عليه دليل شرعي ليعترف بجريمة ما، وأن الصواب: هو أن الاعتراف الذي نشأ عن التعذيب لا قيمة له؛ حيث يرى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز تعذيب المتهم، وأن إكراهه أو تعذيبه يجعل إقراره باطلا، وهذا القول هو المتفق مع مجموع نصوص الشريعة، وقواعدها.

       2- ليس من الإسلام حرمان المتهم من حق الدفاع عن نفسه بكل طريق حينما يوجه له الاتهام، وله الحق في توكيل من يعهد إليه بالدفاع عنه ممن يرى أنه ألحن بحجته، وأقدر على إثبات براءته أو عذره.

       3- عند إثبات الجرم لا بد من اعتبار ثلاثة أمور:

  • طرق الإثبات الشرعية التي وردت في النصوص: فالزنا – مثلا – يثبت إما: بالإقرار، أو البينة، أو ظهور الحمل على المرأة دون أن يكون لها زوج يمكن أن يكون الحمل منه.. وفي كل تفصيل ينبغي أن يراعى:

o      فالإقرار: لا بد أن يكون إقرارا حرا ليست فيه أية شبهة لإكراه، أو نحوه مما يعيب الإقرار ويجعله كأن لم يكن، ويسقط كافة آثاره في العقاب. ولا بد أن يراجع متلقي الإقرار المقر عدة مرات حتى يشهد على نفسه أربع شهادات؛ كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع ماعز حين أقر على نفسه بالزنا. كذلك لا بد من الاستيثاق من أهلية المقر الكاملة لترتب آثار الإقرار عليه، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع ماعز في الحديث السابق، فإن كانت التي تقر امرأة – وكانت حاملا – أمهلت حتى تضع حملها، وتفطمه بعد عامين كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع الغامدية، ثم إن الإقرار في عقوبته لا يجاوز المقر نفسه إلى من ادعى أنه شاركه الجرم، كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في وقائع المعترفين بالزنا في عصره، بخاصة في حديث العسيف.

كذلك لو تراجع المقر عن إقراره – حتى عند الشروع في تنفيذ العقوبة فيه – فإنه يجب أن يخلي سبيله على الفور.

o      أما البينة: فهي أربعة شهود عدول يشهدون بأنهم رأوا الجريمة بأعينهم بكافة تفاصيلها الجسدية الدقيقة جدا، ولا يكون هناك أدنى اختلاف بينهم في هذه التفصيلات، وإلا سقط الحد عن المدعى عليهما، والحقيقة أن إثبات الزنا بهذه البينة أمر يكاد يكون – في التطبيق العملى – مستحيلا؛ إذ كيف يتأتى لعاقل أن يفعل هذا الفعل بحيث يشهد تفصيلاته الدقيقة أربعة شهود، إلا إذا كان في العراء، أو نحوه، وقصد أن يراه الشهود، وإلا فإنه يستطيع أن ينزع إذا ما أحس بحركتهم؛ فلا يتحقق عندئذ ركن الشهادة المهم ويسقط الحد!

أما إن ترك نفسه بحيث يراه الشهود: ففي عقله عندئذ شك يثير الشكوك في أهليته للعقاب؛ ويمثل شبهة تسقط الحد! ولذلك لا نعجب حين نعلم أنه لم يثبت أنه أقيم حد الزنا بالبينة الشرعية على أحد في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا عصر الخلفاء الراشدين.

وأرى أنه لا تقبل في العصر الحديث تسجيلات الصورة، والصوت ونحوهما كبينة مقبولة على الجرم التزاما بحدود ما أتى به النص الشرعي السابق: )لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)( (النور)؛ولأن احتمال التدليس الفني في الصورة والصوت قائم، ويمثل شبهة تدرأ الحد، وإن أوجبت التعزير بشروط؛ لأن الواضح من تحري مقاصد الشريعة أنها تحض على درء الحد عن المسلم إذا قام أدنى احتمال – مهما يكن ضئيلا جدا – في صالحه.

o      أما ظهور الحمل على المرأة التي لا زوج لها: فإنه يجب على السلطان والقاضي أن يقدم بحث احتمال الغصب أو الخطأ المسقط للحد قبل أي شيء آخر، ويعتبر دفع المرأة بشيء من ذلك شبهة تسقط الحد، كما فعل فقيه الشريعة الأكبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقد ذكر أبو يوسف عن النزال بن سبرة قال: بينما نحن بمنى مع عمر إذ امرأة ضخمة على حمار تبكي، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحمة عليها وهم يقولون لها: زنيت.. زنيت، فلما انتهى – الجمع – إلى عمر قال: ما شأنكم؟! إن المرأة ربما استكرهت. فقالت: كنت امرأة ثقيلة الرأس، وكان الله يرزقني من صلاة الليل؛ فصليت ليلة ثم نمت.. فوالله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني ثم نظرت إليه مقفيا ما أدري من هو من خلق الله؛ فقال عمر: لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار. ثم كتب إلى أمراء الأمصار ألا تقتل نفس دونه – أي: لا تقتل نفس مع الإكراه -.

والإكراه المعنوي يستوي – في الفقه الصحيح – مع الإكراه البدني؛ حيث ذكر ابن القيم وغيره «أن عمر أتي بامرأة استسقت راعيا، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها، فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة: )فمن اضطر غير باغ( (البقرة:١٧٣)، فأعطاها عمر شيئا وتركها»[6].

ويقوم الجهل بأحكام الشريعة – حين تتوفر أسبابه – مقام الإكراه في إسقاط الحد؛ حيث يذكر أن عمر أتي بامرأة قد زنت، فسألها عن ذلك، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين، وأعادت ذلك وأيدته! فقال علي: إنها لتستهل به استهلال من لايعلم أنه حرام، فدرأ عنها الحد. وعلق ابن القيم فقال: “وهذا من دقيق الفراسة”.

  • الشروط الشرعية الأخرى التي أوردتها الشريعة لتطبيق الحد:

وعلى سبيل المثال فقد أوردنا مجملا لما لا يقام فيه حد السرقة من عشرات الوقائع التي تسمى عرفا سرقة، لكن لاحد فيها، وهكذا الأمر في بقية الحدود.

  • أنه لا جرم إلا بنص شرعي واضح يقضي بتجريم الفعل:

عملا بالقاعدة القرآنية: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء).

  1. أن الجريمة شخصية يختص بآثارها العقابية من اقترفها:

وذلك عملا بالقاعدة القرآنية الثابتة:)ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الأنعام: ١٦٤)، وأن: )لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم( (النور:١١)، وكذلك: )ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى( (فاطر: ١٨)، وأن: )من يعمل سوءا يجز به( (النساء: ١٢٣)، )ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8)( (الزلزلة). والآيات في هذا كثيرة.

وبهذا يتبين أنه ليس من الإسلام في شيء ما تقوم به النظم الظالمة الباطشة بشعوبها من عقاب غير الجاني – من قرابته ونحوهم – ومن تعدية أثر الجريمة عليهم وهم أبرياء تماما من الجرم، أو التحريض عليه، لكنها شهوة الانتقام الجماعي البربرية الوحشية عند هذه النظم.

وعندما ضرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بالسيف ضربة الموت، قال: لابنه الحسن ولبني عبد المطلب: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين تقولون: قتل أمير المؤمنين.. قتل أمير المؤمنين ألا، لا يقتلن إلا قاتلي. انظر يا حسن، إن أنا مت – من ضربته هذه – فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل؛ فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور»[7]. ومن ثم لا يحمل الإسلام في ذلك ما قامت، وتقوم به نظم غاشمة ظالمة تنتسب إليه في الجملة، لكنها تخالف قواعده ونصوصه ومقرراته.

كذلك ليس من الإسلام في شيء ما تقوم به هذه النظم من حبس وتعذيب، وغصب لنساء الجاني وأبويه وأشقائه لإذلاله أو الضغط عليه لتسليم نفسه، أو الاعتراف على شركائه. وكل هذا – وما يماثله – خروج على القرآن والسنة والفقه الصحيح للإسلام، ومستحق للعقاب في الدنيا والآخرة.

  1. أن الشبهات تسقط العقوبات مهما كبرت الجريمة وصغرت الشبهة:

عملا بقاعدة “درء الحدود بالشبهات”. فإن بعض الفقهاء يرون أن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد؛ لأن ورود الحد في رواية خبر آحاد يعتبر في ذاته شبهة دارئة للعقوبة، لما فيه من احتمال – ولو كان ضئيلا جدا – لأن يكون قد تعرض عند تحمله، أو روايته لشيء – ولو يسيرـ من التغيير المؤثر في المعنى المراد، وهذا – في حد ذاته – شبهة مسقطة للعقوبة.

ويقوي هذه الشبهة – عند من يقول بها – ورود القرآن الكريم بخلاف الحكم الوارد في أخبار الآحاد. وقد سبق التمثيل لهذا بحديث: «من بدل دينه فاقتلوه»[8]. في حكم الردة.

  1. أنه لا بأس بالعفو والشفاعة في الحدود وعقوباتها قبل أن يرفع الأمر إلى الحاكم لا بعده:

وذلك في حديث أسامة حين شفع في المخزومية التي سرقت، وكما قال الشوكاني: “ينبغي أن يقيد المنع من الشفاعة بما إذا كان الرفع إلى الإمام، لا إذا كان قبل ذلك؛ لما في حديث صفوان بن أمية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له – لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه، فشفع فيه -: «هلا كان قبل أن تأتيني به»[9]. وقال صلى الله عليه وسلم: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب»[10]. و«لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له: حتى يبلغ الإمام، قال: إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع»[11].

قال النووي: “أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام، لهذه الأحاديث، وعلى أنه يحرم التشفيع فيه، فأما قبل بلوغه إلى الإمام فقد أجاز الشفاعة فيه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع فيه.

وأما المعاصي التي لاحد فيها، وواجبها التعزير؛ فتجوز الشفاعة والتشفيع فيها، سواء بلغت الإمام أم لا؛ لأنها أهون. ثم الشفاعة فيها مستحبة إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب أذى، ونحوه. وهذا تقرير وتقسيم جيد من النووي.

ومن مجموع هذه القواعد يتبين أن التشريع الإسلامي له نظامه الخاص في التجريم، والعقاب، ومراعاة حقوق الإنسان بمفهومه الخاص للحياة والكون – وليس بالمفهوم الغربي – كما جاء في “البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام”، فهذه الحقوق مصدرها الخالق العظيم – عز وجل – الذي كرم الإنسان – بصرف النظر عن لونه، وجنسه، ووضعه الاجتماعي، وغناه، وفقره، وكافة أوضاعه الخاصة – ومنحه حق الحياة، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق العدالة الذي يتمثل في براءته الأصلية، وحقه في محاكمة عادلة، وحقه في الحماية من تعسف السلطة، وحمايته من التعذيب بكافة أنواعه، وحماية عرضه وسمعته، وحقه في اللجوء إلى حيث يأمن عند اضطهاده وظلمه… إلى آخر ما عرضنا له في هذا البيان من حقوق اقتصادية، واجتماعية، وسياسية.

وفيما يتصل بالعقوبات خاصة، فإن المنطلق الصحيح لفهم التشريعات الإسلامية وإدراك تفوقها على غيرها – يتمثل في معرفة أنها تعنى بالماضي والحاضر والمستقبل وهي مكونات الزمن من وجهة إدراك البشر؛ فالجريمة وقعت في الماضي ولا بد من عقاب مناسب عليها لجبر ما أحدثته بالمجني عليه، ولا بد من أن يكون هذا العقاب عادلا مقنعا للمجني عليه أو أوليائه؛ بترميم آثاره عندهم كما أنه لا بد من أن يحتوي هذا العقاب على عنصر الزجر من تكرار الجناية في المستقبل من الجاني نفسه وغيره، وهنا يساعد ركن العلنية في تنفيذ العقاب في إحداث هذه الآثار كلها في نفس المجني عليهم والجاني وغيرهم من الناس: )ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (2)( (النور).

أما النظم الوضعية التي تأخذ بإحدى نظريات العقاب المعروفة: فهي إما أن تنظر في فلسفة العقاب للمستقبل ولا تنظر إلى الماضي والحاضر، وإما أن تتجه إلى جبر الماضي وترميم وحده! فتركز على تناسب العقاب مع الجرم.

وكذلك فإن العقوبات الإسلامية تراعي في مجموعها أمر المجني عليه، كما تراعي حال الجاني، وظروف جريمته، أما الفلسفات الوضعية – كما سبق – فهي تركز أساسا على مراعاة حال الجاني والحدب عليه وانتحال المعاذير التي كثيرا ما تكون غير صادقة عليه له كما سبق، وهي – على وجه العموم – لاتهتم بالمجني عليه نصف اهتمامها بالجاني، وهذا قصور هائل فيها نجد أثره واضحا في كثرة الجرائم – والتعدي على الأبرياء في المجتمعات الغربية التي تطبق هذه الفلسفات الوضعية؛ إذ يقل فيها جدا عنصر الزجر عن الجريمة، ويستهين المنحرفون بالعقوبة.

ونظرة واحدة إلى إحصاءات أنواع الجرائم المختلفة في المجتمعات الغربية كافية للدلالة القطعية على ذلك؛ حيث يقاس وقوع الجرائم المتنوعة في المدن الغربية الكبرى: لندن وباريس، وميلانو، وهامبورج، ونيويورك… وغيرها بالدقيقة – لا باليوم، ولا بالسنة -، فيقال مثلا: إنه تسرق في روما سيارة كل 14 دقيقة، وفي ميلانو: كل 15دقيقة، بينما تحدث في الولايات المتحدة حادثة غصب جنسي للنساء كل دقيقة، وتتفوق لندن في جرائم سرقة المنازل التي وصلت إلى قرابة مائة ألف سرقة كل عام – أي بمعدل 270 سرقة في اليوم الواحد -، وتتفوق باريس وبرلين وميلانو في جرائم النشل، كذلك تتفوق برلين في جرائم القتل… إلخ.

والإحصاءات في هذا مرعبة بحق، ويكفي أن نعلم أنه من الثابت أن الذي يبلغ عنه في جرائم الاغتصاب الجنسي الفاحش يقل عن 10% مما يقع فعلا على النساء اللاتي يخشين الفضيحة في بلاد تبرئ الجاني إذا أثبت محاميه البارع أن الفعل الجنسي حدث برضاء المرأة؛ حيث لا تجريم للزنا مطلقا إن حدث برضاء الطرفين، وكذلك الأمر في اللواط بين البالغين. والذي يتابع الصحف اليومية في الغرب، وبرامج التليفزيون فيها يعرف في وضوح وجلاء أن الجريمة بكافة أنواعها قدر يومي يعم المجتمعات الغربية التي تحدث فيه (في مجموعها) عشرات الآلاف من الجرائم والتعديات في كل يوم! وجزء غير يسير من هذه الجرائم يقع على الأطفال من الجنسين من غصب جنسي، وتعذيب بدني، واستخدام في الدعارة، وتصوير ذلك كله وبيعه للساديين – الذين يستمتعون بإيذاء الغير – في صورة أفلام كثيرا ما تنتهي بقتل الضحية البريئة وتعذيبها، والأعجب من هذا ما تطالعنا به وسائل الإعلام الغربية من كون الجاني هو الأب أو العم أو الخال ممن يوكل إليه رعاية الصغير!

ولو أردنا أن نحصي أنواع الجرائم في الغرب، وعدد كل منها لطال بنا الأمر جدا، ولتملكنا رعب وفزع عظيمان مما آلت إليه البشرية الراقية – بزعمهم – هناك! ويكفي أن نعرف أن إنجلترا شغلت في شهر يناير 2001م بحكاية الطبيب الذي قتل أكثر من مائتين وخمسين من مرضاه قبل أن يكتشف أمره!

فإذا ما قارنا هذا كله بما في الدول الإسلامية التي تطبق النظام الإسلامي في التجريم والعقاب – وما يسودها من أمن وأمان على كليات الإنسان الخمس: دينه، ونفسه، وعرضه، وعقله، وماله – لعلمنا أين توجد الطمأنينة الصحيحة على وجه الأرض…

وتكفي نظرة واحدة إلى إحصاءات الجريمة في المملكة العربية السعودية التي يقصدها كل عام ملايين الناس للحج، والعمرة، والعمل؛ لنعلم أي الفريقين: )خير مقاما وأحسن نديا (73)( (مريم)، )الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)( (الأنعام)، )إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)( (ق) [12].

الخلاصة:

مما سبق بيانه يتضح – لكل ذي بصيرة – أن العقوبات في الإسلام؛ ما شرعت إلا لصالح المجتمع، وتقديم السلوك الإنساني وليست من أجل التشهير بالمجرمين أو لمجرد تعذيبهم والقسوة عليهم، ومن أهم الأصول المحققة لهذه الأهداف النبيلة ما يلي:

  • أن تكون العقوبة بحيث تمنع الكافة عن الجريمة قبل وقوعها، فإذا ما وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته وتزجر غيره على التشبه به وسلوك طريقه، وفي هذا يقول بعض الفقهاء عن العقوبات: “إنها موانع قبل الفعل، وزواجر بعده، أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل، وإيقاعها بعده يمنع العود إليه”.
  • إن حد العقوبة يتوقف على حاجة الجماعة ومصلحتها؛ فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خففت العقوبة، فلا يصح أن تزيد العقوبة أو تقل عن حاجة الجماعة ومدى الضرر الواقع عليها.
  • إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم استئصاله من الجماعة، أو حبس شره عنها، وجب أن تكون العقوبة: هي قتل المجرم، أو حبسه عن الجماعة حتى يموت ما لم يتب أو ينصلح حاله.
  • إن كل عقوبة تؤدي لصلاح الأفراد وحماية الجماعة هي عقوبة مشروعة فلا ينبغي الاقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.
  • إن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه، والعقوبات على اختلاف أنواعها تتقنن كما يقول بعض الفقهاء في أنها: “تأديب واستصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب”. والعقوبات إنما شرعت رحمة من الله – عز وجل – بعباده فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض، ويلاحظ في التأديب أنه يختلف باختلاف الأشخاص؛ فتأديب أهل الصيانة أخف من تأديب أهل البذاءة والسفاهة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم».[13] ولأن المقصود من التأديب الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه: فمنهم من ينزجر بالنصيحة، ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس[14]، فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة.

(*) التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م.

[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث عم أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنهما (20714)، وأبو يعلى في مسنده، مسند عم أبي حرة الرقاشي (1570)، وصححه الألباني في الإرواء (1459).

[2]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص194 وما بعدها.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (4178) بنحوه.

[4]. المقاصد الشرعية للعقوبات في الإسلام، د. حسني الجندي ، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1425هـ/ 2005م، ص48 وما بعدها.

[5]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (1341)، والدارقطني في سننه، كتاب الوصايا، باب خبر الواحد يجب العمل (8)، وصححه الألباني في الإراواء (2661).

[6]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في المصنف، كتاب الطلاق، باب الحد في الضرورة (13654) بنحوه، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة (16827) بنحوه، وصححه الألباني في الإرواء (2313).

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه (2342) بنحوه.

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله (2854).

[9]. صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3086)، وابن ماجه في سننه، كتاب الحدود، باب من سرق من الحرز (2595)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (2595).

[10]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان (4378)، والنسائي في المجتبى، كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون (4886)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف مسند أبي داود (4379).

[11]. أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (3087) موقوفا، والطبراني في المعجم الصغير، حرف الهمزة، باب الألف من اسمه أحمد (158).

[12]. الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1423هـ/2003م، ص120 وما بعدها.

[13]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25513)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع فيه (4377)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (638).

[14]. التشريع الجنائي في الإسلام مقارنا بالقانون الوضعي، د. عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1406هـ/ 1986م، ص610 وما بعدها.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين تعارض الاجتهاد في التشريع الإسلامي مع تمام الدين وكماله، ويستدلون على ذلك بقول الله عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام: 38)، وقوله عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل: 89)، وقوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3)، ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في صلاحية هذا التشريع لكل زمان ومكان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الاجتهاد لغة: بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده، ويصل إلى نهايته، وشرعا: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني.[1] ودليل مشروعيته وارد في الكتاب والسنة والإجماع[2].

2) لا اجتهاد في أصول الدين؛[3] لاشتمال القرآن على كل الأصول العامة التي لا بد منها لصلاح البشر، ولا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة، فلا يكون إلا في الأحكام الفرعية،[4] وبشرط عدم خروجها عن إطار الأصول المنبثقة عنها.

3)  الاجتهاد لا يترك لكل مجترئ، بل لا بد من توفر شروط محددة في المجتهد تؤهله للقيام بهذه المهمة.

4) الاجتهاد يعتبر من ضرورات الدين، وهو حياة التشريع، فلا بقاء لشرع ما لم يظل الاجتهاد فيه حيا مرنا، ذا فعالية وحركة.

التفصيل:

أولا. معنى الاجتهاد لغة وشرعا، ودليل مشروعيته من الكتاب والسنة والإجماع:

الاجتهاد في اللغة: هو بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته. وفي الشرع: “هو بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني”, فلا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلوات الخمس.

وحكم الاجتهاد: هو فرض كفاية؛[5] إذ لا بد للمسلمين من استخراج الأحكام لما يجد من الأمور[6].

مشروعية الاجتهاد من الكتاب، والسنة، والإجماع:

يبين لنا مشروعية الاجتهاد وأدلته د. وهبة الزحيلي, فيذكر أن الإسلام قد دعا إلى إنعاش العلم والمعرفة والاجتهاد، ونبذ التقليد الأعمى، وذم المقلدين الذين يحاكون الأجداد والآباء من دون محاكمة ولا عقل، ففي القرآن الكريم يقول عز وجل: )وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)( (البقرة).

وفي مقابل ذم هؤلاء المقلدين نجد مدح المبدعين والمفكرين في آيات كثيرة فيها أدلة واضحة على أن الاجتهاد أصل من أصول الشريعة، إما بطريق الإشارة أو بطريق التصريح، يقول عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله( (النساء: 105)، فهو إقرار للاجتهاد بطريق القياس، ويقول عز وجل: )إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3)( (الرعد)، ويقول عز وجل: )إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)( (الرعد).

أما السنة النبوية؛ ففيها أكثر من تصريح بجواز الاجتهاد؛ منها:

ما استدل به الإمام الشافعي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»[7].

أما أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلماء المسلمين من بعدهم، فقد أقروا الاجتهاد، واتبعوه طريقا فيما لم يعثروا فيه على نص قرآني أو سنة، فقد بايعوا أبا بكر – رضي الله عنه – بالقياس – وهو نوع من الاجتهاد – قال عمر رضي الله عنه: رضيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لديننا، فكيف لا نرضاه لدنيانا؟[8] فقاسوا الخلافة[9] على إمامة الصلاة[10].

ومن هنا يتبين لنا أن كل مصادر الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة وإجماع، قد أقرت الاجتهاد وحثت على إعمال الفكر في الأمور التي لا يوجد فيها نص قطعي.

“إن القرآن الكريم مشتمل على كل الأصول العامة التي لا بد منها لصلاح البشر في معاشه ومعاده، ومن هذه الأصول ما أرشد إليه الكتاب الكريم والسنة المطهرة من إلحاق الشبيه بشبيهه، والتوجه بالأعمال إلى تحقيق المصالح التي جرت عادة[11] الشارع بالمحافظة عليها “[12].

ثانيا. لا اجتهاد في أصول الدين؛ لاشتمال القرآن على الأصول العامة اللازمة لصلاح البشر:

فالاجتهاد قاصر على الأمور الفرعية، وما كان لبشر أن يقول: إن ميدانه إنما هو ميدان مفتوح بغير حدود “إن موضوع الاجتهاد، وما يعمل فيه المجتهد: هو هذه المسائل وتلك الوقائع التي ترددت في أحكامها بين طرفين، وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي، ولا إلى طرف الإثبات”[13].

وهذا ما أكده د. وهبة الزحيلي؛ إذ يقول: حدد الغزالي المجتهد فيه بأنه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، [14] فخرج به ما لا مجال للاجتهاد فيه، مما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع,كوجوب الصلوات الخمس والزكوات ونحوها، فالأحكام الشرعية بالنسبة للاجتهاد نوعان:

  • ما لا يجوز الاجتهاد فيه.
  • ما يجوز الاجتهاد فيه.

أما ما لا يجوز الاجتهاد فيه: فهو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة والبداهة، أو التي ثبتت بدليل قطعي الثبوت،[15] قطعي الدلالة، مثل تحريم جرائم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر والقتل وعقوباتها المقدرة لها، مما هو معروف بآيات القرآن الكريم وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – القولية أو العملية، ومثلها أيضا كل العقوبات أو الكفارات[16] المقدرة، فإنه لا مجال للاجتهاد فيها، ففي قوله عز وجل: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( (النور: 2)، لا يتأتى الاجتهاد في عدد الجلدات، وقوله عز وجل: )وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة( (النور: 56)، لا مجال للاجتهاد في المقصود بالصلاة أو الزكاة، بعد أن بينت السنة الفعلية[17] المراد منهما، وكذلك أحاديث الزكاة المتواترة،[18] لا مجال للاجتهاد فيها.

وأما التي يجوز الاجتهاد فيها: فهي الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص ولا إجماع.

فإذا كان النص ظني الثبوت كان مجال الاجتهاد فيه: البحث في سنده، وطريق وصوله إلينا، ودرجة رواته من العدالة[19] والضبط،[20] وفي ذلك يختلف تقدير المجتهدين للدليل، فبعضهم يأخذ به لاطمئنانه إلى ثبوته، وبعضهم يرفض الأخذ به لعدم الاطمئنان إلى روايته، مما يؤدي إلى اختلاف المجتهدين في كثير من أحكام الفقه العملية.

وإذا كان النص ظني الدلالة، كان الاجتهاد فيه: البحث في معرفة المعنى من النص، وقوة دلالته على المعنى، فربما يكون النص عاما، وقد يكون مطلقا، وربما يرد بصيغة الأمر أو النهي، وقد يرشد الدليل إلى المعنى بطريق العبارة أو الإشارة أو غيرها، وهذا كله مجال الاجتهاد، فربما يكون العام[21] باقيا على عمومه، وربما يكون مخصصا[22] ببعض مدلوله، والمطلق[23] قد يجري على إطلاقه وقد يقيد، والأمر وإن كان في الأصل للوجوب[24] فربما يراد به الندب[25] أو الإباحة، [26] والنهي وإن كان حقيقة في التحريم، فأحيانا يصرف إلى الكراهة… وهكذا.

والقواعد اللغوية ومقاصد الشريعة هما اللتان يلجأ إليهما لترجيح وجهة على ما عداها، مما يؤدي إلى اختلاف وجهة نظر المجتهدين، واختلاف الأحكام العملية تبعا لها.

  • وإذا كانت الحادثة لا نص فيها ولا إجماع، فمجال الاجتهاد فيها هو البحث عن حكمها بأدلة عقلية, كالقياس[27] أو الاستحسان[28] أو المصالح المرسلة[29] أو العرف[30] أو الاستصحاب،[31] ونحوها من الأدلة المختلف فيها، وهذا باب واسع للاختلاف بين الفقهاء.
  • والاجتهاد يقتصر على فهم النص واستنباط الحكم الإلهي منه، وليس لابتداع ما ليس في الدين، لذلك تقول القاعدة الفقهية المعروفة: “لا اجتهاد مع النص، ولكن الاجتهاد في النص”، وكما يقول سماحة الشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية السورية، ورئيس مجلس الإفتاء الأعلى: “التجديد لا يمكن أن يعني بحال تغيير نصوص القرآن أو السنة، بل يعني تغيير الفهم لبعض النصوص التي تحتمل ذلك بما يناسب الحال المعاصر للمسلمين.

وملخص القول: إن مجال الاجتهاد أمران: ما لا نص فيه أصلا، أو ما فيه نص غير قطعي، ولا يجري الاجتهاد في القطعيات وفيما يجب فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين؛ إذ لا مساغ للاجتهاد في مورد النص، إلا في فهم النص.

وهذا الأصل جار في القوانين الوضعية، فمتى كان القانون صريحا لا اجتهاد فيه، ولو كان مغايرا لروح العدل، والقضاة مكلفون بتنفيذ أحكامه حسبما وردت؛ لأن تفسيره يرجع إلى المشرع، ولا مساغ للاجتهاد في موضع النص[32].

وبهذا البيان يتضح أنه عندما يقتضي الحال يكون الاجتهاد واجبا، وتقوم الحاجة إليه بانعدام النص، أو بتعدد وجوهه وإشكالات الفهم فيه، أو بتعدد النصوص وتعارضها في الظاهر، مع كون ذلك في زمان عامر بالعلم والفهم الصحيح في الدين، أو على الأقل يوجد فيه من يعلم ويفهم فهما صالحا، وفي مكان يوجد فيه من اتصف بهذه الصفة.

وأما إذا لم يقتض الحال شيئا من ذلك فلم تتوفر الدواعي والأسباب، أو أن الحال مقتض، غير أن الأهلية والاقتدار لم يتحققا – وهما بمثابة النور أو البصر الذي يرى به هذا الباب المفتوح الذي يدخل من خلاله – فإذا لم يتوفر للقاصد رؤية الباب المفتوح، ففتحه وإغلاقه في حق هذا سيان[33].

ثالثا. الشروط الواجب توافرها في المجتهد:

يقول الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:

 أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.

والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

ويمكن تحليل هذا بتوضيح الشروط الواجب توافرها فيمن يريد بلوغ درجة الاجتهاد:

  1. أن يعرف معاني آيات الأحكام المذكورة في القرآن الكريم لغة وشرعا، وأن يعلم مواضعها ليرجع لها في وقت الحاجة.
  2. أن يعرف أحاديث الأحكام (لغة وشريعة), ويكون متمكنا من الرجوع إليها عند الاستنباط.
  3. معرفة الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، حتى لا يعتمد على المنسوخ المتروك مع وجود الناسخ، فيؤديه اجتهاده إلى ما هو باطل.
  4. أن يكون متمكنا من معرفة مسائل الإجماع ومواقعه؛ حتى لا يفتي بخلافه.
  5. أن يعرف وجوه القياس وشرائطه المعتبرة، وعلل الأحكام وطرق استنباطها من النصوص، ومصالح الناس وأصول الشرع الكلية.
  6. أن يعلم علوم اللغة العربية من لغة ونحو وصرف ومعان وبيان وأساليب؛ لأن الكتاب والسنة عربيان، فلا يمكن استنباط الأحكام منهما إلا بفهم لغة العرب إفرادا وتركيبا، أو معرفة معاني اللغة وخواص تراكيبها.
  7. أن يكون عالما بعلم أصول الفقه؛ لأنه عماد الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه.
  8. أن يدرك مقاصد الشريعة العامة في استنباط الأحكام؛ لأن فهم النصوص وتطبيقها على الوقائع متوقف على معرفة هذه المقاصد[34].

وعلى هذا فإن الاجتهاد ليس متروكا لكل من يطلبه، كما أنه ليس يدا تعبث في الشريعة الغراء، ومن ثم فليس هناك تعارض بين تمام أصول الدين التي تنبثق عنها فروع مختلفة باختلاف الزمان والمكان، وبين جواز الاجتهاد.

وبهذا يتضح أن الاجتهاد ليس مباحا لكل شخص، وإنما هو علم له أصوله، من حاد عنها رد عليه اجتهاده.

رابعا. للاجتهاد في الإسلام أهمية قصوى؛ فلا بقاء لشرع ما لم يظل الاجتهاد فيه حيا مرنا:

يقول الشيخ محمد الغزالي: “الاجتهاد التشريعي، خصوصا فيما يمس المعاملات الداخلية والخارجية، ضرورة دينية واجتماعية”[35].

وإلا فماذا يفعل المسلمون فيما يستجد من قضايا لم تكن موجودة من قبل، وقد حكم بها التطور التكنولوجي الذي وسم به هذا العصر، مثل: أطفال الأنابيب، والاستنساخ،[36] واستئجار الأرحام، وبنوك اللبن، إلى غير ذلك من الفقه المعاصر الذي لم يتناوله أجدادنا، وما كان لهم أن يفعلوا؟!

وأما ما حدث من إغلاق باب الاجتهاد في فترة زمنية سابقة، فمرجعه إلى أن الدولة الإسلامية انقسمت في القرن الرابع الهجري إلى دويلات وممالك، مما أضعف الأمة الإسلامية، فكان من جراء الانقسام ضعف الاستقلال الفكري، وجمود النشاط العلمي، ووقوع العلماء في حمأة التعصب المذهبي، وفقدان الثقة بالنفس، وعكوف العلماء على تدوين المذاهب واختصار الكتب.

وخاف بعض العلماء من ضعف الوازع الديني الذي قد يؤدي إلى هدم صرح الفقه الذي بناه الأئمة السابقون، فتنادوا بالتزام المذاهب المتقدمة ودعوا إلى سد باب الاجتهاد منعا من ولوج أناس فيه ليسوا أهلا للاجتهاد والاستنباط.

وهذا من باب السياسة الشرعية التي تعالج شأنا خاصا، أو أمرا مؤقتا، أو فوضى اجتهادية قائمة بسبب ادعاء غير الأكفاء الاجتهاد، فإذا زال الموجب لما سبق، وجب العودة إلى أصل الحكم، وهو فتح باب الاجتهاد, إذ لا دليل أصلا على سد باب الاجتهاد، وإنما هي دعوى فارغة وحجة واهنة، أوهن من بيت العنكبوت؛ لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث[37].

إن تحديد الإنتاج الفكري – فيما يتعلق بالتشريع – من الأخطاء الجسام التي لا مبرر لها، بعد أن استمر أكثر من ثلاثة قرون مفتوحا، أنتج خلالها الفكر الإسلامي في الفقه وأصوله ثروة خالدة أمدت التشريع الإسلامي والفقه بأسباب البقاء والخلود.

لهذا, فإن باب الاجتهاد في الإسلام مفتوح لكل ذي بصيرة، حتى لا يحرم إنسان من التدبر والنظر وحرية الفكر وإعمال مواهبه، ولا يقال: إن طريق الاجتهاد موصد، فيحتاج إلى فتح ودعوة للتحرر؛ إذ لا يسلم بإقفال هذا الباب من الأصل.

والاجتهاد لا يعني فقط إحداث آراء جديدة لوقائع جديدة، وإنما مجاله أيضا النظر في الأدلة ذاتها، دون التقيد بمذهب أحد.

وقد أورد الإمام السيوطي – في كتابه “الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض” – نصوص العلماء في جميع المذاهب المتفقة على القول بفرضية الاجتهاد وذم التقليد، فقد نهى أئمة المذاهب عن تقليدهم، وطالبوا بضرورة التفكر والنظر، كما تابعهم العلماء في ذلك، يقول أبو محمد البغوي في التهذيب: “العلم ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية”, فذكر فرض العين، ثم قال: وفرض الكفاية هو أن يتعلم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى، والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين.

وحكم الشهرستاني في كتاب “الملل والنحل” بعصيان أهل العصر بأسرهم إذا قصروا في القيام بهذا الفرض، وأقام على فرضيته دليلا عقليا قطعيا لا شبهة فيه، فقال: “وبالجملة نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد,ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص,ولا يتصور ذلك أيضا,والنصوص إذا كانت متناهية, والوقائع غير متناهية,وما لا ينتهي لا يضبطه ما يتناهى, علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”[38].

أهمية الاجتهاد في عصرنا الحالي:

أما إذا نظرنا إلى عصرنا الحالي، فسنجد أن الاجتهاد واجب وضرورة حتمية؛ إذ إنه حياة التشريع، فلا بقاء لشرع ما لم يظل الفقه والاجتهاد فيه حيا مرنا ذا فعالية وحركة، فالاجتهاد واجب لا سيما في عصرنا هذا, عصر التغيرات السريعة، وتعقد المعاملات، وتجدد الحوادث والمشكلات، فهناك الكثير من القضايا التي تستدعي حلولا شرعية سليمة، ولا ملجأ لحلها في غير الاجتهاد؛ لأنه نقطة الارتكاز التي يقوم عليها الحكم بصلاح شريعة الإسلام لكل زمان ومكان.

أما القول: إن الشريعة قد تمت فهو دعوة للقعود إلى الكسل والرضا بما آل إليه فقه الإسلام من تخلف عن مسايرة ركب الحضارة، وهذا لا يرضي الله ورسوله ولا يقبله مسلم حريص على دين الله، وتطبيق أحكامه في الأنام[39].

الخلاصة:

  • الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته. والاجتهاد في الشرع: هو بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي؛ فلا اجتهاد مع نص قطعي كوجوب الصلوات.
  •  وحكم الاجتهاد هو فرض كفاية على المسلمين، فلا بد لهم من استخراج الأحكام لما يستجد من أمور، وقد أقرت كل مصادر الشريعة – من كتاب وسنة وإجماع – الاجتهاد وحثت عليه، وذمت التقليد والاتباع.
  • الأصل في الإسلام هو جواز الاجتهاد لمن توافرت فيه شروط المجتهد، والاجتهاد ضرورة حتمية في عصرنا الحالي؛ لأنه نقطة الارتكاز التي يقوم عليها صلاح الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.
  • للمجتهدين شروط يجب توافرها؛ كالعلم بالقرآن والسنة، والناسخ والمنسوخ، وأصول الفقه، وعلوم اللغة العربية، وإدراك مقاصد الشريعة… إلخ، فلا يترك الاجتهاد لكل من هب ودب.
  • الاجتهاد ضرورة ملحة من ضرورات العصر الحديث، بل كل العصور السابقة، وذلك للأسباب الآتية:

o      أن الاجتهاد مقر به في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

o      أن الدين اشتمل على الأصول، ولم ينص على حكم كل الفروع.

o  أن هناك الكثير من الأحداث التي تستجد في الأزمنة المختلفة، والبيئات المختلفة، وتحتاج إلى استنباط أحكام جديدة لها.

o  أن الدعوة إلى عدم الاجتهاد دعوة إلى التجمد والتخلف، والتراجع للوراء، وهي بهذا تقتل حياة الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان.

(*) أصول التشريع الإسلامي، الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب الدراسات العليا بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة خاصة.

[1]. الظني: خلاف القطعي، وهو ما دل على معنى ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معنى غيره.

[2]. الإجماع: هو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حكم شرعي في واقعة.

[3]. أصول الدين: هي العلوم التي تتعلق بعلوم العقيدة وعلم الكلام.

[4]. الأحكام الفرعية: هي الأحكام الجزئية، فالإيجاب حكم كلي يندرج تحته إيجاب الشهود في الزواج، وهو حكم جزئي وفرعي من الحكم الكلي.

[5]. فرض الكفاية: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعضهم فقد أدى الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا بإهمال هذا الواجب؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[6]. انظر: الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، دار الصفوة، القاهرة، ط4، 1414هـ/ 1993م، ج1، ص316.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6919)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (4584).

[8]. ذكره الشافعي في مسنده، كتاب الصلاة، باب الجماعة وأحكام الإمامة (399).

[9]. الخلافة: تعني ـ في الإسلام ـ منصبا سياسيا يجمع صاحبه بين السلطتين الزمنية والروحية، ولكن وظيفته الدينية لا تتعدى المحافظة على شرع الله، ومن حقه قيادة الدولة الإسلامية ورسم سياستها وتنفيذها على المستويين الداخلي والخارجي.

[10]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2,ص1039، 1040 بتصرف.

[11]. العادة: كل ما تعود الإنسان فعله حتى صار يفعل من غير جهد، والحالة تتكرر على نهج واحد، والعادة هي العرف العملي، وكذلك جاءت القاعدة الفقهية “العادة محكمة”، ويشترط في العادة المعتبرة ألا تكون مغايرة لما عليه أهل الدين.

[12]. أصول التشريع الإسلامي, الشيخ علي حسب الله، مجموعة محاضرات ألقيت على طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، طبعة خاصة، ص 71.

[13]. الاجتهاد في الإسلام: تحرير وتنوير، د. طه حبيشي، مكتبة رشوان، مصر، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص45.

[14]. قطعي الدلالة: هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا، ولا مجال لفهم معنى غيره منه.

[15]. قطعي الثبوت: الجزم والقطع بأن كل نص نتلوه من نصوص القرآن هو نفسه النص الذي أنزله الله على رسوله، وبلغه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأمة من غير تحريف ولا تبديل، وكل نصوص القرآن الكريم قطعية الثبوت؛ أي: جميعها قطعية من جهة ورودها وثبوتها ونقلها عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن نصوص السنة منها ما هو قطعي الثبوت، ومنها ما هو ظني الثبوت؛ فالأحاديث المتواترة قطعية الثبوت.

[16]. الكفارات: جمع كفارة، وهي مأخوذة من الكفر وهو الستر؛ لأنها تغطي الذنب وتستره، وسميت بذلك لأنها تكفر الذنوب وتسترها مثل: كفارة الأيمان والظهار والقتل الخطأ، وقد بينها الله تعالى في كتابه وأمر بها عباده.

[17]. السنة الفعلية: كل ما صدر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبين أنه فعله فهو سنة عملية، سواء في السفر أم في الحضر، في السلم أم في الحرب، في السر أم في العلانية، من أمور التشريع أم من غيرها؛ كما ورد عن كيفية أكله وشربه، ولبسه ونومه، ومشيه وكلامه، ووضوئه وصلاته.

[18]. الأحاديث المتواترة: هي ما رواها في كل عصر جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب؛ لكثرتهم وتباعد أماكنهم، مما تناوله أبصار الناس وأسماعهم.

[19]. العدالة: صفة لصاحبها، فإذا كانت في الرواة فهي أن يكون الراوي مسلما بالغا عاقلا غير فاسق وغير مخروم المروءة، واشتراط العدالة في الراوي يستدعي صدق الراوي وعدم غفلته، وعدم تساهله عند التحمل والأداء، وكون الإنسان عدلا لا يرتكب الكبائر وينأى عن الصغائر.

[20]. الضبط: صفة من صفات رواي الحديث تجعله حافظا لما يرويه إن كان يرويه من حفظه، وحافظا وضابطا لكتابه إن كان يروي من كتابه.

[21]. العام: هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه لجميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها.

[22]. الخاص: هو لفظ وضع للدلالة على فرد واحد بالشخص؛ مثل: محمد، أو واحد بالنوع؛ مثل: رجل، أو على أفراد متعددة محصورة؛ مثل: ثلاثة وعشرة ومائة وقوم ورهط وجمع وفريق، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على عدد من الأفراد ولا تدل على استغراق جميع الأفراد.

[23]. المطلق: هو اللفظ الخاص المطلق من أي قيد؛ أي هو ما دل على فرد غير مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري، ورجل، وطائر، على عكس المقيد: وهو ما دل على فرد مقيد لفظا بأي قيد؛ مثل: مصري مسلم، ورجل رشيد، وطائر أبيض.

[24]. الواجب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما؛ بأن اقترن طلبه بما يدل على تحتيم فعله.

[25]. الندب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا غير حتم؛ كأن يرد الطلب من الشارع بصيغة “يسن كذا” أو “يندب كذا”، والمندوب أنواع؛ مندوب مطلوب فعله على وجه التأكيد، ومندوب مشروع فعله، ومندوب زائد يعد من الكماليات للمكلف، ويرجع إليه في مظانه من كتب أصول الفقه.

[26]. الإباحة: هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه، فلم يطلب الشارع أن يفعل المكلف هذا الفعل، ولم يطلب أن يكف عنه.

[27]. القياس: هو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة ورد نص بحكمها؛ لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

[28]. الاستحسان: هو عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم جزئي استثنائي؛ لدليل انقدح من عقله رجح لديه هذا العدول.

[29]. المصالح المرسلة: هي المصالح التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت “مطلقة”، أو “مرسلة”؛ لأنها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء.

[30]. العرف: هو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، ويسمى “العادة”.

[31]. الاستصحاب: هو الحكم على الشيء بالحال التي كان عليها من قبل حتى يقوم دليل على تغير تلك الحال، أو هو جعل الحكم الذي كان ثابتا في الماضي باقيا في الحال حتى يقوم دليل على تغيره.

[32]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2, ص 1052: 1054. دور الاجتهاد في الفكر الإسلامي، أحمد كفتارو، ضمن بحوث المؤتمر العاشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وزارة الأوقاف، القاهرة، 1420هـ/ 1990م، ص87 بتصرف يسير.

[33]. الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية، الخواص الشيخ العقاد، دار الجيل، بيروت، ط1، 1418هـ/ 1998م، ص 91.

[34]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2, ص 1043: 1049 بتصرف.

[35]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م، ص 212.

[36]. الاستنساخ: استنسخ الشيء: طلب نسخه، وهي عمليات تقوم على استنتاخ الحيوان أو أجزائه.

[37]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص 1085 بتصرف يسير.

[38]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م، ص1086، 1087 بتصرف يسير.

[39]. أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط2، 1417هـ/ 1996م ، ص1087، 1088 بتصرف.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن التشريع الإسلامي يدعو المسلمين إلى الانغلاق على الذات؛ مما يعوق تقدم المسلمين، ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء( (المائدة: 51)، ويعدون هذا النهي عن الموالاة انغلاقا على الذات، ويتساءلون: كيف يوفق المسلم بين الزواج من كتابية – مثلا – بوصفه أمرا مباحا، والتزامه بهذا النهي في الآية؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في سماحة الشريعة الإسلامية.

وجوه إبطال الشبهة:

1) دعا الإسلام للانفتاح والتعرف على الآخرين والتسامح معهم، والبر بهم، وليس أدل على ذلك من كثرة الأحكام التي تضبط التعامل مع غير المسلمين، وتوسع الفتوحات الإسلامية التي شملت معظم دول العالم.

2) النهي عن موالاة اليهود والنصارى نهي عن نصرتهم في الباطل، أو التبعية لهم فيما يخالف أحكام الإسلام، أما التعاون والنصرة على الحق فلا يمنع منها الإسلام.

3) زواج المسلم من الكتابية دليل على انفتاح الإسلام على الآخر، والتعايش السلمي معه، ولا يعد من قبيل الموالاة المنهي عنها.

التفصيل:

أولا. دعوة الإسلام للانفتاح والتسامح مع الآخر:

لقد دعا الإسلام أبناءه للتعايش مع الآخر والانفتاح عليه، ونسج خيوط العلاقة معه بما يحفظ للمسلم هويته، ويحول دون انجرافه معه فكرا وسلوكا، ولا نحتاج إلى كبير عناء لنكتشف وفرة الشواهد التاريخية والنصوص الدينية والأحكام الفقهية التي تدعو وتحث على إيجاد مناخ للتعايش مع الآخرين – ولا سيما من أتباع الديانات السماوية الأخرى ـ؛ فالإسلام لم يلغ أهل الكتاب، بل اعترف بهم وبحقوقهم المتنوعة، وبخاصة الدينية منها، كحرية العقيدة، وممارسة الشعائر والعبادات.

وقد أسس القرآن الكريم قواعد هذا التعايش معتبرا أن الذي يحكم العلاقة معهم هو قانون العدل، وأخلاق البر والإحسان، يقول عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة).

وواقع النبي – صلى الله عليه وسلم – خير شاهد على ذلك، فهو التطبيق العملي لما جاء في الشرع الإسلامي الحنيف، فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعامل اليهود ويقترض منهم؛ حتى إنه رهن درعه ليهودي، كما كان مجتمع المسلمين في المدينة في عهد النبوة مجتمعا متنوعا من الناحية الدينية، وقد أعلن النبي – صلى الله عليه وسلم – في كتابه إلى اليهود – الذي يشكل أهم وثيقة دستورية وقانونية صدرت عنه لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة – أنهم أمة تعيش بجوار المسلمين دون أدنى مشكلة، ما دام أن هناك توافقا بين الطرفين، وكان مما جاء في هذا الكتاب: “إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم فإنه لا يوتغ – يهلك – إلا نفسه وأهل بيته”.

وكان مقدرا لهذا القانون أن يحكم العلاقة مع اليهود على الدوام لولا غدر اليهود ونقضهم للعهود والمواثيق[1].

وإن تكريم الإنسان من أول الحقوق التي قدرها له الإسلام؛ لكونه ابنا من أبناء آدم، بغض النظر عن اللون والجنس والدين، يقول عز وجل: )ولقد كرمنا بني آدم( (الإسراء: 70)، فالكرامة لأصل الخلقة، وليس لانتماء معين، كما قرر الإسلام أن الناس سواسية كأسنان المشط، يقول – صلى الله عليه وسلم -: «الناس بنو آدم، وآدم من تراب…». الحديث، [2] وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»[3].

كل هذا لتأكيد وحدة الأصل من ناحية، والمساواة التامة بين جميع البشر من ناحية أخرى[4]، ولهذا اعتبر الإسلام التعدد وسيلة للتعارف والتعاون من أجل خير البشرية، وليس للخصام والتنافر والعداء، يقول عز وجل: )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( (المائدة: 2).

يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: “هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى، أي: ليعن بعضكم بعضا”.

ومن هنا نرى أن الإسلام قد أسس قواعد العدل والتعايش بين جميع البشر على اختلاف الأديان والأجناس.

وكما أن الإسلام أقر مبدأ العدل والتعايش بين جميع البشر نجده كذلك يقر بتنوع خصائص الإنسان, يقول عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).

فقد أقر الإسلام التعدد والتنوع، ولكن جعله وسيلة للتعارف، باعتبار انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر في حاجته إليه، من خلال ما يملكه من طاقات فاعلة تؤثر في حياة الإنسان الآخر إيجابا, فيدفعه ذلك إلى إيجاد العلاقة به من أجل الحصول على ما لديه من هذه الحاجات[5].

ولم يجعل الله اختلاف البشرية في ألوانها وأجناسها ولغاتها إلا آية من الآيات الدالة على عظيم قدرة الخالق عز وجل: )ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22)( (الروم).

وهذا الاختلاف لم يكن سببا في التنافر والعداوة بين المسلمين وغيرهم، بل على العكس من ذلك كان سببا في التعارف والتلاقي على الخير، وانفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم، حتى لو رفض هذا الغير الإسلام، فلا بد أن يعامل معاملة طيبة، بناء على مبدأ الاحترام المتبادل، والعلاقات والمصالح المشتركة.

صور من انفتاح المسلمين على غيرهم:

إن أكبر دليل على انفتاح المسلمين على غيرهم، وعدم انغلاقهم على أنفسهم ما ورد بأصح الأسانيد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان منفتحا على الثقافات الأخرى، لم يتحرج من الأخذ منها، ومن ذلك ما جاء عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة[6] حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم»[7].

وقد روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: «كتب النبي كتابا، أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما من فضة، نقشه محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده»[8].

وكذلك لم يكن حفر الخندق للدفاع معروفا عند العرب، لكنه كان من فنون الفرس في الحرب، وكان الذي أشار بحفره سلمان الفارسي – رضي الله عنه – حيث قال: “يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحفره، وعمل فيه بنفسه”[9].

وأما الناظر في عهد الخلفاء الراشدين فإنه يجد أنماطا عديدة من الانفتاح على غير المسلمين، والأخذ عنهم، مثل نظام الدواوين الذي أخذه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – من بلاد فارس، وكذلك فعل الخلفاء في كل عصور الإسلام، مثل إنشاء بيت الحكمة في العصر الأموي والمأخوذ من الروم، وقد مضى المسلمون في هذا الانفتاح الشامل حتى نقلوا كتب اليونان والفرس إلى العربية في عهد العباسيين؛ ومن ثم لا يحق لأحد أن يصف الإسلام بالانغلاق على الذات ورفض الآخر.

ويؤكد هذا المعنى د. حسن عزوزي قائلا: “ولعلنا لا نغالي إذا أكدنا هنا على أن الإسلام – وهو دعوة الله إلى الناس كافة ورسالته – عز وجل – إلى العالمين – هو الدين الذي يدعو إلى التفاعل الحضاري دعوة صريحة قوية ويحث عليه حثا، على اعتبار أن الإسلام دعا إلى الحوار مع الآخر، وأن الإسلام في طبيعته وجوهره ورسالته تفاعل حضاري، كما لا نحتاج إلى أن نقول بأن قاعدة التسامح التي يقوم عليها الإسلام فتحت أمام الأمة الإسلامية السبيل إلى الاحتكاك الواسع بالأمم والشعوب، وشجعت الحضارة الإسلامية على التفاعل مع الثقافات والحضارات جميعا، ونعني بالتسامح الديني – تحديدا – أن تكون لكل طائفة في المجتمع الإسلامي الحرية في تأدية شعائرها”.

والإسلام بوصفه دينا وحضارة عندما يدعو إلى التفاعل بين الحضارات, فإنه ينكر المركزية الحضارية التي تريد للعالم حضارة واحدة مهيمنة ومتحكمة في الأنماط والتكتلات الحضارية الأخرى؛ فالصحوة الإسلامية المعاصرة تسعى إلى أن يكون العالم منتدى حضارات متعدد الأطراف، ولكنه مع ذلك لا يريد للحضارات المتعددة أن تستبدل التعصب بالمركزية الحضارية القسرية، إنه يريد لهذه الحضارات المتعددة أن تتفاعل وتتساند في كل ما هو مشترك إنساني عام.

وإذا كان الإسلام دينا عالميا وخاتما للأديان، فإنه في روح دعوته وجوهر رسالته لا يجبر العالم على التمسك بدين واحد، إنه ينكر هذا القسر عندما يرى في تعددية الشرائع الدينية سنة من سنن الله – عز وجل – في الكون, قال عز وجل: )لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات( (المائدة: 48)، وقال عز وجل: )ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118)( (هود).

إن أصحاب نظرية “الصدام الحضاري” وهم يؤكدون على أن الحضارة الإسلامية هي المرشحة للتصادم مع الغرب، يركزون على دعوى عدم قابلية الإسلام للتعايش مع الحضارات الأخرى، بزعم أنها حضارة إقصائية وانعزالية ومتعصبة، وكل هذا فيه تجن واضح على الإسلام وحضارته، والذين يصمونه بتلك الصفات السلبية التي لا تسمح بالتعايش السلمي مع الآخرين لا يعرفون الإسلام في عقيدته وشريعته وأخلاقه, وغير ذلك من الجوانب التي تطبعها السماحة في أجلى وأسمى معانيها.

إن التعايش السلمي سمة مميزة للإسلام، وملمح جامع يطبع كل جوانبه التشريعية والسلوكية، إنها إحدى قيم هذا الدين وصفاته المميزة التي تعني الحرية للبشر كافة والمساواة بينهم من غير تفريق جنسي أو تمييز عنصري.

وليس هناك ما هو أبلغ وأوفى بالقصد في الدلالة على عمق مبدأ التعايش السلمي في الإسلام من قوله عز وجل: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).

ذلك أن المساحة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب مساحة واسعة، وإذا كان الإسلام قد جعل في قلوب المسلمين متسعا للتعايش السلمي مع بني الإنسان كافة, ففيه – من باب أولى – متسع للتعايش بين المؤمنين بالله، ويشهد التاريخ أن معاملة المسلمين لغيرهم في البلاد المفتوحة كانت مثالا رائعا من التسامح لا مثيل له في التاريخ، ولعل من أكبر الأدلة وأقوى الحجج على قيام الحضارة الإسلامية عبر العصور على أساس متين من التسامح, هو تعايش المسلمين مع أهل الديانات والملل والعقائد في البلدان التي فتحوها خلال قرون متطاولة وعهود مديدة، ويدل ذلك على أن التعايش السلمي مبدأ من المبادئ التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، والذي يرمي إلى القضاء على أسباب التوتر واضطراب حبال الأمن والسلام وعدم الاستقرار.

إن من أبرز معالم التعايش السلمي الذي يقره الإسلام للآخر, هو إقرار الإسلام لغير المسلمين بوجود اندماجي يحافظ فيه على جميع مكونات شخصيتهم، وفي طليعتها المكون الديني وما يرتبط به من ممارسات وعادات، بها يؤكد الآخر ذاته عقديا وثقافيا ونفسيا، ومعها يثبت خصوصيات هويته مما يتحقق به الانتماء إلى ذلك المجتمع[10].

إن دعوة الإسلام إلى تعارف الحضارات تمهيدا لحوارها وتلاقيها تنطلق من الآية القرآنية الكريمة: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات)، وهذا المفهوم القرآني القاضي بضرورة التعارف بين الشعوب والحضارات يهدف إلى غايات أنبل ومقاصد أوسع، ذلك أنه إن لم يكن هناك تعارف فلن يكون هناك حوار أو تفاهم؛ فالتعارف ينجم عنه دوما حوار هادئ وتعاون دائم.

أما الحوار الذي يباشر بشكل مفاجئ فلا يعني بالضرورة حصول تعارف بين الأطراف، فكم من لقاءات حوارية أجريت على المستويين السياسي والديني، لكنها باءت بالفشل؛ لأن جميع أطرافها الذين أخذوا مكانهم حول مائدة الحوار لم يستطيعوا نسج أواصر التعارف والتواصل من قبل؛ فظل كل طرف جاهلا بالطرف الآخر.

إن القرآن الكريم يؤسس لمبدأ التعارف بين الأمم والشعوب والحضارات ليتعارفوا، فالتنوع بين الناس إلى شعوب وقبائل وامتدادهم وتكاثرهم على ربوع الأرض لا يعني أن يتفرقوا أو تنقطع أواصرهم، ويعيش كل شعب في عزلة عن الشعوب الأخرى، كما لا يعني هذا التنوع أن يتصادموا ويتنازعوا من أجل الثروة والقوة والسيادة، وإنما ليتعارفوا.

والأمة الإسلامية أمة منفتحة على أرباب الحضارات الأخرى، وتقبل التعاون والتعايش معها، وقد حدث ذلك على مر العصور، بل إنها تحترم أبناء الحضارات والديانات الأخرى، فقد صانت مقدسات النصارى واليهود منذ أقدم العصور، وعاش اليهود والنصارى مكرمين في ديار الإسلام حتى يومنا هذا, إلى أن ظهرت آفة الصهيونية في العصر الحديث فأوجدت هذا الشقاق؛ لأنها دعوة عنصرية استعمارية تؤمن بالتعصب والعزلة وطرد الآخر، فالمسلمون خير أمة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي مجال الإيمان الراسخ والصادق، وهو ما يقر في القلب ويصدقه العمل.

وما الذي يمنع أن تكون لجميع الأمم هذه الرسالة؛ رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ليس لدينا نحن معشر المسلمين أي مانع في ذلك؛ ذلك لأن الإسلام دعوة عالمية ونقلة حضارية وإنسانية نبيلة، ولذلك فإنه مهما زاد هجوم الأعداء عليه، نجد الكثيرين يدخلون في دين الله أفواجا، حتى من بني جلدتهم فالهجوم على الإسلام في أعقاب أحداث 11 سبتمبر سنة 2001م في أمريكا، أدى إلى حب الاستطلاع لدى بعض الغربيين؛ فأقبلوا للتعرف على الإسلام ومبادئه وسمات أهله، ودخلوا في الدين الإسلامي، وبعض الأسرى الذين أسرتهم الجماعات الإسلامية في صحراء الجزائر ظلوا يعيشون مع المسلمين الخاطفين شهورا عدة، تعرفوا فيها على الإسلام وتعاليمه وطقوسه وأحبوه، ولذلك فإن الإسلام لم ينتشر في ربوع العالم بحد السيف – كما يقول الحاقدون – إنما انتشر بالإقناع والرضا والإعجاب به وبمبادئه الإنسانية السمحة، وفضائله وحكمته ودعوته للطهارة والنظافة التي تتجسد في الصوم والصلاة وتلاوة القرآن الكريم.

فالإسلام يربي أبناءه على التعاون والأخذ والعطاء، والتماسك في سبيل البر والإحسان وعمل الخيرات والتقوى، أي: الخوف من الله, ولا يكون التعاون في الإثم، أو الجرم، أو العدوان، أو إهدار حقوق الآخرين، أو الاعتداء عليهم، وإنما التعاون في سبيل الخير العام والصالح العام، وصالح الإنسانية جمعاء.

 ومن المعاني السامية لهذه الآية الكريمة: أنه لا ينبغي أن يحملكم بغض أو كراهية، أو عدوان قوم عليكم، كالذين صدوكم عن المسجد الحرام، فلم تصلوا إليه في عام الحديبية، على أن تقتصوا وتثأروا أو تنتقموا منهم ظلما وعدوانا.

لذلك لا نجد عذرا – إلا الحجة الواهية – لمن يدعون أن الإسلام يجعل أبناءه منغلقين على الذات.

ثانيا. النهي عن موالاة اليهود والنصارى, نهي عن نصرتهم في الباطل:

لا بد من تعديل الفهم المغلوط لقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)( (المائدة)، فهذه الآية بما تحويه من معان وأسباب نزول، هي أبعد ما تكون عما فهمه هؤلاء القوم منها؛ بل إن المسلمين جميعا – منذ نزول الوحي إلى الآن – لم يقل أحد منهم أنه فهم من هذه الآية عدم التعامل مع اليهود والنصارى المسالمين للمسلمين، والحقيقة هي ما فهمه منها المفسرون المسلمون في كل العصور.

ويوضح هذا المعنى القرطبي في تفسير هذه الآية فيقول: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض( قيل: المراد بها المنافقون، وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين، قال السدي: نزلت في قصة يوم أحد حين خاف المسلمون، حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى، وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي بن سلول، فتبرأ عبادة – رضي الله عنه – من موالاة اليهود، وتمسك عبد الله بن أبي بن سلول، وقال: إني أخاف أن تدور الدوائر[11]؛ ولهذا قال – عز وجل – في الآية التالية: )فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة( (المائدة:52)، أي أن الآية نزلت بخصوص المنافقين، وفي وقت الحرب، فهي تنهى عن موالاة اليهود والنصارى الذين يناصبون الإسلام العداء، فليس من المقبول أن تكون الحرب دائرة بين المسلمين وأعدائهم، ثم يوالي بعض المسلمين هؤلاء الأعداء؛ لأن في ذلك خيانة للإسلام والمسلمين.

أما في غير الحرب أو مع اليهود والنصارى المسالمين للإسلام، فإن أساس العلاقة قائم على التعارف والمودة لا القطيعة والخصام,يقول عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة). أما هؤلاء الذين يناصبون الإسلام العداء فيقول – عز وجل – فيهم: )إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).

ثالثا. زواج المسلم بالكتابية دليل على انفتاح المسلمين على الآخر:

إن الإسلام في إباحته زواج المسلم من غير المسلمة من أهل الكتاب – سواء كانت من اليهود أو النصارى – لهو أكبر دليل على أن العلاقة التي تحكم المسلمين بغيرهم هي علاقة التعايش السلمي والتعاون والتحاور، لا علاقة التقاطع والتدابر والتناحر، والانغلاق على الذات والتعصب ضد الآخرين؛ إذ كيف يدعو الإسلام إلى هذه القطيعة بين المسلمين وغيرهم، ثم يسمح للمسلمين بالتزوج من أهل الكتاب؟! إذ يقول عز وجل: )اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب( (المائدة: 5)، قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.

ولا شك أن علاقة الزواج هي قمة العلاقات الإنسانية القائمة على المودة، والرحمة والتفاهم؛ إذ يقول عز وجل: )خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة( (الروم: 21)، وإنما أباح الإسلام الزواج من أهل الكتاب؛ ليزيل الحواجز بين أهل الكتاب وبين المسلمين؛ فالزواج معاشرة وتفاهم ومودة ورحمة، ليس بين الزوجين فحسب، بل بين الأسر بعضها وبعض؛ فهو فرصة للتلاقي بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب[12],وهو تقريب عملي بين المسلمين وغيرهم، بل هو قمة التقارب والانفتاح على الغير، وهدم جميع الحواجز سواء المادية منها والنفسية بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب.

الخلاصة:

  • لقد انفتح المسلمون على غيرهم منذ عهد النبوة، وأخذوا عنهم ما ينفعهم في دنياهم، مثل أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – فكرة الخندق من الفرس، وقد سار المسلمون في كل العصور على هديه – صلى الله عليه وسلم – في أخذ ما يفيد من غير المسلمين.
  • إن المقصود من قوله عز وجل: )لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء(، ليس عدم معاملة اليهود والنصارى، وإنما هو نهي عن مناصرة اليهود والنصارى، الذين يناصبون الإسلام والمسلمين العداء، أما أهل الكتاب المسالمين للمسلمين فأساس العلاقة معهم يقوم على التعارف والبر والقسط في حدود ما لا معصية لله فيه، ولا الابتداع في أمر الدين.
  • لقد أباح الإسلام الزواج من الكتابية، وفي ذلك دليل على التعايش السلمي والتعاون مع غير المسلمين، فقد هدم الإسلام بذلك كل الحواجز المادية والنفسية بين المسلمين وأهل الكتاب.

(*) هل القرآن معصوم، عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.

[1]. الإسلام والعنف، الشيخ حسين الخشن، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2006م، ص78 بتصرف يسير.

[2]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8721)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في التفاخر بالأحساب (5118)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1787).

[3]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (6/ 58) برقم (5787)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 223) برقم (1234)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (426).

[4]. الإسلام والآخر في العلاقات الدولية، أحمد فراج، ضمن أبحاث ووقائع المؤتمر العام السادس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2004م، ص 403، 404 بتصرف.

[5]. التعددية الدينية والعرقية في المجتمع الإسلامي، د. عبد الحميد عثمان، المؤتمر السادس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2004م، ص324 بتصرف يسير.

[6]. الغيلة: الاسم من الاغتيال، يقال: قتله غيلة: أي على غفلة منه، والغيلة: وطء المرضع.

[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل (3637).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان (65) وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب في اتخاذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتما (5602).

[9]. التعددية الدينية والعرقية في المجتمع الإسلامي، د. عبد الحميد عثمان، المؤتمر السادس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2004م، ص 325 بتصرف.

[10]. الانغلاق على الذات، د. حسن عزوزي، مقال بكلية الشريعة، جامعة القرويين، فاس، المغرب بتصرف.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص216 بتصرف يسير.

[12]. فقه السنة، السيد سابق، الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1999م، ج2، ص 378: 380 بتصرف.

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المشككين أن القوانين الوضعية أكثر تلاؤما وروح العصر من أحكام الشريعة الإسلامية؛ لذا فهي أنسب دستور للدولة الحديثة. ويبرهنون على ذلك بكون أحكام الشريعة الإسلامية ثابتة لا تتغير, في حين أن القوانين الوضعية متغيرة بتغير الزمان، والمكان، والحال.

ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في مرونة الشريعة الإسلامية من جهة, ووصم أحكامها بالجمود وعدم صلاحيتها للتطبيق في الواقع المعاصر من جهة أخرى.

وجها إبطال الشبهة:

1) الشريعة الإسلامية ربانية تتسم بالكمال والسمو والديمومة، كما أن بها من السمات المزدوجة كالثبات في مقابل المرونة، والخلود في مقابل التطور ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، والمتأمل لهذه السمة المزدوجة في الشريعة يلحظها على هذا النحو:

  • الثبات في الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
  • الثبات في الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.
  • الثبات في القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.

وهذا كله بخلاف القانون الوضعي الذي لا يصلح حتى لمن وضعوه.

2) شريعة الإسلام شهد لصلاحيتها الوحي والتاريخ والواقع، في حين أن القانون الوضعي يثبت دائما فشله، مما يقتضي تغييره بين الحين والآخر، ونجاح الشريعة في تحقيق الخير للمجتمع الإسلامي خير دليل على أفضليتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

التفصيل:

أولا. بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية:

ليس ثمة وجه تقارب بين أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية يسوغ لأحد الموازنة بينهما فضلا عن الجزم بأفضلية الأخيرة والدعوة إلى استبدالها بتلك؛ فالشريعة أنزلها رب الأرض والسماء، الذي يعلم السر وأخفى، والذي بمقدوره – وحده – أن يهيئ للبشر أسباب الخير والسعادة في حياتهم: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).

أما القوانين الوضعية فأنى لها أن تفي بحاجة كل البشر وقد اختلقها بعضهم، فهل نترك ما شرع خالق البشر للبشر ونتحاكم بما شرعه البشر للبشر؟! وتلك القوانين في مجملها عاجزة عن الوفاء بحاجة عصر واحد في بلدان مختلفة، أو بلد واحد في عصور مختلفة.

وهذا أمر بين يقره المنصفون، ويؤيده الواقع, أما ما ادعاه بعضهم من مناسبتها للعصر أكثر من أحكام الشريعة فوهم باطل؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية بها من عوامل القوة والمرونة والسعة والشمولية ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، بخلاف القانون الوضعي الذي لا يصلح حتى لمن وضعوه؛ وما اتهمها بعضهم بالجمود إلا لأن عقولهم عاجزة عن الكمال الرباني المعهود في الشرائع الربانية، على أن الدراسة الموضوعية الجادة لأحكام الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالقوانين الوضعية تؤكد تفوق الشريعة الإسلامية وتميزها دائما على ما سواها من الشرائع والقوانين، كما توضح – بما لا يدع مجالا للشك – أن من يفتري القول بأن الشريعة لا تصلح لهذا العصر، وأن القوانين الوضعية أفضل من الشريعة الإسلامية في الدولة الحديثة المعاصرة، لم تصدر أحكامه تلك عن دراسة علمية موضوعية دقيقة، ولا استندت إلى أدلة منطقية معقولة مقنعة، وهذا ما يوضحه الفقيه عبد القادر عودة – رحمه الله – إذ يقول: “قد تبين من دراسة الشريعة الإسلامية أن القائلين بكونها لا تصلح للعصر الحاضر لا يبنون رأيهم على دراسة علمية أو حجج منطقية؛ لأن الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية، وبصلاحية الشريعة لهذا العصر ولما سيتلوه من عصور.

وفوق هذا فالقائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر فريقان: فريق لم يدرس الشريعة ولا القانون، وفريق درس القانون دون الشريعة, وكلا الفريقين ليس أهلا للحكم على الشريعة؛ لأنهما يجهلان أحكامها جهلا مطبقا، ومن جهل شيئا لا يصلح للحكم عليه.

والواقع أن هؤلاء الجاهلين بالشريعة يبنون عقيدتهم الخاطئة – في عدم صلاحية الشريعة – على قياس خاطئ، وليس عن دراسة منظمة، ذلك أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القائمة الآن لا تمت بصلة إلى القوانين القديمة التي كانت تطبق حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وعلموا أن القوانين الوضعية الحديثة قائمة على نظريات فلسفية واعتبارات اجتماعية وإنسانية لم يكن لها وجود في القوانين القديمة، وتحملهم المقارنة بين هذين النوعين من القوانين على الاعتقاد بعدم صلاحية القوانين القديمة للعصر الحاضر، وهو اعتقاد كله حق، ولكنهم ينساقون بعد ذلك إلى الخطأ حين يقيسون الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية؛ فيقولون: مادامت القوانين التي كانت سائدة حتى أواخر القرن الثامن عشر لا تصلح لعصرنا الحاضر, فكذلك الشريعة الإسلامية التي كانت سائدة في العصور الوسطى، والتي ظل الكثير من أحكامها معمولا به حتى أواخر القرن الثامن عشر, وفي هذا القياس الباطل خطؤهم الجسيم الذي لا يكاد يفوت الناقد البصير.

ووجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين القوانين الوضعية التي وضعها البشر وبين الشريعة الإسلامية التي تكفل بوضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون إنما يقيسون الأرض بالسماء والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟

نقول: إن وجه الخطأ في هذا القياس أنهم سووا بين الشريعة والقانون وهما مختلفان في طبيعتهما جد الاختلاف؛ فمعلوم أنه لا قياس بين مختلفين.

وإذا صح أن الشريعة تختلف عن القوانين اختلافات أساسية, وتتميز عنها بمميزات جوهرية فقد امتنع القياس؛ لأن القاعدة أن القياس يقتضي مساواة المقيس بالمقيس عليه، فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، أو كان القياس باطلا.

ولما كان القائلون بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر يبنون رأيهم على قياس الشريعة بالقوانين الوضعية، ولا مساواة بين الشريعة وهذه القوانين فيكون قياسهم باطلا، وادعائهم بعدم صلاحية الشريعة للعصر الحاضر ادعاء باطلا؛ لأنه بني على قياس باطل، وما قام على الباطل فهو باطل.

وسنعرض فيما يلي نشأة القانون ونشأة الشريعة ووجوه الخلاف بينهما ومميزات كل منهما:

  • نشأة القانون:

ينشأ القانون الوضعي في الجماعة التي ينظمها ويحكمها ضئيلا محدود القواعد، ثم تتطور الجماعة فتزداد قواعده، وتتسامى نظرياته كلما ازدادت حاجات الجماعة وتنوعت، وكلما تقدمت الجماعة في تفكيرها وعلومها وآدابها.

فالقانون الوضعي كالوليد؛ ينشأ صغيرا ضعيفا، ثم ينمو ويقوى شيئا فشيئا حتى يبلغ أشده، وهو يسرع في التطور والنمو والسمو كلما تطورت الجماعة التي يحكمها وأخذت بحظ من الرقي والسمو، ويبطئ في تطوره ونموه كلما كانت الجماعة بطيئة النمو والتطور؛ فالجماعة إذن هي التي تخلق القانون الوضعي وتصنعه على الوجه الذي يسد حاجاتها وينظم حياتها، فهو تابع لها، وتقدمه مرتبط بتقدمها.

وعلماء القانون الوضعي حين يتحدثون عن النشأة الأولى له يقولون: إنه بدأ يتكون مع تكون الأسرة والقبيلة، وإن كلمة رب الأسرة كانت قانون الأسرة، وكلمة شيخ القبيلة كانت قانون القبيلة، وإن القانون ظل يتطور مع الجماعة حتى تكونت الدولة، وإن عادات كل أسرة كانت لا تتفق مع عادات غيرها من الأسر، وتقاليد كل قبيلة لم تكن مماثلة لتقاليد غيرها من القبائل، وإن الدولة حين بدأت تتكون وحدت العادات والتقاليد وجعلت منها قانونا ملزما لجميع الأفراد والأسر والقبائل الداخلين في نطاق الدولة، ولكن قانون كل دولة لم يكن يتفق في الغالب مع قوانين الدولة الأخرى.

وظل هذا الخلاف حتى بدأت المرحلة الأخيرة من التطور القانوني في أعقاب القرن الثامن عشر على هدي النظريات الفلسفية والعلمية والاجتماعية، فتطور القانون الوضعي منذ ذلك الوقت حتى الآن تطورا عظيما، وأصبح قائما على نظريات لم يكن لها وجود في العهود السابقة، وأساس هذه النظريات الحديثة العدالة والمساواة والإنسانية، وقد أدى شيوع هذه النظريات في العالم إلى توحيد معظم القواعد القانونية في كثير من دول العالم، ولكن بقي لكل دولة قانونها الذي يختلف عن غيره من القوانين في كثير من الدقائق والتفاصيل.

هذه خلاصة لنشأة القانون وتطوره والمراحل التي مر بها, تبين بجلاء أن القانون حين نشأ كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن القانون الآن، وأنه ظل يتغير ويتطور حتى وصل إلى شكله الحالي، وأنه لم يصل إلى ما هو عليه الآن إلا بعد تطور طويل بطيء استمر آلاف السنين.

  • نشأة الشريعة:

وإذا كانت نشأة القانون الوضعي كما وصفها أهلها – وعلى نحو ما أسلفنا – من التدرج الذي يشبه مراحل نمو الأطفال، فإن الشريعة الإسلامية لم تنشأ ولم تسر في هذا الطريق، ولم تكن الشريعة قواعد قليلة ثم كثرت، ولا مبادئ متفرقة ثم تجمعت، ولا نظريات أولية ثم تهذبت, ولم تولد الشريعة طفلة مع الجماعة الإسلامية ثم سايرت تطورها ونمت بنموها، وإنما ولدت شابة مكتملة,ونزلت من عند الله شريعة كاملة شاملة، جامعة مانعة لا ترى فيها عوجا، ولا تشهد فيها نقصا، أنزلها الله – عز وجل – من سمائه على قلب رسوله محمد – صلى الله عليه وسلم – في فترة قصيرة – لا تجاوز المدة اللازمة لنزولها – بدأت ببعثة الرسول وانتهت بوفاته – صلى الله عليه وسلم – أو انتهت يوم قال الله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

ولم تأت الشريعة لجماعة دون جماعة، أو لقوم دون قوم، أو لدولة دون دولة، وإنما جاءت للناس كافة من عرب وعجم، شرقيين وغربيين، على اختلاف مشاربهم وتباين عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم، فهي شريعة كل أسرة وشريعة كل قبيلة، وشريعة كل جماعة، وشريعة كل دولة، بل هي الشريعة العالمية التي استطاع علماء القانون الوضعي أن يتخيلوها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يوجدوها.

وقد جاءت الشريعة كاملة لا نقص فيها، جامعة تحكم كل حالة، مانعة لا تخرج عن حكمها حالة، شاملة لأمور الأفراد والجماعات والدول، فهي تنظم الأحوال الشخصية والمعاملات وكل ما يتعلق بالأفراد، وتنظيم شئون الحكم والإدارة والسياسة، وغير ذلك مما يتعلق بالجماعة، كما تنظم علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر في الحرب والسلم.

ولم تأت الشريعة لوقت دون وقت، أو لعصر دون عصر، أو لزمن دون زمن، وإنما هي شريعة كل وقت، وشريعة كل عصر، وشريعة الزمن كله حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد صيغت الشريعة بحيث لا يؤثر عليها مرور الزمن، ولا يبلي جدتها، ولا يقتضي تغيير قواعدها العامة ونظرياتها الأساسية؛ فجاءت نصوصها من العموم والمرونة بحيث تحكم كل حالة جديدة ولو لم يكن في الإمكان توقعها، ومن ثم كانت نصوص الشريعة غير قابلة للتغيير والتبديل، كما تتغير نصوص القوانين الوضعية وتتبدل.

وأساس الفرق بين الشريعة والقانون هو أن الشريعة من عند الله – عز وجل – وهو القائل: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وهو عالم الغيب القادر على أن يضع للناس نصوصا تبقى صالحة على مر الزمان. أما القوانين فمن وضع البشر، وتوضع بقدر ما يسد حاجتهم الوقتية، وبقدر قصور البشر عن معرفة الغيب تأتي النصوص القانونية التي يضعونها قاصرة عن حكم ما لم يتوقعوه.

ولقد جاءت الشريعة من يوم نزولها بأحدث النظريات التي وصل إليها أخيرا القانون مع أن القانون أقدم من الشريعة، بل جاءت الشريعة من يوم نزولها بأكثر مما وصل إليه القانون الوضعي، وحسبنا أن نعرف أن كل ما يتمناه رجال القانون اليوم – أن يتحقق من المبادئ – موجود في الشريعة من يوم نزولها.

مما سبق يتضح أن الشريعة الإسلامية تختلف عن القوانين الوضعية اختلافا أساسيا من ثلاثة وجوه هي:

  1. أن القانون من صنع البشر، أما الشريعة فمن عند الله، وكل من الشريعة والقانون يتمثل فيهما بجلاء صفات صانعه؛ فالقانون من صنع البشر ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم،[1] ومن ثم كان القانون عرضة للتغيير والتبديل أو ما نسميه التطور كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة أو وجدت حالات لم تكن منتظرة، فالقانون ناقص دائما ولا يمكن أن يبلغ حد الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يستطيع أن يحيط بما سيكون، وإن استطاع الإلمام بما كان.

أما الشريعة: فصانعها هو الله، وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال حيث أحاط علمه بكل شيء، وأمر الله – عز وجل – لا يتغير ولا يتبدل، وهو القائل: )لا تبديل لكلمات الله( (يونس: 64)، وشريعة الله وأحكامه إنما جاءت على هذا النحو من الديمومة والثبات؛ لأنها ليست في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان وتطور الإنسان.

وقد يصعب على بعض الناس أن يؤمنوا بهذا القول؛ لأنهم لا يؤمنون قبل كل شيء بأن الشريعة من عند الله، ولست أهتم – والكلام لعبد القادر عودة – من أمر هؤلاء إلا بأن يؤمنوا بأن الشريعة تتوفر فيها الصفات التي ذكرتها، وعلى أن أقيم لهم الدليل على توافرها وعليهم هم بعد ذلك أن يبحثوا إن شاءوا عن سبب توفر هذه الصفات في الشريعة دون غيرها، وأن يبحثوا عن صانعها، ولعل في إحالة هؤلاء إلى نظريات الشريعة في المساواة والحرية والشورى وسلطة الحاكم والإثبات والتعاقد والدين ما يبطل الزعم ويقيم الدليل؛ ففي تلك النظريات الدستورية والاجتماعية والإدارية والمدنية ما تغني الإشارة إليه عن تفصيله[2]، شريطة أن يتجرد القارئ من هؤلاء من أية خلفية سابقة ويتحرى الدقة والإنصاف والموضوعية!

أما الذين يؤمنون بأن الشريعة من عند الله فليس يصعب عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات التي ذكرناها في الشريعة ولو لم يقدم لهم الدليل المادي على ذلك؛ لأن منطقهم يقضي عليهم أن يؤمنوا بتوفر الصفات؛ فمن كان يؤمن بأن الله خلق السموات والأرض، وسير الشمس والقمر والنجوم، وسخر الجبال والرياح والماء، وأنبت النبات، وصور الأجنة في بطون أمهاتها، وجعل لكل مخلوق خلقه من حيوان ونبات وجماد نظاما دائما لا يخرج عليه، ولا يحتاج لتغيير ولا تبديل ولا تطور. من كان يؤمن بأن الله وضع قوانين ثابتة تحكم طبائع الأشياء وحركاتها واتصالاتها، وأن هذه القوانين الطبيعية بلغت من الروعة والكمال ما لا يستطيع أن يتصوره الإنسان.

من كان يؤمن بهذا كله وبأن الله أتقن كل شئ خلقه، فأولى به أن يؤمن بأن الله وضع الشريعة الإسلامية قانونا ثابتا كاملا لتنظيم الأفراد والجماعات والدول، لتحكم معاملاتهم، وأن الشريعة بلغت من الروعة والكمال حدا يعجز عن تصوره الإنسان.

     2- أن القانون هو قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها, فهي قواعد متأخرة عن الجماعة، أو هي في مستوى الجماعة اليوم، ومتخلفة عن الجماعة غدا؛ لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة، وهي قواعد مؤقتة تتفق مع حال الجماعة المؤقتة، وتستوجب التغيير كلما تغيرت حال الجماعة.

أما الشريعة فقواعد وضعها الله – عز وجل ــ على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة، فالشريعة تتفق مع القانون في أن كليهما وضع لتنظيم الجماعة، ولكن الشريعة تختلف عن القانون في أن قواعدها دائمة ولا تقبل التغيير والتبديل, وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:

  • أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم؛ بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان، وتطورت الجماعة، وتعددت الحاجات وتنوعت.
  • أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع؛ بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر ما عن مستوى الجماعة.

والواقع أن ما يقتضيه المنطق متوفر بوجهيه في الشريعة، بل هو أهم ما يميز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى، فقواعد الشريعة الإسلامية ونصوصها جاءت عامة ومرنة إلى آخر حدود العموم والمرونة، كما أنها وصلت من السمو درجة لا يتصور بعدها سمو.

ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرنا تغيرت خلالها الأوضاع أكثر من مرة، وتطورت الأفكار والآراء تطورا كبيرا، واستحدث من العلوم والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان، وتغيرت قواعد القوانين الوضعية التي كانت تطبق يوم نزلت الشريعة، وعلى الرغم من هذا كله ظلت قواعد الشريعة ونصوصها – التي لا تقبل التغيير والتبديل – أسمى من مستوى الجماعات، وأكفل بتنظيم وسد حاجتهم، وأقرب إلى طلائعهم، وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.

هذه هي شهادة التاريخ الرائعة يقف بها في جانب الشريعة الإسلامية، وليس ثمة ما هو أروع منها إلا شهادة النصوص ومنطقها، وخذ مثلا قول الله عز وجل: )وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38)( (الشورى)، أو اقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».[3] فهذان نصان من القرآن والسنة بلغا من العموم والمرونة واليسر ما لا يمكن أن يتصور بعده عموم أو مرونة أو يسر، وهما يقرران الشورى قاعدة للحكم على الوجه الذي لا يضر بالنظام العام، ولا بمصلحة الأفراد أو الجماعة، وبتقرير مبدأ الشورى على هذا الوجه بلغت الشريعة من السمو حده الأقصى الذي لا يتصور أن يصل إليه البشر في يوم من الأيام، إذ عليهم أن يجعلوا أمرهم شورى بينهم بحيث لا يحدث ضرر ولا ضرار، وهيهات أن يتحقق ذلك بين الناس.

ولو تتبعنا نصوص الشريعة لوجدناها على غرار النصين السابقين من العموم والمرونة والسمو، ومن السهل علينا أن نتبين هذه المميزات لأول وهلة في أي نص نستعرضه، فنصوص الشريعة كلها تصلح أمثلة على ما نقول؛ ويكفي أن نسوق للقارئ مثالا آخر قوله عز وجل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( (النحل: 125)، فهذا النص تدل صياغته على أنه بلغ حد العموم والمرونة، أما المبدأ الذي جاء به النص فلم يعرف أن هناك ما هو خير منه، ولا يمكن أن يتصور العقل البشري أن هناك طريقا لأصحاب الدعوات يسلكونها في نشر دعواتهم خيرا من طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

ويستطيع القارئ أن يقرأ قوله عز وجل: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (فاطر: 18)، وقوله عز وجل: )لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( (البقرة: 286)، وقوله عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58)، وقوله عز وجل: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8)، وقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين( (النساء: 135)، يستطيع القارئ أن يستعرض هذه النصوص وغيرها ليرى كيف بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وليرى أن المبادئ التي جاءت بها هذه النصوص قد بلغت من السمو ما ليس بعده زيادة لمستزيد، أو خيال لمتخيل.

    3- أن الجماعة هي التي تصنع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها، والأصل في القانون أنه يوضع لتنظيم شئون الجماعة، ولا يوضع لتوجيه الجماعة، ومن ثم كان القانون متأخرا عن الجماعة وتابعا لتطورها، وكان القانون من صنع الجماعة، ولم تكن الجماعة من صنع القانون.

وإذا كان هذا هو الأصل في القانون من يوم وجوده، فإن هذا الأصل قد تعدل في القرن الحالي، وعلى وجه التحديد بعد الحرب العظمى الأولى؛ بحيث بدأت الدول التي تدعو لدعوات جديدة أو أنظمة جديدة تستخدم القانون لتوجيه الشعوب وجهات معينة، كما تستخدمه لتنفيذ أغراض معينة، وقد كان أسبق الدول إلى الأخذ بهذه الطريقة روسيا الشيوعية، وتركيا العلمانية،[4] ثم تلتهما إيطاليا الفاشيستية وألمانيا النازية، ثم اقتبست بقية الدول هذه الطريقة، فأصبح الغرض اليوم من القانون تنظيم الجماعة، وتوجيهها الوجهات التي يرى أولياء الأمور أنها في صالح الجماعة.

أما الشريعة الإسلامية فقد علمنا أنها ليست من صنع الجماعة، وأنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها كما هو الحال في القانون الوضعي، وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه.

وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة، فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة، إذا الأصل في الشريعة أنها لم توضع لتنظيم شئون الجماعة فقط كما كان الغرض من القانون الوضعي، وإنما المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة، وإيجاد الدولة المثالية، والعالم المثالي، ومن أجل هذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها، ولا تزال كذلك حتى اليوم، وجاء فيها من المبادئ والنظريات ما لم يتهيأ للعالم غير الإسلامي معرفته والوصول إليه إلا بعد قرون طويلة، وما لم يتهيأ لهذا العالم الوصول إليه حتى الآن.

ومن أجل هذا تولى الله – عز وجل – وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله – صلى الله عليه وسلم – نموذجا من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل، ويحملهم على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل، وقد حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة للعالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية.

ولقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون الأوائل متمسكين بها، عاملين بأحكامها، تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة، يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم بعد عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، لا صوت إلا صوتهم، ولا كلمة تعلو كلمتهم، وما أوصلهم لهذا الذي يشبه المعجزات إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم بالعزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة، والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات، وجعلتهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله.

كان ذلك حال المسلمين وقت تمسكوا بشرعيتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا يعمهون فيها من قبل فعادوا مستضعفين مستعبدين، لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.

وقد خيل للمسلمين – وهم في غمرتهم هذه – أن تقدم الأوربيين راجع لقوانينهم وأنظمتهم؛ فذهبوا يتلقونها وينسجون على منوالها، ناسين قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله»[5]، وقد كان ما قال الفاروق، فلم تزدهم هذه القوانين وتلك الأنظمة الوضعية إلا ضلالا على ضلالهم، وخبالا على خبالهم، وضعفا على ضعفهم، بل جعلتهم أحزابا وشيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى.

إن الشريعة الإسلامية، وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص، حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع، هي أصلح الشرائع لعصور التقدم وعصور التأخر على السواء؛ لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكوين الجماعة الصالحة، وتوجيهها دائما للتقدم المستمر والتطور الصالح، ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام.

إن في تاريخ المسلمين آية، وإنه عبرة لمن كان له قلب، وإن فيه الدليل الحاسم على أن الشريعة الإسلامية هي التي خلقت المسلمين من العدم، وجعلتهم أمة فوق الأمم، ودفعتهم إلى الأمام، وسلطتهم على دول العالم، وإن فيه الدليل الحاسم على أن حياة المسلمين وتقدمهم ورقيهم متوقف على تطبيق الشريعة الإسلامية, فالمسلمون من صنع الشريعة؛ كيانهم تابع لكيانها، ووجودهم مرتبط بوجودها، وسلطانهم تابع لسلطانها.

إن القانون الوضعي حين تحول أخيرا عن أصله الأول فصار يوضع لتوجيه الجماعة, إنما أخذ في ذلك بنظرية الشريعة الإسلامية التي تجعل الأصل في التشريع أن يصنع الجماعة ويوجهها، ثم ينظمها، وهكذا انتهى القانون الوضعي على ما بدأت به الشريعة وسبقت إليه من أربعة عشر قرنا، فإذا ما قال علماء القانون الوضعي: إنهم وصلوا لنظرية جديدة قلنا لهم: كلا ولكنكم تسلكون طريق الشريعة وتسيرون في أثرها.

وعلى هذا يمكننا أن نستخلص مما ذكر من الاختلافات الأساسية بين الشريعة والقانون أن الشريعة الإسلامية تمتاز على القوانين الوضعية بثلاث ميزات جوهرية هي:

  • الكمال: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالكمال؛ أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه الشريعة الكاملة من قواعد ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
  • السمو: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالسمو, أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائما من مستوى الجماعة؛ وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.
  • الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام؛ أي بالثبات والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل، ومهما مرت الأعوام وطالت الأزمان تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.

هذه هي المميزات الجوهرية للشريعة الإسلامية، و هي على تعددها وتباينها ترجع إلى أصل واحد نشأت عنه جميعا بحيث يعتبر كل منها أثرا من آثاره، وهذا هو أن الشريعة الإسلامية من عند الله ومن صنعه، ولولا أن الشريعة من عند الله لما توفرت فيها صفات الكمال والسمو والدوام, تلك الصفات التي تتوفر دائما فيما يصنعه الخالق ولا يتوفر شيء منها فيما يصنعه المخلوق[6].

ويواصل الفقيه عبد القادر عودة كلامه متجها بالتحذير إلى أولئك الذين يعتقدون عدم صلاحية الشريعة للتطبيق في العصر الحاضر، من أن يوقعهم اعتقادهم هذا في خلل عقدي من جانب، وفساد دنيوي من جانب آخر، فيقول:

“أحب أن أقول للمسلمين الذين يعتقدون – خطأ – أن الشريعة الإسلامية لا تصلح للتطبيق في عصرنا الحاضر، أحب أن أقول لهؤلاء إن هذه العقيدة لا تتفق مع عقيدة الإسلام الذي يدعونه ويحرصون على التمسك به، وأن عليهم أن يذكروا قوله عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة).

وليعلم هؤلاء أن سبب تأخرنا وانحطاطنا هو أننا لم نطبق الشريعة تطبيقا عادلا ولا كاملا في عهودنا المظلمة المتأخرة، وأن حكامنا من الأتراك والمماليك كانوا يحكمون هواهم في كل ما يهتمون به، ويحكمون الشريعة فيما لا يضرهم ولا ينفعهم.

وإذا كان سبب تأخرنا هو إهمال الشريعة وترك أحكامها فلن يجدينا الأخذ بالقوانين شيئا، بل سيزيدنا تأخرا على تأخر وانحطاطا على انحطاط، وإنما علاجنا المجدي هو القضاء على سبب التأخر والعودة لأحكام الشريعة.

لقد طبق آباؤنا بعض أحكام الشريعة دون بعضها الآخر، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه؛ فصدقهم الله وعده – إن وعد الله حق – وأخزاهم في الحياة الدنيا، وجئنا نحن على آثارهم نتبعهم ونؤمن إيمانهم، فأخزانا الله كما أخزاهم، وسلط علينا كما سلط عليهم، وجعلنا عبرة لأولي الألباب، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا وقلوبنا، ونؤمن بالكتاب كله، ذلك وعد الله، والله يقول الحق,وقد قال: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11).

لقد آمن المسلمون الأوائل وحسن إيمانهم، فمكن الله لهم في الأرض، وإن الذي مكن لهم على قلتهم وضعفهم قادر أن يمكن لنا في الأرض إذا آمنا وحسن إيماننا، ذلك وعد الله لعباده في قوله: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم( (النور: 55)، وذلك وعده لمن اتبع كتابه وتمسك بشريعته عز وجل: )يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)( (المائدة)[7].

هذا، وبعد العرض المبدع للفقيه عبد القادر عودة عن الاختلافات الجذرية، والسمات الجوهرية التي تتسم بها الشريعة دون غيرها بما يجعلها في مكانة لا تسوغ لأحد مقارنتها بالقانون الوضعي، نضيف على ذلك أن ما تتميز به أحكام الشريعة من سعة ومرونة ينفي عنها الجمود وعدم الصلاحية لهذا العصر، كما يقول د. يوسف القرضاوي: “أما ما ذكره المدعون على الشريعة الإسلامية وأن جوهرها الثبات، فقد أخطأوا فيه الحق؛ فإن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وآية من آيات عمومه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان وكل مكان.

ونستطيع أن نحدد مجال الثبات، ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول إنه:

  • الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب.
  • الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات.
  • الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعلمية.

وربما سأل سائل: لماذا كان هذا هو شأن الإسلام؟! لماذا لم يودعه الله المرونة المطلقة، أو الثبات المطلق؟!

والجواب: أن الإسلام بهذا يتسق مع طبيعة الحياة الإنسانية خاصة، ومع طبيعة الكون الكبير عامة، فقد جاء هذا الدين مسايرا لفطرة الإنسان وفطرة الوجود.

أما طبيعة الحياة الإنسانية نفسها، ففيها عناصر ثابتة باقية ما بقي الإنسان، وعناصر مرنة قابلة للتغير والتطور.

وإذا نظرنا إلى الكون من حولنا، وجدناه يحوي أشياء ثابتة، تمضي ألوف السنين وألوف الألوف، وهي هي: أرض وسماء، وجبال وبحار، وليل ونهار، وشمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمر الله، كل في فلك يسبحون.

وفيه – أيضا – عناصر جزئية متغيرة؛ جزر تنشأ، وبحيرات تجف، وأنهار تحفر، وماء يطغى على اليابسة، ويبس يزحف على الماء، وأرض ميتة تحيا، وصحار قفر تخضر، وبلاد تعمر، وأمصار تخرب، وزرع ينبت وينمو، وآخر يذوى، ويصبح هشيما تذروه الرياح.

هذا هو شأن الإنسان، وشأن الكون، ثبات وتغير في آن واحد، ولكنه ثبات في الكليات والجوهر، وتغير في الجزيئات والمظهر.

فإذا كان التطور قانونا في الكون والحياة، فالثبات قانون قائم فيهما – كذلك – بلا مراء، وإذا كان من الفلاسفة في القديم من قال بمبدأ الصيرورة والتغير، باعتباره القانون الأزلي، الذي يسود الكون كله، فإن فيهم من نادى بعكس ذلك، واعتبر الثبات هو الأساس، والأصل الكلي العام للكون كله.

والحق أن المبدأين كليهما من الثبات والتغير يعملان معا في الكون والحياة، كما هو مشاهد وملموس.

فلا عجب أن تأتي شريعة الإسلام ملائمة لفطرة الإنسان وفطرة الوجود، جامعة بين عنصر الثبات وعنصر المرونة.

وبهذه المزية يستطيع المجتمع المسلم، أن يعيش ويستمر ويرتقي، ثابتا على أصوله وقيمه وغاياته، متطورا في معارفه وأساليبه وأدواته.

فبالثبات يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء، أو الذوبان في المجتمعات الأخرى، أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقض في الحقيقة، وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة,و بالثبات يستقر التشريع وتتبادل الثقة، وتبنى المعاملات والعلاقات على دعائم مكينة وأسس راسخة، لا تعصف بها الأهواء والتقلبات السياسية والاجتماعية ما بين يوم وآخر، وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغير الزمن وتغير أوضاع الحياة، دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية.

وإن للثبات والمرونة مظاهر ودلائل شتى، تجدها في مصادر الإسلام وشريعته وتاريخه.

يتجلى هذا الثبات في المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع من كتاب الله وسنة رسوله، فالقرآن هو الأصل والدستور، والسنة هي الشرح النظري، والبيان العملي للقرآن، وكلاهما مصدر إلهي معصوم، ولا يسع مسلما أن يعرض عنه، قال عز وجل: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول( (النور: 54)، وقال عز وجل: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).

وتتجلى المرونة في المصادر الاجتهادية التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها، ما بين موسع ومضيق, ومقل ومكثر، مثل: الإجماع, والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة، وشرع من قبلنا… وغير ذلك من مآخذ الاجتهاد وطرائق الاستنباط.

وبالنظر إلى أحكام الشريعة[8]نجدها تنقسم إلى قسمين بارزين:

  • قسم يمثل الثبات والخلود.
  • قسم يمثل المرونة والتطور.

نجد الثبات يتمثل في العقائد الأساسية الخمس: من الإيمان بالله, وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وهي التي ذكرها القرآن في غير موضع كقوله عز وجل: )ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين( (البقرة: 177)، وقوله عز وجل: )ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)( (النساء).

وفي الأركان العملية الخمسة: من الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، و هي التي صح عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الإسلام بني عليها.

وفي المحرمات اليقينية: من السحر، وقتل النفس، والزنا، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي يوم الزحف، والغصب، والسرقة، والغيبة، والنميمة، وغيرها مما ثبت بقطعي القرآن والسنة.

وفي أمهات الفضائل: من الصدق، والأمانة، والعفة، والصبر، والوفاء بالعهد، والحياء، وغيرها من مكارم الأخلاق التي اعتبرها القرآن والسنة من شعب الإيمان.

وفي شرائع الإسلام القطعية: في شئون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة؛ فهذه الأمور ثابتة، تزول الجبال ولا تزول، نزل بها القرآن، وتواترت بها الأحاديث، وأجمعت عليها الأمة، فليس من حق مجمع من المجامع، ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات، ولا من حق خليفة من الخلفاء، أو رئيس من الرؤساء، أن يلغي أو يعطل شيئا منها؛ لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه، أو كما قال الشاطبي: “كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بين ذلك الاستقراء, وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضا، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها”.

ونجد – في مقابل ذلك – القسم الآخر، الذي يتمثل فيه المرونة، وهو ما يتعلق بجزئيات الأحكام وفروعها العملية، وخصوصا في مجال السياسة الشرعية.

ولقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه ” إغاثة اللهفان ” أن الأحكام نوعان:

الأول: لايتغير عن حالة واحدة مر عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك, فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والثاني: يتميز بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات[9] وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة”، وقد ضرب ابن القيم لذلك عدة أمثلة من سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده، ثم قال: “وهذا باب واسع، اشتبه فيه – على كثير من الناس – الأحكام الثابتة اللازمة التي لا تتغير، بالتعزيرات التابعة للمصالح وجودا وعدما”[10].

ثانيا. شهد لصلاحية شريعة الإسلام الوحي والتاريخ والواقع، بخلاف القانون الوضعي:

 لقد نجحت الشريعة الإسلامية في تحقيق الخير للمجتمع الإسلامي، ولقد شهد على ذلك الوحي و التاريخ و الواقع، ويعرض لنا د. القرضاوي هذه الشهادات، وهي:

  1. شهادة الوحي:

معلوم أن الله – عز وجل – أنزل هذه الشريعة بعلمه على محمد – صلى الله عليه وسلم – ليقيم بها عدله في الأرض، ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد، كما دل على ذلك استقراء نصوص الأحكام وتعليلاتها في الكتاب والسنة، وأنه سبحانه خص هذه الشريعة بالعموم والاستمرار دون الشرائع السماوية السابقة.

فقد اقتضت حكمته – عز وجل – أن تكون شرائع الرسل الذين سبقوا محمد – صلى الله عليه وسلم – في الزمن، شرائع محدودة موقوتة، فهي لأقوام معينين، في مرحلة زمنية خاصة، وكان هذا هو الموافق للحكمة والمصلحة، فلم تكن البشرية في طور يسمح لها بتقبل شريعة عامة خالدة.

ولهذا لم يتكفل الله – عز وجل – بحفظ مصادرها المقدسة من الضياع والتحريف، ولم يضمن لها أن يبعث في كل جيل من يحفظ كتابها، ويصون ميراث نبيها، ويجدد لها أمر دينها.

ومن هنا حرفت الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن، تحريفا لفظيا ومعنويا، ونسي أهلها حظا مما ذكروا به – وهذا أمر أثبته القرآن الكريم، ودل عليه الاستقراء بيقين – واختلطت كلمات الله بكلمات البشر.

فلما بلغت البشرية طورها الأخير، وعلم الله – عز وجل – أنها أصبحت صالحة لأن تتنزل عليها الرسالة العامة الأخيرة؛ بعث محمدا – صلى الله عليه وسلم ــ ليكون رحمة للعالمين، ورسوله إلى الناس جميعا، كما قال – عز وجل – يخاطبه: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، كما اقتضت حكمة الله – عز وجل – أن تكون هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، فهي ناسخة لما قبلها؛ إذ ليس بعد كتابها كتاب أو بعد نبيها نبي، فقد كمل الدين وتم البناء, قال عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3)، وقال عز وجل: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (40)( (الأحزاب).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[11].

  • وعد الله – عز وجل – بحفظ القرآن مصدر الشريعة الأول:

وحيث أراد الله لهذه الشريعة الخلود، فقد جرى قدر الله ومشيئته بضمان أمرين يكفلان لهذه الشريعة دوامها إلى قيام الساعة:

تكفل الله – عز وجل – بحفظ دستورها ومصدرها الأول، وهو القرآن الكريم، فقال عز وجل: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)( (الحجر)، فهذا وعد إلهي – مؤكد بأكثر من صيغة – بحفظ الذكر، أي القرآن، ووعد الله لا يخلف.

في حين لم يتكفل بحفظ الكتب السماوية السابقة، وإنما استحفظ عليها أهلها فقط؛ نظرا لأنها كانت أساسا لشرائع مرحلية مؤقتة، ستنسخها شرائع أخرى، آخرها الشريعة المحمدية.

وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة في الجملة، كما وضح ذلك الإمام الشاطبي في “موافقاته”، فالسنة بيان للقرآن، كما قال الله عز وجل: )وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم( (النحل: 44)، وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان، لأنه لازم له؛ ولهذا هيأ الله – عز وجل – للسنة من يذود عنها، ويرد الأباطيل عن حماها.

o    الأمة الإسلامية لا تجتمع على ضلالة؛ فلا تزال طائفة منها قائمة علي الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، كما اقتضت حكمته – عز وجل – أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها, وأن يقوم في كل عصر من يحمل علم الشريعة: ينفي عنه تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

روى أبو مالك الأشعري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة»[12].

هذا من جهة ما قدره الله لبقاء هذه الشريعة وخلودها.

  • خصائص الشريعة واستحقاقها للخلود:

أما من جهة ما شرعه الله لذلك، فقد ضمنها من الخصائص والمزايا ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان.

ولا يستطيع المؤمن بكمال علم الله – عز وجل – وحكمته، ورحمته وبره بخلقه أن يتصور أنه – عز وجل – يغلق باب النبوة دونهم، ويقطع وحيه عنهم، ثم يتعبدهم بشريعة قاصرة، تصلح لقوم ولا تصلح لغيرهم، وتصلح لزمن ولا تصلح لآخر، وتصلح لبلد ولا تصلح لغيره، مع أنهم جميعا مكلفون بأحكامها، ملزمون بأن يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويأتمروا بأوامرها، وينتهوا عن نواهيها.

إن من خطر له ذلك، فقد جهل مقام ربه، وظن به ظن السوء، وما قدر الله – عز وجل – حق قدره.

  1. شهادة التاريخ:

ومن لم تكفه شهادة الوحي على صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في كل زمان ومكان أو كفته شهادة الوحي، ولكن أراد أن يطمئن قلبه ويزداد يقينه بذلك، فليسأل التاريخ – تاريخ الأمة الإسلامية في مختلف أقطارها، ومختلف عصورها – وسيجد من حوادث التاريخ ما يطمئن قلبه، ويزداد إيمانا ويقينا بصدق هذه القضية.

إن شهادة التاريخ لنظام ما بالخلود، والصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان، مرهونة بأمرين يتمم أحدهما الآخر وهما:

  • أن تكون أصوله النظرية قد استطاعت الوفاء بعلاج الوقائع والمشكلات المتجددة طوال مراحل تاريخية مختلفة، وفي بيئات اجتماعية وحضارية متعددة، وذلك لما احتوته هذه الأصول من السعة والمرونة والخصوبة والخصائص الذاتية.
  • نجاح هذا النظام لدى تطبيقه عمليا، وقدرته على إسعاد الجماعات التي تحكم به، وتوفيره لها العدل والأمن والاستقرار والرخاء.

وكلا هذين الأمرين قد تحقق بجلاء ووضوح لشريعة الإسلام، وبيان ذلك كما يأتي:

  • كيف وسعت الشريعة كل البيئات والحضارات؟

 لقد حكمت الشريعة الإسلامية شعوب الأمة الإسلامية ثلاثة عشر قرنا دخلت فيها بلادا شتى، منها العريق في الحضارة، ومنها القريب إلى البداوة، والمتوسط بينهما، وواجهت أنظمة متفاوتة، مالية وإدارية وسياسية واجتماعية، كم واجهت أحداثا غريبة، ومشكلات جديدة، لم يكن لها نظير في العهد النبوي، ولا في أرض الحجاز، فلم يضق أفق هذه الشريعة عن إيجاد حلول ملائمة لكل تلك المشكلات والوقائع، مستمدة من نصوصها وأصولها، مقتبسة من روحها ومبادئها العامة، واستنبطها الأئمة المجتهدون من فقهاء الصحابة وتابعيهم بإحسان، ومن سار على هديهم من أئمة الاجتهاد، الذين امتلأت بهم أقطار دار الإسلام، والذين أجمعوا – على اختلاف مشاربهم ومدارسهم – على أن لكل حدث وكل فعل من أفعال المكلفين حكما في الشريعة أصابه من أصاب، وأخطأه من أخطأ، وأن هذه الشريعة العامة الخالدة يستحيل أن تضيق نصوصها وقواعدها عن تصرف من التصرفات فلا تصدر فيه حكما.

تقول المذكرة الإيضاحية للقرار الصادر في “الجمهورية العربية الليبية” بتشكيل لجان لمراجعة التشريعات، وتعديلها بما يتفق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية: “والفقه الإسلامي بجميع أحكامه قد عاش قرونا متطاولة، الأمر الذي لم يظفر به ولا بما يقرب منه أي تشريع في العالم، فمن المعلوم أن فقه التشريعات الغربية في أوربا وأمريكا وليد قرن وبعض قرن من الزمان، منذ أن فصلوا أمور الدين عن أمور الدنيا، أما التشريعات الروسية فوليدة نصف القرن الأخير؛ إذ إن التجربة الروسية الشيوعية بدأت بعد سنة 1917م[13].

أما الفقه الإسلامي فله أربعة عشر قرنا، ولقد طوف في الآفاق شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ونزل السهول والوديان، والجبال والصحاري، ولاقى مختلف العادات والتقاليد، وتقلب في جميع البيئات، وعاصر الرخاء والشدة، والسيادة والاستعباد، والحضارة والتخلف، وواجه الأحداث في جميع هذه الأطوار، فكانت له ثروة فقهية ضخمة لا مثيل لها، وفيها يجد كل بلد أيسر الحلول لمشاكله.

وقد حكمت الشريعة الإسلامية في أز هي العصور، فما قصرت عن الحاجة ولا قعدت عن الوفاء بأي مطلب، ولا تخلفت بأهلها في أي حين…”[14].

وإذا كان هذا ما قالته المذكرة الليبية من واقع استقراء شامل لأحكام الشريعة، فلن يبعد كلام مستقرئ آخر عن هذا الحكم المنصف إذا تحرى ودقق ولن نصادر عليه، وحسبنا أن شريعتنا تستمد قوتها من ذاتها وليس من المنتسبين إليها.

  1. شهادة الواقع

أما شهادة الواقع على صلاح الشريعة الإسلامية فيدل عليها عدة أمور، منها:

  • إخفاق العلمانيين:

إن البلاد التي أعرضت عن الشريعة إعراضا تاما، وأعلنت علمانيتها الكاملة، لم تجن من وراء ذلك إلا الخيبة والتفسخ والإخفاق في شتى مجالات الحياة.

وأبرز مثل لذلك دولة تركيا العلمانية: تركيا أتاتورك الذي خلع البلد المسلم من شريعته بالحديد والنار، وأجبره على السير في طريق الغرب، حذو النعل بالنعل، وعارض قطعيات الشرع الإسلامي معارضة ظاهرة، فلم تربح تركيا من وراء ذلك إلا بقاءها ذيلا للمعسكر الغربي في تشريعها وسياستها واقتصادها، بعد أن كانت قوة عالمية لها وزنها ولها خطرها.

وها هي الآن تمزقها الصراعات بين اليمين واليسار، والولاءات بين الغرب والشرق، ويحاول المخلصون من أبنائها مستميتين أن يعودوا بشعبهم إلى ما يؤمن به ويستكن في أعماقه، من احترام الإسلام وحب الإسلام وشريعة الإسلام.

  • آثار تطبيق الحدود الشرعية:

إن أكثر ما يتعرض لحملات الطاعنين على الشريعة هو الحدود التي جاء بها كتاب الله واضحة بينة، وبخاصة حد السرقة المذكور في قوله عز وجل: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)( (المائدة).

ولكن الواقع يرينا رأي العين كيف أقام بلد مسلم – المملكة العربية السعودية – هذا الحد فحقق للمجتمع أمنا لا نظير له، حتى إن الرجل ليدع متجره مفتوح الأبواب، ويذهب إلى صلاته أو عمل له بلا حارس، ولا يسرق منه شيء، برغم ما كان يعاني هذا البلد نفسه – قبل إقامة الحدود – من الرعب واختلال الأمن، نظرا لكثرة اللصوص وقطاع الطريق، وبرغم الأمية التي لا تزال فاشية، وبرغم الزحام الهائل الذي يشهده هذا البلد في موسم الحج والعمرة، وبرغم التقصير في كثير من تعاليم الإسلام الأخرى، وما ثمن هذا الأمن الرائع، وهذه الطمأنينة المنقطعة النظير؟

إن هذا الثمن ليس أكثر من بضعة أيد قطعت تنفيذا لأمر الله جزاء بما كسبت، بعد أن تحققت كل أركان الجريمة، وتوافرت كل الشروط، وانتفت كل الشبهات.

بضعة أيد قطعت، فصينت بقطعها أموال وحرمات، ودماء وأرواح كانت تذهب على أيدي اللصوص الخطرين الذين لا يرعون لأحد حرمة، ولا يبالون بما ارتكبوا من جرح وقتل، وفي سبيل النجاة بأنفسهم من الوقوع تحت طائلة القانون.

بضعة أيد قطعت – يذهب أضعافها في حوادث المواصلات أو حوادث النزاع والصراع – فأزالت رعب الناس من هجمات اللصوص المحترفين، الرعب الذي يشكو منه الناس في كل مكان، حتى في أكثر بلاد الدنيا ثروة ومدنية: في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يشهد بذلك كل من زارها في الآونة الأخيرة، وكما تعبر عن ذلك الأرقام والإحصاءات المنشورة.

بضعة أيد قطعت بحكم الشرع، أمنت الناس على بيوتهم ومتاجرهم وأنفسهم وأموالهم، كما يشهد بذلك العدو والصديق.

هذا مع أن بلادا إسلامية أخرى تعاني أشد المعاناة من مآسي اللصوص والنشالين المعروفين للحكومة، ولجهات الأمن، بأشخاصهم وأسمائهم وعناوينهم وسوابقهم، ولكنها تقف حيالهم مكتوفة اليدين، عاجزة كل العجز؛ لأنهم عوقبوا بالسجن أكثر من مرة، فخرجوا منه أشد ضراوة، وأعظم خبرة في فنون السطو والنشل والسرقات، حتى أصبح السجن وكأنه معهد خاص أعد لتدربيهم على أعلى مستويات الإجرام ودرجاته؛ نتيجة التلاقي الطويل الذي يحكي فيه كل مجرم خبرته لزميله.

  • سبق الشريعة بأحدث النظريات القانونية:

ومن شهادة الواقع بخلود هذه الشريعة وصلاحيتها: أن النظريات والمبادئ القانونية التي يباهي بها العصر الحديث، وتزهى به فلسفات القانون وأنظمته، قد سبقت بها الشريعة وأرست قواعدها، وقام على ذلك فقهها وتشريعها وقضاؤها، وحفل بذلك تاريخها.

ونخص بالذكر في هذا السياق مبادئ العدالة الضريبية، وهي من المبادئ أو النظريات التي زعموا أنها من نتاج العصر الحديث وحده وهو ما يسمونه “مبادئ العدالة الضريبية”، ونعني بذلك: القواعد الأربع التي ينسبون اكتشافها إلى آدم سميث، والتي صارت فيما بعد “دستور العدل الضريبي”، وهذه القواعد هي: اليقين، والملاءمة، والاقتصاد، والعدالة؛ فالإسلام قد سبق خبراء المالية والاقتصاد المحدثين باثني عشر قرنا، وعرف هذه القواعد، وطبقها تطبيقا سليما عادلا.

وفي قاعدة “العدالة ” نذكر ستة مبادئ أساسية سبق بها الإسلام و هي:

o      التسوية بين المكلفين في وجوب الزكاة؛ فلا يعفى منها فرد ولا طبقة ولا جنس، مادام مالكا لنصابها بشروطه.

o      إعفاء ما دون النصاب، وهو يمثل الحد الأدنى للغني المعتبر شرعا.

o  منع ازدواج الزكاة، كما في حديث: “لا ثني في الصدقة”. [15] فلا يجوز إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد، ولهذا المبدأ فروع وتطبيقات شتى في الفقه الإسلامي.

o  اختلاف مقدار الزكاة باختلاف الجهد، وأوضح مثل له إيجاب العشر في الزروع والثمار إذا سقيت بغير آلة، ونصف العشر إذا سقيت بآلة… وهذا أمر لم يلتفت إليه – فيما نعلم – غير الشريعة الإسلامية.

o  مراعاة الظروف الشخصية لمالك نصاب الزكاة، ولم تقصر النظر على عين المال، كما كان رجال المالية وجباة الضرائب قديما، ومن هنا أعفت الشريعة الحاجات الأصلية من الدخول في وعاء الزكاة، أو ما يسمى الآن الحد الأدنى للمعيشة أو حد الكفاف، ومثل ذلك إعفاء المدين إن كان دينه يستغرق النصاب أو ينقصه، وإلا خفف عنه بمقدار دينه… إلى غير ذلك من الأحكام.

o  وأخيرا تأتي العدالة في التطبيق، باختيار العاملين على الزكاة من الصالحين الأقوياء الأمناء وتوجيههم وتحصينهم وحسن الرقابة عليهم.

ومن التفريع على ما ذكرناه هنا: أن كثيرا من الأحكام والنظريات التي جاءت بها هذه الشريعة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وكانت في وقت ما موضع ارتياب أو اتهام من خصوم الشريعة، لم تجد البشرية بدا من اللجوء إليها؛ تحقيقا للعدل ورفعا للضرر والظلم عن الأفراد والمجتمعات، وهذا ما يؤكد صدقها وربانيتها من جانب، وصلاحيتها ومرونتها من جانب آخر, وأبرز مثل لذلك مبدآن مشهوران هما:

o  الطلاق: الذي اضطرت دول الغرب كافة إلى الاعتراف به، وآخرها تلك الدولة الكاثوليكية[16] العريقة و هي: إيطاليا، وقد عقد في “لاهاي” سنة 1986 مؤتمر للقانون الدولي الخاص، الدورة الحادية عشرة، فكان مما تناوله البحث إعداد معاهدة الاعتراف بالطلاق والتفريق القانوني على المستوى الدولي، وهذا معناه الرجوع إلى حكم الإسلام.

o  الربا: الذي زعموا في وقت من الأوقات أن عجلة الحياة الاقتصادية لا تدور إلا به، حتى قام من كبار الاقتصاديين في الغرب من ينقض فكرة الربا من أساسها باسم العلم والاقتصاد نفسه، لا باسم الدين والإيمان، ولعل أشهر اسم يذكر في هذا الصدد هو اسم الاقتصادي البريطاني الشهير “كينز”، الذي قرر أن المجتمع لا يصل إلى العمالة الكاملة إلا بالقضاء على سعر الفائدة[17].

ويضيف د. القرضاوي أمرا آخر، وهو نجاح الشريعة الإسلامية في إسعاد المجتمعات التي التزمتها، وعملت بموجبها، وتحقيق الخير لها، فقد ساد في ظل هذه الشريعة – يوم كانت لها الكلمة العليا – الحق والخير، وانتشر العدل والأمن، وشاع الإخاء والحب، وعم الرخاء والازدهار، وهذا من أبرز الأدلة على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.

وفي ظل شريعة الإسلام نشأ “الإنسان الصالح”، الذي يعرف حق ربه عليه، فيعبده بإقامة شعائره، وتنفيذ شرائعه، كما يعبده بالعلم النافع والعمل الصالح، ويعرف حق نفسه فيمتعها بالطيبات، ويزكيها بالصالحات، ويعرف حق مجتمعه عليه، فيعطيه كما يأخذ منه، ويوصيه – كما يقبل الوصية منه – بالحق والصبر، ويعاونه – كما يستعين به – على البر والتقوى.

وقد هدت الشريعة الإسلامية الإنسان إلى أن عليه واجبات كما أن له حقوقا، وأن عليه أن يؤدي واجبه، كما أن له أن يطالب بحقه، وركزت على فكرة ” الواجبات ” أكثر من تركيزها على فكرة ” الحقوق “؛ لأن حقوق الإنسان إنما هي في الواقع واجبات على غيره، ولن ترعى هذه الحقوق إذا كان الآخرون لا يهتمون بأداء الواجبات؛ لهذا كان المجتمع الإسلامي مجتمع واجبات، وبعبارة أخرى مجتمع ” مكلفين ” كما يعبر الفقه الإسلامي، فكل العقلاء في هذا المجتمع مكلفون، أي: مسئولون مطالبون وليسوا مجرد سائلين مطالبين، كما هي آفة العصر الحديث، الذي يقول كل امرئ فيه: لي كذا ولي كذا، ولا يقول: علي كذا وكذا.

ولا غرو ــ في مجتمع هؤلاء أفراده وهذا سمتهم ــ أن ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة في بلاد الإسلام، وعمرت الأرض، وعم الرخاء، وكثرت الخيرات، وأكل الناس من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

ولم يسع مؤرخ الحضارة “ول ديورانت”، رغم سوء فهمه لموقف الإسلام في بعض الأحيان، وتحامله في أحيان أخرى، إلا أن يسلم بأن الخلفاء الأولين – من أبي بكر – رضي الله عنه – إلى المأمون – قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإسلامية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحكام في التاريخ كله، ولقد كان في مقدورهم أن يصادروا كل شيء، أو أن يخربوا كل شيء كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين، لكنهم لم يفعلوا هذا، بل اكتفوا بفرض الضرائب، ولما أن فتح عمرو مصر أبى أن يستمع إلى نصيحة الزبير حين أشار عليه بتقسيم أرضها بين العرب الفاتحين، وأيده الخليفة في هذا الرأي، وأمره أن يتركها في أيدي الشعب يتعهدها فتثمر، وفي زمن الخلفاء الراشدين مسحت الأراضي، واحتفظت الحكومة بسجلاتها، وأنشات عددا كبيرا من الطرق وعنيت بصيانتها، وأقيمت الجسور حول الأنهار لمنع فيضانها، وكانت العراق قبل الفتح الإسلامي صحراء جرداء، فاستحالت أرضها بعد جنانا فيحاء، وكان كثير من أرض فلسطين قبيل الفتح رملا وحجارة، فأصبحت خصبة غنية، عامرة بالسكان.

وما من شك في أن استغلال المهرة والأقوياء للسذج والضعفاء بقي في عهد الحكومات الإسلامية كما بقي في عهود كل الحكومات، ولكن الخلفاء قد أمنوا الناس إلى حد كبير على حياتهم وثمار جهودهم، وهيئوا الفرص لذوي المواهب، ونشروا الرخاء مدى ستة قرون، في أصقاع لم تر قط مثل الرخاء بعد عهدهم، وبفضل تشجيعهم ومعونتهم انتشر التعليم، وازدهرت العلوم والآداب والفلسفة والفنون ازدهارا جعل آسيا الغربية مدى خمسة قرون أرقى أقاليم العالم كله حضارة.

  • العدل المؤدي لمساواة لا تعتد بالفوارق ولا تعترف بالطبقات:

وفي ظل شريعة الإسلام ساد العدل، ونعم بخيره الناس جميعا، فقانون الشرع ملزم لكل من جرت عليه أحكام الإسلام، لا يظلم أحدا أو يحابي لأجل دينه أو طبقته الاجتماعية، أو أسرته، أو غناه أو فقره، أو لونه أو لغته.

ذلك لأن عدل الإسلام هو عدل الله، والله لا يظلم أحدا من عباده، فردا أو جماعة، بل هو الحكم العدل، وقد نزلت آيات خالدة في كتاب الله، تدافع عن يهودي اتهم بجريمة ظلما وهو بريء منها.

ولم تعرف الدنيا قضاء كالقضاء الإسلامي يعامل أمامه الخليفة – أمير المؤمنين – كما يعامل كافة أفراد الشعب، ويجري عليه ما يجري عليهم، وقد يحكم عليه القاضي لخصم يهودي أو نصراني، بل هو ما سجله تاريخ القضاء الإسلامي في وقائع شتى تظل غرة في جبين الدهر.

وفي ظل شريعة الإسلام سعد الناس بمساواة قانونية واجتماعية قل أن عرف التاريخ لها مثيلا، فلقد أبطل الإسلام كل الفوارق التي تميز بين الناس: من الجنس واللون واللغة والنسب والأرض والطبقة والمال والجاه، وربط هذه المساواة بشعائره اليومية والأسبوعية والسنوية، ليتأكد للناس أنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، ولهذا لم يعرف المجتمع الإسلامي التمييز العنصري أو اللوني أو الطبقي الذي عرف في مجتمعات أخرى شرقية وغربية.

ولا عجب أن رأينا عمر – رضي اله عنه – يقول عن بلال الحبشي: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا»، يعني: بلالا رضي الله عنه [18].

ورأينا حكم الشريعة يطبق على الجميع، لا يعفى شريف لشرفه، ولا يرهق ضعيف لضعفه، بل قال النبي – صلى الله عليه وسلم – قولته المشهورة: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[19].

يقول غستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، و هي ليست إلا حضارة الإسلام: ونختم قولنا في نظم العرب الاجتماعية بأن نذكر أن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة، وفقا لنظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا – قولا، لا فعلا – راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب، ولا يزال يؤدي، وليس من الصعب أن ترى في الشرق خادما زوجا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان.

وفي ظل شريعة الإسلام وحكم الإسلام ساد التكافل الاجتماعي الشامل، الذي قام على حراسته إيمان الأفراد المسلمين، وسلطان الدولة المسلمة.

 تكافل بين أبناء الأسرة والعشيرة، وتكافل بين أبناء الحي، وتكافل بين أبناء القطر أو الإقليم الواحد، وتكافل أوسع وأكبر، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فهي أمة واحدة، يشد بعضها أزر بعض، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

لقد رأينا هذا التكافل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث بعث سعاته وعماله إلى كافة القبائل والأقطار التي دخلها الإسلام، وأمرهم أن يأخذوا الزكاة من أغنيائهم ليردوها على فقرائهم، وكان الساعي أو العامل منهم يذهب، فيجمع الزكاة ثم يتركها في موضعها، فلا يعود إلا بحلسه أو عصاه.

  • التسامح مع المخالفين:

وفي ظل شريعة الإسلام ربحت البشرية مبدءا أخلاقيا من أعظم المبادئ في العلاقات الإنسانية والدولية، هذا المبدأ هو: التسامح مع المخالفين في الدين.

ينقل غوستاف لوبون عن عدد من المؤرخين الأوربيين ما يثبت هذه الحقيقة التاريخية بكل تأكيد، فيقول: قال روبرتسون في كتابه ” تاريخ شارلكن “: “إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم[20] الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية”.

  • حضارة العلم والإيمان:

وفي ظل شريعة الإسلام قامت حضارة زاهرة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الدين والدنيا.

كان للعلم في الحضارة مكان بارز، وسلطان مبين، ولم تعرف ما عرفته حضارات أخرى من النزاع بين العلم والدين، بل كان كثير من فقهاء الدين علماء مبرزين في علوم الكون والحياة، كما كان كثير من أساطين الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من أكابر علماء الدين، وهل كان ابن رشد وابن خلدون إلا فقيهين وقاضيين من قضاة الشريعة الإسلامية؟ [21].

ومن كل ما سبق يتضح أن الشريعة الإسلامية في جانبها العملي ناجحة وصالحة، كما كانت في جانبها النظري، شهد بذلك الوحي والتاريخ والواقع والمنصفون من علماء الغرب، ودعمته المشاهدة.

الخلاصة:

  • الدراسة العلمية والمنطق يقتضيان القول بتفوق الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية وبصلاحيتها لهذا العصر وغيره من العصور.
  • وجه الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء المدعون هو قياس القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر بالشريعة الإسلامية التي وضعها خالق البشر، فهم حين يقيسون، إنما يقيسون الأرض بالسماء، والناس برب الناس، فكيف يستوي في عقل عاقل أن يقيس نفسه بربه وأرضه بسمائه؟!

فإذا انعدمت المساواة فلا قياس، وكان القياس باطلا للاختلافات الآتية:

  • القانون من صنع البشر، ويتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم؛ لذا فهو عرضة للتغير والتبديل، أما الشريعة فصانعها هو الله، لذا تتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن؛ لذا فهي صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن علمه أحاط بكل شيء.
  • القانون هو قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وتسد حاجاتها المؤقتة، فهي تتغير وتتطور مع تغير حال الجماعة، أما الشريعة فقواعد وضعها الله – عز وجل – على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة؟ فقواعدها دائمة لا تقبل التغيير والتبديل، وهذه ميزة تتميز بها الشريعة من الوجهة المنطقية؛ لأن قواعدها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة؛ ولأن قواعدها ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر عن مستوى الجماعة ومتطلباتها واحتياجاتها.
  • الجماعة هي التي تصنع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها، والأصل في القانون أن يوضع لتنظيم شئون الجماعة ولا يوضع لتوجيه الجماعة، لذا كان القانون متأخرا عن الجماعة وتابعا لتطورها.

أما الشريعة فليست من صنع الجماعة إنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعه؛ وبهذا تكون الجماعة نفسها من صنع الشريعة؛ لأن المقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة والدولة المثالية والعالم المثالي؛ لذا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها ولا تزال كذلك حتى اليوم، وبذلك حققت الشريعة ما أراده لها العليم الخبير، فأدت رسالتها أحسن الأداء، وجعلت من رعاة الإبل سادة العالم، ومن جهال البادية معلمين وهداة للإنسانية.

  • الثبات والمرونة جوهر الشريعة الإسلامية، فالإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع فيه عنصر الثبات والخلود، وعنصر المرونة والتطور معا، وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان؛ فالثبات يكون على الأهداف والغايات والأصول والكليات والقيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الوسائل والأساليب وفي الفروع والجزيئات وفي الشئون الدنيوية والعملية.
  • الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وقد دلت على ذلك البراهين القاطعة من منطق الوحي ومنطق التاريخ ومنطق الواقع.
  • على المشككين في صلاحية نصوص شريعة الله لكل زمان ومكان أن يعترفوا بأن العقل الذي خلقه الله للبشر، والعلم الذي حضهم عليه، ودعاهم إلى التزود به، هو نفسه الذي كشف عن حقيقة الثبات في جوهر الإنسان إلى جوار ظاهرة التغير التي تتصل بالجانب العرضي من حياته، وهذا لا يناسبه إلا الشريعة الإسلامية الموافقة لفطرة الإنسان وطبيعته التي خلقه الله – عز وجل – عليها.

(*) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م.

[1]. الحيل: جمع حيلة، وهي اسم من الاحتيال، وهي التي تحول المرء عما يكرهه إلى ما يحبه، وهي في الأصل: تصرف يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب استعمالها في الطرق الخفية التي يتوصل بها المرء إلى غرضه، بحيث لا يدرك الناس مقصده إلا بشيء من الذكاء والفطنة.

والمراد بالحيل الممنوعة: هي التصرفات المشروعة في ذاتها إذا أتى بها المرء ليبطل حكما شرعيا؛ كمن يهب ماله قبيل حولان الحول لمن يثق برده إليه؛ فرارا من وجوب الزكاة عليه.

[2]. لمزيد من التفصيل في هذا الشأن ينظر: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1, ص 25: 62.

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، (2867)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من بني في حقه ما يضر بجاره (2341)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (896).

[4]. العلمانية: قيل: إن ترجمتها الصحيحة “اللادينية” أو “الدنيوية”، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدا عن الدين، ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة.

[5]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان، (1/130). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (51).

[6]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ج1، ص13: 25 بتصرف.

[7]. التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1406هـ/ 1986م، ص62, 63.

[8]. نريد بالشريعة ـ هنا ـ ما هو أعم من ” الجانب القانوني ” في رسالة الإسلام، بل المراد، ما بعث الله به محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عقائد، وعبادات, ومعاملات، وأخلاق، وغيرها، كما عرفها بذلك التهانوي في كتابه “كشاف اصطلاحات العلوم والفنون” (د. القرضاوي).

[9]. التعزير: هو تأديب دون الحد، وهو عقوبة غير مقدرة شرعا جعلت بيد الحاكم يجعله عقوبة مناسبة لكل جناية لم تكن لها عقوبة مقدرة شرعا بضوابط التعزير.

[10]. مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1426هـ/ 2005م، ص243: 248 بتصرف.

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (3341)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين (6101)، واللفظ له.

[12]. حسن: أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (79)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1331).

[13]. وقد انتهت التجربة الشيوعية بالإخفاق والفشل، وتحرر من نيرها، بعد ثلاث وسبعين سنة فقط من معايشتها، أي في سنة 1990م؛ لأنها كانت ضد فطرة الإنسان، وحبه للعيش في ظل الكرامة والحرية ورعاية الدوافع الفطرية، والحقوق البشرية.

[14]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص11: 17 بتصرف.

[15]. أخرجه القاسم بن سلام في كتاب الأموال (781).

[16]. الكاثوليك: أكبر الكنائس النصرانية في العالم، وتدعي أنها أم الكنائس ومعلمتهم، ويقال أن مؤسسها بطرس الرسول، وتتمثل في عدة كنائس تتبع الكنيسة الغربية أو اللاتينية؛ لامتداد نفوذها إلى الغرب اللاتيني خاصة.

[17]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص57: 63 بتصرف.

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر رضي الله عنهما (3544).

[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3288)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود (4505).

[20]. امتشق: اختلس واختطف.

[21]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص18: 36 بتصرف.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض الناس وجوب فصل الدين الإسلامي وتشريعاته عن الدولة وكيانها، ودليلهم أن الإسلام دين شعائر، وطقوس دينية فحسب، ومن ثم فهو تشريع يوصف في ظنهم بالمحدودية والخصوصية، هادفين من وراء ذلك إلى القول بعدم صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في الوقت الراهن.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  فصل الدين عن الدولة له جذور تاريخية، وأبعاد سياسية لا علاقة لها بالتشريع الإسلامي وأصالته.

2) طبيعة الدين الإسلامي لا ترتضي فصله عن الدولة، فهو الدين الخاتم المهيمن على الشرائع السابقة والناسخ لها، وشريعته متكاملة وافية بجميع الأحكام التي يحتاج إليها الناس، فهي منظومة متكاملة تشمل جميع شئون حياتهم.

3) الشمول من الخصائص التي تميز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، فهو شمول يستوعب الزمان كله، والحياة كلها، بل كيان الإنسانية كله.

4) النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته، وفي حقيقته هذه يختلف عن الشمول في الأنظمة الأخرى التي تتسم بالتسلط والقهر لأبنائها.

التفصيل:

أولا. ظهور فكرة فصل الدين عن الدولة لا علاقة لها بالإسلام:

إن ظهور فكرة فصل الدين عن الدولة لا علاقة لها بالإسلام على الإطلاق؛ لأنها ظهرت في أوربا في سياق تاريخي خاص يحدثنا عنه الأستاذ عادل عباس قائلا: “ظهرت وتبلورت فكرة فصل الدين عن سياسة الدولة في أوربا… التي مرت عبر تاريخها الطويل بحروب وصراعات حادة ومريرة، أوصلت المجتمعات الأوربية – بل والقارة كلها – إلى حافة الفوضى والاضطراب، وقد مر هذا الصراع ما بعد مرحلة اللاعقلانية بثلاث أحقاب تاريخية مختلفة:

  1. عصور الإمبراطورية الرومانية القديمة وفيه ظهرت نواة الدين المسيحي.
  2. العصور الوسطى المسيحية التي تميزت بثنائية العلاقة ما بين الدولة والدين “الكنيسة”.
  3. عصور النهضة الفكرية والعلمية والاقتصادية في أوربا؛ حيث تبلورت وطبقت فيها فكرة فصل الدين عن الدولة، وتطورت بعد ذلك إلى العلمانية بمفهومها الواسع.

في الحقبة الأولى: لم ترتبط الإمبراطورية الرومانية القديمة – التي تعتبر لأوربا مثالا يحتذى بخصوص مفهوم الدولة والقانون والفلسفة – بأي سيطرة دينية، والتي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، وتميزت ببروز فلاسفة كبار، مثل: سقراط الحكيم وأفلاطون وأرسطو، وكان تماسك الإمبراطورية الرومانية الواسعة المساحة يعتمد على مؤسسات الدولة والقانون وقدرات الجيش الروماني العسكرية، وعلى إدارة مركزية فعالة، وكذلك على الوعي الحضاري لشعوب الإمبراطورية، وقد أظهر الجيش الروماني في غزواته العسكرية الواسعة كثيرا من التسامح حيال المعتقدات الدينية للشعوب المحتلة.

ظهرت الديانة المسيحية آنذاك بين مجموعة صغيرة في أطراف الإمبراطورية الرومانية، وأخذت في الانتشار السريع بعد موت النبي عيسى – عليه السلام – الذي أصبح حيا في نفوس الآلاف من الناس، واتسعت رقعة الدين المسيحي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية ” أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله “؛ ليصبح بعد مئات السنين جزءا من الاضطهاد والملاحقة الدموية… فمن أراد أن يكون مواطنا في هذه الإمبراطورية كان عليه أن يكون مسيحيا.

الحقبة الثانية: بدأت بحلول القرن الخامس بعد الميلاد، وتميزت بتبلور دور الكنيسة البابوية وزيادة تأثيرها على عامة الناس؛ بحيث وصل مستوى نفوذها إلى نفس مستوى نفوذ القيصر، وفي هذه الحقبة أصبحت العلاقة بين الطرفين – الدولة والكنيسة – علاقة تكاملية يعتمد فيها الواحد على الآخر، ويشكلان سويا قوة كبيرة لا تضاهيها أي قوة أخرى.

إن السلطة القيصرية والسلطة الربانية للكرادلة[1] والأساقفة[2] هما القوتان اللتان حكمتا العالم آنذاك، وفي عام 1122م جرى الاتفاق بين البابا والقيصر على توقيع وثيقة “Concordat” تنظم عمل الطرفين، وعلى ضوء هذا الاتفاق جرى تنظيم حملات الحروب الصليبية التي كانت من أكثر مراحل التبشير والتوسع دموية وقساوة، وفي هذه الحقبة كان التطور الثقافي والعلمي بطيئا، عانى فيه المفكرون القتل والاضطهاد والملاحقة,و في الجانب الآخر أصبح الطرفان قوة كبيرة وقاسية جدا؛ بحيث استحوذا على معظم الأراضي الزراعية والسكنية مع نظام إقطاعي[3] صارم، بالمقابل كان هناك – وفي كل أوربا – تنام مستمر للمعارضة ضد القيصر والكنيسة… في المدن كان هناك تقدم علمي وثقافي وتقني بها، يقابله تنام مستمر وازدهار للبرجوازية[4] والحرفيين الذين بدأوا يطالبون بحرية اقتصادية أكبر مدعومين من أمراء المقاطعات المختلفة.

أما داخل الكنيسة فكانت المعارضة ضد الكرادلة والأساقفة الأغنياء قد وصلت إلى أعلى حد، وبالذات من الأساتذة المتنورين العاملين في الكنيسة نفسها، مثل: مارتن لوثر(1483م – 1546م)، الذي بدأ حركته الإصلاحية في ألمانيا عام 1517م، كان لوثر يرى في الغنى الفاحش والقدسية المعصومة عن الخطأ للبابا شيئا يتناقض وتعاليم الدين المسيحي التي جاءت لإنقاذ الفقراء والمستضعفين، كما أعلن وقوفه ضد صكوك الغفران التي كانت الكنيسة تبيعها على العامة باعتبارها خدعة هدفها كسب الأموال ليس إلا… في مثل هذه الظروف اتحدت مصالح المعارضة البروتستانتية[5] داخل الكنيسة مع مصالح الفلاحين الذين عانوا الأمرين من النظام الإقطاعي ومصالح حرفيي المدن الآخذة بالاتساع,و كان السؤال الذي طرح نفسه آنذاك، إلى جانب من يقف القيصر؟

قرر القيصر الوقوف إلى جانب الكنيسة، ودخلت أوربا بعد هذا القرار حربا دينية ضروسا بين الكاثوليك والبروتستانت في وسط أوربا، والتي دامت مائة عام، كانت مخلفاتها كارثة على شعوب أوربا كلها، ولكن في الجانب الآخر ولدت القناعة لدى الأطراف المتحاربة بضرورة تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة، ورفض التزمت في الآراء ومحاولة فرضها بالإكراه على الطرف الآخر.

أما الحقبة الثالثة: فمهمة جدا في تاريخ أوربا الحديثة – والتي قامت على أنقاض الحروب الدينية الدموية – فإنها تمثل عهد التنوير[6] – القرن السادس والسابع عشر – والتطور العلمي والثقافي، وبروز مفكرين ورواد تنوير كبار أمثال: جون لوك (1632 – 1704)، وإيمانويل كانط (1724 – 1804)، وفولتير (1694 – 1778)، وآدم سميث (1723 ـ1790) وغيرهم من الذين جعلوا من الإنسان قيمة بحد ذاته.

في هذه المرحلة جرى التأكيد والدعوة لبناء منظومة من التعاليم دعت إلى التسامح والمساواة في الحقوق بين الأديان المختلفة، إن تحكيم العقل واعتماد التطور العلمي والثقافة والفلسفة بدلا من العقلية الغيبية أو الميتافيزيقية، كانت الصفة المميزة لهذه المرحلة، والتي بدأت تأخذ مساحة كبيرة في التأثير على سياسة الدولة.

وكانت الولايات المتحدة منذ بداية تكونها – 1776م – دولة علمانية، فقد كان الدستور الأمريكي لسنة 1789م من الدساتير الأولى التي أقرت بأن الدين مسألة شخصية، وجرى الفصل بين الدين والدولة، مع التأكيد على حرية واحترام الأديان باعتبارها إحدى حقوق الإنسان الأساسية، أما في فرنسا فقد كان مبدأ فصل الدين عن الدولة إحدى نتائج الثورة الفرنسية (1789)؛ حيث حسم الأمر بأن فقدت الكنيسة – باعتبارها ممثلة للنظام الإقطاعي والتعصب الديني – ليس سطوتها فحسب، بل فقدت أيضا سيطرتها على ممتلكاتها من الأراضي، وكان من تداعيات هذه التطورات أن بدأت المجتمعات الأوربية تخطو بشكل حثيث باتجاه تثبيت هذا المبدأ في دساتيرها، والذي كان يمثل بحق بدايات الحكم المدني، لقد استطاع العالم الأوربي أن يبني منظومة سياسية واقتصادية وثقافية متطورة بعيدة عن التأثير المباشر للدين، وأخذ تأثير التنوير والحداثة[7] والعقلانية[8] يدفع بجذوره عميقا داخل المجتمع[9].

وعلى هذا يتأكد لنا أن فصل الدين عن الدولة موضوع لا علاقة له بالدين الإسلامي، فهو في جذوره وأصل منشئه نابع عن دين آخر ومجتمع آخر وظروف أخرى.

 وعليه؛ فالإسلام لا يمكن أن يحمل على عاتقه هذه القضية التي نبتت في غير أرضه ورعاها غير أبنائه، فلا فصل للدين عن الدولة في ظل الإسلام.

ثانيا. طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة:

طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة، فهو يحمل في طياته كل صغيرة وكبيرة عن أمور الإنسان على مدار الزمن من قبل ميلاده إلى ما بعد وفاته، وفي جميع أحواله (فردا ومجموعة ودولة وأمة) وإذا تساءل متسائل: لماذا يحمل الإسلام في طياته كل هذا؟

نقول: إن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وأخبر أنه لا يقبل من أحد سواه، قال عز وجل: )إن الدين عند الله الإسلام( (آل عمران: 19)، وقال عز وجل: )ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)( (آل عمران)، وشريعة الإسلام هي الشريعة المهيمنة الناسخة لما قبلها من الشرائع، وقد أمر الله أن يكون الاحتكام ورد النزاع إليها، فقال عز وجل: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم( (المائدة48)، ومنع أهل الإسلام من اتباع شيء غير شريعته، فقال عز وجل: )اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء( (الأعراف: 3)، وهذا يعني أن الشريعة وافية بجميع الأحكام التي يحتاجها الناس، وأنها تنظم جميع شئون حياتهم، وإلا لما أحال الله إليها وحرم اتباع غيرها.

فالشريعة لا تشتمل على المسائل والأحكام التي يحتاجها الناس من الشعائر التعبدية؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقط، بل إنها تنظم أمور الحياة كلها من سياسة واقتصاد واجتماع وغير ذلك، فكيف ينكر شمول الدين للسياسة وحكمه فيها وخضوعها له؟!

ومن تأمل القرآن والسنة – اللذين هما أصل هذه الشريعة – رأى شمولهما لجميع ما ذكر:

  • ففي القرآن والسنة ذكر الشعائر التعبدية من صلاة وغيرها.
  • وفيهما بيان طبيعة الحكم والتشريع، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، من وجوب الطاعة بالمعروف، وحق الأمة في الاختيار، وبيان حالات العزل وغير ذلك.
  • وفيهما بيان أحكام العلاقات الدولية من حرب وسلم وهدنة، وبيان أحكام الجهاد، ومراحله وأهدافه، وأحكام البلدان المفتوحة وطريقة التعامل مع أهلها.
  • وفيهما بيان أحكام الجنايات والحدود، كحد الردة والزنا والسرقة والخمر والقصاص وغير ذلك.
  • وفيهما تنظيم شئون الاقتصاد، وبيان ما يحل وما يحرم من المعاملات، وطرق الاستثمار المباحة.
  • وفيهما تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، وداخل الأسرة، وبين الرجل وزوجته.

وبالجملة فما من حكم شرعي يحتاجه رجل أو امرأة أو صغير أو كبير أو حاكم أو محكوم في شأن عبادة أو معاملة داخلية أو خارجية إلا وبيانه وتفصيله موجود في هذه الشريعة بمصدريها الأساسين – القرآن والسنة – وما تفرع عنهما من إجماع وقياس، أو غيرهما من الأدلة المعتبرة.

ومن رأى القرآن مصدرا صالحا لتلقي أحكام العبادات دون المعاملات، أو أحكام العبادات والمعاملات دون الجنايات والحدود، فقد آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وهذه هي العلمنة الصريحة، والردة السافرة، كما قال الله عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة).

على أنه ينبغي أن نفرق بين الإسلام بشريعته الشاملة الكاملة، وبين ممارسات بعض المسلمين وأخطائهم، فإن وجد من يعتقد شمول الإسلام للعبادة والسياسة، والدين والدولة، ويدعو إلى ذلك، مع اتصافه بالنفاق والكذب، فهذا لا يكون مسوغا ومبررا في القدح والطعن في صحة ما يدعو إليه، بل الواجب دعوته إلى أخذ الدين كله، وتحذيره من مخالفة شيء منه، سواء في أبواب العبادات أو المعاملات أو السياسة أو سائر شئونه.

وقد كان بين المسلمين في العهد الأول من ينسب إلى الإسلام وهم منافقون كافرون، يتربصون بالمسلمين الدوائر، لكن وجود هؤلاء لم يكن ليسوغ لأحد أن يتهجم على الإسلام ومبادئه وثوابته.

ومن الثابت تاريخيا وواقعيا أن كل دين ونحلة ومذهب، يتفاوت أهله في صدقهم والتزامهم.

ثالثا. الشمول من أهم الخصائص التي تميز الإسلام عن الأديان والفلسفات الأخرى:

الشمول من الخصائص التي تميز بها الإسلام عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، هذا الشمول يستوعب الزمان والمكان والحياة الإنسانية، وكيف لا؟ ورسالة الإسلام امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة، وحول طبيعة الإسلام الشمولية وعناصر هذا الشمول يقول د. يوسف القرضاوي: هذا الشمول يتجلى في العقيدة والتصور، ويتجلى في العبادة والتقرب، ويتجلى في الأخلاق والفضائل، ويتجلى في التشريع والتنظيم، كما يأتي:

  1. شمول العقيدة الإسلامية:

إن المستقرئ لنصوص الشرع الحنيف ليجد أن العقيدة الإسلامية شاملة شمولا لا لبس فيه لكل جوانب الحياة.

يقول د. يوسف القرضاوي متحدثا عن هذا الشمول: فالعقيدة الإسلامية عقيدة شاملة من أي جانب نظرت إليها؛ فهي توصف بالشمول باعتبار أنها تفسر كل القضايا الكبرى في هذا الوجود؛ القضايا التي شغلت الفكر الإنساني ولا تزال تشغله، وتلح عليه بالسؤال، وتتطلب الجواب الحاسم الذي يخرج الإنسان من الضياع والشك والحيرة وينتشله من متاهات الفلسفات والنحل[10] المتضاربة قديما وحديثا: قضية الألوهية.. قضية الكون.. قضية الإنسان.. قضية النبوة.. قضية المصير.

فإذا كانت بعض العقائد تعنى بقضية الإنسان دون قضية الألوهية والتوحيد، أو بقضية الألوهية دون قضية النبوة والرسالة، أو بقضية النبوة دون قضية الجزاء الأخروي، فإن عقيدة الإسلام قد عنيت بهذه القضايا كلها، وقالت كلمتها فيها، بشمول واضح، ووضوح شامل.

  • وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول كذلك؛ لأنها لا تجزئ الإنسان بين إلهين اثنين؛ إله الخير والنور، وإله الشر والظلمة – كما كان في المجوسية -، أو بين الله والشيطان الذي سمي في الأناجيل باسم “رئيس هذا العالم” واسم “إله هذا الدهر”، وانقسم العالم بينه وبين الله، فله مملكة الدنيا، ولله ملكوت السموات، فيوشك أن يكون عمله في نظر المسيحية مضارعا لعمل “أهريمان” إله الظلام في المجوسية.

إن الشيطان في نظر الإسلام، يمثل قوة الشر لا مراء، ولكنها قوة لا سلطان لها على ضمير الإنسان، إلا سلطان الوسوسة والإغراء، والدعوة إلى الشر وتزيينه في الأنفس؛ فهذا مبلغ كيده وجهده، وهو كيد ضعيف أمام يقين المؤمنين المعتصمين بالله المتوكلين عليه.

يقول الله – عز وجل – على لسان الشيطان نفسه في مخاطبة من أغواهم: )وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي( (إبراهيم: 22)، ويقول – عز وجل – في مخاطبة الشيطان: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء)، ويقول عز وجل: )إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)( (النحل)، ويقول عز وجل: )إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76)( (النساء).

  • وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول من ناحية أخرى، و هي أنها لا تعتمد في ثبوتها على الوجدان أو الشعور وحده، كما هو شأن الفلسفات الإشراقية والمذاهب الصوفية، وكما هو شأن المسيحية التي ترفض تدخل العقل في العقيدة رفضا باتا، بحيث لا تؤخذ إلا بالتسليم المطلق، على حد قولهم: اعتقد وأنت أعمى.

وهي كذلك لا تعتمد على العقل وحده، كما هو شأن معظم الفلسفات البشرية التي تتخذ العقل وسيلتها الفذة في معرفة الله وحل ألغاز الوجود.

وإنما تعتمد على الفكر والشعور معا، أو العقل والقلب جميعا، باعتبارهما أداتين متكاملتين من أدوات المعرفة الإنسانية، والوعي الإنساني.

إن الإيمان الإسلامي الصحيح هو الذي ينبعث من ضياء العقل وحرارة القلب، وبذلك يؤدي دوره ويؤتي أكله في الحياة.

  • وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول أيضا؛ لأنها عقيدة لا تقبل التجزئة، لا بد أن تؤخذ كلها بكل محتوياتها دون إنكار، أو حتى شك في أي جزء منها، فمن آمن بـ 99% من مضمون هذه العقيدة، وكفر بـ 1% لم يعد بذلك مسلما، فالإسلام يقتضي أن يسلم الإنسان قياده كله لله، ويؤمن بكل ما جاء من عنده.

فلا يجوز في نظر العقيدة الإسلامية، أن يقول مسلم: أنا مؤمن بالقرآن الكريم في شأن الشعائر والعبادات – مثلا – ولكن لا أومن بما جاء به في شأن الأخلاق والآداب، أو يقول: آخذ من القرآن العبادة والأخلاق، ولكن لا أستمد النظام والتشريع، أو آخذ منه ذلك كله، ولكن لا أصدقه في كل ما يرويه من أحداث التاريخ، أو أصدقه وأسلم له في كل ما ذكرناه، ولكن لا أعتقد بحقيقة ما جاء به في وصف الآخرة، وحقيقة الجنة والنار.

ومن ثم أنكر القرآن أشد الإنكار على بني إسرائيل إيمانهم ببعض الرسل دون بعض، وببعض الكتاب الإلهي دون بعض، يقول عز وجل: )إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)( (النساء)، ويقول عز وجل: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة) [11].

  1. شمول العبادة في الإسلام:

إن العبادة في الإسلام تتمتع أيضا بخاصية الشمول, ويفصل د. القرضاوي القول فيها قائلا: وتتمثل ظاهرة الشمول الإسلامي في عبادته كما تمثلت في عقيدته.

فالعبادة في الإسلام تستوعب الكيان البشري كله؛ فالمسلم لا يعبد الله بلسانه فحسب، أو ببدنه فقط، أو بقلبه لا غير، أو بعقله مجردا، أو بحواسه وحدها، بل يعبد الله بهذه كلها؛ بلسانه ذاكرا داعيا تاليا، وببدنه مصليا صائما مجاهدا، وبقلبه خائفا راجيا محبا متوكلا، وبعقله متفكرا متأملا، وبحواسه كلها مستعملا لها في طاعته سبحانه.

إن عبادة كالصلاة تتجلى فيها عبادة اللسان بالتلاوة والتكبير والتسبيح والدعاء، وعبادة الجسم بالقيام والقعود، والركوع والسجود، وعبادة العقل بالتفكر والتأمل في معاني القرآن وأسرار الصلاة، وعبادة القلب بالخشوع والحب لله، والشعور بمراقبة الله.

ومعنى آخر للشمول في العبادة، وهي أنها تتسع للحياة كلها، فلا تقتصر على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة وصيام وحج، بل تشمل كل حركة وكل عمل ترتقي به الحياة ويسعد به الناس.

فالجهاد في سبيل الله دفاعا عن الحق، وذودا عن الحرمات، ومنعا للفتنة، وإعلاء لكلمة الله… عبادة لا تعدلها عبادة.

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: «مر رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشعب فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب – يعني لأتعبد – ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله – عز وجل – أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة[12] وجبت له الجنة»[13].

وكل عمل نافع يقوم به المسلم لخدمة المجتمع أو مساعدة أفراده خصوصا الضعفاء وذوي الحاجة والفاقة منهم، هو كذلك عبادة.

من ذلك ما جاءت به الأحاديث الكثيرة التي تحث على الصدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، حتى جعلت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وحمل الرجل الضعيف على دابته صدقة، بل تبسمك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل معروف صدقة.

ويدخل في دائرة العبادة: سعي الإنسان على معاشه ومعاش أسرته، ليغنيهم بالحلال، ويعفهم عن السؤال؛ فالرسول – صلى الله عليه وسلم – قد اعتبر من فعل ذلك ” في سبيل الله “,أي في جهاد كجهاد الميدان وقتال أعداء الله.

وأكثر من ذلك أنه جعل من وضع شهوته في حلال له بها أجر، ولما عجب الصحابة من ذلك، قال لهم النبي: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[14] [15].

  1. شمول الأخلاق في الإسلام:

امتازت الأخلاق في الإسلام بشمول فاق كل ما جاءت به فلسفة الأخلاق عبر مراحلها المختلفة، يقول د. يوسف القرضاوي: ويبرز الشمول كذلك في ميدان الأخلاق والفضائل؛ فالأخلاق الإسلامية ليست هي التي تعرف عند بعض الناس بـ “الأخلاق الدينية” التي تتمثل في أداء الشعائر التعبدية، واجتناب أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، ونحو ذلك لا غير؛ إنها أخلاق تسع الحياة بكل جوانبها وكافة مجالاتها.

إن الأخلاق في الإسلام لم تدع جانبا من جوانب الحياة الإنسانية – روحية أو جسمية، دينية أو دنيوية، عقلية أو عاطفية، فردية أو اجتماعية – إلا رسمت له المنهج الأمثل للسلوك الرفيع، فما فرقه الناس في مجال الأخلاق باسم الدين وباسم الفلسفة وباسم العرف أو المجتمع، قد ضمه قانون الأخلاق في الإسلام في تناسق وتكامل وزاد عليه.

  • إن من أخلاق الإسلام ما يتعلق بالفرد في كافة نواحيه:

o   جسما له ضروراته وحاجاته بمثل قوله عز وجل: )وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)( (الأعراف)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن لجسدك عليك حقا».[16]

o   وعقلا له مواهبه وآفاقه، يقول عز وجل: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)( (يونس)، وقال عز وجل: )قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا( (سبأ: 46).

o   ونفسا لها مشاعرها ودوافعها وأشواقها، يقول الله عز وجل: )قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10)( (الشمس).

  • ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالأسرة:

o   كالعلاقة بين الزوجين، يقول الله عز وجل: )وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19)( (النساء).

o   وكالعلاقة بين الأبوين والأولاد، قال عز وجل: )ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا( (الأحقاف: 15)، وقال عز وجل: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31)( (الإسراء).

o   وكالعلاقة بين الأقارب والأرحام، قال عز وجل: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى( (النحل: 90)، وقال عز وجل: )وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26)( (الإسراء).

  • ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالمجتمع:

o   في آدابه ومجاملاته، مثل قوله عز وجل: )لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون (27)( (النور).

o   وفي اقتصاده ومعاملاته، قال عز وجل: )ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3)( (المطففين)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل( (البقرة: 282).

o   وفي سياسته وحكمه، قال عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58).

ومن أخلاق الإسلام، ما يتعلق بغير العقلاء من الحيوان والطير، كما في الحديث: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة». [17] وفي حديث آخر: «وفي كل كبد رطبة أجر»[18].

 ومن أخلاق الإسلام ما يتعلق بالكون الكبير:

من حيث إنه مجال التأمل والاعتبار والنظر والتفكر والاستدلال بما فيه من إبداع وإتقان، على وجود مبدعه وقدرته، وعلى علمه وحكمته، كما قال عز وجل: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك( (آل عمران).

ومن حيث إنه مجال للانتفاع والاستمتاع بما أودع الله فيه من خيرات وما بث فيه من قوى مسخرة لمنفعة الإنسان، وما أسبغ من نعم، تستوجب الشكر لواهبها والمنعم بها، كما قال عز وجل: )ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة( (لقمان: 20)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله( (البقرة: 172).

وقبل ذلك كله وفوق ذلك كله ما يتعلق بحق الخالق العظيم الذي منه كل النعم وله كل الحمد، قال عز وجل: )الحمد لله رب العالمين (2) الرحمن الرحيم (3) مالك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6)( (الفاتحة)، فهو وحده الحقيق بأن يحمد الحمد كله، وأن ترجى رحمته الواسعة، وأن يخشى عقابه العادل يوم الجزاء، وهو وحده الذي يستحق أن يعبد ويستعان به وأن تطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم.

وبهذا يتجلى شمول الأخلاق الإسلامية، من حيث موضوعها ومحتواها، ولكن الشمول في الأخلاق الإسلامية يبدو كذلك إذا نظرنا إلى فلسفتها ومصدر الإلزام بها.

لقد شاء الله للإسلام أن يكون الرسالة العامة الخالدة، فهو هداية الله للناس كافة، من كل الأمم، وكل الطبقات، وكل الأفراد، وكل الأجيال، والناس تختلف مواهبهم وطاقاتهم الروحية والعقلية والوجدانية، وتتفاوت مطامحهم وآمالهم، ودرجات اهتمامهم؛ ولهذا جمعت الفكرة الأخلاقية في الإسلام ما فرقته الطوائف الدينية والمذاهب الفلسفية – مثالية وواقعية – في نظرتها إلى الأخلاق وتفسيرها لمصدر الإلزام الخلقي، فلم يكن كل ما قالته هذه المذاهب والنظريات باطلا، كما لم يكن كله حقا, إنما كان عيب كل نظرية أنها نظرت من زاوية، وأغفلت أخرى، وهو أمر لازم لتفكير البشر، الذي يستحيل عليه أن ينظر في قضية ما نظرا يستوعب كل الأزمنة والأمكنة، وكل الأجناس والأشخاص، وكل الأحوال والجوانب، فهذا يحتاج إلى إحاطة إله عليم حكيم.

فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام جامعة محيطة مستوعبة؛ لأنها ليست نظرية بشر؛ بل وحي من أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا.

لهذا أودع الله في هذا الدين ما يشبع كل نهمة معتدلة، وما يقنع كل ذي وجهة، ويلائم كل تطور، فمن كان مثاليا ينزع إلى الخير لذات الخير، وجد في أخلاقية الإسلام ما يرضي مثاليته، ومن كان يؤمن بمقياس السعادة، وجد في الفكرة الإسلامية ما يحقق سعادته وسعادة المجموع معه، ومن كان يؤمن بمقياس المنفعة – فردية أو اجتماعية – وجد فيه ما يحقق طلبته، ومن كان همه التكيف مع المجتمع، وجد فيه ما يلائم اجتماعيته، حتى الذي يؤمن بأهمية اللذة الحسية يستطيع أن يجدها فيما أعد الله للمؤمنين في الجنة من نعيم مادي، ومتاع حسي، قال عز وجل: )وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون (71)( (الزخرف).

وبهذا تسمع كل أذن الأنشودة التي تحبها، وتجد كل نفس الأمنية التي تهفو إليها[19].

  1. شمول التشريع في الإسلام:

أما التشريع الإسلامي فهو من أهم الأشياء التي تصيب دعوى فصل الدين عن الدولة في المقتل، على اعتبار أنه تشريع شامل محيط بكل ما يتعلق بالإنسان.

يقول د. يوسف القرضاوي”: والتشريع في الإسلام تشريع شامل كذلك، إنه لا يشرع للفرد دون الأسرة ولا للأسرة دون المجتمع، ولا للمجتمع منعزلا عن غيره من المجتمعات، وبيان ذلك كالآتي:

  • إن تشريع الإسلام يشمل التشريع للفرد في تعبده وصلته بربه، وهذا ما يفصله قسم ” العبادات ” في الفقه الإسلامي، وهو ما لا يوجد في التشريعات الوضعية.
  • ويشمل التشريع للفرد في سلوكه الخاص والعام، وهذا يشمل ما يسمى “الحلال والحرام” أو “الحظر والإباحة”.
  • ويشمل التشريع ما يتعلق بأحوال الأسرة من زواج وطلاق ونفقات ورضاع وميراث، وولاية على النفس والمال ونحوهما، وهذا يشمل ما يسمى في عصرنا “الأحوال الشخصية”.
  • ويشمل التشريع للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وما يتصل بتبادل الأموال والمنافع، بعوض أو بغير عوض، من البيوع والإجارات[20] والقروض والمداينات والرهن[21] والحوالة[22] والكفالة[23] والضمان[24] وغيرها، مما تتضمنه في عصرنا القوانين المدنية والتجارية.
  • ويشمل التشريع ما يتصل بالجرائم وعقوباتها المقدرة شرعا، كالحدود والقصاص، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعازير، وهذا يشمل ما يسمى الآن بـ “التشريع الجنائي” أو “الجزائي”, و “قوانين العقوبات”.
  • ويشمل التشريع الإسلامي ما يتعلق بواجب الحكام نحو المحكومين، وواجب المحكومين نحو الحكام، وتنظيم الصلة بين الطرفين، مما عنيت به كتب السياسة الشرعية والخراج، والأحكام السلطانية في الفقه الإسلامي، وتضمنه في عصرنا “التشريع الدستوري” أو “الإداري” و”المالي”.
  • ويشمل التشريع الإسلامي ما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب، بين المسلمين وغيرهم، مما عنيت به كتب السير أو الجهاد في فقهنا الإسلامي، وما ينظمه في عصرنا الحالي ” القانون الدولي “.

ومن هنا لا توجد ناحية من نواحي الحياة إلا دخل فيها التشريع الإسلامي آمرا أو ناهيا أو مخيرا.

وحسبنا أن أطول آية نزلت في كتاب الله – عز وجل – نزلت في تنظيم شأن من الشئون المدنية، وهو المداينة، وكتابة الدين.

ويبدو شمول التشريع الإسلامي في أمر آخر، أو بعد آخر، وهو النفاذ إلى أعماق المشكلات المختلفة، وما يؤثر فيها، وما يتأثر بها، والنظر إليها نظرة محيطة مستوعبة، مبنية على معرفة النفس الإنسانية، وحقيقة دوافعها وتطلعاتها وأشواقها، ومعرفة الحياة البشرية وتنوع احتياجاتها وتقلباتها، وربط التشريع بالقيم الدينية والأخلاقية، بحيث يكون التشريع في خدمتها وحمايتها، ولا يكون معولا[25] لهدمها.

ومن عرف هذا جيدا، استطاع أن يفهم موقف التشريع الإسلامي وروعته من قضايا كثيرة، كالطلاق، وتعدد الزوجات، والميراث، والربا، والحدود والقصاص، وغيرها، مما أثبتت الدراسات المقارنة، وأثبت الاستقراء التاريخي والواقعي فضل الإسلام فيه، وتفوقه على كل تشريع سابق أو لاحق.

إن عيب البشر الذي هو من لوازم ذواتهم المحدودة أنهم ينظرون إلى الأمور والأشياء من جانب واحد، غافلين عن جانب أو أكثر من جوانبها الأخرى، والحقيقة أنه لا ذنب لهم في هذا القصور ولا حيلة؛ لأن النظرة المحيطة الشاملة، التي تستوعب الشيء من جميع جوانبه، وتعرف كل احتياجاته، وتدرك كل احتمالاته وتوقعاته، لا يقدر عليها إلا رب البشر وخالق الكون، قال عز وجل: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك).

  • شمول الالتزام بالإسلام كله:

إن خاصية الشمول في الإسلام تستغرق كل صغيرة وكبيرة، وتبعا لذلك ألزم المسلم بأن يأخذه جملة، ولا يجوز أن يقوم بعملية الانتقاء.

يقول د. يوسف القرضاوي في هذا الصدد: هذا الشمول الذي تميز به الإسلام – بحيث استوعب الحياة كلها، والإنسان كله، في كل أطوار حياته، وفي كل مجالات حياته – يجب أن يقابله شمول مماثل من جانب التزام المسلمين؛ أعني الالتزام بهذا الإسلام كله في شموله وعمومه وسعته، فلا يجوز الأخذ بجانب من تعاليمه وأحكامه، وطرح جانب آخر، أو جوانب أخرى منها، قصدا أو إهمالا؛ لأنها “كل” لا يتجزأ.

فلا يجوز في نظر الإسلام أخذ جانب العقيدة والإيمان من تعاليمه، وإغفال جانب العبادة أو الأخلاق، كالذين قالوا: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فإن عمل الصالحات مكمل للإيمان، وسياج له، وثمرة لازمة للإيمان الصادق، كما بين ذلك القرآن والسنة، قال عز وجل: )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا( (الأنفال).

ولا يجوز في نظر الإسلام العناية بالعبادات والشعائر، وإهمال جانب الأخلاق والفضائل؛ لأن الفضائل الأخلاقية من شعب الإيمان الحق، وثمرة للعبادة الصحيحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».[26] وقال عز وجل: )وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر( (العنكبوت: 45)، وفي الصحيح: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».[27] وفي رواية: «أية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم»[28].

ولا يجوز في نظر الإسلام كذلك الاهتمام بالجانب الأخلاقي، وإغفال الجانب التعبدي؛ فإن الناس إنما خلقوا ليعرفوا الله ويعبدوه قال عز وجل: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات)، وإنما يعبد الله – عز وجل – بما شرع وفرض من شعائر وفرائض اعتبرها رسوله – صلى الله عليه وسلم – الأركان التي بني عليها الإسلام.

وأول خلق يجب أن يتحلى به المسلم هو الوفاء لله بعهده، وشكر نعمته، وأداء أمانته، وذلك بأداء حقه الذي افترضه على عباده من صلاة وزكاة وصيام وحج، قال عز وجل: )ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)( (آل عمران).

ولا يجوز في نظر الإسلام الأخذ بكل ما ذكر من عقيدة وعبادة وأخلاق، مع إغفال جانب الشريعة التي نظم الله بها حياة الخلق، وأنزل بها الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، فلا يحل لمن يؤمن بعدل الله – عز وجل – وكمال علمه وحكمته وبره بخلقه أن يدع شرع الله عمدا؛ ليحكم بشرائع البشر الممثلة لقصورهم وأهوائهم.

ولهذا حذر الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – وبالتالي كل حاكم من بعده – ألا يدع ما شرعه الله فقال تعالى: )بعض ما أنزل الله( (المائدة: 49)، تأثرا بأهواء الآخرين وفتنتهم، فإن من ترك حكم الله سقط لا محالة في حكم الجاهلية ولا ثالث لهما، قال عز وجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)( (المائدة) [29].

آثار هذا الشمول في النفس والحياة:

إن هذا الشمول الذي يستوعب الحياة الإنسانية بكل كيانها وحيثياتها ومظاهرها، والذي يميز الدين الإسلامي عن غيره، ولكن هذا الشمول له أثر بالغ في الفرد المسلم في عبادته؛ فالدين كله عبادة، والدين جاء ليرسم للإنسان منهج حياته ويحدد سلوكه وعلاقاته وفقا لما يهدي إليه المنهج الإلهي.

 وعن أثر هذا الشمول في العبادة، يذكر د. يوسف القرضاوي أبرز هذه الآثار فيقول: إن شمول معنى العبادة في الإسلام له آثار مباركة في النفس والحياة يحسها الإنسان في ذاته، ويلمسها في غيره، ويرى ظلالها في الحياة من حوله، وأبرز هذه الآثار وأعمقها أمران:

  • أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدودا إلى الله في كل ما يؤديه للحياة، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع، وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله – عز وجل – كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه هدية إلى ربه – عز وجل – ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
  • أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربا واحدا في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله: الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته.

إنه ليس ممن يعبدون الله في الليل، ويعبدون المجتمع في النهار…، كلا.. إنه يعبد الله وحده حيثما كان، وكيفما كان، وفي أي عمل كان، فوجه الله لا يفارقه في عمل ولا حال ولا زمان، قال عز وجل: )ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه( (البقرة:115).

وبهذا ينصرف همه كله إلى الله، ويجتمع قلبه كله على الله، ولا يتوزع شمل حياته وفكره وإرادته ووجدانه بين شتى الاتجاهات، والتيارات والانقسامات.

إن حياته كلها وحدة لا تتجزأ، منهجه فيها عبادة الله، وغايته رضوان الله، ودليله وحي الله.

وكما شملت العبادة في الإسلام الحياة كلها، استوعبت كذلك كيان الإنسان كله، فالمسلم يعبد الله بالفكر، ويعبد الله بالقلب، ويعبد الله باللسان، ويعبد الله بالسمع والبصر وسائر الحواس، ويعبد الله ببدنه كله، ويعبد الله ببذل المال، ويعبده ببذل النفس، ويعبده بمفارقة الأهل والوطن.

المسلم يتعبد لله بالفكر، عن طريق التأمل في النفس والآفاق، والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، والتدبر لآيات الله المنزلة وما فيها من هدى وحكمة، والنظر في مصايرة الأمم وأحداث التاريخ وما فيها من عظة وعبرة.

ويتعبد المسلم لله بالقلب عن طريق العواطف الربانية والمشاعر الروحية، مثل: حب الله وخشيته، والرجاء في رحمته، والخوف من عقابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحياء منه، والتوكل عليه، والإخلاص له. ويتعبد المسلم لله باللسان عن طريق الذكر والتلاوة والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير.

ويتعبد المسلم ببدنه كله: إما كفا وامتناعا عن ملذات البدن وشهواته، كما في الصيام، وإما حركة وعملا ونشاطا، كما في الصلاة التي يتحرك فيها البدن كله: اللسان والأعضاء مع العقل والقلب.

ويتعبد المسلم لله ببذل المال الذي هو شقيق الروح، كما في الزكاة والصدقات، وهذا ما يسميه الفقهاء “العبادة المالية”، كما سموا الصلاة والصوم “العبادة البدنية” ويعنون بكلمة “البدن” هنا كيان الإنسان كله لا الجسم المادي وحده، فإن النية شرط لكل عبادة، ومحلها القلب بالإجماع، وعبادة المجنون والسكران ونحوها لا تصح ولا تقبل، قال عز وجل: )حتى تعلموا ما تقولون( (النساء: 43).

ويتعبد المسلم لله بالتضحية بنفسه وبمصالحه المادية العاجلة، ابتغاء مرضاة الله، كما في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلي.

ويتعبد المسلم لله بمفارقة الأهل والوطن والضرب في الأرض: إما للحج والعمرة، وإما للهجرة إلى أرض يستطيع فيها المسلم إقامة دينه، وإما للجهاد في سبيل الله، وإما لطلب علم نافع، أو نحو ذلك، مما يبذل فيه المسلم – عادة – راحة بدنه وحر ماله، ولهذا نعتبر هذا النوع من العبادات “بدنيا وماليا” معا حسب التقسيم الفقهي المتعارف[30].

رابعا. النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته:

إن النظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته، وهو يختلف في حقيقته عن الأنظمة الأخرى، أما القول بأن: لا دين في السياسة، فهذا كلام لا ينطبق على الإسلام، لأنه يعني أن السياسة لا دين لها، فلا تلتزم بالقيم والقواعد الدينية، وإنما هي “براجماتية” تتبع المنفعة حيث كانت، والمنفعة المادية، والمنفعة الحزبية أو القومية، والمنفعة الآنية، وترى أن المصلحة المادية العاجلة فوق الدين ومبادئه، وأن ” الله ” وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة.

وهي في الحقيقة تتبع نظرية “مكيافللي”، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن ” الغاية تبرر الوسيلة “، وهي النظرية التي يبرر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع، إلى آخر المبررات المعروفة، ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها حال البشر؟

إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قيم الدين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل، إن السياسة حين ترتبط بالدين، تعني: العدل في الرعية، والقسمة بالتسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوى، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع، كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة.

إن دخول الدين في السياسة ليس – كما يصوره الماديون والعلمانيون – شرا على السياسة، إن الدين الحق إذا دخل في السياسة، دخل دخول الموجه للخير، الهادي إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغي.

فهو لا يرضى عن ظلم، ولا يتغاضى عن زيف، ولا يسكت عن غي، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير، ويكرم السارق الكبير!

كما أنه جعل الحركة الإسلامية تشتغل بالعمل السياسي وتبذل فيه جهدا أكبر من غيره، فعندما كانت كل البلاد الإسلامية محتلة من الاستعمار الغربي انشغلت الحركة الإسلامية من الناحية السياسية بتجميع القوى وتعبئة الشعوب لتقاوم الاستعمار، ثم إن ظهور العلمانية جعل الحركة الإسلامية أيضا تستجمع قواها لتحارب هذا العدو الجديد.

كما أن عالمية الإسلام مرتبطة بشموله، الشمول المكاني والشمول الزماني والشمول الموضوعي؛ الشمول الزماني: فالإسلام دين الماضي والحاضر والمستقبل، والشمول المكاني: فالإسلام ليس مختصا بالشرق فقط ولا ببلاد العرب فقط، بل هو دعوة عالمية لا شك في عالميتها، والشمول الموضوعي: فهو يستوعب شئون الحياة كلها، فالإسلام عالمي، وهو بهذا جزء من الشمول ولا يتعارض هذا مع شمول الإسلام.

أما إن أردنا التفرقة بين شمولية الإسلام والأنظمة الشمولية، فلنقل ما قاله د. يوسف القرضاوي – في حديثه لبرنامج الشريعة والحياة – حول شمولية الإسلام: فالأنظمة الشمولية يقصد بها أنظمة الحكم القمعية التي تتدخل في حريات الناس، ولا تترك للناس حقا في حياتهم ولا تعطيهم حرية الاختيار؛ فالدولة تفرض عليهم كل شيء.

وليس هذا على الإطلاق بشمولية الإسلام؛ فالمعنى من شمولية الإسلام: شمولية الرسالة التي جاء بها الإسلام، فهي رسالة شاملة، تشمل الروحانية والمادية، وتشمل المثالية والواقعية، وتشمل توجيه الفرد وتوجيه الأسرة، وتوجيه الجماعة وتوجيه الأمة، وتوجيه الدولة، وتوجيه العلاقات بين الأمم والدول بعضها ببعض.

وهذا ما قاله الإمام حسن البنا: الإسلام هو الرسالة التي امتدت طولا حتى اشتملت آماد الزمن، امتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة؛ فهو من الناحية الطولية شمل الزمن كله.

إن الإسلام دين الأنبياء جميعا، قال عز وجل: )ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)( (آل عمران)، فكل الأنبياء أعلنوا أنهم مسلمون، فهو شمل الزمن كله الماضي والحاضر والمستقبل، وإذا نظرنا إليه من ناحية العرض نجده انتظم آفاق الأمم؛ لأنه رحمة الله للعالمين، قال عز وجل: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء)، وقال عز وجل: )إن هو إلا ذكر للعالمين (104)( (يوسف)، وقال عز وجل: )قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم( (الأعراف: 158)، ليس رسالة للعرب وحدهم أو لأهل الشرق وحدهم، وهو أيضا من ناحية العمق رسالة استوعبت شئون الدنيا والأخرة.

وأما عن شمول الشريعة، فالإسلام والشريعة شيء واحد؛ لأن الإسلام عقيدة وشريعة، نقصد بالشريعة التشريعات العملية، ولكن أحيانا نقصد بالشريعة رسالة الإسلام، قال عز وجل: )ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها( (الجاثية: 18)، فحينما نقول: الشريعة نقصد بها الإسلام كله، ولذلك يقول الأصوليون: الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، فلا يخل فعل من أفعال المكلفين ولا واقع من الوقائع إلا ولله – عز وجل – فيه حكم من الأحكام الخمسة؛ إما فرض واجب، وإما مستحب، وإما حرام، وإما مكروه، وإما مباح، وأي عمل من الأعمال لا يخرج عن هذه الخمس؛ بمعنى أن الشريعة حاكمة عادلة، وهذا هو معنى الشمول.

الخلاصة:

من خلال العرض السابق يتضح أنه لا علاقة للإسلام بفصل الدين عن الدولة وذلك لأسباب:

  • إن الجذور التاريخية لفصل الدين عن الدولة ترجع إلى أوربا، وبالتحديد إلى العصور الوسطى المسيحية منها، والتي مثلت فيها الكنيسة دور الدين، فأمسكت زمام أمر الدولة، فأبعدتها عن العلم والنهضة، مما أنشأ صراعا بين الدولة والكنيسة، انتهى بتحرر الدولة من قيود الكنيسة، وانطلاق المجتمع في عصور النهضة الفكرية والعلمية والاقتصادية، وهذا ثبت فكرة “فصل الدين عن الدولة”، وتطورت بعد ذلك إلى العلمانية، وهذا راجع – في أصله – إلى طبيعة الدور الذي لعبته الكنيسة في محاولة تقييد العقل، ومنع العلم والفكر.
  • وهذا على العكس تماما من الدور الذي يقوم به الإسلام مع أبنائه؛ حيث كانت أول آية نزلت من القرآن ” اقرأ “، وامتلأ كتابه الخالد بآيات تدعو للذكرى والتفكر والعلم والعقل، فأية مقارنة تلك المنعقدة بين هذا الدين بجلاله وكماله، وبين ذاك الدين بما انطوى عليه من بعد عن العالم الخارجي؟!
  • طبيعة الدين الإسلامي تمنع إمكانية فصله عن الدولة، فهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وشريعته هي الشريعة المهيمنة الناسخة لما قبلها من الشرائع، فهو لا يكمل دينا سابقا كما حدث بين الديانتين اليهودية والنصرانية، بل هو في ذاته مكتمل، عالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الإنسان من قبل ميلاده إلى ما بعد وفاته، وفي جميع أحواله (فردا ومجموعة ودولة وأمة)، ومن ثم فهو قد وفي بجميع الأحكام التي يحتاجها الناس، ونظم جميع شئون حياتهم.
  • اشتمال الإسلام على كل جوانب الإنسان من: الروح والجسد والعقل، وكل جوانب الحياة الإنسانية للفرد وللأسرة وللمجتمع، والدولة والأمة والعالم بأسره من عبادات ومعاملات وعقائد وسياسة… إلخ، ولهذا الشمول آثار مباركة في النفس والحياة, يحسها الإنسان في ذاته ويلمسها في غيره,ويرى ظلالها في الحياة من حوله.
  • لا يصح أن يفصل الإسلام عن الدولة؛ فالنظام السياسي في الإسلام قائم على عالميته لا محدوديته,وهو يختلف في حقيقته عن الأنظمة الأخرى,كما أن عالمية الإسلام مرتبطة بشموله,الشمول المكاني,والشمول الزماني,والشمول الموضوعي.

(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.

[1]. الكرادلة: جمع الكاردينال، وهو عضو أعلى هيئة تساعد البابا في إدارة الكنيسة الكاثولوكية، والمجلس الاستشاري يلي البابا في مرتبته مباشرة، والكرادلة هم الذين يختار البابا من بينهم.

[2]. الأساقفة: جمع أسقف، وهي رتبة دينية عند النصارى فوق رتبة القسيس، ودون رتبة البطريرك، والمطران.

[3]. الإقطاع: هو ما يقطعه ولي الأمر لنفسه أو لغيره من أرض أو غيرها من أي نوع من أنواع المال الثابت أو المنقول الذي لا يكون ملكا لأحد؛ لينتفع بها المقتطع له في زرع أو غرس أو بناء استغلالا أو تمليكا.

[4]. البرجوازية: كلمة فرنسية الأصل، أطلقت هذه الكلمة أصلا على سكان بعض المدن الفرنسية، ثم أطلقت بعد ذلك على كل طبقة اجتماعية ارتبطت تاريخيا من حيث نشأتها بالمدن أو القرى الكبيرة ذات الأسواق التجارية، على أن طبقة البرجوازية متميزة عن طبقتي العمال والنبلاء؛ لأنها ترمز إلى طبقة التجار وأصحاب الأعمال والمحلات العامة. وتطلق في الاشتراكية على أصحاب الطبقة الرأسمالية التي تملك وسائل الإنتاج.

[5]. البروتستانتية: فرقة من النصرانية احتجوا على الكنيسة الغربية باسم الإنجيل والعقل، وتسمى كنيستهم بـ “البروتستانية”؛ إذ يعترضون على كل أمر يخالف الكتاب وخلاص أنفسهم، وتسمى بـ “الإنجيلية” أيضا؛ إذ يتبعون الإنجيل دون سواه، ويعتقدون أن لكل قادر الحق في فهمه، فالكل متساوون ومسئولون أمامه.

[6]. التنوير: مصطلح ظهر في القرنين السادس عشر والسابع عشر تعبيرا عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية، كما يتضمن هذا الفكر نزعة مادية واضحة بعد إقصاء اللاهوت، وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلا من الفكر الغيبي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه. والإسلام لا يرفض التنوير الأوربي المبني على العقل الإنساني، ولكنه يرى أنه ليس كافيا، وهذا يعني أن التنوير في المفهوم الإسلامي أعم وأشمل من التنوير في الفهم الأوربي، ويمكن أن نقول: إن التنوير في الإسلام يقوم على دعامتين أساسيتين هما: دعامة الدين، ودعامة العقل.

[7]. الحداثة: مذهب فكري أدبي علماني، بني على أفكار وعقائد غربية خالصة؛ مثل: الماركسية والوجودية والفرويدية، والداروينية، وأفاد من المذاهب الفلسفية والأدبية التي سبقته؛ مثل: السريالية والرمزية…. وغيرهما، وتهدف الحداثة إلى إلغاء مصادر الدين.

[8]. العقلانية: مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وكذلك يرى إخضاع كل شيء في الوجود للعقل؛ لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه، وبرز ذلك المذهب في الفلسفة اليونانية على يد سقراط وأرسطو، وبرز في الفلسفة الحديثة على أيدي فلاسفة أثروا في الفكر البشري؛ مثل: ديكارت وغيرهم.

[9]. فصل الدين عن سياسة الدولة، عادل عباس الشيخلي، مجلة الحوار المتمدن، العدد 525 بتاريخ 26/ 6/ 2003 م, نقلا عن: Antje vollmer ” Religion und politik, kriche und staat in der europaischen Tradition. www. antje. vollmer. de “

[10]. النحلة: الدين والعقيدة.

[11]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص102: 105.

[12]. فواق الناقة: ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.

[13]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (9761)، والترمذي في سننه، كتاب فضائل الصحابة، باب ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، (1650)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7379).

[14]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص 105: 107 بتصرف.

[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2376).

[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم (1874)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا (2787).

[17]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (2550)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب المناسك، باب استحباب الإحسان إلى الدواب المركوبة في العلف والسقي (2540)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (104).

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء (2234)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب فضل ما في البهائم المحترمة وإطعامها (5996).

[19]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص107: 110 بتصرف يسير.

[20]. الإجارة: العقد على المنافع بعوض لمدة محدودة، وتمليك المنافع بعوض إجارة، وبغير عوض إعارة.

[21]. الرهن: جعل عين وثيقة بدين يستوفى منها عند تعذر وفائه. أو المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه.

[22]. الحوالة: نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

[23]. الكفالة: ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة بالحق؛ أي: ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بالحق.

[24]. الضمان: هو الالتزام؛ كأن تقول: ضمنت المال إذا التزمته، وضمنته المال إذا ألزمته إياه؛ ومنها الكفالة، ومنها التغريم، تقول: ضمنته الشيء تضمينا إذا غرمته إياه، ويطلق على التعويض، ويطلق على كفالة المال والنفس، ويطلق على غرامة المتلفات والغصوب والتغيرات الطارئة، كما يطلق على ضمان المال والتزامه بعقد وبغير عقد، ويطلق على ما يجب بإلزام الشارع بسبب الاعتداءات؛ كالديات، والكفارات.

[25]. المعول: آلة من الحديد ينقر به الصخر.

[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (9)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (161)، واللفظ له.

[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق (33)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (220).

[28]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق (222).

[29]. الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2003م، ص111: 114.

[30]. مدخل لمعرفة الإسلام, د. يوسف القرضاوي, مكتبة وهبة, القاهرة, ط3, 1422هـ/ 2001م, ص76: 79 بتصرف يسير.

مضمون الشبهة:

 يدعي بعض المشككين أن التشريع الإسلامي يقف عاجزا عن الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية، ودليلهم على ذلك – كما يتوهمون – فشل الأنظمة الاقتصادية والسياسية في البلاد الإسلامية، ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في مرونة هذا التشريع وصلاحيته لهذا العصر.

وجوه إبطال الشبهة:

1) التشريع الإسلامي هو الموجه لشئون الحياة وقيمها، وقد وفي بحاجات المجتمعات الإسلامية في المجالين الاقتصادي والسياسي، وحضارتنا خير شاهد على ذلك.

2) الفشل الذي وصمت به الأنظمة السياسية والاقتصادية في المجتمعات المسلمة ليس منشؤه الإسلام ولا تعاليمه، وإنما البعد عن تطبيق الإسلام وشرائعه.

3) الواقع أثبت فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، فهي لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء.

التفصيل:

أولا. وفاء التشريع الإسلامي بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية:

إن التشريع الإسلامي بوصفه تشريعا سماويا أنزله رب الأرض والسماء، يستحيل عليه أن تغيب عنه غائبة، أو يشوبه نقص أو عيب، وفيما يلي يوضح لنا د. يوسف القرضاوي كيفية شمول التشريع الإسلامي لكافة مناحي الحياة ومدى وفائه من كل ناحية:

  1. في الناحية الاقتصادية:

يتوهم الكثيرون أن الدين لا يعنى بالاقتصاد، وأنهما ضدان لا يلتقيان؛ فالاقتصاد يعنى بالجانب المادي في الحياة، والدين يعنى بجانبها الروحي، والاقتصاد استغراق في المادة، والدين استعلاء عليها، بيد أن هذا إن صح في الأديان الأخرى فلا يصح في الإسلام، فقد اعتبر القرآن المال قواما للحياة حين قال: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما( (النساء: 5)، كما اعتبر الغنى نعمة يمتن الله بها: )ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)، ومثوبة يجزي بها المؤمنين من عباده: )ويمددكم بأموال وبنين( (نوح: 12)، ولم يغلق الرسول – صلى الله عليه وسلم – ملكوت السماء في وجه الغني – كما ادعوا على المسيح – عليه السلام – بل كان كثيرا مما يدعو لأصحابه بكثرة المال والبركة فيه,كما جاء في الحديث عن أنس بن مالك أن أمه سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو له بالخير في الدنيا والآخرة فدعا له وكان مما قاله في دعائه: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته..»[1].

وقد أشار القرآن والسنة إلى أهمية المؤثرات الاقتصادية في السلوك البشري، في مثل قوله عز وجل: )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق( (الأنعام: 151)، )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق( (الإسراء: 31)، وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف»[2].

وقد جعل الله أحد الأركان الخمسة في الإسلام عبادة مالية هي “الزكاة”، وأحد الموبقات السبعة كبيرة مالية هي “الربا”.

كما رغب الإسلام في الصناعة والاحتراف، وضرب لنا القرآن مثلا بعدد من الأنبياء والصالحين من أهل الحرف؛ فنوح – عليه السلام – نجار يصنع السفن، وإبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – بناءان يرفعان قواعد البيت، وداود – عليه السلام – حداد يصنع الدروع السابغات، [3] وذو القرنين بني السد العظيم من زبر الحديد[4] والنحاس المذاب.

ودعا الإسلام كذلك إلى الزراعة والغرس والتشجير، بشرط ألا يكتفوا بالزروع ويتبعوا أذناب البقر، ويتركوا الجهاد، وحث كذلك على التجارة، ونوه بالتاجر الصدوق الأمين، ونهى عن الغش والاحتكار، [5] والتلاعب بالأسعار.

وأقام الإسلام نظامه الاقتصادي على إقرار الملكية الفردية، لما فيها من إشباع الدافع الفطري في نفس الإنسان، ولما تثمره من الشعور بالسيادة والقدرة، فمن شأن السيد الحر أن يملك ويتصرف، أما العبد فلا يملك ولا يتصرف، ولكنه وضع للملكية أسبابا لاكتسابها وقيودا لتنميتها، وحقوقا دورية وغير دورية عليها، وقبل ذلك كله اعتبر المالك الحقيقي للمال هو الله عز وجل، والناس أمناء عليه، أو وكلاء فيه، وبتعبير القرآن: )مستخلفين فيه( (الحديد: 7).

ومن هنا كانت عناية الإسلام بالناحية الاقتصادية من خلال الأمور الآتية:

  1. إتاحة العمل الملائم لكل مواطن قادر: باعتبار أن العمل حق له وواجب عليه، وتهيئة التدريب الكافي لكل ذي مهنة لتحسين مستوى كفايته الفنية، وبذلك يستطيع كل قادر على العمل أن يكفي نفسه بنفسه، وتحريم الصدقات والمعونات الاجتماعية تحريما باتا على كل متعطل عن العمل الملائم له باختياره، اهتداء بما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة[6] سوى»[7].
  2. إعطاء الأجر العادل لكل عامل بما يكافئ عمله، ويغطي حاجته بالمعروف:فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أعطى في الغنائم الراجل[8] سهما، والفارس سهمين أو ثلاثة أسهم؛ لأن كفاية الفارس في الحروب فوق كفاية الراجل.. ثم إنه في الفيء[9] أعطى العزب حظا والآهل (المتزوج) حظين؛ لأن حاجة الآهل أكثر من حاجة العزب – ويقاس على الآهل: صاحب العيال -، وبهذا وذاك يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد اعتبر العمل والكفاية، كما اعتبر الحاجة أيضا، ولهذا قال عمر – رضي الله عنه – في شأن مال الفيء: «ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله – عز وجل – وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته»[10].

وبهذا يكون الإسلام قد خالف النظرية الشيوعية التي تعطي كلا حسب حاجته فقط، والنظرية الاشتراكية التي تعطي كلا حسب عمله فقط.

جباية الزكاة من كل الأموال: ظاهرة – كالثروة الحيوانية والزراعية وزكاة الفطر – وباطنة – كأموال التجارة والنقود – بوساطة جهاز قوي أمين من “العاملين عليها” كما سماهم القرآن الكريم، مع وجوب توسيع قاعدتها بحيث يشمل كل مال نام، وكل دخل فاضل عن الحوائج الأصلية، وتوزيعها على المصارف الثمانية، أو السبعة – بعد إلغاء الرق في عصرنا – عملا بتوجيه القرآن: )خذ من أموالهم صدقة( (التوبة:103)، وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».[11] وسنته العملية وسنة خلفائه الراشدين في بعث السعاة والعاملين إلى مختلف البلدان والقبائل لجمعها وتفريقها كما أمر الله – عز وجل – رسوله صلى الله عليه وسلم.

وبذلك تسهم هذه الفريضة في تمويل التكافل، وتحقيق العدل الاجتماعي، ومحاربة الكنز، ومقاومة الاستقراض بالربا، وانتشال المدينين من ذل الدين، كما تسهم في تنشيط الدعوة إلى الإسلام، بما يصرف عليها من سهمي “المؤلفة قلوبهم” و “في سبيل الله”[12].

ويوضح لنا الشيخ سيد قطب سياسة الزكاة في الإسلام فيقول: الزكاة هي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام، فحديث الزكاة أدخل شيء في سياسة المال في الإسلام.

فالزكاة حق المال، وهي عبادة من ناحية، وواجب اجتماعي من ناحية أخرى؛ فإذا جرينا على نظرية الإسلام في العبادات والاجتماعيات، قلنا: إنها واجب اجتماعي تعبدي، لذلك سماها “زكاة”، والزكاة طهارة ونماء؛ فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض، وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح[13] وغريزة حب الذات، فالمال عزيز، والملك حبيب، فحين تجود النفس به للآخرين، إنما تطهر وترتفع وتشرق, وهي طهارة للمال بأداء حقه وصيرورته بعد ذلك حلالا؛ ولأن في الزكاة معنى العبادة، بلغ من لطف حس الإسلام ألا يطلب إلى أهل الذمة من أهل الكتاب أداءها، واستبدل بها الجزية؛ ليشتركوا في نفقات الدولة العامة، دون أن تفرض عليهم عبادة خاصة من عبادات الإسلام إلا أن يختاروها.

والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد؛ لتكفل لطوائف منها كفايتهم أحيانا، وشيئا من المتاع بعد الكفاف أحيانا، وبذلك يحقق الإسلام جانبا من مبدئه العام: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن الإسلام يكره للناس الفقر والحاجة، ويحتم أن ينال كل فرد كفايته من جهده الخاص وموارده الخاصة حين يستطيع، ومن مال الجماعة حين يعجز لسبب من الأسباب.

يكره الإسلام الفقر والحاجة للناس؛ لأنه يريد أن يعفيهم من ضرورات الحياة المادية ليفرغوا لما هو أعظم ولما هو أليق بالإنسانية، وبالكرامة التي خص الله بها بني آدم: )ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)( (الإسراء).

ولقد كرمهم فعلا بالعقل والعاطفة، وبالأشواق الروحية إلى ما هو أعلى من ضرورات الجسد؛ فإذا لم يتوافر لهم من ضرورات الحياة ما يتيح لهم فسحة من الوقت والجهد لهذه الأشواق الروحية، ولهذه المجالات الفكرية، فقد سلبوا ذلك التكريم، وارتكسوا[14] إلى مرتبة الحيوان، لا بل إن الحيوان ليجد طعامه وشرابه غالبا وإن بعض الحيوان ليختال ويقفز ويمرح، وإن بعض الطير ليغرد فرحا بالحياة بعد أن ينال كفايته من الطعام والشراب.

فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله، ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب عن التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان، فضلا على ما يجب للإنسان الذي كرمه الله، فإذا قضى وقته وجهده، ثم لم ينل كفايته، فتلك هي الطامة التي تهبط به دركات عما أراد به الله؛ والتي تصم الجماعة التي يعيش فيها بأنها جماعة هابطة لا تستحق تكريم الله؛ لأنها تخالف عن إرادة الله.

إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمي الحياة فيها ويرقيها، ثم ليجعلها ناضرة بهيجة ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه، والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئا، إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة، وهذا إذا كانت كافية أصلا، فكيف إذا قضى الحياة لا يجد الكفاية؟

ويكره الإسلام أن تكون الفوارق بين أفراد الأمة ضخمة بحيث تعيش جماعة منها في مستوى الترف، وتعيش أخرى في مستوى الشظف،[15] بل ربما تتجاوز الشظف إلى الحرمان والجوع والعري، فهذه أمة غير مسلمة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ليس بالمؤمن بالذي يبيت شبعانا وجاره جائع إلى جنبه». [16] ويقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». [17] والإسلام يكره هذه الفوارق لما وراءها من أحقاد وأضغان تحطم أركان المجتمع، ولما فيها من أثرة وجشع وقسوة تفسد النفس والضمير، ولما فيها من اضطرار المحتاجين: إما إلى السرقة والغصب، وإما إلى الذل وبيع الشرف والكرامة, وكلها منحدرات يتجافى الإسلام بالجماعة عنها.

ويكره الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء في الأمة، وألا تجد الكثرة ما تنفق؛ لأن ذلك ينتهي في النهاية بتجميد الحياة والعمل والإنتاج في هذه الأمة، بينما وجود الأموال في أيدي أكبر عدد منها يجعل هذه الأموال تنفق في شراء ضروريات الحياة لهذا العدد الكبير؛ فيكثر الإقبال على السلع، فينشأ من هذا كثرة الإنتاج، فتترتب عليها العمالة الكاملة للأيدي العاملة, وبذلك تدور عجلة الحياة والعمل، والإنتاج والاستهلاك دورتها الطبيعية المثمرة.

لهذه المعاني جميعها شرع الله الزكاة؛ وجعلها فريضة في المال، وحقا لمستحقيها، لا تفضلا من مخرجيها، وحدد لها نصابا في المال يجعل الواجدين جميعا يشتركون في أدائها، ذلك أن أقصى حد للإعفاء منها 85 جراما ذهبا – أو ما يعادلها من المال – على أن تكون فائضة عن الحاجات الضرورية لمالكها، وعن الدين، وحال عليها الحول. وذلك بديهي؛ لأن الإنسان لا يطالب بالزكاة وهو مستحق للزكاة! أما في الزرع والثمار فهي موسمية موقوتة بمواسم الحصاد، وهي في عروض التجارة تقوم بالذهب أو الفضة، وفي الحيوان بنسب معينة تعادل نسبتها في المال، وهي ربع العشر على وجه التقريب، وفي الركاز[18] الخمس, على خلاف في أنواع الركاز، أتكون لصاحب الأرض، أم للجماعة.

أما المستحقون لها فهم كما نص عليهم في القرآن:

  1. الفقراء: وهم الذين يملكون أقل من النصاب، أو يملكون نصابا مستغرقا في الدين، وظاهر أن هؤلاء يملكون شيئا، ولكنه شيء قليل، والإسلام يريد أن ينال الناس كفايتهم، وشيئا فوق الكفاية يعينهم على المتاع بالدنيا على قدر الإمكان.
  2. المساكين: وهم الذين لا يملكون شيئا, وهم بطبيعة الحال أجدر بالعطاء من الفقراء, ويمكننا أن نلمح أن ذكر الفقراء قبلهم في الآية يرمي إلى أن وجود شيء قليل للفقراء لا يكفي، فكأنهم كالمساكين؛ لأن هدف الإسلام ليس مجرد الكفاف الضروري، ولكن شيء فوق الكفاف كما قدمت.
  3. العاملون عليها: وهم جباتها، وهؤلاء – وإن كانوا أغنياء – يعطون جزاء العمل، فهو راتب الوظيفة وذلك داخل في نظام الجهد والأجر، لا في باب الحاجة وسدها.
  4. المؤلفة قلوبهم: وهم الذين كانوا قد دخلوا في الإسلام حديثا، لتقوية قلوبهم، واجتذاب من عداهم، ولكن هذا المصرف قد أقفل بعد أن أعز الله الإسلام عقب حروب الردة في أيام أبي بكر، ولم يعد الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب بالمال، ومع أن هؤلاء قد نصت عليهم آية قرآنية، فإن عمر لم يجد حرجا[19] في منعها منهم.
  5. في الرقاب: وهم الأرقاء المكاتبون الذين يستردون حريتهم نظير قدر من المال متفق عليه مع مالكيهم تيسيرا عليهم لينالوا الحرية.
  6. الغارمون: وهم الذين استغرق الدين ثرواتهم، على ألا يكون هذا الدين في معصية، فلا يكون الترف وما يشبهه سببا فيه، وإعطاؤهم قسطا من الزكاة فيه سداد لديونهم، وتخليص لرقابهم منها، وفيه إعانة لهم على الحياة الكريمة.
  7. في سبيل الله: وهو مصرف عام تحدده الظروف، ومنه تجهيز المجاهدين، وعلاج المرضى، وتعليم العاجزين عن التعليم، وسائر ما تتحقق به مصلحة لجماعة المسلمين, والتصرف في هذا الباب يتسع لكل عمل اجتماعي في سائر البيئات والظروف.
  8. ابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله الذي لا يجد ما ينفق، كالمهاجرين من الحروب والغارات والاضطهاد، الذين خلفوا أموالهم وراءهم، ولا سبيل لهم إلى هذه الأموال.

والإسلام لا يقرر لهذه الطوائف حقها في الزكاة إلا بعد أن تستنفد هي وسائلها الخاصة في الارتزاق؛ فالإسلام حريص على الكرامة الإنسانية، ومن ثم هو حريص على أن يكون لكل فرد مورد رزق يملكه، ولا يخضع فيه حتى للجماعة!

لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل، وجعل واجب الجماعة الأول أن تهيئ العمل لكل فرد فيها، فقد جاء سائل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يستجديه، فأعطاه درهما وأمره أن يشتري به حبلا ليحتطب به فيعيش من عمل يده، وقال: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه»[20].

فهذه الإعانة من الزكاة هي وقاية اجتماعية أخيرة، وضمان للعاجز الذي يبذل طوقه[21] ثم لا يجد، أو يجد دون الكفاية، أو يجد مجرد الكفاف، ثم هي وسيلة لأن يكون المال دولة بين الجميع لتحقيق الدورة الكاملة السليمة للمال بين الإنتاج والاستهلاك والعمل من جديد, وفي هذا يجمع الإسلام بين الحرص على أن يعمل كل فرد بما في طاقته، وألا يرتكن إلى الإعانة الاجتماعية فيتبطل والحرص على أن يعين المحتاج بما يسد خلته[22] ويرفع عنه ثقل الضرورة ووطأة الحاجة وييسر له الحياة الكريمة، ثم الحرص على ضمان الدورة الصحيحة لرأس مال الأمة.

إن الزكاة هي قاعدة المجتمع المتكافل المتضامن الذي لا يحتاج إلى ضمانات النظام الربوي في أي جانب من جوانب حياته.

وإنما بهتت صورة “الزكاة” في حسنا وحس تلك الأجيال التعيسة التي لم تشهد نظام الإسلام مطبقا في عالم الواقع، ولم تشهد هذا النظام الذي يقوم على أساس التصور الإيماني، والتربية الإيمانية، والأخلاق الإيمانية، فيصوغ النفس البشرية صياغة خاصة، ثم يقيم لها النظام الذي تتنفس فيه تصوراتها الصحيحة وأخلاقها النظيفة وفضائلها العالية، ويجعل”الزكاة” قاعدة هذا النظام، في مقابل نظام الجاهلية الذي يقوم على القاعدة الربوية, ويجعل الحياة تنمو، والاقتصاد يرتقي عن طريق الجهد الفردي، أو التعاون البريء من الربا!

وليس المهم هو شكلية النظام، إنما المهم هو روحه، فالمجتمع الذي يربيه الإسلام بتوجيهاته وتشريعاته ونظامه، متناسق مع شكل النظام وإجراءاته، متكامل مع التشريعات والتوجيهات، ينبع التكافل من ضمائره ومن تنظيماته معا متناسقة متكاملة، وهذه حقيقة قد لا يتصورها الذين نشأوا وعاشوا في ظل الأنظمة المادية الأخرى، ولكنها حقيقة نعرفها نحن – أهل الإسلام – ونتذوقها بذوقنا الإيماني، فإذا كانوا هم محرومين من هذا الذوق لسوء طالعهم ونكد حظهم – وحظ البشرية التي صارت إليهم مقاليدها وقيادتها – فليكن هذا نصيبهم! وليحرموا من هذا الخير الذي يبشر الله – عز وجل – به: )إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)( (البقرة)، ليحرموا من الطمأنينة والرضى، فوق حرمانهم من الأجر والثواب، فإنما بجهالتهم وجاهليتهم وضلالهم وعنادهم يحرمون!

  • فرائض غير الزكاة:

فالزكاة ليست وحدها حق المال، وإنا لنلحظ شبه تواطؤ بين من يتحدثون عن الزكاة في هذه الأيام، على اعتبارها الحد الأقصى الذي يطلبه الإسلام دائما من رؤوس الأموال! لذلك ينبغي أن نكشف هذا التواطؤ، الذي يتعمده رجال الدين المحترفون, كما يتعمده من يريدون إظهار النظام الإسلامي بأنه غير صالح للعمل في عصر الحضارة!

إن الزكاة هي الحد الأدنى المفروض في الأموال، حين لا تحتاج الجماعة إلى غير حصيلة الزكاة، فأما حين لا تفي، فإن الإسلام لا يقف مكتوف اليدين، بل يمنح الإمام – الذي ينفذ شريعة الإسلام – سلطات واسعة للتوظيف في رؤوس الأموال، أي: جعل مقادير معلومة من المال يخرجها الأغنياء سوى الزكاة في الحدود اللازمة للإصلاح، وهذا من ملاحظة المصلحة في المسائل العامة، فإذا خلا بيت المال، أو ارتفعت حاجات الجند، وليس فيه ما يكفيهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، أو يكون فيه ما يكفي، ثم له أن يجعل هذه الوظيفة في أوقات حصاد الغلات، وجني الثمار، لكيلا يؤدي تخصيص الأغنياء إلى إيحاش قلوبهم.

ووجه المصلحة أن الإمام العادل لو لم يفعل ذلك لبطلت شوكته، وصارت الديار عرضة للفتنة وعرضة للاستيلاء عليها من الطامعين فيها، وقد يقول قائل: إنه بدل أن يقوم الإمام بفرض هذه الوظيفة يستقرض لبيت المال، وقد أجاب عن ذلك الشاطبي فقال: الاستقراض في الأزمات، إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر، وأما إذا لم ينتظر شيء، وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني، فلا بد من جريان حكم التوظيف.

ومبدأ المصالح المرسلة، ومبدأ سد الذرائع، عند تطبيقهما في محيط أوسع، يمنحان الإمام الذي ينفذ شريعة الله سلطة واسعة لتدارك كل المضار الاجتماعية، بما في ذلك “التوظيف” في الأموال؛ رعاية للصالح العام للأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية الكاملة.

فمبدأ حق الملكية الفردية في الإسلام، لا يمنع تبعا لهذا أن تأخذ الدولة نسبة من الربح، أو نسبة من رأس المال ذاته، على أن تظل قاعدة النظام الإسلامي مرعية، وهي أن تكون للناس ملكياتهم الخاصة، واستثماراتهم الخاصة، مقيدة بطرق التنمية المشروعة، وأن يكون التوظيف في الأموال الخاصة، بقدر الضرورة الطارئة حتى لا تستوحش قلوب الناس، ولا تفتر همتهم، ولا يقل اهتمامهم بتنمية الثروة وتحسين الإنتاج, وقبل ذلك كله، وأهم منه أن تبقى لهم طمأنينتهم على أرزاقهم، وألا يصبحوا عبيدا للدولة يخشون إن هم نصحوها أو عارضوها قطعت أرزاقهم، فالمسلم – كل مسلم – مكلف أن يراقب الحاكم، وأن يكفه عن الانحراف عن شريعة الله، فأنى له هذا إذا كان رزقه ليس في يده، ولا مال له إلا ما يسمح له به؟!

وبيان هذا ضروري، لكشف هذا التواطؤ الذي يبدو في تركيز القول كله حول الزكاة، كأنما هي كل حق المال في الإسلام، وكشف أولئك المحترفين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وما يأكلون في بطونهم إلا النار! وكشف أولئك الذين يصغرون من شأن الضمانات في النظام الإسلامي، ويقولون بعدم كفايتها، ليقولوا بعد ذلك بعدم كفاية النظام الإسلامي للحياة الحديثة! وكله رجم وافتراء، وجهل بحقيقة الإسلام، ونظامه، وبالواقع التاريخي الذي سجله هذا النظام[23].

ونعود لاستكمال الأمور التي يراعيها الإسلام في ناحيته الاقتصادية، كما يوضحها د. يوسف القرضاوي بقوله: إن على رأس هذه الأمور:

  • كفالة المعيشة الكريمة: التي تتوافر فيها “الحاجات الأصلية” – حسب تعبير فقهائنا – لكل مواطن عجز عن العمل، عجزا أصليا أو طارئا، عقليا أو جسميا، أو كان قادرا عليه ولكنه لم يجد عملا، ولم تستطع الدولة أن تهيئ له سبيل العمل المناسب لمثله, أو وجد عملا، ولكن كان دخله منه لا يكفيه، لكثرة أعبائه العائلية, أو لظروف عارضة زادت في معدل نفقاته، كمرض ألم به، أو بأحد من أسرته، أو لغلاء الأسعار أو نحو ذلك.

فمن واجب الدولة المسلمة أن توفر لكل إنسان يعيش في كنفها – مسلما أو غير مسلم – الغذاء الصحي اللازم، والملبس الواقي للجسم في حالتي الحر والبرد، والمسكن الذي يكن صاحبه ويستره ويشعره باستقلاله عن غيره، والعلاج الذي يزيل عنه آلام المرض وييسر له الشفاء، وفقا لسنن الله عز وجل, والتعليم المجاني الذي يخرجه من ظلمة الأمية والجهالة إلى نور المعرفة والثقافة، ويتيح لذوي المواهب أن يبلغوا أقصى درجات التعلم المستطاع للبشر، وأن يسدوا كل الثغرات التي تحتاج إليها الأمة في مختلف النواحي والتي عدها العلماء من فروض الكفاية.

ومن حق كل مواطن في دولة الإسلام أن يطالبها بهذه الحاجات الأساسية إذا قصرت في توفيرها لمستحقيها: فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته». [24] فجعل مسئولية الإمام – رئيس الدولة – عن الأمة كمسئولية رب البيت عن الأسرة.

وهذا ما بدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – بتطبيقه بوصفه إمام المسلمين في عهده وذلك حين قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»[25].

ولهذا كان – صلى الله عليه وسلم – يقضي من بيت المال ديون من مات، ولم يترك وفاء.

وجاء عمر من بعد – وقد اتسعت ثروة الدولة الإسلامية – فبلغ بالتكافل مبلغا، لم تحلم به الإنسانية من قبل، ففرض عطاء لكل مولود في الإسلام، وأمر بإجراء معاش أو راتب لكل عاجز عن العمل من أهل الذمة من اليهود والنصارى.

  • مصادرة كل مال حصل عليه حائزه بطريق من طرق الحرام: وأكل أموال الناس بالباطل، كالغصب،[26] أو الاختلاس،[27] أو الرشوة،[28] أو استغلال النفوذ ونحوها، سواء أكان هذا المال عقارا أم منقولا، بشرط أن يثبت ذلك بتحقيق نزيه، وأن يفصل فيه قضاء عادل، وما ينتج عن هذه المصادرة المشروعة يصرف في المصالح العامة، أو في مصالح الفئات الضعيفة خاصة.
  • يجب أن يخضع موظفو الدولة – وبخاصة الكبار منهم – لقانون “من أين لك هذا”؟! بحيث يعاقبون على كل كسب غير مشروع، بمصادرته كله أو بعضه بحسب قوة الشبهة في الملك أو ضعفها، اقتداء بما بدأ به النبي – صلى الله عليه وسلم – من محاسبة ابن اللتبية، وما سار عليه عمر – رضي الله عنه – من بعده في محاسبة ولاته ومشاطرتهم أحيانا نصف ما كسبوا أثناء ولايتهم.
  • يجب على الدولة في الإسلام محاربة السرف[29] والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه؛ توفيرا للطاقات المادية والبشرية التي تذهب هدرا من جراء التسابق المجنون في اقتناء الكماليات، بل المحرمات، وحفاظا على المجتمع من التفسخ والانحلال الذي ينذر به الترف كل من غرق فيه، ووقاية للأمة من الحقد الطبقي والانقسام إلى أكثرية كادحة شبه محرومة من الحاجات الأساسية للحياة، وأقلية متنعمة مترهلة تسمن على هزال غيرها.
  • يجب تقريب الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والفئات؛ بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء، وتصفية الامتيازات التي توارثها بعض الناس بغير حق، وإزالة المظالم التي يرزخ تحت نيرها آخرون بالباطل، وتضييق الفروق – ما أمكن ذلك – بين أعلى الرواتب وأدناها، بحيث يختفي منظر الثراء الفاحش، إلى جانب الفقر المدقع.
  • تقريب الفوارق بين القرية والمدينة؛ بحيث لا تستحوذ المدينة وسكانها على جل اهتمام الدولة وجل خدماتها، وتترك القرية في زوايا النسيان أو الإهمال، فلا بد من مزيد من الاهتمام بالقرية ورفع مستواها صحيا، واقتصاديا، وعمرانيا، واجتماعيا، وثقافيا, فلولا القرية ما أكلت المدينة.
  • تطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا؛ ومن كل معاملة تخالف شريعة الإسلام، وإنشاء مصارف – بنوك – إسلامية تتعامل على غير أساس الربا، وإلغاء كل البنوك التي لا تخضع لهذا الاتجاه، وبذلك تحرر الأمة من نجاسة السحت، [30] ومن شر آثار الرأسمالية، ومن أخطبوط اليهودية العالمية المتصرفة في ذهب العالم وبنوك الدنيا، ولا تأذن الأمة بحرب من الله ورسوله.

وفيما كتبه أساتذة الاقتصاد الإسلاميون في مصر وباكستان وغيرها مجال رحب لمن يريد تحويل النظريات إلى واقع عملي، وإذا صدق العزم وضح السبيل.

  • وضع خطة على أساس علمي وإحصائي؛ لزيادة ثروة الأمة، وتنمية إنتاجها كما ونوعا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها، واتخاذ الوسائل الفعالة مادية ومعنوية، لدفع عجلة التنمية، وتنظيف المجتمع من كل الآفات النفسية، والأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية التي تعطل طاقات الشعب، وتحطم منجزاته، وتعوق مسيرته نحو التقدم[31].
  • تقرير حق الملكية الفردية للأفراد، والسماح للأفراد بتنمية هذه الملكية، لكن في حدود مصلحة الفرد، والجماعة التي يتعامل معها.

فأما تقرير الإسلام لحق الملكية الفردية، فكما يقول الشيخ سيد قطب: الإسلام لا يدع حق الملكية الفردية مطلقا بلا قيود ولا حدود – كالنظام الرأسمالي – فهو يقرره، ويقرر بجواره مبادئ أخرى، تجعله أداة لتحقيق مصلحة الجماعة بنفس الدرجة التي تتحقق بها مصلحة الفرد المالك سواء! وهو يشرعه ويشرع له الحدود والقيود، التي ترسم لصاحبه طرقا معينة في تنميته وإنفاقه وتداوله, ومصلحة الجماعة كامنة من وراء هذا كله، ومصلحة الفرد ذاته كذلك، في حدود الأهداف الخلقية التي يقيم الإسلام عليها الحياة.

وأول مبدأ يقرره الإسلام – بجوار حق الملكية الفردية – أن الفرد أشبه شيء بالوكيل في هذا المال عن الجماعة، وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكا؛ وأن المال في عمومه إنما هو أصلا حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله، الذي لا مالك لشيء سواه, والملكية الفردية تنشأ من بذل الفرد جهدا خاصا لحيازة شيء معين من هذه الملكية العامة التي استخلف الله فيها جنس الإنسان.

وجاء في القرآن الكريم قوله عز وجل: )آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( (الحديد: 7)، ولا يحتاج نص الآية إلى تأويل ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه، وهو أن المال الذي في أيدي البشر هو مال الله، وهم فيه خلفاء لا أصلاء، وفي آية أخرى في صدد المكاتبين من الأرقاء: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم( (النور: 33)، فما يعطونهم هذا المال من ملكهم، ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء.

وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال الفردية، بوصفها ملكية التصرف والانتفاع – وهذا هو الواقع؛ فالملكية العينية لا قيمة لها بدون حق التصرف والانتفاع – فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف؛ فإذا سفه التصرف كان للولي أو للجماعة استرداد حق التصرف: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم( (النساء: 5)، فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة، فإذا لم يحققها المالك وقفت النتائج الطبيعية للملك وهي حقوق التصرف، ويؤيد هذا المبدأ أن الإمام وريث من لا وريث له، فهو مال الجماعة وظف فيه فرد، فلما انقطع خلفه عاد المال إلى مصدره.

ولسنا نقرر هذا الأصل لنقرر شيوعية المال، فحق الملكية الفردية حق أساسي واضح في النظام الإسلامي، ولكننا نقرره لما فيه من معنى دقيق مفيد في تكوين فكرة حقيقية عن طبيعة الملكية الفردية، وتقيدها بهذا الأصل العام في نظرة الإسلام إلى المال، واختلافها كلية عن النظرية الرأسمالية في الملكية الفردية، وبلغة أوضح: نقرر أن شعور الفرد بأنه مجرد موظف في هذا المال الذي في يده والذي هو في أصله ملك للجماعة، يجعله يتقبل الفروض التي يضعها النظام على عاتقه، والقيود التي يحد بها تصرفاته، كما أن شعور الجماعة بحقها الأصيل في هذا المال، يجعلها أجرأ في فرض الفروض، وسن الحدود – دون تجاوز لقواعد النظام الإسلامي التي أشرنا إليها, وينتهي بهذا إلى قواعد تحقق العدالة الاجتماعية كاملة في الانتفاع بهذا المال.

  • ومبدأ آخر يقرره الإسلام في ملكية المال، هو كراهية أن يحبس في أيدي فئة خاصة من الناس ويتداول بينهم ولا يجده الآخرون، قال عز وجل: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ومعنى هذا أن يؤخذ بعض المال من الأغنياء فيملك بالفعل للفقراء، ولهذا النص قصة تفيدنا هنا في فهم هذا المبدأ العام.

لقد هاجر المهاجرون مع النبي – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، فأما الفقراء فما كان لهم مال ينقلونه معهم، وأما الأغنياء فقد تركوا أموالهم خلفهم، فهم فقراء كالفقراء، ولقد سخت نفوس الأنصار، وارتفعت على الشح الفطري الكامن في النفس البشرية، فآخوا المهاجرين في كل شيء يملكون، حتى في أخص خصوصياتهم، طيبة نفوسهم بذلك، سمحة قلوبهم: )يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( (لحشر: 9)، وبذلك كانوا نموذجا رائعا لما تصنعه العقيدة بالنفوس، وضربوا مثلا جميلا للتخلص من ضغط الضرورات والانطلاق إلى أرفع الأشواق.

ولكن الفجوة ظلت واسعة بين أثرياء المدينة، وفقراء المهاجرين والنبي – صلى الله عليه وسلم – يرى سماحة الأنصار وسخاءهم، فلا يجد أن به حاجة لأن يطلب إليهم أكثر مما بذلوا، ولا أن يكلفهم رد بعض من أموالهم على المهاجرين، وهم يؤاخونهم في كل ما يملكون,إلى أن كانت موقعة “بني النضير” التي لم تقع فيها حرب، بل سلمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – صلحا، فكان فيؤها كله لله وللرسول – صلى الله عليه وسلم – بخلاف ما يقع فيه الحرب، فتكون أربعة أخماسه للمقاتلين، والخمس وحده لله وللرسول – عندئذ رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعيد لجماعة المسلمين شيئا من التوازن في ملكية المال؛ فمنح فيء بني النضير للمهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، تنطبق عليهما الحكمة التي أوحت إليه بتخصيص هذا الفيء للمهاجرين.

وفي هذه الواقعة يقول القرآن: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8)( (الحشر).

ودلالة هذا التصرف من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهذا التعليل لذلك التصرف في القرآن، غير خافية ولا في حاجة إلى بيان، فهي تقرر مبدأ إسلاميا صريحا، وهو كراهة انحباس الثروة في أيد قليلة في الجماعة، وضرورة تعديل الأوضاع التي تقع فيها هذه الظاهرة بتمليك الفقراء قسطا من المال؛ ليكون هناك نوع من التوازن، و: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، ذلك أن تضخم المال في جانب وانحساره في الجانب الآخر، مثار مفسدة عظيمة، فوق ما يثيره من أحقاد وأضغان, فحيثما وجدت ثروة فائضة، كانت كالطاقة الحيوية الفائضة في الجسد، لا بد لها من تصريف، وليس من المضمون دائما أن يكون هذا التصريف نظيفا ومأمونا، فلا بد أن تأخذ طريقها أحيانا في صورة ترف مفسد للنفس مهلك للجسد، وفي صورة شهوات تقضي تجد متنفسها في الجانب الآخر المحتاج إلى المال، يصل إليه عن طريق بيع العرض[32] والاتجار فيه، ومن طريق الملق[33] والكذب وفناء الشخصية، لإرضاء شهوات الذين يملكون المال، وتمليق غرورهم وخيلائهم، والمضطر يركب الصعب، وصاحب المال المتضخم لا يعنيه إلا أن يجد متصرفا للفائض من حيويته، والفائض من ثروته,وليست الدعارة وسائر ما يتصل بها من خمر وميسر وتجارة رقيق وقوادة، وسقوط مروءة، وضياع شرف, سوى أعراض لتضخم الثروة في جانب وانحسارها عن الجانب الآخر، وعدم التوازن في المجتمع نتيجة هذا التفاوت.

ذلك عدا أحقاد النفوس، وتغير القلوب على ذوي الثراء الفاحش من المحرومين الذين لا يجدون ما ينفقون؛ فهم إما أن يحقدوا، وإما أن تتهاوى نفوسهم وتتهافت، وتتضاءل قيمهم الذاتية في نظر أنفسهم، فتهون عليهم كراماتهم أمام سطوة المال، ومظاهر الثراء، ويصبحوا قطعا آدمية حقيرة صغيرة، لا هم لها إلا إرضاء أصحاب الثراء والجاه, وهذا ما وقع في النظام الرأسمالي.

والإسلام على كثرة ما يشيد بالقيم المعنوية، لا يغفل أثر القيم الاقتصادية، ولا يكلف الناس فوق طاقتهم البشرية، مهما تسامى بهم عن الضرورات الأرضية؛ لذلك كره أن يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب، وجعل هذا أصلا من أصول نظريته في سياسة المال,وأوجب رد بعض هذا المال للفقراء، ليكون لهم مورد رزق مملوك لهم، يضمن لهم الكرامة والذاتية، ويجعلهم قادرين على القيام بأمانة هذا الدين في التغيير على المنكر من الحكام والمحكومين سواء.

على أن هناك نوعا من الأموال التي لا يجوز احتجازها للأفراد، عدد الرسول – صلى الله عليه وسلم – منها ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار، كما ذكر في قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار».[34] بوصفها موارد ومرافق عامة ضرورية لحياة الجماعة في البيئة العربية، فالانتفاع بها للجماعة كلها على وجه الشيوع والمشاركة العامة, والضروريات لحياة الجماعة تختلف في بيئة عن بيئة، وفي عصر عن عصر، والقياس – وهو أحد أصول التشريع في الإسلام – ينفسح لسواها عند التطبيق مما هو في حكمها، على ألا يؤثر ذلك في القواعد الأساسية للنظام الإسلامي، ولا يجرد الأفراد جميعا من ملكياتهم الخاصة ليصبحوا أجراء عند الدولة، فإن الدولة عندئذ تملك استرقاقهم واستذلال رقابهم بأشد مما يملك الأفراد الأثرياء؛ لأنها تضم قوة المال إلى قوة السلطان.

وهناك جزء من المال هو حق لبعض المحتاجين في الجماعة، وهو المفروض في صورة زكاة: )والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)( (المعارج)، وهو يخرج من ملكية دافعي الزكاة إلى ملكية مستحقي الزكاة: )إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)( (التوبة)، وهو حق تأخذه الجماعة، ثم ترده مرة أخرى إلى الأفراد المحددين, فتكون وظيفة الجماعة حينئذ هي نقل الملكية الفردية من جهة إلى جهة، ومن يد إلى يد أخرى.

فخلاصة الحقيقة عن طبيعة الملكية الفردية في الإسلام: أن الأصل هو أن المال للجماعة في عمومها، وأن الملكية الفردية وظيفة ذات شروط وقيود، وأن بعض المال شائع لا حق لأحد في امتلاكه، ينتفع به الجميع على وجه المشاركة، وأن جزءا منه كذلك حق يرد إلى الجماعة لترده على فئات معينة فيها، هي في حاجة إليه، لصلاح حالها وحال الجماعة معها[35].

وبهذا العرض الرائع لزوايا النظام الاقتصادي في الإسلام يتضح لنا مدى شمول الشريعة الإسلامية ووفائها بحاجات المجتمع في كل زمان ومكان، ومدى تفوق النظام الإسلامي في الاقتصاد وتميزه على ما سواه من أنظمة البشر القاصرة التي لا تلبث قليلا حتى يظهر عوارها وتتضخم عيوبها ومفاسدها يوم بعد يوم؛ حتى يضطروا إلى إنشاء نظام جديد يكون – بحكم أنه بشري – قاصرا عن الاستمرار والبقاء، وهكذا يفشل نظام تلو نظام آخر، وصدق الله العظيم إذ يقول: )ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام).

  1. في الناحية السياسية:

أما عن النظام السياسي الإسلامي، فإن الإسلام دين ودولة منذ أول يوم بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم. يقول د. يوسف القرضاوي: قبل أن نوضح عناية الإسلام بالسياسة نحتاج إلى شرح مصطلح “الإسلام السياسي”، فقد كثرت في السنوات الأخيرة بعض العبارات التي شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين[36] من اليساريين[37] واليمينيين،[38] أعني من الذين يتبعون الفكر الماركسي[39] الشرقي أو الفكر الليبرالي[40] الغربي.

ومن هذه التعبيرات تعبير “الإسلام السياسي” ويعنون به الإسلام الذي يعني بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكم في رقابها، ويوجه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله – عز وجل – في مختلف جوانب حياتها.

وهم يطلقون هذه الكلمة “الإسلام السياسي” للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، فهل هذه التسمية المحدثة” الإسلام السياسي” مقبولة من الناحية الشرعية؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع من لدن الدعاة المحدثين والمعاصرين؟ أو يعتبر هذا من الدين الثابت بالقرآن والسنة؟

ولكي نوضح حقيقة هذا الأمر في ضوء الأدلة الشرعية المحكمة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة نقول:

  1. هذه التسمية “الإسلام السياسي” مرفوضة:

إن هذه التسمية مرفوضة؛ وذلك لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلاما واحدا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين، بل هو”إسلامات” متعددة مختلفة كما يحب هؤلاء.

فهو ينقسم أحيانا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي, وأحيانا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث. وأحيانا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي… إلخ, وأحيانا بحسب المذهب: هناك الإسلام السني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السني إلي أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضا.

وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة: فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي، أو الراديكالي، والكلاسيكي، [41] والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المتزمت، والإسلام المنفتح.

وأخيرا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي[42]!

ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يخبئها ضمير الغد؟!

والحق أن هذه التقسيمات كلها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو” الإسلام الأول” إسلام القرآن والسنة, الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممن أثنى الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشوبه الشوائب، وتلوث صفاءه ترهات الملل وتطرفات النحل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفرق، وأهواء المجادلين، وانتحالات المبطلين، وتعقيدات المتنطعين، وتعسفات المتأولين الجاهلين.

  1. الإسلام لا يكون إلا سياسيا:

يجب أن نعلنها صريحة مدوية: إن الإسلام الحق – كما شرعه الله – لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.

إننا إذا نظرنا إلى الإسلام وجدناه يوجه الحياة كلها، وذلك لسببين رئيسين:

  • أن للإسلام موقفا واضحا، وحكما صريحا في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة، فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة، كلا, إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصل من قواعد، وما سن من تشريعات، وما بين من توجيهات تتصل بحياة الفرد، وشئون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأسس الدولة وعلاقات العالم.

ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحا كل الوضوح.

حتى قسم العبادات من الفقه ليس بعيدا عن السياسة، فالمسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر – رضي الله عنه – مع مانعي الزكاة.

بل قالوا: لو ترك أهل بلدة ما بعض السنن التي هي من شعائر الإسلام؛ مثل الأذان أو ختان الذكور، أو صلاة العيدين، وجب أن يدعوا إلى ذلك وتقام عليهم الحجة، فإن أصروا وأبوا وجب أن يقاتلوا، حتى يعودوا إلى الجماعة التي شذوا عنها.

إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته: في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام، وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون خادما لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.

بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع، ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”, فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكا وملكا.

وفكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربا، ولا يتخذ غير الله وليا، ولا يبتغي غير الله حكما، كما بينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعروفة باسم “سورة الأنعام”.

وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوة للبشر، حتى لا يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، وتبطل عبودية الإنسان للإنسان؛ ولذا كان الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: )قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64)( (آل عمران).

وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية” لا إله إلا الله” فقد كانوا يدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.

  • أن شخصية المسلم – كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته – لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.

فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يعبر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة». [43] وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك”سورة العصر”.

وعن عناية المسلم بالشأن العام لأمته – وهو ما يسمونه الآن: السياسة – فقد بين أن:

o      مقاومة الفساد والظلم أفضل الجهاد:

يحرض الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». [44] وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهد السبيل لعدوان الخارج، ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»[45].

ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرد على الظالمين؛ حتى إنه ليقول في دعاء القنوت: «نثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك»[46].

ويرغب في القتال لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحث والتحريض، فيقول عز وجل: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء).

ويصب جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: )إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98)( (النساء).

حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: )فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم( (النساء: ٩٩)، فجعل ذلك في مظنة الرجاء من الله عز وجل، زجرا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلا.

وحديث القرآن المتكرر عن المتجبرين في الأرض من أمثال فرعون وهامان وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار – فكريا وشعوريا – لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.

o      تغيير المنكر فريضة:

وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه – حكاما أو محكومين – حديث يزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، يقول القرآن: )لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79)( (المائدة)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[47].

فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتا؟ أو ينسحب من الميدان هاربا أمام المنكرات وغيرها خوفا أو طمعا، أو إيثارا للسلامة؟

إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء، لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110)( (آل عمران).

إن المسلم مطالب – بمقتضى إيمانه – ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيا كان نوعه: سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد – إن استطاع – وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: “أضعف الإيمان”.

وإنما سماه الرسول – صلى الله عليه وسلم – تغييرا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرا سلبيا محضا – كما يتوهم – ولو كانت كذلك ما سماها الحديث “تغييرا”.

ومما يجعل المسلم سياسيا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصا المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان: )إنما المؤمنون إخوة( (الحجرات: 10).

والقرآن كما يفرض على المسلم أن يطعم المسكين، يفرض عليه أن يحض الآخرين على إطعامه، ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمهم القرآن بقوله: )كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحاضون على طعام المسكين (18)( (الفجر)، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدين: )أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3)( (الماعون).

ويقرنه القرآن الكريم مع الكفر بالله – عز وجل – في استحقاق العذاب في الآخرة، قال عز وجل: )إنه كان لا يؤمن بالله العظيم (33) ولا يحض على طعام المسكين (34)( (الحاقة)، هذا وفي المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة وحض على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.

وكما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالب أيضا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيا كان اسمه ونوعه, والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجبان العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما في قوله عز وجل: )واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة( (الأنفال: 25).

وقد ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: )قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21)( (نوح)، وعن قوم هود: )وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59)( (هود)، وعن قوم فرعون: )فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين (54)( (الزخرف)، بل جعل القرآن مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبا لعذاب الله: )ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)( (هود).

ويحمل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح: «من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية»[48].

ثم إن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس “سياسة”، كأن يقرأ الآيات التي تأمر بالحكم بما أنزل الله: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).

ومثل ذلك: من يقرأ الآيات التي تحذر من موالاة غير المؤمنين: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا (144)( (النساء)، )لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)( (آل عمران)، )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة( (الممتحنة)، )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر( (آل عمران: 118).

ومن قنت “قنوت النوازل” المقرر في الفقه – وهو الدعاء الذي يدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة؛ كغزو عدو، أو وقوع زلزال أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك – فقد اهتم بالسياسة وهو في داخل الصلاة.

فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينا بلا دولة، ولا دولة بلا دين.

o      دعوى أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين:

الذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة” لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين” من بعد، أول من كذبوها بأقوالهم وأفعالهم، فطالما لجأ هؤلاء إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين، ليستصدروا منهم فتاوى ضد من يعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.

هل السياسة أمر منكر؟!

السياسة – من الناحية النظرية – علم له أهميته ومنزلته، وهي – من الناحية العملية – مهنة لها شرفها ونفعها؛ لأنها تتعلق بتدبير أمر الخلق على أحسن وجه ممكن.

نقل الإمام ابن القيم عن الإمام أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي: أن السياسة هي الفعل الذي يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مادامت لا تخالف الشرع.

وذكر ابن القيم: أن السياسة العادلة لا تكون مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها حتى قال الإمام الغزالي: إن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.

وقد عرفوا الإمامة أو الخلافة بأنها: نيابة عامة عن صاحب الشرع – وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به؛ فالخلافة حراسة وسياسة.

وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – سياسيا، بجوار كونه مبلغا ومعلما وقاضيا، وكان خلفاؤه الراشدون المهديون من بعده سياسيين على نهجه وطريقته، إذ ساسوا الأمة بالعدل والإحسان، وقادوها بالعلم والإيمان.

ولكن الناس في عصرنا وفي أقطارنا خاصة من كثرة ما عانوا من السياسة وأهلها، سواء كانت سياسة الاستعمار أم سياسة الحكام الخونة، أو الحكام الظلمة، كرهوا السياسة، وكل ما يتعلق بها، وخصوصا بعدما أصبحت فلسفة ميكافيلي هي المسيطرة على السياسة والموجهة لها، حتى حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه – بعد ما ذاق من مكر السياسة وألاعيبها ما ذاق – قال كلمته الشهيرة: “أعوذ بالله من السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس”!

وأما عن وفاء الإسلام بحاجة المجتمع السياسية الداخلية والخارجية، فنجده قد وفي هذا الجانب على أتم وجه كما يأتي:

  1. في السياسة الداخلية:
  • تستبعد الفكرة الغربية الدخيلة، القائمة على الفصل بين الدين والدولة، والعودة إلى الفكرة الإسلامية الأصيلة التي لا تعرف إلا الإمامة، التي هي منصب ديني وسياسي معا، فهي رئاسة عامة في الدين والدنيا، أو نيابة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، كما عرفها علماؤنا.
  • لا تنفصل السياسة في الإسلام عن العقيدة ولا عن الشريعة ولا عن الأخلاق، وإنما ترتبط بها كلها، وتلتزم بها كلها، ولا يقر الإسلام المبدأ القائل: إن الغاية تبرر الوسيلة، فهو لا يرضى اتباع الباطل لنصرة الحق، ولا يرى إلا الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.
  • يجب تجنيد الكفايات الإسلامية الفقهية والقانونية والسياسية المخلصة، لتقوم بوضع دستور إسلامي يحدد نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والشعب، كما يحدد الحقوق والواجبات للمواطنين في الدولة المسلمة، ويفصل اختصاصات السلطات، مستفيدا من تجارب التاريخ والواقع، ومستهديا قبل كل شيء بقواعد الشريعة ونصوص الكتاب والسنة.
  • يجب أن يتم اختيار رئيس الدولة بالبيعة[49] ورضا الشعب، وعلى أساس من الشورى وأن يكون للأمة وممثليها في ذلك الكلمة العليا, وأن يخضع هذا الرئيس لرقابة الشعب، ولا يعلو على كلمة الحق تقال في وجهه، كما لا يعلو على المثول أمام القضاء، إذا ارتكب أي مخالفة ظاهرة, وأن يتضح ذلك كله في صلب الدستور.
  • يجب أن يؤكد هذا الدستور حق الفرد – الإنسان أو المواطن – في الحرية، فقد ولدت الناس أمهاتهم أحرارا، فلا يجوز أن يستعبدوا لأمثالهم من الخلق، ولسنا نعني بالحرية: اتباع الشهوات وانطلاق الغرائز السفلى، فهذه بهيمية لا حرية، ولا نعني بها اتباع الشبهات، وبلبلة الأفكار، وإثارة الفتن، فهذه فوضى لا حرية، إنما نعني بحرية المواطن أو الإنسان هنا: خلاصه من كل سيطرة تتحكم في تفكيره أو وجدانه أو حركته، سواء كانت سيطرة حاكم مستبد، أم كاهن متسلط، أم إقطاعي ورأسمالي متجبر.

وحرية الإنسان أو المواطن لها هنا مجالات شتى:

o  حريته في أن يفكر ويعمل عقله الذي آتاه الله إياه، وفضله به على كافة المخلوقات وليس من المقبول أن يمنح الإنسان هذه الجوهرة ثم يعطلها ويجمدها، ليفكر له غيره.

o  حريته في التعبير عما يجيش به صدره، أو ينتهي إليه فكره، بالقلم أو اللسان، بالكتاب أو بالصحيفة أو بالخطابة، فإن الله – عز وجل – يقول: )خلق الإنسان (3) علمه البيان (4)( (الرحمن) فلا بد أن يسمح له بأن يبين عن نفسه، وإلا كان كالحيوان الأعجم أو الحمار الأصم.

o  حريته في اعتقاده، فلا يكره على اتخاذ دين بعينه، أو نحلة بعينها، أو على تغيير دينه بدين آخر، أو العيش بغير دين، أو على تعطيل شعائر دينه، أو غير ذلك مما يقلق ضمير الإنسان: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256).

o      حريته في نقد الأوضاع الجائرة والاتجاهات المنحرفة، والتصرفات الخاطئة، مهما يكن مركز من صدرت عنه، فليس أمام الحق كبير: )والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( (التوبة: 71)، على أن يكون الحكم في ذلك والمقياس الأوحد هو الإسلام.

o      حريته في الاجتماع بغيره ممن يرى رأيه، ليكونوا معا هيئة أو جماعة أو حزبا، ما دامت هذه المؤسسة تقوم على أساس فكري سليم، مبني على احترام عقائد البلاد ونظام حياتها الشرعي، قال عز وجل: )وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( (المائدة: 2).

o  حريته في كسب عيشه، ليعف نفسه، ويكفي أهله، ويعود على من حوله، فلا يجوز أن يغلق عليه باب العمل رأسا, أو يضيق عليه الخناق في تدبير أمر رزقه، حتى يعمل في غير اختصاصه أو فيما لا يلائمه, أو يفصل من عمله اضطهادا وعقوبة على غير جريمة اقترفها، تستحق أن يحرم هو ومن يعول.

o      حريته داخل مسكنه الخاص، فلا يقتحم عليه بغير إذنه، ولا يتجسس ولا يتسمع عليه، ولا تتبع عوراته، قال عز وجل: )ولا تجسسوا( (الحجرات: 12)، وقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها( (النور: 27)، وفي الحديث: «لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم»[50]. «من استمع حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنه الآنك يوم القيامة»[51].

o      أن يأمن على حرماته كلها من أي عدوان عليها من السلطة والموالين لها، وهذه الحرمات هي:

  1. الدين: فلا يستخف به أو يهان.
  2. النفس: التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
  3. البدن: فلا يجوز تعذيبه أو إيذاؤه إلا في عقوبة شرعية قامت أدلتها وانتفت شبهاتها، فإن ظهر المؤمن حمى.
  4. العرض: – بمعنى الكرامة الشخصية للإنسان – فلا يجوز أن يشتم أو يسخر به في حضرته، أو يؤذى ويذكر بسوء في غيبته، أو يحقر من شأنه، فإن الله حرم الأعراض، كما حرم الدماء والأموال.
  5. الأهل: فلا يجوز الاعتداء على زوجه، أو أولاده، أو أحد أبويه، أو محارمه.
  6. المال: فلا يجوز مصادرة مال جمعه من حلال، ولم ينفقه في باطل، ولم يبخل به عن حق.
  • وكما أكد الدستور حق الفرد في الحرية والأمن على نفسه وأهله وماله وسائر حرماته، يجب أن يؤكد حق المجتمع في الحفاظ على كيانه ووجوده من انحرافات الأفراد وطغيان الأنانيات،[52] وفي حماية عقائده وآدابه من دعاة التحلل والإباحية، وفي حماية شريعته ونظامه من دعاة التبعية للغرب أو للشرق, ومن وسائل ذلك إقامة الحدود والعقوبات الشرعية على مستحقيها.
  • ويضمن هذا الدستور للأقليات غير المسلمة أن يعيشوا في كنف الإسلام أحرارا في التمسك بعقائدهم، وأداء عباداتهم، وإقامة شعائرهم، بشرط أن يحترموا مشاعر الأغلبية، ولا يجرحوا أحاسيسهم بما لا حاجة إليه، من افتعال التحديات والتظاهرات التي لا تثمر إلا إيغار الصدور،[53] وأن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، إلا ما اقتضته ظروف دولة أيديولوجية تقوم في الأساس على فكرة الإسلام.

2- وأما في السياسة الخارجية:

  • اعتبار المسلمين حيثما كانوا أمة واحدة، جمعت بينهم عقيدة الإسلام وشريعته وأخوته، لا يفرق بينهم اختلاف جنس أو لون أو لغة أو وطن أو طبقة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
  • وكل أرض استوطنها المسلمون، وقامت فيها شعائر الإسلام وشرائعه، وارتفعت فيها مآذن تنادي بالتكبير والتهليل، هي وطن إسلامي يجب حمايته والذود عنه.
  • وكل بلد مسلم اعتدي عليه، له حق المعونة والنصرة والمساندة، المادية والأدبية، حتى يحرر أرضه وينتصر على عدوه.
  • الأقليات المسلمة في شتى بقاع الأرض هم جزء منا بحكم أخوة الإسلام، فلهم حق المعاونة والمعاضدة، وعلينا مناصرة المستضعفين والمضطهدين منهم بكل ما نستطيع من قوة، ولو أدى ذلك إلى حمل السلاح لإنقاذهم من طغيان الكفرة، وعدوان الفجرة، استجابة لقوله عز وجل: )وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75)( (النساء).
  • العمل على إزالة الحواجز المفتعلة بين بلاد المسلمين بعضهم وبعض، أو تخفيفها على الأقل ابتداء، لتقوى بينهم الصلات، وتتوثق عرى الأخوة والتعارف.
  • زيادة التعاون بين المسلمين في شتى المجالات بدءا بالمجالات الاقتصادية والثقافية والإعلامية والدفاعية، استجابة لأمر الله بالتعاون على البر والتقوى.
  • مناصرة الحركات التحررية في العالم كله، انطلاقا من الفكرة الإسلامية التي ترفض استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، أيا كان دينه وجنسه.

الترحيب بالسلام بين الدول والشعوب، إذا كان قائما على أساس من العدل والمساواة واحترام الحقوق، ورفع الظلم عمن وقع عليه وإن طال الأمد، قال عز وجل: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61)( (الأنفال).

  • العناية البالغة باختيار العناصر التي يوكل إليها سياسة الأمة، وقيادة سفينتها، فإن كل المبادئ والدساتير، تظل حبرا على ورق، ما لم تجد الرجال الأقوياء الأمناء الذين إذا حدثوا صدقوا، وإذا وعدوا أنجزوا، وإذا ائتمنوا أدوا، وإذا عاهدوا وفوا. ومن ضرورة ذلك: وضع شروط ثقافية ودينية وخلقية للمرشحين للمجالس النيابية والشورية وسائر المناصب الكبرى، حتى لا توضع قيادة الأمة في أيدي الجهلة أو الملاحدة أو الفسقة.
  • في الناحية التشريعية:

كان التشريع الإسلامي هو الموجه الفذ، والمرجع الأوحد لحياة المجتمع الإسلامي في كل العهود السابقة، ومنه استمدت كل الأحكام، وعلى أساسه قامت كل العلاقات في كافة النواحي المدنية، والجنائية، والدولية، والأسرية التي يطلق عليها الآن اسم”الأحوال الشخصية”.

كان الجميع – حكاما ومحكومين – يستفتون هذا التشريع ويحتكمون إليه في كل أمورهم، معتقدين قدسيته وبلوغه إلى الدرجة العليا في رعاية الحق والعدل، وتحقيق مصالح الفرد والجماعة بلا إفراط ولا تفريط.

o  ولم يدر بخلد[54] أحد في أمة الإسلام أن يحتكم أبناؤها يوما إلى أحكام غير أحكامه، ومبادئ غير مبادئه، كيف؟! والله – عز وجل – يقول: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)( (المائدة)، )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).

ولكن الذي حدث أن الاستعمار الغربي الصليبي زحف على بلاد الإسلام منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فاحتل أكثر هذه البلاد، وتحكم في رقاب أهلها، وأصبحت في يديه مقاليد الحياة كلها، من سياسة إلى تشريع، إلى تعليم، إلى تنفيذ. فلا عجب أن أدخل قوانينه ونظرياته التشريعية، فأصبحت هي السائدة على كثير من المجتمعات، ولم تدع للشريعة إلا ركنا ضيقا في الحياة هو ما يسمى بـ “الأحوال الشخصية”[55].

ومن هنا وجب – في نظر التشريع الإسلامي – إعادة البناء التشريعي من جديد مراعيا الأمور الآتية:

o  النص في الدستور على أن المصدر الرئيس للقوانين في كافة جوانب الحياة هو الشريعة الإسلامية بمصادرها الأصلية والتبعية.

o      النص على أن كل قانون يخالف النصوص القطعية أو الإجماع والدين المتيقن واجب البطلان.

o  يمكن – مرحليا إلى أن توضع قوانين إسلامية خالصة – أن تراجع القوانين المعمول بها حاليا؛ لتنقيتها من كل ما يخالف الشريعة، وإقرار ما يتفق منها مع هذه الأحكام، على أن يربط بالشريعة وفلسفتها بكتابة مذكرات تفسيرية من وجهة نظر الشريعة، وتكملة البناء التشريعي بما يفرضه الإسلام من أحكام وقواعد غفل عنها القانون الوضعي.

o  يلغى كل قانون يشتمل على امتياز لبعض الطبقات دون بعض بغير مسوغ، أو على ظلم لبعض الفئات بغير سبب، أو الجور على حريات الأفراد بغير ضرورة.

o  أن تكون هيئة عليا من الفقهاء المتضلعين في أحكام الشريعة وأدلتها ومقاصدها، والمطلعين على أحوال العصر وتياراته لمراجعة كل قانون جديد يصدر من الجهات المختصة؛ لإقراره بمقتضى الشرع أو إلغائه إن خالف نصا أو قاعدة.

o  النص على إقامة الحدود والعقوبات الإسلامية التي شرعها الله عز وجل؛ حفظا للمجتمع وردعا للأشرار وقطعا لشأفة الجريمة، كحدود وعقوبات السرقة والزنا والقذف وشرب الخمر والقتل العمد والردة، تلك التي بالقرآن والسنة، مع مراعاة التشدد في أركان الجريمة وشروطها، ودرء الحدود بالشبهات ما وجد إلى ذلك سبيل.

o  اختيار أحج الآراء الفقهية من شتى المذاهب الإسلامية المعتبرة، وأليقها بتحقيق مقصود الشارع، وأبعدها عن التزمت والتعسير؛ ليبنى منها قانون إسلامي يجاري روح العصر ولا يتجاوز أحكام الشرع.

o      أن يكون الفقه الإسلامي أساس الدراسة في كليات الحقوق في كل الجامعات.

وبعد هذا العرض التفصيلي للنظامين الاقتصادي والسياسي في الإسلام يتبين لنا – بجلاء لا يدع مجالا للشك – أن الإسلام بتشريعاته في كل جوانب الحياة قادر على الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والسياسية وغيرهما، وقد وفي في هذا أتم الوفاء في العصور التي حكم فيها الإسلام، كما يتضح لنا أنه لا بقاء ولا استمرار للبشرية إلا إذا حكمت شرائع الإسلام؛ لأنها من قبل الله – عز وجل – العليم بخبايا النفوس وطبائعها وما يصلحها ويعود عليها بالنفع والخير، وكيف لا وهو صانعها ومبدعها: )ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)( (الملك)، ومن قال غير ذلك فالعيب في جهله وتعصبه وحقده وفهمه القاصر، وصدق القائل:

وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

ثانيا. الفشل الذي وصمت به الأنظمة الاقتصادية والسياسية في مجتمعاتنا المسلمة سببه الخطأ في التطبيق لا التشريع:

يقول فضيلة الشيخ محمد قطب: لا يحتاج التخلف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي إلى جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.

نعم لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف ولكنها وحدها لا تبرره ولا تفسره.

لقد كانت أوربا الصليبية تسعى – منذ القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس – إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل, وكان من بين الوسائل، التي اتخذوها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلى أيديهم، وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم على البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالا طائلة، وعلى العالم الإسلامي كله كذلك.

ومنذ اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح، الذي كشفوه على هدي الخرائط الإسلامية – وبمعاونة بحارة مسلمين – بدأوا يتجهون إلى الشرق الأقصى ليستولوا على أرضه وخيراته، وينقلوها على سفنهم عن طريق رأس الرجاء الصالح فيحرموا منها دولة المماليك ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.

وحدث ذلك بالفعل، وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثيرا بالغا بما حدث.

ولكن هل هذا هو التفسير؟ أو هذا هو التبرير؟

أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟ ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟

فما الذي حدث في التاريخ؟

لقد انساحت الأمة المؤمنة في الأرض، فأزالت قوى الباطل ودكتها دكا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام، واستولت هي على مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا( (النور: 55).

فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟

سنقول: ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم.

نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة – ولا شك – ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدي إلى الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة.

يقول أصدق القائلين: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11)، ويقول: )ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الأنفال:53)، والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الإيمان, والذي يتغير في النفوس هو حقيقة الإيمان، فحين تكون الأمة “متقدمة” في الإيمان يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين، وحين تكون “متخلفة” يحدث تغيير النعمة، أي: “سلبها” ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.

فسلب التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوربا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور الذي ترتب عليه في كل اتجاه، فتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته أثر من آثار التخلف العقدي، ولكن آثار التخلف العقدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلى توكيد.

فلنفرض أن التجارة العالمية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون على درئه، فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي على التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين؟!

إن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط هي بقدر من الله أغنى بقعة في الأرض وأكثرها خيرات، ولكنها – حتى هذه اللحظة – لم تستثمر الاستثمار الكامل الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها.

فإذا ضاع جزء من الثروة لأسباب قاهرة، فلماذا لم تسع الأمة في مجموعها إلى استغلال الثروات الأخرى القابلة للاستغلال، من زراعة وصناعة ومعادن مذخورة في باطن الأرض؟!

السبب هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلى تغييره خوفا من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!

ومن أين نشأت هذه العوامل كلها؟ لا شك أنها نشأت نتيجة للتخلف العقدي.

لو تخيلنا هذا العارض – وهو ضياع التجارة من يد المسلمين – قد حدث للأجيال الأولى من هذه الأمة، فهل كان رد الفعل عندها سيكون مماثلا لما حدث للأجيال المتأخرة؟

وهل يكمن الفارق في الظروف الخارجية التي أحاطت بالمسلمين؟ أم أنه راجع في حقيقة الأمر إلى الفارق النفسي الهائل بين أول هذه الأمة وآخرها, بين الإيمان الصحيح والإيمان المخلخل المنحرف, أي راجع إلى التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في أجيالها المتأخرة؟ وكذلك ينبغي أن يكون فهمنا لأحداث التاريخ الإسلامي.

إن أمما أخرى غير الأمة الإسلامية يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله! بل كلما زادت بعدا عن الله زادت في القوة والتمكين، كما هو حال أوربا الكافرة الجاحدة اليوم؛ لأن هذا من السنن الربانية في معاملة الكفار: )فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)( (الأنعام)، لفترة من الزمن يقدرها الله, ثم يأتي التدمير: )حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44)( (الأنعام).

أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة فلا يمكنون إلا وهم على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين؛ ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافا حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين: )من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)( (هود).

فمن رحمته – عز وجل – بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبدا وهي منحرفة عن السبيل؛ لكي تعود إليه، فيمكنها وهو راض عنها، ويدخر لها في الآخرة ما يدخره لعباده الصالحين[56].

أما ما أصاب الأمة الإسلامية من تدهور في شئونها السياسية، فمنشؤه العولمة[57] السياسة، وليس النظام الإسلامي للسياسة، وبيان ذلك كالآتي:

تزعم عولمة السياسة أنها تعمل على إشاعة الديمقراطية الليبرالية في العالم، وترعى حقوق الإنسان، وتحامي عن المضطهدين، والمعذبين في الأرض.

وهذا صحيح بالنسبة لغير المسلمين, أما بالنسبة للمسلمين، فهم يؤيدون الديكتاتوريات المتسلطة، والديمقراطيات الزائفة.

إن العولمة السياسية تسكت عن حقوق المسلمين المضطهدين في كثير من بلاد العالم: في كشمير، وفي الفلبين، وفي روسيا، وفي الجمهوريات الإسلامية في آسيا، وفي أثيوبيا، وأرتيريا، وفي عدد من بلاد أوربا، وفي بعض الدول العربية، في حين تزعم أن هناك اضطهادا للأقليات غير المسلمة في مصر وفي السودان، بل تزعم أن الشريعة الإسلامية تظلم الأقليات، وتجور على حقوق المرأة، ولا تعترف بحقوق الإنسان، وتندد بالمملكة السعودية في ذلك، وهذا كله من الحيف[58] والجور عن الحق، والميل عن الصراط المستقيم.

ومن المهم أن نذكر هنا أن العولمة السياسية إن نسيت شيئا فلن تنسى أمرا مركزيا مهما هو خدمة إسرائيل[59].

ولم يقتصر أثر هذه العولمة على المجال السياسي بل لحقت أيضا المجال الاقتصادي، كما يقول د. يوسف القرضاوي: لعل من أبرز مظاهر العولمة عند الكثيرين ما يتعلق بـ “عولمة الاقتصاد”؛ نظرا إلى أهمية الاقتصاد في عصرنا خاصة، وتأثيره في السياسة المحلية، والإقليمية، والدولية، حتى قال بعضهم: إن العولمة تعني “رسملة العالم”.

وتأثير العولمة في الاقتصاد أمر جلي لا تخطئه العين، ولا يخفى حتى على غير المتخصص، فهي تؤثر بشكل ملموس على الإنتاج، وعلى الاستهلاك، وعلى التداول، وعلى التوزيع.

ويمكن حصر أضرار العولمة ومساوئها في النقاط الآتية:

  • العولمة وما يتبعها من حرية التجارة بين دول العالم خطر على الصناعات الوطنية، وعدم قدرتها على منافسة العمالقة القدامى، وكيف تنافس الأسماك الصغيرة الحيتان؟
  • ما يتبعها من “الخصخصة” – كما تسمى – وهي نقل ملكية القطاع العام وشركاته إلى القطاع الخاص، في إطار فلسفة التقليص من إشراف الدولة القومية أو الوطنية وهيمنتها.
  • العولمة وما يتبعها من اتساع دائرة الإنتاج والتسويق، فلم يعد المصنع، أو الشركة محصورة في بلد واحد، بل أصبح للمصنع الواحد، أكثر من فرع في أكثر من بلد، فقد يكون المصنع في “بيروت” وله فروع في أوربا، وفي اليابان، وفي الشرق الأوسط,وقد يكون الأصل في اليابان، وفروعه في كوريا وفي ماليزيا، وفي تايلاند… إلخ.
  • العولمة باعتبار أثرها في الشعوب وفي الطبقات، فهي تعمل دوليا لحساب الأمم المتقدمة على حساب الشعوب النامية، وهي تعمل محليا لحساب الطبقات العليا، على حساب الجماهير الدنيا، والطبقات المسحوقة، بما تمليه دائما من رفع الدعم عن الخبز والقوت وأساسيات المعيشة، مما يجعل شرائح واسعة من المجتمعات لا تجد الضروريات لحياتها؛ لأنها لا تجد “الملاليم” على حين يعبث غيرها بـ “الملايين”.

وللعولمة وسائل وأدوات تستطيع التأثير والضغط بها لتنفيذ غاياتها في بلدان العالم، منها: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية “الجات” وما تفرع عنها، وغيرها من مؤسسات الأمم المتحدة، والشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، وعابرة القارات والمحيطات.

  • آفة اقتصاد العولمة – إذن – أنه اقتصاد غير عادل، وغير أخلاقي، وأنه يقوم على استلاب جهود الضعفاء لمصلحة الأقوياء، سواء كانوا أفرادا أم شعوبا ودولا.
  • اقتصاد العولمة قد ينشئ في ديارنا مصانع يحظر عليه أن يقيمها في بلده، لما وراءها من أخطار وأضرار بالغة.
  • اقتصاد العولمة يصدر إلينا – نحن العالم الثالث – الأدوية التي يمنع تداولها عنده، ويتساهل في كثير من الشروط التي يشترطها لسلامة الأغذية في بلاده.
  • اقتصاد العولمة هو امتداد لاقتصاد الاستعمار القديم، الذي فرض علينا أن نكون “سوقا مفتوحة” له، هو ينتج ونحن نستهلك، وأن نشتري منه مقومات حياتنا، حتى القمح أو الخبز، أو الأرز الذي نعيش به – ويسميه الناس في بلادنا “العيش” أي الحياة – وحتى السلاح الذي ندافع به عن أنفسنا.
  • اقتصاد العولمة يضن علينا أن نستقل بأنفسنا، بل علينا أن نكون تابعين له، خادمين لاقتصاده هو، يشتري منا “المواد الخام” التي أنعم الله بها علينا – مثل الذهب الأسود “النفط”,أو الذهب الأبيض “القطن” – بأرخص الأسعار، ليبيعها هو للمستهلك عنده بأضعاف مضاعفة، كما هو الشأن في النفط، وإذا “صنع” هذه المواد أعاد تصديرها إلينا بأغلى الأسعار.
  • اقتصاد العولمة – في مجال الاستهلاك – يغرينا بالإسراف المحرم في ديننا، والذي لا يحبه الله عز وجل، ويدفعنا بأساليبه الخطيرة إلى شراء ما لا نحتاج إليه، بل أحيانا إلى شراء ما يضرنا ولا ينفعنا، لا لشيء إلا ليربح الاقتصاد العالمي وزعانفه وذيوله عندنا، ويملأوا خزائنهم التي تمور بالذهب كما يمور التنور[60] باللهب.
  • ومن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد: أن الذي يجني ثمراته فئة قليلة تشبع إلى حد التخمة، سواء في داخل كل بلد، أو على مستوى العالم، على حين نرى الأكثرية من الطبقات ومن الشعوب لا تكاد تجد ما يقيم الأود، [61] أو يرطب الكبد.

أما الركيزة التي يعتمد عليها هذا الاقتصاد القائم على عدم الإنتاجية وانتزاع ثروات الآخرين فهي “العولمة”، وقد تضعضعت استقلالية الدول وسيادتها من جراء ما هي مطالبة به طوعا أو كرها، من الانضواء[62] تحت لواء هذا النظام العالمي الجديد، ويحاول كثير من الدول مقاومة الإخضاع غير المشروط لاقتصادها، ووضع مصيره في يد القائمين على قوانين العولمة الجديدة.

إن قوى هذا النظام العالمي الاقتصادي الجديد هائلة جدا؛ فقد ضارب أحد الممولين والمستثمرين “الأمريكيين” وهو جورج سوروس George Soros ضد الجنيه الاسترليني عام 1992م، وحقق دخلا بلغ حوالي 2 بليون دولار في غضون أسبوع، ولم يستطع البنك المركزي البريطاني توفير مصادر تمويل كافية لوقف سوروس عند حده، وقد حدث ذلك الأمر في الوقت الذي كان الاعتقاد سائدا فيه بأن المقومات الأساسية للاقتصاد البريطاني كانت على ما يرام، وعلى نفس المنوال، تم شن هجمات مماثلة على الفرنك الفرنسي وفاز المضاربون أيضا بالغنائم.

ويرى زعماء دول جنوب شرق آسيا أن للمضاربين والاقتصاد القائم على الرأسمالية المعلوماتية دورا أكبر في إحداث الأزمات المالية التي عصفت ببلادهم، مما كان من دور للمتغيرات الحقيقية في اقتصاديات هذه الدول، والأهم من ذلك أن مثل تلك المتغيرات لا تحدث بين عشية وضحاها، إلا أن المضاربين يستطيعون – من خلال استثماراتهم بالأموال المضاربة – أن يسحبوا في غضون ثوان قليلة البلايين من الدولارات، مسببين انهيارا في سوق الأوراق المالية، وتخفيضا على قيمة العملة المحلية، وأزمة اقتصادية في ذلك البلد الذي يقع ضحية تحت براثنهم، [63] إن حفنة من أمثال هؤلاء الممولين والمستثمرين العالميين تستطيع أن تجمع من الأموال في وقت قصير للغاية ما تعجز عن جمعه العديد من البنوك العالمية مجتمعة.

في العام 1997م، ومن خلال هذا الاقتصاد العالمي القائم على “الرأسمالية المعلوماتية”، ذكر أن “مايكل جوردان” – نجم كرة السلة الأمريكية المعروف – حقق بمفرده من خلال تبنيه إعلانا تليفزيونيا لأحذية نايك Nike الرياضية أكثر مما حصل عليه جميع العاملين في جميع المصانع التي تنتج هذه الأحذية في إندونيسيا والذين يقارب عددهم 120 ألف عامل!

ولقد نتج عن العولمة ازدياد الهوة بين الدول الفقيرة والغنية، وكذلك ازدياد الهوة بين النخبة والأكثرية في البلد الواحد. إن أجور ورواتب أغلبية الناس في الوقت الحاضر، حتى في الولايات المتحدة، أكثر الدول ازدهارا في العالم، هي في أحسن الافتراضات راكدة لا تشهد نموا، بينما تحقق القلة القليلة ثروات طائلة من جراء النمو الاقتصادي؛ حيث يمتلك – على سبيل المثال – واحد بالمائة من الأمريكيين ما نسبته 48% من الثروة الأمريكية بأكملها، بينما يمتلك 80%، من الأمريكيين ما تقل نسبته عن 8%، وتقدر ثروة بيل جيتس Bill Gates بحوالي 50 مليار دولار – لدى كتابة هذه السطور – وهي تعادل ما يمتلكه سكان مدينة أمريكية يزيد تعدادهم عن 500. 000 نسمة، ومع ذلك فهناك في نيويورك والمدن الأمريكية الأخرى جيش من المشردين الذين لا مأوى لهم، يجوبون شوارع المدن ليل نهار هائمين على وجوههم.

لقد فشلت الشيوعية أيما فشل! ولكن هل رأسمالية المافيا التي خلفتها أفضل من الشيوعية؟ لا يعتقد نيكولاي ليخيف Nikolay Lychev – وهو مدير مدرسة روسي، شأنه شأن معظم الروس – بأن الوضع الآن هو أفضل مما كان عليه في الماضي “في الماضي عاش الروس كالعبيد تحت النظام الشيوعي، أما الآن فإنهم ينظرون إلى عبوديتهم بابتهاج، إن الاقتصاد الموجه الذي كانت الدول تديره على نحو غير كفء بات يدار الآن من قبل المافيا والرأسماليين من البارونات اللصوص.

وهكذا نجد بوتانين، 36 سنة “عام 1997م” بنى إمبراطورية من الشركات الصناعية والبنوك والإعلام، تعادل موجوداتها حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، ويسيطر خمسة من رجال الأعمال الروس الجدد إلى جانب قياصرة الطاقة على نصف الثروة الصناعية الروسية، فكيف تم انتقال هذه الثروة في أقل من سبع سنوات؟

إن هذه “الديموقراطية” الروسية الجديدة باتت عاجزة عن دفع رواتب المتقاعدين، كما أن الجيش عاجز عن دفع رواتب العاملين فيه والمتقاعدين، ناهيك عن تحول النساء الروسيات اللواتي كن يباهين باحترافهن مهنا مرموقة، إلى ممارسة الدعارة في “الديموقراطيات” الغربية وغير الغربية!

وكل هذه الأعراض الجانبية تمثل الهدايا التي حملها النظام العالمي الجديد في جعبته، إنه لأمر مرعب أن نرى اقتصادات ومناطق برمتها في حومة الاضطرابات والدورات الاقتصادية الحادة تتهاوى في غمضة عين، كما أنه لمن المخيف رؤية البنوك والشركات الوطنية والنشاطات التجارية تتهاوى وتؤول إلى الإفلاس بين عشية وضحاها، إن من بين 282 شركة مدرجة على سوق جاكرتا للأوراق المالية – وكانت عاملة بشكل مجد مطلع عام 1998م – نجد هناك فقط 22 شركة ظلت قادرة على العمل بعد انهيار العملة الوطنية، وكل ذلك تم في فترة أسابيع قليلة، ووجد أصحاب الشركات ـــ الـ 260 والمساهمون فيها ـــ أنفسهم في ورطة كبرى بين يوم وليلة، وبالنسبة لهؤلاء ولأغلبية دول جنوب شرق آسيا، فإن من المعروف أن كازينو الرأسمالي العالمي Global financial Casino هو الذي قامر باقتصاداتهم دون الحصول على موافقتهم.

ويقسم جورج سوروس “اقتصاد العولمة” بين دول المركز، هي: الولايات المتحدة، وأوربا، ودول الأطراف periphery الدائرة في فلكه، ويرى أن وظيفة دول المركز هي اجتذاب الأموال من شتى أنحاء العالم لأسواقه المالية، وتقوم دول المركز بإعادة ضخ الأموال إلى دول الأطراف بشكل مباشر، كالقروض أو الاستثمارات المالية، أو بشكل غير مباشر عن طريق الشركات المتعددة الجنسية، وما دامت حركة تدفق الأموال هذه من الدول كافة إلى المركز، وإعادة ضخها من المركز إلى الدول الأخرى مستمرة، فإن القوة الهائلة التي تنتج عن حركة الدوران هذه تلقي بظلالها على أكثر المؤثرات الأخرى، ويرى أن أحداث الانهيارات في اقتصادات دول الأطراف قد أتت بالخير على اقتصادات دول المركز، لولا أنها زادت عن حدها، مما جعل من هول المصائب الاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول حافزا لها للتفكير بالخروج من ذلك النظام الذي سبب لها الكوارث والأزمات.

ولقد ألف جورج سوروس كتابا في أواخر سنة 1998م، وكتب العديد من المقالات في كبريات الصحف والمجلات العالمية عن “أزمة الرأسمالية العالمية” كما أسماها، حيث عبر عن غلوه وفساده، وانحراف النظام المعلوماتي، وقد أبدى خشيته من انهيار هذا النظام إذا ما بقي على هواه، كما هو في الوقت الحاضر.

يقول جورج سوروس: “قبل أقل من ستة أشهر كان النظام المالي العالمي على شفير الهاوية، وكان ذلك النظام لا يبعد سوى أيام قليلة عن الانهيار التام، وحقيقة الأمر أن اقتصادات كثيرة من الدول النامية قاست هبوطات حادة، كما لم يحصل إلا أيام الكساد العظيم، ولقد أصاب البؤس شعوب بلدان مثل إندونيسيا وتايلاند، ولكن تلك الشعوب بعيدة جدا عنا, ثم إن اقتصادات دول المركز – الولايات المتحدة وأوربا – قد استفادت من مصائبهم على نحو ما قال الشاعر العربي: مصائب قوم عند قوم فوائد.

ويقول جورج سوروس أيضا: “وفي الحقيقة فلقد استفاد اقتصاد الولايات المتحدة بتدني أسعار المواد الخام، وانخفاض أسعار المستوردات الأجنبية من تلك البلدان التي وقعت ضحية الانهيار الاقتصادي”, ويضيف: لنقلها بصراحة: هناك خياران أمامنا: فإما أن نصحح وننظم قوى الأسواق المالية العالمية عن طريق عمل عالمي؛ وإلا فالخيار الثاني سيدفع الدول لتصبح صمامات أمان، تسمح للمال العالمي بدخول بلدانها، وتمنع من خروجه متوخية[64] مصالحها، وبذلك يتم تعطيل عمل النظام المالي العالمي الذي يتمتع بإمكانية الحركة والدوران السريعين. إن هناك حاجة ملحة لإعادة التفكير في إصلاح النظام الرأسمالي العالمي، وإني أخشى أن تؤدي النتائج السياسية الناتجة عن الأزمات المالية الأخيرة إلى انهيار النظام الرأسمالي برمته”.

لقد شهد شاهد من أهلها، وهو جورج سوروس، أحد عمالقة العولمة، وأعمدة نظامها الرأسمالي المتجبر، وهو الذي قهر بنك إنجلترا المركزي، وكان أحد الأسباب الهامة في بداية الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا، وشهادته هنا تنبع من خوفه على انهيار نظامه الرأسمالي لا على مئات الملايين من الشعوب المنكوبة من غلو ذلك النظام وظلمه واستكباره في الأرض بغير الحق.

  • اقتصاد العولمة يجور على حقوق العمال:

ومن أخطر آثار “العولمة الاقتصادية” ما شهد به كل الباحثين والمهتمين من افتراسها لحقوق العمال، الذين على كواهلهم[65] تدور عجلة الاقتصاد، وبعرق جبينهم تتحقق المكاسب وتتدفق الملايين في حسابات أرباب رؤوس الأموال.

فهي تبخسهم أجورهم، وتأكل ثمرات جهودهم، لحساب القلة الرأسمالية الجشعة، التي تأكل التمر، وتتفضل عليهم بالنوى.

وأجلى ما ظهر ذلك في بلاد النمور الآسيوية، التي حققت طفرة هائلة في النمو أدهشت العالم كله، حتى سموها “المعجزة الآسيوية”, ولكن الباحثين أكدوا أن فيها جوانب سلبية، تحدث عنها مؤلفا كتاب “فخ العولمة” وهما ألمانيان منصفان؛ إذ اقترن الازدهار الاقتصادي هناك بالرشا والاضطهاد السياسي، والتدمير العظيم للبيئة والاستغلال غير المحدود – في أغلب الأحيان – للعاملين المحرومين من الحقوق، وللنساء منهم على وجه الخصوص.

يقول الكتاب: ولنأخذ على سبيل المثال شركة نايك Nike للأحذية الرياضية الباهظة الثمن، هذه الأحذية التي يصل ثمنها في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية إلى 150 دولارا، يقوم بإنتاجها في إندونيسيا حوالي مائة وعشرين ألف عامل وعاملة، يعملون لدى الموردين المحليين لهذه الشركة العملاقة بأجر يقل عن ثلاثة دولارات في اليوم, ومع أن هذا الأجر لا يسد الرمق إلا “بالكاد” في إندونيسيا أيضا، إلا أنه يساوي الحد الأدنى المقرر قانونا، كما أنه الأجر الذي يحصل عليه ما يزيد على نصف قوة عمل البلد البالغ تعدادها ثمانين مليون عامل.

وعلى نحو يدعو للدهشة تتجاهل غالبية الحكومات الغربية الأساليب المرفوضة – حسب المعايير الغربية – التي تسلكها الدول في جنوب شرق آسيا، في غزوها للسوق العالمية، وفي سعيها للحصول على حصة في هذه السوق، وكان رؤساء الحكومات الأوربية قد برهنوا عن تجاهلهم المتعمد هذا في آخر مرة، في مطلع مارس عام 1996م، وذلك حينما التقوا في بانكوك زملاءهم من الأمم الآسيوية الثماني الرائدة، بغية تقوية العلاقات الاقتصادية المشتركة، ففي الوقت الذي كان فيه المتكلمون يتناوبون على إلقاء الخطابات المشيدة بتفاهم الشعوب، عقد ممثلو ما يزيد على مائة منظمة مركزية مؤتمرا معارضا لمؤتمرهم، أعربوا فيه عن استنكارهم لظروف العمل غير الإنسانية السائدة في المصانع الآسيوية.

وفي الوقت ذاته نصب ما يزيد على عشرة آلاف تايلندي مخيمات أمام مقر رئيس حكومة بلادهم، وراحوا يتظاهرون مستنكرين التوزيع غير العادل لثروة أمتهم، وعلى الرغم من هذا لم يتفوه أي من الضيوف الأوربيين، ولا حتى بكلمة واحدة في هذا الشأن، بدلا من ذلك فضل المستشار الألماني وكذلك رئيس الوزراء البريطاني في أحاديثهما خلف الكواليس، التزلف بحماس لكسب صفقات كبيرة للمؤسسات التي لا تزال ألمانية أو بريطانية الجنسية بالاسم لا غير، وفي الوقت نفسه راح رئيس مؤسسة دايلمربنز juergen Schrmpp يعلن “أن على ألمانيا أن تتعلم من آسيا”, من ناحية أخرى قدمت غرفة التجارة والصناعة الألمانية دراسة تشيد بـ “الاستقرار السياسي”، وبـ “المناخ الاستثماري الجيد جدا في إندونيسيا المحكومة حكما دكتاتوريا”.

ولا شك في أن تجاهلا من هذا القبيل يكشف عن موقف خطير النتائج، ومشئوم العواقب؛ فهو يعني أنه يتيعن تأجيل حماية البيئة، وصيانة صحة العاملين، وتطبيق الديموقراطية، والاعتراف بحقوق الإنسان إلى وقت آخر، ما دام هذا التأجيل يخدم الاقتصاد العالمي “إلا أنه لا يجوز لنا أن نسمح بأن تكون الحكومات التسلطية شرطا ضروريا للنجاح الاقتصادي”.

كما قال محذرا جون إيفانز John Evans السكرتير العام لمنظمة النقابات العمالية الدولية TUAC أمام ممثلي العمال لدى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في باريس: “ففي النظم الديموقراطية فقط يمكن التفاوض على توزيع الأرباح”. ومن هنا، وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النقابيين في العالم، يطالب إيفانز، منذ أمد طويل أيضا، بضرورة فرض عقوبات تجارية على البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان وتخل بمعايير المحافظة على البيئة.

وهكذا رأينا العالم الغربي الذي يقود “العولمة” يتكلم كثيرا بالباطل، ويسكت غالبا عن الحق، فهو إما شيطان ناطق، وإما شيطان أخرس، ولهذا رأيناه يصمت عن المظالم الهائلة التي تقع على المستضعفين من الشعوب عامة، وعلى العاملين والعاملات خاصة، في مقابل الصفقات التي يتعاقد عليها، ويربح من ورائها، أي إنه يبيع القيم والأخلاق بالمنفعة المادية والربح المادي وحده: )أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)( (البقرة).

مشكلة العالم الغربي كله – أوربا أو أمريكا – أنه فضل الاقتصاد عن الأخلاق، كما فضل السياسة عن الأخلاق، والعلم عن الأخلاق، والحرب عن الأخلاق، فلم يعد يحكمه غير الرغبات والشهوات، أي الجانب الحيواني في الإنسان، وزعم أن الغاية تبرر الوسيلة، هذا مع أن غايته هنا ليست شريفة، بل هي غاية شريرة أن يحيا المرء ولو بموت غيره، وأن يبني نفسه على أنقاض غيره، كما يفعل الفراعنة المستكبرون المتحكمون في اقتصاد العالم [66].

وبعد هذا البيان يتأكد لنا أن أي تدهور أصاب النظام الاقتصادي، أو السياسي في العالم الإسلامي نشأ من أصول غير إسلامية، ومن أنظمة غير إسلامية، وأن الإسلام لم يوجد هذا بتعاليمه وتشريعاته.

ثالثا. الواقع أثبت فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية في سياسة الدولة:

لم تف الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء، و يوضح لنا ذلك فضيلة د. يوسف القرضاوي قائلا:

  1. الفشل في المجال الاقتصادي:

لقد فشلت الليبرالية والاشتراكية كلتاهما في إقامة حياة اقتصادية سليمة متكاملة، تتحقق فيها زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع، حياة يتوافر فيها العمل الملائم لكل عاطل، والأجر العادل لكل عامل، والكفالة المعيشية لكل عاجز، وتكافؤ الفرص لكل مواطن، بحيث يجد كل المواطنين حاجاتهم الأساسية من الغذاء، والكساء، والمسكن، والعلاج، والتعليم دون عائق.

أجل.. فشلوا في ذلك على رغم إكثار الأولين – الليبراليين – من القول بمحاربة “الأعداء الثلاثة”: الفقر، والمرض، والجهل. وطنطنة الآخرين – الاشتراكيين – بمجتمع الكفاية والعدل، المجتمع الذي ترفرف عليه الرفاهية.

ولكن لا هؤلاء ولا أولئك أطعموا الشعب من جوع، أو أغنوه من فقر، أو علموه من جهل، فلا زالت نسبة الظلم الواقع على الأميين في بلادنا أعلى من معظم بلاد العالم.

هذا في جانب العدل، والتكافل الاجتماعي.

وفي الجانب الآخر.. جانب الكفاية وزيادة الإنتاج، لم تزل بلادنا معتمدة أكبر الاعتماد على الاستيراد في آلات الإنتاج، ووسائل النقل، ومعظم مصنوعات الحضارة، ولم يستطع الليبراليون ولا الاشتراكيون إقامة تصنيع ثقيل – مدني وحربي – يغني الأمة عن الاستيراد ومد اليد إلى الأقوياء، والتأرجح بين المعسكرات الدولية المتنافسة؛ بغية تأمين السلاح، والدفاع عن الحمى.

حتى الزراعة التي كانت حرفة أجدادنا من آلاف السنين، والتي اشتهرت بها بلادنا – حتى حاول الاستعمار في وقت ما إفهامنا أننا لا نحسن غيرها، ولا نملك طاقات لشيء سواها – حتى هذه الزراعة لم نرق بها إلى المستوى اللازم لنا واللائق بنا كما ونوعا، وما زلنا نستورد القمح من خارج أرضنا وإلا هلكنا جوعا، وهكذا نعتمد على غيرنا في جلب الطعام الذي به عيشنا، والسلاح الذي نصون به حياتنا.

لقد فشلت الليبرالية والاشتراكية في الرقي بالمجتمع من التخلف إلى التقدم، لم تستطع هذه ولا تلك، أن تنتقل بالمجتمع من الاعتماد على الغير إلى الاكتفاء بالذات، ومن استيراد مصنوعات الحضارة إلى إنتاجها، ومن شراء السلاح إلى صناعته، ومن “رواية” العلم أو ترجمته إلى المشاركة فيه، هذا مع أن بعض العلم لا يسمح أهله بروايته أو ترجمته؛ لأنه من الأسرار.

  1. الفشل في مجال الحرية والطمأنينة للشعب:

وفشل الحلان كلاهما – الليبرالي والاشتراكي – في تحقيق الأمن والطمأنينة والحرية الحقيقية للشعب، التي تتمثل في حرية الفرد في أن يفكر وينقد ويبدي رأيه فيما يراه من عوج وفساد، وفي أن يندد – مع غيره – بالظلم والطغيان، دون أن يخشى على نفسه أو على أهله.

وإذا أردنا أن نفصل القول في أثر الليبرالية في المجال الاقتصادي:

فيجب علينا – لكي نوضح صورة الأوضاع الاقتصادية في عهد الحكم الوطني الليبرالي وآثارها في الحياة الاجتماعية – أن نشير إلى هذه الأوضاع كيف كانت في عهد تسلط الاستعمار، فإن هذا العهد هو الذي يذر البذور، ووضع الأسس لما ورثه من العهود.

لقد رأينا أن الغرب يوم استضعف الأمة الإسلامية في إفريقيا وآسيا – منذ القرن التاسع عشر وبدء عصر الصناعة الحديثة ـــ دخل ديارها بجنوده، واحتكر ثرواتها لمصالح مصانعه برؤوس أمواله، وسخر أبناءها في خدمة الاقتصاد الأوربي بنفوذه السياسي.

ثم أرسى قواعد نظامه الإداري والسياسي، وثبت نظامه الاقتصادي الرأسمالي، وطارد القيم الأصلية للمجتمع، واستبدل بها النظام العلماني في التعليم، ونظريات الفقه الأوربي في التشريع، وقيم التبعية للغرب في التوجيه، ولقد وصل الوضع في كل مجتمع إسلامي إفريقي أو آسيوي استعمره الغرب الأوربي لصالح صناعته ورؤوس أمواله إلى:

  • تمكين الأجانب – وهم أهل حرب – من اغتصاب الثروة القومية بمساعدة القوة العسكرية، وعلى الأخص مصادر الثروة المعدنية، والأراضي الزراعية الجيدة، والمرافق الحيوية العامة.
  • تسخير المسلمين في تنمية رؤوس الأموال الأجنبية بدون مقابل، أو مقابل أجور زهيدة.
  • استنزاف الدخل القومي باحتكار التجارة الخارجية في المحاصيل الرئيسية، والسلع المصنعة للاستهلاك الضرورية.
  • رهن الأراضي والأملاك العقارية بالفائدة المركبة[67].
  • إقامة البنوك لتيسير الحوالات المالية، وإعادة نقل رؤوس الأموال إلى الخارج من فائض العائد الوفير لخدمة البناء الأوربي على حساب إفقار الشعوب الإسلامية من ثرواتها الخاصة، وطاقات أبنائها البشرية، وطالما أن عمليات التصدير والاستيراد تساعد على إنجازها البنوك – في غيبة بنك مركزي للدولة – فهي ثغرة واسعة لتهريب الأموال، أو إعادة ما ورد منها، وأرباح الباقي من ثمرتها وعائدها.

ولقد كان القطاع الاقتصادي في المجتمع الإسلامي المستعمر، هو القطاع السري المغلق الذي لا يدخله الوطنيون إلا لأداء خدمات محدودة، وفي غالب الأحيان تكون خدمات إضافية: فاللغة فيه أجنبية والفنيون فيه أجانب عملاء لهم ممن يدينون بدينهم، والأسلوب الاقتصادي أجنبي، وهو الأسلوب الرأسمالي، والمال أجنبي والعائد منه للأجنبي.

والوطن في هذا القطاع كان الثروة والمجهود البشري في العمل, والعائد منه كان الفقر والمذلة على المواطنين.

هذه حالة الاقتصاد أيام ضغط الاستعمار، وسلطة الاحتلال.

ولما قام الحكم الوطني “الليبرالي” لم يتغير الوضع كثيرا عما كان عليه من قبل، ففي ظل النظام الليبرالي الديموقراطي الذي ساد البلاد الإسلامية بعد استقلالها، قام نظام اقتصادي يستوحي أفكاره ويستقي أنظمته من نفس النظام السائد في العالم الغربي الرأسمالي، والذي وضع الاستعمار أسس بنائه.

وكان من أبرز معايب هذا النظام – من وجهة النظر الإسلامية – ما يأتي:

  1. إقرار النظام الربوي الرأسمالي، وإبقاء البنوك المتنوعة في شتى البلاد الإسلامية على هذا الأساس، بل التوسع في إنشائها، مع أن الربا في الإسلام من كبائر المحرمات، ومن السبع الموبقات، وآكله ومؤكله، وكاتبه وشاهده، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, ومن أكل الربا فقد أذن بحرب من الله ورسوله، ومن استحله فقد خلع ربقة الإسلام[68] من عنقه.

والغريب أن كثيرا من المسلمين استسلموا لهذا الواقع، وسلموا أعناقهم للبنوك المرابية التي تحركها أصابع اليهودية العالمية الرأسمالية، والمتحكمة في ذهب العالم ونقده، والمستفيدة من وراء الربا، غنى ونفوذا وسيطرة على مقدرات الأمم الاقتصادية والسياسية.

وليت هؤلاء المسلمين اكتفوا بالاستسلام للواقع على كره، بل راح بعضهم يبحث عن مسوغات وفتاوى شرعية يبرر بها مسلكه، ويضفي على هذا الاقتصاد الربوي صبغة إسلامية.

    2- وفي مقابل إحلال الربا الذي انتشر في كل مجال – حتى إن من لم تحرقه ناره، أصابه دخانه – عطلت فريضة “الزكاة” تعطيلا كليا، ولم يجعل لها في نظام الدولة أي موضع أو اعتبار، مع أن الإسلام جعلها أحد مبانيه العظام، وثالثة دعائمه الخمس، وجعلها مع التوحيد والصلاة عنوان الدخول في دين الإسلام واستحقاق أخوة المسلمين: )فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين( (التوبة:11)، فهي حق معلوم، وضريبة مقدسة فرضها الله في أموال أغنياء الأمة لترد على فقرائها، فهي من الأمة وإليها، وهي من مال الله لعباد الله، ليس فيها معنى التبرع أو التطوع، أو الإحسان الاختياري، بل تحصيلها وتوزيعها موكول إلى الدولة المسلمة، تأخذها من أربابها، وتردها على مستحقيها، بواسطة “العاملين عليها” المنصوص عليهم في القرآن الكريم.

فمن أنكر وجوبها ولزومها كفر وارتد عن الإسلام، وطلبت منه التوبة أو يقتل، ومن أقر بها وامتنع من أدائها أخذت منه قسرا وكرها، وإن كان ذا شوكة ومنعة قوتل بقوة السلاح حتى يؤديها، ورحم الله أبا بكر خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي قال: «والله لو منعوني عقالا[69] كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه»[70].

واختفى مع فريضة الزكاة التكافل الإسلامي كله، فلم يعد للفقراء والمساكين والغارمين وأمثالهم – من أصحاب الحاجات الأصلية، أو الطارئة – مورد يفي بحاجتهم، أو يخفف من بؤسهم، فظلت هذه الفئات الضعيفة في المجتمع كسيرة الظهر، مهيضة الجناح، [71] لا تجد أملا إلا في الشكوى إلى الله، ولا عونا إلا في صدقات المحسنين، التي لا تسمن ولا تغني من جوع!

    3- إتاحة الفرص المذهلة للأسر الكبيرة وأصحاب النفوذ والجاه، ممن احتكروا الحكم والسلطان، فاحتكروا من ورائه المغانم والمكاسب، فالاستيراد والتصدير في أيديهم، والمناقصات الكبيرة ترسو عليهم، والمشروعات المربحة من حظهم وحدهم، وغيرها، وغيرها.

وهذه الفرص الحرام جعلت الأغنياء يزدادون غنى وشحما، على حين يزداد الفقراء والضعفاء فقرا وضعفا وهزالا، وجعلت توزيع الثروة يزداد سوءا يوما بعد يوم، فلم يبق مجال يذكر لنمو التاجر الصغير، أو المحترف الفقير، أو العامل الضعيف، ما لم يكن له كبير يسنده، أو حزب يعضده، أو يسلك إلى الثروة طرقا لا ترضاها الأخلاق، أو تتح له فرص مفاجئة لم تكن في الحسبان.

وهكذا اتسعت الشقة وعظمت الفوارق بين أبناء المجتمع الواحد، فريق يغرق في الذهب والنعيم إلى الأذقان، وفريق يهلك في مفازة[72] الجوع والظمأ والحرمان، فريق يعيش بين الغانية والكأس، وآخر يموت بين المحراث والفأس, فريق يشكو زحمة البطنة، وآخر يشكو عضة الجوع[73]!

وازداد الطين بلة في البلاد التي تدفق فيها الذهب الأسود؛ فقد جعل الثروة تتصبب بسرعة مفاجئة، وبكثرة هائلة على طائفة قليلة من الناس، أصبحت تلعب بالملايين لعبا، تبعثرها ذات اليمين وذات الشمال، على حين لم تنل أكثرية الشعب حظها العادل من هذه الثروة التي أفاءها الله على عباده جميعا.

والعجيب أن معظم الذين يزدادون غنى في البلاد الإسلامية من العاطلين، الذين لا يعملون ولا يكدحون، فهم يأخذون من الحياة ولا يعطون، ويستفيدون من المجتمع ولا يفيدون، أما الأشقياء المحرومون، فهم الكادحون المتعبون، الذين يواصلون سهر الليل بعناء النهار، ولا يجدون إلا الفتات ممزوجا بالدم والعرق والدموع!!

وأعجب من هذا محاولة قوم الكذب على الله وعلى دينه، وعلى الحياة والواقع جميعا؛ فهم يريدون تبرير هذا الظلم الاجتماعي، والعوج الاقتصادي، والانحراف الأخلاقي، بنسبته إلى القدر يوما، بمثل قولهم: “فضل الله يؤتيه من يشاء” أو قولهم: “سبحان من قسم الحظوظ”! كأنما الناس لا اختيار لهم في هذا الظلم، ولا يد لهم في هذا العوج والانحراف، وكأنما الإنسان مسير لا مخير!! نفس الفكرة الجبرية التي رددها المشركون قديما وحكاها القرآن الكريم منكرا ومسفها حين قال: )وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47)( (يس).

وأحيانا ينسبونه إلى الشرع نفسه، فيقرأون قوله عز وجل: )ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات( (الزخرف: 32)، وقوله عز وجل: )والله فضل بعضكم على بعض في الرزق( (النحل:71)، وما شابهها من الآيات، كأن التفضيل معناه إعطاء كل شيء لفريق، وحرمان الآخرين من كل شيء!! مع أن التفضيل يعني اشتراك الفريقين في الرزق وزيادة أحدهما على الآخر فيه.

 ونسي هؤلاء كيف شرع – عز وجل – قسمة الفيء في كتابه بحيث يوزع على المصالح العامة في الأمة، وعلى الفئات المحتاجة منها خاصة، معللا ذلك التوزيع بهذه الجملة القرآنية المعجزة: )كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم( (الحشر: 7)، وأحيانا يكذبون على الحياة، فيقول أحدهم ما قال أخوه قارون من قبل: )إنما أوتيته على علم عندي( (القصص: 78) وكذب فكم من أناس أفضل منه علما وأكثر منه عملا لم ينالوا إلا الشقاء والحرمان: )قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50)( (الزمر).

   4- يتمم الصورة السابقة بروز الملكيات الزراعية الكبيرة، حتى بلغ ملك الواحد من كبراء القوم ألوف الأفدنة، بل عشرات الآلاف أحيانا، وأصبح “الباشا” الواحد في بلد كمصر يملك عدة قرى بأسرها، حتى مساكن الفلاحين فيها، وبات الإقطاعي من هؤلاء يوسع ملكيته يوما بعد يوم، إما بشراء أراض جديدة من صغار المزارعين، أو بامتلاك أراض مستصلحة يحييها بعرق الفلاحين ويملكها هو، مقابل أجور بخسة ظالمة لهؤلاء المساكين الذين يكسون الأرض بالخضرة وهم يذبلون، ويحيونها وهم يموتون! هؤلاء الذين يزرعون القمح ويأكلون الطين، وينتجون الثمار ولا يصيبون إلا النوى، ويبنون على كواهلهم القصور وهم يسكنون في منازل كالقبور!

لقد ظلمهم السادة المترفون الذين حسبوا أن هؤلاء إنما خلقوا للشقاء والخدمة، وأما هم فخلقوا للسيادة والنعمة، لقد كانت صورة ظالمة ومظلمة، وإن لم تصل في ظلمها وظلامها إلى درجة الإقطاع الذي عرفته أوربا في عصورها الوسطى؛ إذ كان المزارعون في الأرض عبيدا لمالكها، فهذا اللون لم يعرفه المجتمع الإسلامي في أي بلد ولا في أي عصر، رغم هذا الانحراف الواضح عن خط الإسلام المستقيم, ومع هذا لم يلبث الشعور الإسلامي العام أن أنكره وثار عليه.

    5- يضاف إلى هذا أن الحكم الليبرالي لم يستطع أن يطور اقتصاد المجتمع بحيث يتحول إلى مجتمع صناعي قوي، مكتف بذاته، قادر على حماية نفسه، مستخدم لأقصى إمكانات “التكنولوجيا” الحديثة.

صحيح أن الصناعة دخلت في بعض الأقطار ونجحت إلى حد كبير، وكان لها أثرها الطيب العظيم بجهد الشركات الوطنية، كالذي قامت به شركة مصر للغزل والنسج وأشباهها، ولكنها لم تستطع توسيع نطاقها إلى الحد المطلوب، وبقيت الزراعة محور النشاط الاقتصادي للمجتمع، كما أنه بقي عالة على الغرب في الصناعات الثقيلة، وفي استيراد الأجهزة والآلات الدقيقة كلها حتى إبرة الخياطة، كما أنه لم يستطع أن يزيد من مساحة الرقعة الزراعية بما يوازي التزايد المستمر في عدد السكان، ولا أن يحسن الإنتاج الزراعي باستخدام الوسائل الحديثة، ولا أن ينمي الإنتاج الحيواني، ولا أن يواجه مشكلة البطالة المتزايدة بعلاج حاسم.

وهكذا ظل “التخلف” سمة مجتمعاتنا، وبهذا تضاعف السوء، حيث اجتمع إلى سوء التوزيع ضعف الإنتاج[74].

والحق أن في مجتمعاتنا الإسلامية حقائق لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يتجاهلها، ولنأخذ مثالا على ذلك في بلد مثل مصر وشعبها، أشقى الشعوب العربية وأشدها ضنكا وفقرا في المعيشة والحياة، ولكن الذي حدث هو أنه يعاني من مساوئ التخلف والتأخر الاقتصادي والضعف المعيشي، مع أن هذا البلد ليس فقيرا بطبيعته، بل لعله أغنى بلاد الله – عز وجل – بخيراته الطبيعية، وثرواته المختلفة، من زراعية, ومائية، وحيوانية، ومعدنية، ونيله العجيب، وواديه الخصيب، وما شئت من فضل الله – عز وجل – على مصر، وأهل مصر منذ القدم: )اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم( (البقرة: 61)، لكن اجتمعت على هذا القطر مجموعة من العوامل التي أدت به إلى ما هو عليه من تأخر وتخلف منها:

  • الاستغلال الأجنبي:

وهذا يعني أن الأجانب الذين احتلوا هذا الوطن – بغفلة من أهله، وتساهل من حكامه، وظلم من غاصبيه – أسعد حالا من أهله وبنيه، وأنهم قد وضعوا أيديهم على أفضل منابع الثروات فيه، شركات أو أفرادا، فالصناعة والتجارة، والمنافع العامة والمرافق الرئيسية، كلها بيد هؤلاء الأجانب حقيقة، أو الأجانب الذين اتخذوا من الجنسية المصرية شعارا وما زالوا يحنون بعد إلى أوطانهم ويؤثرونها بأكبر أرباحهم.

  • ثنائية الثراء الفاحش والفقر المدقع:

بمعنى أن التفاوت عظيم، والبون شاسع، والفرق كبير بين الطبقات المختلفة في هذا الشعب – فثراء فاحش وفقر مدقع – والطبقة المتوسطة تكاد تكون معدومة، والذي نسميه نحن الطبقة المتوسطة ليسوا إلا من الفقراء المعوزين وإن كنا نسميهم متوسطين، على قاعدة: بعض الشر أهون من بعض، ورحم الله فقهاءنا الذين حبروا البحوث الطويلة في الفرق بين الفقراء والمساكين وإن كان كلاهما من المحتاجين البائسين.

  • التخبط الاقتصادي:

ومنها – وهو الأهم – أننا في وسط هذا المعترك الحاد الصاخب العنيف، بين المبادئ الاقتصادية – من رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية – لم نحدد لونا نصبغ به حياتنا الاقتصادية في وقت تحتم فيه التحديد، وتعقدت فيه الأمور بحيث لم تعد تنفع فيها أنصاف الحلول، ولم يعد يجدي إلا الوضوح الكامل، وتحديد الأهداف تحديدا دقيقا، والسير إليها في قوة وعزيمة.

وهذه الأوضاع – وإن امتزجت بها المعاني السياسية – إلا أنها في أغلب صورها ودوافعها ونتائجها تعاليم وأوضاع اقتصادية، ولهذا كان لا بد لنا من أن نختار لونا من هذه الألوان أو من غيرها – إن استطعنا – لنعيش في حدود وضع معلوم له خصائصه ومميزاته، يحدد أهدافنا الرئيسية، ويرسم لنا طريق العمل للوصول إلى هذه الأهداف[75].

ومما سبق يتأكد لنا أن الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية، لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة ولا غيرها، مما يؤكد أن استيرادها لمجتمعاتنا ما هو إلا نقمة علينا وليس نعمة، يتأكد لنا أيضا أن الحل الإسلامي هو الأمثل، فهو الذي يحمل في طياته الخلاص من كل ما تعانيه الأمم ليس فقط في جانبي السياسة والاقتصاد، بل على كل الجوانب وفي كل المجالات.

الخلاصة:

التشريع الإسلامي يفي بحاجات المجتمعات الإسلامية في الاقتصاد والسياسة، فهو – بتكامله وشموله – لم يدع أصلا يحتاج إليه المجتمع إلا وأسسه:

  • في المجال الاقتصادي نجد أن التشريع الإسلامي فرض الآتي:

o                        إتاحة العمل الملائم لكل مواطن قادر.

o                        إعطاء الأجر العادل لكل عامل بما يكافئ عمله.

o        تشريع الزكاة في المجتمع بما يحقق التكافل والعدل الاجتماعي، ومحاربة الكنز ومقاومة الاستقراض وانتشال المدينين من ذل الدين.

o        تشريع فرائض مالية غير الزكاة، حين لا تفي الزكاة بحاجة الجماعة المسلمة، عملا بقاعدتي المصالح المرسلة، وسد الذرائع.

o                        كفالة المعيشة الكريمة التي تتوافر فيها الحاجات الأصلية لكل مواطن عجز عن العمل.

o                        مصادرة كل مال حصل عليه حائزه من طريق الحرام، أو أكل أموال الناس بالباطل.

o        خضوع موظفي الدولة وخاصة الكبار منهم لقانون “من أين لك هذا؟” بحيث يحاسبون على كل كسب غير مشروع.

o                        محاربة السرف والترف في المجتمع بالتشريع والتوجيه.

o        تقريب الفوارق الاقتصادية بين الأفراد والفئات، بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء.

o                        تقريب الفوارق بين القرية والمدينة، بحيث لا تستحوذ المدينة على جل اهتمام الدولة وجل خدماتها.

o        تطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا، ومن كل معاملة تخالف شريعة الإسلام، وإنشاء مصارف إسلامية تتعامل على غير أساس الربا.

o        وضع خطة لزيادة ثروة الأمة، وتنمية إنتاجها كما ونوعا، والاستفادة من التكامل الاقتصادي بين البلدان الإسلامية للعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما بينها.

o        تقرير حق الملكية الفردية للأفراد، والسماح للأفراد بتنمية هذه الملكية, لكن في حدود مصلحة الفرد والجماعة التي يتعامل معها، فلا غش، ولا احتكار، ولا ربا.

  • في المجال السياسي:

o        الإسلام الحق – كما شرعه الله – لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، بل إن تجريده من السياسة يجعله دينا آخر، وذلك للأسباب الآتية:

o        أن الإسلام يوجه الحياة كلها، وله موقف واضح وحكم صريح في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة.

o        أن شخصية المسلم – كما يكونها الإسلام – لا يمكن إلا أن تكون سياسية، فهو يضع في عنق كل مسلم فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بمعنى آخر النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم؛ فالدين النصيحة، كما أن على المسلم العناية بالشأن العام لأمته.

o                        أن الإسلام حث على مقاومة الفساد، ورفض الظلم، والتمرد على الظالمين.

o                        يفرض الإسلام القتال – الجهاد – لإنقاذ المضطهدين والمستضعفين في الأرض.

o        يصب الإسلام جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون مع مقدرتهم على الهجرة والفرار.

o        يجعل الإسلام تغيير المنكر فريضة، وتتسع دائرة المنكرات لتشمل ما يعده الناس من صلب السياسة، كالاستهانة بكرامة الشعب، وتزوير الانتخابات، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات، وسرقة المال العام، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات، ودفع الرشوة وقبولها، والتوسط فيها، وتملق الحكام بالباطل، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من غير المؤمنين.

o        بل جعل التعاون على تغيير المنكر واجب لا ريب فيه؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، وهو ضرورة يحتمها الواقع.

o        المسلم مطالب دوما ألا يعيش لنفسه وحدها دون اهتمام بمشكلات الآخرين، وهمومهم خاصة المؤمنين منهم، بل إنه يفرض عليه أن يحض الآخرين على الخير لا أن يفعله وحده، ثم إن المسلم في صلاته يقرأ آيات في صلب السياسة، مثل الآيات الخاصة بالحكم وبالولاية وبالمعاداة.

o        أن الكثير من القضايا الإسلامية البحتة صار يحلو للبعض أن يسميها سياسة: مثل الحجاب، وصلاة العيد في الخلاء، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.

إذن فالإسلام الذي يسميه المتغربون “الإسلام السياسي”، هو “الإسلام الصحيح” الذي شرعه الله في كتابه وسنته، وطبقه النبي – صلى الله عليه وسلم – وخلفاؤه الراشدون، والذي لا يقبل الله دينا غيره.

  • لقد وفي الإسلام في هذا بحاجة المجتمع السياسية في الداخل والخارج.
  1. فأما في الداخل:

o                        استبعد الفكرة الغربية الدخيلة القائمة على فصل الدين عن الدولة.

o                        عدم فصل السياسة في الإسلام عن العقيدة والشريعة و الأخلاق.

o                        تجنيد الكفايات الإسلامية لوضع دستور إسلامي.

o                        اختيار رئيس الدولة يتم بالبيعة ورضا الشعب.

o        لا بد من تأكيد الدستور لحق الفرد في الحرية: حرية في الفكر، وفي التعبير، وفي الاعتقاد، وفي نقد الأوضاع الجائرة، وفي الاجتماع مع الغير، وتكوين الهيئات والأحزاب.

وحرية في كسب العيش بلا تضييق في العمل ما دام حلالا، وحرية في داخل مسكنه الخاص فلا يقتحم، ولا يتجسس عليه، ولا تتبع عوراته، وحرية في الأمن على كل حرماته: من الدين، والنفس، والمال، والبدن، والعرض والأهل.

o                        تأكيد حق المجتمع في الحفاظ على كيانه من طغيان الأفراد وانحرافاتهم.

o                        يضمن للأقليات غير المسلمة أن تحيا في كنف الإسلام حرة بلا أذى.

  1. وأما في السياسة الخارجية:
  • يعتبر الإسلام المسلمين أمة واحدة حيثما كانوا.
  • يعتبر كل أرض استوطنها المسلمون، وقامت فيها شعائرهم وطنا إسلاميا يجب حمايته والذود عنه.

o                        كل بلد إسلامي اعتدى عليه له حق المعونة والنصرة.

o                        الأقليات المسلمة في شتى بقاع الأرض هم جزء منا بحكم أخوة الإسلام.

o                        العمل على إزالة الحواجز المفتعلة بين بلاد المسلمين.

o                        زيادة التعاون بين المسلمين في شتى المجالات.

o                        مناصرة الحركات التحررية في العالم كله والتي ترفض استعباد الإنسان أيا كان دينه أو جنسه.

o                        الترحيب بالسلام بين الدول والشعوب,بشرط أن يقوم على العدل والمساواة واحترام الحقوق.

  • الفشل الذي وصمت به الأنظمة الاقتصادية والسياسية في بلادنا منشؤه ليس الإسلام ولا تعاليمه، فالأمة الإسلامية – كما تؤكد شواهد التاريخ – تتقدم وتسود في جميع الميادين حينما تتمسك بتعاليم دينها، وتتأخر حينما تتخلى عن عقيدتها وشريعتها، وللتخلف الاقتصادي والسياسي في المجتمع المسلم أسبابه الناجمة عن التخلف العقدي والديني، وهي أسباب خارجية وداخلية، أما الداخلية فتتمثل فى: الحكم الدكتاتوري المتسلط الذي يقمع الحريات ويقضي على نوابغ التقدم والحضارة التي تبزغ، وهو بذلك يوالي أعداء الأمة ويطبق أوامرهم لإرضائهم عنه للبقاء في السلطة، وهذا الحكم سماه الإسلام ” الحكم الجبري” الذي تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأما أسبابه الخارجية فتتمثل في: المؤامرة الغربية ضد الإسلام وأهله، والتي بدأت منذ الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، ثم فرض أنظمتهم الاقتصادية والسياسية على العالم الإسلامي التي آخرها نظام العولمة التي أفسدت اقتصادنا وسياستنا لصالح اقتصاد الغرب وسياسته والتي من مفاسدها:

o       إقامة المصانع المحظورة في البلاد المتقدمة لدينا.

o   الإسراف في الاستهلاك، وغمرة الإعلانات التي تسوق الناس بعاطفة القطيع، حينما تعتمد أساليب إغراء الشعوب.

o       إحداث الأزمات المالية، حيث يدور الاقتصاد لحساب قلة من الأقوياء سواء من الأفراد أو من الدول.

o       افتراس حقوق العمال، والذين تدور عجلة الاقتصاد على كواهلهم… إلى غير ذلك.

o       إضافة إلى ما تسببه عولمة السياسة من:

o       تأييد الديكتاتورية المتسلطة، والديموقراطيات الزائفة.

o       إبادة كل قوة تتمرد على الخضوع لتلك الديكتاتوريات.

o       تضييق الخناق على الدول الإسلامية التي تمتلك قوة نووية.

o       السكوت عن حقوق المسلمين المضطهدين في كثير من بلاد العالم.

o       هذا كله غير خدمة العولمة السياسية لسياسة إسرائيل العدوانية ضد أصحاب الأرض وسكانها من الفلسطينيين.

  • أثبت الواقع فشل الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية, فهي لم تف بحاجات المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، بل زادتها تراجعا للوراء.

o   ففي المجال الاقتصادي: فشلت الليبرالية والاشتراكية في إقامة حياة اقتصادية سليمة فيها زيادة إنتاج وعدالة توزيع، كما لم توفر لهم حياة فيها العمل الملائم لكل عامل، والأجر العادل له، والكفالة المعيشية لكل عاجز، وتكافؤ الفرص لكل مواطن، رغم كثرة ما قالوه عن محاربة “الأعداء الثلاثة”: الفقر، والمرض، والجهل.

o   أما في جانب الحرية والطمأنينة للشعب: فقد فشل الحلان كلاهما – الليبرالي والاشتراكي – في تحقيق الأمن والطمأنينة، والحرية الحقيقية للشعب المتمثلة في حرية الفرد في التفكير والنقد وإبداء الرأي فيما يراه من عوج أو فساد, والتنديد بالظلم والطغيان، وبالتالي فلم يقدم كلا النظامين الحل الصحيح للمشكلات الاقتصادية والسياسية، ولم يفعل سوى أن زاد هذه المشكلات بروزا وتضخما.

(*) في التشريع الإسلامي، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، مصر، 1989م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: ) وصل عليهم ( ( التوبة: ١٠٣) (5975)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه (6527).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (798)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1353).

[3]. الدروع السابغات: أي الطويلة.

[4]. زبر الحديد: جمع زبرة، وهو القطعة الضخمة من الحديد.

[5]. الاحتكار: اشتراء طعام ونحوه وحبسه انتظارا لغلاء الأسعار، ورصد الأسواق انتظارا لارتفاع الأثمان، والاحتكار لا يكون إلا فيما يضر الناس حبسه.

[6]. ذو مرة: ذو قوة شديدة.

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (6530)، وأبو داود في سننه، كتاب الزكاة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7251).

[8]. الراجل: الماشي على رجليه.

[9]. الفيء: ما رده الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالفهم في الدين بلا قتال، إما بالجلاء أو بالمصالحة على جزية أو غيرها.

[10]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه (292)، وأبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية (2950)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (2557).

[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1331) وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (132).

[12]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م، ص 56: 58 بتصرف يسير.

[13]. الشح: البخل.

[14]. الارتكاس: الانتكاس.

[15]. الشظف: الشدة والضيق.

[16]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب البيوع (2166)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2563).

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه (179).

[18]. الركاز: هو المال المركوز في الأرض مخلوقا كان أو موضوعا وعليه زكاة، يرجع فيه إلى مظانه.

[19]. الحرج في اللغة: الضيق، ويطلق على كل ما تسبب في الضيق، سواء أكان واقعا على البدن أم على النفس أم عليهما معا.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (1968)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب كراهة مسألة للناس (2449).

[21]. طوقه: ألبسه إياه.

[22]. الخلة: الحاجة والفقر.

[23]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط16، 1427هـ/ 2006م، ص114: 124 بتصرف يسير.

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه (2278)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل (4828).

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين (2176)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته (4242)، واللفظ للبخاري.

[26]. الغصب: أخذ الشيء ظلما مالا كان أو غيره، وأخذ مال متقوم محترم بلا إذن مالكه بلا خفية.

[27]. الاختلاس: أخذ الشيء مخادعة عن غفلة، وأخذ الشيء بحضرة صاحبه جهرا مع الهرب به، سواء جاء المختلس جهارا أم سرا.

[28]. الرشوة: هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل، أو للحصول على حق، وفي كل ذلك أقوال للفقهاء يرجع إليها في مظانها.

[29]. السرف: مجاوزة الحد.

[30]. السحت: ما خبث وقبح من المكاسب.

[31]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م, ص58: 62 بتصرف يسير.

[32]. بيع العروض: على خلاف بيع الأثمان، وهو ما يسمى بـ “الصرف”، لكن العروض كل ما يعرض، والعروض جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه من النبات والحيوان والعقار وسائر المال.

[33]. الملق: بمعنى النفاق.

[34]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23132)، وأبو داود في سننه، كتاب الإجارة، باب في منع الماء (3479)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6713).

[35]. العدالة الاجتماعية في الإسلام، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط16، 1427هـ/ 2006م، ص 91: 94 بتصرف يسير.

[36]. المتغربون: التغريب تيار فكري كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم عامة والمسلمين خاصة بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.

[37]. اليساريون: جمع يساري، وهو المتطرف في سياسته أو رأيه؛ لأن المغالين في معارضتهم كانوا يجلسون في يسار المجالس النيابية، وهو خلاف اليميني.

[38]. اليمينيون: جمع يميني، خلاف اليساري، وهو من يميل إلى المحافظة والاعتدال في رأيه، وكانت مجالس اليمينيين في المجالس النيابية على اليمين.

[39]. الماركسية: مذهب اقتصادي وسياسي تبلور في أعقاب الثورة الصناعية، ويعارض النظام الرأسمالي الذي يقوم على الملكية الفردية والمشروع الخاص، ويهدف إلى إشراك المجتمع في ملكية عوامل الإنتاج، وينسب ذلك المذهب إلى كارل ماركس.

[40]. الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، وهو نظام سياسي مبني على أساس فصل الدين عن الدولة، وعلى أساس التعددية من خلال النظام البرلماني الديمقراطي.

[41]. الكلاسيكية: مذهب أدبي يطلق عليه أيضا “المذهب الاتباعي” أو “المدرسي”، وقد كان يقصد به في القرن الثاني الميلادي الكتابة الاستقراطية الرفيعة الموجهة للصفوة المثقفة الموسرة من المجتمع الأوربي. أما في عصر النهضة الأوربية وكذلك في العصر الحديث فيقصد به كل أدب يبلور المثل الإنسانية المتمثلة في الخير والحق والجمال، وهذا المذهب من خصائصه الحرص على فصاحة اللغة وأناقة العبارة، ويعتني عناية كبرى بالأسلوب.

[42]. اللاهوتية: علم يبحث عن الله تعالى وما يتعلق به تعالى. وفي اللغات الأوربية معناها تعاليم الله تعالى أو علم العقائد الإلهية، ثم ترجمت إلى العربية بـ “اللاهوت” أو “الإلهيات”، غير أن الأديان السماوية ـ وعلى رأسها الإسلام ـ وضحت للإنسان مفهوم الإله، فالله بأوصافه كلها ـ سواء كانت متعلقة بذاته أو بصلته بمخلوقاته أو كانت مبينة لعلاقته بالإنسان أو علاقة الإنسان به ـ هو موضوع “علم الألوهية” أو “علم اللاهوت”.

[43]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (205).

[44]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4011)، وأبو داود في سننه، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4346)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (491).

[45]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنه، باب ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه (4884)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (374).

[46]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الصلوات، باب ما يدعو به في قنوت الفجر (7032).

[47]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان النهي عن المنكر من الإيمان (186).

[48]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن (4899).

[49]. البيعة: عقد بين ولي الأمر وجمهور المسلمين يتضمن اختياره للقيام بمهام الخلافة؛ أي رئاسة الدولة الإسلامية في الشئون الدينية والدنيوية.

[50]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب تعظيم المؤمن (2023)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7985).

[51]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب من كذب في حلمه (6635).

[52]. الأنانية: الأثرة وحب النفس.

[53]. إيغار الصدور: امتلاؤها غيظا وحنقا.

[54]. الخلد: البال، والنفس.

[55]. الحل الإسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط6، 1422هـ/ 2001م، ص 64: 70.

[56]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة للطباعة والنشر، جدة، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص179: 182 بتصرف يسير.

[57]. العولمة: هو تصور جديد في أن يكون للعالم كله ثقافة عالمية واحدة في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع وغيرها. ونقول: لا مانع من أن نستفيد من العولمة فيما لا يتناقض مع ديننا وقيمنا وأن نحافظ على هويتنا التي تعصمنا من التخلف والتبعية.

[58]. الحيف: الجور والظلم.

[59]. المسلمون والعولمة، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2000م، ص24، 25.

[60]. التنور: الفرن يخبز فيه.

[61]. الأود: الاعوجاج.

[62]. الانضواء: انضوى تحت لوائه: أي مال وانضم.

[63]. البراثن: جمع برثن، وهو مخلب السبع، أو الطائر الجارح.

[64]. يتوخى: يتحرى.

[65]. الكاهل من الإنسان: ما بين كتفه أو موصل العنق في الصلب.

[66]. المسلمون والعولمة، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، 1421هـ/ 2000م، ص 24: 45.

[67]. الفائدة المركبة: هي تكرار احتساب عائد على رأس المال في نهاية كل فترة زمنية، بحيث يصبح رأس المال في بداية كل فترة متضمنا العائد عن السنة السابقة، وهكذا.

[68]. الربقة: حبل فيه عدة عرى تشد به الدواب، وخلع ربقة الإسلام من عنقه: أي فارق الجماعة.

[69]. العقال: الحبل الذي يعقل به البعير حتى يعوقه عن المشي.

[70]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (6855)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (133).

[71]. مهيض الجناح: أي مكسور.

[72]. المفازة: الصحراء، أو المهلكة.

[73]. عضه الجوع: أي اشتد فقره.

[74]. الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر,ط5، 1413هـ/ 1993م، ص 58: 65.

[75]. الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر,ط5، 1413هـ/ 1993م، ص 87، 88.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن أحكام الشريعة الإسلامية لا يمكن تطبيقها في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك لوجود أقليات غير مسلمة بها، ويتساءلون: كيف تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على من لا يؤمن بها؟! ألا يعد هذا نقضا لمبدأ الحرية التي ينادي بها الإسلام والمسلمون؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) للشريعة الإسلامية مميزات تؤهلها للتطبيق في كل زمان ومكان، وبالنظر في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة يتأكد لنا هذا المعنى، كما أن الأكثرية لها الحق في حكم نفسها بما تشاء ما لم تجر على الأقلية.

2)  الإسلام دين السماحة، ولا يفرض عقيدته على غيره، يشهد بهذا غير المسلمين قبل المسلمين.

3)  الحكم العلماني ليس حكما مشرقا، بل هو حكم متعصب، يحارب جميع الأديان، وتسوده المذابح والفتن الطائفية.

التفصيل:

أولا. للشريعة الإسلامية مميزات تجعلها صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان:

تحدث د. يوسف القرضاوي عن مميزات الشريعة الإسلامية، وذكر منها:

  1. العدل للناس جميعا:

في ظل شريعة الإسلام ساد العدل، ونعم بخيره الناس جميعا، فقانون الشرع ملزم لكل من جرت عليه أحكام الإسلام، لا يظلم أحدا أو يحابي لأجل دينه، أو طبقته الاجتماعية، أو أسرته، أو غناه أو فقره، أو لونه أو لغته.

ذلك لأن عدل الإسلام هو عدل الله، والله لا يظلم أحدا من عباده، فردا أو جماعة، بل هو الحكم العدل، وقد نزلت آيات خالدة في كتاب الله، تدافع عن يهودي اتهم بجريمة ظلما وهو برئ منها، فندد القرآن بالمتهمين، وهم منتسبون ظاهرا إلى الإسلام، ودافع عن المتهم دفاعا لا نظير له في التاريخ.

  • وذلك في قوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)( (النساء).

 والقضاء الإسلامي من أعدل الأنظمة القضائية في العالم، فهو يعامل الخليفة – أمير المؤمنين – كما يعامل كافة أفراد الشعب، ويجري عليه ما يجري عليهم، وقد يحكم عليه القاضي لخصم هو يهودي أو نصراني، بل هو ما سجله تاريخ القضاء الإسلامي في وقائع شتى تظل غرة في جبين الدهر.

  1. مجتمع مساواة لا يعترف بالفوارق والطبقات:

وفي ظل نظام الإسلام وشريعة الإسلام، سعد الناس بمساواة قانونية واجتماعية، قل أن عرف التاريخ لها مثيلا، فقد أعلن الإسلام المساواة بين البشر جميعا، فهم عبيد لرب واحد، وأبناء لأب واحد، تساووا في المبدأ، وتساووا في المصير، فلا مجال لبغي ولا فخر ولا تمييز.

أبطل الإسلام كل الفوارق التي تميز بين الناس: من الجنس, واللون، واللغة، والنسب، والأرض، والطبقة، والمال والجاه، وربط هذه المساواة بشعائره اليومية والأسبوعية والسنوية؛ ليتأكد للناس أنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، ولهذا لم يعرف المجتمع الإسلامي التمييز العنصري، أو اللوني، أو الطبقي الذي عرف في مجتمعات أخرى شرقية وغربية.

ولا عجب أن رأينا عمر يقول عن بلال الحبشي: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا»؛ يعني بلالا رضي الله عنهم ([1]).

ورأينا المسجد يضم في رحابه كل الأجناس من عرب وعجم، وكل الألوان من بيض وسود، وكل الطبقات من أغنياء وفقراء، دون أدنى تفرقة بين فئة وأخرى.

ورأينا حكم الشريعة يطبق على الجميع، لا يعفى شريف لشرفه، ولا يرهق ضعيف لضعفه، بل قال النبي – قولته المشهورة: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»([2]).

قالوا عن الإسلام:

  • ذكر غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب”، وهي ليست إلا حضارة الإسلام – في ختام حديثه عن نظم العرب المسلمين الاجتماعية -: ” أن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة، وفقا لنظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا – قولا لا فعلا – راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب، ولا يزال يؤدي، وأنه ليس من الصعب أن ترى في الشرق خادما زوجا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان”.
  • والكتاب الأوربيون الذين بحثوا عن بعد في شئون أولئك الأقوام – وهم الذين لا يعلم الأوربيون من أمورهم سوى القليل – يستخفون بتلك النظم، ويقولون: إنها أدنى من نظمنا كثيرا، ويتمنون قرب الوقت الذي تستولي فيه أوربا الطامعة على تلك البقاع.

وغير ذلك ما يبديه الباحثون المحققون، وإليك مثلا ما جاء في كتاب ثمين، وضعه العالم المتدين مسيو لويله الذي هو ممن أجادوا درس أمور الشرق: “صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة، فيما يمس رفاهية طبقات العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة التي يسوي بها الإسلام بين الغني والفقير، والسيد والأجير على العموم، وليس من المبالغة أن يقال إذن: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأمر الجوهري”.

حتى العبيد الذين أبقى الإسلام عليهم – لاعتبارات معروفة – في أضيق نطاق، كانوا يعتبرون بمثابة أعضاء في الأسرة التي يعيشون فيها. وفي الحديث: «إخوانكم خولكم»؛ ([3]) أي: خدمكم.

  • ويتحدث ول ديورانت في كتابه “قصة الحضارة” عن الرقيق في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكيف عمل الإسلام على تضييق دائرة الاسترقاق، وتحسين حال الأرقاء، فقصر الاسترقاق المشروع على من يؤسرون في الحرب من غير المسلمين، وعلى الأبناء الأرقاء أنفسهم.

ثم يقول: “وكان يسمح للعبيد أن يتزوجوا وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدرا كافيا من النباهة، وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لهم شأن عظيم في الحياة العقلية والسياسية في العالم الإسلامي، ومن كثرة من أصبحوا منهم ملوكا وأمراء، أمثال محمود الغزنوي والمماليك في مصر”.

  • ويقول الأستاذ برنارد لويس: “ولقد نجح الإسلام حيث فشلت المسيحية في مزج الإيمان العميق بالتسامح الديني، الذي لم يشمل فقط غير المسلمين من الأديان الأخرى، بل شمل هذا التسامح حتى الهراطقة([4]) والكفار.

وتعايش مدارس فكرية عدة في التشريع الإسلامي المقدس هو برهان آخر على التسامح، والاعتدال الإسلامي.

ولقد كان الإسلام دائما من الوجهة الاجتماعية ديمقراطيا – أو على الأصح – عادلا، يرفض دائما نظاما كنظام الطوائف في الهند، وامتيازات كامتيازات الطبقة الأرستقراطية في أوربا، وما احتاج الإسلام إلى ثورة دامية لينشر فكرة تكافؤ الفرص، وتقدير المواهب في العالم الإسلامي، فلقد جاءت الفكرة مع بدء الدعوة الإسلامية، وعلى الرغم من أن في سياق تاريخ بعض الدول الإسلامية ميلا لتشكيل طبقة أرستقراطية، إلا أن الفكرة “المساواة” لم تنمح ولم تستبعد من المجتمع الإسلامي في أي وقت من الأوقات.

والنظرة الإسلامية تؤكد دائما سيادة القانون ووجوب انصياع الحكام له، ولقد استطاعت قوة العلماء في العهد العثماني أن تفرض احترام هذا المبدأ الإسلامي.

  1. التكافل الاجتماعي الشامل:

وفي ظل شريعة الإسلام وحكم الإسلام ساد التكافل الاجتماعي الشامل، الذي قام على حراسته إيمان الأفراد المسلمين، وسلطان الدولة المسلمة.

  • تكافل بين أبناء الأسرة والعشيرة، فحمل قويهم ضعيفهم، وقام قادرهم بحق عاجزهم، امتثالا لأمر الله – عز وجل – بصلة الأرحام، وإيتاء ذي القربى حقه، وتحقيقا للمبدأ القرآني: )وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله( (الأنفال: 75).
  • ومن لم يقم بذلك بوازع من ذاته ألزمه القضاء الإسلامي بذلك، وفقا لقانون “النفقات” في الشريعة.
  • وتكافل بين أبناء “الحي” الذي يلزمهم بحكم الجوار أن يتعاونوا ويتضامنوا، ويأخذ بعضهم بيد بعض، وإلا فالإسلام منهم براء، ففي الحديث: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانا, وجاره جائع إلى جنبه»([5]).
  • وتكافل بين أبناء القطر أو الإقليم الواحد؛ حيث كانت “الزكاة” تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فريضة من الله.
  • وتكافل أوسع وأكبر، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فهي أمة واحدة، يشد بعضها أزر بعض، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

لقد رأينا هذا التكافل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث بعث سعاته وعماله إلى كافة القبائل والأقطار التي دخلها الإسلام، وأمرهم أن يأخذوا الزكاة من أغنيائهم ليردوها على فقرائهم، وكان الساعي أو العامل منهم يذهب، فيجمع الزكاة، ثم يتركها في موضعها، فلا يعود إلا بحلسه أو عصاه.

ومن صور هذا التكافل:

  • أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أفاء الله عليه الفيء، كان يتولى قضاء ديون من مات من المسلمين، وليس عنده وفاء، كما يتولى رعاية عياله من بعده إذا لم يكن لهم مال ولا يتركهم ضياعا, وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته»([6]).
  • وفي عهد أبي بكر – رضي الله عنه – حين تمردت بعض القبائل على أداء الزكاة قائلين: نصلي ولكن لا نزكي، فأبى أبو بكر إلا أن يقاتلهم كما يقاتل مدعي النبوة وأتباعهم سواء بسواء، قائلا كلمته الخالدة: «والله، لو منعوني عناقا – عنزة صغيرة – كانوا يؤدونها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لقاتلتهم على منعها».([7]) وأجمع الصحابة معه على قتالهم، حتى أدوا الحقوق إلى أهلها.

ولم تعرف البشرية قبله حاكما، أو رئيسا يجيش الجيوش ويعلن الحرب؛ لينتزع حقوق الفقراء من براثن الأغنياء الأشحاء، بحد السيف وقوة السلاح.

  • وفي عهد عمر – رضي الله عنه – حين اتسعت الفتوح وكثرت الموارد – وسع قاعدة التكافل، ففرض لكل مولود في الإسلام نصيبا، بل شمل هذا التكافل المسلمين وغير المسلمين، كما هو معروف من سيرة الفاروق – رضي الله عنه – فقد أمر أن يفرض لشيخ يهودي عاجز من بيت مال المسلمين ما يصلحه وأهله، وجعل ذلك مبدءا له ولأمثاله من أبناء ملته، وكذلك فرض للمجذومين النصارى الذين مر بهم في طريقه إلى الشام.
  1. التسامح مع المخالفين:

في ظل شريعة الإسلام ربحت البشرية مبدءا أخلاقيا من أعظم المبادئ في العلاقات الإنسانية والدولية، هذا المبدأ هو: التسامح مع المخالفين في الدين.

وهكذا كان المسلمون حتى مع أشد الناس عداوة لهم، وحتى إبان اشتعال الحروب التي تغلب فيها عادة عواطف الغضب والغيظ على عوامل الحكمة والتعقل، يقول المؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في صدر حديثه عن الفتوح الإسلامية في كتابه “حضارة العرب”: “الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم”.

لقد احترمت الشريعة عقائد الآخرين، ورفضت الإكراه في الدين رفضا باتا، وأعلن القرآن هذه الحقيقة: )لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي( (البقرة: 256)، وخاطب الله – عز وجل – رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقوله: )أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99)( (يونس)؛ ولهذا قرر المؤرخون بكل يقين: أن المسلمين لم يجبروا شعبا ولا فئة من الناس على اعتناق الإسلام بحال، وقد كانوا قرونا عديدة يملكون من القوة والنفوذ ما يغريهم بذلك، لولا سلطان الشريعة فوق رؤوسهم، ووازع الإيمان في صدورهم.

وينقل غوستاف لوبون أيضا عن عدد من المؤرخين الأوربيين ما يثبت هذه الحقيقة التاريخية بكل تأكيد، فيقول: قال روبرتسون في كتابه “تاريخ شارلكن”: إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم، وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وأنهم مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية.

وقال ميشود في كتابه “تاريخ الحروب الصليبية”: “إن القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم محمد قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، في حين ذبح الصليبيون المسلمين، وحرقوا اليهود بلا رحمة وقتما دخلوها”.

  1. العلماء الذين يوجهون الملوك والخلفاء:

وفي ظل شريعة الإسلام وحكمه، وجد ذلك الصنف الرائع من العلماء الأقوياء الذين يدعون إلى الله على بصيرة، ويصدعون بالحق في شجاعة، ويرفضون الدنيا في كبرياء، ويرضون بالقليل في قناعة، فكانوا دعاة الحق، وهداة الخير، ومصابيح الهدى، وحراس العدالة، وحماة الشعب، وهداة الملوك والرؤساء.

ولم تكن مكانتهم هذه لأنهم يحتكرون الوساطة بين الله وعباده، ولأنهم يقفون دون أبواب السماء، يصدرون قرارات الحرمان أو صكوك الغفران، كما يفعل رجال الكهنوت في بعض الأديان.

كلا.. وإنما كانت قوتهم ومكانتهم للعلم الذي يحملونه، والهدى الذي يمثلونه، والحق الذي يدعون إليه: )ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين (33)( (فصلت).

ذكر الغزالي في كتاب “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” من إحيائه عن الأصمعي، قال: “دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان، وهو جالس على سريره – عرشه – وحواليه الأشراف من كل بطن، وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، ما حاجتك؟ فقال: “يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله، وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق بابك دونهم”.

فقال له عبد الملك: أجل أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها، فما حاجتك أنت؟ فقال: “ما لي إلى مخلوق حاجة”! ثم خرج. فقال: هذا – وأبيك – الشرف.

هذا الشريف النبيل – الذي أجلسه الخليفة على سريره وقعد هو بين يديه – لم يكن قرشيا، ولا عربيا، ولا زعيم قبيلة، ولا سيدا ورث السيادة من أبيه وجده.

لقد كان مولى من الموالى، ([8]) وصفوه فقالوا: كان أسود، أعور، أفطس، ([9]) أشل، أعرج، بل زادوا على ذلك فقالوا: إن يده كانت قطعت مع ابن الزبير – خصم عبد الملك ومنازعه على الخلافة – أما أبو عطاء فقالوا: كان نوبيا يعمل المكاتل([10])!

وهذه والله إحدى أعاجيب هذا الإسلام العظيم: يرفع العبد المملوك بعلمه ودينه إلى مقام الملوك، ويجلس الأسود الأعرج بفضل إيمانه وفقهه على أسرة الخلفاء، وهم بين يديه قاعدون!

وأرسل سليمان بن عبد الملك إلى أبي حازم، فدعاه فدخل عليه فكان مما سأله: ما تقول فيما نحن فيه؟

قال: أوتعفيني؟

قال: لا بد، فإنها نصيحة تلقيها إلي.

قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضائهم، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم؟!

فقال رجل من جلسائه: بئسما قلت!

قال أبو حازم: إن الله قد أخذ على العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه.

قال سليمان: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد؟

قال: أن تأخذه من حله، فتضعه في حقه.

قال سليمان: ومن يقدر على ذلك؟!

قال أبو حازم: من يطلب الجنة ويخاف من النار!

وعن سفيان الثوري – رضي الله عنه – قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك.

فقلت له: اتق الله، فقد ملأت الأرض ظلما وجورا!

قال: فطأطأ رأسه ثم قال: ارفع إلينا حاجتك.

فقلت: حج عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم – فقال لخازنه: كم أنفقت؟

قال: بضعة عشر درهما، وأرى هنا أموالا لا تطيق الجمال حملها… وخرج.

ولعلماء الإسلام من أمثال هذه المواقف الرائعة ما لا يحصى.

  1. الفرد الحر العزيز:

ولم يقف هذا النصح والتواصي بالحق عند حد العلماء الأقوياء، بل اتسع للفرد العادي من الناس.

ففي ظل شريعة الإسلام ونظام الإسلام، تربى الفرد الحر الكريم، الذي يؤمن بربه، ويعتز بنفسه، ويشعر بكرامته، ويثق بحقه في حياة حرة آمنة عادلة، لا سلطان فيها لغير الحق، ولا سيادة فيها لغير الشرع، ولا امتياز فيها إلا بالتقوى.

كما يرى أن من واجبه النصيحة في الدين، والتواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فإذا كانت بعض الفلسفات والأنظمة ترى ذلك حقا للفرد يمكنه التنازل عنه، فهو – بحكم دينه – يراه واجبا لا يجوز التفريط فيه.

إنه الفرد الذي يقول لأمير المؤمنين علانية: “لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا” غير هياب([11]) ولا وجل,([12]) وترد المرأة على الخليفة وهو يخطب فوق أعواد المنبر، لا تخاف منه ولا من أعوانه على نفسها أو قومها.

الفرد الذي يقوم لمعاوية وقد أخر العطاء عن الناس حينا، فيقول له وهو على المنبر: “إنه ليس من كدك، ولا من كد أبيك ولا من كد أمك”, فلا يملك معاوية إلا أن ينزل فيدخل بيته ويغتسل ليذهب عنه الغضب ثم يعود فيقول: “صدق أبو مسلم – قائل الكلام السابق – إنه ليس من كدي، ([13]) ولا كد أبي، فهلموا إلى عطائكم”.

  1. الحاكم الصالح:

وفي ظل نظام الإسلام وجد الحاكم الذي لا يحتجب عن الشعب، ولا يظلمه، ولا يستعلي عليه، بل يشاوره وينزل عند رأيه، ويسوي بين نفسه وبين أصغر واحد من رعاياه.

  • حاكم كأبي بكر – رضي الله عنهم – الذي أعلن سياسته في أول خطبة له بعد خلافته، فكان منها ما يحفظه المسلمون خاصتهم وعامتهم: “إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”.

أبو بكر – رضي الله عنه – الذي قيل له: يا خليفة الله, فخشي من هذه الإضافة إلى الله أن تفهم على غير وجهها، وقال: إنما أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

  • حاكم كعمر – رضي الله عنه – الفاروق الذي يخطب الناس ويجرؤهم على نقده وتقويمه، فيقول: “أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجا فيقومني”, فيقول له أحد الرعية: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا! فيقول عمر رضي الله عنه: “الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه”.
  • حاكم كعلي بن أبي طالب الذي قبل معارضة الخوارج له، ما دامت معارضة فكرية سياسية، وإن كان فيها نقد لتصرفه – رضي الله عنهم – ما لم تتحول هذه المعارضة إلى عصيان مسلح يهدد أمن المسلمين ووحدتهم.

سمع علي – رضي الله عنه – أحد الخوارج يقول: “لا حكم إلا لله” – تعريضا بالرد عليه في قبول التحكيم – فقال علي رضي الله عنه: «كلمة حق أريد بها باطل! ثم قال: “لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال»([14]).

وهذا يدل على جواز ما يعرف في عصرنا بـ “التعددية السياسية” فإن أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – لم يعترض على وجود الخوارج، رغم أفكارهم المخالفة، بل أقر بوجودهم في المجتمع المسلم، ما لم يشهروا على الناس سيفا.

  1. حضارة العلم والإيمان:

وفي ظل شريعة الإسلام قامت حضارة زاهرة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الدين والدنيا, كان للعلم في هذه الحضارة مكان بارز، وسلطان مبين، ولم تعرف ما عرفته حضارات أخر من النزاع بين العلم والدين، بل كان كثير من فقهاء الدين علماء مبرزين في علوم الكون والحياة، كما كان كثير من أساطين الطب والفيزياء والرياضيات وغيرها من أكابر علماء الدين، وهل كان ابن رشد وابن خلدون إلا فقيهين وقاضيين من قضاة الشريعة الإسلامية([15]).

  1. شهادة التاريخ بروعة الفترات التي حكم فيها المسلمون بالشريعة:

إن التاريخ الصادق ينبئنا عن فترات مضيئة ما بين حين وآخر، رزق فيها المسلمون بحكام أوفياء لدينهم، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحكموا شرع الله، وأقاموا عدله في الأرض، ونفذوا حدوده في القريب والبعيد، ولم يخافوا في الله لومة لائم، فعزوا وسعدوا وانتصروا، وعزت بهم الأمة وسعدت وانتصرت، وكان في هذا العز والسعادة تحت سلطان هؤلاء الحكام الملتزمين بشريعة الله: أنصع برهان على صلاحية هذه الشريعة للخلود، وأن الخير كل الخير في اتباعها، والاعتصام بحبلها، والشر كل الشر في الانحراف عنها، واتباع غير سبيلها.

  • ولعل من أبرز الأمثلة التي تذكر بهذا الصدد في العهد الأموي: سيرة عمر بن عبد العزيز الذي ولي الخلافة بعد أن انحرف الحكم الأموي عن نهج الراشدين، وارتكب كثيرا من المظالم.

فما كان من عمر إلا أن أحيا العمل بالشريعة كلها، فألغى مظاهر الترف والأبهة، ورد المظالم، ومنع الفساد، وعدل في الرعية، وقسم بالسوية، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فلم تمض ثلاثون شهرا – هي كل مدة خلافته – حتى عم الرخاء والازدهار، وساد الإخاء والاستقرار، وانمحى الفقر من بين الناس.

فعن عمر بن أسيد قال: “إنما ولي عمر بن عبد العزيز ثلاثين شهرا، لا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيه فلا يجده، قد أغنى عمر الناس”([16]).

  • وفي العهد العباسي نجد خليفة كهارون الرشيد يبلغ ملكه من السعة والعظمة ما جعله يخاطب السحابة في السماء قائلا: شرقي أو غربي وأمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك!

فإذا تأملنا سيرة هذا الخليفة وجدناه – كما حكى الطبري وغيره من المؤرخين – يغزو عاما، ويحج عاما، ويصاحب العلماء والأولياء ويحاورهم، ويبكي لمواعظهم، “كالفضيل بن عياض”، “وابن السماك”، “والعمري”، ويحافظ على أوقات الصلوات، ويشهد الصبح في أول وقتها، ويكثر من صلاة التطوع، حتى قيل: إنه يصلي في اليوم مائة ركعة، ويقوم بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة.

وقد دافع ابن خلدون عن الرشيد في مقدمته، وكذب أولئك المتخرصين الذين زعموا زورا أنه كان يسكر أو يعاقر الخمر، وقال: حاش لله، ما علمنا عليه من سوء.

ومما استند إليه ابن خلدون: أنه نشأ في أسرة دينية، وبيئة إسلامية خالصة، قال: ولم يكن بينه وبين جده أبي جعفر بعيد زمن، إنما خلفه غلاما، وقد كان أبو جعفر بمكان من العلم والدين قبل الخلافة وبعدها، وهو القائل لمالك حين أشار عليه بتأليف الموطأ: “يا أبا عبد الله، إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتابا ينتفعون به، تجنب فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، ووطئه للناس توطئة”، قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ.

وقد أدركه ابنه المهدي – أبو الرشيد هذا – وهو يتورع عن كسوة الجديد لعياله من بيت المال، ودخل عليه يوما وهو بمجلسه يباشر الخياطين في إرقاع الخلقان([17]) من ثياب عياله، فاستنكف المهدي من ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، علي كسوة العيال عامنا هذا من عطائي، قال له: لك ذلك، ولم يصده عنه، ولا سمح له بالإنفاق من مال المسلمين.

يقول ابن خلدون: فكيف يليق بالرشيد على قرب العهد من هذا الخليفة، وما ربي عليه من أمثال هذه السير في أهل بيته والتخلق بها – أن يعاقر الخمر أو يجاهر بها؟!

وإن فيما كتبه الإمام أبو يوسف في كتابه “الخراج” لهذا الخليفة الجليل – ليهتدي به، ويسير على أحكامه في الشئون المالية، وما وعظه به في مطلع كتابه – لدليلا ناصعا على ما للشريعة وقيمها وأحكامها من مكانة عليا في نفسه، وفي حياته كلها.

والشاهد هنا: أن كل خليفة أو ملك أو سلطان عظيم في تاريخ الإسلام لم تكن عظمته إلا بمقدار صلته بهذه الشريعة الإسلامية، وحسن قيامه عليها.

  • وحسبنا أن نذكر من عظماء السلاطين والأمراء هنا، ممن حقق الله على أيديهم الخير للمسلمين، وكتبهم التاريخ في سجل الخالدين، السلطان نور الدين محمود الملقب بالشهيد، الذي أحيا الله به سنة الراشدين، وأقام به معالم الدين، وقهر بسيفه الصليبيين.

ذكر الحافظ المؤرخ أبو شامة المقدسي في كتابه المسمى “أزهار الروضتين في أخبار الدولتين”: أن نور الدين الشهيد لما ولي الحكم، كانت البلاد على أسوأ الأحوال من كل ناحية، ففكر عقلاء الدولة فيما يجب السير عليه في إصلاح شئون البلاد، وارتأوا أن مجرد تنفيذ أحكام الشرع عند ثبوت إجرام المجرمين ثبوتا شرعيا لا يكفي في قمعهم، فلا بد من أخذهم بأحكام قاسية سياسية حتى يستتب الأمن، وتصلح الأحوال، فرجوا العالم الصالح الشيخ عمر الملا الموصلي لما له من المنزلة السامية عند نور الدين قبل توليه الملك لعلمه ودينه، أن يوصل إلى مسامع الملك ذلك الرأي الحصيف – في ظنهم -، فقبل رجاءهم، وكتب إلى نور الدين يوصيه بالضرب على الأيدي الآثمة بأحكام صارمة، بدون انتظار إلى ثبوت إجرامهم ثبوتا شرعيا.

وبعد أن قرأ الملك توصية الشيخ كتب على ظهرها بيده الكريمة ما معناه: “حاشا أن أجازي أحدا بجرم قبل أن يثبت جرمه ثبوتا شرعيا، وحاشا أن أتهاون في عقوبة مجرم ثبت جرمه ثبوتا شرعيا، ولو جريت على ما رسمته التوصية لي لكنت كمن يفضل عقل نفسه على علم الله عز وجل، ولو لم يكن هذا الشرع كافيا في إصلاح شئون العباد لما بعث به خاتم رسله”, وأعادها إلى الشيخ.

ولما اطلع الشيخ على هذا التوقيع الملكي الحازم، بكى بكاء مرا وقال: يا للخيبة، كان الواجب علي أن أقول ما قاله الملك! فانقلبت الأوضاع، وانعكس الأمر.

فتاب من توصيته أصدق توبة، وجرى الملك في تسيير الأمور على ما رسمه الشرع حرفا فحرفا فصلحت البلاد، وزال الفساد، في مدة يسيرة، وأصبحت تلك الأصقاع بحيث لو سافرت غادة حسناء وحدها، ومعها أثمن الجواهر والأحجار الكريمة من أقصى البلاد إلى أقصاها، ما حدثت أحدا نفسه أن يمسها بسوء لا في مالها ولا في عرضها.

وقد اكتظت كتب التاريخ بما تم على يد هذا الملك الصالح من الإصلاحات العظيمة، بعد تطهيره أرض الشام ومصر من عدوان أهل الصليب، حتى ألحق بالخلفاء الراشدين بسيرته الرشيدة”.

  • ومثل الشهيد “نور الدين محمود” تلميذه وخريجه السلطان “صلاح الدين الأيوبي” الذي حقق الله على يديه النصر على الصليبيين في معركة “حطين” الشهيرة، والذي فتح القدس، واستردها من أيدي الغزاة الأوربيين، بعد أن دامت في أيديهم تسعين عاما.

لقد حرص صلاح الدين على إحياء الأحكام الشرعية والسنة النبوية، بعد أن عاث العبيديون – المسمون بالفاطميين – فسادا في كل شيء، فكانوا يمنعون أهل السنة من قراءة الحديث، حتى اضطر بعض المحدثين إلى مغادرة مصر، وكانوا يكافئون الناس على لعن الصحابة، ويقولون: “من لعن وسب، فله دينار وإردب”.. إلى آخر ما ابتدعوا في دين الله، وأفسدوا في دنيا الناس.

أما صلاح الدين، فقد أحيا السنة، حتى إنه اصطحب معه من العلماء من يدرس له صحيح البخاري وهو في المعمعة، وفي قلب الميدان.

ومما يذكر لصلاح الدين – رحمه الله – أن أحد رجاله المتميزين عنده، استعداه يوما على رجل غشه في معاملة، فما كان من السلطان المؤمن إلا أن قال له: “ما عسى أن أصنع لك، وللمسلمين قاض يحكم بينهم؟! والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة، وأوامره ونواهيه ممتثلة، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته، فالحق يقضي لك أو عليك”!

ومعنى عبارة السلطان: أنه ليس إلا منفذا لحكم الشرع كالشحنة – وهو صاحب الشرطة – وأن القضاة مستقلون بالحكم؛ لأنهم يحكمون بالشرع العادل المساوي بين الناس, وبهذا الالتزام والتمسك بالشريعة كتب صلاح الدين في سجل الخالدين، وعظماء التاريخ، وأقر بفضله العدو والصديق([18]).

إن الذين يعارضون تطبيق الشريعة الإسلامية بحجة أن هذا ينافي مبدأ الحرية لغير المسلمين – وهو مبدأ مقرر دوليا وإسلاميا – يناقضون أنفسهم؛ لأنهم نسوا أو تناسوا أمرا أهم وأخطر، وهو أن الإعراض عن الشرع الإسلامي من أجل غير المسلمين – وهم أقلية – يتنافى مع مبدأ حرية المسلمين في العمل بما يوجبه عليهم دينهم – وهم أكثريةـ.

فإذا تعارض حق الأقلية وحق الأكثرية فأيهما نقدم؟

إن منطق الديمقراطية – التي يؤمنون بها ويدعون إليها – أن يقدم حق الأكثرية على حق الأقلية, هذا هو السائد في كل أقطار الدنيا، فليس هناك نظام يرضى عنه كل الناس، فالناس خلقوا متفاوتين مختلفين، ويكفي نظام ما أن ينال قبول الأكثرين ورضاهم, بشرط ألا يحيف على الأقلين ويظلمهم، ويعتدي على حرماتهم، فليس على المسيحيين حرج في التنازل عن حقهم لمواطنيهم المسلمين ليحكموا أنفسهم بدينهم، وينفذوا شريعة ربهم([19])، ما دامت هذه الشريعة تضمن لهم حقوقهم.

ولو لم تفعل الأقلية ذلك لكان معنى هذا أن تفرض هذه الأقلية ديكتاتورية على الأكثرية، وأن يتحكم مثلا عشرة ملايين أو أقل في سبعين مليون أو أكثر، هذا ما لا يقبله منطق ديني ولا علماني.

ثانيا. الإسلام دين السماحة، ولا يفرض عقيدته على غيره:

إن الإسلام يقرر في وضوح مبدأ حرية الاعتقاد، وأنه بعيد بعد السماء عن الأرض من فرض عقيدته على الناس بقوة السلاح، وسفك الدماء، وأنه لا يصادر حرية أحد، ولا يحجر عليه في قول أو فعل كل ما هنالك أنه يتصدى للباطل في أي لون كان، ويكشف عوره، ويبين زيفه ويدعو إلى الحق في أي مجال كان، فيزيل ما حوله من شبهات ويجليه للرأي العام أبلق ناصعا، ثم يترك للناس حرية الإقبال عليه أو الإعراض عنه مع تبشير المؤمنين بحسن المصير، وإنذار الرافضين بسوء المصير.

وسنورد شواهد وبراهين من آيات الكتاب العزيز على تقرير مبدأ حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، مع ضوابط لا بد منها تتعلق بهذا المبدأ الحيوي العظيم؛ حتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويصير من كفر كمن آمن مبدءا ومصيرا.

ذلك أننا حين نقول إن كتاب الإسلام الأول (القرآن)، أقر مبدأ حرية الاعتقاد، فإن هذا القول صحيح.. صحيح، ولكن هذه الحرية مقصورة على الحياة الدنيا، أما في الآخرة، فإن الحال مختلفة، فلن يجعل الله من كفر كمن آمن، فلكل منهما عند الله جزاء وفاق، ومصير عادل.

ولك أن تقول – وأنت مصيب – إن تقرير مبدأ حرية الاعتقاد في الدنيا، إنما هو بالنظر إلى سلطة الناس بعضهم على بعض، فليس من حق أحد – حاكما كان أو محكوما – أن يجبر أحدا على اعتناق أية عقيدة، فلكل إنسان أن يعتقد ما يحلو له، وليس لأحد عليه سلطة الإجبار، لا بسلاح ولا بغير سلاح من وسائل القهر والقمع والاضطهاد.

كل هذه الوسائل لا يقر الإسلام استعمالها ضد أحد كائنا من كان لتفرض عليه عقيدة وإن كانت عقيدة الإسلام؛ لأن ذلك ينافي مبدأ التكليف الحر النابع من حسن الاقتناع بعد سوق البراهين عليه.

ولأن العقيدة محلها القلوب ووسيلتها الإقناع، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا لله علام الغيوب، هذه الاعتبارات يقدرها الإسلام حق قدرها، ولذلك كان من أصوله الخالدة عدم الإكراه في الدين.

ومن الضوابط المتعلقة بحرية الاعتقاد في الإسلام بعد التفرقة التي أشرنا إليها بين ذوي الاعتقاد الصحيح، وذوي الاعتقاد الفاسد في الآخرة، بأن لكل منهم جزاء ومصيرا – عند الله – فإن الله – عز وجل – يفرق بينهما في الحياة الدنيا، فيخص ذوي الاعتقاد الصحيح بلطائفه وإحساناته وتوفيقه، ويحييهم حياة طيبة إذا قرنوا صحة اعتقادهم بالعمل الصالح، ثم يدخلهم روضات الجنات هم فيها يحبرون، ويذر ذوي الاعتقاد الفاسد في طغيانهم يعمهون، تقتلهم الأوهام، ويستحوذ عليهم الشيطان، ثم يكونوا حصب([20]) جهنم هم فيها خالدون، ومعلوم أن هذه التفرقة ليست لأحد إلا لله.

على هذه الاسس ينبغي أن يفهم مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام وعليها ندير الحديث في السطور الآتية:

  • من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر:

إن من أوضح النصوص القرآنية دلالة على حرية الاعتقاد في الإسلام – في إطار الضوابط التي ذكرناها – قول الحق عز وجل: )وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)( (الكهف).

ومن إخلاص النصح والتوجيه القرآني أن في هذه الآية الناطقة بكل وضوح بتقرير مبدأ حرية الاعتقاد بين الإيمان والكفر، لوحت مرة وصرحت أخرى أن الإيمان والكفر ليسا سواء.

أما التلويح؛ فحيث قدمت مشيئة الإيمان لشرفه على مشيئة الكفر لخسته.

وأما التصريح؛ فقد عقبت الحديث عن اختيار الكفر بالتنفير منه؛ حيث ذكرت مصير الكافرين في الحياة الآخرة,حيث أعد الله لهم نارا أحاط بهم سورها إحاطة الظرف بالمظروف، فلا مخرج منها ولا مفر: )كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22)( (الحج).

وإن طلبوا الإغاثة من حرها بما يبرد أكبادهم، ويذهب لظى([21]) أحشائهم جاءهم الغوث، ([22]) ولكن بغير ما أرادوا: ماء حار قبيح اللون، إذا وضعوه على أفواههم ليشربوه شوى وجوههم وجلودهم، فإذا وصل إلى أجوافهم قطع أمعاءهم, وضاعف شقاءهم, فبئس هو شرابا، وساء هو رفيقا: )وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15)( (محمد). أما الماء العذب الزلال([23]) فهم محرومون منه، وهو محرم عليهم: )ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين (50)( (الأعراف).

وظاهر من سياق آية الكهف أن القرآن حريص كل الحرص – وهو يقرر مبدأ حرية الاعتقاد – أن يؤكد أن هذه الحرية ليست مستوية الطرفين، وفي هذا إخلاص في النصح والتوجيه، وأمانة في البلاغ والإبلاغ، لئلا تكون هذه الحرية المقصورة على الحياة الدنيا سببا في هلاك فريق من العباد، يرون أن الإيمان والكفر سيان في ميزان العدل الإلهي محيا ومماتا, ولكن مع بيان هذه التفرقة بينهما يتحمل كل إنسان نتائج اختياره في الدنيا والآخرة، فمن سعيد بما كسب، وشقي بما اكتسب، وما الله بظلام للعبيد: )من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46)( (فصلت)، وهذا هو منتهى العدل والإنصاف([24]).

وقد اتهم الحكم الإسلامي بالتعصب الديني، والحيف على الفئات الأخرى، التي تعيش في ظل دولته وفي كنف سلطانه,وهو اتهام ظالم، ليس له أساس من شريعة الإسلام ولا من تاريخه.

وحسبنا من شريعة الإسلام قول الله عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)( (الممتحنة).

والخلط يقع دائما بين الذين نهى الله عن توليهم؛ لأنهم عادوا المسلمين، وآذوهم وأعانوا عليهم، وبين الذين رغب الله في برهم والإقساط إليهم؛ لأنه يحب المقسطين.

وإذا كانت هاتان الآيتان نزلتا في شأن المشركين، كما هو مبين في أسباب نزول السورة – الممتحنة – فإن لأهل الكتاب منزلة خاصة في اعتبار الإسلام، فقد أباح القرآن مؤاكلتهم ومصاهرتهم، أي اعتبر ذبيحتهم حلالا، كذبيحة المسلم على حين حرم ذبيحة الملحد والوثني، وأجاز للمسلم أن يتزوج كتابية عفيفة كما قررت ذلك سورة المائدة، ومعنى هذا أنه أباح للمسلم أن تكون ربة بيته وشريكة حياته، وأم أولاده كتابية، وأن يكون أصهاره وأخوال أولاده وخالاتهم وأجدادهم وجداتهم من أهل الكتاب، وهذا ذروة التسامح.

وقد أطلق الإسلام على اليهود والنصارى الذين يعيشون في كنف دولته اسمين يوحيان بمعان كريمة سامية:

  • اسم “أهل الكتاب” إشارة إلى أنهم في الأصل أصحاب كتاب سماوي، وهذه التسمية لسائر اليهود والنصارى، وإن لم يعيشوا في دار الإسلام.
  • اسم “أهل الذمة” إيماء بأن لهم ذمة الله وذمة رسوله: أي عهد الله، وعهد رسوله ألا يؤذوا ولا تهدر حقوقهم، أو تخدش حرماتهم، وهذا الاسم خاص بالذين يعيشون في ظل سلطان الإسلام.

وفي الحديث الشريف: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما». ([25]) والمعاهد يشمل من له عهد مؤقت بأمان ونحوه وهو المستأمن، ومن له عهد مؤبد وهو الذي عهده أوثق وأوكد، وهو الذمي.

وفي حديث آخر: «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة»([26]).

ولقد شهد بهذه الحقيقة – حقيقة سماحة الإسلام مع ديانات شعوب البلاد التي دخلت في دولة الإسلام – التاريخ والمؤرخون، وغير المسلمين منهم قبل المسلمين, فهذا الفتح الإسلامي هو الذي أنقذ المسيحية الشرقية من الإبادة والزوال، حتى ليمكن أن نقول – دون مبالغة – إن بقاء هذه المسيحية الشرقية حتى الآن إنما هو هبة الإسلام وسماحة الإسلام.

فعمرو بن العاص – رضي الله عنه – هو الذي أمن البطريرك المصري “بنيامين” على حريته، وأعاده إلى شعبه بعد ثلاثة عشر عاما من الهرب والاختفاء عن أعين الرومان,وهو الذي حرر كنائس نصارى مصر وأديرتهم من الاغتصاب الروماني، لا ليجعلها مساجد، وإنما ليردها لأصحابها النصارى يتعبدون فيها بحرية للمرة الأولى في تاريخ النصرانية المصرية, ومع تحرير الأرض والكنائس والأديرة حرر عمرو بن العاص – رضي الله عنه – لأنه مسلم – ضمائر الشعوب التي أدخلتها الفتوحات في دولة الإسلام لأول مرة في تاريخ نصرانية تلك الشعوب, بعد أن كان الرومان يقدمونهم طعاما للنيران والأسود!

شهادات نصرانية على سماحة الإسلام:

وإذا كانت نجاة النصرانية الشرقية من الإبادة الرومانية هي الشاهد المادي الأصدق على حقيقة السماحة الإسلامية، فإن المؤرخين النصارى – من الشرق والغرب، القدماء والمحدثين – قد شهدوا هم أيضا لهذه السماحة الإسلامية.

  • ففي أقدم كتب التاريخ النصرانية حديث عن سماحة عمرو بن العاص – رضي الله عنه – مع نصارى مصر، وكيف أن تحرير الإسلام لهم من قهر الرومان، وهزيمة الاستعمار الروماني بمصر على يد الجيش الإسلامي الفاتح إنما كان انتقاما إلهيا من ظلم الرومان لمصر واضطهادهم لنصارى مصر, ففي تاريخ “يوحنا النقيوسي” وهو معاصر للفتح وشاهد عليه:

“إن الله الذي يصون الحق لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرئهم عليه، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين)، ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة في مصر, وكان هرقل حزينا, وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكامهم مرض هرقل ومات, وكان عمرو بن العاص – رضي الله عنه – يقوى كل يوم في عمله، ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئا من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئا ما سلبا أو نهبا، وحافظ عليها (الكنائس) طوال الأيام”.

إنها شهادة شاهد عيان نصراني على هذه السماحة الإسلامية التي تجسدت على أرض الواقع. ومتى؟ قبل أربعة عشر قرنا من الزمان. وهي سماحة نابعة من الدين الإسلامي، وليست كحقوق المواطنة التي لم تعرفها المجتمعات العلمانية إلا على أنقاض الدين.

وبعدما استقبل عمرو بن العاص – رضي الله عنه – البطريرك القبطي “بنيامين”، وأمنه على نفسه وكنائسه ورعيته وحرية عقيدته، بل وطلب منه أن يدعو له، أخذ “بنيامين” في زيارة كنائسه وفي إعادة افتتاحها، وكان الناس يستقبلونه فرحين، مرددين العبارات التي تشهد على أن هذا الفتح الإسلامي إنما هو عقاب إلهي للرومان جزاء الظلم الذي أوقعوه بالنصارى المصريين.

وعن هذه الحقيقة من حقائق سماحة التحرير الإسلامي لشعوب الشرق يقول الأسقف “يوحنا النقيوسي” في أقدم تاريخ للفتح الإسلامي لمصر, كتبه شاهد عيان: ” ودخل الأنبا بنيامين بطريرك المصريين مدينة الإسكندرية، بعد هربه من الروم في العام 13 – أي العام الثالث عشر من تاريخ هروبه – وسار إلى كنائسه، وزارها كلها، وكان كل الناس يقولون: هذا النفي، وانتصار الإسلام، كان بسبب ظلم هرقل الملك، وبسبب اضطهاد الأرثوذكسيين([27]) على يد البابا “كيرس” – البطريرك المعين من قبل الدولة الرومانية في مصر – وهلك الروم لهذا السبب، وساد المسلمون مصر”.

ولقد عبر الأنبا “بنيامين” عن الأمان الذي أحلته سماحة الإسلام بمصر على أنقاض القهر والاضطهاد اللذين مارسهما الرومان (النصارى)، ضد نصارى مصر، فقال وهو يخطب في دير “مقاريوس”: “لقد وجدت في الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون”.

  • أما رجل الدين المسيحي – القبطي – “ميخائيل السرياني” فإنه يقول عن تحرير الفتح الإسلامي للنصرانية المصرية، وعن سماحة الإسلام مع نصارى مصر:

“لم يسمح الإمبراطور الروماني لكنيستنا المونوفيزيقية (القائلة بالطبيعة الواحدة للمسيح) بالظهور، ولم يصغ إلى شكاوى الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نهبت، ولهذا فقد انتقم الرب منه، لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا أبناء إسماعيل – من الجنوب – لينقذونا من أيدي الرومان، وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية، وعشنا في الإسلام”.

تلك شهادات شهود العيان ورجال الدين النصارى تقول: إن الفتوحات الإسلامية كانت “الإنقاذ” لشعوب تلك البلاد ودينهم من القهر الروماني، وإن سماحة الإسلام كانت آية من آيات الله، انتقم الله بها من مظالم الرومان، حتى لقد اعتبروا مرض هرقل وموته، وزوال الإمبراطورية الشرقية للرومان، و”سيادة الإسلام” في مصر والشرق آية من آيات الله.

  • أما المستشرق الإنجليزي الحجة “سير توماس أرنولد” (1864 – 1930م)، وهو من أبرز من أرخ لانتشار الإسلام في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” فإنه يؤكد على حقيقة السماحة الإسلامية فيقول: “إنه من الحق أن نقول: إن غير المسلمين نعموا – بوجه الإجمال – في ظل الحكم الإسلامي بدرجة من التسامح، لا نجد لها معادلا في أوربا قبل الأزمنة الحديثة، وإن دوام الطوائف المسيحية في وسط إسلامي يدل على أن الاضطهادات التي قاست منها بين الحين والآخر على أيدي المتزمتين والمتعصبين، كانت من صنع الظروف المحلية أكثر مما كانت عاقبة مبادئ التعصب وعدم التسامح”.
  • بل لقد زحف رهبان النصرانية المصرية من الأديرة والمغارات التي كانوا هاربين فيها من الاضطهاد الروماني, زحفوا للقاء عمرو بن العاص – رضي الله عنه – حتى ليروى أنه خرج للقائه من أديرة وادي النطرون سبعون ألف راهب، بيد كل واحد عكاز، فسلموا عليه، وأنه كتب لهم كتابا (بالأمان) هو عندهم.
  • وفي شهادة قبطية حديثة تأكيد على سماحة الإسلام مع نصارى مصر، في شئون الدين والدنيا جميعا، وفيها يقول “يعقوب نخلة” (1847 – 1905م)، صاحب كتاب “تاريخ الأمة القبطية”: “ولما ثبت قدم العرب في مصر، شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهليين واستمالة قلوبهم إليه، واكتساب ثقتهم به، وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه، وإجابة طلباتهم.

وأول شيء فعله من هذا القبيل: استدعاء «بنيامين» البطريرك، الذي اختفى من أيام هرقل ملك الروم، فكتب أمانا أرسله إلى جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور، ولا خوف عليه ولا تثريب، ولما حضر وذهب لمقابلته ليشكره على هذا الصنيع، أكرمه وأظهر له الولاء، وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته، وعزل البطريرك الذي كان أقامه هرقل، ورد «بنيامين» إلى مركزه الأصلي معززا مكرما, وكان «بنيامين» موصوفا بالعقل والمعرفة والحكمة، حتى سماه بعضهم «بالحكيم».. وقيل: إن عمرا لما تحقق ذلك منه، قربه إليه، وصار يدعوه في بعض الأوقات ويستشيره في الأحوال المهمة المتعلقة بالبلاد وخيرها، وقد حسب النصارى هذا الالتفات منة عظيمة وفضلا جزيلا لعمرو.

واستعان عمرو بفضلاء القبط وعقلائهم في تنظيم حكومة عادلة تضمن راحة الأهالي، فقسم البلاد إلى أقسام، يرأس كلا منها حاكم قبطي ينظر في قضايا الناس ويحكم بينهم، ورتب مجالس ابتدائية واستئنافية مؤلفة من أعضاء ذوي نزاهة واستقامة، وعين نوابا من القبط ومنحهم حق التدخل في القضايا المختصة بالأقباط والحكم فيها بمقتضى شرائعهم الدينية والأهلية، وكانوا بذلك في نوع من الحرية والاستقلال المدني، وهي ميزة كانوا قد جردوا منها في أيام الدولة الرومانية.

وضرب عمرو بن العاص الخراج على البلاد بطريقة عادلة, وجعله على أقساط في آجال معينة، حتى لا يتضايق أهل البلاد.

وبالجملة، فإن النصارى نالوا في أيام عمرو بن العاص راحة لم يروها من أزمان.

هكذا تعلن هذه الشهادة القبطية التي نشرتها في طبعتها الثانية (مؤسسة مار مرقس لدراسة التاريخ)، أن الفتح الإسلامي والسماحة الإسلامية قد حررا الأرض والضمير – والإنسان – فأصبحت حكومة مصر لنصارى مصر لأول مرة في تاريخ النصرانية المصرية، كما صكت السماحة الإسلامية العدل في الاقتصاد والاجتماع، وجعلت الحاكمية لشرائع القبط الدينية والأهلية فيما هو خاص بأحوالهم الدينية التي تركوا فيها وما يدينون.

وحتى يحافظ الأقباط على نعمة هذا التحرير وهذه السماحة الإسلامية، فلقد هبوا عندما عاد الرومان إلى احتلال الإسكندرية سنة 25هـ/646م ـــ في عهد الراشد الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه – هبوا إلى القتال مع الجيش المسلم ضد الرومان النصارى، وطلبوا من الخليفة إعادة عمرو بن العاص لقيادة المعركة فعاد إلى مصر، واستخلص الإسكندرية ثانية من أيدي الرومان, وبعبارة صاحب كتاب “تاريخ الأمة القبطية”:

“فإن المقوقس والقبط تمسكوا بعهدهم مع المسلمين، ودافعوا عن المدينة “الإسكندرية” ما استطاعوا، واجتمعت كلمة القبط والعرب على أن يطلبوا من الخليفة أن يأذن لعمرو بن العاص في العودة إلى مصر لمقاتلة الروم لتدربه على الحرب وهيبته في عين العدو، فأجاب الخليفة طلبهم، وكان القبط يحاربون مع العرب، ويقاتلون الروم خوفا من أن يتمكنوا من البلاد ويأخذونها فيقع الأقباط في يدهم مرة أخرى.

وفي شهادة لمؤرخ نصراني معاصر هو د. جاك تاجر (1336هـ – 1371هـ/1918م – 1952م) يقول: “فإن الأقباط قد استقبلوا العرب كمحررين، بعد أن ضمن لهم العرب – عند دخولهم مصر – الحرية الدينية، وخففوا عنهم الضرائب, ولقد ساعدت الشريعة الإسلامية الأقباط على دخولهم الإسلام وإدماجهم في المجموعة الإسلامية، بفضل إعفائهم من الضرائب, أما الذين ظلوا مخلصين للمسيحية فقد يسر لهم العرب سبل كسب العيش؛ إذ وكلوا لهم أمر الإشراف على دخل الدولة”.

وهذه السماحة الإسلامية التي تحدثت عنها هذه الشهادات النصرانية الشرقية، والتي أكدت وتؤكد أن هذه السماحة لم تقف فقط عند “الدين” وإنما امتدت لتترك جهاز الدولة أيضا لأهل البلاد, قد شهد بحقيقتها المستشرق الألماني آدم متز (1869 – 1917م)، عندما قال: “لقد كان النصارى هم الذين يحكمون بلاد الشام، وحتى فترات التوتر الديني والطائفي التي شهدها التاريخ الإسلامي بين المسلمين وغير المسلمين التي ما كان متصورا لهذا التاريخ الطويل أن يخلو منها فإن سماحة الإسلام قد ظلت بريئة منها وذلك بشهادة المؤرخين الثقات من غير المسلمين، والذي يقول واحد منهم وهو المؤرخ الاجتماعي اللبناني: “جورج قرم” عن أسباب هذا التوتر الطائفي الذي كان عابرا كسحب الصيف في سماء ذلك التاريخ الطويل يقول هذا المؤرخ النصراني: “إن فترات التوتر والاضطهاد لغير المسلمين في الحضارة الإسلامية كانت قصيرة يحكمها ثلاثة عوامل:

  1. مزاج الخلفاء الشخصي فأخطر اضطهادين تعرض لهما الذميون وقعا في عهد المتوكل العباسي (206 – 247هـ/ 821 – 861م” الخليفة الميال بطبعه إلى التعصب والقسوة، وفي عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (375 – 411هـ/985 – 1021م)، الذي غالى في التصرف معهم بشدة.
  2. تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسواد المسلمين والظلم الذي يمارسه بعض الذميين المعتلين لمناصب إدارية عالية، فلا يعسر أن ندرك صلتهما المباشرة بالاضطهادات التي وقعت في عدد من الأمصار.
  3. مرتبط بفترات التدخل الأجنبي في البلاد الإسلامية، وقيام الحكام الأجانب بإغراء واستدراج الأقليات الدينية غير المسلمة إلى التعاون معهم ضد الأغلبية المسلمة.

إن الحكام الأجانب بمن فيهم الإنجليز لم يحجموا عن استخدام الأقلية القبطية في أغلب الأحيان ليحكموا الشعب ويستنزفوه بالضرائب، وهذه ظاهرة نلاحظها في سوريا أيضا حيث أظهرت أبحاث “جب” (1895 – 1971م)، “بوالياك”: كيف أن هيمنة أبناء الأقليات في المجال الاقتصادي أدت إلى إثارة قلاقل دينية خطيرة بين النصارى والمسلمين في دمشق سنة 1860م، وبين الموارنة والدروز في جبال لبنان سنة 1840م وسنة 1860م، ونهايات الحملات الصليبية قد أعقبتها في أماكن عديدة أعمال ثأر وانتقام ضد الأقليات المسيحية، لا سيما الأرمن الذين تعاونوا مع الغازي.

بل إنه كثيرا ما كان موقف أبناء الأقليات أنفسهم من الحكم الإسلامي – حتى عندما كان يعاملهم بأكبر قدر من التسامح – سببا في نشوب قلاقل طائفية, فعلاوة على غلو الموظفين الذميين في الابتزاز، وفي مراعاتهم وتحيزهم إلى حد الصفاقة أحيانا لأبناء دينهم, ما كان يندر أن تصدر منهم استفزازات طائفية بكل معنى الكلمة.

تلك هي السماحة الإسلامية: كما تجلت في القرآن الكريم، وفي البيان النبوي للبلاغ القرآني، وكما تجسدت في المواثيق الدستورية، وفي الحياة العملية، والواقع المعيش للدولة الإسلامية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، وعبر تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وكما شهدت بها المصادر التي كتبها المؤرخون الثقات من النصارى الشرقيين والغربيين القدماء منهم والمحدثين والمعاصرين، الذين تعمدنا الاعتماد على شهاداتهم – هم وحدهم – دون شهادة المؤرخين المسلمين، وذلك عملا بمنهاج “وشهد شاهد من أهلها” على هذه السماحة الإسلامية التي تفرد بها الإسلام، والتي لا نظير لها خارج إطار الإسلام”([28]).

وحول وضع الأقباط في مصر وحالة تطبيق الشريعة الإسلامية ننقل كلاما للمفكر المسلم المستشار طارق البشري؛ إذ يقول: “من نقاط التماس في العلاقة بين المسلمين والأقباط موضوع المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وفي هذه المسألة هناك أمور يجب أن تجلى بدقة ووضوح، فإن تطبيق الشريعة الإسلامية هدف يطمح إليه كثير من المواطنين، وهو هدف تسعى إليه الحركات السياسية الإسلامية، وهو حكم في الدستور، حكم نص أولا على أن دين الدولة هو الإسلام، ثم ارتقى بالنص إلى اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، ثم ارتقى إلى اعتبارها المصدر الرئيسي وحتى الآن لم يجد هذا الحكم مجالا له في التطبيق.

وأن ما يشيع من قلق لدى الأقباط في هذه النقطة يتعين مواجهته من زاويتين، فمن الزاوية الأولى: من حق الأقباط كمواطنين أن يؤمنوا على مركزهم القانوني وحقوقهم ومستقبلهم، وأن تبسط وجهة النظر الإسلامية في ذلك.

وأن تجري التفرقة الدقيقة بين أحكام الشريعة الإسلامية من حيث هي أحكام ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة، وتمثل وضعا إلهيا ثابتا على مدى الزمان، وبين الآراء الفقهية الاجتهادية التي يؤخذ منها ويترك، ويمكن أن تتعدل بمراعاة تغير الزمان والمكان، وهذه النقطة مجال سعي فكري وفقهي دؤوب ومخلص ومثمر، ومن حق الجميع بموجب المواطنة أن يتحاوروا في هذه الأحكام التطبيقية، لنصل إلى الصيغة التي تستوعب كل إيجابيات تاريخنا ومنجزاته، ومن أهم هذه المنجزات إقرار المساواة بين المصريين جميعا.

وبعد الإقرار بهذا الجانب وضمانه، لا تقوم “حجة قبطية” في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، إلا أن تقوم على أساس طائفي ضيق يعلي المصلحة الخاصة على غيرها، وأي دعوة لأي جماعة تتقلص في إطار مصلحة خاصة لها لا تراعي الأوضاع العامة، يتعين أن تواجه بما يمليه الصالح العام، وحق الأغلبية في التقرير مع ضمان المساواة والمشاركة في كل الأحوال.

ويتعين هنا الإشارة إلى أمرين أساسيين:

  • أن مواطنا لا يضمن لمواطن آخر إلا حقه في المساواة والمشاركة، وأن أي مواطن لا يحق له أن يطالب بأكثر من المساواة والمشاركة، أما ما دون ذلك من الأمور التي تتعلق بنظم الحكم والاقتصاد والسياسات, فهي أمور شائعة بين المواطنين.
  • أن المطالبة بالنظام الإسلامي كانت دائما وما تزال تقوم في مواجهة حركة التغريب في المجتمع، وهي لم تقم قط في مواجهة الأقباط.

ويواصل المستشار طارق البشري فيقول: مبلغ علمي أن الأقباط كمواطنين مصريين وككنيسة ومذهب، عانوا من التغريب مثل ما عانى إخوانهم المسلمون، وأن من يرفض النظام القانوني الإسلامي لا يرفضه ترجيحا لنظام قانوني أكثر اتصالا بالبيئة المصرية وأكثر ارتباطا بتاريخ الشعب المصري وتراثه، ولكنه يجري ترجيحا لنظم قانونية وافدة من الغرب، ومع تقرير المساواة وضمانها لا وجه لترجيح نظام وافد بالنسبة للجميع على نظام موروث، عاش في البيئة قرونا وتفاعل مع مكوناتها واستوعب ما استطاع من أعرافها وله اتصال ديني بعقيدة الأغلبية.

وينبغي الحذر من مقولة: إن أمن القبطي وضمان وجوده السياسي والاجتماعي، مرتبط بإضعاف إسلامية المسلم؛ لأن وضع المسألة على هذا النحو – حسبما تؤثر بعض الأقلام العلمانية أن تضعها – لن يفضي إلا إلى خداع عقائدي، ثم إن إضعاف الإسلام في مصر لن يتم لحساب الأقباط، إنما هو يتم في الماضي والحاضر والمستقبل لحساب الحضارة الغربية، التي تكتسح قبطية القبطي، فيما تكتسح من ثوابت هذا البلد.

إن للمسلمين والقبط معا هدفا كبيرا في الدفاع عن ثوابت عقائدهم وجذورها في هذا البلد ضد غوائل([29]) الحضارات الوافدة، وهم يواجهون مخاطر واحدة وعدوا مشتركا واحدا، واجهوه معا في السياسة والاقتصاد، ويواجهونه معا في الفكر والحضارة.

وفي ظني أن بعض العلمانيين ينحون نحوا ضارا عندما يعملون على استغلال وضع غير المسلمين، ويستثمرون قلقهم ليواجهوا بهم الحركات الإسلامية، بدل أن يواجهوا معركتهم الفكرية بأنفسهم، وبدل أن يعملوا من موقع المسئولية إزاء التكوين الشامل للجماعة الوطنية على تنمية أواصر التفاهم بين الفكرية الإسلامية وغير المسلمين؛ فنحن جميعا في مركب واحد، ولن يستطيع فريق منا أن ينفي الآخر، وأن دعم أواصر الجامعة الوطنية مهمة كفاحية يتعين علينا جميعا أن نشارك فيها، وأن ييسر كل فريق على غيره إمكانات توثيقها بدلا من استغلال سلبيات كل فريق للتشنيع عليه وإفساد طريقه لمعالجتها, والوقيعة بين الجماعات الوطنية.

وإن استخراج مبدأ المساواة من الشريعة الإسلامية يكفل ضمانة لا يوفرها ولم يوفرها الفكر العلماني الوافد, بدليل التقلصات التي ما تزال تعاني منها.

ومن جهة أخرى فإن لأقباط مصر – خاصة – أن يروا في فقه الشريعة الإسلامية معنى من معاني قوميتهم، وقد استوعب هذا الفقه عادات وأعرافا وضمها إلى رحابه في المعاملات والعلاقات، وتأثر مثقفو الكنيسة القبطية بصياغات فقه الشريعة على نحو ما نرى في كتابات “ابن العسال” الفقيه القبطي في القرن الثالث عشر الميلادي، وليس أضمن للمساواة وأفعل من أن يرى المسلم في تحقيقها إيفاء منه بواجب لدينه عليه، بدل أن توضع كما لو كانت منافية له.

الإسلام تراث حضاري للمسلمين وغير المسلمين في دار الإسلام:

على أن هنا أمرا له أهميته، ويجب التنبيه عليه، وهو أن الإسلام بالنظر للمسيحيين – العرب بالذات – يعتبر تراثا قوميا وحضاريا لهم، فهم – وإن لم يؤمنوا به دينا – يؤمنون به ثقافة وحضارة، يعتزون بها، ويفخرون بأمجادها وآثارها.

وهذا ما جعل بعض المنصفين من المسيحيين في مصر وفي سوريا وغيرها يقول: “أنا مسيحي دينا، مسلم وطنا وثقافة”.

ولا عجب أن رأينا كثيرا من أدباء النصارى يحفظون القرآن كله أو جله، باعتباره كتاب العربية الأكبر، كما كان السياسي المصري المسيحي الشهير “مكرم عبيد”، وكما حكى عن نفسه الكاتب الأديب د. “نظمي لوقا” في مقدمة كتابه القيم “محمد: الرسالة والرسول” ووجدنا كثيرا من هؤلاء الأدباء، يكتبون عن محمد – صلى الله عليه وسلم – رسول المسلمين مقالات وقصائد جيدة بوصفه عندهم أعظم شخصية عربية.

يقول الشاعر الماروني رشيد الخوري:

شغلت قلبي بحب المصطفى وغدت

عروبتي مثلي الأعلى وإيماني

ويقول أمين نخلة: “الإسلام إسلامان: واحد بالديانة، وواحد بالقومية واللغة، ومن لا يمت إلى محمد بعصبية، ولا إلى لغة محمد، وقومية محمد، فهو ضيف ثقيل علينا، غريب الوجه بيننا.

ويا محمد: يمينا بديني ودين ابن مريم, إننا في هذا الحي من العرب نتطلع إليك من شبابيك البيعة، فعقولنا في الإنجيل، وعيوننا في القرآن”!

ولا غرو أن وجدنا أيضا بعض القانونيين المسيحيين يدرسون الفقه الإسلامي ويدافعون عنه، ويعتبرونه تراثا تشريعيا للأمة كلها، مسلمين وغير مسلمين، بل وجدنا من زعماء المسيحيين المعدودين من يدعو إلى تبني النظام الإسلامي في السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع.

من أقوال فارس الخوري عن الإسلام:

 وأبرز مثل لذلك هو الزعيم السوري الشهير فارس بك الخوري، الذي شغل منصب مندوب سوريا في هيئة الأمم، كما شغل منصب رئيس الوزراء مدة من الزمن.

فهذا الأستاذ محمد الفرحاني تلميذه وملازمه وراويته يحكي عنه فيقول: قال لي فارس الخوري: ذات يوم في مجلسه بحضور عدد من زواره ومن بينهم القسيس البروتستانتي “داود متري”:

“أنا مسيحي، ولكنني أجاهر بصراحة: إن عندنا النظام الإسلامي، وبما أن الدول العربية المتحدة (كان ذلك في عهد الوحدة المصرية السورية واتحادهما مع اليمن)، بأكثريتها الساحقة مسلمة، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع.

“عقيدتي ويقيني أنه لا يمكننا محاربة النظريات الهدامة التي تهدد كلا من المسيحية والإسلام إلا بالإسلام، وإن هذا هو الذي يحد من نشاط الشيوعية ويقضي عليها القضاء المبرم؛ لأن حقائقه تهزم أباطيلها وتدمرها”.

“فالإسلام هو الدرع الحصينة ضد الشيوعية، وهذا ما صرحت به مرارا وتكرارا، سواء في المحافل الدولية أو في مجالسي الخاصة، فلا حياة للعرب ولا قوة بغير الإسلام, هذا أمر أنا أومن به، ولقد كنت في هيئة الأمم المتحدة منسجما كل الانسجام مع الوفد الباكستاني وغيره من الوفود الإسلامية، وكان الباكستانيون يدافعون عن قضايانا بأشد من الروح التي يدافعون بها عن قضاياهم, إنهم يحبون العربي حبا عظيما بل يقدسونه تقديسا”.

ويقول الأستاذ الفرحاني: “قال لي فارس الخوري: هذا هو إيماني, أنا مؤمن بالإسلام وبصلاحه لتنظيم أحوال المجتمع العربي وقوته في الوقوف بوجه كل المبادئ والنظريات الأجنبية مهما بلغ من اعتداد القائمين عليها، لقد قلت ولا زلت أقول: لا يمكن مكافحة الشيوعية والاشتراكية مكافحة جدية إلا بالإسلام، والإسلام وحده هو القادر على هدمها ودحرها.

ولقد نقلت هذا الكلام في حينه إلى الأستاذ محمد المبارك عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق فقال لي: ” من الغريب حقا أن يستهان بأمر الإسلام من قبل بعض أبنائه، ويعمل على إبعاده عن واقع الحياة، في حين يقف أعظم مسيحي في الشرق يجهر بضرورة الأخذ بأحكام الإسلام والعمل بشريعته”.

والأعجب من ذلك أننا نراه يؤيد قيام حكومة إسلامية قوية حازمة، بل ديكتاتورية لتضرب بشدة على أيدي مروجي الإلحاد والفساد والانحلال فيقول: “نحن بحاجة إلى حكومة حازمة تؤمن بالإسلام كدين ونظام متكامل، وتعمل لتطبيقه، فكما أن الشيوعية تحتاج لديكتاتورية حازمة تشق لها طريق الانتشار والازدهار والثبات, فالإسلام أشد حاجة لمثل ذلك.

ومن ذا الذي يرضى ضميره ويطمئن قلبه إلى سلامة أمته، وكيان بلده، وهو يعلم أن التحلل والفساد منتشران لدرجة يصعب معها صدهما وإيقاف تيارهما، ومن ذا الذي ينكر على المسئولين فيه مكافحة ذلك التحلل وذلك الفساد, بشريعة هي من تلك الأمة وفيها”.

وفي مناسبة أخرى يبين الأستاذ الخوري فضل التشريع الجنائي الإسلامي في تحقيق الأمن والاستقرار للمجتمع، والقضاء على الجريمة والمجرمين فيقول: “تذكرون ولا شك عندما تضعون الموازنة العامة للدولة, المبالغ الطائلة التي تخصص للأمن العام، والشرطة والدرك([30]) والمحاكم كرواتب ونفقات.

فلو طبق الشرع الإسلامي وقطعت يد في حلب مثلا, وجلد آخر في دير الزور, ورجم ثالث في دمشق، وكذلك في بقية المحافظات، لانقطع دابر هذه الجرائم ولتوفر على الدولة ثلاثة أرباع هذه الموازنة”.

واستدرك الأستاذ فارس الخوري بقوله: “في العهد العثماني كان في دمشق ثلاث محاكم شرعية وصلحية تنظر في الدعاوى الجزائية والبدائية، وكان قضاة هذه المحاكم يقضون أغلب أوقاتهم في مراكز عملهم بدون عمل, فإذا قسنا ذلك الظرف وقارناه بظرفنا الحالي وجدنا أن السبب في كثرة المحاكم اليوم يعود إلى تدني الأخلاق، وانتشار الفساد، وعدم الاكتراث([31]بما تفرضه الدولة من عقوبات غير رادعة ولا زاجرة؛ لعدم تطبيق التشريع الإسلامي في الحكم”.

ولقد انتبه هذا السياسي الكبير إلى علاقة العرب بالعالم الإسلامي، وما لهم من رصيد كبير لدى الشعوب المسلمة ينبغي الحرص عليه والاستزادة منه، فكان يقول: “إننا نستطيع أن نثير بهذا الإسلام قوى خطيرة جبارة، ليس في العالم الإسلامي فحسب، وإنما في جميع أقطار الدنيا، فالمسلمون بروابطهم الدينية الوثيقة واتجاههم نحو قبلة واحدة وإيمانهم بكتاب واحد وعملهم بسنة نبي واحد؛ إنما هم يشكلون أمة واحدة متماسكة، مفروض بها أن تتعاون على البر والتقوى، والعدل والإحسان، وإن لم تكن كذلك تختفي عنها صفة الإسلام، هذه الأمة الإسلامية إذا ما أثيرت بأفرادها العاطفة الدينية بشكل جيد، وأحسن تسييرها فباستطاعتها أن تغير مجرى التاريخ”.

ومما لفته إلى هذا الأمر ما لمسه من حماس المندوبين الإسلاميين في هيئة الأمم للقضايا العربية؛ فقد شهد مرة حفلا أقيم لتكريم رئيس أندونيسيا ورفقائه, فلما وصل ضيف الشرق الرئيس الأندونيسي، ومن معه من وزراء وسفراء أندونيسيين فوجئ فارس بك بأنهم يحدثونه باللغة العربية الفصحى فعجب وسألهم أين تعلموا اللغة العربية؟ فأجابوه بأنهم تعلموها في أندونيسيا، حيث تقوم ألوف من المدارس العربية المختصة بتعليم اللغة العربية؛ فقد جعلت اللغة العربية لغة التدريس الأساسية لجميع العلوم.

فأعجب فارس بك جدا بما سمع وخاطب الحاضرين من المدعوين العرب قائلا: “ما أعظم رصيد الأمة العربية الثقافي في البلاد الإسلامية، وما أجدرنا نحن العرب – المسيحيين منا والمسلمين – أن نعض بالنواجذ على صلاتنا بالأقطار الإسلامية، وأن نوثق علاقاتنا بمئات الملايين من سكانها الذين يكنون لنا أصدق مشاعر الحب والولاء، فإن لنا بذلك فوائد عظيمة ثقافية وسياسية واقتصادية، وإن من واجب الأمة العربية أن تسعى إلى هذه الحقيقة وتعرف كيف تفيد من هذه الكنوز الثمينة المدخرة لنا في أقطار العالم الإسلامي”.

وبعد هذه النقول الناصعة من زعيم مسيحي منصف لم يبق هناك مجال لمتوجس أو متعنت فقد حصحص الحق ووضح الصبح لذي عينين.

ومع هذا – زيادة في البيان وقطعا لكل تعلة – نسجل هنا ما كتبته مجلة “الدعوة” القاهرية في عددها الصادر في ربيع الأول سنة 1397هـ تحت عنوان “المسيحيون في مصر والحكم بشرع الله”, فقد وجهت بعض الأسئلة إلى بعض أهل الفكر من ممثلي الطوائف المسيحية في مصر، فكانت إجاباتهم امتدادا لما نقلناه عن الزعيم السوري فارس الخوري.

قالت الدعوة: “وربما انبعثت أصوات هنا أو هناك تتساءل: وماذا عن الأقليات في مجتمع يطبق شرع الله؟ وربما كان السؤال ليس له ما يستدعيه فشرعة الله لكل خلق الله: عدل وإنصاف وصون للمال والعرض والحياة، ومع ذلك توجهت “الدعوة” بأسئلة محددة إلى إخواننا أهل الرأي الممثلين للطوائف المسيحية في هذا البلد، تستطلع رأيهم في تحكيم شرع الله، وهجر كل القيم والقوانين والنظريات الوضعية.

وقد وجهت “الدعوة” سؤالين محددين:

  1. إذا كان الإسلام والمسيحية ملتقيين في تحريم الزنا – مثلا – ومحاربته، فهل عندكم مانع في تطبيق حد الزنا، وبقية الحدود الإسلامية الأخرى على من استوجب إقامتها عليه في المجتمع المصري، وهل ترى في تطبيقها ما يمس حقوق المسيحيين أو يضايقهم؟
  2. من خلال دراستكم للتاريخ ماذا ترون في حكم الإسلام بالنسبة للأقليات من ناحية العبادة والأموال والأعراض؟

عن السؤال الأول يجيب الكاردينال اسطفانوس بطريرك الأقباط الكاثوليك:

“الأديان السماوية تشير إلى تجريم القتل و الزنا، وإلى المحبة، والمعروف أن من يحب الله يجب أن يحب أخاه، ومن يدعي أنه يحب الله ولا يحب أخاه فهو كاذب، فالقتل والزنا والسرقة إلى آخر المنكرات ضد المحبة؛ لأن الله خلق الإنسان ليكون مستقيما غير منحرف، ويستفيد من التعاليم الإلهية، ولذلك فالذي يشذ عن نظام الله وتعاليمه – بعد أن تكفل له أسباب العيش ومستلزماته – يجب أن تطبق عليه حدود شريعة الله ليرتدع ويكون عبرة لغيره، وحتى لا تعم الفوضى عندما يقتل أحد أخاه ولا يقتل، أو يسرق ولا تقطع يده، أو يزني ولا يقام عليه حد الزنا، وهذا ما وجدناه في القوانين الوضعية التي تجامل الناس وتلتمس لهم مختلف الأعذار، مما جعل المجتمع غير آمن على نفسه أو ماله أو عرضه، وأعود فأكرر إن تطبيق حدود الشريعة الإسلامية ضروري على الشخص وعلى المجتمع حتى تستقيم الأمور وينصلح حال الناس، وليس في تطبيقها – أبدا – ما يمس حقوق المسيحيين أو يضايقهم”.

كما يجيب غبطة الكاردينال عن السؤال الثاني فيقول:

“إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان، وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء، وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحدا أو يلقى بغضا من أحد، ولقد وجدت الديانات الأخرى – والمسيحية بالذات – في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائما بصورته الصادقة، ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر، من حيث الأمان والاطمئنان في دينها ومالها، وعرضها وحريتها”.

أما الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس، فيجيب عن السؤال الأول السابق قائلا:

“إن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مصر أمر لا شك فيه ولا اعتراض عليه، فالشرائع السماوية نور وهداية للبشر، ونحن نؤمن أن الدين لم يعط للناس إلا ليكون عونا لهم، لتصير حياتهم به أفضل ما تكون بغيره، والهدف من الوحي الإلهي تحديد الطريق الذي يساعد الإنسان على أن يعيش بمبادئ الدين سعيدا كريما”.

وقال: “إن موضوع تطبيق الحدود السماوية في نظري يجب أن نتناوله من شقين:

  1. شق التوجيه والحض على الفضيلة والتمسك بالقيم الروحية الدينية، ولكي يجدي هذا لا بد من إصلاح الأسرة حتى تستقيم العلاقة بين أفرادها، والاهتمام بتعليم الدين بجميع مراحل التعليم عن طريق المدرسين الأكفاء المنتقين لهذه الرسالة علما وقدوة، فالدرس هو المدرس! كما يجب صرف مكافآت للمدرسين الذين يؤدون واجبهم في هذا المجال بأمانة، وكذلك للطلاب الذين ينبغون في مادة الدين، ولكي تثمر هذه المادة في تقويم النشء والشباب يجب ألا ننسى دور وسائل الإعلام من إذاعة وتليفزيون وسينما، حيث يجب أن تتضمن بث الدعوة الروحية بين الشباب وتقديم الأمثلة والنماذج الحية من الماضي والحاضر، وتبغيض الناس في الشر وتنفيرهم من الرذيلة عن طريق التلميح من غير عرض لصور الخطيئة الفاضحة التي تستثير الشباب وتغريهم على الخطيئة.
  2.  جانب الردع والعقاب والمنع لما يتعارض مع مبادئ الدين والفضيلة والقيم الروحية, وهذا ما تتولاه الحدود السماوية التي شرعت لردع المستهترين ومعاقبتهم ليكونوا عظة لأنفسهم وعبرة لغيرهم”.

وأضاف الأنبا غريغوريوس قائلا: “رغم أن الديانة المسيحية ليس في نصوصها قطع يد السارق أو قتل القاتل.. إلخ، إلا أننا كمسيحيين لا نعارض في تطبيق حدود الشريعة الإسلامية في مصر، إذا كانت هذه رغبة إخواننا المسلمين، وفي نظري أن هذا لن يتحقق كما يجب إلا إذا ضمنا للقضاء سيادته الكاملة التي تعطي له حرية التحقيق الشامل والتقصي للجريمة وأسبابها”.

أما السؤال الثاني فيجيب عنه أسقف البحث قائلا:

“لقد لقيت الأقليات غير المسلمة – والمسيحيون بالذات – في ظل الحكم الإسلامي الذي كانت تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام، وأمن في دينها، ومالها، وعرضها”.

أما القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر فكان رده على السؤال الأول:

“إن الأديان كافة تحرم الجريمة، والنفس الإنسانية يجب أن تعالج من الوقوع في الجريمة وقبل الوقوع، بكل وسائل الإصلاح والتربية الجادة القائمة على إحياء القيم الروحية وسريانها في النفوس، والارتباط بالشرائع السماوية في إرشادها وهديها، أما النفوس المتحجرة والقلوب القاسية التي لا يجدي معها النصح والإرشاد والتوجيه, فهذه تعتبر شاذة وجرثومة في جسم المجتمع يجب إنقاذه منها, وهنا لا بد من تطبيق حدود الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة والسلام والحب في المجتمع، ويطالب – في نظري – بدقة التنفيذ الجاد لهذه الحدود وزير الداخلية، الذي يمثل سلطة الأمن شخصيا، مع ضرورة أن تعود للقضاء سيادته وحرمته التي تعطيه الحرية الكاملة في البحث والتقصي عن كل حادثة أو جريمة”.

ويضيف وكيل الطائفة الإنجيلية مجيبا على السؤال الثاني بقوله: “في كل عهد، أو حكم إسلامي التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين – والمسيحيين على وجه الخصوص – بكل أسباب الحرية والأمن والسلام، وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيلين على الدين، كلما سطعت شمس الحريات الدينية والتقي المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة الخلاقة”.

نضيف إلى هذه الأجوبة الواضحة من رؤوس الأقباط في مصر، ما دلت عليه الأرقام في “استطلاع الرأي” الذي نظمه – كدراسة ميدانية – “المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية” بمصر حول “تطبيق الشريعة الإسلامية” في مصر، والذي شارك في الإجابة على أسئلته مسلمون ومسيحيون.

فكانت هذه الأرقام ذات الدلالة الحاكمة:

مع “التطبيق الفوري” للشريعة الإسلامية زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (32 إلى 31%)؟!

ومع تطبيق أحكام الشريعة على الجميع، بصرف النظر عن اختلاف الدين زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين (71 إلى 96%)؟!

وكان تعليل الإجابات: “إننا مجتمع واحد, وهذه الجرائم حرمها الله على كل الناس, ولا فرق بين المسلم والمسيحي أمام القانون, ولأننا دولة إسلامية”.

ثم.. ها هو رأس الكنيسة القبطية وبابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا شنودة يقول:

“إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالا وأكثر أمنا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد, نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”, إن مصر تجلب القوانين من الخارج – حتى الآن – وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة، فكيف نرضي بالقوانين المجلوبة، ولا نرضي بقوانين الإسلام”؟!

من أسباب تحريك الفتنة الطائفية:

ويقول د. يوسف القرضاوي: إن من الأسباب العميقة للفتنة الطائفية التي تبرز بين حين وآخر: عدم تحكيم الشريعة الإسلامية التي تؤمن الأغلبية بأنها ملتزمة بها دينا، وأن ذلك جزء من إيمانها الذي لا خيار لها فيه.

وعدم هذا التحكيم أو التطبيق يخلق شعورا بالتوتر لدى الإنسان المسلم الغيور على دينه، الحريص على إرضاء ربه، وهذا التوتر يظل ينمو ويقوى كلما شعر المسلم باتساع المسافة وعمق الهوة([32]) بين عقيدته وواقعه، حتى ينفجر في صورة اضطرابات أو فتن طائفية.

وقد يذكي([33]) هذا التوتر ويؤججه: ([34]) اعتقاد بعض المسلمين أن الأقلية غير المسلمة وراء هذا الإعراض عن الشريعة,وربما أكد هذا كتابات بعض هؤلاء، وتصريحات آخرين منهم، من شأنها أن تصب الزيت على النار.

إن من غير المقبول ولا الممكن أن نطالب المسلمين أن يتنازلوا عن دينهم ويتخلوا عن عقيدتهم، حتى يطمئن مواطنوهم من غير المسلمين,كما أنه – في المقابل – لا يجوز أن يطلب من غير المسلمين أن يلغوا شخصيتهم الدينية، ويفنوا في الأكثرية.

ومن الخير لغير المسلمين أن يكون المسلمون مستمسكين بإسلامهم مؤتمرين بأمره منتهين عن نواهيه، وبهذا يعتبرون برهم والإقساط إليهم دينا يدينون لله به، ويلقون الله عليه، ولا يجيزون لأنفسهم – في ظل الدين – ظلمهم أو الإساءة إليهم بوجه من الوجوه، حتى الجدال يجب أن يكون بالتي هي أحسن.

ولأن يتعامل المسيحي – مثلا – مع مسلم يراقب الله في كل أعماله وعلاقاته، خير له بمراحل من التعامل مع ملحد أو فاسق، لا يرجو لله وقارا، ولا يحسب للآخرة حسابا, وأيضا من الخير للمسلمين أن يكون مواطنوهم من أهل الكتاب، مستمسكين بتعاليم دينهم التي تحث على السماحة والمحبة والزهد والإيثار، وتربط الإنسان المسيحي بملكوت السموات لا بشهوات الأرض.

ولهذا نحن نرحب ونفسح صدورنا للتدين الخالص، لا للطائفية البغيضة.

التدين تعلق بالحق، والطائفية تعصب للباطل.

التدين يجمع ويبني، والطائفية تفرق وتهدم.

التدين همه النجاة بالنفس من الغرق، والطائفية همها إغراق الآخرين([35]).

ثالثا. الحكم الإسلامي خير للنصارى من الحكم العلماني:

إن الإسلام أصلح من غيره لكل المجتمعات مهما كان فيه من غير المسلمين، وإنه لآمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، وحتى أديانهم أن يحكموا بالإسلام الذي لا يجور على غيره، حتى إن خالفه في العقيدة.

إن المسيحي الذي يقبل أن يحكم حكما علمانيا لا دينيا، لا يضيره أن يحكم حكما إسلاميا.

بل إن المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة، ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام؛ لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله، ورسالات السماء، والجزاء في الآخرة، كما يقوم على تثبيت القيم الإيمانية والمثل الأخلاقية التي دعا إليها الأنبياء جميعا، ثم هو يحترم المسيح وأمه والإنجيل، فكيف يكون هذا الحكم – بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني – مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟!على حين لا يزعجه حكم لا ديني علماني يحتقر الأديان جميعا ولا يسمح بوجودها – إن سمح – إلا في ركن ضيق من أركان الحياة؟!

من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام ونظامه للحياة، فيأخذه على أنه نظام وقوانين ككل القوانين والأنظمة، ويأخذه المسلم على أنه دين يرضي به ربه، ويتقرب به إليه, ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي بوصفه السد المنيع في وجه المادية الملحدة التي تهدد الديانات كلها.

ونود هنا أن نصحح خطأ يقع فيه الكثيرون، وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية، فهذا خطأ مؤكد، فالدارسون لأصول القوانين ومصادرها التاريخية يعرفون ذلك جيدا، بل الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحية والمسيحيين في أوطاننا من تلك القوانين؛ لأصوله الدينية من ناحية، ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة فإن الحكم العلماني لا يرضي كل المواطنين.

وعليه فالحكم الإسلامي خير للمسيحيين من الحكم العلماني، لمتعصب الذي يحارب كل الأديان([36]).

إن الواقع يشهد لصلاح الشريعة الاسلامية أكثر من الحكم العلماني، ويستدل على ذلك بإخفاق العلمانيين في سياسة البلاد التي أعرضت عن الشريعة إعراضا تاما، وأعلنت علمانيتها الكاملة؛ فلم تجن من وراء ذلك إلا الخيبة و التفسخ والإخفاق في شتى مجالات الحياة.

وأبرز مثال لذلك دول تركيا العلمانية؛ تركيا أتاتورك الذي خلع البلد المسلم من شريعته بالحديد والنار، وأجبره على السير في طريق الغرب حذو النعل بالنعل، وعارض قطعيات الشرع الإسلامي معارضة ظاهرة، فلم تربح تركيا من وراء ذلك إلا بقاءها ذيلا للمعسكر الغربي في تشريعها وسياستها واقتصادها، بعد أن كانت قوة عالمية لها وزنها ولها خطرها.

وها هي الآن تمزقها الصراعات بين اليمين واليسار، والولاءات بين الغرب والشرق، ويحاول المخلصون من أبنائها مستميتين أن يعودوا بشعبهم إلى ما يؤمن به ويستكن في أعماقه، من احترام الإسلام، وحب الإسلام، وشريعة الاسلام([37]).

الخلاصة:

  • شريعة الإسلام تصلح للتطبيق في كل مكان؛ إذ إن لها مؤهلات تؤهلها لصلاحية التطبيق في كل زمان ومكان؛ منها شيوع العدل فيها، والمساواة بين الناس بلا اعتراف بفوارق أو طبقات، ومنها التكافل الاجتماعي الذي يشمل أفراد الدولة المسلمة، ومنها التسامح مع المخالفين، ومنها حرية الرأي حتى يوجه العالم الحاكم، ومنها أنها شريعة تقيم حضارة زاهرة من العلم والإيمان، ومنها أنها تسوي بين الرجل والمراة في أغلب الأحيان، و منها أنها تقيم للحرية أساسا متينا فيها من الشورى وتقييد سلطة الحكام، ومساءلتهم واستجوابهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والنصيحة لهم ولعامة الناس.
  • إن ما جاء به الإسلام – وكان موضع ارتياب واتهام من خصوم الشريعة فيما مضى – صار الآن موضع امتداح ولجأ إليه الغرب أنفسهم كتشريع الطلاق، وتحريم الربا.
  • فترات حكم المسلمين بالشريعة يثبت التاريخ لنا أنها كانت أنصع صفحات في الحكم من حيث العدل، والرحمة، وشيوع الخير: ومنها فترات حكم عمر بن عبد العزيز، والسلطان نور الدين محمود الملقب بالشهيد، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهما.
  • الإسلام دين السماحة، فهو لا يفرض عقيدته على غيره, إنما من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، كما أنه يحسن معاملة غير المسلمين وذلك بشهادة النصارى أنفسهم على ذلك.
  • قد أطلق الإسلام على اليهود والنصارى – إن كانوا يعيشون مع المسلمين في بلد إسلامي – اسمين يوحيان بمعان كريمة هما: “أهل الكتاب” و”أهل الذمة” وفيهما إشارة بأنهم في الأصل أصحاب كتاب سماوي، وبأن لهم ذمة الله وذمة رسوله, أي عهدهما، مما يوحي أنهم لن يؤذوا ولن تهدر حقوقهم أو تخدش حرماتهم.

هذا كله غير الأحاديث التي تحرم قتل المعاهدين، أو ظلمهم أو سلبهم حقا من حقوقهم, وقد شهد النصارى على سماحة الإسلام منذ فتح عمرو بن العاص لمصر، وحتى عصرنا هذا.

  • الحكم العلماني البديل عن الحكم الإسلامي هو حكم مشوب بالكثير من الفتن الطائفية، ومحاربة الأديان، كما أن تاريخه مملوء بالمذابح والتعصب الممقوت؛ ومن ثم فإن الحكم الإسلامي خير من الحكم العلماني للجميع؛ مسلمين ومسيحيين.

(*) سماحة الإسلام، د. عبد العظيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1414هـ/ 1993م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح رضي الله عنهما (3544).

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3288)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب السارق الشريف وغيره (4505).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها (30)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس (4405).

[4]. الهرطقة: مصطلح نصراني يقابل الكفر في الإسلام، وهو كل رأي يخالف رأي الكنيسة ولو كان صحيحا.

[5]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب البيوع (2166)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2563).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين (2176)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته (4242)، واللفظ للبخاري.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1335)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (133).

[8]. الموالي: جمع مولى، ويطلق على السيد والعبد.

[9]. أفطس: انخفضت قصبة أنفه.

[10]. المكاتل: جمع المكتل، وهو الجراب.

[11]. هياب: خواف.

[12]. الوجل: الخوف.

[13]. الكد: الاشتداد في العمل، وطلب الرزق.

[14]. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب قتال أهل البغي، باب القوم يظهرون رأي الخوراج (16540).

[15]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص26: 33 بتصرف يسير.

[16]. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، جماع أبواب إخبار النبي ـ رضي الله عنه ـ بالكوائن بعده (7/ 418).

[17]. إرقاع الخلقان: يرقع الثياب البالية.

[18]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص42: 46.

[19]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 217، 218 بتصرف يسير.

[20]. الحصب: صغار الحجارة، أو الحطب، وحصب جهنم: كل ما يلقى في النار من وقود.

[21]. اللظى: هو لهب النار الخالص لا دخان فيه، ولظى: اسم من أسماء جهنم، ولظى الجوع: ألم الجوع وشدته.

[22]. الغوث: الإعانة والنصرة.

[23]. الزلال: الماء العذب الصافي البارد.

[24]. سماحة الإسلام، د. عبد العظيم محمد المطعني، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص90: 93.

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم (2995)، وفي موضع آخر.

[26]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات (3054)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة (18511)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2655).

[27]. الأرثوذكس: هي إحدى الكنائس الرئيسية الثلاث في النصراينة، وقد أنفصلت عن الكنيسة الكاثولوكية الغربية، وتمثلت في عدة كنائس مستقلة، لا تعترف بسيادة بابا روما عليها، ويجمعهم الإيمان بأن الروح القدس منبثقة عن الآب وحده، وعلى خلاف بينهم في طبيعة المسيح، وتدعى أرثوذكسية بمعنى مستقيمة المعتقد مقابل الكنائس الأخرى. ويتركز أتباعها في المشرق، ولذلك يطلق عليها “الكنيسة الشرقية”.

[28]. السماحة الإسلامية: النظرية والتطبيق، د. محمد عمارة، ضمن بحوث المؤتمر السادس عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 2004م، ص130: 137.

[29]. الغوائل: جمع الغائلة: الفساد والشر، غوائل الحضارة: شرورها.

[30]. الدرك: رجال الدرك: الشرطيون؛ لإدراكهم الفار والمجرم.

[31]. الاكتراث: المبالاة.

[32]. الهوة: الفجوة.

[33]. يذكي: يشعل.

[34]. يؤجج: يوقد ويثير.

[35]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 236: 251 بتصرف يسير.

[36]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 219: 220 بتصرف يسير.

[37]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص57.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الشريعة الإسلامية شريعة جامدة؛ لأنها في نظرهم لا تقبل التطور، وأحكامها لا تلين لتغير الزمان والمكان، مما يجعلها سببا لتخلف الإنسان وركوده، مستدلين على ذلك بما انتهى إليه حال المسلمين من تهالك وضعف على جميع المستويات، رامين إلى التشكيك في صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  الشريعة الإسلامية تشتمل على ثوابت ومتغيرات، وهذا من أبرز خصائصها.

2) فتح باب الاجتهاد – بوصفه مبدأ إسلاميا – لاستيعاب المستجدات وتأصيلها شرعيا – يدحض دعوى جمود الشريعة الإسلامية.

3) الشريعة الإسلامية لا تنكر التطور بإطلاق ولا تقبله بإطلاق، فليس التطور خيرا محضا ولا شرا محضا؛ لذا وجب النقد والتمحيص.

4)  مراحل الانتصار والانكسار في التاريخ الإسلامي مرتبطة بمدى تمسك المسلمين بدينهم.

التفصيل:

أولا. الشريعة الإسلامية تشتمل على ثوابت ومتغيرات، وهذا من أبرز خصائصها:        

ليس صحيحا أن كل أحكام الشريعة الإسلامية ثابتة دائمة، وغير قابلة للاجتهاد فيها، وطروء التغيير عليها، فمن أحكام الدين ما يتعلق بالعقائد التي تحدد نظرة الدين إلى الله والمبدأ والمصير، والكون والحياة والإنسان، أو ما يسميه علماء العقائد عندنا: الإلهيات والنبوات والسمعيات، وهذه حقائق ثابتة لا تتغير. ومنها: ما يتعلق بشعائر العبادات الرئيسية التي تحدد صلة الإنسان العملية بربه، وهي التي تعتبر أركان الإسلام ومبانيه العظام, وهذه في أساسها العامة ثابتة، وإن كان الاجتهاد يدخل عليها في بعض من التفاصيل.

ومنها: ما يتعلق بالقيم الخلقية، ترغيبا في الفضائل، وترهيبا من الرذائل، وهذه تتميز بالثبات أيضا في مجموعها.

وهذه الثلاثة لا يحتاج الناس إلى تغيرها، بل إلى ثباتها واستقرارها لتستقر معها الحياة، وتطمئن العقول والقلوب.

بقي أمر نظم الحياة المختلفة، مثل نظام الأسرة والمواريث ونحوها، ونظام المعاملات والمبادلات، ونظام الجرائم والعقوبات، والأنظمة الدستورية والإدارية والدولية ونحوها، و هي التي يفصل أحكامها الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه، وهذه ذات مستويين:

  • مستوى يمثل الثبات والدوام: وهو ما يتعلق بالأسس والمبادئ والأحكام التي لها صفة العموم، وهو ما جاءت به النصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، التي لا تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدد الاجتهادات، ولا يؤثر فيها تغير الزمان والمكان والحال.
  • ومستوى يمثل المرونة والتغيير: وهو ما يتعلق بتفصيل الأحكام في شئون الحياة المختلفة، وخصوصا ما يتصل بالكيفيات والإجراءات ونحوها، وهذه قلما تأتي فيها نصوص قطعية، بل إما أن ترد فيها نصوص محتملة أو تكون متروكة للاجتهاد، رحمة من الله – عز وجل – بعباده، غير نسيان.

فإن من أبرز خصائص التشريع الإسلامي: أنه يجمع بين الثبات والمرونة معا في تناسق محكم وتوازن فريد.

فالأصول الكلية ثابتة خالدة، شأنها شأن القوانين الكونية، التي تمسك السماوات والأرض أن تزولا، أو تضطربا، أو تصطدم أجرامها.

والفروع الجزئية مرنة متغيرة، فيها قابلية التطور، شأن ما في الكون والحياة من متغيرات جزئية، لازمة لحركة الإنسان وحركة الحياة.

وهكذا كان في الفقه الإسلامي منطقة مغلقة لا يدخلها التغيير أو التطوير، وهي منطقة “الأحكام القطعية”، وهذه هي التي تحفظ على الأمة وحدتها الفكرية والسلوكية.

ومنطقة مفتوحة وهي منطقة “الأحكام الظنية” ثبوتا أو دلالة، وهي معظم أحكام الفقه، وهي مجال الاجتهاد، ومنها ينطلق الفقه إلى الحركة والتطور والتجديد.

ومن هنا وجدت عوامل للسعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، التي نستطيع أن نوضحها فيما يأتي:

1- أن الشارع الحكيم لم ينص على كل شيء، بل ترك منطقة واسعة خالية من أي نص ملزم، وقد تركها قصدا للتوسعة والتيسير والرحمة بالخلق و هي ما تسمى “منطقة العفو”, وفيها جاء الحديث:«ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ناسيا»[1]. ثم تلا: )وما كان ربك نسيا (64)( (مريم).

2- أن معظم النصوص جاءت بمبادئ عامة، وأحكام قليلة، ولم تتعرض للتفصيلات والجزيئات إلا فيما لا يتغير بتغير المكان والزمان، مثل شئون العبادات وشئون الزواج والطلاق والميراث ونحوها، وفيما عدا ذلك اكتفت الشريعة بالتعميم والإجمال مثل قوله عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: ٥٨)، وقوله عز وجل: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى: 38)، والحديث الذي أصبح قاعدة فقهية وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»[2].

3- أن النصوص التي جاءت في أحكام جزئية قد صيغت صياغة معجزة؛ بحيث تتسع لتعدد الأفهام والتفسيرات، ما بين متشدد ومترخص، وما بين آخذ بحرفية النص، وآخذ بروحه وفحواه، وقلما يوجد نص لم يختلف أهل العلم في تحديد دلالته وما يستنبط منه، وهذا راجع إلى طبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة التكليف.

4- أن ملء منطقة الفراغ التشريعي – أو منطقة العفو – يمكن أن يتم بوسائل متعددة، يختلف المجتهدون في اعتمادها وتقدير مدى الأخذ بها ما بين مضيق وموسع، فهنا يأتي دور القياس أو الاستحسان، أو الاستصلاح[3] ومراعاة العرف، أ3و الاستصحاب أو غيرها في كل ما لا نص فيه.

5- تقرير مبدأ تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وهو مبدأ تقرر منذ عهد الصحابة الذين كانوا أكثر الناس رعاية له، وبخاصة عمر – رضي الله عنه – كما في موقفه من المؤلفة قلوبهم، ومن قسمة الأرض المفتوحة، ومن طلاق الثلاث وغيرها، بل بدأ تقرير هذا المبدأ حقيقة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما روي من ترخيصه لرجل في القبلة وهو صائم ومنع آخر منها؛ حيث كان الأول شيخا، والثاني شابا.

6- تقرير مبدأ رعاية الضرورات والأعذار والظروف الاستثنائية بإسقاط الحكم أو تخفيفه؛ تسهيلا على البشر ومراعاة لضعفهم أمام الضرورات القاهرة، والظروف الضاغطة؛ ولهذا قرر الفقهاء أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الظروف الضاغطة تنزل منزلة الضرورة مع قيد أن “ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها”[4].

ثانيا. فتح باب الاجتهاد كمبدأ إسلامي يدحض دعوى الجمود:

إن تحريض الإسلام أتباعه على مسايرة التطور والاستفادة من التقنيات الحديثة في كافة المجالات، وفتح باب الاجتهاد فيما يجد من الأمور التي لم تكن من قبل، إن هذا من أكبر الأدلة على فساد مثل هذه الدعوى الباطلة التي تسم الشريعة بالجمود ظلما وزورا، ولا بد هنا أن نناقش تهمة “الجمود” التي يرمى بها الدعاة إلى الحل الإسلامي أو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، كما لا بد أن نناقش فكرة “التطور” التي يتفاخر بها دعاة العلمانية والتبعية الغربية.

ونقول في مناقشة هؤلاء: إننا نطالبكم بتحديد مفاهيم هذه الألفاظ الهلامية المطاطة “الجمود” و”التطور” ماذا تريدون بها؟ حتى نبين بجلاء موقفنا منها.

  • الجمود الذي نرفضه:

إن كنتم تريدون بالجمود الوقوف في وجه التطور العلمي والصناعي، والرقي المادي، وإغلاق باب الاجتهاد في الفقه والتوقف عند أقوال المتأخرين من الفقهاء ممن لم يدركوا ما أدركنا، ولم يروا ما رأينا، فنحن نتبرأ من هذا الجمود، ونحن أول الداعين إلى استخدام العلم بكل أساليبه وإمكاناته في تيسير وسائل الحياة، وتنمية الإنتاج، وترقية العمران، وإعداد القوة العسكرية، وغير ذلك من كل ما تحتاج إليه الأمة وما يرفع شأنها، بل يجب على الأمة شرعا أن تكتفي اكتفاء ذاتيا في كل مجال من المجالات التي يحتاج إلى العلم والتفوق فيه، وهذا ما أطلق عليه في الفقه الإسلامي اسم “فرض الكفاية”.

لقد جاءت العلوم الطبيعية والرياضية ونحوها في “زي أوربي “، ولهذا سموها “العلوم الحديثة” مع أن أصولها مأخوذة عن المسلمين في الأندلس وفي صقلية وفي غيرها، وظن بعض الشيوخ أن هذه العلوم تحمل في ثناياها عقائد أصحابها وفلسفتهم ونظرتهم إلى الحياة والوجود، أو على الأقل أفكارا تخالف وجهة الإسلام، وهذا ربما يكون صحيحا بالنظر إلى العلوم الاجتماعية والآداب والفنون، وليس صحيحا – على إطلاقه – بالنظر إلى العلوم المحضة أو العلوم التطبيقية التي ينتفع بآثارها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فعلوم الطب والكيمياء والأحياء والرياضيات ونحوها علوم عالمية لا دين لها ولا جنسية وللعرب المسلمين جهود غير منكورة فيها.

ونحن نريد العودة بالمسلمين إلى أيام حضارتهم الزاهرة؛ حيث جمع أسلافهم بين العلم والإيمان، وأقاموا حضارة دينية دنيوية، ربانية إنسانية علمية أخلاقية، أسست من أول يوم على تقوى من الله ورضوان.

وكان للعلم في هذه الحضارة الربانية مكان مرموق، ومجال رحيب، كما اعترف بذلك الكتاب الغربيون أنفسهم:

قال بريفولت في كتابه “بناة الإنسانية”: “لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، وإن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم للثقافة العربية – يعني الإسلام – بأكثر من هذا؛ إذ يدين لها بوجوده نفسه”.

إلى أن يقول: ” ليس لـ “روجر بيكون” ولا لتلميذه “فرنسيس بيكون” الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن “روجر بيكون” إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية”[5].

  • الجمود الذي نصر عليه:

وإن كنتم تريدون بالجمود مجرد الثبات أو الاستمساك بقيم وأهداف وعقائد وأصول، لا يجوز المروق ولا الخروج عليها؛ لأنها ثابتة خالدة لا تزول، باقية ما بقيت الحياة والأحياء، فهذا حق، ونحن نصر على هذا الثبات الذي تسمونه جمودا ولا نحيد عنه قيد شعرة وقد قال الله عز وجل: )فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)( (الزخرف)، وكل أنبياء الله ورسله من لدن آدم أبي البشر إلى خاتمهم محمد – صلى الله عليه وسلم – من دعاة هذا “الجمود” – بهذا المفهوم ـ؛ لأنهم جميعا يدعون إلى الإيمان بخالق أزلي أبدي لا يفنى ولا يتغير ولا يتطور، قال عز وجل:)هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (3)( (الحديد)، وكلهم على اختلاف أقوالهم وأوطانهم وأزمانهم يدعون بدعوة واحدة لم تتغير ولم تتطور: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وكلهم يحذر قومه من عذاب يوم عظيم: )يوم يقوم الناس لرب العالمين (6)( (المطففين).

وكلهم يدعون الناس إلى مكارم الأخلاق، واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وينذرون قومهم إذا أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكلهم يدعون إلى اتباع ما أنزل الله من الهدى، ويحذرون من اتباع الهوى، ويأمرون بتقوى الله وطاعة رسله، وينهون عن طاعة المفسدين من شياطين الإنس والجن: )فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152)( (الشعراء)، فدعوة الأنبياء – على ما بينهم من فوارق من العصور، وامتداد القرون – لم تتطور ولم تتغير في جوهرها.

إن نوحا – عليه السلام – يقول لقومه: )إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله وأطيعون (108)( (الشعراء)، ومثل ذلك يقوله هود وصالح ولوط وشعيب – عليهم السلام – وغيرهم من الأنبياء.

الرسل المصطفون الأخيار – بهذا المنطق الخاطئ – كلهم جامدون غير متطورين، وعلى رأس هؤلاء الجامدين محمد – صلى الله عليه وسلم، فقد جاءنا بنفس الأصول القديمة والأهداف والعقائد التي نادى بها نوح والنبيون من بعده منذ قرون سحيقة لا يعلمها إلا الله، جاءنا بكتاب يقول: )شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( (الشورى: ١٣)، جاءنا بعقيدة جامدة لا تقبل التطور؛ لأنها إيمان بحقائق ثابتة لا يعتريها تغيير؛ فالله هو الله في كل عصر وفي كل زمان، واليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء هو اليوم الآخر، وعالم الغيب هو عالم الغيب، لا تتطور هذه الحقائق ولا تتبدل، سواء أكان الناس يركبون الجمال أم يركبون الطائرات أو الصواريخ ومركبات الفضاء، وسواء أكانوا يسكنون الأكواخ أم ناطحات السحاب، وسواء أكانوا يطهون طعامهم بالوقود من الحطب أم بمواقد الكهرباء، أم لا يطهون طعامهم أصلا.

وجاءنا محمد – صلى الله عليه وسلم – بقيم وأخلاق “جامدة”، لا تلين لمطارق الحضارة وضرباتها العنيفة المتكررة، فالزنا حرام، والتبرج حرام، والربا حرام، والشذوذ حرام، والقتل حرام، والظلم حرام، وغير ذلك من الرذائل التي حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، كما أن الحياء فضيلة، وخشية الله فضيلة، والتوكل عليه فضيلة، وغير ذلك مما جاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – به من شعب الإيمان وأخلاق الإسلام، وستظل هذه الفضائل فضائل، كما ستظل هذه المحرمات محرمات، سواء أكان الإنسان في القرن السابع للميلاد، أم في القرن العشرين أو القرن الثلاثين أو المائة[6].

الاجتهاد من مبادئ الإسلام التي تدحض دعوى الجمود وتثبت تفاهتها:

إن باب الاجتهاد في الإسلام مفتوح لكل من هو أهل له، خاصة أهل العلم والورع الذين يتصدون لكل ما يجد من مشكلات وحوادث، ويقومون بتصحيح تصرفات الناس في أي عصر من العصور، ولا يملك أحد إغلاقه؛ لأن الذي فتحه هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله وفعله وإقراره، ومن ذا الذي يرفض ما شرعه أو يغلق ما فتحه؟!

وإن في تشريع الإسلام من السعة والمرونة والغنى بالقواعد والمبادئ ما يستطيع به أن يواجه تطورات الحياة وتقلبات الأزمان، من غير حيف على أصوله، أو انتقاص من قيمه الخالدة, فقد رأينا من الفقهاء الصحابة – رضي الله عنهم – ومن تبعهم بإحسان مثل: عمر بن عبد العزيز وابن المسيب والزهري والحسن، وغيرهم من التابعين.

وهؤلاء الأعلام قد خلفوا لنا سوابق تشريعية تعد مفخرة في تاريخ الاجتهاد والتشريع.

لقد رأينا فقيها كعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يؤخر الزكاة في عام الجدب إلى العام الذي بعده، تخفيفا على الممولين، وتوسعة على من حولهم.

ورأيناه كذلك في المجاعة يوقف حد السرقة لوجود الشبهة بوجود المجاعة.

كما رأيناه يتوقف عن توزيع الأرض المفتوحة على الفاتحين، معتقدا أنه لا يشملها ظاهر العموم في قوله عز وجل: )واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل( (الأنفال: ٤١)، ويستشير الصحابة في ذلك فيشير عليه معاذ وغيره من فقهاء الصحابة بعدم توزيعها، وإبقائها في أيدي أصحابها على أن تكون ملكيتها للدولة الإسلامية، ولهم حق الانتفاع بها مقابل خراج يدفعونه للخزانة العامة، أي لبيت مال المسلمين.

ورأينا عمر بن عبد العزيز – خامس الخلفاء الراشدين – يقول: تحدث للناس أقضية – أي أحكام – بقدر ما أحدثوا من الأمور, ورأينا الأئمة بعد ذلك يجعلون القياس، واعتبار المصلحة، ورفع الضرر، والاستحسان من قواعد الشريعة التي يجب رعايتها عند الإفتاء أو القضاء أو التقنين.

ورأينا في الفقه الإسلامي متسعا لمختلف الآراء والنزاعات والاجتهادات في إطار الشريعة السمحة، فوجدناه يتسع لمن قد يبدو متشددا كابن عمر – رضي الله عنهما -، وللميسر كابن عباس – رضي الله عنهما -، وللقياسي كأبي حنيفة، والأثري كابن حنبل، ومعتبر المصلحة كمالك.

ووجدنا فيه مذاهب أقرب إلى اتباع النص، وأخرى أقرب إلى إعمال الرأي، وثالثة تعد وسطا بينهما، ورابعة تتمسك بحرفية النصوص والأخذ بظواهرها.

ورأينا الإمام الواحد من هؤلاء رأى الرأي في القضية، ويفتي فيه فيما يبدو من الأدلة والاعتبارات، فيرى غيره ويفتي به، وقد يرجع عن هذا الثاني ويفتي بغيره، ولهذا قد يروى عن الواحد منهم في المسألة الواحدة روايتان أو أكثر.

وهذا كثير في مذهبي مالك وأحمد، وأما الشافعي فمعروف أن له مذهبا في العراق يسمى ” القديم ” ومذهبا في مصر يسمى ” الجديد “.

وبين هؤلاء الأئمة وأصحابهم خلاف كثير في عديد من المسائل، وأوضح ما يكون مذهب أبي حنيفة، وكل من له إلمام بالفقه يعرف ما امتلأت به كتب الحنفية من خلاف بين الإمام الأعظم وصاحبيه – أبي يوسف ومحمد – أحدهما أو كليهما، وكذلك ما كان بين زفر والحسين بن زياد وغيرهما، وكثيرا ما تقرأ في تعليل الخلاف بين الإمام وصاحبيه هذه العبارة: ” هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان”, وعبارة كهذي – لو تأملناها – تكفي في الرد على من يدعي أن في الإسلام جمودا أو تحجرا.

ونحن ننادي بوجوب الاستفادة من هذه الثرورة الفقهية كلها على اختلاف مدارسها ونزعاتها، دون تعصب ولا تقليد أعمى، ولا تقيد إلا بأصول الشرع ومقاصده.

ثالثا. الشريعة الإسلامية لا تنكر التطور جملة ولا تقبله جملة:

  1. مفهوم التطور:

ليس معنى ما ذكرناه أن الإسلام يعادي التطور كله، أو يقف في وجهه، أيا كانت غايته ووسائله بل يعادي التطور الذي يجافي الحق، أو يناقض القيم العليا، أو يرفض الدين الصحيح، ولهذا لا بد لنا أن نحدد مفهوم “التطور” حتى نحدد موقفنا منه.

إن التطور الذي قامت عليه الأدلة القطعية، لا يمس جوهر الأشياء وماهيتها، إنما يمس شكلها وإطارها؛ فحقائق الأشياء ثابتة، وسنن الله في الكون وفي الحياة الإنسانية ثابتة كذلك: )فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43)( (فاطر)، وثبات هذه السنن وتلك الحقائق هي التي جعلتنا نتعامل مع الكون والإنسان والأشياء بأمان واطمئنان، محللين لظواهرها، رابطين بين المسببات وأسبابها، وصولا إلى قوانين عامة، كونية واجتماعية ينتفع الإنسان باكتشافها، ويتقدم عمرانه وحضارته برعايتها واستخدامها، والذين يحسبون النظر يعني التبدل المطلق تكذبهم حقائق الوجود الماثلة للعيان، فالكون لم يزل – بأرضه وسمائه وبحاره وشموسه وأقماره ونجومه المسخرات – بأمر ربه كما كان، ولا زالت القوانين الكونية تعمل كما وضعها الله، ولولا ثبات هذه القوانين ما تقدمت العلوم إلى الحد الهائل الذي نراه ونلمس أثره في الحياة.

  1. التطور لا يأت دائما بخير:

“التطور” هو الانتقال من طور إلى طور، وليس بالضرورة أن يكون أفضل من الطور الأول، ومجرد حدوث الشيء في زمن تال لا يعطيه أولوية أو أفضلية على سابقه؛ فالأفضلية بين الأشياء والأحداث والمواقف، إنما تحكمها معايير موضوعية، بغض النظر عن الزمن الذي حدثت فيه.

ففي حياة الفرد الإنساني نراه يتنقل من الطفولة إلى الشباب، ومن الشباب إلى الشيخوخة، ويتحول من الصحة إلى السقم، ومن السقم إلى الصحة، وحياة الأمم تمر بمثل هذه الأدوار من ضعف إلى قوة، ومن قوة إلى ضعف، ومن يظن أن التطور لا يكون إلا انتقالا من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، ومن أحسن إلى الأحسن؛ فقد أخطأ وكذب على الواقع والتاريخ.

والإسلام باعتباره شريعة الفطرة والعدل لم ينكر وجود التطور في الكون والحياة، ولم يعطه أيضا أكبر من حجمه، ولم يفتح الباب كذلك لأي تطور خيرا كان أو شرا. إنه لم يكبل الإنسان بأغلال تشل حركته، ولم يدعه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وكأنه إله لا يسأل عما يفعل، بل وضع له قيما وأحكاما ينطلق في إطارها، ويتصرف بحرية على ضوئها، شاعرا بأنه مكلف مختار مسئول، جامعا بين الثبات والتطور معا، ولكنه ثبات في الغايات والأصول وتطور في الوسائل والفروع.

فهناك عقائد وعبادات وفضائل وأحكام قطعية الثبوت والدلالة، ولا مجال فيها للتطور أو التبديل، وبجوارها أحكام اجتهادية، ودلالات ظنية، وشئون دنيوية، تجد الأمة إزاءها مجالا رحبا لحرية الفكر وحرية الحركة، ومرونة المواجهة، وللأخذ والرد كذلك ولن تجد من القواعد والنصوص إلا منارات تهدي، لا قيودا تعوق.

وعلى ضوء ما ذكرنا، يمكننا أن نعرف حقيقة المجتمع المسلم وموقفه من الثبات والتطور.

فالمجتمع المسلم مجتمع متطور متوازن، ولهذا اجتمعت فيه المتقابلات,وأخذ كل منها مكانه بالعدل,وهذا هو وضعه بين الثبات والتطور، والمجتمع المسلم مجتمع ثابت متحرك في آن واحد، إنه أشبه بالنهر الجاري المتدفق، الذي لا يقف عن الحركة والتجدد والجريان، ولكن في مجرى مرسوم، واتجاه معلوم، ولغاية معروفة.

  1. متى يتعرض مجتمعنا للخطر؟

وإنما يتعرض مجتمعنا للخطر نتيجة لأحد أمرين يجب علينا أن نحذر منهما أشد الحذر، ونحذر منهما كل التحذير، وهما:

  • أن يجمد ما من شأنه التغير والتطور والحركة، فتصاب الحياة بالعقم والجمود، وتصبح كالماء الراكد الآسن، [7] الذي يجعله الركود مرتعا للجراثيم والميكروبات.

وهذا ما حدث في عصور الانحطاط والشرود عن هدي الإسلام الصحيح؛ فرأينا كيف توقف الاجتهاد في الفقه، وتوقف الإبداع في العلم، والأصالة في الأدب، والابتكار في الصناعة، والافتنان في الحرب وغيرها… وضربت الحياة بالجمود والتقليد في كل شيء، وأصبح المثل السائد الذي يعبر عن وجهة النظر السائدة “ما ترك الأول للآخر شيئا” على حين أخذت المجتمعات الأخرى الراكدة تستيقظ وتنهض وتتطور وتنمو وتتقدم، ثم تزحف غازية مستعمرة، والمسلمون في غمرة ساهون.

  • أن يخضع للتطور والتغير ما من شأنه الثبات والدوام والاستقرار، كما نرى ونسمع في عصرنا الحديث، أن فئة من أبناء المسلمين يريدون خلع الأمة من دينها، وعزلها عن تراثها كله باسم التطور.

يريدون أن يفتحوا الباب للإلحاد في العقيدة، والانسلاخ من الشريعة، والتحلل من الفضيلة، كل ذلك باسم هذا الصنم الجديد “التطور”.

إنهم يريدون أن يطوروا الدين نفسه لكي يلائم ما يريدون استيراده من الشرق والغرب، من عقائد وأفكار، وقيم وموازين، وأنظمة وتقاليد، ومثل وأخلاق، وما جعل الله الدين إلا ليمسك البشرية أن تتدحرج وتنقلب على عقبها.

لهذا أوجب أن يكون الدين هو الميزان الثابت الذي يحتكم إليه الناس إذا اختلفوا ويرجعون إليه إذا انحرفوا، أما أن يصبح الدين خاضعا لتقلبات الحياة وظروفها؛ يستقيم إذا استقامت، ويعوج إذا اعوجت، فإنه لذلك يفقد وظيفته في حياة الإنسان[8].

بهذا كله يظهر لنا وجه المجتمع المسلم بين الملامح، واضح القسمات، متميزا بهذه الفضيلة البارزة في حياته و هي: الجمع بين الثبات الذي يمنحه الاستقرار، فلا يتزحزح عن مبادئه، ولا يتحول عن أصوله, وبين المرونة التي يواجه بها سير الزمن وسنة التطور، فهو يجمد في بعض الأمور كالصخر، ويلين في بعض الأمور كالعجين، أو كما قال شاعر الإسلام محمد إقبال في وصف المسلم: يجمع بين نعومة الحرير وصلابة الحديد.

رابعا. الانتصار والازدهار في التاريخ الإسلامي تابع للتمسك بالشريعة الإسلامية:

هناك حقيقة بارزة يجب الالتفات إليها، والتأكيد عليها، وهي أن المتتبع للمد والجزر، والامتداد والانكماش، والنصر والهزيمة في تاريخ الإسلام، يتضح له بيقين أن فلاح هذه الأمة وقوتها وعزتها مرتبط بمدى تمسكها بشريعتها، فإذا أعرضت عنها، أصابتها الويلات من كل جانب جزاء وفاقا.

ولهذا نجد العهد النبوي وعهود الراشدين المهديين أبلغ مثل، وأوضح دليل على صدق هذه القضية في شقها الأول.

ولا يجهل أحد ما كان عليه المجتمع العربي في الجاهلية، وماذا كان حاله بعد أن هداه الله إلى الحق وحكمته شريعة الإسلام، ويكفي لكي نعرف فضل الإسلام على العرب أن نقرأ قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة)، فهذه تبين حالتهم الفكرية والثقافية التي تتلخص في الأمية والضلال المبين، وقوله عز وجل: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)( (آل عمران).

قال قتادة في تفسير هذه الآية وتصوير ما كان عليه العرب قبل الإسلام، وما صاروا إليه بعد: “كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأبينه ضلالة، وأعراه جلودا، وأجوعه بطونا، مكعومين[9] على رأس حجر بين الأسدين: فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات ردي إلى النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظا، وأدق فيها شأنا منهم؛ حتى جاء الله – عز وجل – بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل به لكم دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك”[10].

وقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لأبي عبيدة رضي الله عنه: «إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»[11].

ولقد زعم بعض الناس أن هذه الشريعة لم تطبق إلا في عهد الخلفاء الراشدين، بل في عهدي أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – خاصة، وبنوا على ذلك أنها شريعة مثالية لا تصلح للتطبيق.

والحق أن هذه دعوى مريضة يكذبها الواقع التاريخي للمسلمين، فقد ظلت الشريعة الإسلامية أساس الحكم والتعامل في جميع ديار الإسلام، ثلاثة عشر قرنا يقوم عليها – دون غيرها – القضاء والإفتاء والفقه والتشريع، ولم يخطر ببال حاكم من الحكام – أموي أو عباسي أو عثماني – أو غيرهم، كما لم يدر بخلد شعب من الشعوب – عربي أو غير عربي – أن يستبدلوا بهذه الشريعة الإلهية السماوية الخالدة شريعة وضعية أرضية، أو شريعة دينية منسوخة كتابية أو وثنية، بل كان اعتزاز الأمة وحكامها بهذه الشريعة فوق الحد، وفوق الوصف.

وبقيت هذه الشريعة صاحبة السيادة في أرض الإسلام حتى ابتليت بهجوم الاستعمار الصليبي عليها؛ فطفق يسلخها من ذاتيتها ويصرفها عن شريعتها، ويفرض عليها قوانين من عنده ما أنزل الله بها من سلطان، أحل بها الحرام كالربا والزنا والخمر والميسر، وعطل بها فرائض، كالزكاة، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فثبت بها فكرة الإقليمية القائمة على تجزئة الأمة الإسلامية، وتمزيق دار الإسلام الواحدة، وظل يتدرج في فرض هذه القوانين حتى شملت الحياة كلها، إلا جانبا واحدا منها حصرت فيه الشريعة، وهو ما سمي بـ “الأحوال الشخصية”.

ولا زالت بعض الفئات في بعض البلاد الإسلامية تجهد جهدها لتخرج الإسلام من هذه المنطقة الباقية له، في حين أن الشعب التركي المسلم يجهد جهده للعودة إلى شريعته، وتحرير نفسه من الاستعمار التشريعي الذي قهر عليه قهرا.

وهذا كله – على كل حال – لم يحدث إلا في عهود ذلة المسلمين، وعلية الاستعمار على أوطانهم وعقولهم، ولقد بدءوا يتحررون الآن، أو على الأقل ينادي بعض منهم بوجوب التحرر من مخلفاته في التشريع بعد التحرر العسكري والسياسي، بل غدا هذا مطلبا للجماهير المسلمة في كل مكان من أوطان المسلمين[12].

ويقول محمد قطب: ومن التخلف العقدي نشأت كل ألوان التخلف التي أصابت العالم الإسلامي: التخلف العلمي والحضاري والاقتصادي والحربي والفكري والثقافي، وقد تختلف النسبة بين العوامل المختلفة التي أدت إلى التخلف العقدي في تأثرها في كل نوع من أنواع التخلف التي ذكرناها آنفا؛ فتكون نسبة تأثير الفكر الإرجائي في بعضها أوضح، ونسبة تأثير الصوفية في بعضها أظهر، ونسبة تأثير التفلت من التكاليف في بعضها أكثر، ونسبة تأثير الاستبداد السياسي في بعضها أشد, ولكنها موجودة في مجموعها، وعاملة في كل مجال من مجالات التخلف التي ترتبت أصلا على التخلف العقدي واستمدت منه.

فتحت تأثير الخدر[13] الذي أنشأه الفكر الإرجائي، والذي مقتضاه أن الإنسان مؤمن كامل الإيمان بالتصديق والإقرار ولو لم يعمل بمقتضيات الإسلام.

والخدر الذي أنشأته الصوفية سواء في تهويمات “الذكر” أو في إطماع العبد في مغفرة ربه بدون أن يعمل بمقتضيات الإسلام.

وتحت تأثير الاستبداد السياسي الذي يجعل كل إنسان ينشغل بخاصة نفسه، ولا يلتفت إلى مصالح الجماعة ولا حاجات الأمة, مصحوبا ذلك كله بالتفلت من التكاليف.

تحت تأثير ذلك كله، غفت الأمة الإسلامية غفوة طويلة، امتدت فترة قرنين من الزمن على الأقل، إن لم يكن أكثر، تقابل من تاريخ أوربا قرنيها الثامن عشر والتاسع عشر، قرني الصعود الأوربي نحو السيطرة والتمكن، والتقدم العلمي والحضاري والمادي.

كانت أوربا قد برئت من آثار قرونها الوسطى المظلمة، وأقامت – عن طريق ما استمدت من العالم الإسلامي من علم وحضارة – حركة قوية في جميع الاتجاهات، وإن كانت فقيرة كل الفقر في الناحية الروحية والأخلاقية.

أما العالم الإسلامي فقد كان في الفترة نفسها قد غفا غفوته الطويلة بتأثير الخدر المزدوج الذي أشرنا إليه، وبتأثير الاستبداد السياسي والتفلت من التكاليف، فكان على المنزلق الهابط في الوقت نفسه الذي تبذل أوربا كل جهدها للصعود.

ففي المجال العلمي حدث تقلص ضخم، وأبعد – بالتدريج – كل العلوم الدنيوية من معاهد العلم! في ذات الوقت الذي اقتصرت فيه العلوم الشرعية على فكر القرن الخامس على أكثر تقدير، مع الفارق الكبير بين الأصالة التي كان عليها فكر القرن الخامس والتقليد الذي تلا ذلك من القرون، وظل ” يتحجر ” قرنا بعد قرن!

لقد كان من مفاخر الحركة العلمية الإسلامية أنها تفتحت للعلم كله، وأبدعت في العلم كله، وكان العالم متمكنا في العلوم الشرعية، وعالما في الوقت نفسه في الطب أو الفلك أو الفيزياء أو الكيماء بغير تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك، وكانت المعاهد العلمية في الأندلس وغيرها – تلك التي تعلمت فيها أوربا حين بدأت تخرج من قرونها المظلمة – تعلم طلابها كل فروع العلم وألوانه بغير تفريق، وكانت العلوم ” الدنيوية ” من المعالم البارزة في تلك المعاهد، إلى جانب العلوم الشرعية، ومن هناك تعلمت أوربا المنهج التجريبي في البحث العلمي، وترجمت ما كتبه المسلمون في الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات والبصريات؛ لكي تتتلمذ عليه في بدء نهضتها الحديثة.

ولكن المسلمين – الغافلين – طردوا تلك العلوم تدريجيا من معاهدهم ليقتصروا على العلوم الشرعية، مع ما في دراستهم للعلوم الشرعية ذاتها من “تخلف” عن الصورة التي ينبغي أن تكون الدراسة عليها.

وهنا قد يكون تأثير الصوفية أوضح، فهي التي فرقت بين الدنيا والآخرة، واتجهت إلى إهمال الدنيا بحجة تزكية الأرواح من أجل الآخرة، وأهملت بالتالي عمارة الأرض، على أساس أن الاشتغال بها يثقل الروح ويذهب عنها شفافيتها وطلاقتها، ومن ثم أهملت كل العلوم المتصلة بتلك العمارة، واعتبرتها نافلة تستطيع الأمة أن تستغني عن أدائها بلا ضير.

نعم قد يكون تأثير الصوفية هنا أوضح، ولكنها لا تستقل بالتأثير، فلو أن المسلمين قاموا بالتكاليف التي كلفهم بها ربهم، ومن بينها إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، لوجدوا أنه لزام عليهم أن يتعلموا كثيرا من تلك العلوم الدنيوية ويتقنوها ويتفوقوا فيها على أعدائهم؛ لأنهم بغير هذه العلوم يعجزون عن الوفاء بأمر ربهم وتكليفه، ولكن التفلت من التكاليف كان يؤثر – إلى جانب الصوفية – في إهمال تلك العلوم وعدم الإحساس بالحاجة إليها، كما أن الفكر الإرجائي موجود دائما في الساحة يغطي كل نقص أو تقصير!

ورويدا رويدا فقدت الأمة حاستها العلمية تماما، وخرجت من الدائرة التي كانت هي مركزها في يوم من الأيام، يوم كانت هي الأمة العالمة في الأرض، وأوربا تهرع إليها لتتتلمذ على ما لديها من العلم.

أما العلوم الشرعية فقد تأثرت هي الأخرى بروح “التقلص” العامة التي غشت العالم الإسلامي من أكثر من وجه.

فمن ناحية قل الإقبال على العلم عند الناس؛ فتفشت الأمية والجهل في الأمة، بنفس المقدار الذي كانت أوربا تزيل به أميتها وتفتح المدارس لنشر العلم!

ومن ناحية أخرى جمدت العلوم الشرعية على صورتها التي كانت تدرس بها قبل خمسة قرون على الأقل، بما كان قد دخل فيها من غزو فكري إغريقي، ومن “علم كلام” لا يغني ولا ينفع، فوق تحويله دراسة العقيدة إلى معاظلات[14] ذهنية باردة معقدة، تفرغ العقيدة من محتواها الحي، وتحيلها إلى قضايا فلسفية مثيرة للجدل بغير نتيجة ولا غاية! وفوق ذلك كله فقد تحول الطلاب إلى حفظة لا مفكرين يتعالم الواحد منهم بمقدار ما يحفظ من المتون والشروح والحواشي، ولكنه لا يفكر لنفسه ولا يفكر بنفسه، ففقد “العلماء” أصالة العلم, وأصبحوا مجرد نقلة مقلدين، بل أضيف إلى ذلك شر ثالث، هو التعصب المذهبي الذي عم الدارسين، كل يتعصب لمذهبه الذي نشأ عليه، ويجعل قصارى جهاده من أجل دينه أن يثبت تفوق مذهبه وشيوخه على المذاهب الأخرى وشيوخها، وأن يدخل في معارك من أجل المذهب تتجاوز في كثير من الأحيان حد الجدل باللسان، إلى التدافع بالأيدي والأبدان! وفشت الفرقة والتنابذ بين أصحاب المذاهب المختلفة؛ حتى إن أحدهم قد يرفض أن يصلي خلف إمام من غير مذهبه، بل قد يقاتل أخاه في الصلاة؛ لأنه رآه إلى جواره يرفع يديه أو يضعها على صدره بما يخالف مذهبه، ويحس أن مقاتلته لأخيه في الإسلام على هذا النحو هي “الخدمة ” التي يؤديها للإسلام!

وحين يكون هذا حال الدارسين من الأمة في المعاهد الدينية – بعد أن تحولت بقية الأمة إلى أميين ” لا يعلمون الكتاب إلا أماني ” – فأي فراغ من حقيقة الدين يملأ النفوس، وأي تفاهة في اهتمامات الناس، بعد أن كان الدين هو محور الحياة ومحركها، وباعث الاهتمامات الجادة وموجهها!

وحقيقة إنه لم يخل عصر من عصور الإسلام – حتى أحلكها[15] – من عالم بالمعنى الحقيقي للعلم، ولكن قلتهم التدريجية لها دلالتها, وفشو الجمود والتقليد له دلالته، فكل شيء متفق مع التقلص والضمور الذي غشى بطابعه كل شيء.

إن التخلف العلمي بشقيه الدنيوي والشرعي – الناشئ أصلا من التخلف العقدي – أصبح هو الطابع السائد للمجتمع الإسلامي قبيل الغزوة الصليبية الهائلة التي اجتاحت بلاد الإسلام في العصر الحديث.

أما التخلف الحضاري – بشقيه المعنوي والمادي – فهو صنو[16] التخلف العلمي وزميله على الطريق! كما أنه نابع من نفس المنبع، ومتأثر بذات المؤثر، وهو التخلف العقدي.

أما الجانب المعنوي – جانب الأخلاق والقيم – فقد أسقطه الفكر الإرجائي حين قدم للناس إسلاما بلا أخلاق! ذلك أن الأخلاق، وإن كانت قيما معنوية، فإنها من جانب آخر سلوك، وإلا فهي شعارات معلقة في الفضاء لا واقع لها في عالم الحقيقة.

 وحين كان الدين على حقيقته، كان من مزاياه الكبرى أنه قيم أخلاقية مطبقة في عالم الواقع في صورة سلوك واقعي، وكانت هذه – في حس الأجيال الأولى – هي الترجمة الحقيقية لـ “لا إله إلا الله”، أي: إنها مرتبطة في حسهم بالعقيدة، أو – بعبارة أخرى – كان في حسهم أن من يعتقد هذه العقيدة ينبغي أن يكون سلوكه ملتزما بتلك القيم الأخلاقية؛ فالدين المعاملة كما علمهم رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكما قالت لهم عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: «كان خلقه القرآن»[17].

وهذا الارتباط بين العقيدة ومقتضياتها الأخلاقية هو القيمة الحضارية الجوهرية في هذا الدين، التي تجعل المجتمع الإسلامي هو المجتمع المتحضر – مهما يكن نصيبه ضئيلا من العمارة المادية للأرض – وتجعل العقيدة في هذا الدين هي جوهر الحضارة، بما يشع منها ويرتبط بها من قيم وأخلاق.

وبهذا المعيار كان الجيل المتفرد أعلى جيل حضاري في تاريخ البشرية كله، على الرغم من البساطة المتناهية في الأشكال المادية والتنظيمية التي كانت في متناول يديه؛ لأنه كان يمارس – في عالم الواقع – أعلى قيم إنسانية وأخلاقية عرفتها البشرية.

ثم جاء العمران المادي في موعده امتدادا للدفعة الحيوية الهائلة التي أطلقها الإسلام في الأمة الإسلامية في جميع الاتجاهات؛ فاكتمل الشكل الحضاري الذي يغلف ” المضمون ” الذي كان قائما من لحظة الميلاد.

ولكن الفساد الذي طرأ على مفهوم ” العبادة ” فحصرها في الشعائر التعبدية فحسب، وأخرج منها ألوانا كثيرة من المعاملات كانت عند الأجيال الأولى داخلة في مفهوم العبادة الواسع الشامل، باعتبارها سلوكا إسلاميا مرتبطا بلا إله إلا الله، ثم جاء الفكر الإرجائي الذي أعطى لهذا الفساد شرعية حين أخرج ” العمل ” من مسمى الإيمان ومن مقتضياته, هذا وذاك قد دمرا الجوهر الحضاري المتضمن في هذا الدين، الذي كان قوامه السلوك الأخلاقي المرتبط بالعقيدة، المترجم لها في دنيا الواقع.

بعبارة أخرى حين صار المسلم لا يجد حرجا في قلبه أن يكذب، وأن يغش، وأن يخون الأمانة، وأن يتهاون في العمل، وأن يخلف الوعد، وأن يحقد على أخيه ويتمنى زوال نعمته، وأن ينافق، وأن يغمز ويلمز ويغتاب، وأن يبخل ويجبن، وأن يبيت شبعان وجاره جوعان وهو يعلم، فقد فقد جوهره الحضاري الإسلامي؛ لأنه تجرد من أخلاقيات لا إله إلا الله، وتجرد من قيمتها الإنسانية العليا، التي هي جوهر الحضارة وعماد المجتمع المتحضر.

ومن الجانب الآخر فإن الاتجاه الصوفي الذي أهمل عمارة الأرض، وتنميتها وتنظيم شئونها على أساس أن الدنيا جيفة وطلابها كلاب، وأنها لا تستحق عند الله جناح بعوضة، فينبغي أن تكون في حس المؤمن التقي أضأل وأحقر من أن يلقي إليها التفاتة عابرة[18].

هذا الاتجاه الصوفي قد أتى كذلك على الشكل الحضاري، وقعد بالناس عن الإنشاء والتشييد والتنظيم؛ لأنهم – ونقصد الغالبية بطبيعة الحال – قد أصبحوا فقراء، ثم رضوا بالفقر، وفلسفوا رضاهم بأنه من القناعة المحبوبة، ومن الرضا بقدر الله! فلم تعد التنمية لازمة لهم، ولم يعد التنظيم لازما كذلك، فإنها سنوات عابرة تمضي على أي وضع وفي أية صورة، ثم يذهب الناس إلى ربهم فينعمون بالخلد في جنات النعيم.

فإذا أضيف إلى ذلك ما تحمله الصوفية في طياتها من تواكل وتقاعس عن الأخذ بالأسباب، واعتقاد أو إحساس بأن الواقع الموجود مهما يكن من سوئه فلا ينبغي أن يسعى المرء إلى تغييره، بل لا ينبغي أن تساوره الرغبة في ذلك؛ لأن ذلك يعتبر تمردا على قدر الله، فقد انعدمت الرغبة تماما في أي إبداع حضاري مادي وتنظيمي، ثم يجيء الفقر العلمي المدقع فينشئ عجزا كاملا عن الأداء حتى لو وجدت الرغبة في النفوس!

وهكذا.. من نقطة التخلف العقدي، المتمثل في فساد مفهوم العبادة، والفكر الإرجائي الذي يعطي ذلك الفساد شرعية، والاتجاه الصوفي المنحرف عن التوازن الإسلامي، وعن الممارسة الإسلامية الواقعية للحياة وتعميرها بمقتضى المنهج الرباني تكليفا لا تطوعا.

ومن نقطة التخلف العقدي نشأ تخلف حضاري هائل، أخرج هذه الأمة من زمرة المتحضرين، كما أخرجها التخلف العقدي من قبل من زمرة المتعلمين، ولا يحتاج التخلف الاقتصادي الذي أحاط بالعالم الإسلامي إلى جهد في بيان أسبابه الحقيقية في حياة الأمة.

نعم، لقد كانت هناك أسباب خارجية قوية أسهمت في هذا التخلف,ولكنها – وحدها – لا تبرره ولا تفسره.

لقد كانت أوربا الصليبية تسعى – منذ القضاء على الدولة الإسلامية في الأندلس – إلى تطويق العالم الإسلامي، وإضعافه بكل الوسائل وكان من بين الوسائل التي اتخذوها السعي الدائب لتحويل التجارة العالمية إلى أيديهم، وانتزاعها من يد المماليك، الذين كانوا يمسكون بزمامها عن طريق سيطرتهم على البحر الأحمر والبحر الأبيض، فتدر عليهم أموالا طائلة، وعلى العالم الإسلامي كله كذلك.

ومنذ اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح – الذي اكتشفوه على هدي الخرائط الإسلامية وبمعاونة بحارة مسلمين – بدءوا يتجهون إلى الشرق الأقصى ليستولوا على أرضه وخيراته، وينقلوها على سفنهم عن طريق رأس الرجاء الصالح فيحرموا منها دولة المماليك، ويحرموا منها العالم الإسلامي كله.

وحدث ذلك بالفعل، وتأثرت اقتصاديات العالم الإسلامي تأثرا بالغا بما حدث.

ولكن.. هل هذا هو التفسير؟ أو هذا هو التبرير؟! أين كانت مراكز القوة يوم قامت الدولة الإسلامية أول مرة، سواء القوة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية؟ ألم تكن كلها في يد فارس والروم؟ فما الذي حدث في التاريخ؟!

لقد انساحت الأمة المؤمنة في الأرض، فأزالت قوى الباطل ودكتها دكا، وأقامت في مكانها دولة الإسلام، واستولت هي على مراكز القوة فأصبحت أكبر قوة في الأرض، وشملت قوتها كل جانب، فصارت في يدها القوة الحربية والسياسية والاقتصادية، وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله للمؤمنين من هذه الأمة، قال عز وجل: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)( (النور).

فما الذي غير الحال بعد ذلك، وسلب مراكز القوة من يد المسلمين؟

سنقول: ضعفت قوتهم الحربية بينما ازدادت قوة أعدائهم فتغلبوا عليهم.

نعم، تلك هي الأسباب الظاهرة، ولا شك, ولكن قراءة التاريخ بالأسباب الظاهرة وحدها لا تؤدي إلى الحقيقة، بل قد تضلل عن الحقيقة, يقول الله عز وجل: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11). ويقول: )ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الأنفال53).

والذي يشغل النفوس المؤمنة هو الإيمان, والذي يتغير في النفوس هو حقيقة الإيمان.

فحين تكون الأمة “متقدمة” في الإيمان، يتحقق لها وعد الله بالاستخلاف والتمكين والتأمين, وحين تكون “متخلفة” يحدث تغيير النعمة – أي سلبها – ويذهب عن الأمة الاستخلاف والتمكين والتأمين.

فسلب التجارة من يد المسلمين، واستيلاء أوربا الصليبية عليها، له أسبابه الكامنة في التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في مجموعها، والتقلص والضمور الذي ترتب عليه في كل اتجاه,وتضاؤل القوة الحربية الذي مكن الأعداء من أجزاء متزايدة من العالم الإسلامي هو ذاته أثر من آثار التخلف العقدي.

ولكن آثار التخلف العقدي في الميدان الاقتصادي الخاص لا تحتاج إلى توكيد.

فلنفرض أن التجارة العالمية قد سلبت من أيدي المسلمين لسبب قاهر لا يقدرون على درئه، فهل تتوقف ثروة العالم الإسلامي على التجارة وحدها في ذلك الحين أو في أي حين؟!

إن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط هي – بقدر من الله – أغنى بقعة في الأرض وأكثرها خيرات، وقد كانت – وما تزال حتى هذه اللحظة – لم تستثمر الاستثمار الكامل، الذي يستغل كل مواردها وكل طاقتها.

فإذا ضاع جزء من الثروة لأسباب قاهرة، فلماذا لم تسع الأمة – في مجموعها – إلى استغلال الثروات الأخرى القابلة للاستغلال، من زراعة وصناعة ومعادن مذخورة في باطن الأرض؟!

 السبب هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلى تغييره؛ خوفا من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!

ومن أين نشأت هذه العوامل كلها إلا من التخلف العقدي؟!

لو تخيلنا هذا العارض – وهو ضياع التجارة من يد المسلمين – قد حدث للأجيال الأولى من هذه الأمة، فهل كان رد الفعل عندها سيكون مماثلا لما حدث للأجيال المتأخرة؟

وهل يكمن الفارق في الظروف الخارجية التي أحاطت بالمسلمين؟ أم أنه راجع في حقيقة الأمر إلى الفارق النفسي الهائل بين أول هذه الأمة وآخرها, بين الإيمان الصحيح والإيمان المخلخل المنحرف,أي راجع إلى التخلف العقدي الذي أصاب الأمة في أجيالها المتأخرة؟

وكذلك ينبغي أن يكون فهمنا لأحداث التاريخ الإسلامي.

إن أمما أخرى – غير الأمة الإسلامية – يمكن أن تنال القوة والتمكين في الأرض بالبعد عن الله! بل كلما زادت بعدا عن الله زادت في القوة والتمكين, كما هو حال أوربا اليوم؛ لأن هذه من السنن الربانية في معاملة الكفار: )فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء( (الأنعام: 44). لفترة من الزمن يقدرها الله, ثم يأتي التدمير: )فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45)( (الأنعام).

أما أمة الإسلام فإنها تعامل بسنة خاصة, لا يمكنون إلا على الإيمان، فإذا انحرفوا زال عنهم التمكين؛ ذلك لأن الله لا يريد لهم أن يفتنوا بالتمكين وهم منحرفون عن طريقه، فيزيدوا انحرافا حتى يصلوا إلى الكفر فتأخذهم سنة الكافرين: )من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)( (هود).

فمن رحمته سبحانه بهذه الأمة أنه لا يمكنها أبدا و هي منحرفة عن السبيل! لكي تعود إليه، فيمكنها وهو راض عنها، ويدخر لها في الآخرة ما يدخره لعباده الصالحين.

أما التخلف الحربي فصلته بالتخلف العقدي واضحة بكل تأكيد!

فكل عوامل التخلف العقدي قد أثرت في القوة الحربية لهذه الأمة، سواء الاتجاه الصوفي الذي يصرف الناس عن جهاد الأعداء؛ بحجة توفير الطاقة لجهاد النفس! أو الفكر الإرجائي الذي يغطي كل تخلف عن حقيقة الإسلام ويربت عليه، [19] ويمنحه شرعية الوجود، أو التفلت من التكاليف التي أمرت بإعداد القوة لإرهاب الأعداء، أو انشغال الحكام بفرض سلطانهم على شعوبهم عن الجهاد لإعلاء كلمة الله.

فإذا أضيف إلى ذلك التخلف العلمي والتكنولوجي، النابع أصلا من التخلف العقدي، فقد اكتملت أسباب التخلف الحربي، وأصبح هو النتيجة المنطقية لكل الظروف التي أحاطت بالناس في القرون الأخيرة.

لقد حملت الدولة العثمانية عبء حماية العالم الإسلامي من الغزو الصليبي عدة قرون، وإن جهادها في هذا السبيل، وإخلاص نيتها، وبذلها جهد الطاقة، لمما يحسب لها في ميزانها عند الله يوم القيامة.

ولكن عوامل التخلف التي كانت تحيط العالم الإسلامي كله، ولا تنجو منها الدولة الحاكمة، ظلت تؤتي ثمارها التدريجية في الميدان الحربي كغيره من الميادين.

فبعد أن وصلت الجيوش الإسلامية إلى فيينا غربا وبطرسبرج – لننجراد حاليا – شرقا، وحاصرت كلا منهما فترة من الوقت، أخذت تتراجع لا عن تلك الأهداف القصوى فحسب، بل عن الأهداف الدنيا، حتى أكلت روسيا بقاعا من الأرض كل سكانها مسلمون، كما أكلت أوربا الصليبية بقاعا من الأرض كانت خاضعة للحكم الإسلامي، يعيش فيها نصارى ومسلمون تتراوح نسبتهم من مكان إلى مكان، وكان التخلف الحربي سببا من الأسباب الرئيسة في هذا التقلص المستمر.

نعم لقد كانت أوربا تتقوى باستمرار حتى صارت قوتها مكافئة لقوة الدولة العثمانية، ثم بدأت تتفوق عليها، فتغير ميزان القوى، وبدأت الصليبية تأكل من جسم العالم الإسلامي، ولكن هذا – وحده – لا يفسر ولا يبرر، إنما الذي يفسر – وإن كان لا يبرر – هو الجمود والقعود، والرضى بالموجود، والتواكل بدلا من التوكل الحق مع الأخذ بالأسباب، والتخلف العلمي والصناعي, وفقدان روح الابتكار، وكلها كما بينا من قبل راجعة إلى ذلك التخلف الأساسي الخطير عن حقيقة الإيمان كما بينها الله ورسوله للمؤمنين.

وإذا كان هذا حال الدولة الحاكمة، التي أخذت على عاتقها حماية العالم الإسلامي من الغزو الصليبي فإن حال بقية العالم الإسلامي كان أسوأ بكثير.

إن الشعب التركي شعب عسكري بطبعه، كما أنه شديد المحافظة على التقاليد، يضاف إلى ذلك صرامته في التربية، لصب أبنائه وبناته منذ نعومة أظافرهم في القوالب المضبوطة التي يراد تنشئتهم عليها، وكان لهذا كله أثره في إطالة عمر الدولة رغم كل عوامل الهدم التي حلت بالدولة في القرنين الأخيرين.

أما بقية العالم الإسلامي – على اختلاف في الدرجة بين شعب وشعب – فكان نصيبه من هذه الصفات أقل، مع وجود التخلف العقدي بكل آثاره المدمرة في العالم الإسلامي كله بلا استثناء، فضلا عن تعرض تلك الأقطار للغزو الصليبي في وقت باكر منذ القرن السابع عشر الميلادي إلى القرن التاسع عشر، لقد كان ذلك الانهيار فيها أسرع؛ لأن عوامل التخلف كانت فيها أشد!

لقد قاتل المماليك ببسالة نادرة أمام الحملة الصليبية بقيادة نابليون، ولكن ماذا تجدي البنادق إزاء المدفع الذي سلح به نابليون جيشه؟! لقد كانت الهزيمة حاسمة, هزيمة التخلف الحربي أمام التقدم والابتكار! وحدث مثل ذلك تباعا في العالم الإسلامي, وانتهت المعارك بانتصار القوة الجديدة على التخلف والجمود.

ومن نافلة القول أن نتحدث عن التخلف الفكري والثقافي في الجو الذي وصفناه.. بعد كل الذي ذكرناه! فكلها ألوان من التخلف ممسك بعضها برقاب بعض، ومؤد في النهاية إلى الانهيار.

ولكن الصلة بين التخلف الفكري والثقافي وبين التخلف العقدي قد تحتاج إلى إشارة خاصة بمناسبة ما تبدئ الجاهلية المعاصرة وتعيد في هذا الشأن بالذات.

لقد أوحى الغزو الصليبي للمسلمين بأن كل ما أصاب المسلمين من تخلف كان بسبب أنهم مسلمون! أي بسبب الإسلام! وركز بصفة خاصة على الجانب الفكري والثقافي مستدلا بتاريخ الكنيسة في أوربا، وبأن أوربا كانت متخلفة في جميع الميادين – وميدان الفكر والثقافة خاصة – وقت أن كانت حياتها محكومة بالدين، وأنها لم تتقدم وتتحضر وتنطلق في جميع الميادين إلا بعد أن تحررت من ربقة الدين.

إن الدعوة إلى التفكر وإلى استخدام العقل على أساس منهجي صحيح, هي في صميمها دعوة هذا الدين، والدعوة إلى السياحة في الأرض ودراسة التاريخ على أساس منهجي كذلك، هي في صميمها دعوة هذا الدين، والدعوة إلى تدبر آيات الله في الكون, والتعرف على السنن الربانية في الكون المادي وفي الحياة البشرية، هي في صميمها دعوة هذا الدين.

ومن توجيهات القرآن الكريم وتوجيهات الرسول – صلى الله عليه وسلم – انطلق الفكر الإسلامي في جميع ميادين الفكر والثقافة التي كانت متاحة يومئذ، وأبدع فيها إبداعات تدل على الأصالة والتمكن والثقة بالذات، وكان هذا كله صدى للحركة العقدية الضخمة التي تحركت بها الأمة الإسلامية في جميع الميادين، وصدى لإيمانها بأن طلب العلم فريضة كما علمها رسولها الكريم – صلى الله عليه وسلم – وصدى لتلك الكلمة العظيمة التي بدأ بها نزول الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقوله عز وجل: )اقرأ( (العلق: ١).

ولما حدث التخلف العقدي التدريجي، الذي حصر العبادة في الشعائر التعبدية وحدها، وأخرج منها بقية التكاليف، حدث ضمور تدريجي في جميع التكاليف التي كانت من قبل مرتبطة بالعقيدة, ومرتبطة بالمعنى الشامل للعبادة، وأصبحت أمورا كمالية، إن شاء الإنسان قام بها وإن شاء تركها بلا ضير! وكان طلب العلم، والقراءة، والتفكير، من بين هذه التكاليف التي خرجت من حيز العبادة فأصابها الضمور، ثم جاء الفكر الإرجائي فربت على هذا التخلف ومنحه الشرعية القائمة على أنه لا يضر مع الإيمان شيء! وجاءت الصوفية فحصرت عمل العقل كله في أضيق نطاق؛ لتفسح المجال – في وهمها – لعمل الروح! وساعد الاستبداد السياسي على إحداث جمود شامل في جميع المجالات, ومن هذا التخلف العقدي نشأ التخلف الفكري والثقافي وأخذ مكانه في موعده المقدور، حيث حدث هذا القدر الهائل من التخلف العقدي أولا، ثم العلمي والحضاري والاقتصادي والحربي والثقافي والفكري, فماذا بقي؟!

إسلام بلا أخلاق, إسلام بلا حضارة, إسلام بلا علم, إسلام بلا ثقافة ولا فكر, إسلام متهالك القوى الاقتصادية والحربية والمادية,فماذا بقي فيه من حقيقة الإسلام؟!

فأما الفكر الإرجائي فقد رضي عن هذا الإسلام – غير المتبع – وقال: لا ضير؛ لأنه لا يضر مع الإيمان شيء!

وأما الاتجاه الصوفي فقد رضي كذلك عن هذا الإسلام المتخلف المتهالك، وقال: لا ضير! فهذه كلها من أمور الدنيا الفانية، وليس المهم هو الدنيا إنما هو الآخرة، ليس عالم المادة وإنما عالم الروح!

وأما بالنسبة لحقيقة الإسلام، فقد كان هذا الإسلام – غير المتبع – يوشك في الحقيقة أن يصبح إسلاما بلا إسلام!!

وعندئذ أقبل الصليبيون من كل حدب ينسلون[20].

أما إن شئنا أن نتحدث عن الإسلام في صورته الناصعة الواضحة فنقول: إن الإسلام نزل في قوم نصفهم من الأعراب، بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97)( (التوبة)، فكانت معجزته العظمى أن جعل من هؤلاء الغلاظ الجفاة أمة من الآدميين، لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدى الله فارتفعوا من حيوانيتهم إلى آفاق الإنسانية الرفيعة، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية يدعونها إلى هدى الله، وذلك وحده برهان على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس وتهذيب النفوس.

ولكن الإسلام لم يكتف بهذا في داخل النفوس، وهو العملية الحقيقية التي تستأهل الجهد وتستحق التسجيل؛ لأنها الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات, لم يكتف الإسلام بهذا التهذيب العميق للأفكار والمشاعر، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لباب الحياة، فتبنى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة في مصر وفارس وبلاد الروم، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله، ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله، ثم تبنى كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث، وانشغالهم الجدي بالعلم، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوربا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع.

فمتى؟ متى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة للناس؟!

أما موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم فهو موقفه من كل حضارة سابقة، يتقبل كل ما تستطيع أن تمنحه من خير، ويرفض ما فيها من شرور، فهو لا يدعو – ولم يدع قط – إلى عزلة علمية أو مادية، ولا يعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية؛ لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج[21] بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات.

وإذن فلا خوف من أن تقف الدعوة الإسلامية دون استخدام ثمار الحضارة الحديثة، كما يفهم بعض البلهاء من المثقفين، ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات والآلات مكتوبا عليها: “بسم الله الرحمن الرحيم”؛ حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم! وإنما يكفي أن يستخدموها هم باسم الله وفي سبيل الله، والآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها دين ولا جنس ولا وطن، ولكن الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعا.

فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له، ولكنك حين تسخدمه لا تكون مسلما إذا استخدمته في الاعتداء على الآخرين؛ فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون دفعا لعدوان أو إحقاقا لكلمة الله في الأرض, والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك، وتستطيع أن تكون مسلما حين تستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير، ولكنك لا تكون مسلما وأنت تستخدمها لعرض الأجساد العارية والشهوات العارية والإنسانية الهابطة في حمأة الرذيلة، الرذيلة من كل نوع – خلقية كانت أو فكرية أو روحية – فليست الأفلام التافهة التي تغرق الأسواق هي لمجرد استثارة الغرائز الدنية، ولكنها تهوين للحياة وحصرها في أهداف تافهة رخيصة لا يمكن أن تكون غذاء لبشرية صالحة.

وكذلك لم تقف الدعوة الإسلامية دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في أي مكان على الأرض، فكل تجربة بشرية صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة»[22],والعلم حين يطلق هكذا يشمل كل علم، وقد كانت دعوة الرسول إلى العلم كافة، ومن كل سبيل.

كلا! لا خوف من وقوف الإسلام في وجه الحضارة ما دامت نفعا للبشرية، أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر، والدعارة الخلقية، والاستعمار الدنيء، واستعباد البشر تحت مختلف العنوانات، فحينذاك يقف الإسلام حقا في وجه هذه الحضارة المزعومة، ويقيم نفسه حاجزا بين الناس وبين التردي فى مهاوي الهلاك[23].

الخلاصة:

  • إن من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية وأهم مميزاتها أنها تشتمل على ثوابت لا يجوز المساس بها، ومتغيرات يصلح الاجتهاد معها؛ فالأصول الدينية من اعتقادات في الإيمان بالله – عز وجل – واليوم الآخر ثوابت لا تتغير، وأما ما يتعلق بتفصيل الأحكام في شئون الحياة المختلفة والفروع الجزئية,فإن هذا قد يتغير بتغير الإنسان والزمان والأحوال.
  • ومما يدل على تطور الشريعة الإسلامية في الأمور التي يجوز فيها الأخذ بهذا التطور هو مسايرتها للتطور على المستوى العصري في مجالات الحياة، والاستفادة من التقنيات الحديثة في سائر العلوم من طب وصيدلة، وفلك، وعلوم الأرض… إلخ.
  • الشريعة الإسلامية لا تنكر التطور جملة واحدة، كما لا تقبله جملة واحدة دون تفصيل، فهي شريعة ثابتة متحركة، تسع الجميع بشموليتها، ولكن في حدود الشرع الذي ارتضاه الله لخلقه وهيأهم له.
  • والتطور ومسايرته لا يأت دائما بخير؛ لذلك وجب الاحتياط والتحفظ، فأي تطور يجر شرا على الأمة فهو غير مقبول؛ لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع كما في الأصول.
  • لقد أرست الشريعة الإسلامية مبدأ الاجتهاد والاستنباط لمن يقدر عليه من أهل العلم والورع، وهذا المبدأ يدل دلالة واضحة على سعة الشريعة، وقابليتها للتطور والمرونة، وفي ذلك دحض لدعوى الجمود وإثبات لتهافتها.
  • لا بد من الاعتراف من خلال استقراء التاريخ الإسلامي على مدى عصوره، أن الازدهار والتقدم كان في عهد التمسك بالدين وتطبيق الشريعة، فكانت الفترة التي يتمسك الناس فيها بالإسلام عملا وعبادة، هي الفترة التي تتحقق فيها الانتصارات، وتفتح البلدان وينتشر الرخاء والأمن، وما أضاع المسلمين أيام الهزائم في الشام أو في الأندلس إلا تخليهم عن الشريعة الإسلامية، وتجرؤهم على انتهاك الحرمات، ورضاؤهم بانتشار الظلم بينهم فتخلى الله عن نصرتهم، وأعرض عن مؤازرتهم.
  • إن التخلف العقدي الذي وقع فيه المسلمون كان سببا للعديد من ألوان التخلف الأخرى؛ منها التخلف الحضاري، والتخلف العلمي، والتخلف الأخلاقي… إلخ.

(*) افتراءات المستشرقين على الإسلام: عرض ونقد، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1412هـ/ 1992م.

[1]. صحيح: أخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الزكاة، باب الحث على إخراج الصدقة وبيان قسمتها (12)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة مريم (3419)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2256).

[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أخبار عبادة بن الصامت (22830)، وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (896).

[3]. الاستصلاح: استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع؛ بناء على مصلحة عامة لا دليل على اعتبارها ولا إلغائها، ويعبر عنه أيضا بـ “المصالح المرسلة”.

[4]. الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص 84: 86.

[5]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م, ص73: 77 بتصرف يسير.

[6]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م, ص85: 88.

[7]. الآسن: المتغير، والماء الآسن: المتغير الذي لا يشرب.

[8]. بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، مصر، ط3، 1424هـ/ 2003م, ص94: 101 بتصرف.

[9]. معكومين: ساكتين في ذلة.

[10]. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (87/ 7)، تفسير سورة آل عمران، آية 103، رقم (7591).

[11]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الإيمان (207)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (51).

[12]. شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط5، 1417هـ/ 1997م، ص38: 40 بتصرف.

[13]. الخدر: كل ما واراك من بيت ونحوه.

[14]. المعاظلات: عاظل بالكلام عقده وصعبه.

[15]. الحالك: شديد السواد.

[16]. الصنو: النظير والمثل.

[17]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام أو مرض (1773).

[18]. إن الدنيا تذم في القرآن الكريم وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تصد الإنسان عن الإيمان بالله أو عن الجهاد في سبيله، ولكن توجيهات الإسلام صريحة في وجوب المشي في مناكب الأرض وعمارتها بمقتضى منهج الله وابتغاء فضله.

[19]. يربت: يؤكد.

[20]. واقعنا المعاصر، محمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، جدة، ط3، 1410هـ/ 1989م، ص173: 186.

[21]. الوشائج: جمع وشيجة، وهي القرابة المشتبكة.

[22]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب فضل العلم، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم (224)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (220).

[23]. شبهات حول الإسلام، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط23، 1422هـ/ 2001م، ص157: 159.

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الشريعة الإسلامية رحمة وضمير فقط، لا قانون وتشريع، ودليلهم على ذلك أن القواعد والأحكام في القرآن مؤقتة بأسباب نزولها، وليس لها إطلاق ولا استمرار، خصوصا بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانتهاء التنزيل وانقطاع الوحي، فقد صارت الأحكام تاريخية، ليس لها أية قوة ملزمة، أو أي أثر فعال بما في ذلك مبادئ وأحكام الشورى، والميراث، والحدود، حتى الخمر فهي غير محرمة في القرآن، وكذلك اللواط فلا عقوبة له في الإسلام، كما أن الحكم بما أنزل الله كان خاصا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – شخصيا دون سواه، ويهدفون من وراء ذلك إلى إثبات عدم صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الشريعة الإسلامية عقيدة وعبادات ومعاملات, ورحمة وضمير وهداية, وقانون وتشريع وأخلاق، تلزم آخر المسلمين كما لزمت أولهم، والقول إن الشريعة لا تصلح لهذا العصر دعوى عارية من الدليل، كيف لا و هي شريعة المبادئ التي تنادي بها القوى الكبرى اليوم من حرية، ومساواة، وعدل، وشورى… إلخ؟!

2) أحكام الإسلام أبدية دائمة، وليست مؤقتة تاريخية، والأحكام غير مقيدة بوقت تشريعها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

3) الخمر محرمة بنصوص القرآن والسنة، وإن لم يحدد قدر العقوبة فيها، واللواط فاحشة بنص القرآن الكريم، وقد أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقتل فاعله ولعنه.

4) الحكم بما أنزل الله لم يكن خاصا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – شخصيا؛ فقد أمرـ صلى الله عليه وسلم – بالتمسك بكتاب الله وسنته من بعده؛ حتى لا تندثر معالم الشريعة.

التفصيل:

أولا. الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ودعوى عدم صلاحيتها عارية من الدليل:

الشريعة الإسلامية عقائد، وعبادات، ومعاملات، وضمير، وهداية، وقانون، وتشريع، وأخلاق، تلزم آخر المسلمين كما لزمت أولهم، وأما الدعوى بعدم صلاحيتها لهذا العصر، فإنها دعوى عارية من الدليل؛ فالله الذي أنزل هذه الشريعة وجعلها خاتمة أنزل فيها أحكاما تناسب كل عصر، قال عز وجل: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( (الأنعام:38)، وقال عز وجل: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)( (النحل)، والدعوة إلى الحكم بما أنزل الله دعوة إسلامية شرعية أصيلة: )وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا( (المائدة: 48)، وقال عز وجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)( (المائدة).

وشريعة الإسلام عامة دائمة الأحكام خالدة التأثير والمفعول، تلزم آخر المسلمين حياة على وجه الأرض كما لزمت أولهم، وقبيل وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – اكتمل الوحي وتم الدين، قال عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

وأحكام هذا الدين وحدوده باقية، وما أجمله القرآن الكريم في شأنها فصلته السنة المطهرة، وبها وجب العمل على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمته من بعده التي أوصاها بقوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة,وإن عبد حبشي, فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا,وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة,فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ»([1]).

والخطأ المنهجي القاتل في تفكير العلمانيين أنهم يقيسون على غير قياس – كما يقول الأصوليون – فهم ينظرون إلى تجربة أوربا مع الدين والكنيسة في العصور الوسطى، ومطالع العصور الحديثة، إذ إنه نظرا لتحكم الكنيسة باسم الدين في رقاب البلاد والعباد في أوربا في العصور الوسطى، كان أول ما عادى الأوربيون في مطلع نهضتهم الحديثة الدين والكنيسة، فقالوا بفصل الدين عن الدولة بل الدنيا بأسرها، وهذا كله صحيح في شأن التجربة الأوربية لكنه خاطئ في التجربة الإسلامية؛ حيث لا تحكم ولا وساطة ولا كهنوت، وحيث الصلة مباشرة بين العبد وربه، قال عز وجل: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60)( (غافر)، وهذا كلام معلوم بالبداهة.

فالجهة بين الحالتين منفكة، والقياس خاطئ، والذهاب إلى تنحية تعاليم الدين عن حياتنا، والقول بتاريخيتها لاديمومتها في سبيل النهضة – تقليدا للحالة الغربية مع الدين المسيحي – أمر غير صائب وتقليد أعمى وفي غير محله، كبناء طلب إليه أن يبني بناية في بلاد الخليج مثلا – وهي بلاد شديدة الحرارة معظم شهور السنة – فحرص على ترك فتحات في الحوائط لتركيب أجهزة التكييف، ثم طلب منه هو نفسه أن يبني بناية ببلاد الإسكيمو – قرب القطب الشمالي – حيث الثلوج طوال العام – فقلد ما فعله ببلاد الخليج حرفيا، وترك فتحات لتركيب أجهزة التكييف في بلاد متراكمة الثلوج.

كما أن دعوى أن الشريعة الإسلامية لا تصلح لهذا العصر، دعوى عارية من الدليل؛ لأنها الشريعة التي أرست المبادئ التي تنادي بها القوى الكبرى اليوم، من حرية ومساواة وشورى… إلخ، فشريعة رب الأرض والسماء يستحيل عليها أن تؤقت بزمن.

أما أن يدعي بعضهم أن الشريعة كلها لا تصلح للعصر، ولا يقدمون على قولهم حجة واحدة، فذلك شيء غريب على ذوي العقول المفكرة، وإذا عرفنا أنهم يدعون هذا الادعاء، وهم أجهل الناس بالشريعة، جاز لنا أن نقول: إن ادعاءهم هذا قائم على الجهل والافتراء.

إن صلاحية الشرائع تقرر على أساس صلاحية مبادئها، وليس في الشريعة مبدأ واحد يمكن أن يوصم بعدم الصلاحية، وإذا استطعنا أن نستعرض طائفة من أهم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية سنجد أنها تقرر ما يأتي:

مبدأ المساواة بين الناس دون قيد ولا شرط، وذلك في قوله عز وجل: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات: 13).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى».([2]) وقد جاءت الشريعة بهذا المبدأ منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، بينما القوانين الوضعية التي يفخر بها الجهلاء، لم تعرف هذا المبدأ إلا في أواخر القرن الثامن عشر، ولا تزال معظم الدول الأوربية والولايات المتحدة، تطبق هذا المبدأ تطبيقا مقيدا.

وقد قررت الشريعة من يوم نزولها مبدأ “الحرية” في أروع مظاهرها، فقررت حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، والنصوص في ذلك كثيرة نجتزئ منها قوله عز وجل: )قل انظروا ماذا في السماوات والأرض( (يونس: 101)، وقوله عز وجل: )وما يذكر إلا أولو الألباب (7)( (آل عمران)، وقوله عز وجل: )لا إكراه في الدين( (البقرة: 256)، وقوله عز وجل: )ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر( (آل عمران:104).

ومبدأ الحرية بشعبه الثلاث لم تعرفه القوانين الوضعية إلا بعد الثورة الفرنسية، ولكن الجهلاء يسلبون الشريعة الإسلامية فضائلها، ويدعونها للقوانين الوضعية.

ومن المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية مبدأ “العدالة المطلقة” وذلك في قوله عز وجل: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء: 58)، وقوله: )ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا( (المائدة: 8)، وقوله: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا( (النساء: 135)، وهذا المبدأ الذي جاءت به الشريعة من يوم نزولها لم تعرفه القوانين الوضعية إلا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر.

هذه المبادئ الثلاثة التي تقوم على أساسها القوانين الوضعية الحديثة، عرفتها الشريعة قبل القوانين بأكثر من أحد عشر قرنا، فكيف تصلح القوانين للعصر الحاضر ولا تصلح الشريعة وهي تقوم على نفس المبادئ؟!

وجاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ الشورى من يوم نزولها, وذلك في قوله عز وجل: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى: 38)، وقوله عز وجل: )فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر( (آل عمران: 159), ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بأحد عشر قرنا في تقرير هذا المبدأ، عدا القانون الإنجليزي الذي أخذ بالمبدأ بعد الشريعة بعشرة قرون.

فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد، وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية جاءت من يوم نزولها بتقييد سلطة الحاكم، وباعتباره نائبا عن الأمة، وبمسئوليته عن عدوانه وأخطائه؛ فالشريعة تسري على الحاكم وغير الحاكم بمنزلة سواء، والحاكم مقيد في تصرفاته بنظرية المساواة.

ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ التي تقوم عليها الحكومات العصرية، قبل أن تعرف القوانين الوضعية هذه المبادئ بأكثر من أربعة عشر قرنا، فكيف يقال: إن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر؟!

ولو تتبعنا المبادئ الإنسانية والاجتماعية والقانونية التي يعرفها هذا العصر، ويفخر بها أبناؤه لوجدناها كلها – واحدا واحدا – في الشريعة الإسلامية على أحسن الصور، وأفضل الوجوه.

وهكذا يتبين أن الادعاء بعدم صلاحية الشريعة، ادعاء أساسه الجهل بالشريعة، ولا سند له في الواقع المحسوس، ولعل العذر الوحيد الذي يمكن أن يعتذر به لأصحاب هذا الادعاء أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القديمة كانت تقوم على مبادئ بالية ينكرها العصر الحاضر، فحفظوا هذا القول على أنه قاعدة عامة، وطبقوه على الشريعة الإسلامية، لانطباق صفة القدم عليها، دون أن يفكروا فيما بين الشريعة والقوانين من فروق.

ثانيا. أحكام الإسلام أبدية دائمة، وليست مؤقتة تاريخية:

يرى بعض المثقفين – ثقافة أوربية – أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، إلا أن بعض أحكامها جاء مؤقتا، وهم يقصدون بعض الأحكام الجنائية، وبصفة خاصة العقوبات التي لا مثيل لها في القوانين الوضعية كالرجم، والقطع، وتسألهم الحجة على ادعائهم، فلا تجد لهم حجة، وإنما هو الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.

إنهم لا يرون مقابلا لبعض العقوبات في القوانين الوضعية، فيحاولون التخلص منها بهذا الادعاء، ولو أخذت القوانين غدا بهذه العقوبات لعدلوا عن ظنهم وقالوا: إنها أحكام دائمة!

ولو كان هؤلاء المسلمون يفهمون الإسلام على وجهه، لما قالوا مثل هذا القول؛ لأن أحكام الإسلام دائمة لا مؤقتة، ولأن ما لم ينسخ منها قبل موت النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا نسخ له إلى يوم النشور، وقد صرح القرآن قبيل موت الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن صرح الدين قد تم بناؤه، ولم يعد قابلا للزيادة أو النسخ، وذلك قوله عز وجل: )اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( (المائدة: 3).

ألا يعرف هؤلاء المسلمون أنه لو جاز القول بالتوقيت في بعض الأحكام لجاز في بعضها الآخر، وأنه لو ترك لكل إنسان أن يحكم هواه لذهب الإسلام([3]

وقد ناقش د. محمد سعيد البوطي باستفاضة فكرة تاريخية النصوص والأحكام الإسلامية فقال: “إن العلماء الذين تحدثوا عن أهمية معرفة أسباب نزول آيات الأحكام ذكروا في الوقت ذاته الحكمة من ارتباط معظم هذه الآيات بأسباب واقعية جرت، وهي تتلخص فيما يأتي: ربط الله التشريعات السلوكية بأسبابها الواقعية، لتأتي تلك التشريعات حلا لمشكلات وقعت، فتكون النفوس مهيأة في ذلك الوقت لقبول تلك التشريعات والانضباط بها؛ رغبة في التخلص من المشكلة الواقعة.

وأنت خبير أن القيود والأحكام التشريعية تكون ثقيلة ونظرية عندما يفاجأ بها الناس بعيدة عن ظروفها وعن ارتباطها بأسبابها الواقعية، ولن تجد وسيلة إلى ترسيخ حكم من الأحكام في الأذهان، وتنبيه الأفكار إلى مدى صلاحيته وأهميته خيرا من أن تعرضه على الناس في مجال تطبيقه، وأن تقدمه إليهم ساعة حاجتهم إليه، وإنها لطريقة تربوية معروفة لا تحتمل البحث والمراء.

إن معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية التي نزلت في مناسبات من الأهمية بمكان لمن يريد التوسع في معرفة أحكام الشريعة الإسلامية، ويحرص على ربطها بمصادرها؛ إذ إن هذه المناسبات أو الأسباب تشكل المناخ الذي استقرت فيه الأحكام، ولعبت دورها الحضاري والمصلحي فيه، كما تبين موجبات تلك الأحكام، ومدى علاقتها بمصالح الناس.

ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال، أن سبب النزول لا يقوى على تخصيص اللفظ العام أو على تقييد المطلق، وهذا قرار لغوي وأصولي متفق عليه عند سائر علماء فقه اللغة، ومن ثم فهو محل اتفاق لدى سائر علماء قواعد تفسير النصوص، وقد ترجم هذا القرار بالقاعدة اللغوية والأصولية القائلة: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.

أما الدليل الآخر الذي يعتمد عليه، فهو المقولة الفقهية الدارجة: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”, إن هذه المقولة – على الرغم من أنها ليست نصا قرآنيا، ولا حديثا نبويا – مقولة صحيحة يؤيدها النظام التشريعي القائم منذ فجر البعثة إلى اليوم، ولكن كثيرين هم الذين يفهمون هذه المقولة بشكل مغلوط، ويحملون الشريعة الإسلامية من ذلك أوقارا من الرغائب والأهواء هي منها براء.

فما المعنى الشرعي السليم لهذه المقولة؟

معناها أن أحكام الشريعة الإسلامية تحمل في داخلها – منذ نزولها ورسوخها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم – عوامل المرونة والتحرك طبق ما يقتضيه سلم الأولويات في قانون المصالح المأخوذ استقراء من كتاب الله عز وجل، أي: فتبدل الأحكام لا يتم بناء على عوامل خارجية طارئة تنسخ السابق لتقيم في مكانه حكما آخر جديدا فرضه الزمن، أي: دون أن يكون عليه شاهد من قرآن أو سنة.

وإنما يتم التبدل من خلال دستور يقتضي صلاحية تحرك الحكم وتنقله على وجوه متعددة مشروعة سلفا، بغطاء من النصوص نفسها، على أن ينفذ ذلك طبق الضوابط الشرعية المثبتة في مصادر الشريعة منذ تكاملها، وطبق سلم الأولويات في درجات المصالح، ولنضرب لذلك أمثلة:

– شرع الله صيام رمضان طبق نظام وضمن شروط معينة، ولكنه فتح في الوقت ذاته آفاق التيسير والمرونة في تنفيذ هذا الحكم، فإذا وجد المكلف نفسه مريضا لا يقوى على الصيام، أو مسافرا يحرجه الصوم، اختفى حكم وجوب الصوم في حقه، وحل محله حكم آخر هو جواز الإفطار، على أن يقضي ما أفطره فيما بعد.

– شرع الله الصلوات الخمس في مواقيتها محددة بأركانها وركعاتها، ولكنه في الوقت ذاته شرع سبلا من التخفيف في أحكامها، كلما اقتضى الأمر ذلك، فالمسافر يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وله أن يجمع الصلاتين فيصليهما في وقت الأولى أو الثانية ليريح نفسه أطول مدة ممكنة.

– فصل البيان الإلهي القول في المحرمات؛ كالخمر واللحوم المحرمة، وأكل مال الغير بدون حق، وفي التصرفات والمعاملات كالمعاملات الربوية، ولكنه فتح بابا واسعا من التحرك والمرونة في ذلك عن طريق ما رسمه من قانون “الضرورات تبيح المحظورات”, ومن ثم فإن عوامل الزمن والظروف الطارئة تتدخل في تنفيذ هذا القانون الذي شرع منذ فجر البعثة النبوية، كلما وجدت أسبابه، وبهدي من النصوص ذاتها.

– من المعلوم أن الأصل في الأشياء كلها الإباحة، فكل ما سكت عنه الشارع فلم يصنفه في الواجبات ولا المحرمات، بقي على الأصل الذي هو الإباحة، وذلك بموجب قول الله عز وجل: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا( (البقرة: 29).

ولكن الشارع – عز وجل – رسم قانونا كليا اسمه “سد الذرائع”، من شأنه أن يهيمن على القانون القائل: “الأصل في الأشياء الإباحة”، والدستور المنظم لذلك هو الظروف والعوامل الطارئة، ومن ثم فرب تصرف هو في الأصل داخل في المباحات، ولكن ظروفا طارئة حدثت، تحول المباح بسببها إلى ذريعة، أي وسيلة لمفسدة هي أشد خطورة في ميزان الشرع من فوات مصلحة المباح، فعندئذ يتبدل الحكم وتختفي الإباحة؛ ليحل محلها التحريم، وأصل هذا الحكم مستقر في كتاب الله.

وربما تبدل حكم الواجب والمندوب أيضا تحت سلطان هذا القانون، فتحول إلى محرم، مثال ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنهما داخلان في الأصل في حكم الوجوب أو الندب، ولكن ربما طرأ ظرف أصبح الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر بسببه ذريعة إلى فتنة، هي شر من فوات المعروف الذي يراد تحقيقه، أو وجود المنكر الذي يراد إزالته، فيتحول عندئذ الواجب أو المندوب إلى محرم.

وفي الشريعة الإسلامية طائفة كبيرة من الأحكام تندرج تحت اسم أحكام الإمامة، أو السياسة الشرعية، وهي تقابل ما يسمى في مصطلح القوانين الوضعية بـ “أحكام الطوارئ”، إن أصول هذه الأحكام وخطوطها الكلية العريضة مرسومة ومنصوص عليها في القرآن أو السنة، ولكن الشارع – عز وجل – أحال اختيار السبل التفصيلية والجزئية لتطبيقاتها إلى بصيرة رئيس الدولة، أو من يسمى بـ “إمام المسلمين”، وعليه أن ينفذ منها ما تقتضيه المصلحة طبق سلم الأولويات المقرر بمصادر الشريعة الإسلامية، وكل ما يتعلق بالعلاقات الدولية وحالات السلم والحرب, وآثار ذلك مما يتعلق بسياسة الأسرى ونحوها، داخل في هذه الطائفة من الأحكام، فكلياتها الأساسية منصوص عليها لا يجوز تجاوزها أو التلاعب بها في وقت من الأوقات، ولكن الشارع أحال – بدلالة من النصوص ذاتها – اختيار الوجه الأمثل في تطبيقاتها الجزئية إلى ما تقتضيه المصالح المتبدلة من وقت لآخر، وحكم إمام المسلمين في تطبيق ذلك.

ونلاحظ من الأمثلة المذكورة أن مبدأ تبدل الأحكام ليس أمرا طارئا يداهم نصوص الشريعة الإسلامية من خارجها، بحيث يضطر المسلمون الذين يتعاملون معها – أي مع تلك النصوص – إلى أن يؤولوها ويخرجوها عن دلالتها العربية؛ لتتناسب مدلولاتها مع تلك الأحوال الطارئة، وهو ما يتوهمه كثير من الناس البعيدين عن دراسة الشريعة الإسلامية وأصولها، بل إن مبدأ تبدل الأحكام هذا ثمرة تنفيذية لدستور مرتبط بالأحكام الخاضعة لإمكانية التبدل، منذ استقرار تلك الأحكام على هدي من النصوص الدالة عليها.

أي أن الأحكام التي تقتضي المصلحة تبدلها مع الزمن، تحمل في داخلها بذور ودساتير تطورها، منذ فجر وجود النصوص الدالة عليها، طبق نظام معين وضوابط معروفة يدرسها المتخصصون في علم الشريعة الإسلامية، ومن المعلوم أن أي خروج على هذه الدساتير والضوابط يعد – باتفاق أئمة المسلمين – عبثا بالشريعة الإسلامية ومصادرها”. ([4]).

ثالثا. شرب الخمر واللواط جريمتان محرمتان بنصوص القرآن والسنة:

  1. تحريم الخمر:

الخمر محرمة بالكتاب والسنة، وجعل فيها العقوبة وإن لم يحدد مقدارها.

وفي السنة النبوية الشريفة نجد العديد من الأحاديث التي تؤكد تحريم الخمر، ومن ذلك:

– «أتي النبي – صلى الله عليه وسلم – برجل قد شرب فقال: اضربوه, قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه»([5]).

– وعن أبي يوسف قال: «جلد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أربعين، وجلد أبو بكر الصديق أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة»([6]).

– وجاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «أنه جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين»([7]).

– وعن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإمرة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»([8]) ([9]).

والمعروف أن السنة تخصص عام القرآن، وتفصل مجمله, وتقيد مطلقه وتوضح مبهمه.

ويقول السيد سابق: “وقد كان الناس يشربون الخمر حتى هاجر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى المدينة، فكثر سؤال المسلمين عنها، وعن لعب الميسر، لما كانوا يرونه من شرورهما ومفاسدهما, فأنزل الله عز وجل: )يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما( (البقرة: 219)، أي أن في تعاطيهما ذنبا كبيرا، لما فيهما من الأضرار والمفاسد المادية والدينية، وأن فيهما كذلك منافع للناس، وهذه المنافع المادية هي: الربح بالاتجار في الخمر، وكسب المال دون عناء في الميسر.

ومع ذلك فإن الإثم أرجح من المنافع فيهما، وفي هذا ترجيح لجانب التحريم، وليس تحريما قاطعا، ثم نزل بعد ذلك التحريم أثناء الصلاة تدرجا مع الناس الذين ألفوها وعدوها جزءا من حياتهم، قال الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون( (النساء: 43).

وكان سبب نزول هذه الآية أن رجلا صلى وهو سكران فقرأ قوله عز وجل: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص) بدون النفي، وكان ذلك تمهيدا لتحريمها نهائيا، ثم نزل حكم الله بتحريمها نهائيا, قال الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)( (المائدة).

وظاهر من هذا أن الله – عز وجل – عطف على الخمر الميسر والأنصاب والأزلام، وحكم على هذه الأشياء كلها بأنها:

– رجس، أي: خبيث مستقذر عند أولي الألباب.

– ومن عمل الشيطان وتزيينه ووسوسته.

– وإذا كان الأمر كذلك، فإن من الواجب اجتنابها والبعد عنها؛ ليكون الإنسان معدا ومهيئا للفوز والفلاح.

– وأن إرادة الشيطان بتزيينه تناول الخمر ولعب الميسر, هي إيقاع العداوة والبغضاء بسبب هذا التعاطي وهذه مفسدة دنيوية.

– وأن إرادة الشيطان كذلك في صد المؤمنين عن ذكر الله، وإلهائهم عن الصلاة، وهذه مفسدة أخرى دينية.

– وأن ذلك كله يوجب الانتهاء عن تعاطي شيء من ذلك.

وهذه الآية آخر ما نزل في حكم الخمر، وهي قاضية بتحريمها تحريما قاطعا، وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الإسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك في أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها لا سيما العقل، وصدق قول الشاعر:

شربت الخمر حتى ضل عقلي

كـذاك الخـمر تـفعل بالعقول

وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير، وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له، فالقتل، والعدوان، والفحش، وإفشاء الأسرار، وخيانة الأوطان من آثارها. هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها، وتفقده وعيه؛ ولهذا أطلق عليها الشارع أم الخبائث، فعن عبد الله بن عباس أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته»([10]), وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها، ولعن متعاطيها، وكل من له بها صلة، واعتبره خارجا عن الإيمان, فعن أنس «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له»([11]) ([12]).

هل يحتاج الأمر إلى مزيد بيان بشأن تحريمها بنصوص القرآن والسنة القاطعة؟ وعليه فلا حجة لمن ادعى أن الخمر غير محرمة في القرآن، غير الهذيان الذي يخرج بلا وعي ولا إدراك.

  1. تحريم اللواط:
  • اللواط فاحشة أمر الرسولـ صلى الله عليه وسلم – بقتل طرفيها الفاعل والمفعول به ولعنهما، ويقول السيد سابق في هذا الصدد: إن جريمة اللواط من أكبر الجرائم، وهي من الفواحش المفسدة للخلق، وللفطرة، وللدين والدنيا، بل للحياة نفسها، وقد عاقب الله عليها بأقصى عقوبة فخسف الأرض بقوم لوط، وأمطر عليهم حجارة من سجيل([13]) جزاء فعلتهم القذرة، وجعل ذلك قرآنا يتلى ليكون درسا, قال الله عز وجل: )ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84)( (الأعراف)، وقال عز وجل: )ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد (83)( (هود).
  • وقد أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقتل فاعله ولعنه، فقد جاء عن ابن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به». ([14]) وفي رواية: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط.. لعن الله من عمل عمل قوم لوط.. لعن الله من عمل عمل قوم لوط»([15]).

ويضيف الشوكاني: “وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارف هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى هذه الفاحشة أن يصلى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله – عز وجل – بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم”.

وإنما شدد الإسلام في عقوبة هذه الجريمة لآثارها السيئة وأضرارها في الفرد والجماعة، ومن هذه الأضرار: التأثير في الأعصاب والمخ، وتدهور الصحة العامة، والإصابة بأمراض الزنى، وسوء الخلق، ومرض السويداء، وعدوى التيفود والدوسنتاريا… إلخ([16]). وعليه فإن اللوط محرم شرعا وعقلا، وتحريمه الشرعي بالقرآن وأقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمره.

رابعا. الحكم بما أنزل الله لم يكن خاصا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – شخصيا:

أما دعوى أن الحكم بما أنزل الله كان خاصا بالرسول شخصيا دون سواه، فهذه من أعجب الفرى، فهل يعقل أن تنزل رسالة من السماء على نبي فيجاهد في سبيلها، ويتحمل مع أصحابه المشاق في إقامة حدودها وتنفيذ تعاليمها وأحكامها، ثم يفهمهم أن هذا كله لا يلزمهم بعد وفاته؟! ففيم كان كل هذا العناء؟! وكيف تستمر هذه الرسالة في أداء دورها وأحكامها مهملة، وحدودها معطلة؟ ثم ما معنى وصية النبي – صلى الله عليه وسلم – لأمته بالتزام سنته وسنة الراشدين من بعده؟! أليست سنته هي أحكام الإسلام وهديه؟!

وما معنى الخيرية في حديث “خير القرون”؟ وما معيارها؟ أليس هو مدى التزام أحكام هذا الدين وآدابه بعد ذهاب صاحب الرسالة؟! وأليس من طبيعة البشر أن من قام بعمل صالح يتمنى أن تخلد آثاره بعده لا أن تزول وتندثر وتنمحي معالمها؟

وأبلغ وأدل من هذا الكلام كلام المعصوم – صلى الله عليه وسلم – في خطبته التي ودع فيها الأمة وأوصاها، وهي خطبة حجة الوداع، فانظر هل أمر النبي أمته من بعده بالحكم بما أنزل الله أم دعاها إلى طرحه وإهماله، والحكم برأيها والعمل بهواها؟ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغالب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»([17]).

وفي رواية: «إن الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان»([18]).

وعليه فلا يستطيع مدع أن ينكر أن الحكم بما أنزل الله غير مقتصر على عصر دون عصر ولا مصر دون مصر، بل هو صالح لكل زمان ومكان، وليس خاصا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – وعصره، وإلا فلماذا يأمر بالتمسك به من بعده والاعتصام به؟! ألا يدل ذلك على أن التشريع الإسلامي هو منهج لحياة المسلمين و معاملاتهم في كل زمان و مكان؟!

الخلاصة:

  • الشريعة الإسلامية عقيدة وعبادات ومعاملات، ورحمة وضمير وهداية، وقانون وتشريع كذلك، وتشريعها صالح لآخر المسلمين كما صلح لأولهم، ولا دليل على عدم صلاحيتها لهذا العصر أو غيره؛ بل إن احتواءها على ما تنادي به المنظمات الكبرى من مبادئ العدل والمساواة والإنسانية والشورى والحرية، لخير دليل على هذه الصلاحية.
  • أحكام الإسلام أبدية غير مؤقتة، ونصوصه غير تاريخية، ولا يصح الاعتراض على ذلك بأن لنزول آيات القرآن أسبابا وظروفا خاصة بالوقت الذي نزلت فيه؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والناس هم الناس والمعروف هو المعروف والمنكر هو المنكر، فلماذا تتغير الأحكام؟!
  • ورد تحريم الخمر في القرآن والسنة، وعاقب النبي – صلى الله عليه وسلم – على شربها، من بعده, واللواط فاحشة أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقتل طرفيها: الفاعل والمفعول به، ولعنهما، ومن ثم فلا حجة لمن يدعي عدم تحريمهما في التشريع الإسلامي.
  • لا دليل على ادعاء أن الحكم بما أنزل الله كان خاصا بالرسول – صلى الله عليه وسلم – شخصيا، فقد جاهد – صلى الله عليه وسلم – في سبيل رسالته لتدوم أحكامها من بعده، وأوصى أمته بالتزام سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، كمنهج لحياتهم حتى لا يضلوا من بعده صلى الله عليه وسلم.

(*) سقوط الغلو العلماني، د. محمد عمارة، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1995م.

[1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (17182)، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549).

[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23536)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2700).

[3]. الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، عبد القادر عودة، المختار الإسلامي، مصر، ص 49: 56.

[4]. الإسلام والعصر، محمد البوطي، دار الفكر، دمشق، طـ2، 1999م، ص 194: 200 بتصرف.

[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب الضرب بالجربد والنعال (6395)، وفي موضع آخر.

[6]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الخمر (4554).

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6391)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الخمر (4551).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحدود، باب الضرب بالجربد والنعال (6397).

[9]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع الإسلامي، د, محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2006م، ص 267.

[10]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 164) باب العين، أحاديث عبد الله بن العباس رضي الله عنهما (11372)، وفي المعجم الأوسط (3/ 276)، رقم (3134)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1853).

[11]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه (3381)، والترمذي في سننه، كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا (1295)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2357).

[12]. فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج3, ص121: 124 بتصرف.

[13]. السجيل: الطين المتحجر.

[14]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، من مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2732)، وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4464)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6589).

[15]. صحيح: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الرجم، باب من عمل عمل قوم لوط (7337)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3462).

[16]. فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ص178: 179 بتصرف.

[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1654).

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حجة الوداع (4144)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض (4474).

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن منظومة التشريع الإسلامي قاصرة عن الوفاء بحاجات الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية في مجال العبادات والمعاملات، وعاجزة عن تكييف ظروف حياتهم حسب قواعدها الشرعية، ويستدلون بهذا على أن مصادر التشريع الإسلامي بشرية، ولا علاقة لها بالوحي السماوي، وبناء عليه فإنها قواعد وأحكام تاريخية غير صالحة لكل زمان ومكان.

وجها إبطال الشبهة:

1)  مسايرة التشريع الإسلامي لكل الظروف و الأحوال، وصلاحيته لكل زمان ومكان أمر ثابت، لا مماراة فيه.

2) عموم التكليف في شريعة الإسلام يقتضي أن يتساوى المسلمون في أداء التكاليف والالتزام بالتعاليم، وقد اجتهد العلماء لضبط أحوال الأقليات المسلمة بضوابط الشرع، مراعين أن المشقة([1]) تجلب التيسير،([2]) والنماذج على ذلك كثيرة,وكلها تؤكد مرونة هذا التشريع.

التفصيل:

أولا. مسايرة قواعد الشرع لكل الظروف والأحوال مع اختلاف الزمان والمكان:

إن صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان أمر ثابت لا جدال فيه، أتينا على ذكره في ردود كثيرة سابقة، وقلنا إن هذه الشريعة تتضمن مبادئ عامة ثابتة لا خروج عليها بمرور الأعصار واختلاف الأمصار، وبين هذه المبادئ العامة والأصول الكلية، هناك مساحة من حرية الحركة المحدودة بهذا الإطار العام، تتيح للمسلمين الاجتهاد بخصوص مستجدات عصرهم ومصرهم لإنزال أحكام الشرع على أرض الواقع وضبط مجرياته بها، وبناء على هذه الإمكانيات وتلك المرونة، فإنه لا شيء في حياة الناس يجد، يمكنه عن ضوابط الشرع وقواعده أن يند([3]).

ثانيا. الاجتهادات في مواجهة المستجدات:

يستطيع المجتهدون من علماء الشرع أن يتصدوا دائما لضبط ما يجد من أحوال وما هو غير تقليدي معروف من الظروف بضوابط الشرع، وإخضاع هذه المستجدات لقواعده وتعاليمه، ومن هذا الباب أحوال الأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين، وما تعيشه من أوضاع مغايرة([4]) تستدعي قدرا هائلا من الاجتهادات الشرعية.

وقد ضرب العلماء – وما يزالون – بسهم وافر في هذا الميدان، وهذه بعض نماذج من اجتهاداتهم:

  1. في مجال العبادات:

  • الصلاة والصيام في المناطق القطبية الشمالية:

من المعروف أن ظروف هذه المناطق – القصية – المناخية والفلكية مغايرة تماما لما عليه الحال في المناطق المعتدلة؛ ولهذا فقد لزم إفتاء المسلمين فيها بشأن كيفية ضبط توقيت صلواتهم وصيامهم ليتمكنوا من أداء التكاليف الشرعية مع التيسير عليهم، وفي هذا الصدد يقول د. وهبة الزحيلي: “المعروف في البلاد المعتدلة تقارب الليل والنهار أحيانا؛ حيث يقصر النهار قليلا عن الليل، كما في الشتاء، وقد يكون النهار في الصيف حوالي 16 ساعة، أما المناطق القطبية، فيتساوى فيها نصف العام مع النصف الآخر، حيث يكون النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر، وقد تغرب الشمس قبل الساعة العاشرة صباحا كما في بلغاريا، وقد يمتد النهار والصيام إلى أكثر من 18 ساعة، كما في الدنمارك والسويد أحيانا، وقد يكون وقت صلاة العشاء في الدنمارك بعد الساعة الحادية عشرة ليلا، وهذا لا يتحمله الأطفال غالبا الذين يبكرون إلى مدارسهم في السادسة صباحا.

وهذه الظاهرة توقع الناس في حرج أو مشقة غير محتملة، سواء في الصلاة أو الصيام، وهذا لا يتفق مع منطق التكليف وسماحة الإسلام؛ لأنه إذا ضاق الأمر اتسع والمشقة تجلب التيسير، وما رجحه علماء العصر أن من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا، لعموم قوله عز وجل: )أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)( (الإسراء).

ومن كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا، ولا تطلع فيها شتاء، أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها إلى ستة أشهر مثلا، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها ويحددوها، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم، تتمايز فيها الصلوات المفروضة بعضها عن بعض، لما ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حدث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: «ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. فقيل: يا رسول الله، الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له»([5]).

فيجب على المسلمين في البلاد المذكورة، أن يحددوا أوقات صلاتهم، معتمدين في ذلك على أقرب بلاد معتدلة لهم، يتمايز فيها الليل من النهار، وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماتها الشرعية، في كل أربع وعشرين ساعة([6]).

  • تعارض العمل مع صلاة الجمعة:

في البلاد غير المسلمة تكون الإجازة الأسبوعية يوما آخر غير الجمعة، كالأحد مثلا، ويوم الجمعة بالتالي يصير يوم عمل، ومن هنا قد يتعذر على المسلم أداء الجمعة في جماعة، فما الحل؟ يقول د. وهبة الزحيلي: “رأى بعض السذج أو السطحيين من عوام المسلمين، ولو كانوا مثقفين بثقافة أخرى غير شرعية أن يوم الجمعة كغيره من الأيام، فتؤجل صلاة الجمعة إلى يوم الإجازة الأسبوعية “الأحد”، وهذا جهل فاضح بحقيقة الزمان وفرضية الصلاة في وقت معين، فيوم الجمعة هو اليوم الحقيقي المطابق لزمان معين، لايجوز تخطيه ولا تجاوزه، ولا تأجيله أوتأخيره إلى زمن أو يوم آخر، لقوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع( (الجمعة: 9).

وعلى الموظف أو العامل المسلم في معمل غربي أو أوربي أو أمريكي، أن يأخذ إجازة لمدة ساعة أو أقل لأداء صلاة الجمعة، التي هي فريضة في الإسلام، وإذا كان عدد المسلمين في المعمل كبيرا مثل أربعين رجلا في مذهبي الشافعية والحنابلة أو اثني عشر في مذهب المالكية أو ثلاثة مع الإمام في مذهب الحنفية، جاز لهم – إذا سمح لهم – إقامة جمعة في معملهم.

فإن تعذر كل ذلك، واضطر العامل إلى كسب العيش ولم يجد دخلا أو عملا آخر، جاز له للضرورة أو الحاجة أن يصلي صلاة الظهر، حيث يصبح المنع في بلد أجنبي من إدارة العمل عذرا من أعذار الجمعة والجماعة، أو لقيامه بوظيفة الحراسة في بلد إسلامي مثلا, فقد ذكر الفقهاء أن صلاة الجماعة والجمعة لا تترك إلا لعذر، لقوله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر»([7]) ([8]).

  • إلقاء خطبة الجمعة بغير العربية:

قد يكون المصلون في بلد أجنبي لا يعرفون العربية، هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى، فقد شرعت الخطبة لوعظهم وإرشادهم، فلا بد أن تلقى بلغة يفهمونها، فما العمل في مثل هذه الحالة؟أتلقى الخطبة باللغة العربية,أم يجوز أن تلقى بغيرها؟وعن هذا يجيب فضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر – رحمه الله – بعد أن فصل آراء فقهاء المذاهب بقوله: ” ولما كانت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة على هذا النحو السابق إجماله في شأن خطبة الجمعة، واشتراط كونها باللغة العربية، لدى جمهور الفقهاء – لا سيما فيما كان من أركانها – أما غير الأركان فقد يسرته بعض تلك المذاهب. وكانت هذه الخطبة، إنما شرعت للنصح والتذكير بالعواقب، أو كما قال الخليل: هي للتذكير بالخير فيما يرق له القلب، وكانت الخطبة باللغة العربية في حضور قوم لا يعرفون هذه اللغة ولايفهمونها، مجرد صوت يتردد في المسجد دون أن يتحقق المقصود المستهدف من خطبة الجمعة، وهو الموعظة والنصيحة والوصايا، وربما تعليم بعض الأحكام الشرعية.

وكان خطباء الجمعة في البلاد الإسلامية التي لا تنطق اللغة العربية، أو تنطق آيات من القرآن، دون فهم لما يتلون من الذكر الحكيم، يلتزمون ما استوجبه جمهور الفقهاء من لزوم الخطبة باللغة العربية، كتكبيرة الإحرام، واختلفت طرائق الخطباء في نصح المسلمين من هذا الصنف ووعظهم:

o  فبعض المساجد يكون فيها درس في موضوع قبل دخول الخطيب المسجد ورقيه المنبر، ثم إذا ما حان وقت الخطبة ألقاها الخطيب باللغة العربية التي يجري بها لسانه، دون ترجمة ملتزمة بمذهب مالك الذي تتبعه مثلا.

o  وبعض المساجد تترجم فيها خطبة الجمعة في درس الجمعة المقبلة، وبعض المساجد تترجم الخطبة بلغة القوم بعد الصلاة؛ حيث لا يرضون ترجمة لها أثناء إلقائها.

وإذا كان الخطباء قد اختلفت طرائقهم على هذا الوجه وغيره، بين أقوامهم الذين لا يعرفون اللغة العربية، ولا يفهمونها استمساكا بنصوص الفقه المذهبي في كل موقع من بلاد المسلمين، وكان هذا الصنيع مضيعا للفوائد المستهدفة من خطبة الجمعة وموقعها في هذا اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون أسبوعيا، وكانت المذاهب المعتبرة كلها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان الأمر على ما قدمنا من أقوال فقهاء المذاهب، ثم من أحوال الخطبة في البلاد الإسلامية، كان الأخذ بقول الإمام أبي حنيفة – رضي الله عنه – في جواز الخطبة بغير اللغة العربية أولى، باعتبار أن ما يقال فيها ذكر أو تذكير أو وعظ أو وصايا، وفقط يلتزم الخطيب بتلاوة آيات القرآن بلفظها العربي، وله أن يفسرها بعد تلاوتها بلغة القوم طلبا للفائدة المرتجاة.

وإذا كانت مراعاة فقه المذهب الذي ارتاده الناس في جهة ما، واعتادوا أداء شعائر الإسلام وفقا لأحكامه، أمرا قد يكون لازما لاستدامة وحدتهم واطمئنانهم في عبادتهم، فإن فقه المذاهب جميعا لم يمنع الجمع بين الخطبة باللغة العربية بأركانها وشروطها وسننها، وبين إعادة إلقائها بلغة القوم بالترتيب، فتكون باللغة العربية أولا في الخطبة الأولى، ثم يلقيها بلغة القوم، ثم يجلس ثم يبدأ الخطبة الثانية باللغة العربية، ثم يلقيها مرة أخرى بلغة القوم.

وبهذا الصنيع – إذا لم يرق الأخذ بقول أبي حنيفة الذي انفرد به بإطلاق؛ حيث أجاز الخطبة بغير اللغة العربية من لغات البشر – يمكن أداء الخطبة على الوجه الذي ارتضاه جمهور الفقهاء، أخذا بعموم الحديث الشريف:«صلوا كما رأيتموني أصلي»([9])، مع نفع القوم المصلين بإعادة الخطبة مترجمة من ذات الخطيب، أو من معاون له، ومن ثم يهون الخطب، ([10]) وينتفع الناس بخطبة الجمعة دون مساس أو انتقاص من الحكم الفقهي لجمهور الفقهاء أو خروج عليه.

أما أن تلقى الخطبتان بغير اللغة العربية، أو تترجما إلى اللغة الوطنية فوق المنبر قبل إلقاء الخطبة الأولى والثانية باللغة العربية، فذلك كالدرس قبل الصلاة، ولا تكون خطبة الجمعة إلا تلك التي ألقيت باللغة العربية أخيرا.

والأولى أن يقوم الإمام الخطيب بإلقاء خطبتي الجمعة ويترجم كل خطبة إلى لغة قومه عقب إلقائها باللغة العربية، ويعتبر ما ألقي بالعربية وما ترجم منها إلى غيرها خطبة واحدة، أي: الخطبة الأولى والثانية، كل منهما مكون من جزأين:

أولهما باللغة العربية؛ ارتباطا بالحكم الفقهي.

والآخر بلغة القوم؛ طلبا لنفع الناس، وإرشادهم وتذكيرهم بلغتهم، أو وصولا إلى إعمال قاعدة واجبة في الإسلام هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه لا تنفذ بغير لغة القوم التي يفهمونها.

هذا إذا وجد الخطيب أن في الأخذ بقول الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – فتنة بسبب الالتزام المذهبي السائد لدى بعض الشعوب الإسلامية من العرب، وغير العرب قال الله عز وجل: )تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)( (الإسراء).

وإذا كانت كل المخلوقات تسبح بحمد الله بقدراتها المختلفة التي خلقها الله، فأولى بالمسلمين من الناس أن يقبلوا على التسبيح والتحميد باللغة التي جبلوا عليها، وإن كان على غير العرب من المسلمين أن يتعلموا لغة القرآن؛ ليتدبروا آياته، ويتعبدوا بتلاوته، وما خطبة الجمعة وغيرها من الخطب المشروعة في الجملة، إلا تكبير وتحميد وتسبيح وتذكير وموعظة وتلاوة لبعض آياته: )يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)( (النساء)([11]).

  • جواز احتفال مسلمي جنوب أفريقيا بعيد الأضحى مع الحجيج بمكة، رغم اختلاف المطالع، وتقبلهم خبر يوم “عرفة” بواسطة المذياع أو غيره من وسائل الاتصالات الحديثة:

فقد اختلفت المطالع في رؤية الهلال في جنوب أفريقيا عام 1408هـ فثار السؤال موجها لمكتب شيخ الأزهر: إذا لم ير الهلال في جنوب أفريقيا فمن يمكن أن نتبع؟ فكانت الإجابة المختارة، بعد استعراض آراء فقهاء المذاهب المختلفة: والراجح هو رأي الجمهور: إنه لا عبرة باختلاف المطالع لقوة دليله؛ ولأنه يتفق مع ما يقصد إليه الشارع من وحدة المسلمين وجمع كلمتهم، وأنه متى تحققت رؤية الهلال في أي بلد من البلاد الإسلامية يمكن القول بوجوب الصوم على جميع المسلمين الذين تشترك بلادهم مع بلد الرؤية في جزء من الليل.

واستقر مؤتمر علماء المسلمين المنعقد بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمرهم الثالث المنعقد 1386هـ/1966م، بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية على ما يأتي:

o   أن الرؤية هي الأصل في معرفة دخول أي شهر قمري، كما يدل عليه الحديث:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».([12]) وأنه يعتمد على الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر، إذا لم تتحقق الرؤية، ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر السابق ثلاثين يوما.

o  أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية، وإن قل، ويكون اختلاف المطالع معتبرا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة.

o  أن المؤتمر يهيب بالشعوب والحكومات الإسلامية أن يكون في كل إقليم إسلامي هيئة إسلامية يناط بها إثبات أوائل الشهور القمرية، مع مراعاة اتصال بعضها ببعض والاتصال بالمراصد والفلكيين الموثوق بهم.

وعلى ضوء ما تقدم، وتمشيا مع ما وصلت إليه الاتصالات السلكية واللاسلكية بين الدول الإسلامية المختلفة المتباعدة، وما تطورت إليه وسائل الإعلام الحديثة المسموعة والمرئية، وما ترتب على ذلك من سهولة الاتصال بين البلاد الإسلامية في شتى البقاع، فقد أصبح من الميسور جدا أن ينقل الخبر في لحظات من دولة إلى أخرى عن طريق وكالات الأنباء المختلفة، أو بواسطة المذياع والتليفزيون، أو عن طريق البرق والهاتف.

وبناء على ما ارتآه بعض فقهاء المالكية من أنه يعمل بالإشارات التلغرافية وغيرها من وسائل الإعلام الحديثة المتطورة بأنواعها المختلفة في إثبات الصوم؛ إذ إنها من وسائل التخاطب بين الدول الإسلامية البعيدة والقريبة.

وإذا كان ما تقدم في شأن رؤية الهلال لا يختص بهلال رمضان فقط، بل يعم جميع الأشهر القمرية، ومنها شهر ذي الحجة الذي يقع فيه موسم الحج كل عام، وكانت الهيئات الإسلامية المشار إليها في السؤال تهدف إلى إيجاد تقويم إسلامي موحد؛ بغية الوصول إلى وحدة الأمة الإسلامية في احتفالاتها بشعائر الإسلام.

وإذا كانت مناسك الحج جميعها تؤدى في مواقعها في أرض الحجاز بمكة وعرفات وما حولها، وكان عيد الأضحى هو اليوم التالي للوقوف بعرفات، كان على كافة المسلمين، أيا كان موقعهم على أرض الله، التوافق مع الحجيج بعرفات في موقفهم وعيدهم.

وإذا كان ذلك، فإنه على جميع مسلمي جنوب أفريقيا وغيرهم أن يحتفلوا بعيد الأضحى المبارك مع كافة الحجيج في مكة المكرمة، على الرغم من اختلاف المطالع، لما سبق بيانه، كما يجوز لهؤلاء وغيرهم أن يتقبلوا خبر يوم عرفة بواسطة المذياع أو غيره من وسائل الاتصالات، أو أجهزة الإعلام المختلفة، بشرط أن يكون المصدر بلدا إسلاميا، امتثالا لقوله عز وجل: )يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر( (البقرة:185)، وقوله عز وجل: )وما جعل عليكم في الدين من حرج( (الحج: 78)([13]).

  1. في مجال المعاملات:

وهو أوسع نطاقا وأكثر تعقيدا وأشد التصاقا بظروف المجتمع غير المسلم – بعاداته وتقاليده ونظمه غير الإسلامية – الذي تقطنه الأقلية المسلمة، وعليها أن تلتزم – في الغالب – نظمه وقوانينه في معاملاتها؛ ومن ثم فهو مجال خصب للاجتهاد والتكييف الفقهي لأوضاع الأقليات المسلمة.

وهذه بعض النماذج المدللة على إمكانية استيعاب القواعد الشرعية للمستجدات وإيجاد الأحكام والحلول المناسبة لها:

  • طلاق المسلمين في غير ديارهم:

استفتي فضيلة الإمام الشيخ جاد الحق فيما يأتي: يحدث طلاق المسلم في البلاد الغربية، خاصة تلك التي يوجد بها نظام المساعدات الاجتماعية، لسببين هما:

o  سبب مادي بحت، الهدف منه زيادة الدخل المادي، من مكاتب المساعدات الاجتماعية، ويتم مثل هذا الطلاق باتفاق الزوجين معا.

o  إذا وقع خلاف بين الزوجين وتعذر الوصول إلى حل، وفقد الأمل في عودة الناشز، والحال أن الزوج يرغب في تحصين نفسه حتى لا يقع في المحرم، فإنه لايمكنه التزوج بأخرى ما دامت الزوجة الأولى – الناشز – مسجلة على اسمه، وذلك ما تقضي به قوانين البلاد الغربية، حيث لا يسمح لأي زوج بالتعدد؛ لذلك يضطر الزوج إلى إيقاع الطلاق مع عدم وجود نية بالطلاق الإسلامي إلابعد تسوية المشكلة القائمة بينه وبين زوجته الناشز، وحصوله على حقوقه المترتبة على زوجته بعد فشل الإصلاح، إذا فالرجل في هذه الحالة مجبر – مكره – على القيام بمثل هذا الطلاق بسبب القانون الذي لايسمح بالتعدد.

والسؤال: هل يقع الطلاق، المتفق عليه، والمشار إليه سلفا، طلاقا إسلاميا مهما كان نوع وهدف ذلك من غير معرفة نية الرجل عند قيامه بالطلاق؟ وقد جاء الجواب على النحو الآتي:

الحكم الشرعي في المسألة الأولى التي عرضها السائل هو وقوع الطلاق، لأن الزوج أوقعه بكامل حريته واختياره، وبصريح ألفاظه، وباتفاق مع زوجته على الطلاق بلا إكراه ولا إجبار، فوقع الطلاق دون حاجة للنية؛ لأنه من صريح الطلاق، وكان إيقاعه ابتغاء الحصول على مال يزيد الدخل، وهذا خروج بالطلاق عن حكمة مشروعيته، ومن ثم كان المال الذي يحصلان عليه بهذا الطريق غير مشروع ومحرم شرعا؛ لأنه جاء بطريق التحايل الممقوت، وأسلوب من أساليب السحت التي تهدم الأسرة وتعرضها للضياع.

أما إيقاع الطلاق للسبب الثاني، وهو فقدان الأمل في استمرار الزوجية ونشوز الزوجة، فإن الزوج صاحب الكلمة في هذا، وهو غير مجبر على إمساك زوجة ناشز ينتظر أن يحصل منها على إبراء من حقوقها الزوجية قبله بافتدائها نفسها واختلاعها؛ لأن الخلع من الإجراءات الجائزة شرعا وليس واجبا.

وأما ما أشار إليه السائل من تحصين الزوج نفسه وإعفافها بالزواج الثاني لنشوز الأولى، هو واجب شرعي ليس للزوج أن يعطله لحين حصوله على حقوقه من الزوجة الناشز، وله أن يطلقها بدون عوض ولا فداء([14]) ولا خلع حفاظا على دينه، وليس في هذا الطلاق إجبار ولا إكراه من الدولة التي تمنع تعدد الزوجات؛ لأن قانونها معلن لم يفاجأ به المطلق الراغب في تحصين نفسه، وما دامت الزوجة قد نشزت فلا محل لأن يقال: إن المطلق مجبر أو مكره على طلاقها؛ لأن نشوزها كاف في تطليقها، ما دام الزوج يعلم مسبقا أن قانون الدولة لا يجيز تعدد الزوجات كانت شروط تحقق الإكراه غير متوافرة، ولا يتوقف وقوع الطلاق في تلك الحال على نية الزوج المطلق إذا تلفظ بصريح الطلاق منجزا([15]) غير معلق([16]) ولا مضاف([17]).

جاء في مذكرة السائل أن حكومة السويد تنفيذا لقانونها؛ أجبرت زوج الزوجتين على طلاق إحداهما، وتعيش معه كصديقة وعلى استبقاء زوجة واحدة رسمية، ولما كان هذا الإجراء – باتخاذ المطلقة صديقة – مخالفا لشرع الله في القرآن الكريم، فلا يحل للمسلم أن يعاشر مطلقته كصديقة، لقول الله عز وجل: والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان( (النساء: 25).

وعلى جماعة المسلمين في هذه الدولة أن تختار لجنة من أناس صالحين فاهمين لدينهم، لهم دراية بأحكام النكاح والطلاق، يقومون بإصلاح ذات البين، ([18]) وإذا وقع الطلاق بين زوجين بسبب خاص أو بسبب تنفيذ قانون الدولة، فإنه – إصلاحا واستمرارا للزوجية – يراجع الزوج زوجته في حال الطلاق الرجعي ما دامت الزوجة في العدة أو يعقد عليها عقدا جديدا بمهر جديد أمام اللجنة، إذا انقضت العدة في الطلاق الرجعي – دون رجعة – أو كان الطلاق بائنا([19]) بينونة صغرى أولى أو ثانية على الإبراء، وبذلك تعود الزوجة لزوجها بإجراء شرعي معتبر شرعا، دون الوقوع في اتخاذ الأخدان([20]) الذي نهى الله عنه، ويتفادى المسلمون المقيمون في السويد بذلك ما ينغص عليهم حياتهم، أو يوقعهم في مخالفات شرعية.

وهذه الجمعية الإسلامية بالسويد – صاحبة الاستفسار – وقد أعطت اهتماما كبيرا للأسرة المسلمة، وبخاصة في شأن ما يقع من الطلاق، تبتغي له حلولا تتفق وحكم الإسلام، لهي بذلك تخدم الأسر المسلمة وتقيم الدين، لكن الإسلام لا يقر التحايل أو التزوير للحصول على المساعدات الاجتماعية.

ومن ثم فإنه مالم تكن المرأة المسلمة مطلقة فعلا وواقعا، لايحل لها شرعا اقتضاء تلك المساعدات التي قررتها دولة السويد للمطلقات([21]).

هل يجوز لقاض غير مسلم أن يطلق المسلمة؟

جاء الاستفسار هذه المرة من امرأة مسلمة، من أم زائيرية وأب بلجيكي، تعيش في بلجيكا، تزوجت من زائيري مسلم وأنجبت منه ثم غادر إلى زائير وتركها دون نفقة، وطالت غيبته فراسلته، فلم يرد، فطلبت الطلاق للضرر فتعنت، فأشير عليها برفع الأمر للقضاء ليحكم بالطلاق رغما عن الزوج من أجل رفع الضرر.

والسؤال: لايوجد ببلجيكا قاض مسلم يمكنه إيقاع الطلاق، فماذا علي أن أفعل لاعتبر مطلقة منه؟ ومتى يمكنني أن أتزوج غيره؟ فهل يكفي أن أطلق نفسي منه، وأشهد على طلاقي له؟ فإذا لم يكن لي ذلك، فهل يمكن أن يقوم غير القاضي المسلم في غيبته بإيقاع هذا الطلاق للضرورة الملحة؟

والجواب: ” إن معايشة المسلمين لغير المسلمين في ديارهم، والتعاون معهم في أمور الحياة، أمر مباح غير منهي عنه، فمتى أمن المسلم على دينه، ومارس شعائر الإسلام بحرية في بلد ليس له دين أصلا، أو له دين غير دين الإسلام تصح إقامته فيه، أما إن خاف على دينه وخلقه أو على ماله وعرضه، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد يجد فيه الأمان، ففي الحديث الشريف: «الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، من أحيا مواتا فهي له»([22]).

كما صح أن بعض المسلمين الأوائل هاجر إلى الحبشة، وأقام بها بأمر من رسول الله r ولم تكن الحبشة دار إسلام، ومن أقوال العلماء والمحققين: إذا وجد المسلم أن بقاءه في أرض الكفر يفيد المسلمين الموجودين بدار الكفر بتعليمهم وقضاء مصالحهم، أو يفيد المسلمين الموجودين في دار الإسلام أو يفيد الإسلام نفسه بنشر مبادئه ورد الشبه عنه، كان وجوده في هذا المجتمع أفضل من هجرته، ويتطلب ذلك أن يكون المسلم قوي الإيمان والشخصية والنفوذ، حتى يمكنه القيام بمهمته، وقد كان للدعاة والتجار أثر في نشر الإسلام في بلاد الكفر.

ولقد شرع الله زواج المسلمة من المسلم دون غيره، غضا للبصر وحفظا للشرف وسكنا ومودة ورحمة بين الزوجين، صيانة للمجتمع من الاختلاط المضيع للنسل، فبالزواج يتحقق العفاف والطهر والسعادة والغنى والمحبة والألفة والاستقرار الأسري، ما دام كل من الزوجين قائما بواجباته نحو الآخر في حدود شرع الله – عز وجل – لكن إذا قصر كلا الطرفين أو أحدهما في حق الآخر، فإن العلاقة الزوجية تتعرض لما يفقدها التعاون والمودة والرحمة، نتيجة تباعد في الطباع، وتباين في الأخلاق يترتب عليهما حدوث الشقاق والكراهية وطلب الفراق؛ لأن رابطة الزواج لم تثمر ثمرتها، ولم تحقق غايتها.

ودفعا لهذه المضار شرع الله الطلاق حلا لعقدة النكاح، متى اشتد الخلاف قال الله عز وجل: )وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)( (النساء)، وجعله بيد الزوج تحملا لمسئولياته، وتجنبا لعواقبه.

وإذا كانت الشريعة قد قضت بأن يكون الطلاق – وهو أبغض الحلال إلى الله – بيد الرجل، فإن عدالتها اقتضت أن للزوجة حق طلب التفريق بينها وبين زوجها إذا وجد به عيب يفوت ثمرة الزواج، أو تختل به العشرة والألفة، أو كان الزوج معسرا بنفقتها أو ممتنعا عن الإنفاق عليها بغير حق، أو كان يضيرها ويؤذيها، أو خافت على نفسها العنت، ([23]) والسقوط في مهاوي الرذيلة بسبب غيبته، أو هجره لها أو حبسه، ولم تصلح المساعي – الأهل والحكماء – في إصلاح ذات بينهما، أو أمسكها الزوج إضرارا بها، كان لها أن ترفع أمرها إلى القضاء المسلم، صاحب الولاية في هذا دون غيره؛ إذ ليس لغير المسلم ولاية على المسلم، قال عز وجل: )ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)( (النساء)، وعلى القاضي المسلم متى عرض عليه أمر النزاع أن يبادر إلى عرض الصلح على الزوجين، فإن أعرضا أو أحدهما كان له أن يفرق بينها وبينه، إذا ثبت لديه وقوع الإضرار من جانب الزوج، سواء أكان الزواج موثقا رسميا، أو استوفى شرائط العقد الصحيح دون توثيق رسمي.

ولا يجوز التقاضي أمام محكمة قاضيها غير مسلم؛ لأن طلاق القاضي غير المسلم على المسلم غير نافذ؛ إذ إن القاضي يوقع الطلاق على الغائب أو غيره بولايته العامة، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، كما سبق بيانه.

وننصح الزوجة المسلمة السائلة التي تعثرت حياتها الزوجية – حسب ما جاء بالسؤال – أن تسعى للوفاق مع زوجها على الطلاق بالأوجه المشروعة التي شرحها الفقهاء أخذا من نصوص القرآن والسنة، كالطلاق خلعا، أو نظير الإبراء من الحقوق الزوجية.

ولها إن تعذر الوفاق مع الزوج على الطلاق، أن ترفع أمرها إلى قاض مسلم بالإجراءات القانونية المقررة في القوانين واللوائح، وفي أي بلد فيه قضاء إسلامي في مسائل الأحوال الشخصية، دون التقيد بموطن العقد، ولعل في زائير، موطن زوج السائلة ومحل إقامته، قضاء للأحوال الشخصية للمسلمين، ويعلم ذلك عن طريق سفارة أو قنصيلية زائير ببروكسل.

ويمكن للسائلة أيضا أن تتصل بأخوالها في زائير أو أحد من أولادهم، ليقوموا بالتفاوض مع هذا الزوج من أجل أولاده في بروكسل، وزوجته المتضررة بغيابه عنها وإصراره على عدم تطليقها، ويذكروه بقول الله عز وجل: )فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه( (البقرة: 231).

وتخاطبهم في شأن مقاضاة زوجها لدى المحكمة في زائير، محكمة مسلمة في مسائل الطلاق وغيره، وبتوكيل منها توثقه رسميا لدى جهات التوثيق في بروكسل، وينوب عنها أحد أقربائها في رفع دعوى الطلاق للضرر بسبب الهجر([24]) أو الامتناع عن الإنفاق، كما أن لها أن تقاضيه بهذا الطريق في شأن نفقتها عليه كزوجة ونفقة أولادهما إلى أن يفصل قضاء في أمر الطلاق، إذا ترافعت في شأنه أمام محكمة في زائير.

وإذا تم بتوفيق الله وتيسيره طلاق السائلة على أي وجه من تلك المقترحات القضائية أو الرضائية، فإن عليها أن تعتد، فلا تتزوج حتى تحيض ثلاث حيضات، إن كانت ممن تحضن، أو يمضي عليها ثلاثة أشهر، إن كانت لا يأتيها الحيض([25]).

  • حكم تعامل الأقليات الإسلامية في الخارج مع البنوك الربوية والشركات التي تتعامل بالربا:

أفاض في الحديث حول هذا الموضوع المهم والحيوي بالنسبة لمسلمي الخارج د. وهبة الزحيلي، ومما جاء في كلامه: ” كثرت الهجرة من البلاد الإسلامية إلى البلاد غير الإسلامية لأسباب كثيرة، كالعلم أو التجارة أو كسب المعيشة، أو لظروف سياسية اقتضت الهرب أو الفرار، أو لجور السلطة الحاكمة ونحو ذلك، وكثر المهاجرون إلى كل بلد غير إسلامي، حتى عد بعضهم في أوربا أو أمريكا بالملايين، واختلطوا بالسكان الأصليين، ووجدوا قوانين وأنظمة جديدة تهيمن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ونظرا لضغط الحاجة في مبدأ الاغتراب، أو حبا في التفوق والثراء، كالمواطنين بعد الاستقرار، عمل بعضهم في المطاعم الغربية والحانات، وانصرف أكثر العمال إلى خدمات، كقيادة سيارات الأجرة والعمل في محطات البنزين، ولم يجدوا مناصا من شراء هذه السيارات إلا بقروض مصرفية، وتورط بعضهم في قروض لشراء البيوت السكنية، أو لفتح محلات تجارية، أو إقامة مصانع أو مطاعم أو نحو ذلك.

فهل هذه الظروف تقتضي إباحة التعامل بالربا بين هذه الأقليات وبين البنوك الربوية، أو الشركات التي تتعامل بالربا بشراء الأسهم؟ الأمر يحتاج إلى تفصيل وبيان، ووضع ضوابط لحال الإباحة أحيانا، والالتزام بأصل الحكم الشرعي في غير هذه الحالة.

إن محاولة تمييع الأحكام الشرعية بحجة تيسيرها للناس، ومسايرة مزاعم التنمية بسذاجة وغباء، مرفوضة قولا وعملا؛ لأن مجال التيسير إنما هو فيما يسرته الشريعة وحددته، لا في تخطي الحرام القطعي أو الصريح المنصوص عليه في القرآن والسنة، فذلك هدم للشريعة، وتجاوز للنصوص تحت ستار أو غرور القول بالتجديد، ومسايرة الشريعة لأهواء الناس وشهواتهم, ولو درس هؤلاء حقيقة الاقتصاد وخطورة الربا فيه، لبادروا إلى تغيير آرائهم، وحينئذ يقولون: لقد خدعنا وأوقعنا الغوغائيون في الخطأ.

جاء في قرار مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في المؤتمر الإسلامي الثاني (1385هـ/1965م): الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة – في مجموعها – قاطعة في تحريم النوعين.

لا تمييز في تطبيق الأحكام الشرعية، ولا سيما دائرة المحظورات بين الفرد والدولة، وبين الفرد والمؤسسات العامة، وبين الشخص والبنوك الربوية أو الشركات المتعاملة بالربا؛ لأن الشريعة الإلهية واحدة للجميع بالإجماع، والمسلمون كلهم أيا كانت مراكزهم وإمكاناتهم ومواقعهم وبلدانهم مخاطبون على السواء بتنفيذ الحكم الشرعي الواحد، عملا بقوله عز وجل: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49)( (المائدة)، وقوله عز وجل: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء)، وقوله عز وجل: )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)( (النساء).

لقد سوى الإسلام بين المسلمين قاطبة في تطبيق الحكم الشرعي، لا في دائرة الحدود – العقوبات المقررة – فقط؛ لإنكار النبي – صلى الله عليه وسلم – على أسامة بن زيد الشفاعة في امرأة قرشية سرقت، وإنما في جميع التكاليف الشرعية.

الإسلام دين ذو نزعة عالمية، ورسالة إصلاح للمجتمع الإنساني كله، وخطاباته عامة للناس جميعا، فإن طبقت أحكامه في بلد أو انتشر في أقطار إسلامية، لا يعني ذلك على الإطلاق، تغيير صفة الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المسلمين المؤمنين برسالته في بلاد أخرى غير إسلامية، لأن المسلم وصبغة الإسلام متلازمان، يعرف أحدهما بالآخر على السواء، والإسلام يريد من وراء دعوته ليس تصحيح العقيدة فقط، وإنما إصلاح الأخلاق والمعاملات والعبادات في كل أنحاء الدنيا، وإلا كان إسلاما ناقصا أو مبتورا أو مشوها أو انتهازيا، يحل لشخص ما يحرم على آخر، وهذا يتناقض مع سمو شريعة الله وموضوعيتها وتجردها، وحاكميتها على أساس الحق والعدل والمساواة بين جميع الناس، وإلا لجاز ارتكاب المحرمات من زنا وسرقة وقتل مثلا في البلاد غير الإسلامية بحجة كون أهلها كفارا، أو مجتمعا فوضويا فاسدا في شئون الأعراض والدين، فأين إذن ميزة الإسلام؟!

وما أصوب وأروع كلمة الإمام الشافعي – رضي الله عنه – في هذا الشأن حيث يقول: ومما يوافق التنزيل والسنة، ويعقله المسلمون ويجتمعون عليه، أن الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراما فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئا.

إنه لايحل إذن لفرد مسلم أو أقلية مسلمة التعامل بالربا في أي بلد في العالم، في داخل البلاد الإسلامية أو في خارجها، لا مع البنوك الربوية، ولا مع الدولة ذاتها، ولا مع الشركات المساهمة التي تتعامل بالربا، فذلك هو جوهر الشريعة وأساسها، وغيره تناقض وضلال وانحراف عن منهج الإسلام، مالم تكن هناك ضرورة شخصية أو حاجة عامة متعينة، يقتصر فيها على صاحبها، وتترك للفتوى الخاصة، لا للقرارات العامة.

وقد ذكر فقهاء الحنفية طائفة من الأحكام الفقهية تختلف باختلاف الدارين: دار الإسلام ودار الحرب، منها ما يأتي: لو دخل مسلم دار الحرب بأمان، فعاقد حربيا عقدا مثل الربا – أي العقود الفاسدة -، جاز عند أبي حنفية ومحمد، ولم يجز عند أبي يوسف وجمهور الفقهاء.

واستدل أبو حنفية وصاحبه بأن المسلم يحل له أخذ مال الحربي من غير خيانة ولا غدر؛ لأن العصمة – صون المال – منتفية عن ماله، فإتلافه مباح، وفي عقد الربا المتعاقدان راضيان، فلا غدر فيه، والربا كإتلاف المال، قال محمد بن الحسن في السير الكبير: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم، بأي وجه كان، لأنه إنما أخذ المباح على وجه عرا عن الغدر، فيكون ذلك طيبا منه.

واستدل أبو يوسف والجمهور بأن حرمة الربا ثابتة في حق المسلم والحربي، أما بالنسبة للمسلم فظاهر، وأما بالنسبة للحربي؛ فلأنه مخاطب بالحرمات، قال الله – عز وجل – عن اليهود: )وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161)( (النساء).

الواقع أن الأخذ برأي أبي يوسف والجمهور هو المتعين؛ لاتفاق ذلك مع مقاصد الشريعة الغراء، ومع إشاعتها للإصلاح في كل مكان، ولعموم أحكامها دون تخصيص، أو استثناء أحد، أو قصر على بلد دون آخر، أو مراعاة ظروف فئة في حال دون حال؛ لأن الحرام لا يصير حلالا في أي مكان، واستباحة مال الحربي بطريق الغنيمة يختلف عن أخذه بطريق العقود المدنية التي تغري بارتكاب الحرام، ويتجرأ الناس بها على العصيان، فكان القول بالتحريم المطلق سدا للذريعة، وحفاظا على سمو تعاليم الإسلام والاحتفاظ بقداسته في أنظار الآخرين، حتى يحترم الناس أحكامه وشرائعه في أية بقعة من العالم.

ومع ذلك، فإن فتوى أبي حنيفة وصاحبه ليست خطأ محضا؛ فإن مال الحربي ودمه هدر، سواء تم معه إبرام عقد صحيح أم فاسد، ولا تصلح هذه الفتوى لإباحة الربا للأقليات الإسلامية في ديار غير إسلامية؛ لأن مقصد أبي حنيفة إضعاف الحربيين بكافة الوسائل، وأما فعل المسلمين اليوم مع غير المسلمين في ديارهم فهو إما إيداع أموال واستثمارها وأخذ فوائدها، وهذا حرام؛ لأنه ليس أخذا لمال الحربيين، وإنما هو نقيض ما أراده أبو حنيفة، ففي ذلك تقوية لهم؛ حيث يقوون بأموالنا صناعاتهم ومشاريعهم، وإما اقتراض بالفائدة وفي هذا ضرر محقق؛ لأن المقترض يقترض مثلا مائة ألف دولار، ويسددها ثلاث مائة ألف دولار فهذا إعطاء وتقوية، وليس أخذا أو إضعافا كما أراد الإمام أبو حنيفة.

ثم إن وجود دار الحرب في عصرنا الحاضر يكاد يكون نادرا أو محدودا جدا؛ لأن الدول الإسلامية انضمت لميثاق الأمم المتحدة التي جعلت العلاقات بين الدول قائمة على السلم والأمان الدوليين، وليس الحرب، فديار غير المسلمين اليوم ديار عهد وميثاق لا ديار حرب؛ والربا حرام مع المسلمين وغير المسلمين, وأما الضرورة أو الحاجة للتعامل بالربا، فلا أجد فيها فرقا أو علة تميز ديار غير المسلمين عن بلاد المسلمين، فالظروف واحدة والمصالح واحدة؛ ولا بد من مراعاة ضوابط الضرورة أو الحاجة في أي مكان للعمل بالرخصة الشرعية.

ومن النادر توافر ظروف الضرورة أو الحاجة بالمعيار أو المفهوم الشرعي، فمن مقتضى الضرورة: أن يتعرض الإنسان لخطر الموت جوعا إن لم يتناول الحرام، ومن مقتضى الحاجة: أن يتعذر وجود السكن بالإيجار مثلا، ويتعرض الإنسان للمبيت في الشارع مثلا، وهذا لاتختلف فيه البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، فكيف نجيز للأقليات الإسلامية في ديار الغرب أو الشرق ما لا نجيزه للضعفاء في العالم الإسلامي أو العربي؟!

إن العبث بعموم الأحكام الشرعية ومحاولة تقييدها أو تخصيصها، أو اللجوء للرخصة من غير وجود مسوغاتها، كل ذلك مصادم لشرع الله ودينه، وإن قصد التبسيط أو التيسير للأقليات يفتح الباب أمامها لتجاوز الأحكام الشرعية، سواء في حال الضرورة والحاجة بالمعيار الشرعي أم في مختلف الأحوال، فتسد الذرائع ورعا واحتياطا.

وبعد مناقشته لأدلة المبيحين والمانعين لهذه المعاملات الربوية، يختتم د. وهبة الزحيلي كلامه بقوله: لقد وضح الطريق وحصحص الحق، وتبين لكل مسلم غيور على حرمات دينه، وكل متعامل في مجال القروض والمساهمات أن قليل الربا وكثيره، سواء في التحريم بالنصوص الشرعية القاطعة وإجماع الفقهاء، إلا من شذ، ومن شذ في النار، ويد الله مع الجماعة.

فيحرم الاقتراض بفائدة من البنوك الربوية، كما يحرم الإيداع بفائدة في هذه البنوك، سواء في بلد إسلامي أو غير إسلامي، للمسلمين جميعا أو لطائفة قليلة أو معينة.

ويحرم أيضا التعامل مع الشركات المساهمة التي تقترض بالفائدة الربوية وتودع بالفائدة في البنوك مطلقا، في بلد إسلامي أو غير إسلامي؛ إذ لا تفرقة في الحكم الشرعي بحسب البلاد أو العباد، لعموم النصوص وعدم الاستثناء والاجتهاد فيما يخالف ذلك مردود؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص، وليس إفتاء مفت يرفع الخلاف، فهذا في القضاء، وفي الحالات التي لا تتصادم مع النصوص الشرعية القطعية أو الظنية الواضحة، فإن توافرت ضرورة أو حاجة عامة للتعامل مع البنوك الربوية أو مع الشركات المساهمة بضوابطهما الشرعية جاز ذلك، وهاتان حالتان نادرتان يترك الافتاء فيهما لكل حالة بحسب ظروفها على حدة.

اللهم إني أبرأ إليك من قرار عام في هذا الشأن، ومن تورط في ذلك، فعليه المبادرة إلى التوبة والاستغفار، وإعلان الرجوع عن قراره؛ لأن إباحة الربا الذي هو من الكبائر، ومما أذن الله فيه بحرب من الله ورسوله على مرتكبه ليس بالأمر الهين”([26]).

لعل هذه النماذج العديدة السابقة من اجتهادات العلماء في قضايا فقه الأقليات، توضح بجلاء أن طبيعة التشريع الإسلامي من السعة والمرونة بحيث لا تقصر عن استيعاب أية مستجدات ولا يند عن وسعها ضبط أية معاملات، مما يدحض مقولة عجز أو حتى قصور هذا التشريع حيال تطورات الحياة المعقدة وتقلباتها المتسارعة، فأينما تولوا فثم شرع الله.

وهل يأبق الإنسان من ملك ربه

فيخرج من أرض له وسماء

وكما لا يمكنه أن يمرق من إسار ملك ربه، كذا لايتأتى له أن يبدع من الأحوال ما يند عن استيعاب شرعه.

الخلاصة:

– مسايرة التشريع الإسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان أمر ثابت، لا مماراة فيه، وشواهده من هذا التشريع عديدة متوافرة.

– عموم التكليف في التشريع الإسلامي يقتضي أن يتساوى المسلمون في أداء التكاليف والالتزام بالتعاليم، دون تعلل بظروف غير تقليدية أو أحوال غير عادية، وقد اجتهد العلماء لضبط أحوال الأقليات المسلمة بضوابط الشرع مراعين أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع.

– النماذج التي سبق إيرادها لاجتهادات العلماء توضح بجلاء أن طبيعة التشريع الإسلامي من السعة والمرونة بحيث لا تقصر عن استيعاب أية مستجدات، ولا يند عن وسعها ضبط أية معاملات، مما يدحض مقولة عجز أو حتى قصور هذا التشريع حيال تطورات الحياة المعقدة وتقلباتها المتسارعة.

– لقد استطاع الفقه الإسلامي أن يعالج مشكلات المجتمع المتغيرة,وأن يجد الحلول للكثير مما جد وتطور في أحوال الناس,برغم صرامة الالتزام المذهبي,وانتشار التقليد بين العلماء,ولكن طبيعة الشريعة الإسلامية وسعتها ومرونتها,غلبت على ضيق التقليد وتزمته,فاستطاعت أن تواجه كل جديد بما يدفع الحرج والغدر,ويحقق مصالح العباد.

 

(*) قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م.

[1]. المشقة: الجهد والعناء والشدة، ويقال: شق الأمر علينا أي ثقل. والمشقة تجلب التيسير، والمشقة سبب للرخصة, والمشقة أعلى من الحرج.

[2]. التيسير: مصدر يسر، فيقال: يسر الأمر إذا سهله ولم يعسره ولم يشق على نفسه أو غيره فيه، والتيسير خاصية من خصائص الشريعة الإسلامية في أحكامها وعقائدها.

[3]. يند: يغيب.

[4]. مغايرة: مخالفة.

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (7560).

[6]. قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص31: 34.

[7]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة (793)، والحاكم في مستدركه، كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، باب التأمين (895)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6300).

[8]. قضايا الفقه والفكر المعاصر, د. وهبة الزحيلي، دار الفكر, دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص35، 36 بتصرف.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة (605)، وفي مواضع أخرى.

[10]. الخطب: الأمر الشديد.

[11]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ج1، ص392: 399.

[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا” (1810)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (2567).

[13]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ج1, ص559: 563.

[14]. الفداء: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، فقد يكون الفداء لارتكاب أحد محظورات الإحرام، أو الوقوع في الأسر أو غير ذلك.

[15]. الطلاق المنجز: هو الطلاق الذي يصدر بصيغة ليست معلقة على شرط ولا مضافة إلى زمن مستقبل، بل قصد من أصدرها وقوع الطلاق في الحال، وهو الطلاق الخالي في صيغته من التعليق والإضافة.

[16]. الطلاق المعلق: هو ما يفيد وقوع الطلاق عند حدوث أمر ممكن الوجود في المستقبل، ويستوي أن يعلق الطلاق على فعل للزوجة أو للزوج أو لغيرهما.

[17]. الطلاق المضاف: هو الطلاق المضاف إلى زمن؛ أي قرنت صيغته بوقت بقصد وقوع الطلاق عند حلول ذلك الوقت؛ كأن يقول لزوجته: أنت طالق غدا، فإن الطلاق يقع في الغد.

[18]. ذات البين: ما بين القوم من القرابة والصلة والمودة، أو العداوة والبغضاء.

[19]. الطلاق البائن: نوعان:

البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يستطيع الرجل بعده أن يعيد المطلقة إليه إلا بعقد جديد ومهر وبرضاها؛ كالطلاق قبل الدخول.

البائن بينونة كبرى: هو ما كان بعد الطلاق الثالث، ولا ترجع المرأة إلى زوجها الأول حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها حتى يطلقها أو يموت عنها.

[20]. الأخدان: جمع الخدن، وهو الصديق في السر.

[21]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص355: 366 بتصرف.

[22]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 318)، باب الفاء: فضالة بن عبيد الأنصاري (823)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2766).

[23]. العنت: المقصود الزنى.

[24]. الهجر: هو ترك فراش الزوجية، أو ترك الجماع، أو إعطاء الرجل ظهره لزوجه في نومه كنوع من التأديب.

[25]. بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة، الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، دار الحديث، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص371: 375.

[26]. انظر: المعاملات المالية المعاصرة، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص238 وما بعدها.