الكتب
الإلحاد يسمم كل شيء
الإعلاء الإسلامي للعقل البشري
هل الإلحاد لا عقلاني
تجاذب العقلانية بين الملحدين والمتدينين
الحماقة واللامعقولية للإلحاد - كتاب باللغة الإنجليزية
معالم في منزلة العقل عند أهل السنة والجماعة
نقض أصول العقلانيين
العقل والإلحاد
الأسس اللاعقلية للإلحاد مشكلة مبدأ العالم نموذجا
نقد العقل الملحد كيف يستدل؟ وبماذا يستدل؟ ولماذا يلحد؟
الأدلة العقلية النقلية على أصول الإعتقاد
الإلحاد أمام محكمة العقل
جنون الإلحاد وعقلانية الإيمان
ليطمئن عقلي: الإيمان من جديد بمواجهة الإلحاد الجديد
فضائح العقل الملحد
جولة في عقول الملحدين
المرئيات
دور العقل أمام الشرع
لماذا يوجد ملحدون إلى اليوم؟
أزمة الملحدين واللادينين 1
أزمة الملحدين واللادينين 2
الدحيح والعلاقة بين المادية والإلحاد
أيهما أكثر إقناعا.. غيبيات الدين أم عقلانيات الإلحاد
تناقضات الملاحدة بين الفطرة والإلحاد
عدمية الإلحاد هل الإلحاد مُسير أم مُخير؟!
تعقّد الطبيعة وحكمة الإله هل يمكن أن تغيب الذئاب عن البيئة؟
مكانة العقل في الإسلام
ما الذي نفعله إذا تعارض العقل مع النقل ؟
هل للقلب دورٌ في عملية التعقل والمعرفة
الصحة النفسية وكثرة الإضطرابات لدى الملحدين
المقالات
هل الدين الإسلامي معارض للعقل؟
ظهرت هذ الشبهة في محاضن الفكر الغربي؛ بسبب طبيعة العقائد الكنسية التي تشتمل على مكونات كثيرة متناقضة مع ضرورة العقل ومبادئة الفطرية السليمة، كعقيدة التثليث و العشاء الكنسي.
ثم جرى تعميمها على كل الأديان ثم تلقفها عنهم المعترضون على الأديان في الفكر العربي المعاصر!
وفساد هذه الشبهة نلخصه بما يلي:
▪️١- الاعتراض فيه خلط بين نماذج مختلفة غير متفقة و هي الأديان التي تختلف في الشرائع و الأحكام.
▪️٢- التوسع الحكمي عند التيار الإلحادي حيث أن نقدهم للأديان امتد ليكون دليلا على إنكار وجود الله.
▪️٣- التناقض المنهجي؛ و ذلك أن من ينكر الضرورة العقلية ويؤمن بنسبية الحقيقة وتعذر الجمع بين المبادئ العقلية الضرورية و النظريات العلمية الحديثة –كفيزياء الكم – ؛ هذا كيف يحق له الإنكار على الأديان بحجة مناقضتها للعقل؟
▪️٤- الخلط بين الاستحالة العقلية و الاستبعاد العقلي، فالاستحالة العقلية ما لا يمكن تحققه في الواقع و الاستبعاد العقلي ما يصعب تصور وقوعه مع إمكان وقوعه، فالإسلام جاء ببعض محارات العقول لكنه لم يجئ بمحالاتها مثل معجزات الأنبياء، ومن الأمثلة في ذلك حادثة الإسراء والمعراج وانشقاق القمر، فقد ادعى المعترضون أنها مخالفة للعقل. و يجاب على هذا بأمور :
أ- هذا الاعتراض مبني على خلط بين قدرة الإنسان وقدرة الله ، فقدرة الخالق سبحانه على إيجاد الكون العظيم الذي هو أعظم من الاسراء و المعراج وانشقاق القمر؛ توجب الإيمان بإمكان هذه الحادثة.
ب- مع التسليم بكون حادثة الإسراء و المعراج أمر خارق للعادة إلا أنه يبقى في دائرة الممكن عقلا.
ت- أما حادثة انشقاق القمر فزادوا في الاعتراض السابق عليها أنها عرض كوني لم يذكر في كتب التاريخ ،مع كونه عظيم وعام، فيجاب بما مختصره :
–وقوع الانشقاق بالليل يعني أن نصف الأرض لم يشاهدوه لأنه سيكون عندهم نهار ووقوع الانشقاق كان في مدة قصيرة.
-مطالع القمر تختلف من بقعة لبقعة من الأرض مع احتمال وجود موانع تمنع من رؤية القمر كوجود الناس في بيوتهم أو وجود السحاب أو الغبار أو حتى عدم اكتراث الناس لظنهم أنه كسوف.
-لا يمتنع من قدرة الله تعالى إطلاع من يشاء من عباده على هذه الحادثة دون آخرين فله سبحانة القدرة والحكمة التامة الشاملة.
▪️٥-الانحراف في الفهم ، فالمعترضون على الإسلام بدعوى مناقضته للعقل لم يكن فهمهم للشواهد التي اعتمدوا عليها صحيحا ومن أمثلة في ذلك :
قضية النزول الإلهي فقد اعترض الناقدون للأديان – مع بعض أهل الإسلام ممن استشكلوا هذه القضية – أن الإيمان بنزول الله سبحانه في كل ليلة في الثلث الأخير للسماء الدنيا مع إثبات استوائه على العرش لا يمكن تصوره عقلا؛ لاستلزامه وجود الذات الإلهية في مكانين ، و أن عدم خلو الأرض من ثلث الليل يقتضي كونه نازلا أبدا ، فكيف يكون مستويا على عرشه ونازلا في نفس الوقت وهذا مناقض للعقل فيجاب عنه بأمرين:
▪️أ- هذا اعتراض ناشئ عن غفلة عن العظمة الإلهية ،إذ سبحانه و تعالى لا حدود لعظمته وجلاله فسبحانه محيط بكل شيء ، والمخلوقات كلها لا تساوي مع عظمته وجلاله شيئا فكل الاماكن المخلوقة لا تساوي مع عظمته شيئا و تعددها واتحادها سواء بالنسبة للعظمة الإلهية وينتج عن هذا كله أن وجود الله بذاته في مكانين مخلوقين لا يلزم منه الجمع بين النقيضين لضآلة كل الأماكن المخلقوة في مقابل ذاته العلية ، ولتصور ذلك في ما نشاهد فيمكن أن يكون جبل عظيم يمتد بين بلدين أو أكثر فيكون وجوده في المكانين غير متناقض لضخامته، وهذا جار على كل شؤونه سبحانه .
▪️ب- هذا الاعتراض فيه خلط بين طبيعة النزول الإلهي و طبيعة نزول المخلوقات، حيث جعل فيه لوازم للنزول الالهي مترتبة على لوازم نزول المخلوقات ، كخلو المكان العالي و الكينونة في المكان السفلي واستغراق وقت محدد للصعود و النزول والحركة و الانتقال وغيرها من اللوازم، وهذا القياس فاسد لمباينة حقيقة المخلوقات لحقيقة الباري سبحانه، فمن الخطأ المنهجي أن تحاكم صفات المخلوقات إلى صفات الباري سبحانه، التي لا نعلم حقيقتها ولا كيفيتها ولا نحيط علما بكماله وجلاله ، ويمكن تصور ذلك بمثال الشمس في المخلوقات فهي جسم واحد يتحرك حركة واحدة متناسبة لا تختلف و مع ذلك تكون طالعة عند قوم غاربة عند آخرين قريبة بلد بعيدة عن آخر مع تبدل الحرارة والفصول في هذه البلاد في نفس الوقت ، فكيف يمتنع على الخالق سبحانه في علاه أن يكون نزوله إلى عباده في ثلثهم الآخر مع اختلافه بالنسبة لهم.
المعضلة الإنسانية: إحدى إشكالات النظرة الإلحادية
تواجه النظرة الإلحادية عدة إشكالاتٍ ومعضلات تضعها في حيز الضعف وعدم القدرة على التفسير والتعليل ومن ضمن هذه المعضلات العظام (المعضلة الإنسانية) بكل تشعباتها وتفريعاتها، وقد عبّر الأستاذ عبد الوهاب المسيري رحمه الله في أغلب كتاباته عن هذه المعضلة مسمياً إياها بلفظ (الإنسان المتجاوز) ويعني به الانسان الذي تجاوز حدود مادته واستحال تعليل سلوكه وفكره تعليلاً مادياً صِرفاً ومن هذا المنطلق كان هذا المقال ليسلط الضوء على المعاني المتجاوزة في الأبعاد الإنسانية.
العقل
يدرس العلم المادي (التجريبي) الظواهر على أساسٍ تفكيكي بحيث يقسم المادة أساسَ البحث إلى أجزاءٍ صغيرة ليضعها تحت التجربة ويدرس طبيعتها والعلاقات التي تحكمها فالعلم من هذا المنظور قاصرٌ عن إدراكِ الكليات وربطها بغاياتها، ومن هذا المنطلق الاعتماد عليه (في رسم الخطوط العريضة للخبرة والغاية البشرية) يعتبر قدحاً في هذا العلم ذاته، ولهذا كان لا بد من استخدام أدوات ووسائل علمية أخرى ليست من طبيعة العلم المادي استخدامها (فالعلم الطبيعي: هو المعني بدراسة أحوال كل ما يمكن إخضاعه للحس والمشاهدة من الموجودات في العالم، فإذا ما نظرنا إلى سؤال كهذا (لماذا نحتاج إلى دراسة العلم الطبيعي نفسه وما وجه الخير من ذلك؟) فبأدنى نظر من التأمل في مضمون هذا السؤال يتبين لنا أنه ليس مبحثاً من مباحث العلمي الطبيعي).[1]
ومن هذا المنطلق فإن دراسة العقل تعتبر من أهم الدراسات التي تبين قدرة الإنسان على تجاوز الواقع المادي وبناء أُطر تحكمه (فهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه وهو قادر على الالتزام بها وخرقها، وهو الكائن الوحيد الذي طور نسقاً من المعاني الداخلية والرموز التي تدرك من خلالها الواقع).[2]
ولنا هنا الحق في التساؤل: من أين للإنسان أن يطور هذه المنظومات الأخلاقية؟ وما الجِيْن أو الخلية المسؤولة عن هذه الأفعال؟ فمثلا يتساءل بيجوفتش (لو أن شخصاً حاول إنقاذ طفل من بين الركام وعاد هذا الرجل، والطفل ميت والرجل على وشك الهلاك لماذا نثمن هذا الفعل ونجعل صاحبه من الأبطال)[3] مع أن الواقع المادي على المستوى الجسدي كله أضرار لماذا نجعل عمله ذا قيمة ؟ هنا يأتي دور العقل ومنظومته الفطرية الرائعة التي تبين تجاوز الإنسان لواقعه المادي وبناء معاني أعلى من المنظومة المادية بكليتها..
ولقد تاه العلماء في فهم كنه العقل واختار المذهب الإلحادي (المادي) حصر معناه في الدماغ وإنكار أي جانب روحي يساعد على هذا النشاط، فجعلوا العقل كله عبارة عن: تفاعلات في خلايا الدماغ فهو تفاعل بيوكميائي يُصدر الإنسان عنه أفعاله وأفكاره وسلوكه.
وهنا يقول إنجلز: “إن العالم المادي الملموس حسياً والذي ننتمي نحن إليه هو الحقيقة الوحيدة، إن وعينا وتفكيرنا مهما قد يبدو من الحساسية القصوى هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. إن المادة ليست نتاجاً للفكر بل إن الفكرة ذاتها ليست سوى أعلى نتاج للمادة”.[4]
ولم يختلف معه في هذا المفهوم رهبان الإلحاد الجدد، فهذا (سام هاريس) يقول: “إن الفهم العلمي للعلاقة بين النيات، والعلاقات البشرية، وأحوال السعادة الإنسانية، سيكون له تأثيره البالغ في معرفة طبيعة الخير والشر، وفي معرفة الجواب المناسب للاعتداءات الأخلاقية التي يقع فيها الآخرون. فقد أمسى لدينا الكثير من الأسباب لنؤمن بأن البحث المستمر في الدائرة الأخلاقية سيفضي إلى امتزاج نظمنا الاعتقادية المختلفة على نحو ما وقع في كل مجال من مجالات العلم – على الأقل فيما بين أولئك المؤهلين لذلك الأمر”.[5]
ومن كلامه يتضح أنه يحاول ربط الأحكام الأخلاقية العقلية بالفهم العلمي الطبيعي!
وبناءً على الفرض السابق أن العقل مجموعة من الخلايا البيوكميائية تتفاعل بشكل محدد لتنتج فكراً وسلوكاً فسوف أضع مجموعة من الإشكالات وإلزاماتها لأتباع المنهجية المادية:
1- على فرض القبول بهذا التعريف الذي يحدد أن فعل الإنسان وسلوكه وفكره عبارة عن مجموعة من الخلايا (ماذا لو استطعنا التحكم بهذه المجموعة من الخلايا)؟
- إلزام هذه الإشكالية يكون في أنه: لو استطعنا التحكم بهذه الخلايا سينتفي القصد وحرية الإرادة عند الانسان أو كما يسميها المسيري (نهاية الإنسان) فعليه ستبطل الأحكام ويصبح بإمكاننا بواسطة التلاعب بهذه الخلايا أن نغير مفهوم الاغتصاب من فعل قذر مثلاً إلى فعلٍ سامٍ! وهنا تهدم المنظومة الإنسانية بكليتها!
2- على فرض القبول بأن الخلايا هي التي تنتج الفكر وسلوكه، فنطرح سؤالاً (هل الإنسان متحكم أو مدرك لحركة هذه الخلايا)؟
- إلزام هذه الإشكالية هو: بما أننا نقر أننا الآن لا نشاهد حركة هذه الخلايا ولا تفاعلاتها فهي خارج الحيز الإدراكي لنا وخارج سيطرتنا، وعليه سيكون أي فعل يصدر من الإنسان منتفي القصد أيضا لأن حركة هذه الخلايا وتفاعلاتها خارجة عن إرادته وعن إدراكه ويترتب على هذا الإلزام نفي أي حكم بالخير أو الشر عن أي فعل إنساني لأن القصد ممتنع مع تحكم هذه الخلايا بشكل غير مُدرك على أفعال الإنسان وسلوكه!
ولتفنيد هذه النظرة من ناحية علمية مادية أيضاً، ننقل رأي عالم العصبيات الشهير بانفيلد الذي رسم آليات الحواس في الدماغ و هذه تجربته:
“إن ملامسة المنطقة الخاصة بالنطق في الدماغ تؤدي إلى فقدان مؤقت للقدرة على الكلام (حبسه) عند المريض، ونظرا لانعدام الإحساس في الدماغ فالمريض لا يدرك أنه مصاب بالحبسة إلا عندما يحاول أن يتكلم أو يفهم الكلام فيعجز عن ذلك! ويروي بانفيلد ما حدث ذات مرة فيقول: (في حين أخذ أحد مساعديّ يعرض على المريض صورة فراشة قمت بوضع الإلكترود (القطب الكهربائي) على قشرة المخ الخاصة بالنطق فظل المريض صامتاً للحظات ثم طقطق بأصابعه كما لو كان غاضباً ثم سحبت الإلكترود فتكلم في الحال وقال: الآن أقدر على الكلام.. إنها فراشة.. لم أكن قادرا على النطق بكلمة (فراشة) فحاولت أن أنطق بكملة (عثة) التي هي شبيها بالفراشة لظن المريض أنه غير قادر النطق باسم الفراشة)! ثم يقول (لقد فهم الرجل بعقله الصورة المعروضة على الشاشة وطلب عقلة من مركز الكلام في دماغه أن ينطق بالكلمة التي تقابل المفهوم الماثل في ذهنه وهذا يعنى أن آلية الكلام ليست متماثلة مع العقل وإن كانت موجهة منه، فالكلمات هي أدوات تعبير عن الأفكار، ولكنها ليست الأفكار ذاتها وحين عجز المريض عن التفوه بالكلمة لانسداد الكلام عنده استغرب وأمر بالبحث عن اسم شيء مشابه هو (العثة) وعندما فشل ذلك أيضا طقطق بأصابعه غضبا (إذ إن هذا العمل الحركي لا يخضع لمركز الكلام) وأخيراً عندما انفتح مركز الكلام عند المريض شرح تجربته الكاملة مستخدما كلمات تناسب أفكاره وقد استنتج بانفيلد أن المريض حصل على كلمات من آلية الكلام عندما عرض مفاهيم ونحن نستطيع الاستعاضة عن ضمير الغائب في عملية الاستبطان هذه بكلمة عقل فعمل العقل ليس عملاً آلياً”.
وتوصل بانفيلد إلى نتائج مماثلة في مناطق الدماغ التي تضبط الحركات فيقول: عندما جعلت أحد المرضى يحرك يده بوضع الإلكترود على القشرة الحركية في أحد نصفى كرة دماغه كنت أسأله مرارا عن ذلك وكان جوابه على الدوام: “أنا لم أحرك يدي ولكنك أنت الذي حركتها”، وعندما أنطقته قال: “أنا لم أخرج هذا الصوت أنت سحبته مني”.
- ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة ينتهي بانفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئًا أخر يختلف كلياً عن فعل الأعصاب اللاّإرادي ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.
ويستنتج استنتاجاً آخر؛ فيقول: “ليس في قشرة الدماغ أي مكان يستطيع التنبيه الكهربائي فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئًا، والإلكترود يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقي، أو يحل مسائل في الجبر بل إنه لا يستطيع أن يحدث في الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقي والإلكترود يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه إنه لا يستطيع أن يُكره الإرادة فواضح إذاً أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لهم أعضاء جسدية”.
وينهي كلامه: “طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل”.
ويعلق الكاتبان اللذان نقلاً تجاربه في كتابيهما (العلم من منظوره الجديد) قائلين:
“فهو قد بدأ مسلحاً بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته آخر الأمر على الإفراد بأن العقل البشرى والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين. ويعلن بانفيلد: يا له من أمر مثير إذاً، أن نكشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح وإذا كان العقل والإرادة غير مادتين”.[6]
وبنهاية هذا المقال يكون قد تم تفنيد النظرة المادية للعقل فلسفياً وعلمياً، ويبقى المعنى المتجاوز هو الأصل الذي من خلاله يستطيع العقل بناء نظامه الأخلاقي وتجاوز واقعه المادي، ومع أننا لا ننكر ضرورة النشاط الدماغي للتفكير لكنه شرط ناقص يحتاج إلى روح كي تمكنه من التحكم وهذا ما عبر عنه المسيري في حواراته عندما قال: حينما تغمض عيناك فإنك تبصر لأن الإنسان له بصر وبصيرة، عين ٌ حسية مادية ترى الأشياء وعينٌ روحية تخترق السطح لتصل إلى البنية الكامنة وإلى طبيعة الوجود.[7]
[1]أبو الفداء، من مخازي كهنة الإلحاد؛ العلم الحديث يبطل حرية الإرادة، مجلة التوحيد، العدد الثالث عشر.
[2]الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، د. عبدالوهاب المسيري، دار الفكر 2007.
[3]الإسلام بين الشرق والغرب ، علي عزت بيجوفتش، دار الشروق.
[4] ماركس وإنجلز، مختارات، ترجمة إلياس شاهين، دار التقدم، روسيا.
[5] Sam Harris, The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason, (2005)
[6] روبرت م أغروس و جورج نستانسيو، العلم من منظوره الجديد، ترجمة د. كمال حلايلي، عالم المعرفة 1989.
[7] عبدالوهاب المسيري، حوارات الثقافة والمنهج، دار الفكر 2009.
الإلحاد واللاعقلانية
الملحدون ليسوا عقلانيين كما يظنّ البعض..
لويس لي- ترجمة: وائل وسام
- تحرير: غادة الزويد
يعتقد الكثير من الملحدين أن إلحادهم هو نتاج التفكير العقلاني، فهم يستخدمون حججًا مثل “أنا لا أؤمن بالله؛ لأني أصدق العلم” حتى يثبتوا أن الدليل والمنطق -ليس الاعتقاد الدوغمائي بوجود كائنات ميتافيزيقية- الذي يدعم تفكيرهم.
لكن: من قال أن مجرّد إيمانك بالبحث العلمي المبني على الأدلة -الذي يخضع لفحوصات وإجراءات صارمة- يستلزم بالضرورة أن يعمل عقلك بالطريقة نفسها؟
عندما تسأل الملحدين عن سبب تحوّلهم إلى ملحدين (كما أفعل في عملي) فإنهم غالبًا يشيرون إلى اللحظات التي أدركوا فيها أن الدين ببساطة لا معنى له!
ومن الغريب أن العديد من المتديّنين لديهم وجهة نظر مماثلة عن الإلحاد؛ ويحدث هذا عندما يصل اللّاهوتيون وغيرهم من المؤمنين إلى أنه من المحزن أن تكون ملحدًا؛ فأنت بذلك تفتقد الكثير من الأسس الفلسفيّة والأخلاقيّة والروحيّة والجماليّة التي يمكن للأشخاص المتديّنين الوصول إليها في صحراء العقلانية المقفرة.
العلم من أجل الإلحاد:
المشكلة التي يحتاج أي مفكّر عقلاني إلى معالجتها هي أن العلم يوضّح بشكل متزايد أن الملحدين ليسوا بأكثر عقلانية من المؤمنين في الواقع؛ إنما الملحدون معرضون تمامًا -مثل الشخص المتديّن- إلى “تفكير القطيع” وغيره من أشكال الإدراك الغير عقلانية.
على سبيل المثال: يمكن أن ينتهي الأمر بالأشخاص المتديّنين وغير المتديّنين على حدٍ سواء إلى إتباع كلام الرموز المؤثرين (مثل ريتشارد دوكنز أو سام هاريس) دون تمحيص، فغالبًا ما تفضّل عقولنا ذلك على السعي وراء الحقيقة، كما اكتشف عالم النفس الاجتماعي جوثان هايدت.
حتى الأفكار الإلحادية نفسها ليست لها تلك العلاقة المباشرة بالتحقّق العقلاني التي يزعمها الملحدون، نحن نعلم الأن على سبيل المثال: أن الأبناء الغير متديّنين المولودين لآباء وأمّهات متديّنين يتجاهلون معتقداتهم لأسباب لا علاقة لها بالمنطق العقلي؛ حيث توضّح أحدث الأبحاث في مجال “المعرفة والإدراك” أن العامل الحاسم هو التعلّم مما يفعله الآباء بدلاً من إتباع ما يقولونه، فإذا قال أحد الوالدين أنه مسيحي، لكنه يتخلّى عن فعل أشياء يقول أنها من صميم دينه مثل – الصلاة، أو الذهاب إلى الكنيسة ــ فإن أطفالهم ببساطة لن يتقبّلوا فكرة أن الدين منطقي!
وهذا معقول تمامًا بمعنى ما، لكن الأطفال لا يعالجون هذا على المستوى المعرفي، فعلى مدى تاريخنا التطوري كان البشر غالبًا ما يفتقرون إلى الوقت الكافي لفحص الأدلة وتقييمها حيث يحتاجون إلى إجراء تقييمات سريعة وهذا يعني أن الأطفال -إلى حدٍ ماـ يمتصون فقط هذه المعلومة الحاسمة، وهي في هذه الحالة: أن المعتقد الديني لا يبدو مهمًا بالطريقة التي يدّعيها الآباء!
حتى الأطفال الأكبر سنًا والمراهقون الذين يفكرون فعلاً في موضوع الدين، هم لا يفكرون فيه بشكل مستقل ومتجرّد كما يخيّل إليهم.
توضّح البحوث الجديدة أن الآباء الملحدين (وغيرهم) يورّثون معتقداتهم إلى أبنائهم تمامًا مثل الآباء المتديّنين، وذلك من خلال تبادل ثقافاتهم وفعلهم بقدر حججهم.
يرى بعض الآباء أن أبنائهم يجب أن يختاروا معتقداتهم بأنفسهم، ولكن ما يفعلونه بعد ذلك هو ترسيخ طرق معيّنة للتفكير في الدين.
مثال: فكرة أن الدين هو مسألة اختيار وليس حقيقة إلهيّة. وليس من الغريب أن كل هؤلاء الأبناء تقريبًا ٩٥٪ منهم ـ ينتهي بهم الأمر إلى اختيار الإلحاد ـ
العلم مقابل الاعتقاد:
هل من المحتمل أن يكون العلم في صف الملحدين أكثر من المتديّنين؟ يمكن تطعيم الكثير من أنظمة الاعتقاد بشكل أو بآخر بأنواع من المعرفة العلمية.
بعض أنظمة الاعتقاد تنتقد العلم بشكل علني، وتعتقد أن لديه الكثير من التأثير على حياتنا، في حين أن هناك أنظمة أخرى مهتمة بشكل كبير لإدراك المزيد من المعرفة العلمية والاستجابة لها.
لكن هذا الاختلاف لا يعيّن بدقّةٍ ما إذا كنت متديّنا أم لا، فبعض التقاليد البروتستانتية على سبيل المثال: ترى أن العقلانية أو التفكير العلمي عنصر أساسي في الحياة الدينية، وفي الوقت نفسه يسلط جيل جديد من ملحدي ما بعد الحداثة الضوء على حدود المعرفة الإنسانية، ويرون أن المعرفة العلمية محدودة للغاية وتخلق إشكاليات لا سيّما عندما يتعلق الأمر بالأسئلة الوجودية والأخلاقية، وقد يتبع هؤلاء الملحدين على سبيل المثال: مفكرين مثل تشارلز بودلير في الرأي القائل بأن المعرفة الحقيقية لا توجد إلا في التعبير الفني.
وعلى الرغم من أن العديد من الملحدين يرغبون في اعتبار أنفسهم مؤيّدين للعلم ومؤثرين به، فإن العلم والتكنولوجيا بحد ذاتها قد تكون أحياناً أساساً للتفكير الديني أو المعتقدات أو شيء قريب من التفكير الديني.
على سبيل المثال: كان بروز حركة ما بعد الإنسانية (الإنسان الخارق) التي تركز على الاعتقاد بأن البشر يستطيعون وينبغي أن يتجاوزوا حالتهم الطبيعية الحالية، ويكسروا القيود من خلال استخدام التكنولوجيا = مثالاً على كيفية أن الابتكار التكنولوجي يمكنه أن يؤسس لظهور حركات جديدة تشترك في الكثير مع أنماط التديّن.
حتى بالنسبة لأولئك الملحدين الذين يشككون في ما بعد الإنسانية، فإن دور العلم لا يقتصر على العقلانية وحسب؛ بل يمكنه أن يوفر الأسس الفلسفيّة والأخلاقيّة والروحيّة والجماليّة، التي توفرها المعتقدات الدينية للآخرين.
البيولوجيا على سبيل المثال:- هي أكبر بكثير من مجرّد موضوع للترف الفكري، فعند الملحدين البيولوجيا توفّر “المعنى” والراحة النفسية بنفس الطريقة التي يوفرها الإيمان بالله للمؤمنين.
يظهر علماء النفس أن -الإيمان- بالعلم يزداد في مواجهة التوتر والقلق الوجودي، تمامًا كما يشتد التمسّك بالمعتقدات الدينية لدى المؤمنين في مثل هذه المواقف.
من الواضح إذن أن ربط كونك ملحداً بالعقلانية وحدها = تبدو فكرة غير منطقية! لكن الخبر السّار للجميع هو أن العقلانية في الأصل مبالغ فيها، فالإبداع البشري يعتمد على أشياء أكبر من التفكير العقلاني بكثير!، كما يقول هايدت عن “العقل السليم”، فإن القدرة على اتخاذ قرارات سريعة واتباع الشغف، والتصرّف بناءً على الحدس هي أيضًا صفات إنسانية مهمّة وضرورية لنجاحنا.
من المفيد أننا اخترعنا شيئاً -على عكس عقولنا- مبني على المنطق وقائم على الأدلة وهو: العلم.
عندما نحتاج إلى الدليل المناسب يمكن للعلم في كثير من الأحيان توفيره -طالما الموضوع قابل للاختبار- والأهم من ذلك، أن الأدلة العلمية لا تميل إلى دعم وجهة النظر القائلة ” أن الإلحاد نتاج للتفكير العقلاني فحسب، وأن الإيمان ما هو إلا استجابة لاحتياجات وجودية.”
الحقيقة هي أن البشر مختلفين عن العلم، لا أحد منهم معصوم عن فعل غير عقلاني، كما لا يمكنهم العيش دون مصادر توفّر لهم المعنى والاستقرار الوجودي،
ولحسن الحظ لا أحد مضطر إلى ذلك.
- لويس لي: عالمة في علم الاجتماع في جامعة كينت البريطانية، وهي مديرة مشروع ” فهم عدم الإيمان”، ويهدف إلى دراسة ظاهرة الإلحاد علميًا. يشترك فيه مجموعة من علماء النّفس والاجتماع من كافة أنحاء العالم، وتشارك فيه عدد من الجامعات مثل جامعة كوفنتري، وجامعة الملكة في بلفاست، وجامعة سانت ماري مع جامعة كينت.