الكتب
صراع مع الملاحدة حتى العظم
السببية_في_العلم_وعلاقة_المبدأ_السببي
الكتاب الموجز لنظرية الوتر
وهم الشيطان
رحلة عقل هكذا يقود العلم أشرح الملاحدة
الإلحاد في ضوء المنهج العلمي
الحرية العلمية في الشريعة الإسلامية
الدين بين معطيات العلم وإثارات الإلحاد
العلم مؤمن والإلحاد كافر
العلم في مواجهة المادية قراءة في كتاب حدود العلم لسوليفان
الإلحاد ..وثوقية التوهم وخواء العدم
الأسس الميتافيزيقية للعلم
العلم_في_مواجهة_المادية
الوجه الأخر للعلم
مدخل لنقد الإلحاد
وهم دوكينز ؟ الأصولية الملحدة وإنكار الإله
انشتين والنسبية
الخداع العلمي للملحدين الجدد
سقوط الإلحاد على ضوء العلوم الحديثة
العلم والإلحاد
المرئيات
العلم ليس ملحدا
سيكولوجية الإنسان الملحد
مناقشة الإلحاد
موجة الالحاد: حقيقة عقدية أم ظاهرة سياسية؟
حول معنى القانون الفيزيائي والقانون الطبيعي
العلم و الالحاد – ايجيكولوجي
لماذا يوجد علماء ملحدون؟ وماذا عن الصراع بين العلم والدين؟
نفي الترادف بين الحقائق العلمية وجهالات شحرور
سهم الزمن
قطة شر ودنجر
النسبية الخاصة
الأكوان المتوازية
النسبية العامة
ما هي المادة؟
الثقوب السوداء
المادة المضادة
تمدد الكون
موجات الجاذبية
التأثير الشبحي
الانفجار العظيم
الحضارات العاقلة
ما هي المادة المظلمة؟
البلورات الزمنية
الطاقة المظلمة
فرضية المحاكاة
السفر عبر الزمن
العصر الجليدي
تخيل البعد الرابع
أثر الفراشة
انعكاس أقطاب الأرض
اللاشيء
حوار حول كتاب العلم وحقائقه
النقد العلمي لبرنامج Therelslsh (لا تصادم – الجزء 1)
النقد العلمي لبرنامج Therelslsh (لا تصادم – الجزء 2)
العوالم المتعددة بين العلم والعقيدة
مفهوم الإله عند ألبرت أينشتاين
ميكانيكا الكم والمبادئ العقلية الضرورية
الذاكرة الكونية والثقوب السود
هل العلوم الدنيوية تغنينا عن الدين؟
نظرية الكوانتم الفيزيائية.. في صالح الإيمان أم الإلحاد؟
هل العلوم الطبيعية أقرب للموضوعية والحياد من العلوم الدينية والفلسفية؟
الإرهاب العلمي.. انشروا أوراقكم واربحوا نوبل
هل يتعارض التفسير الديني مع التفسير العلمي؟
هل يؤدي العلم إلى الإلحاد؟
هل يتناقض العلم مع الدين؟
هل نؤمن بإله الفراغات كما يقول الملاحدة؟
لماذا نتعلم.. العلم بين الإسلام والمادية!
الإطار كيف صنعوا علمًا لا ينطِقُ عنِ الله؟
هل هدمت ميكانيكا الكم قوانين المنطق فعلا؟
العلموية وميكانيكا الكم العلم ليس إلـٰها
العلم والدين، أربع لغات للّقاء!
العلم عند المسلمين في القرون الوسطى شهادات غربية
أنا أصدق العلم i elieve in siene
موقف علماء الغرب من الإلحاد
كيف يمكن أن يخدعك العلم الطبيعي؟
هل العلوم التجريبية كافية للحفاظ على إنسانيتك ؟
هل خدعت أنا أصدق العلم أكثر من مليون مسلم ؟!
الملحد (أحمد الريس) مؤسس أنا أصدق العلم والباحثون المصريون
صفحة أنا أصدق العلم تنشر فيديو يزعم عدم وجود النبي محمد
صفحة أنا أصدق العلم تقول القرآن بشري من تأليف محمد 1
صفحة أنا أصدق العلم تقول القرآن بشري من صنع محمد 2
الإسلام والعلم : نظرة في أهم الكتب التي تناولت الموضوع
الإيمان بالغيب ضرورة عقلية عند جميع البشر
السوط البكتيري والتعقيد غير القابل للاختزال
العلاقة بين الاسلام والعلم وخطاب الشباب
العلاقة بين الإلحاد والعلم
العلم والوعي ولماذا لا يكون الوعي ماديًا
العلم يعترف مضطرًا بوجود الروح
الفيزيائي الملحد ستيفن وينبرج : يحرج تهربات دوكينز من الضبط الدقيق للكون
مقاطع للدكتور موريس بوكاي صاحب كتاب : الإنجيل والقرآن والعلم
آيات لقوم يعقلون (مترجم)
بعض فوائد بول الإبل علميا
تحرير العلاقة بين الإسلام والعلم
تفسير الوعي في الرؤية الإسلامية وعجز المادية
تفصيل معنى الوعي و معضلة الوعي الصعبة
دقة قوانين الكون تحرج الملاحدة
بين ظلام أوروبا وإشراقة الوحي
سؤال عن نظرية التصميم الذكي وعلاقتها بالتطور
رحلة إلى أقدم جامعات العالم وأعظم مكتبة
قصة السرقة العلمية لتراث المسلمين
القوانين والمعادلات أشياء وصفية مجردة لا تملك الخلق
استحالة تسلسل المؤثرات إلى ما لا نهاية
هل الطاقة أزلية لأنها لا تفنى ولا تستحدث من عدم ؟
دقة قوانين الكون تحرج الملاحدة
دقة الثابت الكوني تحرج الملاحدة
قصائد شكسبير تفضح تهرب هوكينج من الله !!
النسبة الذهبية إحدى علامات الله في مخلوقاته
النسبة الذهبية توجد في الذرة وعالم الكم
تعقيد البروتينات يهدم تجربة ميلر ويُعجز التطوريين
الحمض النووي لغة برمجية ومن الحماقة ألا يكون لها فاعل
تعقيد الخلية الصغيرة هدم التطور وحقق ما كان يخشاه داروين
فيلم برمجة الحياة 1
فيلم برمجة الحياة 2
قصة العالم الفيزيائي بول ديفيز من الإلحاد إلى الإيمان
الحياة الداخلية للخلية
كتاب (العلم في منظوره الجديد)
لسان طائر الطنان العجيب
لورانس كراوس الملحد وخداعه بخلطه بين الشئ واللاشئ والفراغ الكوانتي
ماذا لو كان كلامهم صحيحا ؟
محاضرة القرآن والجنين (غير مترجم)
معنى معضلة الوعي
الخناصر الباطنية الكونية
من فوائد الصيام الصحية
منهجية التعامل مع نطاقات التداخل بين الإسلام والعلم
نسبة تكون البروتينات بالعشوائية
نيوتن يحرج الملحدين والنصارى ويؤمن بإله واحد عظيم
هل الوعي مادي وتفاعلات دماغية فقط ؟
هل تفيد نظرية الأوتار أزلية الكون ؟
هل عين الإنسان فيها عيب ؟ هل تطورت العين ؟
تلسكوب چيمس ويب وتفسير نشأة الكون
فلسفة العلوم
كيف تصبح عالما في 3 أيام
قصة المادة الوراثية الخردة
الرؤية الإيمانية للعلم
هل الأسباب العلمية تنفي وجود الله؟
هل تتعارض الأسباب المادية مع الإيمان بالغيب ؟
علاقة الملحد بالعلم علاقة عاطفية روحية وليست علاقة عقلية نقدية
هل فعلا كل العلماء ملاحدة وأن الإلحاد هو الدين الرسمي للعلم ؟
منطلقات العلم في حقيقتها ميتافيزيقية وغير مادية
هل نسلم تسليما أعمى للعلماء وللمجتمع العلمي ؟
هل المجتمع العلمي معصوم ؟ وهل العلماء معصومون ؟
العلم المعتبر هو المبني على الدليل
لماذا معظم العلماء يومنون بالحتمية؟
ما الفرق بين العشوائية والميكانيكية والغائية ؟
هل الاحتمالية في قوانين الطبيعة تغني عن الاحتياج لفاعل أو خالق ؟
جواب سؤال عن قصور العقل عند مبدأ السببية وعلاقة ذلك بفيزياء الكم
الجينات والاختيار
المقالات
إزالة الشحبار!
خمس نقاط مركزة كل منها يغير نظرتك لكثير من الأمور !
- خطأ كبير لا ننتبه له حين نتكلم عن العلم الغربي وتزييفه
- الخطأ في فرحنا باكتشاف ظواهر “ليس لها تفسير علمي” على اعتبار أنها دليل على وجود الله !
- لماذا نؤمن ببعض الغيبيات الواردة في القرآن والأحاديث الصحيحة مع أنه “ليس عليها دليل من الـScience”
- المشكلة في قسمة “العلم والإيمان”، بل وحتى في قولنا: العلم لا يتعارض مع الإيمان !
- حين يكون “العالِم” غبيا حتى لو كانت علامته عالية في الـIQ-test !
أيها الكرام، في الحلقة الماضية صحَّحنا نَسَب العلم التجريبي السَّينس”science”، وبيَّنَّا أنّه ثمرةٌ لِمَنهج الإقرار بالخالقية الذي يعتمد في بناء المعرفة على كُلٍّ مِنَ: الفطرة والعقل والحِسّ والخبر، وبيَّنَّا أنّ العلم التجريبي بريءٌ من المادية، وأن المادية ما هي إلا إلحادٌ مُقَنَّع، لا يقوم بذاته، ولا يُقدِّمُ أيّةَ منفعة، بل ما هو إلا فَيروس تَقَرصَنَ على منهج الخالقية.
هذا كُلُّهُ يتطلَّب مِنَّا إجراءاتٍ كثيرة لتصويب الأوضاع، الأوضاعِ التي بُنيَتْ على أكذوبةِ نِسبَة العلم التجريبي إلى المادِّية، وهي الأكذوبة التي تشرَّبَتْها عقول كثيرٍ من الناس، وخُدِعوا بها طويلًا. إجراءات تصويب الأوضاع هذه نُورِدُها اليومَ في نِقاطٍ مختصرة، يحتاج كُلٌّ منها إلى تفصيلٍ كثيرٍ لا يتَّسِعُ المقامُ له، لكن أترُكُها لِتَأمُّلِكم مرَّةً بعد مرة.
– الإجراء الأول: علينا أن نكُفَّ عن التقليل من شأن العلم التجريبي والحديثِ عن أمثلة تزويره وكأنَّها جزءٌ أصيلٌ فيه، وكأنَّ العلم التجريبي وليدُ أعدائنا وبضاعةُ خَصْمنا، التي تقف في مقابل إيماننا، بل العلم التجريبي هو ابن منهجنا الفِطْريّ المُقِرِّ بالخالقية، الابن المُختَطَف، ما عليه من تزوير وكذب في التفسير هو السخام والروائح الكريهة، التي وضعها المُختَطِفُ على العلم التجريب؛ ليَنسِبَهُ إليه.
وكذلك تأليه العلم التجريبي، سخام لا ذَنْبَ للولد فيه، وكأنني بالعلم التجريبي يصرخ ويقول: “لماذا تَسُبُّونَني مع المُقَنَّع الذي اختطفني؟ أما يكفي تقصيركم في حقي؟ وتركي لهذا المُختَطِف؟ ثم أنتم تنتقصون منِّي معه وكأنَّنا شيءٌ واحد؟”. مَهمّتنا هي غسل السخام والروائح الكريهة، وأن نعيد إلى العلم التجريبي نصاعته وأن نسعى لأن نكون روَّادَه، هذا كُلُه ُيشْعِرُكَ بأصالتك وأصالة الإيمان الذي تحمله في هذا الكون.
– الإجراء الثاني: هو أن نَكُفَّ عن استخدام عباراتٍ مثل: “هذه الظاهرة ليس لها تفسيرٌ علمي” دليلًا على وجود الخالق؛ فنحن بهذا كأننا نُسَلِّم بأن العلم التجريبي هو وليد المقنّع؛ فنريد أن نثبت عجزه ونتطلَّبَ دليلًا من خارجه على وجود الخالق. ماذا تريد أكثر من العلم التجريبي دليلًا على الخالق؟ ماذا تريد أكثر من انتظام الظواهر وإحكامها؟ بل ووجودها أساسًا؟ وافتقار ذلك كُلِّهِ إلى خالقٍ حكيمٍ عليمٍ قديرٍ إليه المنتهى، ولا يحتاج إلى غيره في وجوده. هذا كُلُّه خير دليل لِمَنْ سلِمَتْ عقولهم وقلوبهم، ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾
خوارق العادات، التي ليس لها تفسير علمي، أيَّدَ الخالقُ بها الرُّسل لإثبات أمر ٍزائدٍ على وجود الخالق، ألا وهو: أنَّهم -بحقٍّ- رُسُلُ هذا الخالق، أمَّا وجودُه -سبحانه- فانتظام الكون، وما يصفه العلم التجريبي من ذلك دليلٌ كافٍ على الخالق لقومٍ يعقلون.
– الإجراء الثالث: هو أن نبوِّئَ العلم التجريبي –السَّينس- مكانه المناسب بين إخوانه بعدما استرددناه إلى بيتنا الإيماني. الأب في هذا البيت، هو منهج الإقرار بالخالقية ومولِّدات المعرفة فيه، إخوان العلم التجريبي هم باقي العلوم والمعارف الصحيحة، مما لا يحتاج في إثباته إلى دخول المختبر واستخراج الأنابيب وإجراء التفاعلات. فما صحَّ عن الله ورسوله من أخبارٍ غيبية عِلْم. فمولِّدات المعرفة في منهج الإقرار بالخالقية، دلّتنا على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي أخبرنا بكثير من الغيبيات. فالعلم التجريبي والغيبيات فرعان لأصلٍ واحد، وليس شرطًا أن يَدُلَّ أحدُهما على صِحَّة الآخر حتى نُصدِّقَ به، بل يكفي أن يدلّ على صِحَّتهما أصلُهما المشترك.
إذا فهِمْتَ هذا، علِمْتَ أنه لا معنى لمعارضة الغيبيات بالعلم التجريبي، علِمْتَ مثلًا لماذا نؤمن بالحديث الصحيح الذي فيه أنَّ لجبريل -عليه السلام- (600) جناح دون أن يكون على ذلك دليلٌ من العلم التجريبي. وعلِمْتَ في الوقت ذاته مدى الجهل في نشر مقالٍ بعنوان: “أول دليل علمي (يقصدون من العلم التجريبي) يثبت وجود حياة أخرى بعد الموت”.
– الإجراء الرابع: هو أن نُلغيَ من قاموسنا قسمة العلم والإيمان، المبنية على وهم إمكان الفصل بينهما؛ هذه القسمة إخواني تحمل في ثناياها ثلاثَ مشكلات:
أولًا: توهُّمُ أن العلم محصورٌ بالعلم التجريبي مع إهمال ما يَثبُتُ بالعقل أو النقل الصحيح -أي الدليل الخبري- مع أنَّ هذه أيضاً علوم.
ثانياً: توهُّمُ أنَّ العلم التجريبي يقوم مستقلًا عن مولِّدات المعرفة في منهج الإقرار بالخالقية.
ثالثاً: توهُّمُ الإيمان وكأنَّه خَيارٌ عاطفي اعتباطِيّ بلا حجة ولا برهان.
الإجراء الخامس: هو إعادة تعريف العالِم، نحن نقول عن باحِثِي الغرب الملحدين علماء اختصارا وتنزلا، وإلا فهم، كلما نطقوا بهذيان حُمَّى المادية، يكونون من أجهل الخلق، مهما حملوا من شهاداتٍ ومهما كانت علاماتهم في اختبار الآي كيو “IQ-Test”؛ فعندهم جهل جوهري حرمهم من نفع معرفتهم، ولو كانوا علماء حقاً فـ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
وجود الخالق وعلاقته بالقوانين والنظريات العلمية
بقلم: فاتن صبري
Www.fatensabri.com
من كتاب: الإلحاد – اعلان نجاح ام فشل ؟
لتجنب ذكر الخالق، تُعزى أنظمة مترابطة إلى الطبيعة العشوائية
على الرغم من أنهم لم يعترفوا بذلك أبدًا، يشير العلماء من الملحدين إلى الخالق بأسماء أخرى (الطبيعة الأم، قوانين الكون، الانتخاب الطبيعي “نظرية داروين”، إلخ…)، في محاولات بائسة للهروب من مَنطق الدين والاعتقاد بوجود خالق.
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (النجم:23)
كان مما قرأت وأعجبني:
أن الداروينية الجديدة تعتمد على حدوث التغيرات في صفات الكائنات الحية عن طريق الطفرات.
والطفرات ما هي إلا (تخريب) في المادة الوراثية!
فعلينا أن نصدق أن الأخطاء المتتالية هي التي أنتجت الإبداع الذي نراه في الكائنات!
وهذا كمن يقول إن طفلاً ظل يلعب في نظام الكمبيوتر لسنوات، وهذه الضغطات العشوائية على لوحة المفاتيح أنتجت نظام أفضل بطريق الصدفة والعشوائية.
إن وصف العشوائية الذي يُطلق على مبدأ ونظرية التطور الكبير يعني أننا:
لا نعرف ماذا يقف وراء التطور
لا نعرف آليات ظواهر التطور
لا نعرف النمط الذي يتبعه
لا نستطيع التنبؤ بظواهره
وبالرغم من كل تلك “اللامعرفيات”، فالبعض يعتقد بأن التطور الكبير نظرية علمية سليمة! فالتطور الكبير بالنسبة للمؤمنين به هو نظام “صندوق أسود”.
فالتطور معلوم والكيف مجهول، والإيمان به بالنسبة لأتباعه واجب، والسؤال عنه بدعة علمية بلا جدال ولا نقاش.
عدم الرغبة لإدراك مصدر قوانين الكون يؤخذ كذريعة لنفي وجود المصدر
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (يونس:39)
يقولون: أنتم المُؤمنون تتبَنَّون مبدأ “إله الفَجوات” أي كلما وجــدتم ثغرة في العِلم، نســبتم إلى الإلــه القيام بها.
نقول لهم: عدم الرغبة أو القدرة لإدراك مصدر قوانين الكون كذريعة لنفي وجود المصدر، هو في الواقع أكبر فجوة في الإدراك والمنطق، “إلحاد الفجوات”.
الإيمان بالخالق يتوافق مع دليل الوجوب
لم يدَّعِ أحد أنه الخالق إلا صاحب الأمر والخلق وحده، هو من كشف عن هذه الحقيقة، عندما أرسل رسله إلى البشرية. عند العثور على حقيبة في مكان عام، ولم يأتِ أحد ليدَّعي أنه صاحب الحقيبة باستثناء شخص واحد، قام بتقديم مواصفات الحقيبة ومحتوياتها، تصبح الحقيبة من حقه إلى أن يظهر مدعي بعكس ذلك، وهذا حسب قوانين البشر.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (سبأ:22)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنبياء:22)
الإيمان بوجود خالق يتوافق مع دليل القصد والغاية
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات: 56: 57)
الإيمان بخالق حكيم يتوافق مع دليل التناسق والنظام
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (الملك:3)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر:49)
إن وجود كوارث وأمراض في الكون لا ينفي وجود الإتقان، فلو لم نجد اتقان للكون أصلاً لما أدركنا وجود أشياء غير متقنة. إن الادعاء بوجود عيب في التصميم ما هو إلا قصور في إدراك الحكمة من الأشياء، فالمؤمن بوجود خالق للكون يؤمن بأنه لا يقع بالكون شيء بلا غاية، إذاً، الحياة الدنيا بداية لرحلة أبدية يستأنفها الإنسان بعد الموت بالبعث والحساب ومن ثم الجزاء، ووجودنا في هذه الدنيا هو لهدف وغاية سامية وهي معرفة الله عز وجل، وعبادته والتوجه إليه مباشرة بالدعاء والطلب، والصبر عند البلاء والشكر في الرخاء.
تسخير الكون للإنسان من القدرة والحكمة الإلهية
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (النحل:5)
ملائمة الكون لنشأة الإنسان من العناية والرحمة الإلهية
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (إبراهيم:32)
تخصيص الهيئة الأفضل لموجودات الكون من الحكمة والرحمة الإلهية
أفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (٦٩) لو نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (الواقعة:68)
أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (الفرقان:45)
الأزواج في المخلوقات دليل على وجود الخالق، وبطلان التطور
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس:36)
يمكن العثور على الخلق الذاتي في الكائنات أحادية الخلية، لكن افتراضًا بوجود الخلية الأولى، وبالتالي فهو أسلوب تكاثر، ولو سلمنا جدلاً بأن المخلوق ذاتي التكاثر يمكن أن يتطور، فهذا لا ينطبق على الأزواج، لأن تركيبة الكائن الحي وخلقه من أجل التزاوج يقتضي الدراية بما يريد أن يتطور إليه كل زوج منها بدقة كاملة من اختلاف في تركيبة الأجهزة ووظائفها وأماكنها، وتفاصيل كثيرة.
الإيمان بالخالق يتوافق مع قانون السببية
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (الطور:35)
فرضية عدم وجود خالق للكون تتنافى مع كثير من القوانين الطبيعية التي نراها من حولنا، فمثال بسيط، كأن نقول إن أهرامات مِصر وجدت من لا شي كافي أن يدحض هذا الاحتمال.
الخلق الذاتي هو استحالة منطقية وعملية، والذي يعني أن شيئًا ما كان موجودًا وليس موجودًا في نفس الوقت، والقول إن الإنسان خلق نفسه يعني أنه كان موجودًا قبل أن يكون موجودًا، وهذا مستحيلاً.
حقيقة فناء الكون يتوافق مع القانون الثاني للثرموديناميك الذي يحتم بالفناء
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن:26)
يقول هذا القانون أن الكون يتجه الآن نحو الموت الحراري عندما تتساوى حرارة جميع الأجرام، فالكون كما يقول العلماء يتجه نحو التبسيط والتفكيك ومن ثم الفناء للكون وما يحتويه، بينما يقول الإلحـاد أن الكون يتجه نحو التعقيد والتطور. لذا يعتبر العلماء أن هذا القانون يهدم نظرية داروين.
الإيمان بالخالق يطابق مبدأ باركلي الذي يحتم بوجود عقل يشهد على الأشياء
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصلت53)
ينص هذا المبدأ على أننا نحن البشر لا نعلم عن العالم الخارجي إلا ما في أذهاننا من مدركات حسية، والعقل يحتم وجود عقل كلي يستوعب جميع الأشياء ويكون شهيدًا عليها، (بمعنى وجود قوة خارجية مختلفة عن البشر).
الإيمان بالخالق يكفل حقوق الإنسان
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13)
الإيمان بالخالق ينفي افتراضية الحياة وكونها لعبة الكترونية
…وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) (الأنبياء)
القول بأن حياة الإنسان عبارة عن لعبة الكترونية تحاكي الواقع استحالة منطقية، فلكي يتمكن الحاسوب المنفذ لعمليات حسابية من محاكاة الواقع، فإنه بحاجة قدرات بنيوية كافية لتوليد الظواهر التي نعيشها في بيئة المحاكاة التي بناها (بيئتنا). لكن اكتُشف أن تخزين المعلومات اللازمة لمحاكاة سلوكيات معينة لبضع مئاتٍ من الإلكترونات فقط، يتطلب عددًا من الذرات أكثر من موجودات الكون! فلا يمكننا تشكيل ومحاكاة فيزياء الكمّ ومبادئها المعقدة بأي تكنولوجيا متقدمة نعرفها حتى على أكبر حاسوب يمكن أن نتخيله.
عقل الإنسان ليس حاسوب آلي، وتميزه يكمن في إدراكه
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (المؤمنون:78)
عقل الإنسان ليس حاسوب آلي يتوقف عن العمل بفشل مكوناته
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (الروم:7)
بقول الملحد الشهير ستيفن هوكينز بأن نهاية الحياة مرتبطة بتلف العقل، كالحاسب الآلي الذي يتوقف عن العمل عندما تفشل مكوناته، كذريعة لنفي يوم البعث.
فنقول له: هل يجعل العقل السليم قلب جسد ميت ينبض ورئته تتنفس؟ بالطبع لا، فهذا ميت زُرع في ميت ولا قيمة له من دون الروح التي خرجت منه، ولهذا فنحن نبحث عن جسد حي به الروح، به قلبٌ ينبض ورئة تتنفس. و حتى لو لم يعترف الملحد بالروح التي يبحث عن أثرها دون اعتراف بوجودها أو بفضل خالقها، فيكفي أن تجارب العلماء العاملين في مجال نقل الدماغ أو الرأس تعترف بذلك.
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون:115)
تشبيه عقل الإنسان بالحاسب الآلي حجة ضد الإلحاد
إن الحاسب الآلي صنعه إنسان ذو عقل محدود للغاية ولم يأت صدفة، فهذا الإنسان صانع الكمبيوتر وهو الأكثر تعقيدًا لم يأت إلى الدنيا صدفة أيضًا، ولابد له من صانع، وإذا كان الحاسب الآلي عند الملحد لا يجد من يُعيده إلى الحياة فذلك لضعف قدرات صانعه، ولو تدبر في خلق نفسه وخلق الكون من حوله بما فيه من بديع الصُنع، لأيقن قوة خالقه ولأيقن بقدرته على إعادته من بعد فناءه.
قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (إبراهيم:19)
تشبيه عقل الإنسان بالحاسب الآلي يؤكد البعث
إذا كان صانع الكمبيوتر يُعيد صناعة بلايين الأجهزة من الكمبيوتر بطُرق هي أيسر عليه من أول مرة صنع فيها الجهاز الأول بل ويصنع ما هو أفضل منه، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن بدأ خلق الإنسان وخلق الكون كله بهذه القدرات الهائلة أن يعجز عن إعادة الإنسان أو الكون بذاته أو يخلق ما هو أفضل منه.
قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الروم:27)
تشبيه عقل الإنسان بالحاسب الآلي يؤدي إلى إدراك الحقيقة
لو أحسن الملحد المقارنة بين الحاسب الآلي والإنسان، لأدرك أن الحاسب الآلي بمكوناته المادية لا قيمة له بدون طاقة، وبرنامج تشغيل يربطه بما حوله من مُدخلات علمية. وكذلك الإنسان لابد له من طاقة تحركه و تبعث فيه الحياة، و تجعله قادرًا على التعرف على ذاته وعلى ما حوله، و تجعله يختلف عن الحجر و الشجر و سائر الحيوان اختلافًا شاسعًا في الإدراك و القدرات، فإذا غابت عنه تلك الطاقة غاب الإدراك، و هذا ما نشاهده في الجنين في بطن أمه في الشهور الأولى من الحمل حيث يكون كتلة لحم لا إدراك فيها، و ما نشاهده في الإنسان بعد الموت حيث يصير كتلة لحم لا إدراك فيها، و ما بينهما نجده مفعم بالحياة و الإدراك، و العقل يُحتم أن الحي يزيد عن الميت بشيء ما يهبه الحياة و الإدراك، كما أن الحاسب الآلي الذي يعمل يزيد عن الذي لا يعمل بالطاقة المحركة، هذا الشيء أسماه الملحد الوعي، و أسماه الله الروح.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء:85)
دحض متناقضة القدرة المطلقة
يقولون: هل يَستطيع الخالق خلق صخرة كبيرة لا يستطيع حملها؟
يرد الله تعالى:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (القصص:68)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) (الحج)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر:67)
فالسؤال الذي يكرره الملحدون عن إمكانية الخالق أن يخلق صخرة أعظم منه فاسد، فهو كمن يسأل عن امكانية رسم دائرة مثلثة الشكل. الخالق الإله الواحد الأحد جلَّ جلاله، لا يَفعل ما لا يليق بجلاله، وتعالى الله عن ذلك عُلوًا كبيرًا.
ولله المثل الأعلى: إن أي قسيس أو إنسان لديه منزلة دينية رفيعة لا يَخرج الى الشارع العام عاري الجسد، على الرَّغم مِن استطاعته فعل ذلك، لكنَّه لا يمكن أن يخرج للملأ بهذه الصورة. لأن هذا التصرف لا يليق بمكانته الدينية.
فرضية الأكوان المتعددة تستوجب وجود خالق
إن الفرضية التي يتداولها الملحدون بخصوص وجود أكوان أخرى كذريعة لنفي وجود خالق للكون هي حجة عليهم، فلو سلمنا جدلاً بذلك فلا بد لهذه الأكوان من خالق.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) (يس)
مبدأ أوكام القائل بأولوية صحة أبسط التفسيرات، يتوافق مع الإيمان
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم:30)
إنه يكفي لأن نقول بين الجماهير من أصحاب الديانات: الخالق إله واحد، لأجابوا بصوت واحد: نعم، نعم الخالق واحد. لكنهم قد يختلفون وقد يذبح بعضهم البعض على نقطة واحدة وهي: الصورة التي يتجسد بها الخالق. فمنهم من يقول: الخالق واحد، لكنه يتجسد في ثلاثة أقانيم أو له ولد، ومنهم من يقول: يأتي الخالق بصورة حيوان أو صنم، تعالى الخالق عن ذلك علوًا كبيرا.
فعلى سبيل المثال: لقد ذكر التقرير المرفوع إلى الحكومة البريطانية في الهند:
” أن النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث هي أن كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في كائن واحد أعلى”.[1]
رهان باسكال واليقين بوجود الخالق
من ضمن النقاط التي يطرحها بعض الملحدين هي: إن كان عليهم الإيمان بإله واتباع دين وكتاب مقدس لهذا الدين، فأي إله وأي دين وأي كتاب عليهم أن يؤمنوا به.
إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (النحل:23)
إن الإيمان بالخالق يجب أن يكون بيقين كامل وليس قائمًا على احتمالات، وهو الخالق للكون وما يحتويه، الواحد الأحد الذي ليس له شريك في ملكه وليس له ولد. ولا يتجسد في صورة صنم أو بشر أو حيوان. الخالق الذي يلجأ إليه جميع البشر في الضراء شاؤوا أم أبوا، بقصد أم بغير قصد.
وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (البقرة:136)
يحث المروجون لنظرية رهان باسكال الشهيرة أتباعها على الإيمان بإله في جميع الأحوال.
رهان باسكال ينص على:
إن آمنت بالله وكان الله موجودًا، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لامحدود.
إن لم تؤمن بالله وكان الله موجودًا، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه خسارة لامحدودة.
إن آمنت بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.
إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود.
فيقول الملحد إن أردت تطبيق هذه النظرية، فأي إله يجب عليّ أن أعبد: المسيح إله النصارى، أم كريشنا إله الهندوس، أم يوذا إله البوذيين أم إله المسلمين؟
فنقول له: عليك أن تؤمن وتعبد من يلجأ إليه الجميع في الضراء، خالق بوذا وكريشنا والمسيح وجميع البشر، الذي خلقك ويتوفاك عند الممات. إن فاقد الشيء لا يعطيه، فهل يعقل أن يساوى بين الملك وعامة الشعب في الطلب؟
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (يونس:104)
والملحد مؤمن شاء أم أبى، ولكنه يُظهر الكفر ويبطن الإيمان ظلمًا وعلوا.
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (النمل:14)
على سبيل المثال: عندما يدرك ركاب طائرة سقوطها الحتمي، فعلى اختلاف دياناتهم وطوائفهم يتوجهون إلى القوة التي في السماء لنجدتهم بما فيهم الملحدين، وفي هذه اللحظة يكونوا قد توحدوا على دين الاسلام، لكن عندما يتيقنوا من نجاتهم فإنهم يعودون إلى اتخاذ الوسطاء ليتفرقوا من جديد.
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (العنكبوت:65)
ويؤكد القرآن على أن التصريح بعدم الإيمان بخالق للكون ما هو إلا عنادًا واستكبارا.
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (غافر:56)
فكما توجه الجميع نحو الخالق مباشرة في الضراء، فكان لا بد لهم التوجه إليه مباشرةً في السراء والضراء، وهذا هو الإله الذي يدعو دين الإسلام لعبادته، وللإيمان بخاتم رسله محمد عليه الصلاة والسلام، والإيمان بكتابه المقدس وهو القرآن الكريم.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة:136)
كما أن العديد من الأنبياء والرُّسل الذين أرسلهم الخالق للأمم المختلفة، ذُكرت أسمائهم في القرآن الكريم (مثل المسيح، موسى، إبراهيم، نوح، داود، سليمان، إسماعيل، إسحاق ويوسف، إلخ….)، هناك آخرون لم يُذكروا. فليس من المستبعد كون أصل بعض الرموز الدينية المقدسة في الديانات الوضعية أنبياء قد عبدتهم أقوامهم وقدستهم على مر الزمن من دون الله. كما فعل قوم نبي الله نوح عندما قدسوا وعبدوا الصالحين منهم.
“وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ …” (النساء :164)
يقول علي عزت بيجوفيتش:
“كتب أرسطو ثلاثة كتب علمية، في الطبيعيات، في السماوات، في الأرض، هذه الكتب الثلاثة لا توجد فيها اليوم جملة واحدة صحيحة علميًا، الكتب الثلاثة من منظور علمي تساوي صفرًا من عشرة، بينمـا القرآن وكما يقول موريس بوكـاي في كتابه الشهير “القرآن والإنجيل والتوراة بمنظور العلم الحديث” : “الحقيقة أني لم أجد آية واحدة من القرآن الكريم تخالف حقيقة علمية واحدة، بل لقد سبق القرآن العلم الحديث في مناح كثيرة، وصحح كثيرًا من النظريات العلمية التي كانت سائدة في عصره ، على سبيل المثال فكرة أن المياه الجوفية تكونت عن طريق هوة عميقة في قاع القارات نقلت المياه الجوفية من المحيطات إلى أعماق الأرض، هل صادق القرآن هذه الخرافة العلمية التي كانت سائدة في ذاك العصر؟
أم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ… (الزمر: 21).
فمصدر الميـاه الجوفية هو الينابيع المتكونة من الأمطـار، وليس فجوة أرسطو التي في عمق القارة والتي كانت سائدة في ذلك الوقت”.
=================================
[1] موسوعة قصة الحضارة، ول ديورانت، مجلد 3 ص 209.
هلْ أغنانا العلمُ عنِ الخالقِ؟
الحمدُ للهِ الذي خلقَ فسوَّىٰ، والذِي قدّرَ فهدَىٰ، والصلاةُ والسلامُ علَى مَن جاءَنَا بالهُدَى الذِي يصلحُ بهِ حالُ الدُّنيا، وبهِ بِرحمةِ ربنا نبقَى فِي الجنةِ بإذنهِ أبدًا..
تتعالَى أصواتٌ بِشتَّى المُخادَعاتِ زاعمةً أنَّ الإنسانَ قد صارَ غنيًّا عن ربِّهِ بعدمَا مَلكَ مفاتحَ العلمِ يغزُو الفضاءَ ويبتكرُ ما شاءَ محقّقًا الرفاهيةَ المنشودةَ، فلم يعُدْ بحاجةٍ لِلخالقِ فِي تفسيرِهِ أو تدبيرِهِ ولَا فِي البحثِ عن السعادةِ ولا العبادةِ، ولا الإيمانِ بوجودِ الربِّ سبحانَهُ!
هكَذا زعمُوا وأذاعُوا في الآفاقِ ما قالُوا، وبإذنِ ربِّ العالمينَ نسلّطُ الضَّوءَ علَى حقيقةِ الأمرِ ليتبَيَّنَ لكلِّ إنسانٍ عبوديتُهُ وافتقارُهُ؛ عسَى أنْ نفوزَ بالرضوانِ ونعوذَ بربنَا من الخسارةِ.
وتناولُ الإشكالِ يكونُ بإذنِ اللهِ من خلالِ ثلاثةِ محاورٍ:
١- مسألةُ الوجودِ.
٢- الغايةُ.
٣- هل أغنانَا العلمُ حقًّا؟
وهذا السؤالُ قد يقذفُ به ملحدٌ في وجهِ المؤمنِ، وفي تناولِ تلكَ النقاطِ نُبَينُ بإذنِ اللهِ تعالَى الخللَ في الرؤيةِ، وعدمَ فهمِ الملحدِ للرؤيةِ الإيمانيةِ، ولذلكَ سيكونُ الكلامُ بإذنِ اللهِ منطلِقًا من رؤيةٍ إيمانيّةٍ دونَ تفصيلٍ كبيرٍ فِي براهينِ الإيمانِ، والتي يجدُرُ بسطُهَا في غيرِ هذا الموضعِ، ولكنّها كلماتٌ لِتثبيتِ المؤمنِ وبيانِ عدمِ إحاطةِ الكافرِ برؤيةِ الحقِّ.
أولًا: مسألةُ الوجُودِ:
إنَّ الإيمانَ باللهِ ضرورةٌ معرِفيّةٌ فِطريّةٌ نفسيّةٌ، لَا يمكنُ لعقلٍ سليمٍ أنْ يفرَّ منْها، واستطاعةَ الإنسانِ تحقيقَ رفاهيَّتِهِ لا تعنِي إنكارَ البديهِيِّ من الأُمورِ، وكأنَّنا ننكرُ وجودَ الشمسِ لأنَّنَا نَزعمُ الاكتفاءَ بالمصابيحِ، فهَل يقولُ بهذا ذُو رأيٍ رشيدٍ؟
ومِن ثمَّ فإنَّ تبريرَ البعضِ لموقفٍ إلحادِيٍّ بِدعوَى تحقيقِ تقدُّمِ الإنسانِ للرفاهيةِ التِي ينشُدُها البشرُ يعدُّ قفزًا حكميًّا يستندُ لِدعوَى فيها انفكاكٌ بينَ مقدمتِها ونتيجتِها، فتقدُّمُ الإنسانِ لَا يعنِي أنَّهُ بِلَا خالقٍ، بَلْ إنَّ ذلكَ العقلَ الإنسانيَّ الذِي يبتكرُ يثيرُ الدهشةَ ويقهرُ القلوبَ لتسبحَ بحمدِ خالقِهَا.
وينبغِي التنبيهُ هُنا إلَى أنَّنا لَا نفصلُ في براهينِ وجودِ اللهِ -وهيَ كثيرةٌ قاطعةٌ- ولكنّنا نُبيِّنُ مغالطةَ الربطِ بينَ تقدُّمِ العلومِ وبين دعوَى الاستغناءِ عنِ الإيمانِ بالخالقِ.
ثانيًا: الغايةُ:
السيرُ معَ هذَا الإشكالِ يستدعِي وقفةً لضبطِ الطريقِ؛ فالغايةُ يحدِّدُها المستشكلُ تعسفًا ومصادرةً بلا برهانٍ، إذ جعلَ الرفاهيةَ والاستمتاعَ غايةَ الوجودِ الإنسانيِّ، ومن لمْ تنضبطُ لديهِ الأصولُ يفقدُ البوصلةَ..
قالَ تعالَى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر_٣]، فالإنسانُ يتميزُ عنْ غيرِهِ مِنَ الكائناتِ التِي يراهَا إذ تعيشُ تلكَ المخلوقاتُ للغرائزِ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد_١٢]، ولكن يحيا الإنسانُ في ظلالِ الوحيِ وهو يسعَى نحوَ غايةٍ أكبرَ؛ إذ يعلمُ أنَّ للحياةِ معنًى، ولوْ حققَ سعادةً دنيويةً فيظلُّ مفتقرًا لربهِ فِي نيلِ السعادةِ الأبديَّةِ.
ثالثًا: هلْ أغنانَا العلمُ حقًّا؟
لَا يزالُ الإنسانُ مفتقرًا لربِّهِ فِي كلِّ شيءٍ فِي حياتِهِ، وسيظَلُّ كذلكَ مَهمَا تبدَّلتْ الأحوالُ، وذلكَ علَى مستوَى الأخلاقِ والتشريعاتِ والمعاملاتِ والأملِ والسكينةِ وكلِّ شيءٍ، وفِيمَا يلِي بإذنِ اللهِ إيجازٌ لَا يمكنُ أنْ يزعمَ بِهِ الإنسانُ إحاطةً بفضلِ اللهِ ودلالةِ افتقارِنَا إليهِ، فمهما قُلنا فلَنْ نحصِيَ ذلكَ ولَا القليلَ منهُ، قال تعالى: {وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم_٣٤].
١- الأخلاقُ:
رغمَ فطريةِ القيمِ واجتماعِ الناسِ علَى استحسانِ صفاتِ الكمالِ كالعدلِ والحكمةِ والصدقِ واستقباحِ نقيضِهَا إلَّا أنَّ الناسَ ينتكسونَ ويختلفونَ فِي إسقاطِ الحكمِ القِيَمِي علَى تفاصيلِ الأفعالِ التِي يكمُنُ فِيها الشيطانُ، فَقبِلَ الناسُ عريٍّا معلومٌ قبحُهُ بداهةً في أسلافِهِم، وقبلُوا شذوذًا يأنفُ من السماحِ بِه كلُّ عاقِلٌ، وأتاحُوا الزنَا وأباحوهُ، ومَن رفضُوا تعددِ الزوجاتِ لَم يُبالُوا بتعددِ الخليلاتِ، ومؤسساتٌ تضعُ سنًّا للزواجِ لا يسمحُ لإنسانٍ أن يسبقهُ إلَّا بالزّنا لو شاءَ بدعوَى الحريةِ.. فأينَ الحقُّ؟
هُنا يكونُ ضبطُ البوصلةِ، واتجاهُ القلبِ والنظرُ إلَى السماءِ؛ فمَن خلقَ الناسَ أعلمُ بما يُصلِحُهُم، واللهُ يحكمُ بينَ الناسِ فيمَا اختلفُوا فيهِ، فيظلُّ الإنسانُ فِي هذَا الزمانِ السائلِ مفتقرًا لوحيٍ من ربّهِ يضبطُ لهُ الرؤيةَ.
وثمَةَ زاويةٍ أُخرَى تُظهِرُ افتقارَ الناسِ لِربِّهِمْ فِي ضبطِ نظامِهِم القيَمِي، وهيَ زاويةُ المراقبةِ، فمَنْ راقبَ اللهَ زكَتْ نفسُهُ وصارَ لِضميرِهِ سلطانًا يردعُهُ ولَو غابتْ القوانينُ التي يتسابقُ الناسُ في تجاوُزِها عندَ انقِطاعِ كهرباءٍ أو غيابِ كاميراتٍ، ليظلَّ سلطانُ الضميرِ المفتقرِ إلى خشيةِ اللهِ تعالَى هو الأساسُ والمركزُ في استقرارِ المجتمعاتِ وحفظِها مِن بَغيِ أفرادِها علَى بعضِ إن ضعفَت قبضةُ القانونِ، وكثيرًا ما تضعفُ.
٢- التشريعاتُ والمعاملاتُ:
حتَّىٰ يتحققَ العدلُ بِحقٍّ، فَلا بُدَّ لِلمُشرِّعِ أن يكونَ كاملَ العلمِ بالحالِ والمآلِ، وكذلكَ أن يكونَ منزَّهًا عنِ الهوَىٰ، وتحققُ هذَينِ الأمريْنِ غيرُ معقولٍ في الإنسانِ فردًا كانَ أو جماعاتٍ؛ فالعقلُ الجمعيُّ تحكمهُ مَورُوثاتٌ أو ثقافاتٌ غالبةٌ، كما أنّ الإجماعَ الإنسانيَّ يعدُّ معتبَرًا فِي الأُمورِ الفِطريَّةِ لَا فِيما يكونُ بالخبرَةِ الخارجيَّةِ، وعلَى أيِّ حالٍ فلَم يقعْ إجماعٌ علَى تشريعٍ أو نظامٍ لتسييرِ حياةِ الناسِ منذُ وجودِ الإنسانِ حتى الآنَ.
ولكن يبقَىٰ اللهُ ربُّ العالمينَ منزَّهًا عنِ الأهواءِ والتحيُّزاتِ، وهو مَن يعلمُ ما يصلحُ الناسَ مِن تشريعاتٍ تتحققُ بها مصالحُهُم ويقامُ بها العدلُ في الأرضِ، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ} [الملك_١٤]، ولئِنْ بَقيَتِ الأهواءُ فِي التَّطبِيقاتِ، فإنَّ اللهَ يحاسِبُ من زاغَ عنِ الحقِّ، ولكنْ لم يترُكِ اللهُ التشريعَ لِلأهواءِ ولِلنّاسِ وقصورِ علمِهِم، ولَا يزالونَ مُفتقِرينَ لهُ سبحانهُ.
٣- الأملُ والسكينةُ:
مِنَ الأخبارِ الطريفَةِ التِي تداولَتْها وِكالَاتُ الأنباءِ، أنَّ الملحدِينَ فِي الجيشِ الأمريكيِّ يطالبونَ بأن يكونَ لهمْ نصيبٌ مِنَ “سلاحِ الشؤونِ المعنويةِ”، يريدونَ المساواةَ بِزملائهِم المُتديّنِينَ؛ فَيكُون لهُم مرشدينَ أُسوةٌ بِقساوسةِ النصارَى وأحبارِ اليهودِ، فِي لقاءٍ لصحيفةِ النيويورك تايمز معَ أحدِ الملحدينَ فِي الجيشِ الأمريكِيِّ، يقولُ: “إنَّ الإنسانيةَ بالنسبةِ لِلملحدِ لها نفسُ دورِ المسيحيةِ بالنسبةِ للمسيحيِّ واليهوديَّةِ بالنسبةِ لليهوديِّ، إنَّها تجيبُ أسئلةٍ ذاتِ أهميةٍ قصوَى، وتوجّهُ قِيَمَنا”. ¹
لَا يشكُّ أحدٌ فِي أنَّ نتيجةَ الإلحادِ أجوبةٌ يعتقدُها الملحدُ لتجيبهُ عن وجودِه ليُقال: لا معنىً، وعن مصيرِهِ ليُقالُ: إلى الفناءِ، وعن العدلِ ليُقالُ: لَن يوجدَ، فيَعيش الملحدُ حياةً لا يرجُو فِيها تعويضًا لبُؤسٍ أو نُصرةٍ لمظلومٍ، ولِيتساوَى المصلحُ مع المفسدِ، بينَما يعيشُ المؤمنُ وهو يعلمُ أن لحياتِهِ معنًى، وأنّ ثمَةَ دارٌ يُجزَى فيها علَى إحسانِهِ، وأنَّ آلامهُ لهَا تعويضٌ، يعيشُ بأملٍ يورثُه سكينَةً، وكَم من مُنتحِرٍ بسببِ اليأسِ الناتجِ عن فقدانِ الأملِ، ولا أملٌ حقيقيٌّ بدونِ الإيمانِ بالخالقِ!
فِي لوحَةِ الصرخةِ التي رسمَها إدفارت مونك تجسيدٌ لقلقِ الحالةِ الإنسانيّةِ فِي زمانٍ يزعمُ أهلُهُ استغناؤُهُم عنِ الخالقِ بالعلمِ، وقد صدقَ الفنانُ في تجسيدِ ذلكَ القلقِ؛ فبدونِ الخالقِ يكونُ التيهُ والفراغُ الذِي يسعَى الإنسانُ لملئِهِ بفطرتِهِ، وهذَا ما دَعَا الملحدينَ فِي الجَيشِ الأَمريكِيِّ للمطالبَةِ بوجودِ مرشدينَ لهُمْ، فنَفسُ الإنسانِ تخبرُهُ بافتقارِهِ رغمًا عنهُ.
٤- أفعالُ اللهِ فِينا:
لوْ وقفَ كلُّ امرئٍ معَ نفسِهِ فَسيذكُرُ كيفَ أنجاهُ اللهُ مِن مواقفَ ظنَّ أن لَا سبيلَ للخروجِ مِن فِخاخِها، ولكنَّهُ لطفُ اللهِ الذِي يقلِّبُ القُلوبَ ويصرِّفُ الأبصارَ ويُجيبُ الدعواتِ، ويصرفُ عنِ الإنسانِ مرادًا لهُ كانَ فيهِ هلاكُهُ أو ضرَرًا، ويهدِي بفكرةٍ إنسانًا فيضيءُ لهُ دربُهُ، ويقذفُ فِي قلبٍ رُعبًا يصرِفُهُ عنْ أذاهُ أو أذَى غيرِهِ، ولوْ تأملَ كلُّ إنسانٍ ما فاتَ من حياتِهِ لَوجدَ الكثيرَ مِن ذلِكَ، ولَو زعَم غيرَ ذلكَ ففِي أخبارِ الصادقينَ قصصٌ يعجبُ مِنها الإنسانُ إعجَابَا تُخالطُهُ الدهشةُ والفرحةُ والأملُ والعظةُ؛ فلا نزالُ فِي جميعِ خطواتِنا نسألُ اللهَ أنْ يُلهِمَنا رُشدَنا وييسرَ لنَا السبُلَ ويصرفَ عَنا شرًّا نعلمُهُ أَو لَا نعلمُهُ.
.. وختامًا نذكرُ بيقينِ المؤمنِ بافتقارِهِ، وجهلِ الملحدِ بطبيعةِ إيمانِ المؤمنِ فضلًا عنْ مُكابرَتِهِ إذْ يوقنُ في نفسِهِ بِهذَا الافتقارِ ويعايشُهُ لكنَّهُ يحاوِلُ قمعَهُ زاعِمًا الغِنَى المُطلَق فِي وقتٍ زادَ فيهِ البؤسُ وانتشرَتْ فِي ظلالِ الرؤيةِ النتشويةِ متاهاتُ النسبِيَّةِ، فلمْ يهتدِ الإنسانُ السبيلَ ثُمَّ يزعمْ خلافَ ذلكَ، وتعالَى ربُّ العالمينَ إذْ قالَ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ} [العلق _ ٦ : ٨].
والحمدُ للهِ ربِّ العالمِينَ
……..
¹ – الإلحادُ، وثوقيةُ التوهُّمِ وخَواءُ العدمِ | حسام الدين حامد، صفحة 292.
هل خلق السماوات والأرض يعارض العلم؟
السؤال:
العلم الحديث يثبت أنّ الكون خلق في عمليّة تطوّريّة استمرّت ملايين السّنين، والإسلام يتحدّث عن أنّ السّموات والأرض وما بينهما خلقت في ستة أيّام فقط !
الجواب :
أ- لا ننكر أنّ الله ذكر خلق الكون في ستّة أيّام، كما في قوله تعالى: “الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش الرّحمن فاسأل به خبيراً”، لكنّ العلماء اختلفوا في تحديد المراد بهذه الايام قبل عصر العلم التّجريبي على ثلاثة أقوال:
الأول: أن تلك الأيّام مثل أيام الدنيا،
الثّاني: أنّ تلك الأيّام مثل أيّام الآخرة، إمّا أن اليوم يساوي ألف سنة أو خمسين ألف سنة
والثّالث: أنّه لا يُعرف قدر تلك الأيّام.
وقد رجّح ابن تيمية ومحمود شكري الألوسي والعلماء المتأخّرين القول الثّالث، واختلاف العلماء حول مقدار اليوم قبل عصر العلم التجريبي راجع إلى اختلاف نظرتهم للنصوص الشرعية ودلالاتها، وليس راجعا إلى أنهم أرادوا دفع إشكالات حول تعارض العلم والقرآن في هذه المسألة؛ لأنهم عاشوا قبل عصر العلم التجريبي، وهذا ظاهر جدا.
ب- على التسليم بأن المراد بتلك الأيام أيّام الدنيا، أو هي محددة بأيام الآخرة، فإنه لا يصح الادعاء بأن القرآن مناقض للعلم في نشأة الكون، وذلك أن العلم لم يصل إلى شيء محدد ثابت في هذه القضيّة وليس هناك يقين في العلم حول كيفية خلق الكون وضبط مدته الزّمنية، فإن البحث في أصل الكون وطبيعة نشأته وكيفيتها من القضايا التي ما زالت محل جدل ونقاش ونظر بين العلماء، لم يصل لمرحلة الحقيقة العلميّة الثابتة التي تحاكم إليها الأقوال المخالفة.
ولذلك قال جون جريبين في كتابه (قصة الكون) : “لن يكون هناك تاريخ واحد أو سرد واحد قاطع لتاريخ الكون، وإنما قصص مختلفة نوعا ما وغير موضوعية وتأويلات متعددة”.
وصرح بعدم القطع في هذه المسائل غيره من الفيزيائيين مثل : ستيفن وينبرغ في كتابه (الثلاث الدقائق الأولى من عمر الكون)، وستيفن هوكنج في أكثر من كتاب مثل كتاب (تاريخ موجز للزمان) وكتاب (الكون في قشرة جوز) وغيرهم.
هل الإسلام ينفي كروية الأرض؟
من أشهر الادعاءات التي يرددها المنصرون والملحدون قولهم إن الإسلام ينفي كروية الأرض ويدعي أنها مسطحة ومستوية.
ويستشهدون في شبهتهم بالآية 20 من سورة الغاشية: “وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ”، فيقولون: هاهو القرآن يقول إن الأرض مسطحة..
الاستدلال الخاطئ بالآيات
المشكلة القديمة مع الشبهات التي تثار حول القرآن هي انتزاع النص من سياقه والاستشهاد به، ولو أنك أرجعت كل نص يستشهدون به إلى سياقه لسقطت شبهاتهم.
ما هو سياق هذه الآية؟ يقول الله تعالى:
أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
تخيل أنك واقف تتأمل في خلق الله، فتنظر إلى الإبل ثم ترفع رأسك إلى السماء ثم تنظر إلى الجبال، ثم تنظر إلى الأرض أمامك.. هل ترى كوكبا كرويا أم ترى أرضا مستوية؟
فالآية تتحدث عن الإعجاز فيما ينظرون إليه.. هل نظرت في حياتك إلى الأرض فرأيتها كروية؟ ربما رأيتها كذلك لو كنت رائد فضاء!
إن كل ما نراه من كروية الأرض هي صور أخذت من خارج الأرض.. لكن القرآن هنا يدعونا للتأمل بالمنظر الذي نراه أمام أعيننا، ونحن بالفعل نرى أرضا منبسطة على مد البصر.
أما حين يتحدث القرآن في سياقات أخرى فإننا نلاحظ أن الصورة المرسومة للأرض كروية كما هي الحال مع الأجرام السماوية، فالقرآن يقول في سورة الزمر:
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ
والإشارة للتكوير واضحة هنا، فلو لم تكن الأرض كروية لما تكور عليها الليل والنهار. والإشارة أيضا واضحة في قوله سبحانه “كل يجري لأجل مسمى” وفي آية أخرى “وكل في فلك يسبحون”، فكيف وأين تجري الأرض لو كانت سطحا مستويا وليست كروية؟
ومن الإشارات القرآنية الواضحة على كروية الأرض إشارة القرآن إلى تعدد المشارق والمغارب في قوله تعالى: “رب المشارق والمغارب”، فلا يحصل هذا التعدد إلا بكروية الأرض، إذ تشرق وتغرب في كل وقت على أماكن مختلفة بصفة مستمرة ومتكررة.
ومصدر الإشكال الذي يستغله من يثير هذه الشبهة هو المعاني المختلفة للفظة (الأرض)، فهي تأتي بمعنى قطعة من الأرض، ونفس اللفظة يمكن أن يقصد بها الكوكب نفسه. لاحظ الفرق في معنى اللفظة بين الجملتين التاليتين:
بعت الأرض التي أملكها.
الأرض تدور حول الشمس.
هناك فرق كبير، فلا يمكنك أن تقول مثلا “الأرض التي أملكها تدور حول الشمس”..
وهذا اللبس غير موجود في لغات أخرى، ففي الإنجليزية هناك لفظة ground ولفظة land ولفظة earth، ومن يعرف تلك اللغة يدرك أنه لا يمكن استخدام لفظة مكان الأخرى، مع أنها كلها تعني (أرض).
والخلاصة،
أن القرآن يستخدم الأرض بمعنى (مساحة من سطح الأرض) إذا كان الأمر مرتبطا بالبشر أو عيشهم أو إدراكهم، وبمعنى (كوكب الأرض) إذا كان السياق عن الفلك.
والعلماء المسلمون منذ القدم أدركوا هذا الفرق في المدلولات المتنوعة للفظة (الأرض)، فهم يدركون أن الأرض كروية، ولم يمنعهم من ذلك بعض الآيات مثل: “وإلى الأرض كيف سطحت”، رغم صراحتها بأن الأرض الواردة في الآية مسطحة، لكن صفاء أذهانهم وفهمهم للفرق في استخدام اللفظة وسياق الآية جعلهم يدركون أن الكلام عن الكوكب يختلف عن الكلام عن المساحة المنظورة من سطح الأرض. وهؤلاء علماء كبار مثل ابن حزم وابن تيمية والرازي وغيرهم، كما سيأتي.
أقوال علماء المسلمين حول كروية الأرض
لننظر ماذا كان يقول علماء المسلمين قبل حياة برونو وأثناءها وبعدها..
يقول الفقيه ابن حزم (ت:456هـ – 1064م) في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل): “قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.. وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمةٌ.. بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.”
لاحظ أن ابن حزم لم يكفّر من أنكر التكوير وإنما سماهم بالعامة.
ويقول الإمام “فخر الدين الرازي” (ت: 606هـ – 1209م تقريبًا) في “مفاتيح الغيب” في تفسير قوله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ…” قال الرازي: “المدُّ هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله: “وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ” يُشعر بأنه– تعالى- جعل حجم الأرض حجمًا عظيمًا لا يقع البصر على منتهاه؛ لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع بها… والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح.”
ولاحظ أقوال علماء الجغرافيا المسلمين:
يقول “ابن خرداذبة” (ت: 272هـ – 885م) في كتابه (المسالك والممالك): “إن الأرض مُدَوَّرَةٌ كدوران الكرة”.
وكتب “ابن رُستة” (ت: 290هـ – 903م) في كتابه (الأعلاق النفيسة): “إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوَّارًا.. والأرض مستديرة أيضًا ومصمتة في جوف الفلك”.
وكتب “المسعودي” (ت: 346هـ – 956م) في كتابه (التنبيه والإشراف) : “جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر….”
وقد ذكر “الشريف الإدريسي” (ت: 560هـ – 1166م) في كتابه (نزهة المشتاق) ما نصه: “وإن الأرض مدورة كتدوير الكرة، والماء لاصق بها، وراكد عليها ركودًا طبيعيًّا لا يفارقها … والنسيم يحيط بها من جميع جهاتها (يقصد الغلاف الجوي).”
ويقول “القزويني” (ت: 682هـ – 1283م) في كتابه (عجائب المخلوقات): “الأرض كرة.. والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يُرى من بلدان مختلفة فإنه لا يُرى فيها كلها في وقت واحد بل في أوقات متعاقبة لأن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة.” ثم يفنِّد القزويني آراء علماء القرون الوسطى في أوروبا ورجال الكنيسة الذين يقولون إن الأرض لو كانت كرة لسقط الناس في الجانب الآخر منها، أو كانت رءوسهم مقلوبة.. فيقول: “إن الإنسان في أي موضع يقف على سطح الأرض فرأسه أبدًا مما يلي السماء، ورجله أبدًا مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها.. وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من جانب السماء الذي أمامه بقدر ما كان قد خفي عنه من الجانب الآخر..”
ويقول ياقوت الحموي (المتوفى سنة 622 ه) في معجم البلدان، الجزء 2، الصفحة 379: “خط الاستواء من المشرق إلى المغرب وهو أَطولُ خط في كرة الأَرض”.
ويقول ابن تيمية (المتوفى سنة 728ه) في مجموع الفتاوى، الجزء 25، الصفحة 107: “وأجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد بل على المشرق قبل المغرب”.
العجيب– بعد كل ما سبق- أن بعض الكتب والمراجع العربية ما زالت تنقل عن المراجع الأجنبية أن المسلمين لم يعرفوا نظرية كروية الأرض.. وأن هذه النظرية لم تعلن إلا بفضل “كوبرنيكوس” (1473م – 1543م)! لاحظ أنهم كلهم قبل كوبرنيكوس، بل إن ابن خرداذبة قال بكروية الأرض قبله بحوالي 650 عاما!
قياس الإسلام على النصرانية
المشكلة لدى الكثير من الملحدين هي أنهم لا يفرقون بين نص القرآن الذي ظل محفوظا ومتواترا بين الناس كما أنزل أول مرة دون تغيير، وبين نصوص النصرانية المحرفة التي أصبحت ملكا للكنيسة تتصرف فيها وتبدل كما تشاء. وبالتالي تلك الانحرافات التي حصلت لدى النصارى في اضطهاد القائلين بكروية الأرض.
ما الفرق بين الإسلام والنصرانية في القول بكروية الأرض؟
الكنيسة سجنت وعذبت الكثير من العلماء الذين قالوا بكروية الأرض مثل جاليليو وكوبرنيكوس، بل إن من أشهر فضائع الكنيسة ما ارتكبته في حق العالم الإيطالي جوردانوا برونو (1548م – 1600م) (Giordano Bruno) الذي آمن بنظرية كوبرنيكوس حول كروية الأرض ودورانها حول الشمس، فلاحقه رجال الدين الكنسيون وسجنوه ثمان سنوات ثم قطعوا لسانه وقتلوه حرقا بالنار.. هذا ما كانت تفعله الكنيسة وما ظل يعشش في عقول الجهلة من النصارى والملحدين ليجعلوه مقياسا يقاس عليه الإسلام في موقفه من كروية الأرض.
العلم يعثر على الإله
يبدو أن منجزات العلم الحديث تتعارض مع الدين وتقلل من شأنه. ولكن لعدد متزايد من العلماء فإن ذات الاكتشافات تدعم الروحانيات وتشير إلى طبيعة الإله. يبدو الأمر وكأنه كلما تعمق العلماء في أسرار الكون ازداد بعد الإله عن قلوبهم وعقولهم.
لكن هذا مالم يجرِ ل “آلان ساندج”. في الثانية والسابعين محدودب الظهر قليلاً وقد وخط الشيب رأسه، قضى ساندج حياته المهنية يستدعي أسرار النجوم محدقاً فيها من خلال المناظير من تشيلي إلى كاليفورنياعلى أمل العثور على مصادر الكون ونهايته. وكما فعل فلكيو القرن العشرين ، توصل ساندج لنتيجة: أظهر رصده للنجوم البعيدة سرعة تمدد الكون، وعمره (15 بليون سنة أو قريباً من ذلك).
ولكن خلال ذلك الرصد فإن ساندج الذي “كان في صباه قاب قوسين من الإلحاد” منزعجا من الألغاز التي لم تكن إجابتها في لمعان نجوم السوبرنوفا الجميلة. ومن تلك الألغاز: لماذا يوجد شيء بدلاً من لاشيء؟”.
بدأ اليأس يدب في نفس ساندج من الإجابة على تلك الأسئلة من خلال المنطق وحده، ولذلك في الخمسين من عمره رضي لنفسه قبول وجود رب. “لقد كان علمي هو الذي قادني لهذه النتيجة، وهي أن العالم أعقد بكثير مما يمكن شرحه بالعلم، ولا سبيل لفهمي للوجود إلا بالإيمان بوجود قوة خارقة”.
شيءٌ مذهل بدأ يظهر بين فرسي الحرب المعمّرين: العلم والدين.
تأرجحت العلاقة بين العلم والدين من الدعم المتبادل إلى العداءالمر. وبالرغم من أن العقيدة الدينية كانت هي القابلة لولادة الطريقة التجريبية قبل سنوات (كما سيأتي)، إلا أنه سرعان ما افترق الدين والمنطق. نُعت داروين وقاليليو وآخرون بالهرطقة عندما تحدوا عقيدة الكنيسة، وكطريقة مهذبة للتوفيق بين العلم والدين اتُفق على ألا يتجاوز كل منهما حدوده؛ العلم يسأل ويجيب على الأسئلة التجريبية “ماذا” و”كيف”، والدين يتولى الروحانيات ويتولى أسئلة “لماذا”.
ولكن مع ازدياد سطوة العلم وقوته مع حقبة التنوير، انهدمت الفجوة بينهما. استبعدت بعض أعظم عقول تلك الحقبة الرب وعدّوه فرضية غير ملزمة لتفسير سبب سطوع المجرات أو كيف تعقدت الحياة. بما أن ولادة الكون يمكن شرحها بقوانين الفيزياء وحدها فإن الملحد الفلكي كارل ساقان توصل إلى أنه “لم يكن هناك شيء ليفعله الخالق”، وعلى هذا فقد وجب على كل شخص الاعتراف “بغياب الإله”.
المجتمع العلمي اليوم يزدري الإيمان كما قال ساندج إلى درجة أن “هناك ترددا في أن يعلن المرء نفسه مؤمناً، والعار أصبح شديداً لدرجة أن بعض رجال الدين ضاقوا ذرعاً بالعلماء.”
أخبر قسٌ صديقاً لساندج: “مالم تؤمن وتقبل أن عمر الكون والأرض 6000 سنة [كما تشير القراءة الحرفية للكتاب المقدس] فلن تكون مسيحياً”. لا عجب أن يمتعض المؤمنون من العلم؛ فطالما العلم يختزل معجزة الحياة إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية الحيوية ، وإرجاع الخلق إلى حوزقة في الزمن/الفضاء… يظهر العلم محتقراً للإيمان، ويذهب بمعنى الوجود ويستلب الروحانية! ولكن “العلم والدين يدخلان الآن في علاقة جديدة” كما يشير الفيزيائي الذي تخصص في الأديان روبرت جون رسل، الذي أنشأ في 1981 مركز الدين والعلوم الطبيعية في اتحاد الخريجين المتخصصين في الدين في بيركلي بدلاً من بخس الإيمان حقه وفقد الروحانية، فإن الاكتشافات العلمية تقدم دليلاً عليها على الأقل في أذهان المؤمنين.
الكون الناتج عن الانفجار العظيم كمثال كان ينظر إليه على أنه لم تترك مجالاً لوجود خالق، والآن ينظر إليه بعض العلماء على أنه يوحي بتصميم وهدف من وجود الكون.. التطور كما يقول بعض العلماء الطبيعيين المتدينين يعضد الأدلة على طبيعة الإله.. نظرية الفوضى التي تشرح العمليات الرتيبة كتقلبات الطقس أو تقطر الصنبور ينظر لها كمدخل للإله يتصرف به في العالم.
من جورج تاون إلى بركلي يقوم المتدينون المعتنقون للعلم، والعلماء الذين لا يستطيعون فكاكاً من التجريبية، بإنشاء معاهد تضم الاثنين معاً. وقد أدى ظهور كتب مثل “العلم والدين: التوافق الجديد” و ” الإيمان بالإله في عصر العلم” إلى تخفيف الاحتقان.
عقدت ندوة بعنوان “العلم والبحث عن الروحانية” والتي نظمها معهد رسل فجذبت إليها أكثر من 320 شخصاً و33 متحدثاً وفيلماً وثائقياً من PBS عن العلم والإيمان سيذاع في الخريف القادم.
في 1977 أطلق ستيفن وينبيرق صيحة قنوط، وهو الفيزيائي من جامعة تكساس الحاصل على جائزة نوبل، حيث كتب أنه كلما ازداد فهمنا للكون من خلال علم الكونيات بدا وكأنه بلا هدف. لكن في الوقت الحاضر العلم الذي “قتل” الإله هو ذاته من يعيد الإيمان به كما يرى المؤمنون.
واجه الفيزيائيون دلائل على أن الكون مهيأ للحياة والإدراك . لقد ظهر أن الثوابت في الطبيعة مثل قوة الجاذبية وشحنة الإلكترون وكتلة البروتون، لو أنها اختلفت قيد أنملة، لم تكن الذرات لتتماسك ولما اشتعلت النجوم ولما ظهرت الحياة.
يقول جون بولكنهورن صاحب الجهود المميزة في مجال الفيزياء في جامعة كيمبردج قبل أن يصبح قساً أنجيليكياً عام 1982: “عندما نعلم أن قوانين الطبيعة لابد أن تكون معايرة بدقة شديدة لتنتج الكون الذي نراه فإن هذا يدعم زرع فكرة أن الكون لم يحدث هكذا، بل لابد أن من ورائه هدفاً.
ويمضي تشارلز تاونز أبعد من ذلك، وهو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء بالمشاركة لاكتشافه قوانين الليزر، قائلا: “لدى الأكثرية شعور بأن الذكاء متداخل بشكل أو بآخر في قوانين الكون، وبالرغم من أن منطق العلم يساوره شعور بالعداء للروحانيات فإن قراءة جديدة قد تدعم بدل أن تطرد الإيمان حتى في هذا المجال. منذ إسحاق نيوتن دوّى صوت العلم برسالة واضحة: العالم يتبع القوانين، وهذه القوانين في أساسها رياضية، قوانين يستطيع البشر فهمها. ابتكر البشر الرياضيات المجردة، وهي في أساسها من مخيلاتهم، لكن الرياضيات تتحول بشكل سحري إلى واصفة للعالم. كمثال على ذلك قسم رياضيو الإغريق محيط الدائرة على قطرها وحصلوا على الرقم باي 3.14159… والرقم باي يظهر في المعادلات التي تصف جزيئات ما دون الذرة والضوء وكميات أخرى لا يظهر ترابط بينها وبين الدوائر.
يقول بولكنهورن أن هذا يشير إلى “حقيقة عميقة عن طبيعة الكون”، وهي أن عقولنا التي اخترعت الرياضيات تتوائم مع حقيقة الكون. نحن متناغمون مع حقائقه بطريقة ما.
بما أن الفكر المجرد يخترق ألغاز الكون فإن “ذلك يبدو وكأنه يخبرنا شيئاً عن تناغم وعي البشر مع حكمة الإله”، كما يقول كارل فيت، المتخصص في بيولوجيا السرطان في جامعة يشيفا في نيويورك، ومعلم للتلمود.
يطمئن معظم العبّاد للشعور بوجود حضور إلهي محتجبٍ عن العالم المنظور لكنهم يتوقون إلى إله يتصرف في العالم. بعض العلماء يرى فسحة لوجود هذا الإله على مستوى الكم أو أحداث ما تحت الذرة. في ذلك العالم الموحش لا يمكن التنبؤ بتصرف الجزيئات. ولعل أشهر مثال على ذلك أننا لو افترضنا أن نصف عمر عنصر مشع ساعة واحدة، فإن نصف حياته تعني أن نصف الذرات ستزول في هذه المدة، ونصفها سيبقى. لكن ماذا لو كانت لديك ذرة واحدة؟ حينها إذا مرت ساعة ففرص زوالها 50-50. وماذا لو كانت التجربة تقوم على أنه إذا زالت الذرة سينطلق غاز سام؟إذا كان لديك قطة في المعمل فهل ستكون القطة حية أم ميتة إذا انتهت الساعة؟
اكتشف الفيزيائيون أنه لايمكن الجزم بما ستفعله الذرة ولا حتى نظرياً. بعض العلماء المتدينين يرون أن نقطة اتخاذ القرار (هل ستزول الذرة أم لا؟ هل ستعيش القطة أم لا؟) هي من تصرف الإله. يقول رَسِل “ميكانيكا الكم تتيح لنا تصور وجود قوة إلهية خاصة”. وما يزيد الأمر حسناً أن قلة من العلماء مقتنعة بالمعجزات فإن الإله يمكنه أن يتصرف بلا تعدٍ على قوانين الفيزياء.
تصف النظرية العلمية الأحدث “نظرية الفوضى” ظواهر مثل الطقس وبعض التفاعلات الكيميائية التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها الدقيقة. يقول بولكينهورن: “لربما كان الإله يختار أي الاحتمالات يتحقق. هذا الفعل الإلهي لن يكسر قوانين الفيزياء أيضاً.
معظم العلماء ما زالوا يوقفون إيمانهم على أبواب معاملهم إن كان عندهم إيمان. ولكن كما أن الإيمان يجد إلهاماً في العلم فكذلك العلماء قد يجدون إلهاماً في الإيمان. يستنبط من القرآن الفيزيائي مهدي قولشاني من جامعة شريف للتكنولوجيا في طهران أن الظواهر الطبيعية هي “آيات الإله في الكون”، وأن دراستها تكاد تكون واجباً دينياً. القران يطلب من البشر أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف بدأ الخلق. يقول الباحث قولشاني “إنها عبادة تجلّي الكثير من عجائب خلق الإله”، والأمر ذاته ينسحب على اليهودية.
ينقل كارل فيت عن موسى بن ميمون “الطريق الوحيد لحب الإله هو فهم ما عملته يداه، وهو العالم المادي. معرفة عمل الكون هام للعابد لأن هذا هو العالم الذي خلقه.” وفيت ليس وحيداً في هذا الرأي، وطبقاً لدراسة نشرت العام الماضي فإن 40٪ من العلماء الأمريكيين يؤمنون بوجود رب، ليس قوة لا توصف حاضرة في العالم ولكن رب يتوجهون إليه في صلاتهم”.
“الولوج في العلم له هدف روحي أيضاً وهو الإلهام” كما يقول جويل بريماك الفيزيائي الفلكي في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز. ويضيف بريماك قائلا إن أكبر حجم متخيل، وهو الكون، يبلغ 10 أمامها 29 صفراً (بالسنتيمتر). وأصغر حجم موصوف هو العالم ما تحت الذري وهو 10 أمامها 24 صفراً (وكسر).
والبشر في المنتصف بين ذلك. هل هذا يجعلنا في مكانٍ مميز؟ بريماك لا يعلم ولكنه يصف ذلك بـ “كون تطمئن إليه النفس”.
على الرغم من تذمر العلماء المشككين من عدم حاجة العلم للدين، فإن علماء الدين ذوي النظرة البعيدة يعتقدون أن الدين بحاجة للعلم. يقول الفيزيائي وعالم الدين رسل: “لا يستطيع الدين الإقناع بحججه الأخلاقية أو تحقيق الطمأنينة النفسية حتى تتحقق مزاعمه المعرفية.”
بالرغم من أن ما يربو على 90٪ من الأمريكيين يؤمنون بوجود إله فإن القلة تؤمن بإله يفلق البحار أو يخلق الأنواع واحداً بعد الآخر. يقول تيد بيترز من معهد اللاهوت اللوثري إن الأديان التي جاءت قبل آلاف السنين يمكن إدخالها في عصر الذرة والـ (دي إن أي) إذا قام بعض علماء الدين “بصياغة المعرفة المكتسبة من العلوم الطبيعية في بوتقة عقيدة إيمانية”. ومن جهة أخرى يقول الفلكي والقس اليسوعي وليام ستويجر “إن الدين في خطر حين ينظر إليه حتى من له أدنى معرفة بالعلوم الطبيعية على اعتباره مفارقة تاريخية”.
العلم لا يثبت وجود إله فضلاً عن محاولة رؤيته في المناظير. ولكن بالنسبة لبعض المؤمنين فإن دراسة الكون توفر أدلة عن ماهية هذا الإله.
يقول دبليو مارك ريتشاردسون من مركز الدين والعلوم الطبيعية: “قد لايكون العلم شاهد عيان على وجود الإله، ولكنه شاهد على صفاته.” والمفارقة هي أن أحد مواطن رؤية طرف من تلك الصفات يظهر في عمل التطور.
آرثر بيكوك متخصص في الكيمياء الحيوية وأصبح قساً في الكنيسة الإنجليزية عام 1971 ليست لديه مشكلة مع التطور. بل على العكس، يرى فيها إشارات من طبيعة الإله. ويستنتج من التطور أن ظهور التغيرات الأحيائية بالصدفة وقوانين داروين في الانتخاب الطبيعي تفعل فعلها في هذه المتغيرات لتنتج التنوع في الحياة على الأرض.
يقول عالم الدين جون هوت المؤسس لمركز الدين والعلم في جامعة جورج تاون إن هذه العملية تشكل إيثاراً إلهياً لصالح الخلق. فكما أن الوالدين المحبين لابنهما يتركانه ينشأ بحرية دون تدخل منهما فكذاك الإله يترك الخلق يصنع نفسه.
لعل من المبالغة أن نقول أن هذه النظرة الدينية المعقدة تعيد تشكيل الدين على مستوى الأبرشية أو المسجد أو الكنيس المحليين. ولكن بعض تلك الأفكار تلقى صدىً من العباد ورجال الدين العاديين.
بالنسبة لبيلي كروكيت رئيس مؤسسة ووكينق أنجل ريكوردز في دالاس فإن اكتشافات ميكانيكا الكم التي يقرأ عنها في الصحف تعزز إيمانه بأن “هناك الكثير من الغموض في طبيعة الأشياء”. أما بالنسبة للمؤمنين الآخرين فإن توقير العلم يورث تعميق الإيمان. وتقول الراهبة ماري وايت من مركز التأمل البنديكتي في سينت بول مينيسوتا: “يثير فيّ العلم دهشة عظيمة؛ فالعلم والروحانيات لهما هدفٌ مشترك وهو البحث عن الحقيقة.”
يقول تيد بيترز من مركز CTNS: “لئن لم يؤثر العلم على الفكر والتطبيق الديني كثيراً على مستوى جذوره فانتظروا فقط، فكما أن النسوية تسللت إلى الكنائس وهي الآن تشكل القدّاس فإنه يتوقع خلال 10 سنوات أن يشكل العلم مرتكزاً أساسياً في طريقة تفكير الكثير من المتدينين العاديين.”
ويقول مايكل شيرمر، مدير جمعية المشككين التي تدحض دعاوى الخوارق، إنه ليس الجميع يؤمنون بهذه الفكرة الجريئة، وإن “العلم الطبيعي طريق للمعرفة وليس هو المعرفة ذاتها، فليس له أن يثبت أو ينفي وجود إله إذ أن الأمرين مفترقان، كمن يريد نقطة في كرة القدم بناء على ترتيبه في كرة البيسبول.” وهناك أمر آخر وهو أن المستمسكون بدينهم من أهل الملل المختلفة مثل الأرثوذكس والأنجليكيين والكويكرز والكاثوليك والمسلمين الذين تحدثوا في يونيو في مؤتمر بيركلي كل يرى في العلم ما يؤيد ما علمه إياه دينه.
خذ مثلاً المفهوم النصراني للمسيح كإله كامل وبشر كامل. يظهر أن هذه الخصيصة لها ما يقابلها في ميكانيكا الكم. في السنوات الأولى للقرن الجديد اكتشف الفيزيائيون أن الكيانات التي كان ينظر لها على أنها جزيئات مثل الإلكترونات قد تتصرف كموجات. فالضوء الذي كان ينظر له كموجة يتصرف في بعض التجارب كوابل من الجزيئات. والتفسير الأرثوذوكسي لهذا الموقف الغريب هو أن الضوء موجة وجزيء في الوقت ذاته. والإلكترونات هي موجات وجزيئات في الوقت ذاته. أي الوجهين للضوء أو الإلكترون الذي يراه المرء يختلف اعتماداً على الظروف المحيطة، والأمر ذاته ينطبق على المسيح كما يقترح الفيزيائي اف رسل ستانارد من جامعة إنجلترا المفتوحة. يقول ستانارد إنه لا يمكن النظر للمسيح كإله على شكل بشر ولا بشر يتصرف كإله.. “لقد كان كلاهما مكتملين”. إن العثور على مثل هذه النظائر يمنح الناس إحساساً بأن الأمر “ليس فقط فكرة مسيحية فائقة الغرابة”، كما يقول بولكنقهورن.
ليس من المحتمل أن يخوض اليهود ذات الغمار ، مالم يكن المرء مؤمناً سلفاً فلن يلحق بالمؤمنين بسبب ميكانيكا الكم، وعلى العكس من لم يثِر العلم شكوكه فلعله لم يلق للأمر بالاً. ولكن بالنسبة لمن هم بين ذلك، الذين يثير العلم تساؤلاتهم عن الدين، سيزيدهم التوافق بينهما إيماناً كما يقول فيت: “لا أظنك إن درست العلم الطبيعي ستكون مجبراً على التوصل لنتيجة مفادها لزوم وجود إله، ولكن إن كنت مؤمناً سلفاً بوجود إله فستقول بعد أن عرفت العلم : آه إني أرى ماذا فعل الإله في العالم.”
لعل العلم والدين لن يتفقا تماماً أبداً.. ربما وجب عليهما ذلك.. العلم قائم على الشك الدائم، ولب الدين التصديق. ومع ذلك فإن المؤمنين إيماناً عميقاً والعلماء العظماء مدفوعون لفهم العالم. ذات مرة كان العلم والدين طريقان مختلفان في جوهرهما بل عدوان لبعضهما في البحث عن فهم للعالم، واتُهم العلم بخنق الدين وقتل الإله، أما الآن فلعله يقوّي الإيمان. وبالرغم من أنه لا يثبت وجود إله، إلا أن العلم قد يهمس في آذان المؤمنين ويخبرهم أين يتجهون في البحث عن المقدس.
العِلم والإيمان
بقلم: فاتن صبري
Www.fatensabri.com
من كتاب: لماذا الدين ؟ رحلة من الذاكرة
لا غالب إلا الله:
في زيارة لنا لقصر الحمراء في غرناطة وعند دخولنا القصر، رأينا عبارة “لا غالِبَ إلا الله” منقوشة على الجدران، وفاضت عيناي بالدموع، فقد كانت نسمات الماضي المشرِّف للمسلمين تهب في كل مكان.
وذهبت بأفكاري إلى أمجاد الماضي، عندما كان علماء المسلمون يعلمون العالَم العربي والغربي الطب والصيدلة والهندسة والفلك والشِّعر، وأَنشأ المسلمون أَوَّل جامعة تعرفها أرض أوروبا في إسبانيا، وإلى زمن عبد الرحمن الداخل الذي طوَّق جيشه إيطاليا وفرنسا، وإلى زمن المعتصم عندما عبث رومي بعباءة امرأة فصاحت وآ معتصماه، فجهَّز المعتصم جيشًا للدفاع عنها. فتعجَّبت من الادعاء الذي يتبناه الكثيرون من أن اتباع تعاليم الدين هو سبب تخلف المسلمين اليوم!
وكان قد قطع شرودي بالتفكير المرشد السياحي الإسباني وهو يقول: العبارة المنقوشة في الأعلى تعني بالعربية ” لا غالِبَ إلا الله “، إن كان معنا عرب هنا فليقولوا نعم بصوت عالي إن كنت على صواب، فقلت فورًا: نعم، نعم، “لا غالِبَ إلا الله” وابتهجت نفسي فرحًا.
وشهد شاهد من أهلها:
الكاتبة الألمانية الشهيرة سيجريد هونكه، صاحبة كتاب “شمس الله تشرق على الغرب”، الذي صدر عام 1960 ميلادي، قد نقلت فيه نصًا طريفًا ومهمًا يتحدث عن موقفًا مشابهًا تمامًا لما يعيشه كثير من المسلمين اليوم.
المتحدث هو أُسقف قرطبة “ألقاروا” في زمن تفوق الحضارة الإسلامية، وكان يشتكي بقوله: “إن كثيرين من أبناء ديني يقرؤون أساطير العرب ويتدارسون كتابات المسلمين من الفلاسفة وعلماء الدين، ليس ليدحضوا وإنما ليتعلموا اللغة العربية ويحسنون التوسل بها حسب التعبير القويم والذوق السليم، وأين النصراني اليوم من غير المتخصصين الذي يقرأ التفاسير اللاتينية للإنجيل؟ بل من ذا الذي يدرس منهم حتى الأناجيل الأربعة؟ وآحسرتاه! إن شباب النصارى جميعهم اليوم لا يعرفون سوى لغة العرب والأدب العربي! إنهم يتعمقون بدراسة المراجع العربية باذلين في قراءتها ودراستها كل ما في وسعهم من طاقة، منفقين المبالغ الطائلة في اقتناء الكتب العربية وإنشاء مكتبات ضخمة، ويذيعون جهرًا في كل مكان أن ذلك الأدب العربي جدير بالإكبار والإعجاب! ولئن حاول أحد إقناعهم بالاحتجاج بكتب النصارى فإنهم يردون باستخفاف ذاكرين أن تلك الكتب لا تحظى باهتمامهم، وآمصيبتاه! إن النصارى قد نسوا حتى لغتهم الأم، فلا تكاد تجد اليوم واحدًا في الألف يستطيع أن يدبج رسالة بسيطة باللاتينية السليمة، بينما العكس تعبيرًا وكتابةً وتحبيرًا، بل إن منهم من يقرضون الشعر بالعربية، حتى قد حذقوه ونافسوا في ذلك العرب أَنفسهم.”
لقد كانت اكتشافات العلماء المسلمين هي المعتمدة خلال العصور الوسطى، وقد كان العلماء المسلمون يتعبدون إلى الله بعلمهم، ويتقربون به إليه دون أن يظهر أي تعارض بين العِلم المادي والدين، بل كثيرًا ما كان من العلماء المسلمين فقهاء في علوم الدين، ورجال عِلم في نفس الوقت.
ولقد وضع علماء الإسلام منهجًا تجريبيًّا حسيًّا وعقليًّا في البحث، وقد كان مختلفًا تمامًا عن المنهج اليوناني، كما وضعوا نظريات علمية مستقلة للمعرفة. وحتى في العصر الحديث، هناك علماء كبار قد حازوا على جوائز نوبل في الطب والفيزياء دون أن يروا تعارضًا بين العِلم التجريبي والدين.
إن فكرة النزاع بين الدين والعِلم التجريبي لم تظهر عبر التاريخ حتى في اليهودية، فإنه على مدى عصور كثيرة كانت السيطرة للدين، وكان التطور العلمي بطيئًا ويدور في فلك الضرورات، أو كان ممزوجًا بالوثنيات والأساطير؛ ولكن ظهر هذا الصراع في عصر سيطرة الكنيسة بعد ظهور النصرانية بأكثر من تسعة قرون.
وقد ظهرت قضية الصدام بين الدين والعِلم التجريبي في عصر النهضة الأوربية، وبداية الوقوف بحزم من رجال العلم ضد سيطرة الكنيسة، وتطور الإلحاد عند البشر بصور مختلفة، ولكنه ظهر عند أصحاب الكتب السماوية السابقة بصورة واضحة بسبب المفهوم المعقد والمحرف عن الإله في تلك الكتب، والذي ينافي المفهوم البسيط الذي فطره الله في قلوب البشر. ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الناس إلى الإلحاد والمطالبة باستبدال الدين بالعلم كانت بسبب مطالب وأوامر رجال الدين والمؤسسات الدينية غير المقبولة، والتي كانت بهدف مكاسب دنيوية وسياسية. وقد عانى العالَم من الصراع بين الدين والعِلم المادي الكثير من التدنِّي في الأخلاقيات، القِيم البشرية والفكر الإنساني.
العلم في القرآن:
لقد ذكر الله آيات كثيرة في القرآن الكريم في الدعوة لتحفيز العقل البشري وإيقاظ الحواس والتأمل والتفكر.
“أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخرة ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “[1].
” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” [2].
أول آيات القرآن الكريم نزولاً تحدثت عن العلم بشكل عام وعن خلق الإنسان بشكل خاص، وهذا المزج الرائع في التكامل بين العلم والإيمان تتجلى صوره في كثير من الآيات.
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ”[3].
ونجد هنا أن الآيات الكريمة أشارت إلى النظر والتدبر في إنزال المطر والألوان المختلفة من الثمرات والجبال والناس والدواب، وفي هذا إشارة واضحة لشمولية العِلم والمعرفة بكافة تخصصاتها، مما جعل الدين والعِلم جزأين متكاملين.
” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ “[4].
ما الحاجة للدّين؟
يقول “هانز شفارتز” أستاذ علم اللاهوت:” إنه مع أهمية العلم إلا أنه يمكن أن يستخدم للهدم تمامًا كما يمكن أن يستخدم في التعمير، وهنا يأتي الدور الأهم للإيمان، وأن التجربة العملية لا يمكن أن تأتي بكل الإجابات “.
وقال: “يحتاج الإيمان والمعرفة بعضهما البعض، ويجب على العلماء أن يعترفوا بأنهم أحيانًا ما يستخدمون الإيمان ليتمكنوا من فهم العلاقات العميقة بين مظاهر الطبيعة التي يلاحظونها”.
ويرى شفارتز أن العلماء لا يمتلكون الحقائق والإجابات كما يدَّعون، ويجد في التساؤلات التي يواجهها العلماء يوميًا أكبر دليل على هذا الأمر، وخاصةً العلماء الذين يبحثون في أصل الحياة، فكلما توصلوا لاستنتاج ناقضه اكتشاف جديد في اليوم التالي.
والسؤال عن مصدر حياتنا والمغزى منها والذي لا يمكن للعِلم المادي الإجابة عليه أعطى الدور للميتافيزيقا أو علم ما وراء الطبيعة للإجابة عليه، وكانت حادثة هيروشيما وغيرها من الكوارث التي حدثت بسبب الاختراعات العلمية قد أفقدت العِلم براءته، وأطلق الفيلسوف “كارل جاسبرز” وغيره على العِلم المادي مُسمَّى الخرافة.
ونستنتج من ذلك أنه من غير الممكن الإجابة على أسئلة أصل الحياة وهدفها والأخلاقيات مع استمرار المحافظة على التطور العلمي؛ إلا من خلال التوفيق والتكامل بين العِلم والدين.
إِلحاد الفجوات وليس إله الفجوات:
في حوار لي مع ملحد روسي كان قد طرح كثيرًا من الأسئلة ومنها أنه قال: هل يستطيع الخالق خلق صخرة كبيرة لا يستطيع حملها؟
والمقصود بهذا النوع من الأسئلة أن إجابتي سواء كانت بنعم أو بلا فإنها تُظهِر وكأن الخالق ليس كُلِّي القدرة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
وقد أدهشني سؤاله جدًا، لأنني كنت قد قرأت لأول مرة عن طرح الملحدين لهذا النوع من الأسئلة في اليوم السابق فقط لحواري معه[5]، فكانت صدفة غريبة، ولقد استفدت من قراءتي لهذا الكتاب في الإجابة عن هذا السؤال وأسئلة أخرى كان قد طرحها هذا الملحد خلال الحوار.
فقلت له: حسنًا هل تستطيع أن ترسم لي مثلثًا دائري الشكل؟
فقال لي مباشرة: أنتِ تتلاعبين بالكلام.
قلت له: أنت الذي تلاعبت في الكلام ليس أنا، فسؤالك ليس له معنى وليس فيه منطق. الخالق الإله الواحد الأحد جل جلاله لا يفعل ما لا يليق بجلاله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا، وأعطيته مثالاً بسيطًا لتقريب الفكرة فقط، حيث قلت له: أي قسيس أو إنسان لديه منزله دينية رفيعة لا يخرج الى الشارع العام عاري الجسد على الرغم من استطاعته فعل ذلك، لكنه لا يمكن أن يخرج للملأ بهذه الصورة؛ لأن هذا التصرف لا يليق بمكانته الدينية.
ولله تعالى المثل الأعلى، فالله قادر على كل شيء، لكنه لا يفعل ما لا يليق بمقامه جل جلاله.
قال: الإله غير موجود، العِلم هو الطريق الوحيد للحقيقة.
قلت له: هذه العبارة ليس بيانًا علميًا قائمًا على الأدلة والملاحظات التجريبية، وبالتالي لا يمكن قبولها كحقيقة. الحقيقة أننا نعلم أن الأشياء لا تظهر بدون سبب، ناهيك عن هذا الكون المادي المأهول الضخم وما فيه من مخلوقات تمتلك وعيًا غير ملموس وتطيع قوانين الرياضيات غير المادية.
قال: أنتم المؤمنون تتبنَّون مبدأ “إله الفجوات”[6]. عندما تعجزون عن تفســير شيء بأســلوب علمي، فإنكم تطرحون الإله كستار لجهلكم ولخمولكم العقلي، وفــى نفس الوقت تســتدلون بهــذا الجهل على وجــود إلهكم، أي كلما وجــدتم ثغرة في العِلم نســبتم إلى الإلــه القيام بها.
قلت له: هل الرجوع إلى صانع الطائرة عند عدم فهمنا لآلية عمل محرك الطائرة يعتبر فجوة في تفكيرنا؟ بالرغم من أن صانع الطائرة لا وجود له في أي خطوة من آلية عمل المحرك لكنه مســؤول عن وجود الآليــات التي نعرفها.
إن العِلم المادي يقول إن الكون قد نشأ من العدم، بينما يخبرنا العِلم نفسه أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، مما أوقع العلماء في حيرة، فبما أن المادة لا تُستحدث من عدم فكيف نشأ الكون من عدم؟ الآن يأتي دور الدين لتفســير ما أقــر العِلــم بعجزه عن تفسيره. إن إلهنا ليس إلهًا لسد ثغرات منشــأها الجهل، لكنه السبب الأول وراء كل الآليات التي يكتشفها العِلم.
قلت له مسترسلة: أنتم من تتبنَّون مبدأ إلحاد الفجوات، فأنتم تستخدمون عدم قدرتكم أو عدم رغبتكم في إدراك مصدر قوانين الكون كدليل على أن هذا المصدر لا وجود له، وهذا في الواقع أكبر فجوة في الإدراك والمنطق، أليس هذا “إلحاد الفجوات”؟
قلت له مسترسلة: إنه لشرح وجود كون مادي محدود نحتاج إلى مصدر مستقل، غير مادي وأبدي. يمكن للعِلم أن يدرس فقط الأشياء التي يمكن الشعور بها أو رؤيتها، وهو ما يعني الأشياء ذات الخصائص الفيزيائية المحدودة، لذلك لا يمكننا أبدًا تفسير وجود الكون بالعِلم المادي وحده.
إن الطبيعة بكل قوانينها ما هي إلا حقيقة من حقائق الكون، وليست تفسيرًا لسبب وجود الكون، وما يُكتشف من قوانين ليست نفيًا لوجود الصانع، بل هي بيانًا لخلق الله.
فعلى سبيل المثال، من يُودِع في مؤسسة ادخار كل شهر مبلغًا من المال ويأتي في نهاية العام ليستلم المال الذي ادَّخره مع الأرباح من المؤسسة ليقول له المحاسب: إن قانون الضرب الذي استخدمناه في حساب المبلغ هو الذي أوجد لك النقود. هل هذا من المنطق في شيء؟
في الواقع بدون ما قام به الشخص من إيداع للنقود ســيظل رصيده صفرًا، ومِـن ثم، فــإن ادعاء أن قوانيــن الطبيعة هي التي أوجــدت الكون هو السَّفه بعينه. النظريــات والقوانيــن تصف مســار الأمور بدقة لكنهــا لا توجد شيئًا من العدم.
قوانين الحركة تستطيع أن تصف مســار كــرة السَّلة، لكن يد اللاعب هي التي تحرك الكرة، وهكذا فإن القوانين تحتاج إلى موجود تؤثر فيه قوة محددة، في مكانٍ ما وزمانٍ ما، وبدون هذه العناصر لا عمل لهذه القوانين، بل لن تكون موجودة أصلاً.
يعطينا الدين ما لا يعطينا العِلم:
يستطيع الإنسان بالعِلم المادي أن يصنع صاروخًا، لكن لا يستطيع بهذا العِلم أن يحكم على جمال لوحة فنية مثلاً، ولا تقدير قيمة الأشياء، ولا يُعرفنا الخير والشر. بالعِلم المادي نعلم أن الرصاصة تقتل، ولا نعلم أنه من الخطأ أن نستخدمها لقتل الغير.
يقول ألبرت آينشتين عالم الفيزياء الشهير:” لا يمكن أن يكون العِلم مصدرًا للأخلاق، لا شك أن هناك أُسسًا أخلاقية للعِلم، لكننا لا نستطيع أن نتحدث عن أسس علمية للأخلاق، لقد فشلت وستفشل كل المحاولات لإخضاع الأخلاق لقوانين العِلم ومعادلاته”.
ويقول إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني الشهير: “إن البرهان الأخلاقي لوجود الإله أقيم وفق ما تقتضيه العدالة، لأن الإنسان الخيِّر يجب أن يُكافأ والإنسان الشرير يجب أن يعاقَب، وهذا لن يحدث إلا في ظل وجود مصدر أسمى يحاسِب كل إنسان على ما فعل، كما أن البرهان قائم على وفق ما تقتضيه إمكانية الجمع بين الفضيلة والسعادة، إذ لا يمكن الجمع بينهما إلا في ظل وجود ما هو فوق الطبيعة، وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، وهذا المصدر الأسمى والموجود ما فوق الطبيعة يُمثل الإله”.
وكان الملحد الروسي قد سأل مجددًا: حسنًا، لكن في اعتقادي، إن وجود تحقيق منافع وراء فكرة الإله جعلت الإنسان يتوهم بوجود الإله لتحصيل هذه المنافع.
قال الملحد مسترسلاً: إذا كان قوس قزح هو انعكاس الأشعة الشمسية على المطر، فمن الخطأ القول: إن منفعتنا في الاستمتاع بمنظر قوس قزح تدفعنا للاعتقاد بوجود خالق، فباكتشاف العِلم للآلية التي أظهرت ألوان قوس قزح فقد نفى بالقطعية وجود الخالق.
قلت له: إذا كنت تسير في الطريق وضاع منك هاتفك المحمول، ووجدت كابينة هاتف عمومي وأردت الاستفادة منها والاتصال بزوجتك، هل استفادتك من وجود هذا الهاتف واكتشافك لآلية عمله دليل على عدم وجود صانع أصلاً لهذا الهاتف؟ أم أن الهاتف العمومي وجود حقيقي وله صانع؟ إن تحقيق المنفعة من الشيء لا ينفي وجود صانع للشيء بل يؤيده.
في الواقع، إن استمتاع البشر بمنظر قوس قزح الجميل واكتشاف العِلم للآلية التي أظهرت القوس لا ينفي وجود خالق الشمس ومُنزل المطر.
قال: الملحد لا يؤذي الآخرين، ولا يمكن أن يدفع إنسانًا لفعل تصرفات سيئة كما يفعل بعض المتدينين باسم الدين.
قلت له: يدعو الدين إلى الأخلاق الحميدة وتجنب الأفعال السيئة، وبالتالي فإن السلوك السيئ لبعض المسلمين يرجع إلى عاداتهم الثقافية أو جهلهم بدينهم وابتعادهم عن الدين الصحيح. ألم تسمع عن محاولات إقامة الشيوعية في العالم التي تسببت بمقتل الملايين من المسلمين والمسيحيين، كيف تقول إذًا إن إنكار الإنسان للإله لا يمكن أن يدفعه لفعل تصرفات سيئة؟
يقول أحد الفلاسفة الشيوعيين: “كنا نظن أنه يمكن أن نكون أفضل دون إله، وأن نحافظ على إنسانية الإنسان، كم كنا مخطئين، لقد حطمنا الإله والإنسان سويًا”.
قال: صفي لي الخالق؟
قلت له: سوف أُعطيك مثالاً للتقريب فقط، صف لي أنت أولاً شيئًا غير مادي مثل “الفكرة”. أعطني وزنها بالجرامات، وطولها بالسنتيمترات وتركيبها الكيميائي ولونها وضغطها وشكلها وصورتها[7].
قال: طبعًا غير ممكن.
قلت له: إننا لكي نصف أمرًا ليس ماديًا فإن علينا استخدام مصطلحات وأوصاف أخرى تختلف اختلافًا كبيرًا عن المصطلحات التي نستخدمها في دائرة العلوم، فما بالك في وصف خالق الكون وما يحتويه.
قال: أنا أشعر أن فكرة الإيمان كقصص الأطفال المسلية أو رؤى المنام الجميلة التي تُسلي الإنسان عن همومه، ولكن ليس أكثر.
قلت له: هذه الرؤى الجميلة أفضل من كابوس الإلحاد الذي تعيشونه. الإلحاد ما هو إلا إعلان فشل صريح في التوصل إلى الحقيقة. كن مع خالقك الواحد الأحد المحيي المميت ولا تُبال.
قال: الطبيب أيضًا يُحيي ويُميت حين يقرر علاج مريضه أو يتخلى عنه، والقاتل حين يتراجع عن قتل ضحيته فكأنه أحياها.
فذكرت له هذه الآية:
“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”[8] .
قلت له معقبة: أتدري ما كان عقاب الله لهذا الرجل؟ لقد أرسل الله عليه مخلوقًا من أضعف مخلوقاته، وهي بعوضة، دخلت في أنفه ووصلت لدماغه حتى مات، ليُثبت الله أن الإنسان مهما أُوتي من قوة وجبروت يبقى عاجزا عن حماية نفسه من أصغر مخلوقات الله.
استطرد الملحد الروسي: لكن الخالق كان عليه أن يأخذ رأيي قبل أن يخلقني! كيف يُجبر الخالق شخص على حياة هو لا يريد أن يعيشها؟
قلت له: إذا أراد الله أن يأخذ رأي خلقه في الخلق فيجب أن يتحقق وجودهم بدايةً. فكيف يمكن أن يكون للبشر رأي وهم في العدم؟ المسألة هنا مسألة وجود وعدم. إن تعلق الإنسان بالحياة وخوفه عليها لهو أكبر دليل على رضاه عن هذه النعمة.
إن نعمة الحياة هي امتحان للبشر ليميز الانسان الطيب الراضي عن ربه عن الانسان الخبيث الساخط عليه. فحكمة رب العالمين من الخلق اقتضت لاستخلاص هؤلاء الراضين عنه ليحوزوا على دار كرامته في الآخرة.
قال: أنت تقولين: إن في بداية خلق الإنسان تم عقد ميثاق بين الإنسان وخالقه، حيث شهد له بالوحدانية والربوبية، لكنني لا أتذكر ذلك.
قلت له: ألا تنظر عيناك إلى السماء رغمًا عنك عند تعرضك لخوف شديد؟ ألا ترتفع يداك دون أن تدري لطلب العون من القوة الخفية التي في السماء؟
قال: بلى. – وكنت قد بدأت أشعر بنبرة حزن في صوته – قلت له: إذًا فأنت تتذكر ولكن في الضراء، فأنت في الواقع مؤمن، ولكن عليك أن تتذكر الخالق في السراء والضراء ليكتمل إيمانك.
كان قد فاجأني هذا الملحد الروسي بحركة غريبة عندما أخبرته أنني سوف أذهب إلى مكتبي وأُحضر له نسخة من كتابي المفهوم الحقيقي للإله لكي يبحث في هذا الكتاب عن أجوبة للأسئلة التي لا زالت في ذهنه، حيث أنه أخبرني بضرورة مغادرته المسجد حالاً نظرًا لانتهاء الوقت المحدد له لزيارة المسجد وفقًا لبرنامج مكتب السياحة الذي جاء عن طريقه، وقد كان المرشد السياحي ينتظره في قاعة المسجد لكن في زاوية بعيدة، وعندما ذهبت لإحضار الكتاب وعدت ثانيةً، دخلت القاعة ولم أجد الملحد الروسي في المكان الذي كنا نتحدث فيه، فأخذت أبحث عنه في كل مكان، وقد أخبرني المرشد أنه في زاوية أخرى، فنظرت حيث أشار لي المرشد، فوجدته قد أتم سجود المسلمين رافعًا رأسه من السجود وهو يبكي بشدة، فأدهشني المنظر، وقال لي المرشد السياحي مازحًا: ماذا فعلت بالرجل؟ قلت له: لم أفعل شيئًا، كان قد سألني أسئلة كثيرة وقد أجبت عليها، فقال المرشد لي: إن الزائر أخبرني في غيابك أنه متأثر جدًا، وأنه لطالما أحبَّ أن يكون مؤمنًا، لكنه لم يجد أجوبة على أسئلة كثيرة تدور في ذهنه، والآن وجدها، فقلت للمرشد: الحمد لله، هذا من فضل الله وتوفيقه، والله يعلم علم اليقين أن هذا الشخص فيه خيرًا كثيرا، وهو يبحث عن الحقيقة، ولهذا فقد يَسَّر له الطريق إلى هذا المكان.
العلَّة الفاعلة والعلَّة الغائيَّة[9]:
يصف أبو حامد الغزالي رحمه الله أن لكل موجود (كتابًا مثلاً)، عِللاً أربــع.
العِلَّة المادية: وهي الأصباغ والــورق الذي صُنع منها الكتاب.
العِلَّة الظاهــرة: وهــي الهيئة التي شُكَّل عليها الكتــاب.
العِلَّة الفاعلة: هي المؤلف، صانع الورق وعامل الطباعــة.
العِلَّة الغائية: وهي الغــرض الذي من أجله كَتب الكاتب الكتــاب.
ولقد تجاهل الملحدون العِلَّة الغائية باعتبارها خارج نطاق العلم، لأنه لن يُخبِر بالغاية من الصنعة إلا صانعها، واعتبــروا التصديق بها ضد العلم، وصــار على الجميع التصديق بأن الكون وما فيه لا غاية من ورائه.
في الواقع، أن كل ما يقوم به الإنسان من نشــاطات وما يجري في الكون من أحداث يجمع بين الآلية والغائية، فنحن على سبيل المثال، نتناول كوب الماء بأيدينا بآلية الحمل لنشرب ونروي ظمأنا، وكذلك نستخدم الطائرة بآلية الركوب للوصول إلى مكانٍ معين[10].
قال لي ملحدٌ يومًا: إن الاعتراف بوجود الخالق يعطـل العقل والمنطق.
قلت له: إن دور العقل هو الحكم على الأمور والتصديق عليها، فعجز العقل عن التوصل للغاية من وجود الإنسان مثلاً، لا يلغي دوره، بل يعطي الفرصة للدين ليخبره بما عجز عن إدراكه، فيخبره الدين عن خالقه ومصدر وجوده والغاية من وجوده، فيقوم هو بالفهم والحكم والتصديق على هذه المعلومات، فبذلــك يكون الاعتراف بوجود الخالق لم يعطـل العقل ولا المنطق.
يقول ابن طفيل في قصة حي بن يقظان:
“إن العقل يستطيع بما لديه من الأفكار الفطرية الأولى أن يُدرك الحق فيما يتعلق بالمبادئ الأولى، ويدرك منها وجود الله، وأما ما وراء ذلك من أسرار الوجود والخلق والخالق المحجوبة عنا بحُجب الغيب، فهو أعجز من أن يدرك كُنهها وأحقيتها؛ لأن الحواس لا تُدرِك غايات الأشياء، ونحن نرى أن العقل قادر على إدراك القوانين واستنباط الكليات والوعي بالعلل لو أنه تحرر من ضغوط المكابرة والعناد الإلحادي، وما لا يستطيع العقل فعله هو الوصول للتفاصيل والجزئيات التي يأتي بها الدين، وتُعتبر حقائق الدرجة الثانية، ومن المفروض أن تُقبل تبعًا للحقائق الكبرى، كما أن العقل أيضًا وإن كان قادرًا على إدراك وجود الله، فهو عاجز عن إدراك كُنه الله، ولا أعتقد أنه من البحث العلمي في شيء الإصرار على البحث في كُنه الله، ” لَيس كَمثله شَيْءٌ ” [11]. وهذا ليس لأنه لا يدرَك بالحواس فحسب، بل لأنه لا يوجد عالِم طبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلاً عن أن يعرف كُنه ذات الله، فهل يرجو الإنسان الذي لا يعرف المادة، ولا يعرف كيف يعرف، ولا يدرِك كيف يدرِك، أن يدرِك حقيقة الله”.
وأتذكر هنا تعليق لملحد يومًا، أنه قال: لقد توصَّل العِلم المادي إلى أن جهاز الحاسوب يشبه عقل الإنسان، والسبب:
أولاً: كل الماديات ذات الأشكال والنُّظم يمكن تقليدها.
ثانياً: المخ عبارة عن مادة ونظام.
ثالثاً: إذًا المخ يمكن تقليده.
رابعاً: إذًا المخ هو حاسوب.
قلت له: أنت كمن يقول إن جهاز الحاسوب يُدرك ما يحتوي من معلومات! أو كمن يقول إن جهاز التلفاز يُدرك ما يَعرض من برامج، إن الفارق بينهما هو إدراك عقل الإنسان وشعوره بما يفعل.
من عبادة الكون لعبادة رب الكون:
إن من مظاهر النزاع الذي قام بين الدين والعلم المادي في بلاد اليونان القديمة أن حرَّمت الشرائع اليونانية دراسة علم الفلك، مما أعاق التطور العلمي بسبب عبادة موجودات الكون. ولقد عجَّل فشل نظام دول المدائن في اليونان القديمة تدهور الدين القديم؛ ذلك لتزايد اليقين لديهم بأن آلهة المدينة عاجزة عن حمايتهم، فتزعزع إيمان الناس بهذه الآلهة واختلط أهلها بالتجار الأجانب الذين بدورهم نشروا الشكوك واللهو بين المواطنين، وقد بقيت أساطير الآلهة المحلية القديمة بين الفلاحين والسُذَّج من سكان المدن، وانتشرت الخرافات والأوهام، في الوقت الذي بلغ فيه العلم المادي أوجه، وبذلك لم يتقدم العلم في اليونان القديم إلا بعد أن توقف بعض مفكريه عن تقديس موجودات الكون. لكــن الخطأ الفادح الذي وقعوا فيه هو عندما اعتبروا أن الإلحاد ضروري لممارسة العِلم الحقيقي.
وقصة إبراهيم عليه السلام في القرآن تعلمنا أن التخلي عن عبادة موجودات الكون لا تعني دحض وجود خالق للكون؛ بل هي دعوة لعبادة رب الكون[12].
“وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ”[13].
لماذا تخلَّفنا؟
إن الحضارة الإسلامية قد نجحت في إظهار حرية العقل والفكر، وكان دين الإسلام نفسه مسؤولاً، ليس فقط عن إنشاء حضارة عالمية شارك فيها أناس من خلفيات عرقية مختلفة، لكنه لعب دورًا رئيسًا في تطوير الحياة الفكرية والثقافية على نطاق لم يسبق له مثيل من قبل. منذ حوالي ثمانمائة عام كانت اللغة العربية هي اللغة الفكرية والعلمية الرئيسة في العالم، فلماذا تخلفنا الآن إذًا؟
في حوار لي مع صديقة مسلمة كانت ابنتها قد رسبت في امتحان الثانوية العامة، البنت معروفة بإهمالها في الدراسة وعدم جديتها، وكان ذلك تزامنًا مع مرض أم صديقتي الشديد، وكانت صديقتي بِحُكم عملها لا تستطيع البقاء مع والدتها في المنزل لرعاية شؤونها، وكان رسوب البنت يستدعي إعادة دراسة مناهج السنة الدراسية من المنزل، فكانت بالطبع فرصة لأن تكون برفقة جدتها هذه المدة، حيث أنه لن يتسنَّ لها الالتحاق بالجامعة هذا العام.
كنت قد تفاجأت أن صديقتي بدأت تُحدث الناس بأن الله قد تسبب في رسوب ابنتها لتتمكن من الجلوس مع أمها ورعايتها.
قلت لها: عجيب! الله الذي قد تسبب في رسوب ابنتك أم إهمالها في دراستها؟
قالت: أما رأيتِ هذا التيسير والتوقيت المناسب لرسوب بنتي تزامنًا مع مرض أمي؟
قلت لها: “ولا يَظلِم رَبُّك أحدا”[14]، الله لن يظلم ابنتكِ ليوفر سبل الراحة لكِ، الله عَلم بعلمه المسبق أن ابنتك مهمِلة ولن تنجح في الاختبار، لكنه لم يجبرها على الرسوب، ولو كانت ابنتك متفوقة لهيَّأ الله أسبابًا أخرى لرعاية أمك.
وتذكرت حينها قصة من القصص التي روتها لي أمي عند صغري ولا أدري ما مصدرها، ولكن فيها الكثير من الحقيقة.
والقصة تقول: أنه في بلاد الأندلس عندما كانت البلاد تحت حكم الإسلام، وأراد أحد الحكام الظلمة أن يحتلها، فأرسل جاسوسًا إليها ليأتيه بأخبار الجيوش ومدى استعدادهم، فما أن دخل بلاد الاندلس، وجد طفلاً صغيرًا في طرف المدينة يجلس تحت شجرة ويبكي لأنه اعتاد على ضرب عصفورين بسهم واحد، واليوم لم يستطع أن يضرب إلا عصفورًا واحدًا بسهم واحد، وكان قد اعتبر هذا الإخفاق بسبب ذنب قد اقترفه، فقال الجاسوس في نفسه: إذا كان هؤلاء هم أطفالهم فكيف بكبارهم، فرجع من طرف المدينة إلي الحاكم وقال له: لا طاقه لك بهؤلاء، ولكن انتظر حتى تدخل عليهم المعاصي والذنوب لتتمكن من دخول تلك البلاد.
“…إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا…”[15].
الشاهد هنا، أننا لا نتخلف بالمعاصي فقط، ولكن نتخلف أيضًا بعدم اعترافنا بتقصيرنا وذنوبنا، فالانتصار على الأعداء والنجاح في الحياة لا بد أن يسبقه الانتصار على النفس ومجاهدتها على: تقوية الإيمان، البعد عن المعاصي، حُسن الظن بالله، الأخذ بالأسباب، الاعتراف بالذنب وتجديد التوبة دائمًا، ليأتي النصر ويتحقق المراد.
يقول ابن القيم: “احذر نَفسك فَمَا أَصَابَك بلَاء قطّ إِلَّا مِنْهَا، وَلَا تُهادِنها، فوَاللَّه مَا أكرمها من لم يُهنها، وَلا أعزها من لم يُذلها، وَلَا جبرها من لم يَكسرها، وَلَا أراحها مَن لم يُتعبها، وَلَا أمّنها مَن لم يُخوّفها، وَلَا فرّحها من لم يُحزنها “.
إن في الحضارة الإسلامية لم يظهر ما يُسمى بالنزاع بين العِلم والدين كقضية، بل قد اعتبر بعض علماء الطبيعة والفلك والرياضيات المسلمين أنفسهم في عبادة لله تعالى.
لقد تقدم الغرب بالعلوم والمعارف عندما ترك المعتقدات الخاطئة، والتي كانت تقوم على أساس الدين المشوَّه لديهم، ولذلك نجح عندما ترك هذه البدع وبدأ بالأخذ بأسلوب العلم والمنطق، وترك الخوض في الغيبيات المستقاة من أفكار رجال الدين، ومع توجُّههم للعلم بطريقة سليمة كانوا قد خسروا القيم والأخلاق والغاية من وجودهم بتغاضيهم عن اعتناق الدين الصحيح.
لكن عند العرب كان الوضع على النقيض، فقد تخلَّف العرب عندما تركوا الدين الصحيح وتوجهوا للعلم بأسلوب خاطئ، عندما جروا وراء الأسلوب الغربي في التفكير والتقليد الأعمى. وإذا ما رغبنا في استرجاع أمجاد الماضي، فلا بد من تصويب الوضع وإعادة ترتيب الأولويات، فالدين عندنا صحيح ومعتقداته سليمة، ويحث ويُحفز على العِلم بأسلوب روحي، عقلي ومنطقي، ويرفض البدع والخرافات، فالأساس عندنا موجود ولا ينقصه إلا البنيان، لإعادة بناء الحضارة من جديد.
==========================================
[1] (العنكبوت: 19-20).
[2] (آل عمران: 190-191).
[3] (العلق: 1-5).
[4] (فاطر: 27-28).
[5] كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.
[6] نوع من النقاش في علم اللاهوت والذي يتم من خلاله جعل الفراغات (النقص) في المعرفة العلمية دليلاً على وجود الإله.
[7] كتاب الله يتجلى في عصر العلم. مجموعة من العلماء الأمريكيين.
[8] (البقرة: 258).
[9] كتاب تهافت الحكماء في رد مذاهب أهل الأهواء لأبي حامد الغزالي.
[10] مقتبس بتصرف من كتاب وهم الإلحاد. دكتور عمرو شريف. طبعة الأزهر نوفمبر/ديسمبر 2013.
[11] (الشورى: 11).
[12] مقتبس بتصرف من كتاب وهم الإلحاد. دكتور عمرو شريف. طبعة الأزهر نوفمبر/ديسمبر 2013.
[13] (الأنعام: 75-79).
[14] (الكهف:49).
[15] (آل عمران: 155).
في نقد التوظيف الإلحادي لمعطيات العلم
تقوم النزعة الإلحادية اليوم على توظيف فيزياء الكم على نحو لا يخلو من غرض أيديولوجي ؛ حيث تقتطع هذه النزعة فرضية محايثة الصدفة للوجود، فتزعم نفي النظام، لتنتهي إلى نفي الألوهية. هذا باختصار هو المسلك المنهجي الذي يشتغل به أحدث تقليعات الفكر الإلحادي اليوم الزاعم أنه مدرك لمعطيات العلم ومستوعب لراهن تحولاته، مع أنه يوظف هذه المعطيات على نحو لم يخطر حتى على بال مبدعيها ومؤسسيها الكبار!
ويتناسى هذا الموقف الإلحادي، أن النزعة الإلحادية في القرن التاسع عشر مع لابلاس وماركس … كانت ترتكز على الحتمية الفيزيائية من أجل توكيد إلحادها، حتى أن لابلاس عندما سأله نابوليون عن مكان الإله في نسقه الفيزيائي الشبيه بساعة منتظمة قال لا حاجة لي به ؛ لأن الكون منتظم ذاتيا على نحو داخلي!(1)
إن هذا التناقض كاف في تقديري لفضح التوظيف الإيديولوجي ؛ فليست المسألة الإلحادية تعبيرًا عن وعي بمستجدات العلم إنما هي مجرد توظيف لها لتوثيق موقف اعتقادي جاهز مسبق. وإلا لما حصل هذا التناقض التام في استعمال العلم (وأقصد بالتناقض: الاستدلال بنظام الوجود على استغنائه عن أي قوة خارجية (الإلوهية) مع لابلاس ؛ والاستدلال اليوم بالفوضى والصدفة في فيزياء الكوانطا (فيزياء الكم) للقول بعدم وجود النظام، وبالتالي عدم وجود المُنَظِّمِ (الإله)!!
وبين هذا وذاك، أريد في هذا المقال توجيه التفكير نحو ابستمولوجيا العلم(2) للنظر في أسسه المنهجية، وفي مدى اقتدارها على الإجابة عن سؤال معنى الوجود إجابة دينية أو إجابة إلحادية:
–1–
يُحدد الفلاسفة المدلول الغائي للعلم في كونه نشاطا عقليا يستهدف فهم الطبيعة. وبتحديدهم هذا يتضح أن التفكير العلمي يرتكز ابتداء على فكرة مبدئية مسبقة تتمثل في الاعتقاد بقابلية الطبيعة للفهم والعقلنة، وإلا لما جعلها موضوعًا لعملية الفهم والتعقل. وهذا ما يصطلح عليه فلسفيا بمُسلمة محايثة العقل للوجود، أي أن الوجود الطبيعي منتظم على نحو معقول وقابل من ثم للفهم العقلي.
إن هذه المُسلمة الثاوية داخل العقل العلمي هي منطلق مبدئي للممارسة العلمية؛ وبذلك أريد أن أنبه إلى أن العلم يستوي مع غيره من أنماط التفكير في احتوائه على مسلمات غير مبرهنة، حيث تُتَّخذ منطلقات للبرهنة على غيرها لا على ذاتها. وهذا ما نجد توكيده في النظرية المنطقية، حيث أبان كورت غودل استحالة أن يبرهن نسق معرفي على جميع قضاياه، ومن ثم لا بد للأنساق المعرفية من أن تحتوي على مُسلمات ابتدائية غير مبرهنة.(3) وهذا الوعي المنطقي إذا أدركه هؤلاء الذين يركنون إلى ظاهر العلم المقتطعة من مختصراته المدرسية، الذين يحسبون أن كل معطياته المعرفية مؤسسة برهانيا على نحو قطعي يقيني، سيبدلون من وثوقهم هذا، ويقطعون مع هذا التصور الساذج الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه متجاوز اليوم في حقل إبستملوجيا العلم.
كيف يقارب العلم الوجود الطبيعي؟
إن الطبيعة مجموعة أشياء وظواهر محكومة بالصيرورة، وللإمساك عقليا بهذا الوجود الطبيعي المتحرك كان لا بد للعلم من أن يصطنع أداوت ووسائل لتمكينه من إدراك الكون. ومن بين أهم هذه الوسائل المفاهيم.
فامتداد الأشياء والظواهر يقاربه العلم بمفهوم المكان؛ وصيرورة الوجود –أي حراكه– يقاربها بمفهوم الزمان… ثم إن تتالي الظواهر واحدة تلو أخرى جعل العلم يصطنع مفهوم العلاقة السببية/الحتمية لعقلنة هذه الصيرورة. وعندما يضع علاقة سببية يحرص العلم على صياغتها رياضيا، حيث ينزع العلم الكلاسيكي نحو تكميم الظواهر بناء على اعتقاده بأن “الكون مكتوب بلغة رياضية” كما يقول جاليليو.
والعلم الغربي الكلاسيكي منذ بدء انطلاقته الفعلية في القرن السابع عشر –مستفيدا من الرصيد الثقافي العربي الاسلامي– قام على هذا التصور السابق إيضاحه، أي انتظام الطبيعة وقابليتها للصياغة والتكميم الرياضيين. لكن المستجدات التي انبجست منذ بداية القرن العشرين خففت من غلواء هذا التصور الحتمي للوجود الطبيعي، وأدخلت معطى جديدا هو الصدفة، حيث تبين أن الوجود غير قابل للدخول بكل ظواهره ومجالاته ضمن هذه الأطر والمقولات الذهنية التي يعتمدها الوعي العلمي.
–2–
يذهب علم فيزياء الكم إلى أن المجال ما تحت الذري ليس مجال السببية والحتمية كما هو الشأن في المجال الفيزيائي المألوف لنا في تعاملنا اليومي. لذا نجد هيزنبرغ يؤسس قانون “اللاتحديد” أو “عدم التعيين” كمدخل منهجي ضروري لفهم البنية الداخلية للذرة. وهذا ما فرض من ناحية أخرى اعتماد المقاربة الإحصائية الاحتمالية كميثودلوجيا منهجية.
والواقع أنه قبل هيزنبرغ، أي بدءا من أبحاث ماكس بلانك، لم يعد يكفي لدراسة الظاهرة الكونية الاعتماد على نيوتن وماكسويل، بل اتضحت ضرورة الانتقال إلى نموذج معرفي جديد يجاوز مفاهيم السببية والحتمية.
لقد فتحت الفيزياء الكوانطية بكشفها عن المجال ما تحت الذري أمام الوعي العلمي والفلسفي أسئلة جديدة تتمحور حول طبيعة الوجود:
هل هو فعلا وجود منظم؟ أم أن الصدفة جزء أساس من تكوينه؟
وإذا قلنا بوجود الصدفة فهل يعني هذا انتفاء السببية الناظمة للوجود، وبالتالي انتفاء وجود إرادة عاقلة (الألوهية بالمفهوم الديني) هي التي قامت بتنظيمه؟
قبل النظر في نوعية الجواب الفيزيائي المتداول اليوم حول مسألة الصدفة أريد أن أطرح سؤالا أوليًا أراه مُدخلا لإعادة النظر والتفكير في طبيعة أبحاث فيزياء الكوانطا وهو:
هل فعلا يكشف العالم ما تحت الذري عن وجود فوضى؟ أم أن هذه الفوضى مجرد نتاج ضعف أدواتنا ووسائلنا العلمية في القياس؟
إن المجال الموضوعاتي للفيزياء الذرية قلب الكثير من المُسلمات والمفهومات والمناهج. بل حتى داخل المنطق، حيث نادى المناطقة بوجوب استبدال المنطق الصوري الأرسطي؛ لأنه قائم على رؤية قيمية ثنائية (يختصرها مبدأ الثالث المرفوع)، وهو بذلك عاجز عن احتواء هذه الظاهرة الوجودية الجديدة والمدهشة.
وأمام هذه الظاهرة الخارقة لمألوف التفكير العلمي الكلاسيكي ونسقه المنطقي في مقاربته للوجود لم يكن أمام العقلانية إلا أن تقف موقفا من ثلاثة مواقف ممكنة، كما يقول روجر موشيلي:
إما أن تعد الصدفة الملحوظة في بعض ظواهر الطبيعة نتاج جهلنا بقوانين تلك الظواهر وأسبابها. وهذا بالفعل ما يعبر عنه بوانكاري بقوله:”إن الصدفة هي فقط مقياس جهلنا”.
والفرض الثاني هو أن الصدفة نتاج تقاطع سلسلتين أو أكثر من الأسباب المستقلة وهذا هو التعريف الشهير الذي وضعه كورنو.(4)
والفرض الثالث حسب روجر موشيلي يمكن أخذه من تعريف برجسون لمدلول الصدفة(5)، وهو التعريف الذي مهد لإيضاحه بمثاله التالي: “قطعت ريح شديدة سقفا من القرميد فسقط فوق رجل كان مارا في الطريق فمات.” في العادة نقول عن الحادث إنه وقع صدفة . لكن لو أن الريح قطعت ذات السقف وسقط على الأرض دون أن يحدث قتلا، فإننا نسميه حدثا عاديا ناتجا عن قوانين الطبيعة.
ويخلص برجسون من هذا المثال إلى تنبيهنا إلى أمر هام وهو أننا لا نصدر وصف الصدفة إلا عندما يكون ثمة تعلق بمصلحة بشرية . وبالتالي فالصدفة نوع من التأويل البشري يتم خلعه على الظواهر الحتمية.
–3–
بالنظر إلى الأبحاث الدارسة لإشكالية فيزياء الكوانطا نرى أن بعض التأويلات المتفلسفة التي أطلقها الفيزيائيون تنزع نحو القول بأن الصدفة هي وجودية وليست معرفية. بمعنى أن الوجود ما تحت الذري وجود خارق للانتظام السببي! وعدم كشف أسباب وأشكال انتظامه ليس نتاج ضعف وسائلنا في المعرفة، بل نتاج طبيعة الوجود ما تحت الذري ذاته.
لكن هل ثمة حقا إمكانية علمية للجزم بهذا التصور؟
هل يملك الفيزيائي المشتغل في حقل الذرة أدوات منهجية تسمح له بالقطع اليقيني الجازم في شأن هذا المجال الوجودي الدقيق الذي يشتغل فيه؟
أميل إلى الاعتقاد بأن هذا التصور الذي يرجع الصدفة إلى الوجود يفتقر إلى الاستدلال الجازم، فهو مجرد افتراض. وهنا أستحضر جاك هارتونك أحد كبار المتخصصين في حساب الاحتمال، حيث يميز بين ما يسميه بالصدفة الموضوعية الهشة، والصدفة الموضوعية الصلبة؛ فالأولى تتحصل بسبب ضعف أدوات المعرفة، أما الثانية فهي صدفة أنطلوجية حاصلة بسبب طبيعة الوجود ذاته الذي تنتفي منه السببية. وفي سياق بحثه في هذين النوعين من المداخل المنهجية الدارسة لإشكالية الصدفة في الوجود الطبيعي، ينتهي إلى أن الأمر غير قابل قطعا للبت والتوكيد. فلا يستطيع العلم أن يجزم بأن الصدفة ما هي إلا نتاج ضعف أدوات المعرفة، كما لا يستطيع الجزم بأنها راجعة إلى طبيعة الوجود ذاته؛ بل كل ما هو ممكن هو اعتبار أحد الفرضين كمُسَلَّمة عقلية غير قابلة للبرهنة.
أرى في قول هارتونك توكيدا لنسبية القدرة المعرفية البشرية، ووقوفا عند محدودية إدراكها للوجود. وفي قوله مقدار كبير من لمسة العلم وحكمة العلماء، ولو أن الداعين للفكر الإلحادي اليوم كان لهم بعض من هذه الحكمة لما استسهلوا هذا التوظيف الإيديولوجي للعلم ومعطياته.
لكن في المقابل إن كثيرا من دعاتنا يقعون في ذات المزلق فتراهم باسم الإعجاز العلمي يقتطعون بضع معلومات معرفية أذاعتها العلوم، فيسارعون إلى أن يؤسسوا عليها تطابقات بِلَيِّ أعناق النصوص القرآنية والحديثية، على نحو لا يسمح به العلم ولا النص الشرعي ذاته.
ينبغي أن نعلم أن سمو وعلو الحقيقة الكلية للوجود يجعل كل مقاربة معرفية لها محكومة بأن تعي ابتداءًا أن هذه الحقيقة هي أمر إعتقادي لابد فيه من مقدمات توضع موضع التسليم. ونحن في هذا كمسلمين معتقدين بقرآننا لا نستشعر تجاه أكبر عقل علمي لا أدري، ولا أصغر ملحد يشاكس بمقولات العلم دون فهم أصولها، بأي استصغار؛ لأننا ندرك أن كل نسق معرفي –علميا كان أو غير علمي– لابد في قيامه المنطقي من مسلمات ابتدائية. والحقيقة الوجودية الكبرى –حقيقة الألوهية وما بعد الوجود، والقضاء والقدر…– هي أفق ديني يجذب التفكير، ولكن لا يمكن لوعاء العقل أن يشملها ويهيمن عليها بأقيسته واستنباطاته. وكل تنطع لاختزال هذه الحقيقة –على وساعتها وعمقها– بعقلنة تزعم الوثوق والشمول فذاك –في نظرنا– سلوك لا معرفي؛ لأنه ناتج عن جهل بحقيقة العقل ذاته وإمكاناته الابستيملوجية المحدودة بطبيعتها التكوينية، وليس فقط بمحمولها المعرفي.
(1) نص العبارة بالفرنسية Ne me faut pas de cette hypothése
(2) ابستمولوجي Epistemology هو ذاك الفرع الفلسفي المهتم بطبيعة ومنهج ومجال المعرفة، ويأتي فرع الأنطولوجي Ontology في الفلسفة كعلم دراسة وجود الأشياء وكينونتها.
(3) يُنظر: مُبرهنة عدم الاكتمال الأولى لجودل Godel’s first Incompleteness Proof
(4) Antony Augustin Cournot, The Creative Power of Chance, p13.
(5) Henri Bergson, Creative Evolution, p233–234.
العلم بين الإيمان والإلحاد: نحو تحليل أعمق للادعاءات الإلحادية
قبل البدء…
لنتخيل معًا شابًا باحثا مُحبًا للعلم وقد ملأ الإعجاب قلبه بمحرك السيارة وأراد الوقوف على سر عمله (ولنعطي هذا الشاب مثلاً اسم س)، حيث جمع الشاب (س) مبلغا مِن المال واشترى بالفعل مُحركا مِن أحد المعارض الهندسية وعكف عليه كامل وقته ليفك أجزائه جزءًا جزءًا إلى أن وصل أخيرًا لفهم كيفية عمله وتشغيله والآن: هذا الموقف للشاب (س) سيكون محور الأمثلة معنا في هذا الموضوع بإذن الله. وذلك بعد استبعاد الفرض الإلحادي العجيب في أن معرفة كيفية عمل المُحرك = أنه لم يصممه ولم يصنعه أحد!!
1- معنى العِلم:
العِلم في اللغة العربية هو الإحاطة التامة بالشيء وحقيقته وكلياته وجزئياته، وهو بذلك المفهوم أكبر مِن مجرد المعرفة بالشيء والتي تنحصر في الإدراك الجزئي أو البسيط له، فعلاقة الشاب (س) بالمُحرك مثلا قبل فحصه والوقوف على سر أجزائه كلها توصف بأنها معرفة، وأما بعد إحاطته بكل هذه التفاصيل فتوصف بأنها قد صارت عِلمًا، ولذلك يوصف الله تعالى دومًا بصفات العِلم ولا يوصف بصفات المعرفة فيُقال في حقه مثلا: “عالِم” “عليم” “علّام” “يعلم” , لأنه المُحيط بكل شيء سبحانه أو كما قال: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12]، في حين أن أعلم البشر دينيًا أو دنيويًا لا يصح أن نصفه بأنه يعلم الله! وإنما نصفه فقط بأنه عارف بالله، لأنه لا يُحيط أحدٌ عِلمًا بالله تعالى أبدًا أو كما قال سبحانه: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].
وجدير بالذكر هنا أن كلمة عِلم بهذا المفهوم العربي والإسلامي هي أكبر مِن كلمة (Science) في اللغة الإنجليزيةوأوسع مِنها شمولا وإحاطة، ولذلك فإن الأقرب إلى معناها هي كلمة (knowledge) رغم استخدام الإنجليز لها كثيرًا كمرادف لمعنى المعرفة!! ولذلك نجد كلمة عالِم في لغتنا العربية هي أوسع استخدامًا في معانيها وتنوعاتها الدينية والدنيوية مِن كلمة (Scientist) وهي الحديثة نسبيًا في اللغة الإنجليزية وتعني المُتخصص في العلوم الطبيعية فقط.
2- بحث الإنسان في العِلل والأسباب:
لا شك أن عِلم الإنسان بشيء ما وإحاطته به لن يتحقق إلا بالبحث في عِلله وأسبابه للوصول في النهاية إلى رؤية شاملة عنه وإحاطة تامة به، وهي الرحلة التي تبدأ مِن المُلاحظة والبحث والتجريب في توصيف الشيء وبيان كيفية عمله، وتنتهي إذا استطعنا الإجابة عن الغاية أو لماذا وجوده أو حدوثه؟ وبذلك نرى أن صنفيّ العِلل التي يُمكن للإنسان البحث فيها هي عِلل فاعِلة وعِلل غائية.
فالعِلة الفاعِلة: هي الوقوف على وصف الشيء وكيفية عمله ووقوعه –وذلك مثل الطبيب الشرعي الذي يدرس الجريمة ويصف ملابساتها بكل دقة–، وهي تستلزم أن يكون الشيء أو آثاره المادية محل الدراسة هي موجودة بالفعل ومرصودة أمام الباحث. ولكن لا تستلزم معرفة الفاعل أو الصانع نفسه في دراستها، وقد رأينا عدم تأثر الشاب (س) في كشفه لكيفية عمل المُحرك بمعرفة صانعه أم لا. وكذلك لا تتوقف صحة البحث فيها على مُعتقد الباحث أو دينه أو مذهبه في الحياة؛ متدين، ملحد، لاديني.. إلخ. فالكل مِن المُفترض أن يُعطي نفس النتائج إذا اتبع نفس السلوكيات ومنهجية البحث.
وأما العِلة الغائية: فهي الوقوف على غاية الفاعل مِن الشيء ولماذا، وذلك مثل الشرطي المُحقِق الذي يكشف شخصية المُجرم ودوافعه ونحوه، وهذه العِلة -وبعكس العِلة الفاعِلة- تتعلق بالبحث في الغائب عن حواس الإنسان الخمسة؛ السمع والبصر والشم والتذوق واللمس، وهو الفاعل غير الموجود أو دوافعه غير المادية. ويمكن تمثيلها في حالة الشاب (س) بمعرفة شخصية صانع المُحرك أو دوافعه لصنع المُحرك أول مرة ماذا كانت؟ وهنا نجد اختلافا عن العِلة الفاعِلة في تأثر العِلة الغائية بمعتقد الشخص ونظرته إلى الوجود.
فوقوع زلزال ما مثلا، فإنه تستوي معرفة كيفيته الجيولوجية ووصفه الطبيعي عند العالِم المؤمن أو الملحد، فإذا جئنا إلى تفسير الغاية أو لماذا وقع الزلزال في هذا الوقت تحديدًا أو هذا المكان فيُصيب بضرر – كتهدم البيوت وابتلاعها وموت الناس- أو يُصيب بنفع – كظهور بعض كنوز الأرض أو المتحجرات الهامة-؟ فهنا يبدأ الخلاف في الظهور بين المؤمن ويقينه مِن أن كل شيء في الطبيعة يجري بإرادة ومشيئة الله وحِكمته، وبين الملحد الذي يُريد أن يتخيل العالم وكأنه مُحرك آلي بلا غاية ولا هدف حيث تنتهي علومه بمعرفة كيفية عمله وفقط!
فإذا استوعبنا ذلك: سقط أول خلاف مزعوم بين العِلم والإيمان، حيث في الوقت الذي نجد لدى المؤمن إجابة عن كل مِن العِلة الفاعِلة والغائية لهذا الزلزال مثلا، نرى الملحد وقد تعمد استقطاع العِلة الغائية فقط مِن كلام المؤمن ليوهم الناس أنها هي الإجابة الوحيدة التي لديه لتفسير وقوع الزلزال! وأنها بذلك تكون -بالطبع- إجابة غير علمية لأنه لا يمكن رصدها ولا التحقق مِنها تجريبيًا! فنقول له: إنه كما ذكر الله تعالى في قرآنه للناس أنه هو الذي يُنزل المطر رحمة بهم أو عذابًا عليهم (عِلة غائية)، فقد ذكر في آيات عدة أخرى تفاصيل نزول هذا المطر ودورته في الطبيعة بكل إعجاز (عِلة فاعِلة)، فلماذا أظهرت الأولى وأخفيت الثانية؟!
3- حدود العِلم الطبيعي وحدود الدين:
ومِن الشرح السابق نرى أن حدود العِلم الطبيعي، وهو النظر في الموجودات مِن حول الإنسان، تنحصر في البحث عن العِلل الفاعلة في الأشياء، وذلك لغرض فهمها وتفسيرها واستخراج قواعدها وقوانينها، إما لتجنب أضرارها وإما لتطويع فوائدها، فضلا عن إرضاء الفضول العِلمي، وتعد أدوات العِلم الطبيعي في ذلك هي حواس الإنسان التي يقودها عقله لتحليل بياناتها ومُدخلاتها وتصميم تجاربها، ثم تدوين مُلاحظاتها للخروج في النهاية بالنتائج والتفسيرات والنظريات أو القوانين.
وبذلك فإن العِلم الطبيعي له شِقّان، شِق مادي تجريبي مُتعلق بالحواس والرصد، وشِق عقلي بحت في الملاحظة والاستدلال والقياس والاستقراء والاستنباط، ثم الاستنتاج وتعميم الفرضية أو القانون.
وأما الأديان، والتي يقودها عمومًا الإيمان بخالق، فهي تشمل حدود الموجودات المادية وتجعل مِنها أداة عقلية دالة عليها، ثم هي تتخطاها إلى ما وراءها مِن فاعل مُريد وغايات، وهي بذلك تتعدى حدود حواس الإنسان لتصب في استخدامه لـ (عقله) المُتدبر المُحلل المُفكر في كل ما حوله مِن أشياء وعلاقات، للوصول مِنها إلى صفات عامة يقينية عن الخالق أو الصانع، فتثبت وجوده حتمًا وربوبيته في الوجود -تمامًا كما يستطيع (س) الاستدلال على وجود صانع بالتأكيد للمُحرك، بل ويستطيع كذلك استنباط العديد مِن صفات هذا الصانع مِن غير أن يراه أو يحيط به كله، مِثل أنه لديه صفات عِلم وحِكمة ودقة وتقدير وقدرة وقوة على تشكيل المواد وتركيبها.. إلخ-، ثم تأتي مِن بعد ذلك رسالات الرُسل لتخبرنا بمُراد الخالق مِنا، والكيفية التي يريدنا أن نعيش عليها ونتصرف لنحقق إرادته فينا –وهو ما لا يمكن أن تصل إليه أبحاثنا في العِلل الفاعلة ولا في العلوم الطبيعية ولا حواس الإنسان بمفردها كما قلنا-، وهكذا يُمكننا تمثيل العِلم الطبيعي بدائرة تقع داخل دائرة أكبر وهي الدين ولا يتعارض معها، ولكن لا يُمكننا عكس موضع الدائرتين حيث لا يُمكن أن يُحيط العِلم الطبيعي بكل غايات الدين وغيبياته وإنما يُستخدم فقط للدلالة عليه وبعض صفاته.
فنحن عندما نأتي مثلا إلى تفاعل حيوي مُعين داخل الخلية الحية ونطلب مِن العلماء الطبيعيين أن يدرسوه ويحللوه ويعملوا عليه، فإننا ننتظر مِنهم تقاريرًا تترجم لنا تخصص كل مِنهم في جانب مِن جوانب المادة المرصودة أمامه أو آثارها، فننتظر تقاريرًا مثلا لعلماء الكيمياء عن تفاعلات جزيئات المواد وذراتها، وتقاريرًا لعلماء الفيزياء عن الجسيمات داخل هذه الذرات، وتقاريرًا لعلماء البيولوجيا عن تفصيل ما جرى داخل هذه الخلية الحية ككل.. وهكذا، ولكننا أبدًا لن ننتظر مِنهم تقاريرًا عن مَن الذي قرر وصمم هذا التفاعل في الأصل! ولا ماذا كان مُراده أو غايته مِنه! فذلك خارج هذه التخصصات العلمية الطبيعية كلها، وجوابه لا يمكن أن نجده عند أحدها بحال مِن الأحوال.
فإذا فهمنا ذلك: سقط ثاني خلاف مزعوم بين العِلم والإيمان، والذي صوره الملحدون في صورة عدم خضوع الدين كله للعِلم الطبيعي والتجريبي وتعارضه معه، حيث رأينا الآن أن الإشكال هو في محاولة إقحام أدوات بحث العِلة الفاعِلة للطبيعة والكون -مثل الحواس- لتبحث لنا في العِلة الغائية، وهي الخالق وإرادته وغيبيات الدين، بل والمسألة بذلك الحجم الكوني هي أعقد بالطبع مِن محاولة البحث في مُحرك الشاب (س)، وذلك لأن الشاب (س) نفسه سيكون ساعتها داخل في الطبيعة والكون مِن حوله ومؤثر فيها، فكيف سيصل إلى حل هذه المنظومة الأكبر وهو جزء مِنها؟! يقول العالم الأشهر[1] “ماكس بلانك Max Planck” أحد الفائزين بجائزة نوبل في الفيزياء:
“العِلم الطبيعي لا يستطيع حل اللغز المُطلق للطبيعة، وذلك لأنه في التحليل الأخير نكون نحن أنفسنا جزء مِن الطبيعة، وبالتالي جزء من اللغز الذي نحاول حله”[2].
Science cannot solve the ultimate mystery of nature. And that is because, in the last analysis, we ourselves are part of nature and therefore part of the mystery that we are trying to solve.
ولذلك فإن حاكمية العِلم الطبيعي على الدين تتمثل فقط في البحث والتأكد مِن نصوصه العقلية والطبيعية الكونية، للحُكم على صدق هذا الدين أو كذبه، وليس مِن شأنها نفي غيبياته بالكلية لمجرد أنها لا تخضع لأدوات بحثه المادية! فإذا تعارضت الحقائق اليقينية المُكتشفة في العِلم الطبيعي مع عقلانية ونصوص دين ما، فهي تعطي مؤشرًا للعاقل ساعتها بترك هذا الدين وأنه ليس مِن لدن الخالق الحق لكل هذا الكون وما فيه (ووصف اليقينية هنا هام جدًا لاستبعاد كل ما كان في مرحلة الفرضيات والنظريات وعرضة للتغيير)، وأما إذا تطابقت هذه الحقائق اليقينية أو أكدت صحة نصوص هذا الدين ووصف الخالق فيه بالحِكمة وكمال العلم: فهي حينئذٍ تأخذ العاقل خطوة إلى الأمام للتمسك أكثر بهذا الدين وتصديقه واتباعه، يقول عالم الفيزياء الفلكي [3]”جوزيف هوتن تايلور Joseph H. Taylor”:
“الاكتشاف العلمي هو أيضًا اكتشاف ديني، ليس هناك تعارض بين العلم والدين، معرفتنا عن الله تصبح أكبر مع كل اكتشاف نكتشفه عن العالم”[4].
A scientific discovery is also a religious discovery. There is no conflict between science and religion. Our knowledge of God is made larger with every discovery we make about the world
4- متى يصير العِلم صراعًا بين الإيمان والإلحاد؟
لقد رأينا منذ قليل كيف أن البحث في العِلة الفاعِلة لا يتوقف على مُعتقد الباحث ولا دينه ولا حتى إلحاده، وذلك بخلاف البحث في العِلة الغائية والذي كثيرًا ما يتأثر برؤية الباحث المُسبقة الناتجة عن معتقده أو دينه أو إلحاده.. ومِن هنا:
فإن أي مُكتشفات أو أبحاث عِلمية –ومهما بلغت مِن قوة تغييرها لفهمنا الطبيعة والكون– فلن تستجلب صراعًا بين الإيمان والإلحاد إلا إذا تلامست مع حدود الغاية ولماذا لدى كل مِن المؤمنين والملحدين!
فاكتشاف (الكهرباء، الكهرومغناطيسية، الإشعاعات، الذرة، نواتها، الإلكترونات، الحمض النووي.. إلخ) كلها صنعت انقلابات وطفرات في نظرة العلماء والناس للطبيعة والكون، ولكنها لم تسبب خلافات كبرى بين الدين والإلحاد إلا عندما تعلقت تفسيراتها بنقطة بدء الكون أو الوجود وبدء الإنسان، حيث نرى الملحد ساعتها يتخطى حدود بحثه العلمي ليعطي تفسيرات مِن ميوله ورؤيته الخاصة لهذه المحطات الوجودية الهامة مُستميتا في إبعادها عن تفسير الخالق عز وجل!
وهذا يدل على أن الملحد –مثل المؤمن– يدخل معامل العلوم الطبيعية والتجريبية بحصيلة مُسبقة مِن الدوافع أو الغايات والرؤى غير المادية، والتي ستتحرك نتائجه حتمًا بين حدودها مهما كانت مُخالفة لها، وطالما أنه كان مثل المؤمن في ذلك –أي في وجود رؤى مُسبقة– فهل لنا أن ننظر فيمَن كانت رؤاه هي الأصح عقلا وأصدق مع النفس؟
5- المؤمن أعقل وأصدق حالا مع نفسه مِن الملحد:
إن واحدة مِن أكبر فريات الملحدين في مواجهتهم مع المؤمنين باسم العِلم، هي محاولتهم الفاشلة في إظهار محصورية صفة الموجود على المحسوس فقط، ومحصورية وسائل إدراك الإنسان التي حباه الله تعالى بها على الحواس الخمس فقط، مُتناسين بذلك أن أوثق وسائل الإدراك هي البدهيات الرياضية التي لا تحتاج إلى إثبات خارجي (مِثل قولنا 1+1=2 أو أن 4 أصغر مِن 7)، ثم يليها البدهيات العقلية التي لا تحتاج في ذهن العاقِل إلى شرح وتفسير وإثبات كذلك (مِثل أنه لكل حادِث مُحدِث، وأن العدم مفهوم ذهني لا يُخرج شيئا بدون خالق، وأن فاقد الشيء لا يُعطيه أي أن ذرات المواد والقوانين غير المُختارة لا يُمكن أن ينتج عنها وعي الكائنات الحية المُختارة، وأن الجزء أصغر مِن الكل، وأنه يستحيل تسلسل العِلل أو المُسببات إلى مالانهاية، ومِثل صحة قياس المُتشابهات ومهارات الاستدلال والاستنباط والقياس والاستقراء وهكذا)، ثم تقبع في النهاية حواس الإنسان التي قد تخدعه (مِثل رؤيته للسراب في الصحراء على أنه ماءً).
ولذلك فإن كل مُكتشفات العلوم الطبيعية لا تقوم إلا على هذه البدهيات العقلية في أبحاثها واستنباطاتها وإثباتاتها لوجود الأشياء، بالنظر فقط في آثارها ومِن غير الحاجة لرصد تلك الأشياء نفسها! ولذلك نقول إلى هذا الصنف مِن الملاحدة ومَن يصدقه أو يقع في شِباك خِداعه وكلماته: لقد تناقضت ثلاث مرات على الأقل مع إلحادك المادي وعلاقته بالعِلم الطبيعي وهم:
1- افتراضك قبل الدخول إلى معملك أن الكون (موضوعي Objective) أي قابل للدراسة والفهم، وهذا افتراض عقلي سابق على أي تجربة وغير مدعوم بالحواس الخمس، وهو ما يُناقض مبادئ الإلحاد المادي البحت الذي تحاول أن تتمثله، وذلك بعكس الإيمان -أو الدين- الذي لا يجد في مِثل هذا الافتراض أيَّ إشكال، وخصوصًا مع نفيه للعبثية والجهل عن الخالق وإرادته الحكيمة.
وإلا.. تخيلوا لو قيل للشاب (س) عن المُحرك أنه مجرد تجميع عشوائي أو تجميع طفل صغير، فهل تعتقدون أنه كان سيُنفق وقتا أو مالا للانكباب عليه لدراسته وفهمه؟!
2- افتراضك انتظام سلوك الأشياء باطراد (Consistency) وثبات القوانين (Persistency) وفعالية العلاقات الرياضية (Efficacy) للتعبير عن الحقائق والاستقراءات بالشكل الذي يتم فيه تعميم النتائج الواحدة على كل ما عداها مِن حالات في نفس سياقها رغم عدم معاينتها بعد! وكل ذلك لا غنى عنه لاستمرارية الاعتماد على العلوم الطبيعية وقبول نتائجها والعمل بها في كل مجال، وتوقع ذلك الانتظام الكوني والطبيعي هو فطرة مغروسة في الإنسان، بل وفي الحيوان نفسه أيضًا! ويمكن ملاحظتها بوضوح في تجنب كل منهما لمواضع الأذى بمجرد وقوعه في أحدها ولو مرة واحدة فقط، وهذه افتراضات عقلية مُسبقة كذلك وتناقض مبادئ الإلحاد المادي في عدم الإيمان إلا بالموجود والمحسوس في كل مرة.
3- سلوكك أيها الملحد لنفس خطوات البحث العلمي الطبيعي والتجريبي القائمة على المُلاحظة، ثم التخطيط والافتراض والتجريب، ثم الاستدلال (العقلي) المُتقبل لإثبات وجود الأشياء مِن مجرد رصد آثارها فقط، بل وتقبلك لوصف الأشياء وإلباسها أسماءها المُميزة لها مِن غير ضرورة الوقوف على كنهها أو ماهيتها وحقيقة ذاتها!
فها هو العالِم في معمله -سواء المؤمن أو الملحد- يتحدث يقيناً عن وجود الجاذبية الأرضية وهو لم يرصدها ولم يعاين بحواسه وقياساته إلا آثارها فقط، في حين تبقى ماهيتها وكنهها مجهولين عنده إلى اللحظة، وكذلك يتحدث عن الإلكترون والفوتون وعن سائر الجسيمات دون الذرية وهو لم يرها بعينه المُجردة إلى الآن، بل ويتعامل مع توزيع احتمالات حركتها وموضعها لعجزه عن رصدها وهي تتحرك في سرعاتها الرهيبة فضلا عن (مبدأ عدم اليقين Uncertainty principle لهايزنبرج)[5]، والذي يحكم بالفشل مُقدمًا على أية محاولة لرصد خاصيتين كموميتين معًا مثل السرعة والموضع للخروج بنتائج تامة 100% عنهما!
إذن المؤمن أعقل وأصدق حالا مع نفسه مِن الملحد الذي يناقض ادعاءاته علنا في كل لحظة يقف فيها في معمله وبين أدواته وفي أحضان سجلاته و تدويناته لملاحظاته.
ومعلوم أن الله تعالى قد ذكر في القرآن عِلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، ويتمثل الفرق بينهم في مراتبهم، حيث عندما يجمع الإنسان الأدلة على وجود شيء ما وإلى أن يتيقن مِن وجوده –مثل الأدلة على وجود دولة جيبوتي مثلا– فذلك يُسمى عِلم اليقين، فإذا وقع ومر عليها بالطائرة فعلا ورآها بعينه فذلك هو عين اليقين، أما إذا نزل فيها بالفعل فهو هنا يكون قد وصل إلى أقوى مراتب اليقين وهو حق اليقين. والخالق عز وجل لم يُكلف المؤمنين به إلا بأولى درجات اليقين فقط؛ وهي عِلم اليقين.
6- اضطرار الملحد إلى عالم الغيب:
إن الرغبة الجامحة لملامسة الغيب ومحاولة فك أسراره والخروج عن حدود الملموس والمرصود هي رغبة أصيلة في عقل الإنسان وفضوله العلِمي إذا صح التعبير، إنها تشبه إلى حد كبير إنسانا محبوسًا داخل سجن صغير، وهو يعرف أن قدراته الحركية تفوق هذا الحيز المحدود الخانق بكثير. وبمثل هذه الحاجة المُلحة نجد العالِم الملحد لا يكتفي بحدود هذا السجن مِن العلوم الطبيعية التي باتت محدودة بشِقيها شِق الزمان، مثل جهل ما قبل الانفجار الكبير وزمن بلانك وجهل المستقبل الكوني في انهياره أو ثبوته، وشِق المكان، وهو صدمته في تتبع مرصود اتساع الكون بسرعات أكبر مِن سرعة الضوء أو في تتبع مرصود الجسيمات دون الذرية التي يؤثر عليها وأجهزته نفسها ساعة الرصد حيث يرصد بفوتون الضوء فوتونا ضوئيًا مِثله فيصطدمان!
إنه سجنٌ حقيقي لمَن يعلم، سجنٌ يتألم فيه العالِم الملحد نفسيًا وهو عاجز عند تلك الحدود الطبيعية، إذا ما رأى مقارنة الناس بينه وبين علماء الدين والدنيا المؤمنين، والذين يجدون في أديانهم إجابات عن ما قبل وبعد خلق الكون والمكان والزمان، ومِن هنا – وحتى لا ينسحب البساط مِن تحت قدميه- فلن نجده يرضى بمثل هذه الهزائم أبدًا إلا أن يخترع لنفسه غيبًا هو الآخر يستطيع به سد فراغاته المعرفية، ولتقديمه إلى الناس في صورة تصبرهم على الإلحاد مِثله، أو كما قيل: “مَن يُنكر الميتافيزيقا، يتفلسف ميتافيزيقا”!
ومِن هنا.. فلم يستحي الملحد أبدًا مِن أن يُحدث الناس مثلاً عما قبل الانفجار الكبير (Big bang) ولحظته المتفردة (Singularity)، وذلك رغم جهل العلوم التام بما قبل زمن بلانك (Planck time)! أو حتى يُحدثهم عن وجود الطاقة السوداء (Dark Energy) أو المادة السوداء (Dark Matter) واللتان لا يمكن رصدهما ماديًا، ولكنه يفترض وجودهما لحل لغز التوسع العظيم في الكون ولتستقيم له معادلات الفيزياء الكلاسيكية مِن جديد! أو يتلو على الناس قصص التطور (Evolution) الخيالية التي لم يُشاهد هو ولا غيره مِنها شيئا، أو نراه تأخذه الجرأة الميتافيزيقية فيُحدث الناس عن احتمالية وجود أكوان موازية (Parallel Universes) لا نراها -وكما عند المؤمنين- أو حتى وجود أكوان مُتعددة (Multiverse) رغم أنه لا يُمكن رصدها نظريًا بسبب محدودية أقصى مسافة مِن الجسيمات الحاملة للمعلومات عن الكون أو ما يُسمى بأفق الجسيم (The particle horizon)!
والآن.. هل يمكن لأي ملحد شجاع أن يُقارن كل هذه الإيمانيات الغيبية الميتافيزيقية الإلحادية باتهاماته الجاهزة لنظرية التصميم الذكي مثلا، والتي يسوقها لينفي دلالتها على وجود الخالق فيقول كما نسمع ونقرأ مِنهم كثيرًا: نظرية التصميم الذكي ليست عِلمًا لأنها تتعامل مع كيانات لا يمكن ملاحظتها أو تجريبها!
ولذلك فلا عجب مِن المقال العلمي النقدي اللاذع الذي وجهه عالم الكونيات الشهير[6] (جورج إليز George Ellis) للسخرية مِن فرضية الأكوان المتعددة التي لا يمكن إثباتها، والتي وصل عددها حسب ما قاله الملحد (ستيفن هوكينج Stephen Hawking) وهو شريكه السابق في الكتابة العلمية الكونية إلى 10 أس 500 احتمال![7] وذلك في محاولة إلحادية بئيسة للهروب مِن تفسير الإحكام المُتقن لقوانين الكون (Fine-tuning of universe) التي ألجمتهم وهم يحاولون نفي دلالتها على القصد والغاية الحكيمة للخالق!
فإذا فهمنا هذا التناقض الصارخ لرأينا العِلم وهو يميل في كفة الإيمان عن الإلحاد بالكلية، إذ امتاز الإيمان أولا بصدق فرضياته المتناسقة مع روح العلم وانتظامه، وثانيًا مع معقولية استدلالاته على وجود الغيب مِن آثاره المادية في الطبيعة والكون المرصود.
7- بين “إله الثغرات المعرفية”، والسببية والاحتمالية!
لا شك أن مفهوم “إله الثغرات المعرفية” الديني قد سقط الآن بما أوضحناه مِن النقاط السابقة، بل والغريب أنه قد حل محله إله ثغرات معرفي آخر ولكنه إلحادي هذه المرة، حيث نرى الملحد يُسارع عند كل جهالة تسد طريقه العلمي الطبيعي إلى إضافة تفسيرات غيبية ميتافيزيقية مِن عنده ليخلع عليها لبسة الإلحاد، بعيدًا عن التفسير الديني الذي يكون دومًا أقرب للعقل والعِلم الحقيقي، يُذكرنا ذلك بقائمة عالم التطور الدارويني الألماني (روبرت ويزرشيم Robert Wiedersheim) التي وضعها في كتاب (The Structure of Man: An Index to His Past History)عام 1893م، وساق فيها 86 عضوًا مجهول الوظيفة في وقته على أنها دليل على الأعضاء الأثرية المزعومة [8] (Vestigial organs) والتي يستميت الملحدون والتطوريون لإثبات وجودها كدليل على بقايا تطور الكائنات بعضها مِن بعض وصولا للإنسان! فذكر مِنها الزائدة الدودية وكذلك الغدد الصماء التي كانت مجهولة الوظيفة قبل اكتشاف الهرمونات وغيرهم الكثير، وهو ما يترجم لنا كيف تؤثر الأفكار المُسبقة على تفكير المُلحد في وضع تفسيرات إلحادية لكل مجهول عِلمي.
ففي هذا المثال السابق – ومِثل زعمهم أيضَا أزلية الكون التي أسقطها العِلم وكذلك الجينات الخردة وغيرها- يمكننا أن نستخدم نفس تعبيرات الملاحدة التي يستخدمونها ضد الأديان لكشف إله الثغرات المعرفية الخاصة بهم، ولعل أشهرها هو قولهم: “كلما تقدم العِلم خطوة.. انحسر وتضاءل دور الإله وتراجع”!
ويشيرون بها إلى أنه كانت هناك تفسيرات دينية لظواهر طبيعية مجهولة السبب في وقتها، فكان المؤمنون يكتفون بنسبتها ساعتها إلى الإله، وأما بمجرد كشف أسباب الظاهرة، فيتراجع دور الإله عند المؤمنين، أقول:
إن إيمان المؤمنين بأن الإله هو السبب الرئيس مِن وراء أية ظاهرة هو إيمان صحيح، فسواء عرفوا سبب الشيء -مِثل سبب نزول المطر مثلا- أو لا فهذا لن يمنعهم في كِلتا الحالتين مِن أن يرجعوا بسبب النزول الأول إلى الخالق، إما على سبيل تحكمه الاختياري في احتمالات العِلة الفاعلة، وإما على سبيل عِلته الغائية كمُريد ومُسبب أول في وقوع المطر كما شرحنا مِن قبل، تمامًا كما لو تخيلنا الشاب (س) وهو عاجز أمام قطعة صغيرة مِن المُحرك لا يعرف ما الذي يتحكم في حركتها بالضبط، فهنا يمكنه القول أن المُصمم أو الصانع أو المُريد أو المُسبب الأول هو الذي يُحركها، ويكون بذلك غير كاذب ولم يلجأ إلى مُداراة جهله وإنما اعترف به، لأنه سواء اكتشف هذه القطعة الأخرى فيما بعد أم لا فستبقى عبارته الأولى صحيحة وهي أن المُصمم أو صانع المُحرك أو المُريد أو المُسبب الأول هو الذي يجعل كل قطعة فيه تتحرك.
نجد الله تعالى يؤكد هذه العلاقة في قوله في إحدى آيات القرآن مثلا:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].
فهذه عِلة غائية وهي إرادته في نشر رحمته بماء المطر ليُغيث به الناس، وأما إذا نظرنا إلى نفس الحدث -وهو نزول المطر أو الغيث– مِن وجهة نظر العِلة الفاعلة فنراه يقول وبوضوح لا لبس فيه:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57].
وهنا -وبعد سقوط هذا الخلاف الآخر المزعوم بين العِلم والدين- دعونا نتماشى مع خيال العلماء الملحدين في غاية ما يتمنوه مِن تحكم في مجريات أمور الطبيعة، ولنأخذ مثلا ظاهرة نزول المطر وما يتعلق بها مِن تفاعلات الرياح وجسيمات ذرات الهواء والكهرباء.. إلخ، وحتى تكون أقرب للمقارنة مِع الآيات المذكورة أعلاه فنقول:
يتخيل الملحد أنه إذا استطاع التحكم في كذا ثم كذا ثم كذا وصولا لأصغر مكونات المادة والذرة، فإنه سيكون بإمكانه أخيرًا التحكم في كل شيء في الطبيعة مِن حوله! ورغم أن هذه الخيالات هي مِن المُحال.
إلا أننا نريد أن نصدم الملحد بحقيقة لا يقف عليها إلا المُختصون لينظروا إليه بعدها بشفقة وهي:
أن أصغر مكونات للمادة والذرة -وهي جسيمات عالم فيزياء الكم- لا تتبع الحتمية أبدًا في سلوكياتها وتصرفاتها وإنما تتبع الاحتمالات! وبذلك ينتحر حِلم الملحد بين يدي الخالق عز وجل في كل لحظة اختيار يحكم بها الله وفي كل احتمال يشاؤه ويُريده سبحانه، وهو ما بينه لنا عالم الفيزياءوالرياضيات الألماني الأشهر (ماكس بورن Max Born) الحائز على جائزة نوبل 1945م بسبب أبحاثه في فيزياء الكم، حيث وضح في أثناء تفريقه بين (السببية والحتمية Causality and Determinism) كيف أنه في عالم فيزياء الكم لا تنتفي السببية، ولكن التي تنتفي هي الحتمية لتحل محلها الاحتمالات، وأن ذلك لا يتعارض مع ما جاءت به الأديان![9].
وفي ختام هذه النقطة نقول أن مثل هذا التفكير هو الذي أفرز لنا لادينية مثل لادينية “آينشتاين” في تقديسه للقوانين التي تسوق الكون واكتفائه بها عن الإيمان بإله مُعين أو مُشخص، حيث شابهت الحتمية التي ظنها آينشتاين تحكم العالم مع ما يتخيله الملاحدة في قدرتهم على التحكم يومًا ما في أسباب كل شيء، ولذلك اشتهرت على لسانه دومًا عبارة كررها في أكثر مِن محفل ولقاء وهي: “إن الإله لا يلعب النرد مع العالم أو الكون”!
God doesn’t play dice with the world…[10]
Quantum mechanics is certainly imposing. But an inner voice tells me that it is not yet the real thing. The theory says a lot, but does not really bring us any closer to the secret of the “old one.” I, at any rate, am convinced that He does not throw dice [11].
ولكن كل هذه الرؤية المغرورة تهدمت بمئات الاحتمالات الرياضية المتنوعة التي يمكن الخروج بها لسيناريوهات المحطات الكبرى في الكون -مثل نشأته ونهايته.. إلخ- فما بالنا بالأصغر مِنها مثل نزول المطر أو زلزال ما هنا أو هناك؟! فسبحان الذي جعل الإنسان البسيط بفطرته وقبل آلاف السنين يلمس هذه الاحتمالية في كل ما هو أبسط مِن ذلك، ودون الحاجة لاكتشاف عالم الكم وما دون الذرة! ويعلم أن المُتحكم الحقيقي فيها هو واحد فقط، هو خالقها عز وجل.
8- هل هناك ما يمنع علماء الطبيعة والعِلم التجريبي مِن الإيمان بالله؟
حيث يجدر بنا في نهاية هذه الدراسة المختصرة والمتواضعة أن نسأل سؤالا وجيهًا واقعيًا بعيدًا عن تهويلات الملاحدة وتشويهاتهم المتعمدة لوجه العِلم -للأسف- وهو:
على مدار التاريخ، ولاسيما مع عصر النهضة العلمي الحديث على يد المسلمين، هل هناك ما يمنع علماء الطبيعة والعِلم التجريبي فِعلا مِن الإيمان بالله أو بإله خالق لم يروه؟
والإجابة يُمكن استخراجها بكل سهولة مِن النقاط السابقة، حيث رأينا أنه لا تعارض أبدًا بين العِلم الطبيعي التجريبي الذي يبحث في الموجودات، وبين استدلال العقلاء والعلماء واستخراجهم مِنه ما يدلهم على الخالق والصانع الحكيم العليم الخبير المُريد سبحانه، تلك الصفات المُمكن استنباطها مِن غير الحاجة حتى إلى وحي –لأن هناك صفات لا نعرفها إلا بوحي مِن الخالق ذاته ورسله-.
ولذلك نرى الإسلام خصوصًا -وفي كتابه المحفوظ القرآن- لم يُعلي شأنا بعد إخلاص الإيمان بالله مثل ما أعلى مِن شأن العِلم والعلماء، بل ووصفهم بأنهم أحق الناس بخشية الله إذ يعرفون مِن صفاته ومِن عظمته ما لا يعرفه غيرهم فيقول: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
وبالفعل.. ها هم واضعو أسس المنهج التجريبي نفسه -المسلمين- وعلى رأسهم (جابر بن حيان Jabir Ibn Hayyan) و(الخوارزمي Al-Khwarizmi-AlGorismi) و(الرازي Al-Razi-Rhazes) و(ابن الهيثم Ibn Al-Haytham-AlHacen) و(ابن النفيس Ibn Al-Nafis) و(الكِندي Al-Kindi–Kindus) و(عباس بن فرناس Abbas Ibn Firnas-Armen Firman) قد أبهروا العالم في شتى العلوم الطبيعية، ولم يروا أبدًا أي تعارض أو أي عائق بين البحث في الكون والموجودات وبين الإيمان بخالق يدل عليه كل شيء مِن مخلوقاته، حيث برعوا مثلا في شتى علوم الكيمياء والطب والجراحة والتخدير والتشريح وعلوم النبات والحيوان وعلوم الفلك والتشفير والتسيير الذاتي والميكانيكي.. وغير ذلك الكثير الذي يصعب حصره[12]، وإنما يُمكن التعرف على بعض ملامحه مِن موقع ألف اختراع واختراع.
والذي كان في الأصل معرضًا في مدينة مانشيستر في بريطانيا للتعريف بأفضال المسلمين واختراعاتهم التي غيرت وجه العالم إلى اليوم، ثم انتقل بعدها إلى الكثير مِن مدن العالم.
ولعل ذلك ما أورث (روجر بيكون) تعزيز إيمانه بالله رغم أنه يُعد في عين الغرب -زورًا وبهتانا- واضع أسس المنهج التجريبي [13] [14]، في حين أنه لم يكن في الحقيقة إلا ناقلا له مِن علماء المسلمين [15] [16] [17] الذين احتك بهم وتعلم مِنهم كيف يقف العالِم المؤمن بالله في معمله ليُسجل ملاحظاته ويُجهز تجاربه ويختبر صحة فرضياته بعيدًا عن الدوجمائيات والآراء الوهمية المُسبقة بلا دليل، ولعله مِن أشهر الكُتاب الذين وضحوا هذه الحقائق هو الباحث (روبرت بريفولت Robert Briffault) في كتابه الشهير (صناعة الإنسانية Making of Humanity) فيقول:
“إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعِلم العربي في مدرسة أكسفورد على يد خلفاء معلمي العرب المسلمين في أسبانيا، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا مِن رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبي إلى أوروبا المسيحية..” إلى آخر ما قاله في إثبات أولية المسلمين وتفوقهم وإبداعهم في المنهج التجريبي.
It was under their successors at Oxford School (that is, successors to the Muslims of Spain) that Roger Bacon learned Arabic and Arabic Sciences. Neither Roger Bacon nor later namesake has any title to be credited with having introduced the experimental method. Roger Bacon was no more than one of apostles of Muslim Science and Method to Christian Europe [18]
وهكذا لم يكن مشاهير العلماء الذين غيروا وجه العِلم الحديث مثل (بيكون Bacon) و(غاليليو Galilo) و(كبلر Kepler) و(نيوتن Newton) و(ماكسويل Maxwell) لم يكونوا أبدًا مِن أهل فكر الإلحاد ولا إنكار الخالق عز وجل لحظة مِن الزمان، بل وبالعودة إلى النقولات الرائعة لعالِم الفيزياء الأشهر (ماكس بلانك Max Planck) مِن كتابه “أين يذهب العِلم” “Where is Science Going” والتي يوضح فيها الكثير مِن الحقائق بين العِلم والإيمان نجده يُقرر قائلا:
“لا يُمكن أن يُوجد أبدًا أي تعارض بين الدين والعِلم، بل كل مِنهم مُكملٌ للآخر، وأعتقد أن أي شخص جاد وصادق يُدرك ذلك، وذلك لأن العنصر الإيماني في طبيعته سيظهر حتمًا إذا تكاتفت كل قوى نفسه وتكاملت معًا بكل اتزان وتناسق، وفي الحقيقة لا يُعد مِن الصدفة أن أعظم المفكرين في كل العصور كانوا نفوسًا ذات إيمان كبير”[19].
فإذا تركنا الإحصائيات المُضللة التي يُظهرها الملاحدة عن نسبة العلماء الملحدين في جمعية كذا أو معهد كذا.. إلخ، وهي الإحصائيات التي تتسم غالبًا بعدم الموضوعية لخضوع معظم هذه الجمعيات والمعاهد ومَن فيها مِن العلماء لاعتبارات رسمية تتعلق بتمويل الأبحاث والدعم المادي، نجد أن أكثر الفائزين بجائزة نوبل مثلا هم مِن أصحاب الأديان سواء مِن العلوم الطبيعية أو غيرها كالأدب ونحوه! وهو ما نطالعه مِن الصفحة 57 مِن كتاب “مائة عام مِن جوائز نوبل100 years of Nobel prizes -” حيث نقرأ في الفصل الذي عنوانه “ديانة الفائزين بجائزة نوبل Religion of Nobel prize winners” أن أكثر الفائزين هم مِن أصحاب الأديان، وأكثرهم النصرانية التي تحتل وحدها 65.4%، ثم يقبع في النهاية بنسبة 15% كل اللادينيين -وصف عام يشمل الملحد Atheists واللاأدري Agnostics والمُفكر الحر[20] free thinkers-.
بل وإذا تركنا علماء كبارًا كتبوا وأجادوا في بيان علاقة العِلم بالإيمان، مِثل الكتاب الأكثر مِن رائع لجون لينوكس John C. Lennox هل دفن العلم الله[21] Has Science Buried God، نرى أن هناك مِن العلماء الملاحدة مَن انزاحت عن أعينهم الغشاوة ليفيقوا على حقيقة الخداع العقلي الذي كانوا فيه حيث بدلا مِن أن يكون وجود الخالق هو بديهة البديهيات التي يؤكدها العِلم والعقل والوجدان معًا، كانوا يطلبون عليها هي نفسها الدليل –تخيلوا مثلا لو يطلب الشاب (س) دليلا على أنه هناك صانع لهذا المُحرك المُحكم الغائي الدقيق!-.
فمِنهم مَن أفاق في منتصف العمر مِثل (فرانسيس كولينز Francis Collins) على حقائق الأخلاق وقصور المادة عن شرح الوجود، بل على الحقائق المُبهرة في تخصصه الكيميائي الحيوي والجيني بخصوص التعقيد المُذهل والمُعجز للحمض النووي والخلية -حيث يُعد كولينز رائد مشروع الجينوم البشري- فلم يملك إلا أن كتب كتابًا رائعًا لإثبات وجود الخالق وهو كتاب (لغة الله: عالِم يُقدم دليل على الإيمان[22] Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief).
ومِنهم مَن تدارك نفسه في نهايات عمره مِثل السير البريطاني الفيلسوف الملحد (أنتوني فلو Antony Flew)، والذي بعد أن قضى أكثر مِن نصف قرن كامل ينشر الإلحاد في كتبه التي بلغت الثلاثين كتابًا، رأى أن يكون صادقا مع نفسه أخيرًا ويعترف بالإعجاز العجيب في الأرقام العلمية المُذهلة في دقة خلق الكون وأن له بداية وليس أزليًا، وكذلك حقائق الحمض النووي الوراثي التي يستحيل أن تكون إلا بمُدبر حكيم عليم قدير، ففاجأ العالم في عام 2003م وقبل موته بسبع سنوات فقط عن عمر 87 عامًا بخبر تحوله مِن الإلحاد إلى الربوبية! وكتب كتابًا رائعًا هو الآخر باسم (هناك إله: كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره؟! [23] There is a God: How The World’s Most Notorious Atheist Changed His Mind).
فأمثال هؤلاء العلماء في كل زمان ومكان هم البشر الذين صدقوا مع أنفسهم، واتبعوا ما وصلهم مِن رسالات الله تعالى، سواء كانت الإسلام الخاتم أو غيره، فآمنوا به واستجابوا لنداء ربهم عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
[1] ماكس بلانك، هو مِن أشهر علماء الفيزياء النظرية الألمان وأحد أهم العلماء في القرن العشرين، ويعتبر مؤسس نظرية الكم، وقد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1918م.
[2] Max Planck. (1932). Where is Science Going? New York, NY: W. W. Norton & Company, Inc.
[3] جوزيف هوتن تايلور، عالم فيزياء وفلكي أمريكي معروف، فائز بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1993م لاكتشافه أول نجم نابض ثنائي.
[4] Taylor, as cited in Brown 2002
[5] مبدأ عدم التأكد أو مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين أو مبدأ الشك، واحد مِن أهم المبادئ في نظرية الكم، تمت صياغته بواسطة عالم الفيزياء الألماني هايزنبرج عام 1927م وينص على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مُقاستين مِن خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة مِن الدقة، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة كبيرة (أو ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ويُعد تحديد موضع وسرعة جسم أولي هي مِن أكثر الحالات الشائعة لتطبيق هذا المبدأ، ويعني ذلك عِلميًا أن الإنسان ليس قادرًا على معرفة كل شيء بدقة 100%، ولا يمكنه قياس كل شيء بدقة 100%، حيث يوجد دومًا قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه.
[6] Ellis, George F. R. (August 1, 2011). “Does the Multiverse Really Exist?”. Scientific American (New York: (Nature Publishing Group) 305 (2): 38–43
[7] Stephen W. Hawking, Leonard Mlodinow. (2010). The Theory of Everything. In; The Grand Design (pp. 188-189) New York, NY: The Random House Publishing Group.
[8] Wiedersheim, R. (1893) The Structure of Man: An Index to His Past History. Second Edition Translated by H. and M. Bernard. London: Macmillan and Co. 1895.
[9] ماكس بورن: هو أحد أهم مؤسسي نظرية الكم الحديثة مع غيره مِن العلماء مثل (نيلز بور) و(هايزينبيرج) وهو صاحب تفسير دالة الموجة ومؤسس ميكانيكا المصفوفات، والجزء المُتعلق بتفريقه بين السببية والحتمية في عالم الكم هو مِن الفصل الثاني مِن كتابه الشهير: NATURAL PHILOSOPHY OF CAUSE AND CHANCE
[10] William Hermanns. (1983).Einstein and the Poet: In Search of the Cosmic Man Paperback (pp. 58) Brookline Village, MA: Branden Press
[11] Letter to Max Born (4 December 1926); The Born-Einstein Letters (translated by Irene Born) (Walker and Company, New York, 1971) ISBN 0-8027-0326-7
[12] يمكن الاستزادة بالكثير مِن هذه التفاصيل بمشاهدة فيلم القناة الثانية الألمانية RTL الوثائقي الرائع (علوم الإسلام الدفينة).
[13] James S. Ackerman (1978). “Leonardo’s Eye” 41. Journal of the Warburg and Courtauld Institutes. p. 119
[14] John Maxson Stillman (2003) [1924]. Story of Alchemy and Early Chemistry. Kessinger Publishing. p. 271. ISBN 978-0-7661-3230-6
[15] Mark Smith (1996). Ptolemy’s theory of visual perception: an English translation of the Optics. American Philosophical Society. p. 58. ISBN 978-0-87169-862-9
[16] Nader El-Bizri, “A Philosophical Perspective on Alhazen’s Optics”, Arabic Sciences and Philosophy, Vol. 15, Issue 2 (2005), pp. 189-218 (Cambridge University Press)
[17] Hub Zwart (2008). Understanding Nature: Case Studies in Comparative Epistemology. Springer. p. 236. ISBN 978-1-4020-6491-3
[18] Robert Briffault. (1919). Making of Humanity. (pp. 200) London: George Allen & Unwin Ltd
[19] Planck, Max Karl Ernst Ludwig. (1932). Where is Science Going? (pp. 168). New York, NY: W. W. Norton & Company, Inc
[20] Baruch A. Shalev, 100 Years of Nobel Prizes (2003), Atlantic Publishers & Distributors, pp.57: between 1901 and 2000 reveals that 654 Laureates belong to 28 different religion Most 65.4% have identified Christianity in its various forms as their religious preference.
[21] God’s Undertaker: Has Science Buried God?, John C. Lennox, Lion UK, Updated edition (September 1, 2009)| 224 p | ISBN 0-7459-5371-9
[22] Collins, Francis (4 September 2008). The Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief. Simon and Schuster. ISBN 9781847396150.
[23] Flew, Antony (2007), There is a God: How the World’s Most Notorious Atheist Changed His Mind, New York: Harper One.
الرد على من يقول: لا تدخلوا الإيمان بالعلوم المادية
دعونا نناقش هذه العبارات: هل بالفعل العلم التجريبي مادِّيٌّ، ويجب عدم خلطه بالإيمان؟
نحن في مقالة اليوم نحاول أن نرسم العلاقة بين الإيمان بالخلق، والمادِّيَّة، والعلم التجريبي.
دعونا بدايةً نُعرِّف مصطلحات:
الإيمان بالخلق: هو الإيمان بأنَّ هناك خالقًا خَلَق الكون والحياة.
المادِّيَّة: تعني استثناء الغيب -أيَّ شيءٍ خارج إطار المادَّة-، استثناؤه تمامًا من تفسير الكون والحياة، بما في ذلك استثناء وجود خالق للكون والحياة.
والعلم التجريبي يعني العِلم التَّجريبي الرَّصدي، لا أختصره بالعِلم لأنَّنا سنبرهن على أنَّ العلم التجريبي ليس الشَّكل الوحيد للعِلم؛ فالعِلم أعم والعلم التجريبي شكلٌ من أشكاله.
العلم التجريبي يشمل الاختراعات والاكتشافات النَّافعة للإنسان في الصحَّة، والاتصالات، والنقل، والعمران، وغير ذلك.
تعالوا نرى على ماذا يعتمد العلم التجريبي، ثُمَّ نرى هل هذه الأشياء التي يَعتمِد عليها موجودة في منهج الإيمان بالخلق، أم في المادِّيَّة؟
لنحكم على العبارات التي ذكرناها.
أوَّلًا: لا شكَّ أن العلم التجريبي يعتمد على العقل، العقل الذي يحلِّل المعلومات، يستنتج، يتوقَّع، يربط، يصوغ الفَرَضيَّات، يحكم على أشياء بالصِحَّة والبطلان.
ثانيًا: العلم التجريبي يعتمد على مُسَلَّماتٍ (بَدَهِيَّات): أمور لا يختلف عليها العقلاء، هذه البَدَهِيَّات ينطلق منها العقل في الرَّبط والتَّوقع والاستنتاج، ولذلك تُسَمَّى الضَّرورات العقليَّة أو الأوَّليَّات العقلية.
ثالثًا: العلم التجريبي يعتمد على تراكُم المعرفة؛ أي على ما يُخبِر به الباحثون قبلنا من نتائج أبحاثهم واكتشافاتهم.
رابعًا: العلم التجريبي يعتمد على الحِسّ، الذي يُدخِل مدخلات إلى
دعونا نسميها (مصادر العلم التجريبي):
العقل.
والمُسلَّمات البَدَهيَّة مثل أن لكل شيءٍ حادث في الكون سببا.
والخبر: يعني الأبحاث السابقة.
والحِسّ والذي يشمل رصد الأشياء أو رصد آثارها.
في المقابل: المادِّيَّة ترفض هذه المقدِّمة (أنَّ الكون والحياة والإنسان هي مخلوقاتٌ لخالقٍ)، وتفترض المادِّيَّة بديلًا عن ذلك أنَّها نتيجة الصُّدفة.
فحسب المادِّيَّة: الدماغ وأدوات الإدراك جاءت بالصُّدفة، وبالتَّالي فالعقل جاء بالصُّدفة دون قصدٍ من أحد.
داروين “Darwin” نفسه طعن في مصداقية العقل، حيث قال في مراسلاته مع ويليام غراهام “William Graham”:
“ينتابني دائمًا شكٌّ فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان -والذي بدوره تطوَّر من عقول حيوانات أدنى- تتمتَّع بأيَّ قيمة أو تستحقُّ أدنى ثقة”.
وستجد مثل كلامه هذا في ملحق كتابه (أصل الأنواع طبعة Ontario: Broadview) حيث يصف عقل الإنسان بأنَّه “تَطوَّر عن عقلٍ كعقل أدنى حيوان”، وعليه يُشكِّك في مصداقيته.
القواسم المشتركة بين الأبحاث العلمية هي:
استنتاج وتحليل عقلّي، الانطلاق من ضروراتٍ عقليَّة، رصد علاقاتٍ سببيَّة، اعتماد أخبار آخرين بعد التوثُّق من مصداقيتها بناءً على أبحاثهم، افتراض أنَّ كلَّ شيءٍ يسير بنظام، حِسّ، تجريب، استنتاج وجود أشياء من رصد آثارها، وهذه كلُّها لا قيمة لها إلا في منهج الإيمان بالخلق الذي تسلم فيه مصادر العلم التجريبي هذه وتتناسق فيما بينها.
لذلك فعبارة “لا تخلطوا الإيمان بالعلم التجريبي” عبارةٌ مضحكةٌ لشِدَّة جهلها؛ فالعلم التجريبي ابن الإيمان، لا يستغني عنه أبدًا.
المادية التي تستثني وجود خالق عليمٍ حكيمٍ من تفسير الكون والحياة تهدم قيمة العقل ومصداقيته تمامًا، وبالتالي تهدم قيمة الاستنتاجات والتأمُّلات والتحليلات التي يمارسها العقل في إنتاج العلم التجريبي.
وهذا وحده كافٍ في إثبات أنَّ العلم التجريبيَّ لا يمكن أبدًا وصفه بأنه ماديّ، فهو يحتاج إلى العقل الذي لا قيمة له إلا في منهج الإيمان بالخلق.
هل الدحيح ينشر العلم أم الإلحاد والخرافات؟
بعد نشر حلقة الرد على (يا محاسن الصدف) للدحيح جاءت الكثير من التعليقات من المتابعين له للدحيح بيدافعوا عنه وبيقولوا أنه لا ينشر الإلحاد، لكن بعد متابعة حلقات كثيرة له، فرأيت أن أكثر هذه الحلقات فيها ترويج للإلحاد تحت ستار العلم والمادية.
الإلحاد يبدأ من الإصرار على نتيجة محددة مسبقاً: إنكار وجود الله ولكن الإلحاد لا يعترف بذلك لأنه سيظهر جاحداً ومُصِرَّا على النتيجة مقدما، مش محايد ولا علمي…فيروح الإلحاد يتستر بستار التفسير المادي المحض للوجود..يعني يدعي أنه لا يعترف بشيء اسمه غيب، وإنما بالأشياء المادية فقط.
ولمن يتابع معنا رحلة اليقين، هذه الحلقة ستكون تمرين تطبيقي case study على أسلوب الدحيح
وللمستغربين من قولنا أن الدحيح بيروج لإلحاد..خد بالك الدحيح طريقته مختلفة عن واحد زي شريف جابر الي بيقول لك اياها في وشك: أنا عاوزك تكفر..لأ..الدحيح ما بيتكلمش عن الإسلام بشكل مباشر، وإنما بيهدم عندك القواعد الي بيتبني عليها الإسلام كالفطرة والإيمان بالخلق، والروح، وهو عامل نفسه بيتكلم في علم، فانت مبتحسش إنه بيهاجم دينك لكنك بتبدأ تشك شوية شوية.
ومصادر معلومات الدحيح التي يفاخر بها في هذا كله هي كتب الملحدين المليئة بالعلم الزائف والغيبيات الغبية كما سنرى! أو أبحاث حقيقية لكن لا تدل على ادعاءات الدحيح.
ومصادرُ معلوماتِ الدّحِّيحِ الّتي يُفاخرُ بها في هذا كلّه هي كتبُ الملحدين، وللّذين يقولون: “الدّحِّيح ينقُل علومًا ونظرياتٍ ويذكرُ المصادر”، لماذا لا ينقُلُ في هذه المجالات إلا عن كتبِ الملحدين المليئةِ بالعِلْم الزَّائف والغيبيَّات الغبيَّة -كما سنرى-؟
نفى الدّحِّيحُ الضّبطَ الدّقيقَ المقصودَ للكونِ بحلقة (يا محاسن الصّدف)، واستعاضَ عنه بفكرة (الأكوان المتعدِّدة الصُّدَفِيَّة)، وهو غيبٌ مفترَضٌ غبيٌّ -كما بينَّا في الحلقةِ الماضية-.
ثمّ نَسَبَ الدّحِّيحُ خَلْقَ الإنسانِ إلى التطوُّرِ الصُّدْفيّ، ثمّ نفى الضّبطَ الدّقيقَ في جسمِ الإنسانِ مستخدمًا أدلّةً كاذبةً في هذا كلِّه -كما سنَرى-، ثمَّ نفى فطرةَ الإنسانِ بالتَّشكيكِ في وُجودِ غايةٍ مِن الحياةِ، ونزعةِ التَّديُّنِ، والضّروراتِ العقليةِ، والنَّزعةِ الأخلاقيَّةِ، والإرادةِ الحُرَّةِ، ثمّ أعطى الموتَ والحياةَ تفسيراتٍ مادّيَّةً، وادَّعى قُدرةَ الإنسانِ على إحياءِ الموتى، ثمَّ ألمَحَ الدّحِّيح إلى أنّ اللهَ لَيسَ له وجودٌ حقيقيٌ، وإنّما هو مَعنًى اخترعهُ الإنسان.
كيف نفكر؟
كثير من الاكتشافات والنظريات العلمية يتم توظيفها لصالح أو ضد الإيمان.
كيف نميز الحق من الباطل في ذلك؟
كثيرون يتكلمون باسم العلم واحترام العقل.
كيف نميز صادقهم من جاهلهم من مخادعهم؟
بل كيف نعرف الطرح المُتَعقل الصحيح من الألاعيب والحيل النفسية والمغالطات المنطقية في مواضيع حياتنا بشكل عام؟
السَّلام عليكم.
نظرياتٌ علميةٌ كثيرة، اكتشافاتٌ حديثة، يتمّ تفسيرها بطرقٍ مختلفة، فهناك من يقول أنّها تهدّدُ الإيمان، وآخر يردّ بأنّها لا تتعارضُ مع الإيمانِ، وثالثٌ يقول بَلْ هي تدعمُ الإيمان.
كيفَ نعرف؟
هل بالفعل: [التطور حقيقة، مثل أن الأرض تدور حول الشمس]؟
أم أنّها خاطئة؟ [فسنبيّن لكم بسلسلةٍ من الحلقاتِ أخطاءَ نظريةِ التطوّرِ من منطلقٍ علميّ بيولوجيّ، من أفضلِ الكتبِ العلميّةِ الأمريكيّة التي حازت على أعلى نسبةِ تقييمٍ على موقع أمازون “Amazon”].
أم أنّ الله خلقَ الكائناتِ من خلالِ التطوّر؟
[وتكون النتيجة أن نقبل التطوّر، ونقبل أن يكون الذي حرَّكه والذي وجّهه
هو مصدر ذكي، مطلق الذكاء…]
أم أنّ التوفيقَ بين التطوّرِ والإسلامِ فيه تحريفٌ للآياتِ والأحاديث؟
[عندما تقول أن نظرية التطوّر يمكن تأويل بعض النصوص لموافقتها، أنت بذلك تُنْزِل النصّ الديني من مقصورة القيادة إلى قفص التبعيَّة].
هل نظرية الكمّ “Quantum Theory” هي بالفعل:
[نظريّةٌ من أنجحِ ما هو موجودٌ إلى الآن، رغم غرابتها، رغم أنّها تصوِّر لنا العالَم على أنّه موجةٌ وجُسَيْم في نفس الوقت، واحتمالي، ولا نستطيع أن نتنبّأ…]
أم أن هذه الاستنتاجات التي يبنونها عليها خاطئة؟
[تسمع الكثير من الكلام الذي يقول أن ميكانيكا الكم تعني أن كل الأشياء متصلة بعضها ببعض، لكن هذا ليس صحيحا تماما، فالأمر أعقد من ذلكٍ].
هل بالفعل: [لكن في الحقيقة، اللاشيء يمكن أن يصبح شيئا].
أم أن هذا الكلامُ هو كما يقولُ الآخرُ؟
[هم يسمون ذلك علمًا ويضعونه في الكتب العلمية،
أما أنا، فأسمّيه غباءً وأضعه في القمامة!]
هل بالفعل: [لا يوجد تصميم، بالانتخاب الطبيعي..
هذه العملية كلُّها، ولذلك بالفعل يكون أعمى، أكيد هو أعمى، ليس قوى عاقلة أو مثل ذلك، وتعرفُ عندها مبدأً وقانونًا تشتغل عليه، وخطّةً، وبرنامج عملٍ. لا لا
هذا الكلام ليس موجودا أبدًا!
هذا الكلام ليس موجودا أبدًا، ولذلك توجد عيوب في الخليقة، ستجد حتّى في تركيب الإنسان عيوبا..]
أم كما يقول الآخر: [حقيقةً ما يبهرني كلمّا أعاين مريضًا أو أعالج مرضًا، التصميمُ البارعُ الذي لا شكّ أنّ خلفه مصمّم قادر، وبارع، ومبهر..]
وهل بالفعل: [إذن ليس الموت كما تتخيّل، شيئًا لازمًا أن يحصل، الموت يمكن أن يُمنع، لكنّ المسألة مجرّد مسألة وقتٍ فحسب..]
تعالوا في هذه الحلقاتِ -إخواني- نضعُ معًا المسطرةَ التي نقيسُ بها، لنعرفَ الحقَّ من الباطلِ، نضبطُ البوصلةَ، نرتِّب أفكارنا، لننظرَ للأشياءِ بطريقةٍ علميّةٍ.
بعدَ ذلكَ، أنتَ قرِّرْ بماذا تقتنعُ، أو لا تقتنع، لكنْ على أساسٍ علميٍّ قويٍّ، دونَ أن تدَعَ أحدًا يخدعك.
لذلك فسلسلتنا هذه منهجيّة، تؤسِّس لمنهجٍ في التفكير.
لكن حتى لا يكونَ كلامنا عن قواعدِ التفكيرِ الصّحيحِ جافًّا فلسفيًا، نريدُ مثالًا عمليًا نطبِّقُ عليهِ هذه القواعد.
العلم يعثر على الإله
(ترجمة لمقال Science Finds God من مجلة نيوزويك. ترجمة: خالد الشايع)
يبدو أن منجزات العلم الحديث تتعارض مع الدين وتقلل من شأنه. ولكن لعدد متزايد من العلماء فإن ذات الاكتشافات تدعم الروحانيات وتشير إلى طبيعة الإله. يبدو الأمر وكأنه كلما تعمق العلماء في أسرار الكون ازداد بعد الإله عن قلوبهم وعقولهم.
لكن هذا مالم يجرِ ل “آلان ساندج”. في الثانية والسابعين محدودب الظهر قليلاً وقد وخط الشيب رأسه، قضى ساندج حياته المهنية يستدعي أسرار النجوم محدقاً فيها من خلال المناظير من تشيلي إلى كاليفورنياعلى أمل العثور على مصادر الكون ونهايته. وكما فعل فلكيو القرن العشرين ، توصل ساندج لنتيجة: أظهر رصده للنجوم البعيدة سرعة تمدد الكون، وعمره (15 بليون سنة أو قريباً من ذلك).
ولكن خلال ذلك الرصد فإن ساندج الذي “كان في صباه قاب قوسين من الإلحاد” منزعجا من الألغاز التي لم تكن إجابتها في لمعان نجوم السوبرنوفا الجميلة. ومن تلك الألغاز: لماذا يوجد شيء بدلاً من لاشيء؟”.
بدأ اليأس يدب في نفس ساندج من الإجابة على تلك الأسئلة من خلال المنطق وحده، ولذلك في الخمسين من عمره رضي لنفسه قبول وجود رب. “لقد كان علمي هو الذي قادني لهذه النتيجة، وهي أن العالم أعقد بكثير مما يمكن شرحه بالعلم، ولا سبيل لفهمي للوجود إلا بالإيمان بوجود قوة خارقة”.
شيءٌ مذهل بدأ يظهر بين فرسي الحرب المعمّرين: العلم والدين.
تأرجحت العلاقة بين العلم والدين من الدعم المتبادل إلى العداءالمر. وبالرغم من أن العقيدة الدينية كانت هي القابلة لولادة الطريقة التجريبية قبل سنوات (كما سيأتي)، إلا أنه سرعان ما افترق الدين والمنطق. نُعت داروين وقاليليو وآخرون بالهرطقة عندما تحدوا عقيدة الكنيسة، وكطريقة مهذبة للتوفيق بين العلم والدين اتُفق على ألا يتجاوز كل منهما حدوده؛ العلم يسأل ويجيب على الأسئلة التجريبية “ماذا” و”كيف”، والدين يتولى الروحانيات ويتولى أسئلة “لماذا”.
ولكن مع ازدياد سطوة العلم وقوته مع حقبة التنوير، انهدمت الفجوة بينهما. استبعدت بعض أعظم عقول تلك الحقبة الرب وعدّوه فرضية غير ملزمة لتفسير سبب سطوع المجرات أو كيف تعقدت الحياة. بما أن ولادة الكون يمكن شرحها بقوانين الفيزياء وحدها فإن الملحد الفلكي كارل ساقان توصل إلى أنه “لم يكن هناك شيء ليفعله الخالق”، وعلى هذا فقد وجب على كل شخص الاعتراف “بغياب الإله”.
المجتمع العلمي اليوم يزدري الإيمان كما قال ساندج إلى درجة أن “هناك ترددا في أن يعلن المرء نفسه مؤمناً، والعار أصبح شديداً لدرجة أن بعض رجال الدين ضاقوا ذرعاً بالعلماء.”
أخبر قسٌ صديقاً لساندج: “مالم تؤمن وتقبل أن عمر الكون والأرض 6000 سنة [كما تشير القراءة الحرفية للكتاب المقدس] فلن تكون مسيحياً”. لا عجب أن يمتعض المؤمنون من العلم؛ فطالما العلم يختزل معجزة الحياة إلى سلسلة من التفاعلات الكيميائية الحيوية ، وإرجاع الخلق إلى حوزقة في الزمن/الفضاء… يظهر العلم محتقراً للإيمان، ويذهب بمعنى الوجود ويستلب الروحانية! ولكن “العلم والدين يدخلان الآن في علاقة جديدة” كما يشير الفيزيائي الذي تخصص في الأديان روبرت جون رسل، الذي أنشأ في 1981 مركز الدين والعلوم الطبيعية في اتحاد الخريجين المتخصصين في الدين في بيركلي بدلاً من بخس الإيمان حقه وفقد الروحانية، فإن الاكتشافات العلمية تقدم دليلاً عليها على الأقل في أذهان المؤمنين.
الكون الناتج عن الانفجار العظيم كمثال كان ينظر إليه على أنه لم تترك مجالاً لوجود خالق، والآن ينظر إليه بعض العلماء على أنه يوحي بتصميم وهدف من وجود الكون.. التطور كما يقول بعض العلماء الطبيعيين المتدينين يعضد الأدلة على طبيعة الإله.. نظرية الفوضى التي تشرح العمليات الرتيبة كتقلبات الطقس أو تقطر الصنبور ينظر لها كمدخل للإله يتصرف به في العالم.
من جورج تاون إلى بركلي يقوم المتدينون المعتنقون للعلم، والعلماء الذين لا يستطيعون فكاكاً من التجريبية، بإنشاء معاهد تضم الاثنين معاً. وقد أدى ظهور كتب مثل “العلم والدين: التوافق الجديد” و ” الإيمان بالإله في عصر العلم” إلى تخفيف الاحتقان.
عقدت ندوة بعنوان “العلم والبحث عن الروحانية” والتي نظمها معهد رسل فجذبت إليها أكثر من 320 شخصاً و33 متحدثاً وفيلماً وثائقياً من PBS عن العلم والإيمان سيذاع في الخريف القادم.
في 1977 أطلق ستيفن وينبيرق صيحة قنوط، وهو الفيزيائي من جامعة تكساس الحاصل على جائزة نوبل، حيث كتب أنه كلما ازداد فهمنا للكون من خلال علم الكونيات بدا وكأنه بلا هدف. لكن في الوقت الحاضر العلم الذي “قتل” الإله هو ذاته من يعيد الإيمان به كما يرى المؤمنون.
واجه الفيزيائيون دلائل على أن الكون مهيأ للحياة والإدراك . لقد ظهر أن الثوابت في الطبيعة مثل قوة الجاذبية وشحنة الإلكترون وكتلة البروتون، لو أنها اختلفت قيد أنملة، لم تكن الذرات لتتماسك ولما اشتعلت النجوم ولما ظهرت الحياة.
يقول جون بولكنهورن صاحب الجهود المميزة في مجال الفيزياء في جامعة كيمبردج قبل أن يصبح قساً أنجيليكياً عام 1982: “عندما نعلم أن قوانين الطبيعة لابد أن تكون معايرة بدقة شديدة لتنتج الكون الذي نراه فإن هذا يدعم زرع فكرة أن الكون لم يحدث هكذا، بل لابد أن من ورائه هدفاً.
ويمضي تشارلز تاونز أبعد من ذلك، وهو الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء بالمشاركة لاكتشافه قوانين الليزر، قائلا: “لدى الأكثرية شعور بأن الذكاء متداخل بشكل أو بآخر في قوانين الكون، وبالرغم من أن منطق العلم يساوره شعور بالعداء للروحانيات فإن قراءة جديدة قد تدعم بدل أن تطرد الإيمان حتى في هذا المجال. منذ إسحاق نيوتن دوّى صوت العلم برسالة واضحة: العالم يتبع القوانين، وهذه القوانين في أساسها رياضية، قوانين يستطيع البشر فهمها. ابتكر البشر الرياضيات المجردة، وهي في أساسها من مخيلاتهم، لكن الرياضيات تتحول بشكل سحري إلى واصفة للعالم. كمثال على ذلك قسم رياضيو الإغريق محيط الدائرة على قطرها وحصلوا على الرقم باي 3.14159… والرقم باي يظهر في المعادلات التي تصف جزيئات ما دون الذرة والضوء وكميات أخرى لا يظهر ترابط بينها وبين الدوائر.
يقول بولكنهورن أن هذا يشير إلى “حقيقة عميقة عن طبيعة الكون”، وهي أن عقولنا التي اخترعت الرياضيات تتوائم مع حقيقة الكون. نحن متناغمون مع حقائقه بطريقة ما.
بما أن الفكر المجرد يخترق ألغاز الكون فإن “ذلك يبدو وكأنه يخبرنا شيئاً عن تناغم وعي البشر مع حكمة الإله”، كما يقول كارل فيت، المتخصص في بيولوجيا السرطان في جامعة يشيفا في نيويورك، ومعلم للتلمود.
يطمئن معظم العبّاد للشعور بوجود حضور إلهي محتجبٍ عن العالم المنظور لكنهم يتوقون إلى إله يتصرف في العالم. بعض العلماء يرى فسحة لوجود هذا الإله على مستوى الكم أو أحداث ما تحت الذرة. في ذلك العالم الموحش لا يمكن التنبؤ بتصرف الجزيئات. ولعل أشهر مثال على ذلك أننا لو افترضنا أن نصف عمر عنصر مشع ساعة واحدة، فإن نصف حياته تعني أن نصف الذرات ستزول في هذه المدة، ونصفها سيبقى. لكن ماذا لو كانت لديك ذرة واحدة؟ حينها إذا مرت ساعة ففرص زوالها 50-50. وماذا لو كانت التجربة تقوم على أنه إذا زالت الذرة سينطلق غاز سام؟إذا كان لديك قطة في المعمل فهل ستكون القطة حية أم ميتة إذا انتهت الساعة؟
اكتشف الفيزيائيون أنه لايمكن الجزم بما ستفعله الذرة ولا حتى نظرياً. بعض العلماء المتدينين يرون أن نقطة اتخاذ القرار (هل ستزول الذرة أم لا؟ هل ستعيش القطة أم لا؟) هي من تصرف الإله. يقول رَسِل “ميكانيكا الكم تتيح لنا تصور وجود قوة إلهية خاصة”. وما يزيد الأمر حسناً أن قلة من العلماء مقتنعة بالمعجزات فإن الإله يمكنه أن يتصرف بلا تعدٍ على قوانين الفيزياء.
تصف النظرية العلمية الأحدث “نظرية الفوضى” ظواهر مثل الطقس وبعض التفاعلات الكيميائية التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها الدقيقة. يقول بولكينهورن: “لربما كان الإله يختار أي الاحتمالات يتحقق. هذا الفعل الإلهي لن يكسر قوانين الفيزياء أيضاً.
معظم العلماء ما زالوا يوقفون إيمانهم على أبواب معاملهم إن كان عندهم إيمان. ولكن كما أن الإيمان يجد إلهاماً في العلم فكذلك العلماء قد يجدون إلهاماً في الإيمان. يستنبط من القرآن الفيزيائي مهدي قولشاني من جامعة شريف للتكنولوجيا في طهران أن الظواهر الطبيعية هي “آيات الإله في الكون”، وأن دراستها تكاد تكون واجباً دينياً. القران يطلب من البشر أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف بدأ الخلق. يقول الباحث قولشاني “إنها عبادة تجلّي الكثير من عجائب خلق الإله”، والأمر ذاته ينسحب على اليهودية.
ينقل كارل فيت عن موسى بن ميمون “الطريق الوحيد لحب الإله هو فهم ما عملته يداه، وهو العالم المادي. معرفة عمل الكون هام للعابد لأن هذا هو العالم الذي خلقه.” وفيت ليس وحيداً في هذا الرأي، وطبقاً لدراسة نشرت العام الماضي فإن 40٪ من العلماء الأمريكيين يؤمنون بوجود رب، ليس قوة لا توصف حاضرة في العالم ولكن رب يتوجهون إليه في صلاتهم”.
“الولوج في العلم له هدف روحي أيضاً وهو الإلهام” كما يقول جويل بريماك الفيزيائي الفلكي في جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز. ويضيف بريماك قائلا إن أكبر حجم متخيل، وهو الكون، يبلغ 10 أمامها 29 صفراً (بالسنتيمتر). وأصغر حجم موصوف هو العالم ما تحت الذري وهو 10 أمامها 24 صفراً (وكسر).
والبشر في المنتصف بين ذلك. هل هذا يجعلنا في مكانٍ مميز؟ بريماك لا يعلم ولكنه يصف ذلك بـ “كون تطمئن إليه النفس”.
على الرغم من تذمر العلماء المشككين من عدم حاجة العلم للدين، فإن علماء الدين ذوي النظرة البعيدة يعتقدون أن الدين بحاجة للعلم. يقول الفيزيائي وعالم الدين رسل: “لا يستطيع الدين الإقناع بحججه الأخلاقية أو تحقيق الطمأنينة النفسية حتى تتحقق مزاعمه المعرفية.”
بالرغم من أن ما يربو على 90٪ من الأمريكيين يؤمنون بوجود إله فإن القلة تؤمن بإله يفلق البحار أو يخلق الأنواع واحداً بعد الآخر. يقول تيد بيترز من معهد اللاهوت اللوثري إن الأديان التي جاءت قبل آلاف السنين يمكن إدخالها في عصر الذرة والـ (دي إن أي) إذا قام بعض علماء الدين “بصياغة المعرفة المكتسبة من العلوم الطبيعية في بوتقة عقيدة إيمانية”. ومن جهة أخرى يقول الفلكي والقس اليسوعي وليام ستويجر “إن الدين في خطر حين ينظر إليه حتى من له أدنى معرفة بالعلوم الطبيعية على اعتباره مفارقة تاريخية”.
العلم لا يثبت وجود إله فضلاً عن محاولة رؤيته في المناظير. ولكن بالنسبة لبعض المؤمنين فإن دراسة الكون توفر أدلة عن ماهية هذا الإله.
يقول دبليو مارك ريتشاردسون من مركز الدين والعلوم الطبيعية: “قد لايكون العلم شاهد عيان على وجود الإله، ولكنه شاهد على صفاته.” والمفارقة هي أن أحد مواطن رؤية طرف من تلك الصفات يظهر في عمل التطور.
آرثر بيكوك متخصص في الكيمياء الحيوية وأصبح قساً في الكنيسة الإنجليزية عام 1971 ليست لديه مشكلة مع التطور. بل على العكس، يرى فيها إشارات من طبيعة الإله. ويستنتج من التطور أن ظهور التغيرات الأحيائية بالصدفة وقوانين داروين في الانتخاب الطبيعي تفعل فعلها في هذه المتغيرات لتنتج التنوع في الحياة على الأرض.
يقول عالم الدين جون هوت المؤسس لمركز الدين والعلم في جامعة جورج تاون إن هذه العملية تشكل إيثاراً إلهياً لصالح الخلق. فكما أن الوالدين المحبين لابنهما يتركانه ينشأ بحرية دون تدخل منهما فكذاك الإله يترك الخلق يصنع نفسه.
لعل من المبالغة أن نقول أن هذه النظرة الدينية المعقدة تعيد تشكيل الدين على مستوى الأبرشية أو المسجد أو الكنيس المحليين. ولكن بعض تلك الأفكار تلقى صدىً من العباد ورجال الدين العاديين.
بالنسبة لبيلي كروكيت رئيس مؤسسة ووكينق أنجل ريكوردز في دالاس فإن اكتشافات ميكانيكا الكم التي يقرأ عنها في الصحف تعزز إيمانه بأن “هناك الكثير من الغموض في طبيعة الأشياء”. أما بالنسبة للمؤمنين الآخرين فإن توقير العلم يورث تعميق الإيمان. وتقول الراهبة ماري وايت من مركز التأمل البنديكتي في سينت بول مينيسوتا: “يثير فيّ العلم دهشة عظيمة؛ فالعلم والروحانيات لهما هدفٌ مشترك وهو البحث عن الحقيقة.”
يقول تيد بيترز من مركز CTNS: “لئن لم يؤثر العلم على الفكر والتطبيق الديني كثيراً على مستوى جذوره فانتظروا فقط، فكما أن النسوية تسللت إلى الكنائس وهي الآن تشكل القدّاس فإنه يتوقع خلال 10 سنوات أن يشكل العلم مرتكزاً أساسياً في طريقة تفكير الكثير من المتدينين العاديين.”
ويقول مايكل شيرمر، مدير جمعية المشككين التي تدحض دعاوى الخوارق، إنه ليس الجميع يؤمنون بهذه الفكرة الجريئة، وإن “العلم الطبيعي طريق للمعرفة وليس هو المعرفة ذاتها، فليس له أن يثبت أو ينفي وجود إله إذ أن الأمرين مفترقان، كمن يريد نقطة في كرة القدم بناء على ترتيبه في كرة البيسبول.” وهناك أمر آخر وهو أن المستمسكون بدينهم من أهل الملل المختلفة مثل الأرثوذكس والأنجليكيين والكويكرز والكاثوليك والمسلمين الذين تحدثوا في يونيو في مؤتمر بيركلي كل يرى في العلم ما يؤيد ما علمه إياه دينه.
خذ مثلاً المفهوم النصراني للمسيح كإله كامل وبشر كامل. يظهر أن هذه الخصيصة لها ما يقابلها في ميكانيكا الكم. في السنوات الأولى للقرن الجديد اكتشف الفيزيائيون أن الكيانات التي كان ينظر لها على أنها جزيئات مثل الإلكترونات قد تتصرف كموجات. فالضوء الذي كان ينظر له كموجة يتصرف في بعض التجارب كوابل من الجزيئات. والتفسير الأرثوذوكسي لهذا الموقف الغريب هو أن الضوء موجة وجزيء في الوقت ذاته. والإلكترونات هي موجات وجزيئات في الوقت ذاته. أي الوجهين للضوء أو الإلكترون الذي يراه المرء يختلف اعتماداً على الظروف المحيطة، والأمر ذاته ينطبق على المسيح كما يقترح الفيزيائي اف رسل ستانارد من جامعة إنجلترا المفتوحة. يقول ستانارد إنه لا يمكن النظر للمسيح كإله على شكل بشر ولا بشر يتصرف كإله.. “لقد كان كلاهما مكتملين”. إن العثور على مثل هذه النظائر يمنح الناس إحساساً بأن الأمر “ليس فقط فكرة مسيحية فائقة الغرابة”، كما يقول بولكنقهورن.
ليس من المحتمل أن يخوض اليهود ذات الغمار ، مالم يكن المرء مؤمناً سلفاً فلن يلحق بالمؤمنين بسبب ميكانيكا الكم، وعلى العكس من لم يثِر العلم شكوكه فلعله لم يلق للأمر بالاً. ولكن بالنسبة لمن هم بين ذلك، الذين يثير العلم تساؤلاتهم عن الدين، سيزيدهم التوافق بينهما إيماناً كما يقول فيت: “لا أظنك إن درست العلم الطبيعي ستكون مجبراً على التوصل لنتيجة مفادها لزوم وجود إله، ولكن إن كنت مؤمناً سلفاً بوجود إله فستقول بعد أن عرفت العلم : آه إني أرى ماذا فعل الإله في العالم.”
لعل العلم والدين لن يتفقا تماماً أبداً.. ربما وجب عليهما ذلك.. العلم قائم على الشك الدائم، ولب الدين التصديق. ومع ذلك فإن المؤمنين إيماناً عميقاً والعلماء العظماء مدفوعون لفهم العالم. ذات مرة كان العلم والدين طريقان مختلفان في جوهرهما بل عدوان لبعضهما في البحث عن فهم للعالم، واتُهم العلم بخنق الدين وقتل الإله، أما الآن فلعله يقوّي الإيمان. وبالرغم من أنه لا يثبت وجود إله، إلا أن العلم قد يهمس في آذان المؤمنين ويخبرهم أين يتجهون في البحث عن المقدس.
الدليل العلمي على وجود الملائكة
-إذا سألك سائل: هل عندك دليل علمي على وجود الملائكة أو الجنة والنار والجِن وحياة البرزخ .. أم أنك تؤمن بوجود هذا كله إيماناً دون براهين علمية؟
فكيف تجيب؟
– هل ما نؤمن به من غيبيات مبني على إيمان “عاطفي”؟ أم إيمان مؤيد بالدليل العلمي؟
الإجابات في هذه المقالة .
كنا قد بينا بالتفصيل أن العلم دائرة واسعة، والعلم الرصدي التجريبي (السينس) جزء من أجزاء هذه الدائرة
فعندما أقول لك: هناك دليل علمي على وجود الملائكة، فلا تقل لي: (أين هم حتى ألمسهم أو أفحصهم مخبريا) ! وإنما علينا أن ننظر: هل الإيمان بالملائكة يقع ضمن دائرة العلم العامة أم لا.
الخطوة الثانية: كنا قدأثبتنا أن هناك عالَم غيب، عالَماً غير عالم الشهادة الذي نشهده ونرصد ما فيه، وأن من يصفون أنفسهم بأنهم ماديون اضطروا إلى تفسيرات غيبية في النهاية، لكن الفرق أنها لا دليل عليها من عقل ولا فطرة ولا حس ولا خبر، كما بينا في حلقات كثيرة
الصفحة الشخصية على الفيس بوك
⦁ والماديون الذين لا يتفقون مع هذه التفسيرات لا يجيبون عن سؤال أصل الكون والحياة بل يقفون ساكتين عاجزين.
⦁ وكل هذا يدل على أنه -عملياً- الكل معترف بوجود الغيب وإن أنكر البعض بلسانه.
⦁ الخطوة الثالثة: هي تحديد أي الغيبيات تدخل في دائرة العلم؟ هناك غيبيات كثيرة مدعاة. فعلينا أن نتبع منهجا علميا لنعلم أيها يقع في دائرة العلم وأيها خرافات.
⦁ ما فعلناه حتى الآن في هذه السلسلة هو أننا أثبتنا بمنهج علمي أعظم الحقائق الغيبية: ألا وهي وجود خالق متصفٍ بصفات القدرة والعلم والحكمة.
⦁ فعلْنا ذلك من خلال منهج علمي مبني على مصادر المعرفة التي للعقل دور مركزي فيها، والذي وظف السينس في إثبات وجود الخالق وصفاته.
⦁ يأتي هنا دور مصادر المعرفة ذاتها في إدراك أن هذا الخالق لا يفعل شيئا عبثاً، بل دل خلقه على حكمته، فلا يترك الناس مهملين، بل لا بد من النبوات. ولا بد لحكمته أن تمد هؤلاء الأنبياء بما يبين صدق نبوتهم ويميزهم عن الكاذبين، فيؤيدهم بالمعجزات. والحكم بنبوة نبي وإعجاز معجزته هو حكم عقلي يوظف مصادر المعرفة ويصل إلى هذه النتيجة العلمية في النهاية: أن هذا النبي نبي حقاً، وأن الكتاب الذي جاء به هو من عند خالق الكون والحياة حقاً. وهي إحدى المحطات المهمة القادمة في رحلة اليقين بإذن الله.
⦁ الخطوة الرابعة: بعدما نثبت أن شخصاً ما نبي الخالق حقاً، وأن كتاباً ما وحي الخالق حقاً. هذا الكتاب يتضمن أخباراً غيبية عن عالَم الغيب الذي لا نشهده، فما الموقف العلمي من هذه الأخبار؟
⦁ الموقف العلمي هو التسليم بها لأنها تكتسب حجيتها وموثوقيتها من صدق المخبر بها.
⦁ طيب ماذا إذا تعارضت هذه الاخبار الغيبية مع السينس؟
⦁ لا يمكن أن تتعارض
⦁ فهذه الأخبار الغيبية لن تخرج في علاقتها مع العلم الرصدي التجريبي عن أحد احتمالين:
⦁ الاحتمال الأول أن يكون العلم الرصدي التجريبي دالاً للعاقل على هذه الغيبيات.
⦁ والاحتمال الثاني ألا يكون دالاً ولا نافياً.
⦁ هذا التفصيل مهم إخواني ويزيل كثيراً من اللبس. البعض يقول: العلم الرصدي له علاقة بالغيب، لأ مالهوش علاقة بالغيب. المسألة تحتاج تفصيلاً دقيقاً. السينس يدل على غيبيات، بينما لا يدل ولا ينفي غيبات أخرى، وتبقى مع ذلك مبرهنة بالدليل العلمي.
⦁ ولنأخذ مثالاً على كل من الحالتين:
⦁ عندما يخبرك الخالق من خلال وحي آمنت به بالأدلة، بالطريقة العلمية أن هناك بعثاً بعد الموت، فإن العلم الرصدي يقتضي عقلاً قدرة الخالق على ذلك.
وبهذا تفهم قول الله تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم () الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون () أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم).
⦁ هذه حجة علمية مبنية على مشاهدات السينس الرصدي، أن خالقاً نرى آثار قدرته وعظمته سيكون خلق الإنسان بعد موته أهون عليه من خلق السماوات والأرض التي نرصد عظمتها بالسينس، وأهون من خلق الإنسان أول مرة ونحن نرى بالسينس آثار العظمة في هذا الخلق.
⦁ (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه).
⦁ (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
⦁ نقول: مظاهر الحكمة والرحمة المرصودة في السينس تقتضي عقلا أن هذا الكون لا يمكن أن يكون عبثاً، ولا يمكن أن يُترك المحسن والمسيء دون جزاء..وبهذا تفهم قول الله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) إلى قوله تعالى (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).
⦁ مظاهر العلم الرصدي دلت على أن هذا الكون لم يوجده الخالق عبثاً، وأنه لا بد حكمةً من جزاء، فقنا يا رب أن يكون جزاؤنا النار.
⦁ فهذه الحالة الأولى، أن يكون السينس دالاً على الغيب مؤيداً له.
⦁ الحالة الثانية أن يكون الغيب ليس مما ينفيه السينس ولا يثبته. ومثال ذلك: الملائكة. فالسينس بطبيعة تعريفه يعمل على عالم الشهادة رصداً وتجريباً. والعقل يوظفه في الدلالة دلالة عامة على الخالق وصفاته كما ذكرنا. أما أفعال الخالق، وما يُحدِثه في عالم الغيب، فليس ضمن مجال عمل السينس.
⦁ فيبقى الدليل على الملائكة هو المنظومة المعرفية ذاتها التي أنتجت لنا السينس. الدليل هو الدليل العلمي بتعريفه الأوسع وليس السينس.
⦁ فالـ Science ووجود الملائكة فرعان لأصل واحد. وليس شرطاً أن يدل أحدهما على صحة الآخر حتى نصدق به. بل يكفي أن يدل على صحتهما صحة الأساس الذي بنيا عليه.
⦁ وكما أنه من الحمق أن ننفي الملائكة بالسينس، فمن الحمق أن نحاول إثبات الملائكة بالسينس. فالعلاقة بينهما ليست علاقة إثبات ولا نفي ولا تعارض. وليس من العلم أن نبحث عن ظواهر (لا تفسير مادي لها) لننسبها إلى الملائكة مثلاً.
⦁ وكذلك فليس منهجاً علمياً أن تستخدم هذه المنظومة المعرفية في بناء السينس، ثم ترفضها عندما تدل على وجود الملائكة.
الرد على مراجعة داريل فالك لكتاب توقيع في الخلية
ملحوظة: راجع الدكتور داريل فالك Darrel Falk، وهو البروفيسور في البيولوجيا في جامعة بوينت لوما نازارين Point Loma Nazarene University، كتابَ توقيع في الخلية، في مُدوّنة “العلم والمُقدَّسات Science & the Sacred” التابعة لمؤسسة بيولوجوس. فيما يلي رد الدكتور ماير.
شهدتُّ عام 1985 مؤتمرًا لفت انتباهي إلى مسألة هامة في بيولوجيا نشوء الحياة، وهي مسألة تفسير ظهور المعلومات الضرورية لإنتاج الخلية الحيّة الأولى. وكنت حينها أعمل كجيوفيزيائي بمجال مُعالجة الإشارات الرقمية، وهو شكل من أشكال تحليل المعلومات وتقانتها، ثم انخرطتُ بعد ذلك بسنة في معهد الدراسات العليا في جامعة كمبردج حيث أنهيت رسالة الدكتوراه في فلسفة العلوم من بعد إنجاز بحث مُتعدد الاختصاصات في القضايا العلمية والمنهجية لبيولوجيا نشوء الحياة، وتابعت في السنوات اللاحقة دراسة مسألة نشوء الحياة، وألّفت مقالات علمية مُحكّمة peer-reviewed ومُحرّرة بالأقران peer-edited في موضوع الأصول البيولوجية، وكذلك شاركت في تأليف كتاب تعليمي محكّم في البيولوجيا، ونشرت في السنة الماضية [عام 2009] كتاب توقيع في الخلية من بعد البحث في موضوعه لأكثر من عقدين من الزمن، وهو كتاب يقدّم تقييمًا مطولًا للنظريات الأساسية المُتنافسة لنشوء المعلومات البيولوجية والقضية المتعلقة بذلك وهي قضية نشوء الحياة، ومنذ إتمام الكتاب حصل على تأييد ومساندة العديد من العلماء البارزين، ومن بينهم فيليب سكيل Philip Skell، العضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، وسكوت تيرنر Scott Turner، عالم بيولوجيا تطورية في جامعة ولاية نيويورك، والبروفيسور نورمان نيفين Norman Nevin أحد علماء الوراثة الروّاد في بريطانيا.
ومع ذلك فقد وصفني البروفيسور داريل في مُراجعته الحديثة على موقع بيولوجوس BioLogos بمجرّد فيلسوف ومؤمن مُتديّن حسن النيّة ولكنه غير مؤهّلٍ، وأفتقرُ للخبرة العلمية لتقييم أبحاث نشوء الحياة، وأنني أغفلتُ التجارب الواعدة لمُحاكاة ما قبل الحياة التي ظهرت مؤخرًا. ولقد اعتمد فالك على مجرد تجربتين من تلك التجارب ليقرر بأنني تسرّعت في الحكم بأنّ كيمياء ما قبل الحياة لا يُمكنها تفسير نشوء الحياة، ومع ذلك، فإن كلا التجربتين اللتين يستشهد بهما لا تقدّمان دليلًا يدحض حُجّة كتابي ولا تحلان اللغز الأساسي الذي يتناوله، بل الحقيقة أنّ كلا التجربتين تعزّزان بالواقع –وإن بغير قصد– الحجّة الرئيسية في كتاب توقيع في الخلية.
تقول الحجّة المركزية في كتابي أنّ التصميم الذكي –أي نشاط عامل واعٍ ومُدبِّر عقلاني– يُفسِّر نشوء المعلومات الضرورية لإنتاج الخلية الحية الأولى أفضل تفسير، وأقول هذا لسببين نعلمهما من خبرتنا الثابتة والمُتكررة والتي أراها، كما يراها تشارلز داروين، أساسَ كل التفسيرات العلمية لأحداث الماضي. أولًا أثبتت العوامل الذكية القدرة على إنتاج كميات كبيرة من المعلومات النوعية وظيفيًا (خاصة في صيغة رقمية)، وثانيًا لم تُظهر أيّ عملية كيميائية غير موجّهة امتلاكها هذه القدرة. وبذلك يقدّم التصميم الذكي التفسير الأفضل – والأكثر كفاية سببية – لنشوء المعلومات الضرورية لإنتاج الحياة الأولى من مواد كيميائية جامدة أبسط، أي أن التصميم الذكي يُعَدّ التفسير الوحيد الذي يُشير لسبب يُعرف بامتلاكه القدرة على إنتاج الأثر الرئيسي الذي ندرسه.
لا يدحض فالك في أي جزء من مُراجعته هذا الادعاء، ولا يقدّم تفسيرًا آخر لنشوء المعلومات البيولوجية. وليفعل ذلك فإنه يحتاج لإثبات وجود سبب مادي غير مُوجَّه له القدرة على إنتاج معلومات بيولوجية وظيفية بعيدًا عن توجيه عقل مُدبّر أو نشاطه، إلّا أن فالك وكلّ من عمل في بيولوجيا نشوء الحياة فشلوا في هذا، ولذلك تجده عوضًا عن ذلك يُفضل إثارة جدل شخصي وإجرائي ضدّ كتابي، فرفض مقولتي على اعتبار أنّي غير مؤهّل، وأصرّ على أنّ طرح أيّ استنتاجات سلبية عن كفاية العمليات الكيميائية غير الموجّهة لا يزال “سابقًا لأوانه”.
ولدعم ادّعائه بأنّي تسرّعت بطرح الأحكام استشهد فالك أولًا بدراسة علمية نُشرت في الربيع الذي تلا طبع كتابي، وهي ورقة بحثية ألفها الكيميائي جون سذرلاند من جامعة مانشستر واثنان من زملائه. وهي حقًا تعالج جزئيًا واحدة من الصعوبات البارزة والكثيرة التي تواجه فرضية عالم الرنا، والتي هي النظرية الأشهر حاليًا عن نشوء الحياة الأولى.
ابتداءً بسكّر ثلاثي الكربون (D – غليسيرالديهيد)، ومركب آخر يُسمّى 2 – أمينو أوكسازول، نجح سذرلاند باصطناع سكّر خماسي الكربون مرتبط بأساسٍ ومجموعةِ فوسفات، أي أنه أنتج ريبونوكليوتيد. احتفت الصحافة العلمية – ومعهم حق – بهذه التجربة كنقلة نوعية في كيمياء ما قبل الحياة؛ لأن الكيميائيين كانوا يعتقدون سابقًا (كما ذكرت في كتابي) بعدم ملاءمة الظروف اللازمة لاصطناع الريبوز مع الظروف اللازمة لاصطناع الأسس.
على الرغم من ذلك، لا يدحض بحث سذرلاند الحجة المركزية في كتابي، ولا يدعم حتّى الادعاء بأنّ من المُبكّر الاستنتاج بأنّ العوامل الذكية هي فقط من تبدي القدرة على إنتاج معلومات نوعية وظيفيًا، بل إنه يوضّح العكس.
وصفت في الفصل 14 من كتابي سيناريو عالم الرنا وفنّدته، وعرضت في ذلك الفصل خمس مشاكل رئيسية مُلازمة للنظرية، أما بحث سذرلاند فيواجه جزئيًا فقط أولى تلك الصعوبات وأهونها: وهي مسألة توليد أحجار البناء التأسيسية أو المَوحودات monomers في ظروف قبل حيوية معقولة، إلا أنّه يتجنب المشكلة الأشد وهي تفسير كيفية اكتساب الأسس في الحموض النووية (سواءً الدنا أو الرنا) ترتيبها النوعي الغني بالمعلومات. أي أن تجربة سذرلاند تساعد في تفسير نشوء “حروف” النص الجيني، لكن لا تفسر ترتيبها النوعي ضمن “كلمات” أو “جُمل” وظيفية.
ومع ذلك لا يتوافق عمل سذرلاند مع الظروف قبل الحيوية الواقعية، ويتمثل هذا بثلاث طرق تُؤكّد في الحقيقة حُجّتي.
اختار سذرلاند أولًا أن يبدأ تفاعله بالمُماكب المُيمّن (المتشابه الجزيئي) فقط من السكّريات ثلاثية الكربون المطلوبة لابتداء التفاعل المُتسلسل. لماذا؟ لأنّه عرف أنّ عدم فعل ذلك سيعطي نتيجة غير ذات أهميّة بيولوجيًا، فإن اختار سذرلاند استعمال مزيج راسيمي racemic من مُماكبي السكّر المُيمّن والمُيسّر وهو الظرف الأكثر واقعية، فسيولّد التفاعل مزيجًا غير مرغوبٍ من المُصاوغات الفراغية stereoisomers [وهي أمزجة تؤدي لتعقيد شديد لأي عملية بلمرة polymerization بيولوجية لاحقة]، وبذلك يكون قد تدخل بنفسه ليحل مُشكلة عدم التناظر المرآتي chirality في كيمياء نشوء الحياة، بانتقائه الذكي لمُصاوغ مرآتي enantiomer مُفرد، أي باستخدامه فقط للسكّريات المُيمّنة التي تتطلبها الحياة ذاتها، لكن لا يظهر أنه كان هناك أي مصدر لمثل هذا المزيج غير الراسيمي من السكّريات في أيّ بيئة معقولة قبل أحيائية.
ثانيًا، اشتمل التفاعل الذي استعمله سذرلاند لإنتاج الريبونكليوتيدات خطواتٍ كيميائية منفصلة عديدة، وفي كل خطوة من التفاعل مُتعدد الخطوات تدخّل سذرلاند بذاته بتنقية ناتج التفاعل عن الخطوة السابقة، مزيلًا المنتجات الثانوية غير المرغوبة، وبهذا يكون قد منع بإرادته الخاصة وبفكره ومسلحًا بالتقنية التجريبية حدوث أي تفاعلات تصالبية مُعترضة، وهي كابوس كل كيميائي يبحث في كيمياء ما قبل الحياة.
ثالثًا، اتبع سذرلاند لتوليد المنتج الكيميائي المرغوب فيه (الريبونكليوتيدات) “وصفة” أو إجراءً غاية في الدقة، انتقى فيه بعناية الكواشف الكيميائية، وخطّط ترتيب إضافتها في تسلسل التفاعل، وكذلك اختار أيضًا أيّ المنتجات الجانبية التي يجب أن تُزال، ومتى تُزال. وتمثل هذه الوصفات التي يتّبعها الكيميائيون ما يُسمّيه الكيميائي الفيزيائي المجري الراحل مايكل بولاني Michael Polanyi “التدخلات التوجيهية المُحملة بالمعلومات”، فالكيميائي بذاته يُضيف معلومات إلى النظام الكيميائي، كما تضاف المعلومات نتيجة للأفعال المقصودة، أي بالتصميم الذكي من ناحية الكيميائي.
بالمُجمَل نقول إن المشكلة لا تكمن فقط في عدم تعرض تجربة سذرلاند للمشكلة الأساسية الأكبر حول ترتيب الأسس النكليوتيدية لنفسها في تسلسلات نوعية وظيفيًا، ولكن تكمن أيضًا في أن نجاح التجربة بإنتاج مُكوّنات كيميائية مُلائمة للحياة قد أثبت في الحقيقة الدور الذي لا غنى عنه للذكاء في توليد تلك الكيمياء.
توضّح التجربة الثانية التي ذكرها فالك لدحض كتابي هذه المُشكلة بصورة أكبر، وقد ذُكرت هذه التجربة في ورقة بحثية علمية لترايسي لينكولن وجيرالد جويس يثبتان فيها ما يبدو أنه قدرة الرنا على التضاعف الذاتي، بما يضفي الواقعية على إحدى المراحل الرئيسية في فرضية عالم الرنا، وقد ألمح فالك مخطئًا أنّني لم أناقش هذه التجربة في كتابي، ولكنني بالحقيقة قمت بذلك في الصفحة 695 [من الترجمة العربية].
على أيّ حال فإن فالك هو الذي توصل إلى استنتاج خاطئ من هذه الورقة البحثية، فالمشكلة الرئيسية التي تواجه الباحثين في نشوء الحياة هي ليست اصطناع أحجار البناء قبل الحيوية (التي ناقشها بحث سذرلاند) أو حتّى اصطناع جزيء الرنا ذاتي التضاعف (وهو الأمر الذي فشل جويس وتريسي في إثبات واقعيته: انظر بالأسفل)، بل المشكلة الأساسية هي جعل حجارة البناء الكيميائية ترتّب ذاتها ضمن جزيء كبير حامل للمعلومات (سواء كان الدنا أو الرنا)، وكما عرضتُ في كتاب توقيع في الخلية، فإن القدرة المحدودة جدًا للرنا على التضاعف الذاتي التي تم إثباتها فعلًا تعتمد بشدّة على نوعية ترتيب الأسس النكليوتيدية، أي اعتمادًا على معلومات نوعية التسلسل الموجودة مسبقًا.
لم تحل تجربة لينكولن وجويس التي وصفها فالك هذه المُشكلة، أو لنقل على الأقل إنها لم تُحل من دون تدخل لينكولن وجويس الذكي. أولًا جزيئات الرنا “ذاتية التضاعف” التي ينشئانها عاجزة عن نسخ قالب template المعلومات الجينية ابتداءً من وُحيدات كيميائية حرة كما تفعل آلية البوليميراز في الخلايا الحقيقية، ففي تجربتهما يقتصر الأمر على مجرد قيام جزيء رنا مُصنّع مُسبقًا وذي تسلسل نوعي بتحفيز تشكيل رابطة كيميائية واحدة تدمج جزأي سلسلة رنا مُصنّعتين مُسبقًا، وبعبارة أخرى، لا تُحقق رؤيتهما “للتضاعف الذاتي” أكثر من مُجرّد جمع نِصْفي تسلسل نوعي مُحضّرين مُسبقًا، والأهم من ذلك هو أن لينكولن وجويس قاما بنفسيهما بترتيب ذكي لتسلسلات الأسس المُتوافقة في سلسلتي الرنا، وهما من قام بعملية التضاعف، وهما من أنشأ المعلومات النوعية وظيفيًا التي جعلت حتّى هذه الشكل المحدود من التضاعف مُمكنًا.
تؤكّد تجربة لينكولن وجويس بالحقيقة ثلاثة ادعاءات طرحتُها في كتاب توقيع في الخلية. أولًا: أثبتت التجربة أنّ القدرة على التضاعف الذاتي، حتى التضاعف الجزئي البسيط في الرنا ، تعتمد على تسلسلات نوعية من تسلسلات الأسس (أي غنية بالمعلومات) في هذه الجزيئات، وثانيًا: أوضحت أنّ قدرة المعلومات الجينية على التضاعف -ولو حتى التضاعف الجزئي- في جزيئات الرنا تنشأ من تدخل الكيميائيين، أي من ذكاء “مُهندسي الأنزيمات الريبوزية” الذين صمّموا وانتقوا خصائص جزيئات الرنا المُتضاعفة (جزئيًا) هذه، وثالثًا: تؤكد تجارب مُحاكاة ما قبل الحياة ما نعلمه من الخبرة المعتادة بأنّ التصميم الذكي هو الوسيلة الوحيدة المعروفة التي تنشأ عنها المعلومات النوعية وظيفيًا.
حاول الباحثون في نشوء الحياة لقرابة ستين سنة الاستفادة من تجارب مُحاكاة ما قبل الحياة للعثور على سبيل واقعي نشأت به الحياة من مواد كيميائية جامدة بسيطة، ومن ثم تأييد نظرية التطوّر الكيميائي. وبينما بصّرتنا تلك التجارب أحيانًا بحقائق مثيرة حول الظروف التي في ظلها تُنتِج (أو لا تنتِج) تفاعلاتٌ معيّنةٌ جزيئاتٍ صغيرة مختلفة مكوّنة لجزيئات حيوية ضخمة، إلا أنّها لم توضح قطّ كيفية نشوء المعلومات في هذه الجزيئات الضخمة (خصوصًا الدنا والرنا)، ولا يفاجئنا ذلك في ضوء ما عرفناه طويلًا عن البنى الكيميائية للدنا والرنا، فكما أوضحت في كتاب توقيع في الخلية، تسمح البنى الكيميائية للدنا والرنا بتخزين المعلومات لأنّ الألفة الكيميائية بين الوحيدات الجزيئية الصغيرة فيهما لا تحدّد الترتيب النوعي لهذه الأسس فيهما، إذ يتشكل ذات النوع من الروابط الكيميائية (رابطة N – غليكوزيدية) بين الهيكل الرئيسي وكل من الأسس الأربعة، بما يسمح لأيّ أساس منها بالارتباط في أيّ موقع على طول الهيكل، وهو ما يعني بدوره إمكانية وجود تنوّع لا يُحصى من التسلسلات المختلفة. عدم التحدُّد الكيميائي هذا هو بالضبط ما يسمح للدنا والرنا بالعمل كحاملي معلومات، وهو أيضًا ما يحكم بالفشل على مُحاولات تفسير نشوء المعلومات – التسلسل الدقيق للأسس – في تلك الجزيئات كنتيجة حتمية لتآثرات كيميائية deterministic.
رغم ما سبق يرى البروفيسور فالك أنّ الوصول لاستنتاجات سلبية حول كفاية العمليات الكيميائية غير الموجّهة الخالصة، أو الوصول لما هو أسوأ من ذلك باستنتاج وجود تصميم ذكي، أمر سابق لأوانه بالأساس، وهو يرى أن مثل هذا التفكير في الحقيقة تخلٍ عن العلم، أو ارتكاب لمغالطة “الاحتكام إلى الجهل argument from ignorance”، لكّن هذا يكشف عن سوء فهمه للعلم ولأساس حجة التصميم التي أقيمها.
لا تخبرنا الاستقصاءات العلمية فقط عمّا تفعله الطبيعة، بل كثيرًا ما تخبرنا أيضًا بما لا تفعله الطبيعة. فقوانين انحفاظ الطاقة في الديناميكا الحرارية مثلًا تنفي نتائج معيّنة، حيث أنّ القانون الأول يقتضي أنّ الطاقة لا تخلق أبدًا ولا تفنى، بينما يقول القانون الثاني أنّ الإنتروبية entropy في نظام مغلق لن تنخفض أبدًا مع الزمن. والأهم أننا لدينا ثقة كبيرة بهذه القوانين لأنّها مبنية على خبرتنا المنتظمة والمُتكررة، ولهذا السبب يصر الفيزيائيون على أن البحث عن آلات الحركة المستديمة لا يستحق الجهد ولا التمويل.
كذلك لدينا اليوم خبرة متراكمة توضّح أنّ ما أسمّيه بالمعلومات النوعية أو الوظيفية (خاصة إن كانت مُرمّزة بالشكل الرقمي) لا تنشأ من طلائع فيزيائية أو كيميائية محضة، فهندسة الأنزيم الريبوزي في الواقع، وتجارب مُحاكاة ما قبل الحياة التي يوصيني بها البروفيسور فالك، تضفي دعمًا استقرائيًا على هذا التعميم. ومن جهة أخرى نعلم بوجود سبب (أو نمط من الأسباب) أثبت قدرته على إنتاج معلومات نوعية وظيفيًا، وذلك السبب هو الذكاء أو التدبير المنطقي الواعي. وكما لاحظ المنظِّر الرائد في علم المعلومات هنري كواسلر Henry Quasetler: “يترافق خلق المعلومات عادةً مع نشاط واعٍ”، وكان مُحقًّا بالطبع. فأينما نجد المعلومات (سواء كانت متخفية في إشارة راديو، أو منقوشة في تمثال صخري، أو مدوّنة في كتاب، أو محفورة في قرص مُمغنط) ونقتفي أثرها نحو مصدرها نجد دومًا أنها صدرت من عقلٍ ما، وأنها ليست مجرد نتيجة عملية مادية، ولذلك يقدّم اكتشاف معلومات نوعية وظيفيًا ومُرمّزة رقميًا على طول هيكل الدنا دليلًا إيجابيًا مقنعًا على وجود فاعليةٍ سابقة لمصمم ذكي. هذا الاستنتاج ليس مبنيًّا على ما لا نعلمه، بل مبنيّ على ما نعلمه بالفعل من خبرتنا المنتظمة حول بنية السبب والنتيجة في العالم، وخصوصًا ما نعلمه عمن يمتلك القدرة على إنتاج كميات كبيرة من المعلومات النوعية ومن لا يمتلكها.
إن رفض البروفيسور فالك هذه المعرفة باعتبارها معرفة، ورفضه حجة التصميم المبنية عليها، يعكس التزامه الخاص بإيجاد حل لمسألة نشوء الحياة ضمن هيكل مادي صارم. لقد صرّح فالك وزملاؤه في مدوّنة بيولوجوس بأنهم يؤمنون بمبدأ مذهب الطبيعية المنهجية methodological naturalism، والمتمثل بفكرة أنّه حتى يكون العالِم عالِمًا فعليه أن يقصر نفسه على طرح تفسيرات مادية فقط لجميع الظواهر. من حقهم طبعًا قبول هذا التقييد الفكري في طرح النظريات إن رغبوا بهذا، ولكن يجب أن نوضح أنّ مذهب الطبيعية المنهجية هو افتراض فلسفي اعتباطي، وليس مبدأً يمكن إثباته أو تبريره بالمُلاحظة العلمية بذاتها. أما نحن الآخرين بعدما رأينا ذلك النمط في تجارب محاكاة ما قبل الحياة -فضلًا عما تسجله شهادة الخبرة البشرية الممتدة لآلاف السنين- فقد قررنا أن نتجاوز تلك النقطة. نحن نرى في بنية الحياة الغنية بالمعلومات مؤشرًا واضحًا لنشاط ذكي، وبدأنا بالبحث في النظم الحيّة تبعًا لذلك. وإن كان هذا يجعلنا فلاسفة لا علماء وفقًا لتعريف البروفيسور فالك، فليكن ذلك. لكن أعتقد الآن أنّ الرصاصة قد ارتدت في نحر صاحبها.
لا ينتج الملحد علما و هو ملحد
مقالة جديدة من رحلة اليقين، تجدون فيها:
- بماذا ترد على من يقول لك: أكثر علماء الطبيعة حاليا من غير المسلمين، مما يدل على أن الإسلام سبب للتخلف في هذه العلوم؟
- معلومات صادمة لمن يقول: أنتم تنتقدون من صنع لكم كل شيء، حتى الإنترنت الذي تستخدمونه لنشر أفكاركم.
- هل بالفعل لا علاقة للعلم التجريبي بالإيمان بوجود خالق بدليل أن كثيرا من “العلماء” ماديون أو ملحدون؟
- لماذا نستدل على الملحدين بكلام غريب لـ”علماء” ملحدين؟ لماذا نفترض أنهم يمثلون الإلحاد أو المادية؟ ألا يمكن أن يأتي لي الملحد بكلام شاذ لبعض “الشيوخ”؟
- نبذة تحيي في نفسك الاعتزاز بتاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية.
- مغالطة المفهوم المسروق.
ليسَ المهمُّ -يا إخوانَنا- مَا يقولهُ هذا العالِمُ عن نفسهِ بلسانهِ، المهمُّ: هلْ عندما أنتجَ علمًا نافعًا أنتجهُ
مِن مُنطلقاتٍ ماديَّةٍ أم مِن مُنطلقاتٍ إيمانيَّةٍ، وهوَ يعلمُ أو لا يعلمُ؟
لو أنَّ مجموعةً مِن الأشخاصِ يذُمُّونَ برنامجَ حاسوبٍ ليلَ نهارَ، ويَصفونهُ بأنَّه عديمُ النَّفعِ، ثمَّ أثبتْنا أنَّهم يعتمدونَ اعتمادًا كليًّا على هذا البرنامَجِ في حساباتِهم -وهم يعلمونَ أو لا يعلمونَ-، فهل نقولُ إنَّهُ لا عَلاقةَ للبرنامَجِ بحساباتِهم لأنَّهم يتنكَّرونَ لهُ بألسنتِهم؟
كذلكَ العالِمُ المادِّيُّ، أتُرى يُشغِّلُ في نفسهِ نظامَ التَّشغيلِ المادِّيِّ أم الإيمانيِّ لكي يستطيع أن ينتج علمًا نافعًا؟
الباحثُ المادِّيُّ يحتاجُ إلى أنْ ينسلِخَ عن مادِّيَّتهِ وهوَ يشعُرُ أو لا يشعُرُ، وينطلقَ مِن أُسسٍ إيمانيَّةٍ حتَّى يستطيعَ أنْ يُنتِجَ أيَّ علمٍ نافعٍ، أي فعَّلَ نِظامَ التَّشغيلِ المؤمِنِ بالخلق في نفْسهِ، وليسَ آفة المادِّيَّةِ الذي ينطِقُ بهِ بلسانهِ.
لذلكَ، لا يهِمُّنا ما يقولهُ هذا الباحثُ هوَ عن نفسِهِ وقناعاتِهِ، ما دامتْ مُنطلقاتُهُ كلُّها هي مِن مَنهجِ الإيمانِ بالخلق رَغْمًا عنهُ، شعرَ أم لَم يشعُر.
ونحنُ لا يلزمُنا في هذهِ الحلقةِ أنْ نُفرِّقَ بينَ المادِّيِّ الملحدِ الذي يُنكرُ وجودَ الخالقِ، والمادِّيِّ الذي لا يُنكرُ وجودَهُ لكنَّهُ يقولُ بصُدفيَّةِ الكونِ والحياةِ، واستثناءِ الخالقِ مِن تفسيرِهما، فخلافُنا معهُم واحدٌ.
هلْ تعلمونَ يا أحِبَّةُ ماذا يفعلُ هذا المادِّيُّ؟
إنَّهُ يقع في مغالَطتينِ:
المغالطةُ الأولى تُسمَّى (مُغالطةَ المفهومِ المسروقِ) “Stolen Concept Fallacy”، تُعرَّفُ على أنَّها: مغالطةُ استخدامِكَ لمفهومٍ ما، بينما أنتَ تُنكرُ صحَّةَ الأصولِ التي يُبنَى عليها هذا المفهومُ.
تعالَوا نعُدْ للتَّعريفِ: مُغالطةُ استخدامِكَ لمفهومٍ ما، بينما أنتَ تُنكرُ صِحَّةَ الأصولِ التي يُبنى عليها هذا المفهومُ.
المادِّيُّ استخدمَ هذهِ المنطلَقاتِ وهو يُنكِرُ الأصلَ الذي تقومُ عليهِ هذهِ المنطلَقاتُ ألَا وهوَ (الإيمانُ بالخلق)، حتَّى إذا ما عرفَ هذا الباحثُ أسبابَ الظَّواهرِ، وقعَ في مُغالطةٍ أُخرى، فقالَ: عرفتُ السَّببَ فلا حاجةَ لخالقٍ في تفسيرِ الكونِ والحياةِ!
فجعلَ الأسبابَ بديلةً عنِ المسبِّبِ الأوَّلِ الذي لا غِنى عنهُ بالدَّليلِ العقليِّ الذي يمنعُ تسلسُلَ الأسبابِ إلى ما لا بدايةٍ كما بيَّنَّا في حلقةِ (لماذا لا بُدَّ مِن خالقٍ).
فهذا المادِّيُّ كأنَّهُ عمليًّا يقولُ في المحصِّلةِ: لا خالقَ لأنَّهُ لا بُدَّ من خالقٍ!
ربما تحسُّ أنَّنا نبالغُ حينَ نقولُ: أنَّ مُنطلقاتِ العلمِ كلَّها هي مِن مَنهجِ الإيمانِ بالخلق، وأنَّ المادِّيَّةَ آفةٌ لا تُنتِجُ شيئًا؟
حسنًا، هاتِ لنا اكتشافًا واحِدًا انطلقَ ممَّا تُحتِّمهُ المادِّيَّةُ مِن إلغاءِ قيْمةِ العقلِ، والضَّروراتِ العقليَّةِ، وادِّعاءِ الصُدَفيَّةِ والعَشوائيَّةِ، وإلغاءِ الاستدلالِ على الأشياءِ بآثارِها..
هاتِ اختراعًا واحِدًا، اكتشافًا واحِدًا بُنِيَ على هذهِ الأُسسِ؟
الباحثُ المادِّيُّ إذا أجرى تجرِبةً وخرجتِ النَّتائج بِخلافِ ما تؤكِّدهُ عشراتُ الأبحاثِ قبلهُ، ثمَّ تأكَّدَ له أنَّ ظروفَ تجربتِهِ هي نفسُها ظروفُ تجاربِ مَن قبلهُ، فإنَّهُ لنْ يقولَ: إذن، ليسَ هناكَ نظامٌ في الكونِ، بلْ سيقولُ: هناكَ خلَلٌ في التَّجرِبةِ، فلا يَنسِبُ المشكلةَ إلى الطَّبيعةِ الصُّدَفيَّةِ في الكونِ حَسبَ أصولهِ المادِّيَّةِ.
عندَما انفجرَ مكُّوك ُالفضاءِ (المُتحدِّي) “Challenger”، لم يكُنِ الاستنتاجُ أنَّ الكونَ إذن بلا قوانينَ يُعتَمدُ علَيها، ولم يتوقَّفوا عن إطلاقِ مكُّوكاتٍ بعدهُ إلى الفضاءِ، بلْ أيقَنوا أنَّ في تصميمِهِ خَللًا، وشُكِّلَتْ لَجنةٌ لمعرفةِ السَّببِ، وكذلكَ الحالُ إذا تحطَّمتْ أيُّ طائرةٍ.
كلُّ هذا إقرارٌ عمليٌّ بأنَّ هذا الكونَ يسيرُ بنظامٍ وانضباطٍ شديدَينِ، وهذا لا يكونُ بالصُّدَفِ العَمياءِ التي تُحتِّمها المادِّيَّةُ.
لا مَهرب للمادِّيَّةِ -إخواني- مِن أحدِ هذَين الخِيارَين:
إمَّا أنْ يتنكَّرَ لمادِّيَّتهِ ليُنتِجَ علمًا نافعًا.
وإما أنْ يحاولَ الانسجامَ معَ المادِّيَّةِ فيَصِلَ إلى هذهِ الأقوالِ التي تهدِم العلمَ من أساسِهِ.
الإلحاد العملي (اللادينيَّة أو الدنيويَّة)!
19 نوفمبر 202113٬541 9 دقائق
د. عائض بن سعد الدوسري
في شهر نوفمبر من عام 1948م، نشر الباحث والمحقق الصحفي الأمريكي لينكولن بارنت مقالاً بعنوان: (الله والشعب الأمريكي: بماذا يؤمن الأمريكيون؟ وما مدى قوة معتقداتهم؟ وهل يعيشون حسب إيمانهم؟). وقد تضمن المقال نتائج أحد الاستفتاءات الكبيرة للشعب الأمريكي حول موضوع (الدِّين والتدين)، وكان من ضمن الأسئلة التي طُرِحَت على هؤلاء: ما مدى إيمانك بوجود الله؟ فكانت الإجابة: بأنَّ 95% من هؤلاء يؤمنون بالله. ثم تلاه سؤالٌ آخر، وهو: ما مدى اعتبارك الدِّين مؤديًّا إلى إقامة حياة جيدة وفاضلة؟ فجاء الجواب: بأنَّ 25% من هؤلاء فقط يعتبرون أنَّ الدِّين أحد العناصر التي يضعونها في اعتبارهم في هذا الصدد.
وهذا يعني أنَّ ما نسبته 70% من هؤلاء الذين يقولون إنَّهم يؤمنون بالله، لا يوجد لهذا الإيمان أثر أو اعتبار في حياتهم، أو أنَّهم لا يقيمون حياتهم على مقتضيات الإيمان بالله! وقد عَلَّق أحد الباحثين والمحللين على هذه الأرقام، بقوله إنَّها تشير إلى أنَّ النَّاس لا يربطون بشكلٍ مباشرٍ حياتهم ولا سلوكهم بالإيمان بالله.
وفي بحثٍ آخر قدَّمه ويل هيربيرج في سنة 1983م، واستعان فيه بعدة استفتاءات، وَجَدَ أنَّ ما نسبته (97% وفقاً لاستفتاءٍ، و96% وفقاً لمسحٍ آخر، و 95% وفقاً لاستفتاءٍ ثالث) من الأمريكيين يؤمنون بالله، وهي نسبة عالية جدًا إذا ما قُورِنَت بنسب الإيمان بالله في القارة العجوز أوروبا. ويشير ويل هيربيرج استنادًا إلى ما سماه “وفقًا لمصدرٍ موثوقٍ”، إلى أنَّ 73% من أفراد العينة يؤمنون بـ(الحياة الآخرة)، وبأنَّ الله هو الحاكم في ذلك اليوم، ومع ذلك، فإنَّ 5% فقط منهم لديهم خوف حقيقي واقعي من ذلك اليوم، ناهيك عن عدم توقعهم الحقيقي والجاد في أنَّهم سوف يذهبون إلى الجحيم. ويذكر ويل هيربيرج استفتاءً آخر، جاء من ضمن نتائجه أنَّ 80% قالوا إنَّهم يؤمن بـ(الحياة بعد الموت)، لكنَّهم اعترفوا بأن الشيء الحقيقي الذي يتعاطونه معه” بجديَّة أكثر، “لم يكن الحياة بعد الموت، التي قالوا إنَّهم يؤمنون بها، وإنَّما محاولة العيش قدر الإمكان براحة أكبر في هذه الحياة الدنيا”.
ويطرح الفيلسوف البريطاني والتر تيرينس ستيس سؤالاً في ضوء أمثال هذه النتائج التي تعكس نظريًّا نسبًا عالية تدعي الإيمان، ونسبًا منخفضة في جانب ارتباط ذلك الإيمان بالسلوك في الحياة العمليَّة الواقعيَّة، حيث يقول: “لماذا نجدهم من ناحية يؤيدون الإيمان التقليدي في وجود الله، ونراهم من ناحية أخرى أنَّه لا علاقة لهذا الإيمان بالأحداث الفعليَّة التي تقع في حياتهم اليوميَّة؟“. ويعزو السبب إلى الانفكاك بين ما يعتقد هؤلاء نظريًا وبين ما يلمسون أثره في حياتهم الواقعيَّة، فأصبح هناك عدم ارتباط بين المستوى النظري وبين المستوى الواقعي لحياتهم، وأنَّهم أكثر تعلقًا بالأسباب الطبيعية وتأثيرها بالمقارنة مع تعلقهم الحقيقي بتأثير الله. يقول والتر تيرينس ستيس: “لا شك أنَّ 95% من النَّاس يقولون إنَّهم يؤمنون بالله، لكن ذلك ليس دليلاً على إيمانهم بالدِّين، فمثل هذا الإيمان بالله هو مجرد تجريد عقلي، لا يؤثر في سلوك النَّاس، أو أنَّه صيغة تقليديَّة لفظيَّة عقيمة اعتاد النَّاس على ترديدها”.
وهكذا، فإنَّه في مثل تلك المجتمعات الغربيَّة، ومع مثل تلك الأرقام العالية في الاعتقادات النظريَّة والأرقام المنخفضة في ارتباط السلوك بذلك الاعتقاد، فإنَّ آخر ما يلتفت إليه هو الشعارات المُعْلَنَة، أو بقايا التقاليد التي يتمتم بها الإنسان وبقيت عالقة على لسانه، لكنها لا تمتلك رصيدًا حقيقيًّا من الإيمان الفعلي الذي ينعكس على أرض الواقع، وأنَّ ما يبدو ظاهرًا وجليًا على الألسنة يكون غامضًا ومختفيًا في الحقيقة، ويحتاج إلى وقتٍ كافٍ لإدراكه في الواقع، أو كما يقول المثل الإنجليزي: “الشيطان يكمن في تفاصيل“.
إنَّ هذا الانفصال الحاد والانفصام العميق بين إيمان الفرد أو المجتمعات على المستوى النظري وبين الحياة الواقعيَّة على المستوى العملي السلوكي، يكشف عن عدة حقائق:
الأولى: الضعف الشديد والخطير في الإيمان الاعتقادي في القلب، وتزلزل القناعة العقليَّة به، وأنَّه لم يعد إلا شعارًا ولوحة رمزيَّة تكاد أن تقع، ومقولة تلاك بالألسن ولا حقيقة لها في القلب أو في الواقع.
الثانية: أنَّ البراغماتيَّة قد ضَرَبَت بجرانها في المجتمعات الغربيَّة، وترسخت أخلاقياتها في أعماق سلوكياتهم، فصارت المنفعة والمصلحة العاجلة الدنيويَّة هي الغاية والهدف في هذه الحياة، حتى الإيمان الدِّيني نفسه صار ضحية لمبادئ البراغماتيَّة، فبقي منه في القلوب والواقع ما يُحَقِّقُ المنفعة العاجلة للفرد واللذة، وكأنَّ الدِّين أصبح مجرد قطعة أثريَّة عتيقة في متحف أكبر ضمن قطعٍ أخرى، متحف يجتمع فيه: الروحانيات بأشكالها، وخرافات الطاقة الكونيَّة، ودغدغات البرمجة العصبيَّة، وأوهام الحريَّة النفسيَّة، التي صارت وظيفتها كلها منفعة الإنسان العاجلة، ولذته الحاضرة، ذلك الإنسان المرعوب الخائف القلق في هذه الحياة، والذي يريد من تلك الخرافات أن تُسَكِّنَ روحه، وتُطمئن نفسه، وتطرد مخاوفه ورعبه وقلقه وبؤسه ويأسه، بعد أن فَقَدَ الإيمان الحقيقي بالله، ذلك الإيمان الذي يُحَقِّقُ له الاطمئنان القلبي الحقيقي والسكينة الروحيَّة الحَقَّة.
الثالثة: تلك الأرقام والاستفتاءات السابقة، تكشف بوضوح للباحث كيف وَجَدَ الإلحاد الجديد الطريق أمامه سهلاً في المجتمعات الغربيَّة، وكيف انقلبت النسب رأسًا على عقب في تلك المجتمعات وبين أولئك الأفراد. لقد وَجَدَ الإلحاد الجديد نفوسًا هَشَّة، وأرواحًا محطمة، وعقولاً متشَكِّكَة زائغة، وقلوبًا متعلقة بالدنيا، مشغولة بالمصالح العاجلة الحاضرة الآنيَّة، فكان سهلاً عليه استقطاب كثيرٍ منها، والاستحواذ عليها، وهدم ما بقي من رسوم دينيَّة بالية متهالكة بقيت لديهم.
إنَّ (اللادينيَّة) الواقعيَّة أو (الدنيويَّة) نتجت عن الانفصال بين الإيمان والعمل، فضعف الإيمان وتعطل العمل بالدِّين، فكانت تلك (اللادينيَّة) إعلانًا عن الانسلاخ من الدِّين على مستوى السلوك والواقع، وإن بقي في بقايا تلافيف القلب إيمان أو مزاعم إيمان، يمكن أن تُكْشَف وتُهَز عند أول اصطدام بمنافع دنيويَّة أو مصائب في الحياة. وهذا نوع من (اللادينيَّة) السلوكيَّة في المجتمعات الغرب؛ يُشَجِّعه الإلحاد ويُنميه، ويستشهد به أيضًا على ضعف أثر الدِّين في حياة النَّاس، فهذا (اللادينيَّة السلوكيَّة) هي الأرض الخصبة للإلحاد، وبقدر تمددها في المجتمعات وبين الأفراد يتمدد الإلحاد بسهولة، فالحياة (اللادينيَّة) هي الحياة التي يزدهر فيها الإلحاد، لأنَّ الذي بقي في الحياة (اللادينيَّة) مجرد بقايا إيمان في القلب أو توهم ذلك، ستُهْدَمُ تلقائيًّا مع مرور الأيام.
والإلحاد الأحمر يختلف عن (الإلحاد العملي)، فالأول قد جَعَلَ هدفه الرئيس في الحياة هو نشر الإلحاد ومهاجمة وجود الله وتحطيم الأديان، كما تمثله الشيوعيَّة الحمراء، ويمثله في هذا العصر الحديث دعاة (الإلحاد الجديد)، من أمثال: ريتشارد دوكينز، وسام هاريس، وكريستوفر هيتشنز، وهو إلحادٌ واضحٌ وصادمٌ ومُتصادم ووقحٌ. وهذا النوع من الإلحاد الفَجّ غالبًا ما يخفق في تحقيق مهمته كما يريدها بطريقة مباشرة، لتنافره مع عامة النَّاس واستفزازهم لهم، وإن كان صوته الأكثر ارتفاعًا وصخبًا. أما النوع الآخر من الإلحاد، (الإلحاد العملي)، وهو إلحادٌ مستترٌ -ولعله أشد خطورة- لأنَّه لا يظهر التصادم مع المعتقدات صراحة، فالمعتقدات القلبيَّة لا تعنيه كثيرًا بالدرجة الأولى، ولهذا فالنَّاس قد لا تنفر منه، وهو يركز على معيشة النَّاس العمليَّة في هذه الحياة الدنيا، ويشغلهم بها، ويجعل أهدافهم وغاياتهم هي المصالح والمنافع العاجلة، فيغرقهم فيها، وينغمسون في تلك الدوامة مبتعدين –دون شعورٍ- عن إيمانه بالله الذي في قلوبهم، إلى درجة تصبح معظم الأشياء -الغايات والوسائل- مجرد وسائل لوسيلة دنيويَّة أخرى، وهكذا تنتهي حياة الإنسان غرقًا في تتبع الوسائل، التي سيكتشف أنَّها تتسلسل إلى ما لا نهاية، دون تحقيق الغاية التي كان يطمح إليها ويريدها.
وفي هذا النوع من (الإلحاد العملي) أو (اللادينيَّة)،كما يقول كوستي بندلي: فإنَّ “وجود الله بحد ذاته أمر لا يهمه كثيراً”، فما الذي يهمه إذن؟ الذي يهمه في الواقع هو عزل الله عن الحياة، وذلك من خلال “نفي علاقة الله بالإنسان، تلك العلاقة التي تجعل للإنسان مرجعاً وغاية غير ذاته”، فهذا النوع من الإلحاد “هو رفض الله أكثر مما هو نفيٌ لوجوده”. وهذا الإلحاد “لم يرفض الله باسم الإنسان إلا ليستعيض عنه بأصنام تسحق الإنسان”، وكما يقول الفيلسوف الملحد لودفيغ فويرباخ صراحة: “إنَّ نقطة التحول الكبرى في التاريخ؛ ستكون اللحظة التي سَيَعِي فيها الإنسانُ أنَّ الإله الوحيد هو الإنسان نفسه: الإنسان هو إله الإنسان”.
فـ(اللادينيَّة) أو الإنسانيَّة أو الدنيويَّة في تجلياتها العليا هي إبعاد الإنسان عند الله وإبعاد الله عند الإنسان، وعزل الخلق عن الإيمان أو عزل حياتهم عن الإيمان، وذلك من خلال تقديس الدنيا وعبادة الإنسان، أو بالأحرى عبادة الشيطان وشهواته تحت عناوين وشعارات لافتات جميلة وبراقة، تمنح السيادة كلها للإنسان وتسلبها عن الله، فالإنسان هو النموذج الذي لا يعلوه أي نموذج آخر، وكما يقول كارل ماركس: “الإنسان هو للإنسان الكائن الأسمى”.
وهذا النوع من الإلحاد البراغماتي أو الناعم، الذي يفرح بها الإلحاد الصلب كثيرًا، سواء المعلن أو المضمر، يرى أنَّ الإيمان بالله عبوديَّة، وأنَّ واجب الإنسان عمليًّا أن يتمرد ويتحرر سلوكيًّا وواقعيًّا وأخلاقيًّا من أي سلطة تحد من شهواته ورغباته، فلا سيد للإنسان إلا نفسه، كما يقول كارل ماركس: “أي كائن كان لا يعتبر نفسه مستقلاً إلا إذا كان سيداً لنفسه، ولا يكون سَيِّد نفسه إلا إذا كان مديناً لذاته بوجوده”. وإذا وُجِدَتْ لحظة يعترف فيها إنسانٌ بنعمة وفضل ربه، فهذا الإنسان عبد ذليل خانع بحسب كارل ماركس، فالإلحاد عنده إن كان هو “إنكار الله”، فإنَّ المهم هو أنَّ يكون هذا الإنكار “يؤكد وجود الإنسان”. وهذا ما يُركِّز عليه الإلحاد الذرائعي الناعم، الذي لا يهمه بالدرجة الأولى إعلان إنكار الله، بل فصل علاقة الإنسان بربه عمليًّا، ولهذا فهو يزرع في قلب الإنسان حلاوة التمرد على الله، ويصف ذلك بالبطولة وتحقيق الحرية، وعدم قبول الخنوع والخضوع والعبودية.
إنَّ هذا (الإلحاد الذرائعي) يرفع شعارًا مُعلنًا، وهو: الإنسان أولاً، أو الدنيا أولاً وآخرًا، ويزعم أنَّه إنَّما جاء انتصارًا للإنسان وتحريرًا لفكره من الخضوع والعبوديَّة، وأنَّه أعاد إلى الإنسان قواه وفضائله التي كان الدِّين قد سلبها منه، ويعزو تدمير الإنسان في الدنيا عبر التاريخ إلى الدِّين، والإلحاد –بشقيه الصلب والناعم- يزعم أنَّه هو الذي حرَّر وعي الإنسان من الخرافة، وجعله مركز الوجود وأساسه وهدفه وغايته، ولا شيء وراء ذلك. وقد حرصت هذه (اللادينيَّة) على تعميق وترسيخ هذه المفاهيم التي ترتكز على الإنسان بدل مركزية الله، والإنسانية بدل الدِّين. فالإنسانية هي أعلى قيمة تميز الإنسان، والدِّين حاول أن يسلب الإنسان إنسانيته وفضائله وخصاله. وهكذا نفخت (اللادينيَّة) في هذه المصطلحات لتكون متداولة على ألسنة الكافة دون وعي عميق منهم بمدلولاتها الحقيقيَّة. وقد وجد مثل هذا الخطاب له أرضًا خصبة في نفوس الشباب والمراهقين، الذين يجدون فيه استجابة لرغباتهم، وتحقيقًا لغرائزهم، وتكريسًا لأنانيتهم التي يسمونها تحقيقًا للذات والشخصية، لينتهوا إلى عبودية أنفسهم أو عبوديتهم لإنسان آخر. ولهذا يقول كوستي بندلي أنَّ كارل ماركس عندما تحدث عن العملاق الأسطوري بروميثيوس الذي بعد أن قيده الإله الخرافي زفس على صخرة عقاباً له، استمر في تحديه للآلهة، فتحدث عنه كارل ماركس بحماسٍ شديدٍ, وكتب موحداً بين نفسه وبين بطله الخرافي هذا بِنَفَسٍ طفوليٍّ تمرديٍّ لا يخفى على القارئ، فقال: “إنني أفضل أن أكون مقيداً بهذه الصخرة على أن أكون خادماً [للإله]”.
ولهذا كان من المتوقع أنَّ يكون الهدف الرئيس لهذا النوع من (الإلحاد الذرائعي) التوجه صوب الحياة العمليَّة ليعزلها عن الله، ويعزل الإنسان عن خالقه، يعزله في أخلاقه وسلوكه وفكره عن الله، فيجعل حياة الإنسان معركة للمصالح، ومستنقعًا للشهوات والغواية، وساحة واسعة من التنافس الأناني، وقَفْرًا من الإيمان، حياة جافة تالفة، فيها تعطش الأرواح، حتى تصبح أسمى تجليات الحياة في نظره متمثله في الانتحار وقتل النفس. فهذه الحياة التي تخلقها (اللادينيِّة) ستولد عطشًا في الروح، وفراغًا في القلب بافتقاده الإيمان، وستخلف وراءها داخل نفس الإنسان صراعًا تسودها الأفكار السوداء، ومرارة وحرماناً، ولهثاً وراء الحقيقة، وجلدًا للذات في صمت مطبق، تضيق في مثل تلك الحالة ملابس الإنسان على جسده، وتضيق عليه نفسه من شدة الألم والحسرة التي يعجز عن تفسيرها، إن تلك الحالة التي يعجز أن يعبر عنها ذلك الإنسان، هي الضنك الذي يسببه معيشة الإنسان بعيداً عن ربه في الحياة الدنيا. وكما يقول الفيلسوف الملحد فريدريك نيتشه: “الناس أعوزتهم الغاية من الوجود، كما أعوزهم الجواب عن سؤالهم لأنفسهم: لماذا يحيون ويوجدون؟ إن أكثر القيم علواً وارتفاعاً فقدت قيمتها، ولم تعد تمارس فعاليتها، وقوتها البناءة المحببة، فحياة الدِّين تخسر وتترك وراءها الغدران والمستنقعات، كل شيء يمهد الطريق الآن للبربرية القادمة”. وقد وصف المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي الخدعة التي انزلقت إليها الإنسانية، حينما أغراها بريق المادة والشهوات فجعلتها ضحية لها، “فجعلتهم يسلمونها قياد أنفسهم، وذلك ببيعها مصابيح جديدة لهم، مقابل مصابيح قديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم”، وأخذوا بديلاً عنها حياة مغرية لها بريق لكنها مادية مقفرة، “فكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته تلك الصفقة؛ إقفراراً روحيًّا، وصفه أفلاطون يوماً بأنه مجتمع الخنازير“. ولهذا، كان من الطبيعي أن يُنتج (الإلحاد الذرائعي) أو (اللادينيَّة) حياة مليئة بالأنانيَّة، وجمود المشاعر، وتَصَحُّر الإيمان.
وأما دعوى (الإلحاد الذرائعي) أنَّ عزل الإيمان بالله ضروري لحياة أفضل بالنسبة إلى الإنسان، وأنَّ تحرره من عبودية الربِّ ضروريَّة لتحقيق حريته هو، فهي دعوى زائفة، بل هي في الحقيقة تحقق على أرض الواقع عكس ذلك تمامًا، ففصل الإنسان عن الله هو فصل له عن الحياة الحقيقيَّة، وتمرده على ربه هو عبوديَّة ذليله لشهواته أو لشهوات غيره من البشر، ومآل دعوة (الإلحاد الذرائعي) ليس فقط دمار الدِّين في حياة الإنسان، بل أيضًا دمار الحياة نفسها، حيث سيصبح الإنسان وحشًا مفترسًا يقتل ويدمر، لا غاية له ولا هدف ولا معنى له في الحياة. يقول الأديب البريطاني جورج برنارد شو: “كنتُ أعرف دائماً أنَّ الحضارة تحتاج إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقف على ذلك، فالحضارة تسقط إذا فقدت دينها، وتنتعش إذا هي تمسكت به، إنَّ الحضارة تسقط في اللحظة التي تكون فيها قوة الإنسان أشد وأكبر من قوة الدين”.
فـ(الإلحاد الذرائعي) الذي يبكي وينعي ‘الإنسانيته’ التي سلبتها السماء من الإنسان، يُقَدِّم دعوى زائفة وكاذبة، ويظهر ذلك جليًا من خلال مآلات (اللادينيَّة) الواقعيَّة، ومن خلال التقريرات النظريَّة للإلحاد المادي والدارويني والفرويدي، الذي لا يرى في هذا الإنسان الذي يقدسه إلا حيوانًا، والإنسانية هذه مجرد حيوانية، وحينما يموت فليس أكثر من كلبٍ يموت، كما يقول ذلك صراحة الملحد ديفيد ميلز. والإنسان وفق رؤية الداروينية، هو مخلوق بلا غاية ولا هدف ولا أخلاق ولا معنى ولا إرادة حرَّة للبشريَّة، ولا قيم، ولا دين ولا إيمان، كما يقول الملحد الدارويني وليَم بروفاين. ولهذا، يُصَرِّحُ ستيفانوس جيرولانوس بأنَّ الإلحاد المعاصر ضَيَّعَ مفهوم الإنسانية، لأنَّه “منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الخمسينيات من القرن العشرين، فإنَّ ثورة فلسفية وفكرية خلقت نوعًا جديدًا من الإلحاد، وهدمت قيمة الإنسانية، وبدلت معنى (الإنسان) بحيث يتعذر التعرف عليه واقعيًا”.
إنَّ الإلحاد الذي لم يحقق ما يطمح إليه على مستوى معركته في ساحة الاعتقاد القلبي الإيماني بالله تعالى، قد يُحَقِّق ذلك –إلى درجة كبيرة- من خلال (الإلحاد الذرائعي الناعم) أو (اللادينيَّة) أو (الإنسانيَّة) في معركته التي خاضها على مستوى حياة الإنسان وسلوكه وأخلاقياته، وتعليقه بالمصالح والمنافع العاجلة الدنيويَّة وحسب، وجعلها هي الغاية من عيشه وحياته، فإشغاله بذلك –كما يعتقد- سيكون كفيلاً بعزله عن الله وإشغاله عن إيمانه. إنَّ الإلحاد الصلب فشل واقعيًا في مرافعته عن الإنسان والإنسانيَّة، وفي تقديم نفسه منقذًا ومُخلصًا للإنسان والإنسانيَّة، حَطَّمَ الإنسان وأهلكه، وانحط به إلى درك الغابة والحيوانيَّة والشقاء، وضيعه في مهالك الردى، وتركه شقيًا وحيدًا بلا ملجأ. وكذلك (اللادينيَّة) فشلت في تقديم نفسها المنقذ والمُخلِّص لدنيا الإنسان من هيمنة الدَّين، وفي إظهار نفسها الحريصة على منافعه ومصالحه الحقيقيَّة، وكانت الحقيقة أنَّها دمرت دنيا الإنسان من خلال تدميرها لروحه وسعادته وغاياته الحقيقيَّة، وحولته إلى مجرد سلعة أو إلى عبدٍ لنفسه وشهواته أو إلى عبدٍ لغيره ولشهوات الآخرين، وجعلته يعيش في دنيا الضنك بأعمق معانيه، ويمشي في حياته مُكِبًّا على وجهه من غير دليل ولا هدى ولا رشاد، ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، حتى اقتنع أنَّ خير ما في الدنيا هو الخَلاص من الدنيا نفسها!