الكتب
الأدلة العقلية على صدق نبوة خير البرية
كشف أكاذيب القسيس زكريا بطرس وأمثاله حول رسول الله صلى الله عليه وسلم
تعزيز اليقين بجملة من البراهين
المرئيات
كيف نعرف أن النبي محمد ﷺ خاتم المرسلين؟
في الرد على المغرضين، كيف يؤيد التاريخ حقيقة وجود النبي ﷺ؟
ما هو الهدف من تنوع زيجات النبي ﷺ؟
النبي ﷺ والتعايش
السنة النبوية بين الحفظ والحب
النبي كقدوة الأسوة الحسنة للعالمين
نبوة محمد ﷺ اللبنة الأخيرة في قصر النبوة
كيف وصلنا الحديث النبوي الشريف؟
إن شانئك هو الأبتر
دلائل النبوة
سمات النبوة
مثلث الحقائق
بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
تهمة الكذب
نبوة محمد ﷺ
رحلة في طريقين
ما الدليل على صحة نبوة محمد ﷺ؟
أفي النبوة شك ؟ 1
أفي النبوة شك؟ 2
ماذا قال مؤرخ الأديان الهولندي ثيو فان بارين عن النبي محمد ؟
مصادر غير إسلامية تؤرخ وجود النبي محمد ﷺ
صدق النبي ﷺ من أدلة نبوته
من أدلة النبوة تأييد النبي بالنصر على الأعداء
صدق النبوة هكذا صدقوه واتبعوه
صفات الرسول ﷺ
المعجزات الحسية
معجزة القرآن
المقالات
اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بالجنون
مضمون الشبهة:
يدعي المشركون الكذابون أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – مجنون، وينسبون ما جاء به من الهدى والحق إلى الجنون فهو لا يدري ما يقول؛ حيث يتخبطه الشيطان من المس، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6)( (الحجر).
وجها إبطال الشبهة:
1) كراهة المشركين لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنادهم وكبرهم في الاعتراف بنبوته.
2) تزكية الله – عز وجل – نبيه – صلى الله عليه وسلم – عن مثل ذلك.
التفصيل:
أولا. عناد المشركين وكبرهم:
هذه المقولة هي من عناد أولئك المشركين وكفرهم، يزعمون فيها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد افترى القرآن من عند نفسه، وأن به جنونا لا يدري ما يقول، وهم يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن، ومع ذلك يكثرون من هذه الفرية، وقد حكاها الله – عز وجل – عنهم في كتابه في أكثر من موضع، قال سبحانه وتعالى: )أم يقولون به جنة( (المؤمنون: 70)، وقال أيضا: )وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6)( (الحجر).
وقال – عز وجل – أيضا عنهم: )ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون (36)( (الصافات).
وقد رد الله عليهم كذبهم وافتراءهم مبينا أن السبب في مقولتهم تلك أن قلوبهم لا تؤمن بالقرآن، وهم يعلمون بطلان ما يقولون عن القرآن، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين، ولهذا قال سبحانه وتعالى: )بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70)( (المؤمنون).
ثانيا. تزكية الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – من الجنون:
وقد زكى الله عبده محمدا – صلى الله عليه وسلم – فقال سبحانه وتعالى: )وما صاحبكم بمجنون (22)( (التكوير)، ونفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور، فلست بحمد الله يا محمد مجنونا يتخبطك الشيطان من المس كما تقول الجهلة من كفار قريش، قال سبحانه وتعالى: )فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29)( (الطور)، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2)( (القلم).
وهذه المقالة الظالمة على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أطلقها من المشركين عقبة بن أبي معيط إذ قال: هو مجنون، وقد اكتفى القرآن في إبطال كونه مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه؛ لأن مجرد التأمل في حال النبي – صلى الله عليه وسلم – كاف في تحقق انتفاء ذلك الوصف عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه به إلى أكثر من الإخبار بنفيه؛ لأن دليله المشاهدة، وهو دليل كالشمس في رابعة النهار.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
الخلاصة:
القرآن الكريم كتاب معجز في هديه، ونظمه وأسلوبه وأحكامه وتشريعاته، فكيف يكون ذلك من كلام مجنون كما يدعي هؤلاء.
إذا سلمنا – جدلا – بما يدعي هؤلاء، فلم عجزوا عن الإتيان ببعض من هذا القرآن.
عاش النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أظهر المشركين أربعين عاما وكانوا يلقبونه أمينا، صادقا، راجح العقل، فكيف يصاب فجأة بالجنون؟ وكيف يهزي بهذا الكلام؟!
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (الحجر/ 6، القلم/ 51، المؤمنون/ 70، الصافات/ 36، سبأ/ 8).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (القلم/ 2: 4، المؤمنون/ 70، الطور/ 29، التكوير/ 22).
اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنه ساحر
مضمون الشبهة:
اتهم المشركون الرسول – صلى الله عليه وسلم – تارة بأنه ساحر، قال سبحانه وتعالى: )قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2)( (يونس) مبين ظاهر السحر، وتارة بأنه رجل مسحور: )وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)( (الفرقان)، ويرمون الحجج الظاهرة التي أتى بها – مثل انشقاق القمر – بأنها سحر مستمر، قال سبحانه وتعالى: )وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2)( (القمر).
وجوه إبطال الشبهة:
1) تخبط المشركين وضلالهم وتضارب آرائهم في شأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسقط اتهامهم.
2) هذه تهمة يلقيها كل المكذبين لرسلهم كأنهم تواصوا بها.
3) حقيقة السحر وبطلان كون محمد – صلى الله عليه وسلم – ساحرا، وانشقاق القمر معجزة ثابتة متواترة وليست سحرا، لكن كفر بها المشركون عنادا أو استكبارا.
التفصيل:
أولا. تخبط المشركين وضلالهم يسقط اتهامهم:
هذه تهمة طالما قذف بها المكذبون المعاندون الرسول صلى الله عليه وسلم، فتارة يقولون عنه: إنه ساحر، قال سبحانه وتعالى: )قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2)( (يونس)، وقال سبحانه وتعالى: )وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4)( (ص)، وكذلك يرمون ما جاء به من آيات الله – عز وجل – بأنها سحر ظاهر، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15)( (الصافات)، وقال سبحانه وتعالى: )وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7)( (الأحقاف).
وتارة يتهمون الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه بأنه مسحور، وذلك بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه، قال سبحانه وتعالى: )نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47)( (الإسراء)، وقال سبحانه وتعالى: )وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)( (الفرقان)، ومنهم من قال: إنه شاعر، ومنهم من قال: كاهن، قال سبحانه وتعالى: )بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر( (الأنبياء: ٥)؛ لذلك رد عليهم القرآن: )وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون (41) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون (42)( (الحاقة)، ومنهم من قال: مجنون، ومنهم من قال: ساحر أو مسحور أو كذاب، ومن هذا أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: وأنت يا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم قولوا لأسمع، قالوا: نقول: كاهن؟ قال: ما هو بكاهن، قالوا: فنقول: مجنون؟ قال: ما هو بمجنون، قالوا: فنقول: شاعر: قال: ما هو بشاعر. قالوا: فنقول: ساحر؟ قال: ما هو بساحر. قالوا: فماذا نقول؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، ثم إنه فكر وتروي وقدر ماذا يقول في القرآن وأعاد النظر والتروي ثم قبض بين عينيه وقطب وصرف عن الحق واستكبر عن الانقياد إلى القرآن، ثم قال: أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر، فأنزل الله فيه: )إنه فكر وقدر (18) فقتل كيف قدر (19) ثم قتل كيف قدر (20) ثم نظر (21) ثم عبس وبسر (22) ثم أدبر واستكبر (23) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر (24)( (المدثر)، وقال الله في شأن هؤلاء أيضا: )الذين جعلوا القرآن عضين (91)( (الحجر)، أي: سحر.
وقد رد القرآن على هذه التهم بأن ذلك تخبط منهم وضلال وعدم اهتداء، ولو كانوا صادقين لاتفقوا فيه على قول واحد، أما وقد تعددت أقوالهم وتضاربت آراؤهم فهم إذا متخبطون ضالون يضربون له الأمثال، ولا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا؛ لأن هذه الأقوال فيها من البطلان الواضح لكل من له أدنى فهم وعقل، قال سبحانه وتعالى: )انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48)( (الإسراء).
والمعنى: أن أقوالهم المتضاربة السابقة كلها باطلة، فكل أحد يعرف كذبهم وافتراءهم؛ لأنهم ضالون عن طريق الهدى فلا يجدون سبيلا؛ لأن الحق واضح ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا.
ثانيا. اتهام الرسل بالسحر من كل الأمم المكذبة:
كما يبين القرآن أن رمى الرسول بالسحر هي دعوى كل الأمم المكذبة لرسلها فما من رسول أتى قومه بالهدى إلا قالوا له: ما أنت إلا ساحر أو مجنون، قال سبحانه وتعالى: )كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52)( (الذاريات)؛ ولذا يتهكم القرآن على ذلك، فيقول سبحانه وتعالى: )أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53)( (الذاريات)؛ أي: هل أوصى بعضهم بعضا، أو أولهم آخرهم بهذه المقالة وبتكذيب الرسل فتواطئوا على هذا! والحق الذي لا مرية فيه أنه ما أوصى بعضهم بعضا بل هم قوم طغاة جمعهم الطغيان تشابهت قلوبهم فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.
ويعلق صاحب “التفسير الوسيط” على هذا الآية بقوله: أي: الأمر – أيها الرسول الكريم – كما نخبرك، من أنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من رسول يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا إلا قالوا له – كما قال قومك في شأنك -: ساحر أو مجنون. والمقصود بالآية الكريمة تسلية الرسول – صلى الله عليه وسلم – عما أصابه من مشركي قريش، حيث بين له – عز وجل – أن الرسل السابقين قد كذبتهم أممهم، فصبروا حتى أتاهم نصره عز وجل.
ثم أضاف – عز وجل – إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال: )أتواصوا به(؟ والضمير المجرور يعود إلى القول المذكور، والاستفهام للتعجيب من أحوالهم؛ أي: أوصى السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم: أنت – أيها الرسول – ساحر أو مجنون؟ وقوله سبحانه وتعالى: )بل هم قوم طاغون (53)( (الذاريات) إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال؛ لأنهم لم يجمعهم زمان واحد حتى يوصي بعضهم بعضا، وإنما الذي جمعهم تشابه القلوب، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان.
ثم تسلية ثالثة نراها في قوله سبحانه وتعالى: )فتول عنهم( (الذاريات: 54) أي: فأعرض عنهم وعن جدالهم، وسر في طريقك الذي رسمه الحكيم الخبير لك.
)فما أنت( أيها الرسول الكريم )بملوم( على الإعراض عنهم، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم. )وذكرفإن الذكرى تنفع المؤمنين (55)( (الذاريات) أي: أعرض عن هؤلاء المشركين، وداوم على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية، وآداب حكيمة… ينفع المؤمنين، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين[1].
ثالثا. اختلاف القرآن عن السحر، وشق القمر معجزة النبي:
وقد بينا قبل ذلك عند الحديث عن شبهة اتهام القرآن بأنه سحر، بأن قول المشركين: القرآن سحر أتى به ساحر، يشير إلى إثبات رسالته – صلى الله عليه وسلم – فإن هذه المقالة تتضمن اعترافهم بأنه فوق المعهود والمعلوم للبشر في عالم الأسباب المقدورة لهم، إذ السحر ما كان بأسباب خفية خاصة ببعض الناس يتعلمها بعضهم من بعض، ولو كان القرآن سحرا لأتوا بمثله أو ببعض سوره كما تحداهم الله – عز وجل – لكنهم عجزوا، فدل ذلك على أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – نبي الله ورسوله، وليس بساحر، وأن ما جاء به وحي من عند الله – عز وجل – ليس بسحر.
وأما انشقاق القمر فهو معجزة ثابتة باهرة وقعت في زمان النبي – صلى الله عليه وسلم – كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة المتواترة بالأسانيد الصحيحة، حين سأل أهل مكة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما، وقال صلى الله عليه وسلم: “اشهدوا” فقالوا: سحرنا محمد. وهذا من عنادهم وتكذيبهم بعد رؤية الآيات الواضحات ومشاهدة المعجزات الحسيات البينات، قال سبحانه وتعالى: )وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3)( (القمر). وهكذا لا تغني النذر والآيات عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه، قال سبحانه وتعالى: )حكمة بالغة فما تغن النذر (5)( (القمر)، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101)( (يونس).
الخلاصة:
إن تضارب أقوال المكذبين للرسل واختلاف اتهامهم تبين مدى الضلال والتيه الذي هم فيه يعمهون.
اتهام الرسل بالسحر هي دعوى كل الأمم المكذبة، وتوافقهم على هذا الأمر رغم اختلاف الزمان والمكان هو ناتج عن تشابه قلوبهم والتقائهم على الكفر والفسوق والعصيان.
السحر صناعة يمكن للبشر تعلمها فهل يستطيع أحد أن يأتي بمثل القرآن؟ مهما تعلم كل العلوم والمعارف اللغوية والاجتماعية والسياسية والعلوم المادية وغيرها.
لو كان المكذبون يطلبون الخوارق من أجل الإيمان؛ لآمنوا حين أجيبوا لطلبهم وشق القمر أمامهم نصفين حتى رأوا حراء بينهما، ولكنه الاستهزاء والجحود والكفر والعناد والطغيان الذي لا حد له.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (يونس/ 2، ص/ 4، الإسراء/ 47، القمر/ 2، الفرقان/ 8، الذاريات/ 52).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الإسراء/ 48، الفرقان/ 9، الذاريات/ 53).
[1]. تفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج14، ص32، 33.
ادعاء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أذن يصدق كل ما يقال له
مضمون الشبهة:
يدعي المنافقون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أذن، أي: كل من قال له شيئا صدقه، وكل من حدثه صدقه، فإذا ما جاءوه وحلفوا له صدقهم دون تمييز بين الصدق والكذب، قال تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) (التوبة: 61).
وجها إبطال الشبهة:
1) كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها عامة المسلمين، كما أمره ربه بمعاملة الناس على ما يظهر منهم.
2) كونه – صلى الله عليه وسلم – أذن خير أي: يؤمن بما يوحى إليه ربه من أخبار المنافقين وغيرهم، ويصدق ما يقوله المؤمنون الصادقون، ولا يفضح أمر المنافقين الكاذبين.
التفصيل:
أولا. معاملة النبي – صلى الله عليه وسلم – للمنافقين كانت على ظاهر أحوالهم:
هذا ضرب من دلائل نفاق أولئك المنافقين وآثاره، وهو إيذاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالطعن في أخلاقه العظيمة وشمائله الكريمة. وهم هنا يقولون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أذن، أي: من حدثه شيئا صدقه، وقولهم “أذن” هو من تسمية الشخص باسم الجارحة للمبالغة في وصفها بوظيفتها، وهو كثرة السمع لما يقال وتصديقه كأنه كله أذن سامعة؛ كقولهم للجاسوس: عين، ويطلق على لازمه وهو عدم الدقة في التمييز بين ما يسمع، وتصديق ما يعقل وما لا يعقل، فيراد به الذم، وهو من أكبر عيوب الملوك والأمراء والرءوساء؛ لما يترتب عليه من قبول الغش والكذب والنميمة، وتقريب المنافقين وإبعاد الناصحين.
قال أبو السعود: “إنما قالوه – أي قولهم هذا – لأنه – صلى الله عليه وسلم – كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا، ويصفح عنهم حلما وكرما، فحملوه على سلامة القلب، وقالوا ما قالوا، ولقد كان – صلى الله عليه وسلم – يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها عامة المسلمين، كما أمره الله – عز وجل – ببناء المعاملة على الظواهر، فظن أولئك أنه يصدق كل ما يقال له.
ولقد لقن الله – سبحانه وتعالى – نبيه الرد عليهم، فقال: )قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم( (التوبة: 61)؛ أي: نعم هو أذن، ولكنه نعم الأذن؛ لأنه أذن خير، لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الحق وما وافق الشرع، وما فيه المصلحة، والخير للخلق، وليس بأذن في غير ذلك كسماع الباطل، والكذب والغيبة والنميمة والجدل والمراء، فهو لا يلقي سمعه لشيء من ذلك، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله، ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه شرعا أو عقلا، كما هو شأن من يوصفون بهذا الوصف من الملوك والزعماء فيستعين المتملقون وأصحاب الأهواء به على السعاية والوشاية عنهم لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على من يبغون إيذاءه[1].
وفي قوله: )أذن خير لكم( دليل على أن خيرية الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد شملت الجميع، فلم يقل: أذن خير للمؤمنين، فقد تعدت هذه الخيرية المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يفضح منافقا، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء.
وعلى سبيل المثال: كان المنافقون يأتون إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله، ويطلبون الإذن بالقعود، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعطيهم الإذن، وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذبا، كان يصدقهم، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس.
وهكذا فرق الحق – سبحانه وتعالى – بين ما يريدونه، وبين ما يقصده الله عز وجل، فهم قصدوا وصف الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه أذن سماعة لكل ما يقال، والله يقول: إنها أذن خير[2].
ورد القرآن هنا من باب أسلوب الحكيم، فهو في أوله يوافقهم على قولهم هو أذن، ثم يتبعه ما ينقضه عليهم حتى ينقض على رءوسهم، ولا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه؛ لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم وأعقبهم في تنقصه باليأس منه، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه[3].
ثانيا. بيان معنى كونه – صلى الله عليه وسلم – أذن خير:
لقد فسر الله – عز وجل – المراد من “أذن الخير” بأفضل الخير وأعلاه، فقال سبحانه وتعالى: )يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين( (التوبة: ٦١)، فهو يصدق بالله عز وجل، وما يوحيه إليه من خبركم وخبر غيركم، ويؤمن للمؤمنين الصادقين، وهذا يتضمن أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم وائتمان، ولا يصدقهم في أخبارهم وإن أكدوها بالأيمان الغليظة، كما ظن من قال منهم: )هو أذن( (التوبة: 61) اغترارا بلطفه – صلى الله عليه وسلم – وأدبه؛ إذ كان لا يواجه أحدا بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه.
وأما كونه أذن خير لهم مع هذا، فهو معاملته لهم بالحلم وما يقتضيه حكم الشرع من العمل بالظواهر، ومنها قبول المعاذير، ولو كان يعاملهم بمقتضى ما يسمع عنهم – كما يقتضيه استعمال كلمة أذن – لما سلموا من عقابه؛ لأن أخبار السوء عنهم كثيرة بكثرة أعمالهم السوء فيهم، لو كان يقبل أخبار الشر لقبلها من المؤمنين الصادقين فيهم ولعاقبهم عليها.
ومعنى قول الله – عز وجل – بعده: )ورحمة للذين آمنوا منكم( (التوبة: ٦١)؛ أي: دون غيرهم ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر من المنافقين، وبين الله – سبحانه وتعالى – لهم أيضا أن إيذاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالقول أو الفعل يتنافى مع الإيمان؛ ولذا فإن جزاءه العذاب الأليم، قال سبحانه وتعالى: )والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)( (التوبة) [4].
الخلاصة:
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها عامة المسلمين، كما أمره الله – عز وجل – ببناء المعاملة على ظاهر أحوالهم، فلم يكن أذنا – كما زعموا – يصدق كل ما يقال له دون تمييز بين حق وباطل.
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أذن خير، لا يقبل مما يسمعه إلا الحق وما وافق الشرع، وما فيه الخير والمصلحة للحق، فلم يلق سمعه لشيء من الغيبة والنميمة والجدل والمراء.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (التوبة/ 61).
الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (التوبة/ 61).
[1]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، مج10، ص516: 518 بتصرف يسير.
[2]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1991م، ج9، ص5248، 5249 بتصرف.
[3]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج6، ص210.
[4]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج10، ص518، 519 بتصرف يسير.
استنكار اختصاص الرسول – صلى الله عليه وسلم – بإنزال الذكر عليه من بين الناس
مضمون الشبهة:
يستبعد المشركون تخصيص النبي – صلى الله عليه وسلم – بإنزال القرآن عليه من بينهم، ويقولون: هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم الشأن، وهكذا قال هذه المقولة أقوام الرسل من قبل لرسلهم، قال تعالى: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف)، وقال تعالى: )أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله( (النساء: ٥٤).
وجها إبطال الشبهة:
1) استبعاد اختصاص الرسول – صلى الله عليه وسلم – بإنزال الذكر عليه منشؤه الحسد والاستكبار والجهل وقصور الفهم والعناد.
2) الله – عز وجل – هو الذي يصطفي الرسل ويقسم الأمور بين عباده كما قسم حظوظهم في الدنيا.
التفصيل:
أولا. استبعاد اختصاص الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرسالة، منشؤه الحسد والاستكبار من المشركين:
هذه مقالة طالما قالها أهل التكذيب والضلال من الأقوام السالفة الذين أرسل إليهم الرسل، فقوم ثمود قالوا عن نبيهم صالح عليه السلام: )أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25)( (القمر)، ومشركو مكة قالوا عن رسول الله: )أأنزل عليه الذكر من بيننا( (ص: ٨)، وقالوا: )لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف).
وأيضا فقد حسد اليهود النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه أنه من العرب وليس من بني إسرائيل.
وهذه المقالة التي قالها هؤلاء مليئة بالحسد من عند أنفسهم، وهي تدل على عنادهم واستكبارهم، وهي مخرجة عن أصل القضية والحق الذي جاء به محمد، فمقولتهم هذه هي حيلة العاجز المفلس، وقد رد الله عليهم في مواطن عديدة هذه الشبهة الواهية والمقالة الفاسدة.
فمن ذلك بيان أن قصدهم ليس المراد به الطعن في اختصاص الرسول بالرسالة، ولكن شكهم في أصل الرسالة عن الله وإنكارهم لها، فقال – عز وجل – عقب قولهم الباطل: )بل هم في شك من ذكري( (ص: ٨)، فقصدهم الشك في أن الله يوحي إلى أحد بالرسالة، وهو كمعنى قوله عز وجل: )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33)( (الأنعام).
ومن رد الله عليهم أيضا أن يوضح أن مقالتهم هذه تنبئ عن مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمور بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق؛ لأنهم يريدون أن يقولوا: إن فيهم من هو أحق من الرسول بالرسالة، وأن هناك من يتميز عنه بالعظمة كما حكى الله عنهم: )لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف)، فجعلوا عماد التأهل لسيادة الأقوام أمرين هما:
عظمة المسود.
عظمة قريته، يعنون بذلك مكة والطائف، فنظروا إلى سعة المال التي هي من مقومات وصف السؤدد، تماما كما قال الله عن بني إسرائيل الذين اعترضوا على جعل طالوت ملكا عليهم: )أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال( (البقرة: ٢٤٧).
فوضح الله لهم أنه ليس من العقل أن تنصبوا أنفسكم منصب من يتخير أصناف الناس للرسالة عن الله، فإن هذا الأمر لله وليس لكم، قال عز وجل: )أهم يقسمون رحمت ربك( (الزخرف: ٣٢)، فأبطل الله قولهم وخطأهم في تحكمهم في هذه القسمة؛ لأن الرسالة اصطفاء من الله ورحمة لمن يصطفي لها، ورحمة أيضا للناس المرسل إليهم، والله أعلم بمن يتأهل لإبلاغها، قال عز وجل: )الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس( (الحج: ٧5)، وقال: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: ١٢٤).
ثانيا. الله – عز وجل – يصطفي الرسل ويقسم الأمور بين عباده:
رد القرآن على بني إسرائيل في شأن طالوت فقال: )قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء( (البقرة:٢٤٧)، فالله هو الذي يختار رسله وأنبياءه ويختص من شاء بالرسالة والنبوة، وليس لأهل العقول مهما بلغت بهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العالية من قد تخفى عنهم نقائصهم؛ ولهذا قال عز وجل: )يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76)( (الحج). فهذا كناية عن عموم علمه بالأشياء سبحانه وتعالى.
ثم ضرب الله مثلا من حياتهم الدنيا وقياسا شاهدا يقيسون هذا الأمر عليه، وهو أن الله قسم بين الناس معيشتهم فكانوا على نحو ما هيأ الله لهم من نظام الحياة، فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء وفقراء، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض، وجعل بعضهم محتاجا إلى بعض ومسخرا له، فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير معيشة الدنيا، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ، فإن ذلك أعظم شئون البشر، فهذا وجه الاستدلال لو كانوا يعقلون ويفهمون الأمور، قال عز وجل: )نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا( (الزخرف: ٣٢)، وذيل الله رده عليهم بقوله: )ورحمت ربك خير مما يجمعون (32)( (الزخرف)، وهذا رد ثان، فإن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله، فهي خير مما يجمعون من المال والعظمة والسيادة، ذلك الذي جعلوه سبب التفضيل، فإن المال شيء جمعه صاحبه لنفسه، فلا يكون مثل اصطفاء الله العبد ليرسله إلى الناس، فالمال والغنى لا حظ لهما عند الله عز وجل، فإن الله أعطى كل شيء خلقه، وجعل للأشياء مقاديرها، فكثيرا ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير، فتعين أن المال قسمة من الله على الناس جعل له أسبابا نظمها في سلك النظم الاجتماعية، وشتان بينها وبين مواهب النفس الزكية والسرائر الطيبة، إذ مواهب النفوس الطيبة مصادرها لنفع أصحابها ونفع الأمة، أما المال فمصدره في الغالب لإرضاء الشهوات والتطاول.
ويبين الله لهم في موطن آخر أن اعتراضهم على نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – ناشئ عن الحسد والعناد والكبر، وهم لا نصيب لهم من الملك، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه لبخلهم وحسدهم، فهل هم أولى بالنبوة ممن أرسله الله، أم لهم نصيب من الملك فيمنعوا الحقوق، أم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فيسخطوا بذلك على قضاء الله ولا يرضوا بقسمته، وهذا من سوء أدبهم؛ كما قال القائل:
ألا قل لـمن ظل لي حاسدا
أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه
إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ولذا قال عز وجل: )أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55)( (النساء).
الخلاصة:
حكى القرآن لونا من ألوان حسد المشركين وعنادهم حين قال: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)( (الزخرف)، فقد قال هؤلاء المشركون ذلك على سبيل العناد والحسد، فهم لجهلهم وانطماس بصائرهم استكثروا أن ينزل هذا القرآن على محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي – وإن كان في القمة من الشرف والسمو بين قومه – لم يكن أكثرهم مالا وسلطانا، وهم يريدون أن تكون النبوة في زعيم من زعمائهم، أو رئيس من رؤسائهم، وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس، بالتخلي عن الرذائل الدنية، والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية.
الله يختار لرحمته ورسالته من يشاء ويصطفيهم لذلك، هذا الاصطفاء لا علاقة بينه وبين عرض الحياة الدنيا، ولا صلة له بقيم هذه الحياة، فهذه القيم عند الله ليست هي مقياس المفاضلة، ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار، وينالها الصالحون والطالحون، بينما يختص الله – عز وجل – برحمته المختارين.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (النساء/ 54، الزخرف/ 31، ص/ 8، القمر/ 25).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (النساء/ 53: 55، الحج / 76، 75، الزخرف/ 32، الأنعام/ 124، ص/ 8).
الزعم أن المسلمين يثبتون العصمة للمسيح وينفونها عن محمد صلى الله عليه وسلم
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن المسلمين يقرون أن المسيح معصوم، وأنهم لم يثبتوا العصمة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) عقيدة المسلمين في جميع الأنبياء والرسل أنهم جميعا معصومون، وليس المسيح – عليه السلام – وحده، ومن ادعى غير ذلك فهو جاحد لا عقل له.
2) النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – معصوم في قوله، وفعله، وبلاغه عن الله، وهذا ثابت عقلا ونقلا عند جميع المسلمين، ولم يخالف منهم في ذلك أحد.
التفصيل:
أولا. عقيدة المسلمين في جميع الأنبياء والرسل واحدة، وهي أنهم جميعا معصومون:
والعصمة في اللغة تعني: المنع، تقول: اعتصمت بالله: إذا امتنعت بلطفه من المعصية[1]. أما العصمة في الاصطلاح الشرعي فلها تعريفات متعددة أوضحها، وأنسبها للمعنى اللغوي أنها: لطف من الله – سبحانه وتعالى – يحمل النبي على فعل الخير، ويزجره عن الشر، مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء[2].
وفي عصمة الأنبياء من المعاصي قبل النبوة يتردد سؤال هو: هل يجوز العقل صدور الذنب من الأنبياء قبل النبوة أو لا؟
وللجواب عن هذا السؤال نوضح أن الذنوب تنقسم قسمين:
الأول: يستقل العقل بإدراك أنه ذنب فينفر صاحبه من ارتكابه كالزنا، والقتل العمد، ونحوهما، فهذا لا يجوز العقل صدوره منهم لأمرين هما:
أن عقل الإنسان العادي الصحيح ينفر عنه، والأنبياء أصح الناس عقولا، فهم أولى بالامتناع والنفرة عنه.
أن صدور هذا النوع من الذنوب منهم يكون وصمة عار تزعزع الثقة بهم – بعد النبوة – وتنفر الناس من اتباعهم.
والثاني: هو ما يتوقف معرفة أنه ذنب على الشرع، كالتعامل بالربا مثلا، فهذا النوع لا مانع لدى العقل من فعله، ولا تشريع قبل البعثة يمنع منه، ولا ينفر أتباع الأنبياء بعد البعثة، ولم ينقل إلينا أن أحدا من الأنبياء قد فعل شيئا منه قبل بعثته.
ولما كان الله – عز وجل – لم يرسل إلى خلقه إلا من هو أعقل أهل زمانه، وأقواهم فطرة، وأحسنهم خلقا وخلقا؛ كان الأنبياء معصومين قبل النبوة وبعدها، ولم يقع ذنب من أحدهم قط.
والأنبياء في هذه العصمة من الذنوب سواء؛ لأنه لا فرق بين نبي وآخر في عصمة الله – عز وجل – لهم، وأما صدور الصغائر قبل البعثة منهم – عليهم السلام – فلا مانع من وقوعها عمدا أو سهوا؛ لعدم قيام دليل على المنع. ولا خلاف أن الأنبياء معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها، وتحط منزلته، وتسقط مروءته، وأما وقوع الصغائر من الأنبياء سهوا، أو خطأ في الاجتهاد فيجوز، وعلى هذا يحمل ما نسب إلى بعضهم من ذنوب في القرآن الكريم، والحديث الشريف، عوتبوا عليها، وأشفقوا منها، واستغفروا، وتابوا[3].
فما ذكر في القرآن الكريم عن بعضهم يظهر منزلتهم برجوعهم إلى الله – سبحانه وتعالى – واعترافهم بتقصيرهم في جنب الله، فهذا يظهر مكانتهم ولا يزري بهم، والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – معصومون زمان النبوة عن الكبائر والصغائر. أما الخطأ على السهو فهو جائز في غير الوحي والتشريع[4].
ثانيا. النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – معصوم في قوله وفعله وبلاغه عن الله، وهذا ثابت عقلا ونقلا عند جميع المسلمين:
اختار الله – عز وجل – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات من لدن آدم، وحواء إلى أبيه وأمه، وهذا من عناية الله – عز وجل – بنبيه – صلى الله عليه وسلم – من قبل أن يولد. وبعد أن ولد حفظه الله – سبحانه وتعالى – من الشيطان، فلم يجعل له سبيلا إلى قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد شق صدره وقلبه، وهو صغير، واستخرجت منه العلقة السوداء، التي هي حظ الشيطان من الإنسان، ثم غسل قلبه حتى نقي[5].
وحفظه ربه من قبائح الجاهلية ومساوئها، فلم يتدنس بدنسها، يدل على هذا ما جاء عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «ما هممت بقبيح مما هم به أهل الجاهلية – أي: ويفعلونه – إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله – عز وجل – منهما؛ قلت لفتى كان معى من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت فلما جئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان قد تزوج بفلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الصوت، فغلبتني عيناي، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك، فوالله ما هممت بشيء من ذلك – بعد – حتى أكرمني الله – سبحانه وتعالى – بنبوته»[6].
وثبت – صلى الله عليه وسلم – على هجر المآثم، فكان على الطريق المستقيم لم يعدل عنه، وأقسم الحق – عز وجل – أن نبيه – صلى الله عليه وسلم – لم يعدل عن الطريق المستقيم، فقال: )والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3)( (النجم).
قال البيضاوي في معنى الآية: ما عدل محمد – صلى الله عليه وسلم – عن الطريق المستقيم، وما اعتقد باطلا – والمراد نفي ما ينسبون إليه – وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى[7]، قال سبحانه وتعالى: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)( (آل عمران).
ويضيف ابن كثير إلى معنى الآية: “لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من جنسهم؛ ليتمكنوا من مخاطبته، وسؤاله، ومجالسته، والانتفاع به، فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته، ومراجعته في فهم الكلام عنه؛ ولهذا قال: )يتلو عليهم آياته( يعني القرآن: )ويزكيهم( يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو نفوسهم، وتطهر من الدنس، والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم، )ويعلمهم الكتاب والحكمة(: القرآن والسنة، )وإن كانوا من قبل( هذا الرسول )لفي ضلال مبين( لفي غي وجهل ظاهر بين لكل أحد”[8].
ومما وصف به نبينا – صلى الله عليه وسلم – في التوراة والإنجيل أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، قال سبحانه وتعالى: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر( (الأعراف: ١٥٧)، وإذا كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، فهل يترك معروفا، أو يأتي منكرا؟ كلا. ومن هنا يقطع ببعده عن المآثم والمعاصي، ونزاهته عن كل ما يخالف دعوته، وتثبت له العصمة، ثم إن ربه قد وصفه بأنه نور يضيء للناس حياتهم، وتبصر به بصائرهم، ويخرجهم من ظلمات جهالاتهم، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)( (الأحزاب).
ومن كان بهذه المكانة؛ فإنه يكون في أقواله وأفعاله مثالا يحتذى به في فعل كل خير، والبعد عن كل شر؛ لأن من يترك الخير، أو يفعل الشر لا يهدي غيره، ولا يضيء للآخرين حياتهم.
وحتى يستضاء بنوره، ويهتدى بهديه كان – صلى الله عليه وسلم – متواضعا للمؤمنين رفيقا بهم، كما أمره ربه بذلك في قوله سبحانه وتعالى: )واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215)( (الشعراء).
وكان متسامحا يعفو عن المسيئين، ويأمر بالمعروف، ولا يكافئ الجاهلين بمثل أفعالهم تنفيذا لأمر ربه بذلك في قوله سبحانه وتعالى: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)( (الأعراف).
ولا عجب أن يكون – صلى الله عليه وسلم – على هذا الخلق العالي؛ وقد اقتدى بهدي الرسل جميعا – عليهم الصلاة والسلام – كما أمره ربه بقوله: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( (الأنعام:٩٠) وتخلق – صلى الله عليه وسلم – بأخلاقهم.
وأخيرا، وبعد زمان طويل بدأ المنصفون من غير المسلمين في الاعتراف بصدق محمد – صلى الله عليه وسلم – وكمال رسالته، واعتباره “الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على كلا المستويين: الديني والدنيوي، فهو قد دعا إلى الإسلام، ونراه كواحد من أعظم الديانات، وبعد أربعة عشر قرنا من وفاته؛ فإن أثره ما يزال متجددا”[9].
الخلاصة:
الأنبياء كلهم معصومون، والمسلمون يعتقدون – يقينا – لجميعهم العصمة، ويؤمنون بهم جميعا عليهم السلام. والمسلمون مأمورون بعدم التفرقة بين أحد من رسل الله – سبحانه وتعالى – فالأنبياء في العصمة سواء، والأنبياء معصومون عن المعاصي فلا تقع منهم في زمان النبوة، أما وقوعها منهم على سبيل السهو، فهو جائز في غير الوحي والتشريع.
لقد تكفل الله – سبحانه وتعالى – بحفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – وعصمته قبل البعثة وبعدها، ولا عجب أن يكون – صلى الله عليه وسلم – على هذا الخلق العالي؛ فإنه اقتدى بهدي الرسل جميعا – عليهم الصلاة والسلام – كما أمره ربه بقوله سبحانه وتعالى: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( ومن يتخلق بأخلاق الرسل جميعا، لا شك في أنه يكون أسرع الناس في الخيرات، وأبعدهم عن المعاصي.
(*) الإسلام والغرب، روم لاندو، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م.
[1]. لسان العرب، ابن منظور، دار الفكر، بيروت، 1994م، مادة: عصم.
[2]. نسيم الرياض، أحمد شهاب الدين الخفاجي، المطبعة الأزهرية المصرية، القاهرة، د. ت، ج4، ص39.
[3]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص118، 119.
[4]. عصمة الأنبياء، فخر الدين الرازي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1406هـ/ 1986م، ص41: 47.
[5]. الطبقات الكبرى، ابن سعد، مطبعة نشر الثقافة الإسلامية، القاهرة، د. ت، ج1، ص131.
[6]. حسن: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب التاريخ، باب بدء الخلق (6272)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقه صحيح ابن حبان.
[7]. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات، دار الفكر، بيروت، 1416هـ/ 1998م، ج2، ص340.
[8]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار الفكر، بيروت، 1401هـ، ج1، ص424.
[9]. انظر: المائة الأعظم أثرا في التاريخ، ميخائيل هارث، ترجمة: علي الجوهري، مكتبة القرآن، القاهرة، د. ت.
إنكار بشرية الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتعجب من إرسال رسول من البشر
مضمون الشبهة:
أنكر مشركو قريش إرسال محمد – صلى الله عليه وسلم – إليهم رسولا، وحجتهم في ذلك أنه من البشر، كما اعترض كل الأقوام قبله على الرسل والأنبياء بأنهم بشر، لا فضيلة لهم عليهم في خلق ولا رزق ولا حال، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا! قال تعالى: )أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا( (يونس: ٢)، وقال سبحانه وتعالى: )قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10)( (إبراهيم)، وقال سبحانه وتعالى: )وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94)( (الإسراء).
وجها إبطال الشبهة:
1) من لطف الله بعباده، أن أرسل إليهم رسلا من البشر؛ إذ لو كانت الرسل من الملائكة ما أطاق الناس رؤيتهم ولحدثت النفرة منهم.
2) إرسال رسول من البشر يؤدي إلى السكن والأنس وتآلف الطباع، وهم وإن كانوا بشرا، فإن الله هو الذي اصطفاهم واختصهم بذلك.
التفصيل:
أولا. من لطف الله أن يرسل الرسل من جنس البشر؛ فلو كانت الرسل من الملائكة ما أطاق الناس ذلك:
يتحدث القرآن الكريم عن المشركين من أهل مكة، ورفضهم لنبوة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعوى بشريته قائلا: أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق، أمرا عجبا، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه – صلى الله عليه وسلم – حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية.
إن الذي يدعو إلى العجب حقا هو ما تعجبوا منه، لأن الله – عز وجل – اقتضت حكمته أن يجعل رسله إلى الناس من البشر، لأن كل جنس يأنس لجنسه، وينفر من غيره، وهو أعلم حيث يجعل رسالته[1].
وينبه الله – عز وجل – على لطفه ورحمته بعباده أنه بعث الرسل إلى الناس من جنسهم – ليفقهوا منه -، وليتمكنوا من مخاطبته ومكالمته، ولذلك قال سبحانه وتعالى: )لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم( (آل عمران: 164)، وقال: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم( (التوبة: 128).
وقال: )كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)( (البقرة)، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم( (الجمعة: 2).
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن إرسال الله للرسل والأنبياء من جنس البشر والناس وليس من جنس آخر مختلف – لطف من الله ورحمة بعباده ونعمة منه تستحق الشكر، فكأنه يقول لهم: لما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلا بشرا منكم لطفا منا ورحمة، وعلى هذا فما كان ينبغي منكم أن تتعجبوا من بعثة الرسل بشرا أو تستبعدوا أن تكون الرسالة في البشر وأن يكون هداكم على يد بشر مثلكم.
ويبين القرآن – أيضا – أن من الحكمة عدم إرسال رسول من جنس آخر غير المرسل إليهم، فلا يجوز أن يرسل رسول من الملائكة للبشر؛ لأنه لو بعث الله إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى: )قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)( (الإسراء) أي أنه لو أرسل ملكا إلى الآدميين لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، قال ابن عباس: لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته؛ لأنه لو كان ملكا لأدى اختلاف الجنس إلى تنافر الطبع، وقد رد القرآن على اقتراحهم هذا في قولهم: )وقالوا لولا أنزل عليه ملك( (الأنعام: 8)، فقال: )ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8)( (الأنعام).
قال الحسن وقتادة: لأهلكوا بعذاب الاستئصال؛ لأن الله أجرى سننه بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله – عز وجل – في الحال: )ثم لا ينظرون (8)( (الأنعام) أي لا يمهلون ولا يؤخرون، ولهذا كان لا بد من إرسال رسول من البشر، فقال سبحانه وتعالى: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)( (الأنعام) فهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كل جنس يأنس بجنسه، وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله – عز وجل – الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به ولداخلهم من الرعب من كلامه، والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة، ولو نقله من صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به ويسكنوا إليه لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، كما أعلمهم الله – عز وجل – أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس والخلط، وقد يقولون: هذا ساحر مثلك.
ثانيا. إرسال رسول من البشر يؤدي إلى السكن والأنس وتآلف الطباع، وهم وإن كانوا من البشر فإن الله قد اصطفاهم وخصهم بالرسالة:
من ردود القرآن أيضا على شبهة هؤلاء الأقوام المرسل إليهم أن هؤلاء الرسل وإن كانوا في الحقيقة بشرا مثل من أرسلوا إليهم؛ فإن الله – عز وجل – قد اصطفاهم دون الناس بالنبوة والتوفيق، والحكمة، والعلم، والمعرفة، والهداية، وبهذا رد الرسل على أقوامهم فقالوا: )قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده( (إبراهيم: 11) أي يتفضل عليه بالنبوة والرسالة، وهذا امتحان من الله للناس بعضهم ببعض، فقد جعل هذا نبيا وخصه بالرسالة، وهذا ملكا وخصه بالدنيا، وهذا فقير وحرمه الدنيا ليختبر الفقير بصبره على ما حرم، والغني والملك بصبره على ما أعطي الرسول من الكرامة؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: )وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا (20)( (الفرقان).
ومن ردود القرآن على المشركين أيضا حين أنكروا رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – لكونه رسولا بشرا، أن الله ما أرسل إلى الأمم الماضية إلا رجالا آدميين، ويوجههم القرآن إلى أن يسألوا أهل الذكر من مؤمني أهل الكتاب فسوف يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا من البشر، قال سبحانه وتعالى: )وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43)( (النحل).
كما يبين القرآن أن الله لم يجعل الرسل قبل محمد – صلى الله عليه وسلم – خارجين عن طباع البشر لا يحتاجون إلى طعام وشراب، وما كانوا خالدين لا يموتون، فقال سبحانه وتعالى: )وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)( (الأنبياء)، وقال أيضا: )وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق( (الفرقان:20).
فهذا جواب الله على قول المشركين: )مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق( (الفرقان: 7)؛ حيث إنهم نقموا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه يأكل الطعام ويقف في الأسواق فعيروه بذلك؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا حيث رأوا الملوك والقياصرة والأكاسرة يترفعون عن الأسواق بينما كان – عليه السلام – يخالطهم في أسواقهم ويأمرهم وينهاهم، فأجاب الله – عز وجل – عن شبهتهم هذه وأبان لحبيبه – صلى الله عليه وسلم – أنه ليس أكل الطعام والمشي في الأسواق عارا على منصب الأنبياء، وليس الحاجة إلى التغذي والتكسب والتجارة منافيا لحالهم، ولذا لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلمـ بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا – اختار أن يكون عبدا رسولا.
وينتهي القرآن من ذلك إلى إبطال حجة هؤلاء الأمم المكذبين؛ إذ ما من رسول إلا كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فليس محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعا في ذلك من الرسل قبله.
الخلاصة:
المناسب للعقل والمنطق والفطرة أن يأتي الرسل بشرا، لا ملائكة أما القول بحتمية كون الرسل من الملائكة، فهو جمود عقلي، وانطماس نفسي يحمل أصحابه على قلب الحقائق وإيثار طريق الضلالة على طريق الهداية.
إرسال الله للرسل من البشر يؤدي إلى السكن والأنس والتآلف فضلا عن أنهم مصطفون من قبل المولى عز وجل، ولو كان الرسول من غير جنس قومه لما استطاع الناس تحمله ونفروا منه.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (الإسراء/ 94، الأنعام/ 91، التغابن/ 6، يونس/ 2، إبراهيم/ 10، يس/ 15، ص/ 4، ق / 2).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الإسراء/ 95، 96، الأعراف/ 63، 69، النحل/ 43، إبراهيم/ 11، الأنبياء/ 7، 8، يوسف/ 109، الكهف/ 110، الفرقان/ 20، يس/ 16، 17).
[1]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج7، ص22.
إنكار رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – وبعثته
مضمون الشبهة:
أنكرت قريش على النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالته وبعثته بشيرا ونذيرا، ويحتجون بأنهم لم يسمعوا بهذا الذي يدعو إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة، يعنون النصرانية، ويقولون: لو كان هذا القرآن وما يقوله محمد حقا لأخبرتنا به النصارى، وعلى هذا يكون ما جاء به محمد اختلاقا وبدعا، قال – سبحانه وتعالى – حاكيا عن المشركين قولهم: )ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)( (ص).
وجها إبطال الشبهة:
1) إرسال الرسل واجب عقلي وواقع عملي.
2) الدلائل على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن محمد – صلى الله عليه وسلم – أول رسول بل سبقه رسل قبله.
التفصيل:
أولا. إرسال الرسل واجب عقلي، وواقع عملي:
إن إرسال الرسل واجب عقلي؛ لأن الفطر والعقول السليمة دلتنا على وجود الخالق – عز وجل – وأنه المستحق للعبادة، ولكن العبادة لا يمكن الاهتداء لمعرفة صفتها وتفصيلها إلا عن طريق واسطة عن الله – عز وجل – يخبرنا بصفتها التي يحبها الله – عز وجل – ويخبرنا بما يحل وما يحرم، وما ينفعنا وما يضرنا، قال سبحانه وتعالى: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء). وقال أيضا: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( (النساء: 165)، وقال أيضا: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134)( (طه)، وقال أيضا: )ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47)( (القصص).
وإذا كان إرسال الرسل واجبا عقليا، فهو واقع عملي أيضا، فلا يزال التاريخ يخبرنا عن الكثير من الرسل والأنبياء وحالهم مع قومهم، وكيف كانت لهم الغلبة والنصر دائما، قال سبحانه وتعالى: )وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر)، وقال سبحانه وتعالى: )ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( (النحل: 36)، وقال سبحانه وتعالى: )ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون (44)( (المؤمنون).
ونتيجة لذلك لما أنكرت قريش وكفار مكة على النبي – صلى الله عليه وسلم – رسالته أمرهم الله – عز وجل – بالاستدلال بالتاريخ والواقع: )قل ما كنت بدعا من الرسل( (الأحقاف: ٩). فالعقل والواقع يدلان على أهمية إرسال الرسل فلم يجز إذا إنكار بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثا. دلائل صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن – صلى الله عليه وسلم – أول رسول، بل سبقه رسل قبله:
دلت الدلائل والآيات على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ومنها:
بشارة الكتب السابقة به؛ كالتوراة والإنجيل، قال سبحانه وتعالى: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل( (الأعراف:157)، وقال سبحانه وتعالى: )ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد( (الصف: 6).
وشهادة المنصفين؛ كعبد الله بن سلام – رضي الله عنه – والنجاشي وهرقل عظيم الروم وغيرهم.
ومن هذه الدلائل أيضا الآيات التي أجراها الله على يديه يخرق فيها العادة؛ كخطاب الأحجار والأشجار وانقيادها له، وانشقاق القمر له وغير ذلك.
ومن الدلائل أيضا كمال أخلاقه وملاعنته على ما عنده، قال سبحانه وتعالى: )فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61)( (آل عمران)، وعصمة الله له وحمايته من كل ما يكاد به وله، وانتفاء الغرض الشخصي والمصلحة الخاصة لنفسه من هذه الدعوة، وإخباره بالنهايات في البدايات، وإخباره بالغيب، وغير ذلك من الآيات الدالة على صدق نبوته وبعثته.
فالرسول – صلى الله عليه وسلم – ليس بأول رسول طرق العالم، بل جاءت رسل كثر قبله، ولذلك يقول لهم: )قل ما كنت بدعا من الرسل( (الأحقاف: ٩)، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم؛ فإنه قد أرسل الله – عز وجل – قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم.
ولذلك فإن قول المشركين: )ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7)( (ص) يتضمن اتهاما للنبي بالكذب على الله، ولعلهم يقصدون بالملة الآخرة دين النصارى، وعليه فالمشركون هنا يستدلون على بطلان توحيد الإله، وبعثة النبي بدين النصارى الذي لم يثبت فيه ذلك، وهذا كذب وافتراء، فالتوحيد دعوة جميع رسل الله، وبعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – قد بشرت بها كتبهم وأنبياؤهم.
وإنكار هؤلاء المشركين لم يريدوا به إنكار تجويز أصل الرسالة عن الله، وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد، وهذا هو الأصل الثاني من أصول كفرهم، وهو أصل إنكار بعثة رسول منهم، أما أصلهم الأول فهو إنكار أصل الرسالة.
ولهذا كان قوله – صلى الله عليه وسلم – كما حكى القرآن: )قل ما كنت بدعا من الرسل( ردا صالحا على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليل وتمويه على عامتهم.
الخلاصة:
الفطرة والعقول السليمة تدل على وجود الخالق – عز وجل – وأنه المستحق للعبادة، ولكن كيف تكون هذه العبادة وما شروطها؟ لذا وجب إرسال الرسل عقلا وواقعا عمليا للتعرف على هذه العبادة.
هل كان محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل؟ بمعنى هل هو وحده أول رسول، ولم يسبقه رسل؟، وهل رسالته أول رسالة أم سبقتها رسالات متنوعة؟
دلائل صدق النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – كثيرة أكثر من أن تحصى؛ منها: البشارة به في الكتب السابقة، ومعجزاته الحسية والمعنوية.. إلخ.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (ص/ 7).
الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الأحقاف/ 9).
تعليق الإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى يأتي بقربان تأكله النار
مضمون الشبهة:
يزعم اليهود أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن يأتي بقربان يتقرب به إلى الله، فتنزل نار من السماء تأكل هذا القربان، قال عز وجل: )الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار( (آل عمران: ١٨٣).
وجها إبطال الشبهة:
1) زعم اليهود باطل؛ لأن كون الإتيان بقربان تأكله النار وإن كان معجزة لبعض الرسل؛ فهذا لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول.
2) لقد جاء الكثير من الأنبياء بالمعجزات والبراهين التي طلبها اليهود، وعلى الرغم من هذا لم يؤمنوا بهم، بل كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم الآخر.
التفصيل:
أولا. الإتيان بقربان تأكله النار وإن كان معجزة لبعض الرسل، فهذا لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول:
لقد ذكر جماعة من المفسرين أن بعض اليهود منهم: كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أحطب، وغيرهم، أتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وقالوا له هذا القول، وهو: )إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار( (آل عمران:١٨٣).
والقربان: هو ما يتقرب به إلى الله من نعم أو غير ذلك، ومقصدهم من وراء هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أن يظهروا أمام الناس بمظهر المحافظين على عهود الله. وأنهم ما تركوا الإيمان بالنبي – صلى الله عليه وسلم – حسدا له، وإنما تركوا الإيمان به؛ لأنه لم يأت بالمعجزات التي أتى بها الأنبياء السابقون، فهم معذورون إذا لم يؤمنوا به؛ لأنه ليس نبيا صادقا في زعمهم.
ولا شك أن قولهم هذا ظاهر البطلان، لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول، إذ إن آيات الله في إثبات رسالات رسله متعددة النواحي، مختلفة المناهج، وكون هذا الإتيان بالقربان الذي تأكله النار معجزة لبعض الرسل لا يستدعي أن يكون معجزة لجميعهم[1].
وقد حصل هذا في زمن موسى – عليه السلام – حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل، فخرجت نار من عند الرب فأحرقته، إلا أنها معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود؛ لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة، وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»[2] [3].
ثانيا. إنكار القرآن عليهم قتلهم الأنبياء الذين جاءوهم بما طلبوا:
لقد رد القرآن الكريم على هؤلاء اليهود بما يبطل زعمهم هذا فقال: )قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183)( (آل عمران).
أي: قل لهم يا محمد )قد جاءكم رسل من قبلي( كثير عددهم )بالبينات(، أي: بالحجج الواضحة، وبالمعجزات الساطعة الدالة على صدقهم )وبالذي قلتم(، أي: وجاءكم هؤلاء الرسل بالقربان الذي تأكله النار )فلم قتلتموهم( بعد أن جاءوكم بتلك المعجزات الباهرة )إن كنتم صادقين( في دعواكم أنكم تتبعون الحق، وتطيعون الرسل متى أتوكم بما يشهد بصدقهم؟
فالجملة الكريمة ترد على هؤلاء اليهود بأبلغ الوجوه التي تثبت كذبهم فيما يدعون، لأن قتلهم للأنبياء بعد أن جاءوهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صدقهم دليل على أن هؤلاء اليهود قد بلغوا منتهى الجحود والظلم والعدوان، وأن دعواهم أن إيمانهم بمحمد – صلى الله عليه وسلم – متوقف على مجيئه بالقربان الذي تأكله النار دعوة كاذبة؛ لأن من جاءهم بالقربان كان جزاؤه القتل منهم.
ويؤكد هذا قول الفخر الرازي: “وقد بين الله بهذه الدلائل أنهم لا يطلبون هذه المعجزة على سبيل الاسترشاد، وإنما على سبيل التعنت؛ وذلك لأن أسلافهم طلبوا هذه المعجزة من الأنبياء المتقدمين؛ مثل: زكريا ويحيى وعيسى، فلما أظهروا لهم هذا المعجزة سعوا في قتلهم بعد أن قابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة، وذلك يدل على أن مطالبهم كانت على سبيل التعنت، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما سعوا في قتلهم، ومتأخرو اليهود راضون بفعل متقدميهم. وهذا يقتضي كونهم متعنتين – أيضا – في مطالبهم. ولهذا لم يجبهم الله فيها”[4].
الخلاصة:
لقد أراد اليهود أن يتملصوا من الإيمان بصدق محمد – صلى الله عليه وسلم – بحجة أنه لم يأتهم بالمعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون كالإتيان بقربان تأكله النار، وقولهم هذا باطل؛ لأن الإتيان بالقربان إذا كان معجزة لرسول لا يستلزم أن يكون معجزة لكل رسول.
قد رد الله عليهم شبهتهم هذه بأن الرسل جاءوهم من قبل بالبينات والحجج والبراهين الواضحة، فلم قتلوهم وقابلوهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة إن كانوا حقا يتبعون الحق وينقادون للرسل؟
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (آل عمران/ 183).
الآيتان اللتان ورد فيهما الرد على الشبهة: (آل عمران/ 183، 184).
[1]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج2، ص474، 475 بتصرف يسير.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل (4696)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع الناس (402).
[3]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج3، ج4، ص185.
[4]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج2، ص476، 475.
دعوى أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يستحلون القتال في الأشهر الحرم
مضمون الشبهة:
عاب المشركون على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين القتال في الشهر الحرام، وقالوا: أحل محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه المال وأسروا فيه الرجال.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام إثم أعظم وأكبر – عند الله – من القتال في الأشهر الحرم، والنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون معه أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرام
2) المسلمون لم يبدءوا العدوان، وإنما ردوا عدوان المعتدين، وما حدث من قتال فهو خطأ في التأويل أو التقدير.
3) ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، وعلى فرض أنه لم ينسخ فإن القتال لرد العدوان واجب حتى ولو كان في الأشهر الحرم.
التفصيل:
أولا. الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام أعظم إثما من القتال في الأشهر الحرم:
تلك مقولة ظالمة يطلقها المشركون كي يعموا على الناس ما ارتكبوه من كبائر وموبقات، حين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وكفروا بالله عز وجل، وأخرجوا النبي – صلى الله عليه وسلم – من البلد الحرام، وقد رد الله عليهم مقولتهم هذه مبينا عظم ما ارتكبوه، فقال سبحانه وتعالى: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة:217).
والسائلون هنا هم المؤمنون، ويحتمل أن يكونوا من المشركين، وأيا ما كان السائل فإن الجواب قد جاء حاسما، فأمر الله نبيه أن يقول لهم: إن القتال في الشهر الحرام إثمه كبير وذنبه عظيم، ولكن يا معشر قريش الذين نعيتم علينا القتال في الأشهر الحرم، كيف تستعظمون علينا أننا قاتلنا في الشهر الحرام، وما فعلتموه أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام واضطهادكم المسلمين وفتنتهم عن دينهم حيث تقتلون من يسلم، وتؤذونه في نفسه وأهله وماله وتمنعونه من الهجرة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وما فعلتموه من الكفر بالله عز وجل، وما فعلتموه من إخراج النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين من المهاجرين من البلد الحرام، والمسجد الحرام، كما قال سبحانه وتعالى: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله( (الحج: 40)، كل واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبتموها هي أعظم إثما وأكبر جرما وأقبح ذنبا عند الله – عز وجل – من القتال في الشهر الحرام، فكيف بها وقد اجتمعت؟!
جاء في “التحرير والتنوير”: وقوله: )وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل( (البقرة: 217) إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر، أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتية بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرم لأجل حجها الأشهر الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحرياء بالتحميق والمذمة؛ لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن علي – رضي الله عنهما -: “عجبا لكم يا أهل العراق! تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض”؟! ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا
جهارا ولـم تغضب لقتل ابن خازم
والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثما عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام[1].
وسبب نزول هذه الآية أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد بعث رهطا في سرية عليهم عبد الله بن جحش، وكتب له كتابا، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الأشهر الحرم، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى، وقتل في أول ليلة من رجب، فأنزل الله الآية يعير أهل مكة، مبينا أن القتال في الشهر الحرام لا يحل، وما صنعه هؤلاء المشركون أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفروا بالله – عز وجل – وصدوا محمدا وأصحابه عن المسجد الحرام، وأخرجوا أهله منه، وفتنوا المؤمنين وعذبوهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: )والفتنة أشد من القتل( (البقرة: 191)، وكان المشركون يفتنون المؤمنين عن دينهم بإلقاء الشبهات والإيذاء والتعذيب، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأبيه وأمه، وكما فعلوا ببلال وصهيب وخباب بن الأرت وغيرهم، وهذا ما كان المشركون يعاملون به المؤمنين في حال ضعفهم، ولما هاجروا وكثروا صاروا يقصدونهم بالقتال في مهجرهم لأجل الدين؛ ولذا قال – سبحانه وتعالى – في الآية السابقة: )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( (البقرة:217).
وهذا خطاب من الله للمؤمنين يعلمهم فيه أن أولئك المشركين لا هم لهم إلا منع الإسلام من الأرض، وإذا فترك قتالهم هو الذي يبيد الحق وأهله، وانتظار إيمانهم بمجرد الدعوة طمع في غير مطمع، والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحتف بها غيرها من الآثام والموبقات، فكيف وقد قارنها الصد عن سبيل الله والكفر به، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه، والاعتداء بالقتال والاستمرار عليه[2]؟!
إذا فالشبهة السابقة التي أثارها المشركون مردودة عليهم؛ فإن المسلمين جميعا وعلى رأسهم إمامهم ورسولهم محمد – صلى الله عليه وسلم – هم أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم وعدم القتال فيها، واعتبار القتال فيها حدثا كبيرا وإثما عظيما.
ثانيا. المسلمون لم يبدءوا العدوان:
ماذا يفعل المسلمون إذا ما بادرهم المشركون بالقتال والعدوان على الأنفس والأموال والأعراض، والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام وإخراجهم منه، وهم أهله وأولى به من غيرهم؟!
إنه لا بد من رد العدوان وحماية الأموال، والأعراض، والأنفس، ومنع المتجبرين من الفساد في الأرض والظلم، وحماية بيوت العبادة وإرساء القيم النبيلة، التي تحمي العدل والحق، وهذه الحقوق لا تقل حرمة عند الله من حرمة الأشهر الحرم التي أبيح فيها القتال لمن ظلم من المسلمين ومن فتنوا في دينهم وأخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا، وفي حديث جابر بسند صحيح «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزي»[3].
وفي ذلك الموقف يقول عبد الله بن جحش – رضي الله عنه – وهو الذي عايشه وعاناه -:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله
لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا
ينازعه غل من القد عاند
ويعلق صاحب “الظلال” على هذا الحادث قائلا: إن المسلمين لم يبدءوا القتال، ولم يبدءوا العدوان، إنما هم المشركون، هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله، والكفر به وبالمسجد الحرام، لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله، ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين فيه، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه وهو الحرم الذي جعله الله آمنا، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته.
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل، وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام، ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات الذين يتخذون منها ستارا حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يرقبون حرمة، ولا يتحرجون أمام قداسة، وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة.
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل، وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي، وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.
إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية – كما هي – بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد. يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعياتها، ولا ترفرف في خيال حالم، ورؤى مجنحة: لا تجدي على واقع الحياة شيئا!
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون لا يقيمون للمقدسات وزنا، ولا يتحرجون أمام الحرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة. يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام! ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!
فكيف يواجههم الإسلام؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار من السلاح، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح، ولا يتورعون عن سلاح! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا؛ لأنه يريد مواجهة الواقع، لدفعه ورفعه. يريد أن يزيل البغي والشر، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال، ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة، ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة!
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه، ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات، ويؤذون الطيبين، ويقتلون الصالحين، ويفتنون المؤمنين، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان!
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد.. إنه يحرم الغيبة.. ولكن لا غيبة لفاسق.. فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه، وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني )إلا من ظلم( (النساء: ١٤٨) فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول؛ لأنه حق؛ ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه!
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلى مستوى الأشرار البغاة. ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة، إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم.. هكذا جهرة وفي وضح النهار.
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات.. حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله.
هذا هو الإسلام.. صريحا واضحا قويا دامغا، لا يلف ولا يدور؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور. وهذا هو القرآن يقف بالمسلمين على أرض صلبة، لا تتأرجح فيها أقدامهم، وهم يمضون في سبيل الله، لتطهير الأرض من الشر والفساد، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس.. هذا شر وفساد وبغي وباطل.. فلا حرمة له إذن، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات، ليضرب من ورائها الحرمات! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة؛ في سلام مع ضمائرهم، وفي سلام من الله[4].
ثالثا. حكم القتال في الأشهر الحرم:
هذا، وقد اختلف أهل العلم في مسألة نسخ النهي عن القتال في الأشهر الحرم، وجمهور أهل العلم على أن النهي منسوخ، ورأوا جواز القتال في الأشهر الحرم، وبعض أهل العلم قال: إنه محكم لم ينسخ، وقال هذا الفريق: إن القتال على قسمين: قتال ابتداء، وهذا لا يجوز في الأشهر الحرم، وقتال الدفع، وهذا جائز، وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على جوازه في الأشهر الحرم وفي غيرها.
ذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور أن “والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم – عليه السلام – فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدته.
وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك، فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة؛ ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال سبحانه وتعالى: )جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام( (المائدة: 97).
وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ، فأما تخصيصه فبقوله سبحانه وتعالى: )واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)( (البقرة).
وأما نسخه فبقوله سبحانه وتعالى: )براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2) وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (4) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)( (التوبة)، فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى: )ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول( (التوبة: 13).
ثم إن الله تعالى أجلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس؛ لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج المشركون للحج فقال لهم: )فسيحوا في الأرض أربعة أشهر(، فآخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة، ثم قال: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم( أي: تلك الأشهر الأربعة )فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم(، فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق، ولذلك قاتل النبي – صلى الله عليه وسلم – ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح.
وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.
فإن قلت: إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، فما معنى قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع:«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»[5]، فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر، قلت: إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها، والقتال الظلم محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك، وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم؛ لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة؛ إذ العمرة أكثرها في رجب، ولذلك قال: )قتال فيه كبير( (البقرة: 217)، واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي – صلى الله عليه وسلم – الحج على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة، وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلا للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم[6].
الخلاصة:
الصد عن سبيل الله والمسجد الحرام وإخراج المسلمين من ديارهم وفتنتهم عن دينهم بالأذى والقتل من قبل المشركين إثم أعظم وأكبر عند الله من القتال في الأشهر الحرم.
المسلمون لم يبدءوا العدوان، وإنما ردوا عدوان المعتدين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون معه أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم، وما حدث من قتال فهو خطأ في التأويل على أن هذا ضمن سلسلة رد العدوان بين المسلمين والمشركين أو خطأ في التقدير على أن اليوم آخر أيام جمادى.
جمهور أهل العلم على أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم منسوخ، وبعضهم قال: إنه محكم ولم ينسخ، ولكن اتفق الجميع على وجوب القتال لرد العدوان في الأشهر الحرم أو في غيرها.
(*) الآية التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 217).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص328، 329.
[2]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج2، ص317، 318.
[3]. إسناده صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثيرن من الصحابة، مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما (14623)، والطحاوي في مشكل الآثار (11/ 31) برقم (4261)، وصحح إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
[4]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج1، ص226، 227.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1625)، ومسلم في صحيحه، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص (3180)، واللفظ له.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج2، ج2، ص326: 328.
دعوى أن النسخ يبين افتراء الرسول صلى الله عليه وسلم
مضمون الشبهة:
اتهم المشركون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالافتراء ويستدلون على ذلك بوقوع النسخ في الأحكام، ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت كذاب تفتري علينا، قال سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر( (النحل: ١٠١).
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ من عند الله عز وجل، ولا علاقة للرسول – صلى الله عليه وسلم – بهذا الأمر غير التبليغ.
2) النسخ فيه مصلحة للعباد، وله حكم كثيرة ومقاصد جلية.
3) القرآن كله – ناسخه ومنسوخه – من عند الله نزل به جبريل – عليه السلام – هدى وبشرى وتثبيتا للمؤمنين.
التفصيل:
أولا. النسخ من عند الله وما على الرسول إلا البلاغ:
هذه الشبهة من تقولات المشركين عن القرآن الكريم، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: “كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش: والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه”[1].
وحكاية طعنهم في النبي – صلى الله عليه وسلم – بصيغة قصر الموصوف على الصفة، فجعلوه لا صفة له إلا الافتراء، وهو قصر إضافي، أي لست بمرسل من الله. وهذا من مجازفتهم وسرعتهم في الحكم الجائر فلم يقتصروا على أن تبديله افتراء بل جعلوا الرسول مقصورا على كونه مفتريا لإفادة أن القرآن الوارد مقصور على كونه افتراء.
وأصل الافتراء: الاختراع، وغلب على اختراع الخبر، أي اختلاقه، فساوى الكذب في المعنى، ولذلك قد يطلق وحده كما هنا، وقد يطلق مقترنا بالكذب كقوله سبحانه وتعالى: )إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون( (النحل: 105) إرجاعا به إلى أصل الاختراع[2].
وهذه الشبهة أثارها اليهود أيضا كما ورد في سورة البقرة، ورد الله عليهم بقوله: )ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107)( (البقرة).
فأوضح الله – عز وجل – أنه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، ولا علاقة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الأمر، وإنما هو مبلغ عن الله أحكامه وآياته، والله – عز وجل – هو الذي شرع الأحكام وهو الذي يبدل بعضها ببعض، ولذا قال – عز وجل – هنا في الرد على المشركين: )والله أعلم بما ينزل( (النحل: 101)، فهو – سبحانه وتعالى – عالم بالناسخ والمنسوخ، ويعلم ما يصلح الناس في وقت وما يصلحهم في الوقت الآخر، ويعلم المناسب لهم والأليق بهم والمحقق لمصلحتهم في كل وقت، كالطبيب الذي يراعي أحوال مريضه، ولله المثل الأعلى.
ثانيا. مقاصد النسخ ومراعاته مصالح العباد:
إن المشركين لا يدركون وظيفة هذا الكتاب، لا يدركون أنه جاء لإنشاء مجتمع عالمي إنساني، وبناء أمة تقود هذا المجتمع العالمي، وأنه الرسالة الأخيرة التي ليست بعدها من السماء رسالة، وأن الله الذي خلق البشر عليم بما يصلح لهم من المبادئ والشرائع؛ فإذا بدل آية انتهى أجلها واستنفدت أغراضها، ليأتي بآية أخرى أصلح للحالة الجديدة التي صارت إليها الأمة، وأصلح للبقاء بعد ذلك الدهر الطويل الذي لا يعلمه إلا هو، فالشأن له، ومثل آيات هذا الكتاب كمثل الدواء تعطي للمريض منه جرعات حتى يشفى، ثم ينصح بأطعمة أخرى تصلح للبنية العادية في الظروف العادية.
إن المشركين لا يدركون شيئا من هذا كله، ومن ثم لم يدركوا حكمة تبديل آية مكان آية في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فحسبوها افتراء منه، وهو الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه كذبا قط )بل أكثرهم لا يعلمون (101)( (النحل) [3].
ويوضح الشيخ الطاهر ابن عاشور مناسبة ورود هذه الآية في سورة النحل مبينا معنى التبديل المراد في قوله سبحانه وتعالى: )وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101)( (النحل).
إذ يبين أن هذه الآية استمر الكلام فيها على شأن القرآن وتنزيهه عما يوسوسه الشيطان في الصد عن متابعته.
ولما كان من أكبر الأغراض في هذه السورة بيان أن القرآن منزل من عند الله، وبيان فضله وهديه فابتديء فيها بآية )ينزل الملائكة بالروح من أمره( (النحل: 2)، ثم قفيت بما اختلقه المشركون من الطعن فيه بعد تنقلات جاء فيها: )وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24)( (النحل)، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله سبحانه وتعالى: )وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا( (النحل: 64)، ثم قوله سبحانه وتعالى: )ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء( (النحل:٨٩).
وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن، وذلك آية )إن الله يأمر بالعدل والإحسان( (النحل: 90)، فلما استقر ما يقتضي تقرر فضل القرآن في النفوس نبه على نفاسته ويمنه بقوله: )فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)( (النحل)، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقا مموها بالشبهات، كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله سبحانه وتعالى: )وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24)( (النحل).
ذلك الاختلاق هو تعمدهم التمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفا لآيات أخرى لاختلاف المقتضى والمقام. والمغايرة باللين والشدة، أو بالتعميم والتخصيص، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلق بها، فيتخذون من ظاهر ذلك – دون وضعه مواضعه وحمله محامله – مغامز يتشدقون بها في نواديهم، يجعلون ذلك اضطرابا من القول ويزعمونه شاهدا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسمو معانيه، وبعضه ناشئ عن تعمد للتجاهل تعلقا بظواهر الكلام يلبسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: )بل أكثرهم لا يعلمون (101)( (النحل)، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
فالمراد من التبديل في قوله سبحانه وتعالى )بدلنا( مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.
والمراد بالآية الكلام التام من القرآن، وليس المراد علامة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أعني المعجزة بقرينة قوله سبحانه وتعالى: )والله أعلم بما ينزل( (النحل: 101).
فيشمل التبديل نسخ الأحكام؛ مثل نسخ قوله تعالى: )ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110)( (الإسراء)، بقوله تعال: )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)( (الحجر)، وهذا قلل في القرآن الذي يقرأ على المشركين لأن نسخ الأحكام إنما كثر بعد الهجرة حين تكونت الجامعة الإسلامية، وأما نسخ التلاوة فلم يرد من الآثار ما يقتضي وقوعه في مكة فمن فسر به الآية كما نقل عن مجاهد فهو مشكل.
ويشمل التعارض بالعموم والخصوص ونحو ذلك من التعارض الذي يحمل بعضه على بعض، فيفسر بعضه بعضا ويؤول بعضه بعضا، كقوله سبحانه وتعالى: )والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض( (الشورى: 5) مع قوله سبحانه وتعالى: )الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا( (غافر: 7)، فيأخذون بعموم )ويستغفرون لمن في الأرض( فيجعلونه مكذبا لخصوص )ويستغفرون للذين آمنوا(، فيزعمونه إعراضا عن أحد الأمرين إلى الأخير منهما.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10)( (المزمل)، يأخذون من ظاهره أنه أمر بمتاركتهم، فإذا جاءت آيات بعد ذلك لدعوتهم وتهديدهم زعموا أنه انتقض كلامه وبدا له ما لم يكن يبدو له من قبل.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )وما أدري ما يفعل بي ولا بكم( (الأحقاف: ٩)، مع آيات وصف عذاب المشركين وثواب المؤمنين.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: )ولا تزر وازرة وزر أخرى( (الإسراء: 15) مع قوله تعالى: )ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم( (النحل:25)، ومن هذا ما يبدو من تخالف بادئ الأمر، كقوله بعد ذكر خلق الأرض: )ثم استوى إلى السماء( (فصلت: 11) مع قوله سبحانه وتعالى: )والأرض بعد ذلك دحاها (30)( (النازعات)، فيحسبونه تناقضا مع الغفلة عن محمل )بعد ذلك( من جعل “بعد” بمعنى “مع” وهو استعمال كثير، فهم يتوهمون التناقض مع جهلهم أو تجاهلهم بالوحدات الثماني المقررة في المنطق.
فالتبديل في قوله سبحانه وتعالى: )بدلنا( هو التعويض ببدل، أي عوض. والتعويض لا يقتضي إبطال المعوض – بفتح الواو – بل يقتضي أن يجعل شيء عوضا عن شيء. وقد يبدو للسامع أن مثل لفظ المعوض بفتح الواو جعل عوضا عن مثل لفظ العوض بالكسر في آيات مختلفة باختلاف الأغراض من تبشير وإنذار، أو ترغيب وترهيب، أو إجمال وبيان، فيجعله الطاعنون اضطرابا؛ لأن مثله قد كان بدل ولا يتأملون في اختلاف الأغراض.
وجملة )والله أعلم بما ينزل( معترضة بين شرط “إذا” وجوابها، والمقصود منها تعليم المسلمين، لا الرد على المشركين؛ لأنهم لو علموا أن الله هو المنزل للقرآن لارتفع البهتان. والمعنى: أنه أعلم بما ينزل من آية بدل آية، فهو أعلم بمكان الأولى ومكان الثانية ومحمل كلتيهما، وكل عنده بمقدار وعلى اعتبار.
وقوله: )بل أكثرهم لا يعلمون (101)( (النحل)، أي: أكثر القائلين ذلك لا يفهمون وضع الكلام مواضعه وحمله محامله، وفهم من الحكم على أكثرهم بعدم العلم أن قليلا منهم يعلمون أن ذلك ليس افتراء، ولكنهم يقولون ذلك تلبيسا وبهتانا ولا يعلمون أن التنزيل من عند الله لا ينافي إبطال بعض الأحكام إذا اختلفت المصالح أو روعي الرفق[4].
ثالثا. القرآن ناسخه ومنسوخه من عند الله عز وجل:
بين القرآن الكريم أن جبريل – عليه السلام – نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه من الله – عز وجل – بالحق والصدق والعدل؛ ليثبت الذين آمنوا بما فيه من الحجج والآيات، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا، وتخبت له قلوبهم ويكون ذلك لهم هدى وبشارة ورحمة.
)قل نزله روح القدس من ربك بالحق( (النحل: ١٠٢)، فما يمكن أن يكون افتراء، وقد نزله )روح القدس( جبريل عليه السلام: )من ربك( لا من عندك )بالحق( لا يتلبس به الباطل )ليثبت الذين آمنوا( الموصولة قلوبهم بالله، فهي تدرك أنه من عند الله، فتثبت على الحق وتطمئن إلى الصدق )وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل) بما يهديهم إلى الطريق المستقيم، وبما يبشرهم بالنصر والتمكين[5].
جاء في “التحرير والتنوير”: وقوله: )قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)( (النحل).
جواب عن قولهم: )إنما أنت مفتر( (النحل: 101) فلذلك فضل فعل )قل( لوقوعه في المحاورة؛ أي: قل لهم: لست بمفتر ولا القرآن بافتراء، بل نزله روح القدس من الله. وفي أمره بأن يقول لهم ذلك شد لعزمه؛ لكيلا يكون تجاوزهم الحد في البهتان صارفا إياه عن محاورتهم.
فبعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النقض أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – أن يبين لهم ماهية القرآن. وهذه نكتة الالتفات في قوله سبحانه وتعالى: )من ربك( الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بأن يقوله؛ لأن مقتضى الظاهر أن يقول: من ربي، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيسا للنبي – صلى الله عليه وسلم – بزيادة توغل الكلام معه في طريقة الخطاب.
واختير اسم الرب لما فيه من معنى العناية والتدبير. و )روح القدس(: جبريل، و )القدس(: الطهر، وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر. وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ كقولهم: حاتم الجود، وزيد الخير. والمراد: حاتم الجواد، وزيد الخير. فالمعنى: الملك المقدس.
وذكرت علة من علل إنزال القرآن على الوصف المذكور، أي تبديل آية مكان آية، بأن في ذلك تثبيتا للذين آمنوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهتدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر.
ففي قوله سبحانه وتعالى: )نزله روح القدس من ربك( إبطال لقولهم: )إنما أنت مفتر( وفي قوله تعالى؛ )بالحق( إيقاظ للناس بأن ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حق.
وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبشرى بيان لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدى وبشرى لهم.
وفي تعلق الموصول وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم، فيفيد تعريضا بأن غير المؤمنين تقصر مداركهم عن إدراك ذلك الحق فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفرا ويضلون ويكون نذارة لهم.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: وهدى وبشرى لهم، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف[6].
الخلاصة:
النسخ من عند الله تعالى، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، والنبي – صلى الله عليه وسلم – ما عليه إلا البلاغ المبين.
للنسخ حكم عديدة، ولكن المشركين لا يعلمون، ويجادلون بالباطل عنادا وكفرا.
القرآن الكريم جميعه – ناسخه ومنسوخه – من عند الله عز وجل، نزل به أمين الوحي جبريل – عليه السلام – هدى وبشرى وتثبيتا وشفاء للمؤمنين.
(*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (النحل/ 101).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (النحل/ 102، البقرة/ 106، 107).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج14، ص281.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج14، ص283.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2194.
[4]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج14، ص280: 284 بتصرف.
[5]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج4، ص2194.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج7، ج14، ص284، 285.
دعوى أن الله – عز وجل – هجر نبيه – صلى الله عليه وسلم – وقلاه
مضمون الشبهة:
لما أبطأ جبريل – عليه السلام – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالوحي أياما، زعم المشركون أن رب محمد قلاه وأبغضه وتركه، وقالوا: لو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء!
وجوه إبطال الشبهة:
1) القسم على نفي هجر الله – عز وجل – نبيه صلى الله عليه وسلم.
2) دلائل محبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
3) موجبات شكر النعمة.
التفصيل:
أولا. القسم على نفي كون الله – عز وجل – قلى نبيه صلى الله عليه وسلم:
يرد الله – عز وجل – على المشركين زعمهم أن رب محمد قلاه وهجره، بأن أقسم سبحانه بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إذا سكن فأظلم واد لهم، على أنه – عز وجل – ما ترك حبيبه ولا أبغضه منذ أحبه، قال سبحانه وتعالى: )والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى).
فهذا قسم بهذين الآنين الرائقين الموحيين. يربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس. ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي، المتعاطف مع كل حي. فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود، غير موحش ولا غريب فيه فريد.. وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه. فظل الأنس هو المراد مده. وكأنما يوحي الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – منذ مطلع السورة أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود، وأنه من ثم غير مجفو فيه ولا فريد!
وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر: )ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى)؛ أي: ما تركك ربك ولا جفاك كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك، وهو ربك وأنت عبده المنسوب إليه، المضاف إلى ربوبيته، وهو راعيك وكافلك[1].
وجاء القسم لتأكيد الخبر ردا على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصب على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين، وأما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.
ومناسبة القسم بـ: )والضحى (1) والليل( أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن، وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.
ولذلك قيد )والليل( بظرف )إذا سجى(، فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: )قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3)( (المزمل). والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج: “احتبس الوحي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمسة عشر يوما أو نحوها، فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، فنزلت الآية”.
واحتباس الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وقع مرتين:
أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يكون قد انقطع عنه الوحي، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض، وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما، ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدأ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه، وقبل أن يقوم النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقرآن ليلا.
وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سور؛ أي: السور التي نزلت بعد الفترة الأولى، فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة، فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما، وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – كي تستجم نفسه، وتعتاد قوته تحمل أعباء الوحي؛ إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما، ثم كانت الثانية اثني عشر يوما أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة؛ ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثا، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر[2].
ثانيا. محبة الله لنبيه:
ثم بين الله لنبيه برهان ذلك الحب، وعلامته، وما اختصه به من الخصائص والكرامات التي هي دلائل ذلك الحب لا كما يدعي هؤلاء المبغضون، فقال سبحانه وتعالى: )وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)( (الضحى)؛ أي: ما عندي في مرجعك إلي يا محمد خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا، وسوف يعطيك ربك في الدنيا الفلاح، وفي الآخرة الثواب، والحوض والمقام المحمود.
وما غاض معين فضله وفيض عطائه. فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيرا مما يعطيك منها في الدنيا: )وللآخرة خير لك من الأولى (4)( (الضحى).. فهو الخير أولا وأخيرا.. وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك، وإزاحة العقبات من طريقك، وغلبة منهجك، وظهور حقك.. وهي الأمور التي كانت تشغل باله – صلى الله عليه وسلم – وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد.. والشماتة[3].
وقوله: )وللآخرة خير لك من الأولى (4)( (الضحى) عطف على جملة: )والضحى (1)( (الضحى)، فهو كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية، وليست معطوفة على جملة جواب القسم، بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.
وما في تعريف )وللآخرة( و )الأولى( من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير. والآخرة: مؤنث الآخر، والأولى: مؤنث الأول، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه، فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.
ويوميء ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد، فاللام في: )وللآخرة( و )الأولى( لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
واللام في قوله: )لك( لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني، فأنزل الله سبحانه وتعالى: )وللآخرة خير لك من الأولى (4)( (الضحى)» [4].
وقوله: )ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)( (الضحى) هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال؛ لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما في قوله سبحانه وتعالى: )قال سوف أستغفر لكم ربي( (يوسف: 98)، وقوله سبحانه وتعالى: )ولسوف يرضى (21)( (الليل).
وحذف المفعول الثاني لـ )يعطيك( ليعم كل ما يرجوه – صلى الله عليه وسلم – من خير لنفسه ولأمته، فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة. وجيء بفاء التعقيب في )فترضى( لإفادة كون العطاء عاجل النفع، بحيث يحصل به رضى المعطى عند العطاء، فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص. وتعريف )ربك( بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ “رب” من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب؛ لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة “رب” إلى ضميره.
وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي – صلى الله عليه وسلم – من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا[5].
ثم يذكر الله – عز وجل – فضله على حبيبه، كما قال سبحانه وتعالى: )وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)( (النساء)، ويعدد – سبحانه وتعالى – مننه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول له: ألم تكن يتيما لا أب لك فآويتك عند عمك أبي طالب فكفلك، وآويتك بأصحاب ينصرونك ويحوطونك ويحفظونك، وكل هذا من حفظ الله له وعنايته به، ثم ألم تكن ضالا أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة فهديتك وأرشدتك، ولم تكن تدري ما القرآن ولا الشرائع ولا الإيمان، ثم ألم تكن عائلا فقيرا ذا عيال فأغنيتك عمن سواي، وجمعت لك بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر، صلوات الله وسلامه عليه، فهذا قول الله سبحانه وتعالى: )ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى).
فهل بعد هذه المنن العظيمة والنعم الجزيلة يعقل أن يبغض الله حبيبه، لقد كذب المشركون فيما زعموا؛ ولذا ختم الله حديثه إلى نبيه بقوله: )وأما بنعمة ربك فحدث (11)( (الضحى)، وقوله سبحانه وتعالى: )ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى) استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد؛ أي: هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد، بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف؛ لأن شأن الصدف ألا تتكرر، فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياسا على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى، وهم لا يجهلون ذلك، عسى أن يقلعوا عن العناد ويسرعوا إلى الإيمان، وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي – صلى الله عليه وسلم – وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.
والاستفهام في قوله: )ألم يجدك يتيما فآوى (6)( (الضحى) استفهام تقريري، والإيواء: كفاية الحاجة مجازا أو استعارة، فالمعنى: أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة وكنت على تربية كاملة، مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائص؛ لأنهم لا يجدون من يعنى بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الخلقية، فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين.
والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود سواء سلك السائر طريقا آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائرا لا يعرف أي طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى: أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله – صلى الله عليه وسلم – على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألهمه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ، وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق؛ ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.
وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل؛ فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش، وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبين الخلو عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك، والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافيا في قبح الفواحش على إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل.
ولم يختلف أصحابنا أن نبينا – صلى الله عليه وسلم – لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله: )فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16)( (يونس) وقوله: )أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69)( (المؤمنون)، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا[6].
ثالثا. موجبات شكر النعمة:
وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير: إذا أردت الشكر؛ لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصدر الكلام في سورة الضحى بـ “أما” التفصيلية؛ لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها، فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب. وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة )السائل( (الضحى: ١٠) بالسائل عن الدين والهدي، فقوله: )فأما اليتيم فلا تقهر (9)( (الضحى) مقابل لقوله: )ألم يجدك يتيما فآوى (6)( (الضحى) لا محالة؛ أي: فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام؛ ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم مع كثرة الأسباب لقهره؛ لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال سبحانه وتعالى: )فلا تقل لهما أف( (الإسراء: 23)س، وقال: )وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28)( (الإسراء).
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي؛ أي: حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا.
ويقول الشيخ سيد قطب: “ويمضي سياق السورة يذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق. ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به، ومودته له، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي. وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع: )ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى).
انظر في واقع حالك، وماضي حياتك.. هل ودعك ربك؟ وهل قلاك حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟
لقد ولدت يتيما فآواك إليه، وعطف عليك القلوب حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك! ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة، كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة – رضي الله عنها – عن أن تحس الفقر، أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء!
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها. ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا. لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا.. ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به.
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى، التي لا تعدلها منة؛ وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق؛ ومن التعب الذي لا يعدله تعب، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعانيه في هذه الفترة من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب، فجاءت هذه تذكره وتطمئنه إلى أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه، وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه!
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم، وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة.. يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم، وإلى كفاية كل سائل، وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه، وفي أولها: الهداية إلى هذا الدين: )فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث (11)( (الضحى).
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله، وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة، كانت كما ذكرنا مرارا من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة، التي لا ترعى حق ضعيف، غير قادر على حماية حقه بسيفه! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل والتقوى، والوقوف عند حدود الله الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف الذين لا يملكون سيفا يذودون به عن هذه الحقوق.
وأما التحدث بنعمة الله وبخاصة نعمة الهدى والإيمان فهو صورة من صور الشكر للمنعم. يكملها البر بعباده، وهو المظهر العملي للشكر، والحديث الصامت النافع الكريم[7].
الخلاصة:
زعم المشركون أن رب محمد – صلى الله عليه وسلم – هجره وقلاه باطل جاءت سورة الضحى وفيها إبطال قول المشركين.
جاءت سورة الضحى مبشرة للنبي – صلى الله عليه وسلم – بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيظ المشركين.
ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله، وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها من نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله.
(*) الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الضحى/ 3: 5).
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3926، 3927.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص394: 396 بتصرف.
[3]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3927.
[4]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2/ 82) برقم (583)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2790).
[5]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص398، 399.
[6]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت،مج15،ج30، ص399 وما بعدها.
[7]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص3927، 3928.
دعوى أن الله – عز وجل – هجر نبيه – صلى الله عليه وسلم – وقلاه
مضمون الشبهة:
زعم بعض اليهود أن سبب عدم إيمانهم بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به هو أن قلوبهم غلف، أي: مغطاة بأغطية تمنع أن يصل إليها شيء مما يدعوهم إليه من الإسلام، يقول عز وجل: )وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)( (البقرة).
وجها إبطال الشبهة:
1) ما يدعيه اليهود هو مجرد عذر واه، يريد به اليهود التملص من الإيمان بدعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد أن تبين لهم دلائل صدقه.
2) لقد خلق الله اليهود كسائر العقلاء الذين يستطيعون الاهتداء للحق بالتأمل والتبصر، ولكن إصرارهم على الكفر هو السبب الحقيقي في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
التفصيل:
أولا. ما يدعيه اليهود هو مجرد عذر واه لا دليل عليه:
هذا تعلل واه من تعللات اليهود المتكررة، وأحد الدعاوى التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي، وهو قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: )قلوبنا غلف(، والغلف: جمع أغلف، وهو الذي جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذي لا يعي ولا يفهم: قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.
ومعنى قولهم: يا محمد، إننا لا نعقل قولك ولا نفهمه؛ لأن قلوبنا مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت فيها، ومقصدهم من ذلك التهكم منه – صلى الله عليه وسلم – وقطع طمعه في إسلامهم حتى لا يعيد عليهم الدعوة بعد[1]، وهذا من عنادهم وجحودهم وما عرف من شنشنتهم وسوء اعتذارهم عن الإيمان بما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم – والاهتداء بكتابه بعد تقرير الدعوة، وإقامة الحجة وبيان المحجة، وهو كقول المشركين: )قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب( (فصلت: 5).
ثانيا. خلق الله اليهود كسائر العقلاء الذين يستطيعون الاهتداء للحق:
لقد رد الله – سبحانه وتعالى – عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم، فقال: )وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)( (البقرة)، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: )بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (155)( (النساء).
وقوله: )بل لعنهم الله بكفرهم( (البقرة: ٨٨) تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر، والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير، فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق، وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم؛ لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة[2].
إن ما وصفوا به قلوبهم من أنها غلف لا تفهم الحق بطبعها، ليس هو الحق الواقع، بل كان كفرهم الشديد وما له من الأثر القبيح في أخلاقهم وأعمالهم سببا في الطبع على قلوبهم، فأبعدهم الله – عز وجل – من رحمته بسبب جمودهم على ذلك الكفر التقليدي ولوازمه، وعدم نظرهم في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، ولا يتأملون تأمل الإخلاص والاستبصار، والنظر والتأمل إنما هو من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم، ويصل إليها اختيارهم، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.
هذا هو معنى اللعن، وقد ذكرت معه علته ليعلم أنه جرى على سنة الله – عز وجل – في الأسباب والمسببات، وأن الله لم يظلمهم بهذا، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان، كما هي السنة في أخلاق الإنسان؛ لهذا لم يؤمنوا إلا قليلا، وإنما العلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة، والنسبة إلى اليقين في الإيمان، وتحكيمه في الفكر والوجدان.
ولقد كان اليهود يؤمنون بالشريعة في الجملة، وكما تعطيه ظواهر الألفاظ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصدقها عامل اللذة، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان، ورسما يلوح في الخيال تكذبه الأعمال، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله عز وجل، وقد يكون المقصود بقلة الإيمان هنا هو أنه لا يؤمن بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به إلا قليل منهم؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه، وفي هذا من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس[3].
الخلاصة:
إن ما يدعيه اليهود من أن على قلوبهم أغطية تمنعهم من الإيمان بدعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – إنما هو مجرد زعم لا أساس له، يريدون بذلك قطع طمع النبي – صلى الله عليه وسلم – في إسلامهم حتى لا يعيد عليهم الدعوة بعد.
لقد بين الله – عز وجل – كذب اليهود وعنادهم، وبين أن السبب الحقيقي في إعراضهم عن دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم – لم يكن وجود أغطية على قلوبهم تمنع من وصول الحق إليها – كما يدعون -، وإنما هو إصرارهم على الكفر وإعراضهم عن الحق؛ لهذا عاقبهم الله باللعن والطرد من رحمته.
(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 88، النساء/ 155، فصلت/ 5).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 88، النساء/ 155، فصلت/ 6).
[1]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص599. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج1، ص254.
[2]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج1، ج1، ص600.
[3]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، د. ت، ج1، ص379، 380 بتصرف.
شبهة زواج النبي ﷺ من صفية بنت حيي
من الشبهات المثارة حول النبي ﷺ زواجُه بصفيةَ بنتِ حُيَيِّ بنِ أخطب ، وللرد عليها لابد من ذكر نقاط مهمة :
الأولى :
من الأخطاء المنهجية عند مثيري الشبهة هو قبولُ الخبر الذي بنى عليه شبهته وردُّ الأخبار التي تنقضها مع أن مصدرهما واحد !
حينها يُسأل : ما المنهجية العلمية في قبولك لهذا الخبر – أقصد خبر الشبهة – ؟
وليس أمامه إلا خياران :
الاعتماد في القبول والرد على منهجية علمية موضوعية.
أن يقول: وجدتُّها في كتبكم !
أما الأول: فلن يجد منهجاً أدقَّ وأضبطَ من منهج المحدِّثين في نقد المرويّات ؛ إذ أنهم لا يقبلون الروايةَ إلا بعد تحقق خمسة شروط نذكرها باختصار شديد :
الأول: اتصالُ السند ، أي أن كل راوٍ من رواته قد أخذَه مباشرةً عمّن فوقه من أول السند إلى منتهاه.
الثاني: العدالة ، أي أن يكون الراوي غير متّصفٍ بالكذب والفِسْق ، فليس كلُّ مسلم تؤخَذ روايته.
الثالث: الضبط، أن يكون الراوي ضابطاً للسند والمتن ضبطاً دقيقاً ، فمثلاً لو جاء (مسلمٌ صدوقٌ من عبّاد أهل الأرض) لكنه غير ضابط فلا تُقبل روايته !
الرابع: أن يكون الحديثُ غيرَ شاذٍ عن رواية الأوثق حتى لو كان الراوي عدلاً ضابطاً !
الخامس: أن لا تكون فيه علةٌ خفيّةٌ، بمعنى أنه لا يُكتفى في تصحيحه صحة ظاهره (وجود الشروط الأربع السابقة).
فلو روى أحد أئمة المسلمين – فضلاً عن عوامّهم – حديثاً واختلَّ شرطٌ واحدٌ رُدّت روايته حتى لو كانت مدحاً في النبي ﷺ !
بل المحدِّثون ضعَّفوا رواياتٍ هي حجةٌ لنا – لو صحّت – في إبطال هذه الشبهة ، منها :
– قصة اتفاق نفرٍ من كبار بني النَّضِير على قتل النبي ﷺ برمي حجرٍ ضخمٍ على رأسه ! [1]
– حوار حييِّ بنِ أخطبَ مع أخيه أبي ياسر التي رُويت عن ابنته صفية رضي الله عنها حيث ذكرت أن أباها عندما سئل عما في نفسه تجاه محمد ﷺ قال : ( عداوته ما بقيت ). [2]
وهذا يدل على موضوعية المحدِّثين في القبول والرد ، والكلام في هذا يطول ، ومن أراد الاستزادة وترسيخ اليقين فليراجع كتب العلم وشروحه .
أما الخيار الثاني يوقعه في خطأين استدلاليين:
الأول: انتفاء المعيار العلمي الموضوعي في القبول والرد.
الثاني انتقاء غير منهجي إذ ما نرد به عليه موجودٌ في نفس الكتب !
وهنا يلزمه أن يقبل كلَّ ما صحَّ من مرويّات المسلمين أو يرد الأخبار التي بنى عليها شبهته وحينها لا يحق له الاعتراض!
الثانية:
حيي بن أخطب سيدُ النَّضِير الذين أجلاهم النبيُّ ﷺ بعدما أجمعوا على الغدر به ، فأرسلوا إلى النبي ﷺ طالبين منه أن يخرج في ثلاثةٍ من أصحابه ليلتقي بثلاثةٍ من علمائهم ، زاعمين أنهم إن آمنوا به اتّبعوه ، ففعل فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر – مع أن النبي ﷺ عاهدَهم على غير ذلك – فأرسلت امراةٌ منهم إلى أخٍ أسلم تخبره بمكرِهِم ، فأخبر أخوها النبيَّ ﷺ قبل أن يصلَ إليهم ، فرجع وصبّحهم بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلّت إبِلُهم إلا السلاح ، فحملوا معهم حتى أبواب بيوتهم وخرّبوا منازلهم ![3]
وفي هذا النص ردٌ صريح على من زعم أن النبي ﷺ حاربهم وأخرجهم للاستيلاء على ممتلكاتهم لا لأنهم نقضوا العهد إذ لو كان هدفه ما قالوا لما ترك لهم إبلهم والحمْلَ الذي عليها !
بل ما قالوه يتعارض مع ما ورد في الأخبار الصحيحة في تعامل النبيِّ ﷺ مع اليهود !
مثلاً قصة جابر بن عبدالله رضي الله عنه مع اليهودي ، وقصة طعمة بن أبيرق ، وغيرها مما لا يَسعُ المقام ذكره وبسطه .
الثالثة:
من المعلوم أن النبيَّ ﷺ هُجِّر من مكة وآواه أهل المدينة وبايعوه، وتوالت الأحداث وحصل ما حصل مع ناقضي العهود – اليهود – وتم إجلاؤهم إلى خيبر ، ولا زالوا يريدون القضاء على النبيِّ ﷺ فاجتمع الأحزاب بعد أن ألّبهم حيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس متجهين للمدينة بعشرة آلاف محارب من شتى القبائل بقيادة أبي سفيان ، فشاور النبيُّ ﷺ أصحابه فأشار سلمان الفارسي بحفر خندق فبادر النبيُّ ﷺ وصحابته إلى ذلك وبينما هم خارج المدينة والعدو أمامَهم دخل حيي بن أخطب ليهود بني قريظة واستنقضهم العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ فنقضوه ! فعلِمَ الرسولُ ﷺ والصحابة بذلك ، واشتدَّ خوفهم على نسائهم وذراريهم ، أمامهم العدو وخلفهم الخونة لا يستطيعون الحراك ، ولن تجد أبلغ من وصف الله لحالهم: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجر} [4]
فأتى نصر الله لهم فشتّتَ شملَ الأحزاب ، فعاد النبيُّ ﷺ إلى يهود بني قريظة – خائنيْ العهد – فحكّموا سعيداً ، فأمر بقتل محاربيهم ، فقُتلوا وقُتِلَ معهم حيي بن أخطب وذلك جزاءُ الخونة المرجفين .[5]
الرابعة :
قُتِلَ حيي بن أخطب لتأليبه العرب على النبيِّ ﷺ ولكن بقي كنانة ابن أبي الحقيق وغيره ممن استنهضوا العرب لمحاصرة المدينة ، فتوجه النبيَّ ﷺ بعد الحديبية إلى مكانهم – خيبر – للفتح ، فنزل بين خيبر وقبيلة غطَفان التي كانت من ضمن الذين حاصروا المدينة يومئذٍ ، وبعد سلسلة من فتح الحصون طلبوا من رسول الله ﷺ مصالحته ، فاشترط عليهم أن لايكتموه شيئاً فقبِلوا – فسأل كنانةَ بن أبي الحقيق عن مال رأس الفتنة ابن أخطب – فزعم أنه قد أُنفق ، فدلَّ عمُّ حيي النبيَّ ﷺ على ماله ، فاجتمع على ابن أبي الحقيق خيانة العهد المدني ، وتأليب الأحزاب ، ونقضه للشرط ، فأمر بقتله ، وكانت زوجته صفية بنت حيي بن أخطب .[6]
الخامسة:
شبهة المبطلين حول زواج النبيِّ ﷺ من صفيّةَ رضي الله عنها قائمةٌ على ركنين :
ظلمها وعدم احترام مشاعرها ، وإرغامها على العيش معه سواءً كانت رقيقة أو زوجة.
دخوله بها قبل انتهاء العدة.
أما الأول فباطل وذلك يتبين من وجهين :
الوجه الأول: أقوالها.
الوجه الثاني : مقتضى حالها.
فمن أقوالها أنها ذكرت ما دار بينها وبين النبيِّ ﷺ بعد اجتماعهما ، وأنها رضيت بحكمه على أبيها وزوجها بعد أن ذكّرها بجرمهما[7] الذي كان نهايته بموتهما ، ولو كان خبر النبي ﷺ مخالف للواقع ما رضيت أبداً !
أما مقتضى الحال فقد خيَّرها مرتين ، وبإجماع المسلمين اختارته.
فالتخيير الأول كان بين الإسلام والزواج به أو العتق واللَّحاق بقومها.
أما الثاني فهو بين البقاء معه أو الانفصال عنه ، دلّ على الأول قول رسول الله ﷺ لها : اختاري ،
فإن اخترتِ الإسلام أمسكتُكِ لنفسي ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك ، فقالت: يا رسول الله لقد هويت الإسلامَ وصدَّقت بك قبل أن تدعوني [8]، ودلّ على الثاني قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جميلاً (٢٩) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فلو كان النبيُّ ﷺ كما يزعم المبطلون ما بقيت معه طرفة عين بعد التخيير ، والعجيب أنّي رأيتُ أحدَهم يقول: إقرارها بالبقاء معه كان سببه انعدام أهلها !
وهذا واضح البطلان حيث أن النبيَّ ﷺ صالَحَ قومَها ولم يُجْلِهم [9]، وعيشها بين قومها خيرٌ من العيش معه لو كان ظالماً لها ولقومِها .
بل على فرض انعدام قومها أليس الانفصال عنه والعيش في بيتٍ وحدها – داخل المدينة – خيرٌ من عيشها بين أذرعه على فراشٍ واحد ؟!!
إذ الناسُ لا يجالسون سيءَ الخُلُق فضلاً عن العيش مع من ظلمهم وسَفَكَ دماءهم !
فكان بقاؤها بعد التخيير مع مَن قتل أباها وزوجها مع وجود البديل فيه دلالة على كماله الخلْقي والخُلُقي وحبِّها له وعدله في حكمه على ذويها !
وياليت شعري كيف يكون مثيرُ هذه الشبهة أحرص من صفيةَ على نفسها وأهلها !
أما ركن الشبهة الثاني يردُّه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُ ﷺ خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا … .
رواه البخاري
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
( قوله ” حلَّت ” أي : طهرت من الحيض ) [10]
وعند مسلم عن أنس رضي الله عنه: ” ثم دفَعَها – أي صفية – إلى أم سليم تصنعها له وتهيؤها وتعتدّ في بيتها ” .
قال النووي – رحمه الله – :
أما قوله “(تعتدّ ” فمعناه : تستبرىء .. ) [11]
والحمدلله ربِّ العالمين .
[1] انظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم ( ٤٨٦٦ ).
[2] انظر : ما شاع في السيرة ولم يثبت ص١٠٠ .
[3] فقه السيرة النبوية / د. زيد الزيد -بتصرف-
[4] المرجع السابق – بتصرف –
[5] انظر : البداية والنهاية لابن كثير .
[6] انظر : زاد المعاد لابن القيم.
[7] حديث ابن حبان في ” صحيحه ”
( ١١/٦٠٧ ) ، وحسنه الألباني .
[8] الطبقات الكبرى (١٢٣/٨ ).
[9] انظر زاد المعاد لابن القيم : غزوة خيبر .
[10] فتح الباري ( ٤٨٠/٧ ).
[11] شرح مسلم ( ٢٢٢/٩ ).
ما هي أبرز الأدلة على صدق نبوة محمد عليه السلام؟
دلائل نبوة محمد ﷺ
أولا يجب التنبيه على قضية مهمة وهو أنه يكفي في تحقق صدق النبوة وإبطال الدعوى المنكرة لها إثبات تحقق النبوة في شخص واحد ( قاعدة منطقية : الكلية السالبة تنتقض بجزئية موجبة ).
س . كيف نثبت نبوة محمد ﷺ ؟
نثبت ذلك بالكشف عن الأدلة العقلية اليقينية الدالة على صدقه وأنه مرسل من عند الله تعالى .
وهذه الأدلة متنوعة وسنذكر منها ٦ أنواع .
النوع الأول : الكمال الشخصي والأخلاقي :
المراد به أن النبي ﷺ بلغ غاية ما يمكن أن يصل إليه النوع الإنساني من الكمال في جميع الأوصاف المتعلقة بالأشخاص، من جهة أنسابهم، أخلاقهم، سلوكهم وحياتهم.
فإن قيل : إن الكمال الإنساني والأخلاقي لا يستلزم النبوة، فقد وجد كثير من الناس يتصفون بصفات عالية، وأخلاق رفيعة جدا، ولم يقل أحد منهم إنه نبي، ولم يجعلهم أحد من الناس من الأنبياء ؟
هذا التساؤل مبني على سوء فهم لحقيقة هذا الدليل
فنحن لا نقول: إن الرسول ﷺ كامل في شخصه وأخلاقه ولأجل هذا فهو نبي .
وإنما نقول : إنه ادعى النبوة وهو كامل في شخصه وأخلاقه، وهو الصادق الأمين كما كان يلقبه قومه.
النوع الثاني : الكمال التشريعي :
المراد به أن التشريع الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أنه من عند الله بلغ الغاية في الكمال، والنهاية في الصلاح، والذروة في المحاسن والإتقان، بحيث أنه يبعد في العقل أن يكون صادرا من رجل واحد لم يتعلم الكتابة والقراءة ولم يُعرف بكثرة الأسفار والتجارة وإقامة العلاقات مع الثقافات الأخرى المختلفة.
فإذن هو من عند الله المتصف بالعلم الشامل والحكمة البالغة والرحمة الواسعة والعدل العام.
كمال دين الإسلام ومحاسنه الشاملة عامة في جميع مسائله ودلائله وفي أصوله وفروعه وفيما دل عليه الإسلام من العلوم والأحكام وفيما اشتمل عليه من جميع المجالات .
فإن قيل : كيف يتم إثبات كمال الإسلام ومحاسنه ؟
فنقول إن ذلك يتم بالعمل الاستقرائي الواسع وقد قام بذلك علماء الإسلام ومفكروه في القديم والحديث وأثبتوا أن دين الإسلام مبني على العقائد الصحيحة النافعة .
والاعتراض على كثير من التشريعات الإسلامية ونقدها من قبل المخالفين للإسلام لا ننكره، لكن نقول : مجرد الاعتراض لا يضر، لأن العبرة ليست بمجرد الدعوى وإنما العبرة بإقامة الاعتراض الصحيح المستقيم ، وهذا ما لم يفعله أحد حتى الآن .
النوع الثالث : التجرد الإصلاحي :
أي أن النبي ﷺ كان يفعل أفعالا أثناء مسيرته الدعوية الإصلاحية لا يفعلها إلا من يعتقد اعتقادا جازما أن الدعوة التي يقوم بها ليست لذاته ولا لمصلحته، ويتحرك في جميع أحوال دعوته وهو يعتقد بأنه ما هو إلا مبلغ لرسالته وبأنه يأوي إلى ركن شديد قادر على حمايته ونصرته وتأييده لتأديتها على الوجه المطلوب .
وسأذكر هنا بعض الشواهد على ذلك ، منها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقدم الأخبار الجازمة عن أحوال المخالفين له في المستقبل، وهذا الموقف لا يُقدم عليه كاذب وخاصة عند قدرة الخصم وحريته الكاملة في اختيار ما يخلف خبره وبالتالي التشكيك في الدعوة .
ومنها تحديه ﷺالجن والإنس على الإتيان بمثل هذا القرآن.
ومنها أنه ﷺ كان ينكر كل ما يعارض أصل دعوته من توحيد الله والعبودية له حتى لو كان في ذلك مصلحته كما حصل في قصة موت إبراهيم ولده ﷺ وما حدث من كسوف للشمس واعتقاد الناس أنها كسفت لأجل موت إبراهيم وكان بإمكانه خداعهم ( وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك ) ولن يعرف بذلك أحد.
وغيرها من الشواهد ومن أراد تتبعها فليتتبع سيرته ﷺ، ولن يصعب على طالب الحق إيجادها وفهم ما يجب أن يفهمه منها .
النوع الرابع : انخرام السنن الكونية بين يديه :
فإن النبي ﷺ كانت تقع بين يديه أحداث كثيرة خارقة للسنن الكونية، وخارجة عن مقدور الإنس والجن، ولا يستطيع فعلها أحد منهم. وهذا النوع من أشهر البراهين الدالة على نبوته ﷺ وأكثرها انتشارا بين الناس.
فإن قيل : ربما كان حدوثها مصادفة !
فنقول : ليست مصادفة لأنها لم تقع مرتين أو خمس ولكنها وقعت عشرات المرات فيبعد أن يكون ذلك وقع اتفاقا من غير قصد .
هذه الأخبار متواترة تواترا معنويا توصلنا إلى العلم اليقيني بوقوع أصل الانخرام للسنن الكونية، وثبوت هذه الأخبار بالتواتر المعنوي لا يختلف عن جميع الأخبار التاريخية بالطريقة نفسها، والتشكيك في تلك الأخبار بحجة أنها لم تثبت بالتواتر اللفظي مخالف لمسلك العلماء في هذا العلم، ويؤدي إلى إبطال كثير من الأحداث التاريخية التي لا يشك الناس في ثبوتها.
النوع الخامس : الإكثار من الإخبار بالغيوب الصادقة :
النبي ﷺأخبر عن أمور غيبية كثيرة ثم وقعت كما أخبر بصورة مطابقة، وهذا الصدق في الإخبار عن الغيوب خارج عن مقدور الإنس والجن معا، ولا يستطيع أحد أن يخبر بذلك الكم من الأخبار الغيبية ثم تكون كلها صادقة لا ينخرم منها خبر واحد، وهذه الأخبار قد بلغت العشرات بل المئات.
إذن الاطراد في الصدق مع الكثرة يؤكد أنه لم يأت بتلك الأخبار اتفاقا ومصادفة .
وقد عُلم من سيرته ﷺأنه كان عاجزا عن معرفة ما يدور بين الخصوم الذين يختصمون إليه، وأنه كان يخطئ في بعض ظنونه واجتهاده ولكنه لم يخطئ أبدا في المغيبات بل كان يعبر عنها بألفاظ جازمة صريحة، وكان يُقدم عليها من غير طلب ولا سؤال، وكل ذلك يقع من رجل أمي لم يُعرف بكثرة أسفاره أو سعة علاقاته مع الثقافات الأخرى، وكانت على كثرتها تقع كما أخبر بذلك ﷺ
النوع السادس : الإعجاز بالقرآن الكريم :
أي أنه ﷺحين ذكر أنه مرسل من عند الله إلى الناس جميعا جاء بكلام من جنس كلام الناس، وذكر أن الله أنزله إليه وجعله دليلا على صدقه وجعل من علامة ذلك أن لا أحد من الإنس أو الجن يستطيع أن يأت بمثل بلاغته وفصاحته وبيانه وإتقانه ومضمونه.
موت النبي عليه السلام مسموماً وعلاقته بالنبوة والعصمة
“انَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقبَلُ الهديَّةَ, ولا يأكلُ الصَّدقةَ, زادَ: فأهدت لهُ يهوديَّةٌ بخيبرَ شاةً مَصليَّةً سمَّتْها, فأكلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ منها, وأكلَ القومُ, فقالَ: ارفعوا أيديَكُم فإنَّها أخبرتني أنَّها مسمومةٌ, فماتَ بِشرُ بنُ البراءِ بنِ معرورٍ الأنصاريُّ, فأرسلَ إلى اليهوديَّةِ ما حملكِ على الَّذي صنعتِ؟ قالت: إن كنتَ نبيًّا لم يضرَّكَ الَّذي صنعتُ, وإن كنتَ ملِكًا أرحتُ النَّاسَ منكَ, فأمرَ بها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقُتلت, ثمَّ قالَ في وجعِهِ الَّذي ماتَ فيهِ: ما زلتُ أجدُ منَ الأُكْلَةِ الَّتي أكلتُ بخيبرَ, فهذا أوانُ قطعَت أبْهَري[1]
كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول في مرضهِ الذي مات فيه: يا عائشةُ، ما أزال أجدُ ألمَ الطعامِ الذي أكلتُ بخيبرَ، فهذا أوانُ وجدتُ انقطاعَ أبهرَي من ذلكِ السُمِّ[2]
تذكر هذه الأحاديث عادة عند الكلام عن نبوة النبي عليه السلام وعصمته وصدق نبوته ويستدل بها البعض لإنكار السنة أو إنكار النبوة أو غيرها من الأمور وهذه الأحاديث هي أهم ما ورد في باب حادثة السم وما يتعلق بوفاة النبي عليه السلام وأثر السم عليه وفيها عدة أمور ستهمنا في بحثنا هنا والذي سيكون في علاقة هذه الحادثة مع العصمة من جهة ومع ثبوت النبوة من جهة أخرى وقبل الدخول بالتفاصيل ما الذي يمكن أن نعرفه من خلال هذه الحادثة؟ -قد يظهر لك أن ما سأذكره بدهي- لكن في كثير من الأحيان يُغفل عن البدهي مع أن الحل فيه,
أولا: هذه حادثة أخذت من كتب المسلمين التي نقلت لنا حياة النبي عليه السلام
ثانياً: في الحديث أن النبي عليه السلام قال ” ارفعوا أيديكم فإنها –الشاة- أخبرتني أنها مسمومة”
ثالثاً: فيها أن بشر بن البراء الذي أكل منها قد توفي بسببها
رابعاً: أن المرأة اليهودية اعترفت بأنها وضعت السم بالفعل للنبيعليه السلام
خامساً: في الحديث إشارة إلى أن النبي عليه السلام ذكر السم عند موته, وهذه النقطة تحديداً لا يمكن الجزم من خلال مجموع الروايات أن النبي عليه السلام مات بأثر السم أم لا مع أن جمهور العلماء ذكروا أن وفاة النبي عليه السلام إنما كانت بأثر السم بناء على هذه الروايات وهذا هو الراجح إذا عند الجمهور وهو الذي سيبنى الكلام عليه في هذه المقالة ولكن يذكرون أيضاً أن أثر السم فوري في الأصل لكن النبي عليه السلام توفي بعده بثلاث سنوات وإن كان بأثره فالسم يظهر أثره مباشرة ولكن ما ظهر أثره على النبي عليه السلام إلا بعد ثلاث سنوات وهنا يرد إشكالين مشهورين , كيف يموت النبي عليه السلام مسموماً وهو المعصوم؟ ألا يدل موت النبي عليه السلام مسموماً على بطلان نبوته؟
السم وتعارضه مع العصمة:
يرى البعض أن هناك تعارضاً بين تعرض النبي عليه السلام للسم وبين عصمة النبي عليه السلام وحتى يتم الحكم هنا وتوضيح العلاقة بين الأمرين فلا بد أن نذكر أن النبي عليه السلام تعرض للأذى كغزوة أحد فقد شجت رباعيته على سبيل المثال وغيرها من الحوادث لتي يعرفها جل المسلمين, والتعرض للسم هو من جنس الأذى الذي يتعرض له الأنبياء فلا يوجد إشكال إذا فيه من حيث الأصل أي لا إشكال في تعرض النبي عليه السلام للأذى شرط أن لا يعارض أمرا يتعلق بثبوت النبوة وهنا مما قد يقال في السم أن النبي عليه السلام إنما توفي بسببه وهذا يعارض العصمة, وهذا الكلام ليس بصحيح إذ أن العصمة بأوسع تعاريفها تتعلق بثلاثة أمور: العصمة في التبليغ والعصمة من الوقوع في الكبائر والعصمة من الصغائر المشينة وتعرض النبي عليه السلام للأذى إذا ليس داخلا في أمر ممتنع اشتراكه مع النبوة وليس ذنباً ولم يؤثر على التبلليغ لأن وفاة النبي عليه السلام إنما كانت بعد تعرضه للسم بثلاثة سنوات وبعد انتهاء التبليغ واكتمال الرسالة, وبالتالي لا تعارض بين التعرض للسم وبين العصمة لأنه يبقى إذا من جنس الأذى الذي قد يتعرض له الأنبياء.
الموت بالسم ودلالته على بطلان النبوة
– الإنتقاء في الإستدلال: مشكلة منهجية
لا يخلوا المستدل بهذه الحادثة على إبطال النبوة إما أن يكون ربوبيا/ملحداً أو مؤمناً بدين آخر, فلو كان ربوبياً فهو يريد أن ينكر نبوة النبي عليه السلام فيبني دليله فيما وقفت عليه كالتالي:
1) ورد عن النبي عليه السلام انه مات مسموماً
2) هذا يدل على بطلان نبوته
وكما هو ظاهر فلا يوجد أي تلازم هنا بين موت النبي بالسم وبين بطلان النبوة لذلك يضع بعضهم مقدمة ثانية فيقول
مات النبي مسموماً والقرآن يقول ” وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ” فبما أن النبي عليه السلام توفي بالسم فهذا يعني أنه ليس نبياً, أو لأن النبي عليه السلام قال هذا أوان قطعت أبهري فهذا يعني أنه ليس نبيا وأن الله تعالى بناءً على القرآن أثبت عدم نبوته.
وللجواب على هذا السؤال نقول
الربوبي الباحث عن نبوة النبي عليه السلام فهو إنما يبحث في صدق النبي عليه السلام وفي ثبوت تأييد الله تعالى لنبيه من عدمه من خلال دراسة حياته, وبالتال لا بد إن كان يريد أن يكون منصفاً أن ينظر الى مجمل ما ثبت عن حياة النبي عليه السلام ثم يجمعه كله ويرى ما الذي يدل على نبوة النبي عليه السلام أو على عدم نبوته ثم يجمع بين هذا وهذا ويرى النتيجة, أما ما حدث في هذا الإستدلال فهو انتقاء استدلالي فج فبناء الدليل كله كان عن طريق أخذ حادثة واحدة من آلاف الحوادث التي حدثت مع النبي عليه السلام مع آية قرآنية من آلاف الآيات القرآنية, فعلى المستدل بها- إن كان باحثاً منصفاً- أن يجيب على الحوادث الكثيرة الأخرى الثابتة عن النبي عليه السلام كالمعجزات الحسية فمثلا: ” ((انشقَّ القمرُ على عهد رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقةٌ فوق الجبل وفرقةٌ دونه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اشهدوا))[3] ,, “كُنَّا نعدُّ الآيات بركة، وأَنْتُم تعدُّونها تخويفاً. كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماءٍ، فجاءوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأَدخل يده في الإناء ثم قال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من اللهِ عز وجل، فلقد رأيتُ الماءَ ينبع مِنْ بين أصابع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولقد كُنَّا نسمعُ تسبيح الطعام وهو يؤكل”[4]
واستجابة الدعاء أنَّ رجلًا دخلَ المسجدَ ورسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قائمٌ يخطُبُ ، فاستقبلَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ قائمًا وقالَ : يا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ هلَكَتِ الأموالُ ، وانقطَعتِ السُّبلُ ، فادعُ اللَّهَ أن يُغيثَنا ، فرفعَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يديهِ ثمَّ قالَ : اللَّهمَّ أغِثنا ، اللَّهمَّ أغِثنا ، قالَ أنسٌ : ولا واللَّهِ ما نَرى في السَّماءِ مِن سحابةٍ ولا قزعةٍ وما بينَنا وبينَ سلعٍ من بيتٍ ولا دارٍ ، فطلَعت سحابةٌ مثلُ التُّرسِ ، فلمَّا توسَّطتِ السَّماءَ انتشَرَت وأمطَرَت ، قالَ أنسٌ : ولا واللَّهِ ما رأَينا الشَّمسَ سبتًا ، قالَ : ثمَّ دخلَ رجلٌ من ذلِكَ البابِ في الجمعةِ المُقْبِلَةِ ورسولُ اللَّهِ قائمٌ يخطبُ ، فاستقبلَهُ قائمًا فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عليكَ ، هلَكَتِ الأموالُ ، وانقَطعتِ السُّبلُ ، فادعُ اللَّهَ أن يُمْسِكَها عنَّا ، فرفعَ رسولُ اللَّهِ يديهِ ، فقالَ : اللَّهمَّ حوالَينا ولا علَينا ، اللَّهمَّ على الآكامِ والظِّرابِ ، وبُطونِ الأوديةِ ، ومَنابتِ الشَّجرِ[5] ولولا عدم إرادة الإطالة لذكرنا العديد من الأمثلة والمراد هنا التنبيه لا أكثربالإضافة إلى االإتيان بقصص السابقين دون وجود مصدر بشري يكمن له أن يأتي منه ” تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ”[6]
وإعجاز القرآن الظاهر والحوادث التي تدل على صدق النبي عليه السلام مثل قول أعدائه أنه إنما كان رجلا صادقا بينهم لا يعرف عنه الكذب[7] , وهذه الأمور إنما تدل بشكل أساسي على تأييد الله تعالى لنبيه عليه السلام على مدى 23 سنة من النبوة وتدل على كمال صدق النبي عليه السلام وهي مذكورة هنا بشكل مجمل بكل تأكيد,بل وزيادة على ذلك إن أراد المستدل أن يستدل على بطلان النبوة من خلال هذه الحادثة على بطلان النبوة فسيجد في نفس الرواية دليلاً آخر على النبوة وصورته: أن الحادثة فيها
1) أن امرأة وضعت السم ولم تخبر أحداً بذلك
2) ثم أن النبي عليه السلام أكل منها مرة -قيل مضغها ولم يبلعها-
3) فأخبرته الشاة أنها مسمومة فأخبر أصحابه.
فالسؤال هنا من أين علم النبي عليه السلام ذلك؟ وهل هناك شاة تتكلم بالعادة؟ أم أن هذه معجزة من حيث هي دالة على نبوته عليه السلام؟ فلا يوجد هنا مصدر بشري يمكن ان يخبر النبي عليه السلام أن الشاة مسمومة إلا الله تعالى سواء كان عن طريق الوحي أو عن طريق الشاة هنا, فتكون الرواية نفسها فيها دليل على النبوة ولا يجوز للمعترض عقلا ومنهجيا أن يتجاوز عن ما ذكر من أدلة كالمعجزات الحسية وإعجاز القرآن والأخبار الغيبية ويقول أنها أخبار مسلمين مثلا فلا أصدقها! لأنه إنما أقام استدلاله بناء على خبر من الأخبار التي وردت عن النبي عليه السلام فعليه إذا أن يقبل بباقي الأخبار إذ أن البحث في النبوة يكون من خلال دراسة حياة النبي لا أخذ موقف أو موقفين أو ثلاثة يرى فيها الناظر أنهم أدلة على بطلان النبوة ثم هو ترك مئات المواقف الأخرى التي تثبت قطعا صدق النبي عليه السلام وتأييد الله تعالى له, فهو إن فعل ذلك أي قبل بالأخبار التي تدل عنده مثلا على بطلان النبوة وترك الأدلة الأخرى فكأنه في هذه الحالة يقول: سأنظر في سيرة النبي وسأختار كل ما يمكن أن يدل على بطلان نبوته ثم أخرجها وأبطل النبوة, فهو إذا وضع نتيجته “إبطال النبوة” قبل البحث أصلا وهذا خلل منهجي, أما من خلال النظر الى حياة النبي عليه السلام فتثبت النبوة بباقي ما ورد عن النبي عليه االسلام من الأدلة المذكورة مجملا سابقاً بل وبما ورد في نفس الرواية المستدل بها ثم ننظر: هل وفاة النبي عليه السلام من أثر السم تدل على عدم ثبوت النبوة لأن موت النبي بسبب شخص آخر يعني أنه ليس نبياً؟
اقرأ معي هذه الآيات
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[8]
[9] (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق)
(أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[10]
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ)[11]
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلً)[12]
وغيرها الكثير من الآيات التي تحمل نفس المعنى “ويقتلون النبيين” ووجه الإستدلال منها ظاهر ففيها أن الأقوام قتلوا أنبياءهم دون أن يكون هذا مشكلا على نبوتهم, فلم يكن القرآن يتكلم إذاً أن مجرد قتل النبي من قومه يدل على بطلان نبوته بل تكرر كثيرا كما هو ظاهر أن هناك الكثير من الأنبياء قتلوا من أقوامهم وكل ما في الأمر كما ذكرنا سابقاً أن القتل للأنبياء لا يكون إلا بعد تبليغهم لدعوة الله تعالى ولا يمكن أن يحدث القتل قبل ذلك ولذلك لم يمت عليه السلام من أثر السم مباشرة مع أن هذا هو الأصل بل بعد ثلاثة سنوات وحماه الله تعالى قبل ذلك من أكثر من حادثة كان يمكن أن يقتل بها ونذكر مثالاً
قال أبو جهل: يُعفِّر محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ -يقصد: يُصلِّي ويسجد- فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته لأطأنَّ على رقبته ولأُعفرنَّ وجهه، فأتى رسول الله وهو يُصلي -زعم ليطأ رقبته- فما فجأهم إلَّا وهو ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إنَّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهوْلًا وأجنحة، فقال رسول الله: [13]«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا
وكذلك يستدل بحادثة الشاة المسومة إذ أن النبي عليه السلام ظل حياً ثلاث سنوات بعدها على عكس من أكل منها.
أما ما ورد في قطع وتين – موت – النبي الكاذب فهو يدل على أن كل نبي كاذب لا بد أن يُظهر كذبه للناس ولا تظهر نبوته ولا يعني هذا أن النبي الصادق لا يقتل أي أنه يلزم لكل نبي كاذب أن يظهر الله تعالى بطلان نبوته وقد يكون هذا بوفاته قبل إتمام رسالته ولا يلزم من هذا أن النبي الذي يقتل كاذب بالضرورة, بل قد يقتل كما تواتر في القرآن ولكن هذا يكون بعد أن أوصل الرسالة المطلوبة وهذا هو الحد المهم: وصول الرسالة للناس ثم مصير هذه الرسالة ومصير النبي المبعوث بها يختلف باختلاف الأحوال
يقول ابن كثير في تفسير الآية “وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ“
أَيْ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ مُفْتَرِيًا عَلَيْنَا فَزَادَ فِي الرِّسَالَة أَوْ نَقَصَ مِنْهَا أَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ عِنْده فَنَسَبَهُ إِلَيْنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَعَاجَلْنَاهُ بِالْعُقُوبَةِ, ويجيبك قوله “لعاجلناه بالعقوبة” على المفهوم الظاهر من الآية التي نزلت في مكة في بدايات الدعوة إذ أن كل مسلم يعرف أن نهاية حياة النبي عليه السلام ستكون بوفاته! سواء كان هذا بالسم أو بغيره فلا عجب من وفاته فليس المقصود من الآية أن النبي عليه السلام لن يموت بل “إنك ميت وإنهم ميتون” فلماذا العجب من أنه توفي عليه السلام أياً كان سبب وفاته؟
وهذا جواب شامل لمن كان ربوبيا ويريد الإستدلال بالحادثة على بطلان النبوة أما إن كان المستدل بالحادثة من دينٍ آخر كالنصرانية أو غيرها فالأمر معه قريب من الربوبي فهو يستدل بما ورد من حياة النبي عليه السلام ليبين عدم نبوته لكنه مطالب في البداية أن يثبت صحة دينه وإن كان دينه خبرياً أي يعتمد على كتب سابقة كاليهودية والنصرانية فعليه أن يثبت ثبوت هذه الكتب ثم يثبت أن هذه الحادثة تدل بالفعل على بطلان نبوة النبي عليه السلام,أي أن إثبات صحة دينه سابق على إثبات بطلان نبوة النبي عليه السلام من خلال هذه الحادثة وكما بينا فيما سبق فالحادثة نفسها لا تدل على بطلان النبوة في الأصل -وهذا الوجه الرئيسي في جواب المخالف-, ومن جهة أخرى فإن كان المجادل نصرانيا او يهوديا على سبيل المثال فعليه أيضاً أن يقبل بما ورد عن باقي حياة النبي عليه السلام كما لزم غيره لأنه إن اعتمد على ما ثبت عنده تاريخيا فثبوت ما ورد عن النبي عليه السلام أعلى وأوثق أي أن إثباته لصحة ما في لكتاب المقدس مثلا يلزم منه أن يثبت ما ورد في سيرة النبي عليه السلام الصحيحة لأن درجة وثوقية السيرة النبوية أعلى من وثوقية الكتاب المقدس فضلا عما ما في الكتاب المقدس من حوادث سيئة حصلت مع الأنبياء ليس هدف المقال الدخول في تفاصيلها تبين لك أن حادثة كهذه لا يمكن من خلالها إبطال النبوة عند اليهود والنصارى.
السم والعهد القديم
وهنا نقطة أخيرة يستدل بها البعض أنه ورد في الكتاب المقدس “وأما النبي الذي يتجبر فينطق باسمي بما لم آمره أن يتكلم به، أو يتنبأ باسم آلهة أخرى، فإنه حتما يموت”[14]
ونقاش مثل هذا الإستدلال يكون تسليماً في البداية بصحة الكتاب المقدس فإن قبل تنزلاً فليس فيما ورد ما يدل على بطلان نبوة النبي عليه السلام إذ أنه لم يقل أحد مثلا أن النبي الصادق لا يموت وليس هذا هو مقصود النص هنا قطعاً بالتالي لا دلالة فيه على إبطال النبوة.
وتلخيصاً لما ذكر:
1) لا تعارض بين السم والعصمة لأن العصمة إنما تكون في التبليغ والكبائر والصغائر المشينة والوفاة من السم لم تعارض أس شيء من هذا
2) لا دلالة في الحادثة على بطلان النبوة لأن النبي عليه السلام أكمل الرسالة ثم توفي عليه السلام
3) لا بد من قراءة مجمل السيرة عند الكلام عن النبوة لا انتقاء أمور معينة فقط تخدم وجهة نظر الباحث دون التعرض لما ينقضها من نفس المصدر
[1] سنن أبي داود 4512
[2] صحيح البخاري 4428
[3]البخاري 4868ا
[4] البخاري 3597
[5] 1517 صحيح النسائي
[6] هود 49
[7] صحيح البخاري 7,صحيح ابن حبان 6550
[8] آل عمران 21
[9] البقرة 61
[10] البقرة 87
[11] المائدة 70
[12] النساء 155
[13] صحيح مسلم 2797
[14] التثنية 20:18
هل ظلم النبي عائشة بزواجهما ؟
السؤال:
يثير المشككون في الإسلام قضية زواج النبي الطاهر النقي محمد -ﷺ- بعائشة، ويستنكرون صغر سنها وقت زواجه بها، ويطعنون عليه بسبب ذلك.
الجواب:
أولاً: إن أسعد الناس بهذا الزواج هي عائشة رضي الله عنها، وقصص الألفة والمحبة بينها وبين النبي ﷺ أفضل نموذج للاقتداء، وبالتالي؛ فالمحذور الذي يُخشى من الزواج بالصغيرة من تضررها جسديّاً أو نفسيّاً لم يكن في هذا الزواج المبارك.
ثانيًا: قبول النفوس للزواج في هذه السن أو استنكارها إنما هو عائد للأعراف لا للحقيقة في ذاتها؛ وإلا فلو كان هناك أي غضاضة في هذا الأمر لكان أول من استنكره كفار قريش واليهود والمنافقون الذين لا يفوّتون فرصة للطعن بالنبي ﷺ فهم لم يألوا جهداً في الطعن به ﷺ عن طريق عائشة في حادثة الإفك!.
وقد ذكر الله في القرآن الطعونات التي وجهها الكفار والمنافقون للرسول ﷺ في آيات كثيرة، فقالوا عنه: ساحر، وشاعر، وكاهن، وأنه يستعين بأقوام آخرين، وأنه إنما يعلمه بشر، وذكر الله استنكارهم أكله الطعام ومشيه في الأسواق، وأنه أُذُن، وغير ذلك، ولم يذكر منها طعنهم عليه في هذا الزواج، كما أن السُّنَّة والأخبار لم تنقل لنا شيئاً من ذلك، مع نقلها لكثير مما أثاروه على النبي ﷺ .
ثالثًا: قد تبلغ المرأة عند التاسعة، ومعنى بلوغها أنها قادرة على الحمل والوضع، ولو كانت القضية مجرد زواج صغيرة لبنى بها النبي ﷺ منذ عقد عليها وهي ابنة ست، ولكنه انتظرها ثلاث سنوات حتى تهيأت وصلحت للزواج. كما أن العالم الغربي إلى فترة قريبة كانوا يزوجون البنات في سنّ يعتبرونها الآن مخالفة للقانون والذوق!
ومن المفارقة أن العلاقات الجنسية دون سن الزواج القانوني، لا تحظى بمحاربة إعلامية عندهم كالزواج! بل هي مشروعة بالقانون في سنّ مبكرة على حسب الدولة أو الولاية، والبعض لا يطمئنّ إلا حين تخبرهم بأن سنِّ الزواج في عدد من الدول الغربية كان مسموحاً من الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة، ووجه الاطمئنان أن ضغط التأثير الغربي عند البعض جعله في نفسه ميزاناً للمنكر والمعروف، ولسنا بحاجة لهذا كله في الحقيقة، غير أن تنويع الحجة جيد لتفاوت إيمان
الناس وأفهامهم.
وختاماً؛ فإن هناك من يحاول الدفاع عن رسول الله ﷺ بإنكار حديث عائشة المتفق عليه في بيان سن زواجها، ويستدلون ـ بعد إنكارهم للنص في المسألة ـ ببعض الأخبار والروايات التي فهموا منها أن زواجها كان في سن الثامنة عشرة أو قريباً من ذلك، وقد ناقشتُ عدداً من الإشكالات المثارة في هذا الموضوع في مقطع بعنوان «مناقشة رأي د. عدنان إبراهيم في «سنّ عائشة عند الزواج»» وخير من هذا المقال وأوسع، كتاب «السنا الوهاج في سن عائشة عند الزواج» لفهد الغفيلي.
وقد قدّم الأستاذ حسام عبد العزيز ثلاث حلقات عبر (يوتيوب) تحت برنامج (بالعقل) عن سن عائشة عند الزواج، وهي جميلة وممتعة ومفيدة، وتصلح للنشر.
هلْ همَّ النبيُّ ﷺ بالانتحارِ؟
الحمدُ للَّهِ وكفى والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى النَّبيِّ المصطفى وبعدُ:
لمّا كانتْ أدلَّةُ نبوَّةِ محمَّدٍ ﷺ براهينَ واضحاتٍ -لا ينكرهَا إلَّا مكابرٌ أوْ معاندٌ- استحالَ علَى المشككينَ إبطالُها؛ فَنَبَشَتِ الأقلامُ المَوْتُورَةُ بدلًا منْ ذلكَ فِي الأخبارِ بحثًا عنْ أيِّ روايةٍ يُتَوَهَّمُ منهَا النَّقضُ لنبوَّتِهِ ﷺ ليُشكِّكوا بهِ النَّاسَ، وقدْ أُتُوا غالبًا منْ قِبَلِ أحدِ أمرَينِ:
الْأَوَّلُ: عَدَمُ التَّحَقُّقِ مِنْ صِحَّةِ أَخْبَارٍ، فَأَخَذُوا يَحْتَجُّونَ بِكُلِّ مَا تَلَقَّفَتْهُ أَيْديهِم دُونَ نَظَرٍ وَتَحْقِيقٍ.
الثَّانِي: عَدَمُ التَّحَقُّقِ مِنْ وُجُودِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَاَلْمَدْلولِ، فِيأتُوا بِخَبَرٍ سَنَدُهُ صَحِيحٌ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى أَمْرٍ لَا تُوجَدُ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ فِي الْخَبَرِ.
وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ بِسَرْدِها وَلَكِنْ أَشَرْنَا لِأُصُولِ خطئهِمْ حَتَّى يَتَنَبَّهَ كُلُّ طَالِبٍ لِلْحَقِّ وَيَفْحَصَ بِنَفْسِهِ كُلَّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يُنَاقِضُ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَذَلِكَ بِالتَّأَكُّدِ مِنْ صِحَّةِ الْخَبَرِ أَوَّلاً ثُمَّ التَّأَكُّدِ أَنَّ فِي الْخَبَرِ نَاقِضٌ صَحِيحٌ لِلنُّبُوَّةِ وَلَيْسَ أَمْرَاً تَخَيَّلَهُ مُثِيرِي الشُّبُهَاتِ، وَليسْتصْحِبِ الْإِنْسَانُ دَائِمًا أَنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، فَمَنْ قَامَتْ عَلَى نُبُوَّتِهِ الْأَدِلَّةُ اليَقينيَّةُ المُتَوَاتِرَةُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيه ضِدَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الوَقْتِ.
والإِجَابَةُ عَلَى السُّؤَالِ الْوَارِدِ فِي عُنْوَانِ المقَالَةِ تَطْبِيقٌ عَلَى هَذَا، فَاَلبِدايَةُ بِسُؤَالٍ يُثِيرُهُ مَنْ لَا دِرَايَةَ لَهُ بأسلُوبِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ رحمهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ فيَقُولُ: (كيفَ يُحَاوِلُ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ الانتحارَ لمَّا فَتَرَ عنهُ الوَحيُ، أليسَ ذلكَ دليلٌ عَلَى تَشَكُّكِهِ فِي الوَحيِ الذِي جاءهُ وأنَّهُ ليسَ نَبِيًّا حَقًّا؟، وَقَدْ جَاءَ الخَبَرُ بذَلِكَ فِي أَصَحَّ كُتُبِ الحَدِيثِ وَهُوَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ).
فنقُولُ: نعمْ؛ الخَبَرُ جَاءَ فِي أَحَدِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ بَدْءِ الوَحْيِ فِي كِتَابِ التَّعبيرِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وفِيه:
وحدَّثَنِي عبدُ اللَّهِ بنُ محمَّدٍ، حدَّثنَا عبدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، قالَ الزُّهْرِيُّ: فأخبرَني عُرْوَةٌ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالْتْ: أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ الوَحيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّومِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ …… وفَتَرَ الوَحيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزْنَ النَّبِيِّ ﷺ -فِيمَا بَلَغَنَا- حُزْنًا غَدا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَّواهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بذروةِ جَبَلٍ لكيْ يلقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لهُ جِبرِيلُ، فقالَ: يا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فِيسْكُنُ لِذَلِكَ جأشهُ، وَتَقَرُّ نفسَهُ فِيرجِعُ، فَإِذَا طَالتْ عليهِ فَتْرَةُ الوَحيِ غَدا لمثلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بذروةِ جبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ).
لَكِنَّ الادعاءَ المذكُورَ فِي آخرِ هذَا الخبَرِ ليسَ منْ كلامِ عائشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهَا بلْ هوَ بلاغٌ منْ بلاغاتِ الزُّهْرِيِّ، ومعنَى البلاغِ: أنْ يرويَ الرَّاوِي حِكَايَةً بِلَا إِسْنَادٍ، فيقُولَ مَثَلًا: بلغَنِي أنَّ رسُولَ اللَّهِ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فيكُونُ السُّؤَالُ البديهِيُّ: “منْ أبلغكَ؟” وتزدَادُ البلاغَاتُ ضعفاً كلمَا بَعُدَ المُبَلِّغُ عنْ رسولِ اللَّهِ ﷺ، والزُّهريُّ مِنْ صغارِ التَّابعينَ لمْ يُدْرِكْ حَيَاةَ النَّبِيِّ ﷺ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُوَ أَنَّ أَحَداً مِنْ الصَّحَابَةِ حَدَّثَهُ بِذَلِكَ، بَلْ نَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَلَاغًا وَلَيْسَ كَلَاماً مُسْنَدًا مِنْ أَصْلِ الحَدِيثِ، فَنَجِدُ فِي هَذَا الخَبَرِ (وَفَتَرَ الوَحيَ فَتْرَةً حَتَّى حزِنَ النَّبِيُّ ﷺ -فِيمَا بَلَغَنَا- حُزْناً …) فَقَدْ صَرَّحَ الزُّهْرِيُّ بِكَلِمَةِ (فِيمَا بَلَغَنَا)، فَهَذَا الجُزْءُ لَيْسَ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بَلَغَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدَهُ.
إِنَّ شُرُوطَ قَبُولِ الحَدِيثِ أَنْ يَكونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلاً بِرِوَايَةِ العُدُولِ الضابِطينَ وَلَا يَكونَ شَاذَّاً وَلَا مُعَلَّلاً، وَالبَلَاغَاتُ خَلَتْ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ فَلَمْ يَتَّصِلْ إِسْنَادُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ حَالَ رُوَاتِهَا مِنْ العَدَالَةِ وَالضَّبْطِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البَارِي شَرْحُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: “القَائِلُ: (فِيمَا بَلَغْنَا) هُوَ الزُّهْرِيُّ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مِنْ بَلَاغَاتِ الزُّهْرِيِّ، وَلَيْسَ مَوْصُولًا”. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ المَقْدِسِيُّ فِي شَرْحِ الحَدِيثِ المُقْتَفَى فِي مَبْعَثِ النَّبِيِّ المُصْطَفَى: (هَذَا مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، غَيْرُ عَائِشَةَ، واللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِقَوْلِهِ: “فِيمَا بَلَغْنَا”، وَلَمْ تَقُلْ عَائِشَةُ فِي شَيءٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ذَلِكَ).
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الحَدِيثِ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِ الإِمَامِ الزُّهْرِيِّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ رَدِّ بَلاغاتِهِ لِأَنَّهَا خَلْتْ مِنْ شَرْطِ اتِّصَالِ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُقِيمُوا لَهَا أَيَّ اعْتِبَارٍ. يَقُولُ الإِمَامُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ (تُوُفِّيَ ١٩٨ هـ): (مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ شَرٌّ مِنْ مُرْسَلِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حَافِظٌ كُلَّمَا قدرَ أَنْ يُسَمِّيَ سَمَّى، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ منْ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يُسَمِّيَهُ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (إِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ -عِنْدَنَا- لَيْسَ بِشَيْءٍ)، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ معَينٍ: (مَرَاسِيلُ الزُّهْرِيِّ ليستْ بِشَيْءٍ).
فَهَذَا الجُزْءُ مِنَ الرِّوَايَةِ لَيْسَ مُسْنَداً فَلَا يَكونُ مِنْ شَرْطِ البُخَارِيِّ، وَصَحِيحُ البُخَارِيِّ بِهِ الكَثِيرُ مِنَ الأَحَادِيثِ المُعَلّقَةِ التِي ليستْ عَلَى شَرْطِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْفَى عَلَى منْ قَرَأَ صَحِيحَ البُخَارِيِّ فَالمَقْصُودُ بِالأَحَادِيثِ التِي خَرَّجَهَا البُخَارِيُّ هِيَ الأَحَادِيثُ المُسْنَدَةُ لَا غَيْرُ، فَالأَحَادِيثُ التِي تَلَقَّتْهَا الأُمَّةُ بِالقَبُولِ هِيَ المَوصُولَةُ التِي عَلَى شَرْطِهِ.
قَالَ الإِمَامُ السَّخاويُّ: “تأييدُ حَمْلِ قَوْلِ البُخَارِيِّ: مَا أَدْخَلْتَ فِي كِتابي إِلَّا مَا صَحَّ، عَلَى مَقْصُودِهِ بِهِ وَهُوَ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ المُسْنَدَةُ، دُونَ اَلتَعاليقِ وَالآثَارِ المَوْقُوفَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ فَمَن بَعْدَهُمْ، وَالأَحَادِيثِ المُتَرْجَمِ بِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ”.
وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ أصلَ هَذَا الحَدِيثِ -حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى لحُفَّاظٍ غَيْرِ مَعْمَرِ (رَاوِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ) وَهُمْ: عَقِيلٌ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدٍ الأَيْلِيُّ وَهُمَا مِنْ كِبَارِ الحُفَّاظِ المُكْثرينَ لِلرِّوَايَةِ عَنِ الإِمَامِ الزُّهْرِيِّ وَلَا نَجِدُ وَاحِداً مِنْهُمْ رَوَى تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ مُنْفَرِدًا، فَكَيْفَ تُقْبَلُ وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا بَلَاغٌ وَلَيستْ مِنْ أَصْلِ الحَدِيث؟!.
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثاً عَنْ بَدْءِ الوَحيِ غَيْرَ حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَهُوَ حَدِيثٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ تَحَدَّثَ فِيه النَّبِيُّ ﷺ بِنَفْسِهِ عَنْ فَتْرَةِ الوَحيِ وَفِيهِ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيْلٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعُتْ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحيِ: فَبَيْنا أَنَا أَمْشي سَمِعُتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَري قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الذِي جَاءَنِي بِحِراءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرضِ، فَجِئْتُ أهلِي فَقُلُتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزْمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاهْجُرْ}، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: {وَالرُّجْزَ} الأَوْثَانُ، ثُمَّ حَمِيَ الوَحيُ وَتَتَابَعَ .
فَنَجِدُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي كَلَامِهِ ﷺ كَلِمَةً وَاحِدَةً تُشْعِرُ بِمَا جَاءَ فِي هَذَا البَلَاغِ الضَّعِيفِ مِنْ مُحَاوَلَةِ التَّرَدِّي مِنْ رُؤُوسِ الجِبَالِ، وَلَوْ حَتَّى مُجَرَّدَ حُزْنٍ لَحِقَ بِهِ تَأَسُّفاً في هَذِهِ الفَتْرَةِ.
نَجِدُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عِلَّتَيْنِ: الأُولَى: أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مُعْضَلَةٌ؛ فَإِنَّ القَائِلَ: (فِيمَا بَلَغَنَا) إِنَّمَا هُوَ الزُّهْرِيُّ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالأُخْرَى: تَفَرَّدُ مَعْمَرٍ بِهَا دُونَ يُونُسَ وَعَقِيلٍ؛ فَهِيَ شَاذَّةٌ.
الآنَ وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالاً لِلشَّكِّ أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ لَيستْ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُجِيبَ عَنْ سُؤَالٍ: هَلْ وَرَدْتْ هَذِهِ القِصَّةُ فِي أَيِّ كِتَابٍ آخَرَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ؟
وَالإِجَابَةُ هِيَ لَا، القِصَّةُ وَرَدتْ بِأَسَانِيدَ أُخْرَى وَلَكِنْ كُلهَا أَسَانِيدُ وَاهِيَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَهَا الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
أَمَّا رِوَايَةُ الإِمَامِ الطَّبَرِيِّ فِي تَارِيخِهِ فَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ لَيسَ صَحَابِيَّاً، إِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ فَهِيَ مُنْقَطِعَةُ الإِسنَادِ، كَمَا أَنَّ فِي السَّنَدِ رَاوِيَانِ مُتَكَلَّمٌ فِيهما: سَلَمَةُ بْنُ فَضْلٍ الأَبْرَشُ؛ قَالَ عَنْهُ البُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ بَعْضُ المنَاكِيرِ، وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: (صَدُوقُ كَثِيرُ الخَطَأِ)، وابْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ؛ قَالَ عَنْهُ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ السَّدوسِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ كَثِيرُ المَنَاكِيرِ، وَفِيه أَيْضاً قَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ جَاءَتْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الوَاقِدِي، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الجرحِ وَالتَّعْدِيلِ أَنَّ الوَاقِدِيَّ مَترُوكُ الحَدِيثِ، فَقَدْ قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْهُ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ: (مَتْرُوكُ الحَدِيثِ)، وَقَالَ عَنْهُ يَحْيَى ابْنُ مَعِينٍ: (لَيْسَ بِشَيْءٍ)، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: (مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الوَاقِدِيُّ مَتْرُوكُ الحَدِيثِ)، وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَسْلَمِيِّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ أَيْضاً مِثْلَ الوَاقِدِيِّ أَوْ أَشَدُّ؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ: “سَأَلُتُ مَالِكاً عَنْهُ أَكَانَ ثِقَةً؟ قَالَ: لَا وَلَا ثِقَةَ فِي دِينِهِ”، قَالَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: “كَذَّابٌ”.
يَتَّضِحُ بِذَلِكَ أَنَّ رِوَايَةَ هَمِّ النَّبِيِّ ﷺ بِالانتحارِ لَمْ تَصِحّ، وَالزِّيَادَةُ اَلَّتِي فِي البُخَارِيِّ لَيستْ عَلَى شَرْطِهِ فَلَا تُنْسَبُ لِلصَّحِيحِ، وَقَدْ أَثْبَتَهَا البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ لَا غَيْرِهِ، فَهِيَ بَلَاغٌ مَقْطُوعُ الإِسْنَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَالَ رِوَايَاتِ الحَدِيثِ الأُخْرَى، وَكُلُّهَا يُؤَكِّدُ عَدَمَ صِحَّةِ سَنَدِ هَذِهِ القِصَّةِ.
أَمَّا إِذَا تَفَحَّصْنَا مَتْنَهَا فَنَجِدُ فِيه أُمُورًا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا، يَقُولُ الدُّكْتُورُ أَبُو شَهْبَةٍ: (وَلَيْسَ أَدَلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَتَهافُتِها مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ كُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقَّاَ»، وَأَنَّهُ كَرَّرَ ذَلِكَ مِرَاراً، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً تَكْفِي فِي تَثْبِيتِ النَّبِيِّ وَصَرْفِهُ عَمَّا حَدَّثَتْهُ بِهِ نَفْسُهُ كَمَا زَعَمُوا)، وَيَقُولُ الدُّكْتُورُ عِمَادُ الشربِينِي: (إِذَا تَفَحَّصْنَا مَتْنَ الرِّوَايَةِ فَنَجِدُ أَنَّهُ يَتَعَارَضُ مَعَ مَا يَجِبُ أَنْ يَكونَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ رُسُوخِ اَلْإِيمَانِ بِنُبوَّتِهِ، وَكَمَالِ الْيَقِينِ بِرِسَالَتِهِ، فَالنَّبيُّ ﷺ -كَمَا تُصَرِّحُ بِهِ عِبَارَةُ هَذَا الْبَلَاغِ– لَمْ يَكَدْ يَسْكُنُ جَأْشُهُ لِتَبَدِّي جِبْرِيلَ لَهُ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا حَتَّى يَعُودَ إِلَى عَزِيمَتِهِ فِي إِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فِيتَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَقُولُ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَأَيْنَ سُكُونُ جَأْشِهِ الذِي أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ تَبَدِّي جِبْرِيلَ لَهُ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقَّاً؟ .
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا البَلَاغُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: ظَاهِرُ مَحْسُوسٌ، يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهُ، ثانيهمَا: بَاطِنٌ مَحْجُوبٌ فِي دَاخِلِ النَّفْسِ، لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إِلَّا بِإِخْبَارِ صَاحِبِهِ الذِي دَارَ في نَفْسِهِ بِنَقْلٍ ثَابِتٍ عَنْهُ.
فَذَهابُ النَّبيِّ ﷺ إِلَى أَعَالِي الجِبَالِ وَشَواهِقِها التِي أَلِفَ الصُّعُودَ إِلَيْهَا فِي خَلَوَاتِهِ لِلتَّفَكُّرِ فِي عَجَائِبِ آيَاتِ اللَّهِ الكَوْنِيَّةِ، وَبَدائِعِ مَلَكُوتِهِ، أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، يُمْكِنُ الحُكْمُ عَلَيْهِ بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ النَّبيِّ ﷺ قَدْ حَزِنَ فِي فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَكَانَ يَغْدو مِنْهُ إِلَى ذرَا الجِبَالِ التِي كَانتْ مَأْنَسَ رُوحِهُ، تَطَلُّعاً لِلِقَاءِ أَمِينِ الوَحْيِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الذَّى سَبَقَ لَهُ أَنْ تَجَلَّى فِي آفَاقِهَا .
أَمَّا كَوْنُ هَذَا الذَّهَابِ إِلَى ذُرَا شَواهِقِ الجِبَالِ لِقَصْدِ اَلتَرَدِّي مِنْهَا لِيَقتُلَ نَفْسَهُ –كَمَا هُوَ نَصُّ عِبَارَةِ البَلَاغِ الضَّعِيفِ– أَمْرٌ بَاطِنٌ مَحْجُوبٌ، لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَلَامَ الْغُيُوبِ وَإِلَّا صَاحِبُهِ الذِي دَارَ فِي نَفْسِهِ وَعَزَمَ عَلَى تَحْقِيقِهِ وَإِلَّا مِنْ يُخْبِرُهُ صَاحِبُهِ بِهِ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ حَتَّى فِي ذَلِكَ الْأَثَرِ الضَّعِيفِ فَهُوَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ تَصْرِيحُهِ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ فكرَ أَوْ هَمَّ بِشيءٍ مِنْ ذَلِكَ .
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَشُكَّ لِلَحْظَةٍ فِي كَوْنِهِ نَبِيّاً، فَقَدْ ثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى قَلْبَهُ بِالوَحْيِ، وَمَا وَجَدَهُ مِنَ الرَّهْبَةِ -لَا الشَّكِّ- مِنْ نُزُولِ الوَحْيِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَبِسَبَبِ بَشَرِيَّتِهِ وَشِدَّةِ الوَحْيِ.
بَقِيَ أَنْ نُجِيبَ عَنْ سُؤَالِ هَلْ أَخْطَأَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ بِإيرادِهِ ذَلِكَ البَلَاغَ عَلَى مَا فِيه مِنِ انْقِطَاعِ السَّنَدِ وَنَكارَةِ المتْنِ؟
لَا لَمْ يُخْطِئ البُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ إِيرَادَهُ ذَلِكَ البَلَاغَ كَانَ مِنْ تَمَامِ الرِّوَايَةِ، فَقَدْ رَوَاهَا كَمَا جَاءَتْهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ أَنَّهَا لَيستْ مَوْصُولَةً.
وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ حَدِيثَ بَدْءِ الوَحْيِ فِي صَحِيحِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ مِنْ طَرِيقِ عَقِيلٍ وَيُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهُمَا مِنْ كِبَارِ الحُفَّاظِ المُكْثرينَ لِلرِّوَايَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ خَلَتْ رِوَايَاتُهُمْ عَنْ هَذَا البَلَاغِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ حَدِيثَ جَابِرٍ عَنْ بَدْءِ الوَحْيِ اَلذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَقَدْ خَلا أَيْضًا عَنْ أَيِّ إِشَارَةٍ إِلَى هَذَا المَوْضُوعِ، وَقَدْ فَهِمَ العُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ هَذَا الْجُزْءِ وَيُثْبِتُ كَوْنَهُ بَلَاغًا حَتَّى لَا يُخْطِئَ أَحَدٌ وَيَجْعَلَهُ مِنْ أَصْلِ الحَدِيثِ كَمَا وَقَعَ لِلبَعْضِ .
قَالَ الدُّكْتُورُ أَبُو شَهْبَةٍ: (لَعَلَّ البُخَارِيَّ ذَكَرَهَا لِيُنَبِّهَنا إِلَى مُخَالَفَتِهَا لَما صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ بَدْءِ الوَحْيِ الذِي لَمْ تُذْكَرْ فِيه هَذِهِ الزِّيَادَةُ).
فَهَلْ يَقَعُ لَوْمٌ عَلَى الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ أَرَادَ إِثْبَاتَ عِلَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ؟ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحِ الرَّاوِي بِأَنَّهُ بَلَاغٌ لَبَيَّنَ البُخَارِيُّ كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ حَيْثُ يُنَبِّهُ عَلَى أَخْطَاءٍ تَقَعُ أَثْنَاءَ الرِّوَايَةِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ خَاصّاً بِهَذَا الخَبَرِ بَلْ يَتَوَافَقُ مَعَ عَادَةِ البُخَارِيِّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الأَحَادِيثِ المُعَلَّقَةِ وَالمُدْرَجَةِ.
وَالحَدِيثُ المُعَلَّقُ هُوَ مَا حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَئِ إِسْنَادِهِ رَاوٍ أَوْ أَكْثَرُ، وَقَدْ أَكْثَرَ البُخَارِيُّ مِنْ إِيرَادِ المُعَلَّقَاتِ فِي صَحِيحِهِ، فَكَيْفَ يُعَابُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِيرَادُهُ مُعَلَّقَاتِ غَيْرِهِ؛ فَبَلاغُ الزُّهْرِيِّ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْحَدِيثِ الْمُعَلَّقِ؛ حَذْفَ الزُّهْرِيِّ مُبْتَدَأَ اسِّنادِهِ وُصُولًا لِلنَّبِيِّ ﷺ.
فَالإِمَامُ البُخَارِيُّ يُخَرِّجُ الصَّحِيحَ المُسْنَدَ بِشَرْطِهِ، فَاسْمُ كِتَابِهِ: (الجَامِعُ المُسْنَدُ الصَّحِيحُ المُخْتَصَرُ مِنْ أُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسُنَنِهِ وَأَيَّامِهِ)، فَاَلمُسْنَدُ الصَّحِيحُ هُوَ المَقْصُودُ، وَمَا عَدَاه فَلَيْسَ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ، وَلَهُ فِي إِيرَادِهِ مَقَاصِدُ مُخْتَلِفَةٌ.
قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ البِقاعيُّ فِي النُّكَتِ الوَفِيَّةِ بِمَا فِي شَرْحِ الأَلْفِيَّةِ: (أَمَّا البُخَارِيُّ فَلَمْ يُورِدْهَا [يَقْصِدُ: الْبَلَاغَاتِ] مَوْرِدَ المَسَانِيدِ، فَهِيَ عِنْدَهُ لَيستْ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ سَمَّى كِتَابَهُ: الجَامِعُ المُسْنَدُ الصَّحِيح، فَمَا رَأَيْنَا فِيه مِمَّا لَيْسَ بِمُسْنَدٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذِكْرِهِ كَوْنَهُ صَحِيحاً، بَلْ قَصْدَ أَمْراً آخَرَ، وَمَقَاصِدِهِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، تُعْرَفُ بِكَثْرَةِ مُمَارَسَةِ كَلَامِهُ، وَشَرْحُ شَيْخِنَا حَافِظِ العَصْرِ وَافٍ بِبَيَانِهَا [يَقْصِدُ: ابْنَ حَجَرٍ فِي فَتْحِ البَارِي]، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَعْتَرِضْ أَحَدٌ مِمَّنِ انْتَقَدَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهَا) .
فَعُلِمَ بِذَلِكَ ضَعْفُ هَذِهِ القِصَّةِ، فَالعِصْمَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ ﷺ، وَقَدْ نَبَّهَ البُخَارِيُّ عَلَى ضَعْفِ هَذِهِ القِصَّةِ بِنَقْلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَوْلَهُ: “فِيمَا بَلَغَنَا”، وَبِذَلِكَ نَكُونُ قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ مَا يُرَوِّجُهُ الْبَعْضُ مِنَ التَّشْغيبِ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ، أَوِ القَدْحِ فِي الأَئِمَّةِ.
وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بفساد العقل
مضمون الشبهة:
يتهم بعض الحاقدين النبي – صلى الله عليه وسلم – بفساد العقل، زاعمين أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يذكر أشياء لا تمت للواقع بصلة، ويثبت وجود ما لا وجود له حقيقة، ولا يقوم دليل مادي على ثبوته، ويستدلون على ذلك بأنه أقر بوجود الجن، مستشهدين بما ذكره القرآن الكريم في آيات كثيرة من حديث عن الجن ونحو ذلك، هادفين من وراء ذلك إلى إثبات فساد عقله؛ للخلوص في النهاية إلى إنكار عصمته صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرجح البشر عقلا، وأحسنهم منطقا، فقد خصه الله – عزوجل – بخصائص عقلية وفكرية، لم يخص أحدا بها سواه.
2) إن عدم رؤية الشيء ليست دليلا على عدم وجوده، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم علمه بوجوده؛ فالكون حافل بالأسرار والخلائق المجهولة لنا، وعدم إدراكنا لها لا ينفي وجودها.
3) عالم الجن مخلوق حقيقة، وثمة دليلان على وجوده: أحدهما نقلي، والآخر حسي مشاهد.
التفصيل:
أولا. الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرجح البشر عقلا:
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وافر العقل يزيد عقله على عقل غيره، راجح الرأي، ذكي اللب[1]، حاد الفهم، سريع الإدراك، قوي الحواس (وهي أسباب العلم من السمع، والبصر، والذوق، والشم، واللمس في جميع البدن)، معتدل الحركات والسكنات (من قيام وقعود ومشي ورقود، ونحو ذلك)، حسن الشمائل الخلقية والخلقية، حتى صار بين قومه وغيرهم أعقل الناس، وأذكاهم، فضلا عما أفاضه الله عليه من العلم الاعتقادي والعملي وتقرير أحكام الشرع، دون تعلم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، وإنما من تعليم الله اللدني، بإلقائه السريع في قلبه وعقله ووعيه، فلم يعد أحد يشك في نفاذ بصيرته، ورجحان عقله، وفهمه الأمور لأول وهلة دون تفكر ومهلة، فكأنه يثقب القلب بقوة فهمه، كما يثقب النجم الظلام بقوة ضوئه.
قال وهب بن منبه – وهو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية -: “قرأت في واحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا، ووجدت أن الله – عزوجل – لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله – صلى الله عليه وسلم – إلا كحبة رمل من رمال الدنيا” [2].
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – إذن أوفر الناس وأرجحهم عقلا، ولم لا وقد أرسله ربه برسالة لا تقتصر على قومه، وإنما للعالم أجمع، فكان من كرامة الله – عزوجل – لنبيه أن أعطاه عقلا يتعامل به مع جميع الأجناس، ومختلف الألسنة، ويفهم به كلام من يكلمه سواء من قريش أم غيرها، أم حتى من العجم [3].
ثم كيف يدعي بعض الواهمين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – فاسد العقل، وثمة علماء غربيون – ممن وضعوا الحق في نصابه – شهدوا بكماله صلى الله عليه وسلم، وبأنه أعظم قادة التاريخ، يقول عالم الاجتماع الإيطالي د. أوغسطين كرسيتا في كتابه “عبير الشرق”: “إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان ولا شك من أعظم قواد التاريخ، ويصدق عليه القول بأنه كان مصلحا قديرا، وبليغا فصيحا، وجريئا مغوارا، ومفكرا عظيما” [4].
ويقول المستشرق الإسباني جان ليك: “أي رجل أدرك من العظمة الإنسانية، مثلما أدرك محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأي إنسان بلغ من مراتب الكمال مثل ما بلغ؟! لقد هدم الرسول المعتقدات الباطلة التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق” [5].
وبناء على ما سبق فإن اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بفساد عقله، إنما هو ضرب من التعصب، ولا تضره – صلى الله عليه وسلم – أقوال الجهلاء واتهامات المتعصبين من المستشرقين، ولله در القائل:
ما يضر البحر أضحى زاخرا
أن رمــى فــيه غـــلام بحجر
ثانيا. عدم رؤية الشيء ليس دليلا على عدم وجوده، فالكون حافل بالأسرار والخلائق المجهولة لنا، وعدم إدراكنا لها لا ينفي وجودها:
في البداية نود أن نوضح أن الجن عالم غير عالم الإنسان وعالم الملائكة؛ فبينهم وبين الإنسان قدر مشترك من حيث الاتصاف بصفة العقل والإدراك، ومن حيث القدرة على اختيار طريق الخير والشر، ويختلفون عن الإنسان في أمور أهمها: أنهم مخلوقون من نار في حين خلق الإنسان من طين.
وقد سمي الجن جنا؛ لاجتنانهم، أي: استتارهم عن العيون، قال ابن عقيل: “إنما سمي الجن جنا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينا، وسمي المجن مجنا؛ لستره للمقاتل في الحرب”، وقد جاء في محكم التنزيل: )إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم( (الأعراف: 27) [6].
ولعل استتار الجن عن عيون البشر، هو ما دفع الماديين منهم إلى إنكار وجودهم، وغاية ما عند هؤلاء المنكرين أنه لا علم عندهم بوجودهم، وقد نسوا أو تناسوا أن عدم رؤية الشيء ليس دليلا على عدم وجوده، وقبيح بالعاقل أن ينفي الشيء لعدم إدراكه له، وهذا مما نعاه الله على الكفرة في قوله عزوجل: )بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه( (يونس: 39)، وهذه المخترعات الحديثة التي لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها، أكان يجوز لإنسان عاش منذ مئات السنين أن ينكر إمكان حصولها لو أخبره صادق بذلك؟ وهل عدم سماعنا للأصوات التي يعج بها الكون في كل مكان دليل على عدم وجودها، حتى إذا اخترعنا الراديو، واستطاع التقاط ما لا نسمعه بآذاننا صدقنا بذلك[7]؟!
فلا شك أن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، والقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار، نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف على بعض هذه الخلائق تارة بذواتها، وتارة بصفاتها، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا.
ونحن ما نزال في أول الطريق، طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا على ذرة من ذراته الصغيرة، هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه!
وما عرفناه اليوم – ونحن في أول الطريق – يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم، لظنوه مجنونا، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا!
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية المعدة للخلافة في هذه الأرض، وفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخره الله لنا؛ ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولا؛ كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض، ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها، وفي مداها مهما امتد بنا الأجل – أي بالبشرية – ومهما سخر لنا من قوى الكون، وكشف لنا من أسرار – لا تتعدى تلك الدائرة – ما نحتاج إليه للخلافة في هذه الأرض، وفق حكمة الله وتقديره.
وسنكشف كثيرا، وسنعرف كثيرا، ولسوف تتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته، مما قد تعد أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة، وفي حدود قول الله سبحانه وتعالى: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء)، قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه، وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله عزوجل: )ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (27)( (لقمان).
فليس لنا – والحالة هذه – أن نجزم بوجود شيء أو نفيه، وبتصوره أو عدم تصوره، من عالم الغيب والمجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي، أو تجاربنا المشهودة، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلا عن إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا!
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا، وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره، أو مجرد وجوده؛ لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض.
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى، عن طريق كلامه، لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه – أيضا – فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم، نتلقاها كما هي، فلا نزيد عليها، ولا ننقص منها؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة، وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار[8]!
وصدق الله العظيم إذ يقول: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء).
إن هناك عوالم أخرى موجودة في هذا العالم على الرغم من أنها لا تقع تحت حسنا المباشر ومن هذه العوالم عالم الجن، وهو مخلوق خلقه الله بكيفية معينة، وخصه بخصائص يختلف بها عن باقي المخلوقات.
“ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل، من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع العلم، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان؛ من أجل أنه لم يرهم ولم يحس بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجاهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها، والقاعدة العلمية المشهورة تقول: “عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود”، أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود” [9].
ثالثا. عالم الجن مخلوق حقيقة، وثمة دليلان على وجوده؛ أحدهما: نقلي، والآخر: حسي مشاهد:
إن عالم الجن مخلوق من قبل الله – عزوجل – وموجود حقيقة، وعلى المسلم أن يؤمن بوجودهم، وبأنهم كائنات حية كلفها الله – عزوجل – بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم؛ فذلك لأن الله – عزوجل – جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة[10].
وعالم الجن – بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها – نوع من المجردات، أي: الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفية عن حاسة البصر والسمع، فهي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري، ولها حياة وإرادة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه.
وهذه الموجودات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين، فهما نوعان لجنس الموجودات النارية التي لها إدراكات خاصة، وتصرفات محدودة وهي موجودات مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار، ولا تدركها أسماع الناس إلا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده[11].
وثمة دليلان يدلان دلالة قاطعة على وجود الجن:
أولهما: الدليل النقلي؛ ويتمثل في الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وهذه الآيات وتلك الأحاديث تنصان صراحة على وجود عالم الجن، وعلى كونهم مخلوقات موجودة بالفعل.
والمتأمل في كتاب الله – عزوجل – يقطع بوجود الجن حقيقة، وكيف لا وهو الكتاب الذي )لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)( (فصلت). هذا وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن تقرر وجودهم، كقوله تعالى: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن( (الجن: 1)، وقوله تعالى: )وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6)( (الجن).
وهذه آثار من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الصحيحة التي تقطع بذلك أيضا. وما كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقول هذا من عند نفسه، وقد قال عنه الله عزوجل: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم).
فقد انصرف النبي – صلى الله عليه وسلم – من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلما فرغ من صلاته، ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا, فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: )وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30)( (الأحقاف)[12]. هبط هؤلاء الجن على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: )أنصتوا(.
هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومضوا بها إلى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري إلى قومه، والطفيل بن عمرو إلى قومه، وضماد الأزدي إلى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله عزوجل: )يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31)( (الأحقاف).
وأصبح اسم محمد – صلى الله عليه وسلم – تهفو إليه قلوب الجن، لا قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون حملوا راية التوحيد ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله، ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال عزوجل: )قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا (1) يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا (2) وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3) وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا (4) وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا (5) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (6) وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا (7) وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (8) وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9) وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (10) وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا (11) وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا (12) وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (13)( (الجن).
كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان التعذيب؟! وعندما دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن، فتتجاوب أفئدتهم خشوعا وتأثرا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة، وارتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء الوفد الثاني متشوقا لرؤية الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – والاستماع إلى كلام رب العالمين.
فعن علقمة قال: سألت ابن مسعود فقلت: «هل شهد أحد منكم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير[13] أو اغتيل[14]، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: “أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن”، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: “لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» [15] [16].
ونخلص من هذا كله إلى أن وجود الجن معلوم من الدين بالضرورة، يقول ابن تيمية: “لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدا – صلى الله عليه وسلم – إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، كما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك”.
وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالضرورة، ومعلوم بالضرورة أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان أو غيره – كما يزعم بعض الملاحدة – فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة، فلا يمكن لطائفة من المنتسبين إلى الرسل الكرام أن تنكرهم[17].
وثانيهما: الدليل الحسي المشاهد؛ لقد تجاهل هؤلاء الطاعنون الواقع المعيش والمشاهد، وذلك حينما ادعوا أن الجن شيء غير موجود؛ وذلك لأننا لا نراه ولا ندركه، وإذا التمس هؤلاء هذا الواقع فإنه سيطلعهم لا محالة على أن كثيرا من الناس في عصرنا وقبل عصرنا شاهد شيئا من ذلك، وإن كان كثير من الذين يشاهدونهم ويسمعونهم لا يعرفون أنهم جن؛ إذ يزعمون أنهم أرواح، أو رجال الغيب، أو رجال فضاء[18].
وإذا كان مثيرو هذه الشبهة – الماديون الحسيون – لا يؤمنون إلا بما هو حسي مشاهد فلم أغفلوا هذا الدليل الحسي الذي يقطع بوجود الجن؟!
الخلاصة:
لا يصح أن يتهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بفساد عقله لذكره الجن؛ لأن وجود الجن حقيقة واقعة، وإن شكك في ذلك المشككون، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – أرجح الناس عقلا؛ إذ خصه الله بخصائص عقلية، وفكرية، ما خص بها أحدا من البشر، وقد اعترف برجاحة عقل النبي – صلى الله عليه وسلم – أعداؤه قبل أتباعه.
لا يمكن بحال من الأحوال إنكار وجود الجن لعدم رؤية البشر لعالمهم، أو عدم علمهم به؛ لأن عدم العلم بالشيء لا ينفي وجوده؛ وذلك لأن الكون حولنا مليء بالأسرار التي لا نراها، ولا نحيط بها علما، فالبشر يعرفون ويكتشفون في حدود الطاقة البشرية المعدة للخلافة في الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخره الله لهم، أما ما هو خارج عن هذه الدائرة، فلا نملك إلا أن نتلقاه كما هو فلا نزيد عليه، ولا ننقص منه؛ لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة، هو الوحي الإلهي، وما أخبرت به الرسل الكرام.
عالم الجن عالم مخلوق وموجود حقيقة، والأدلة على وجوده نوعان؛ الأول: أدلة نقلية تتمثل في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تقطع بوجود الجن، والآخر: أدلة حسية مشاهدة تتمثل في أن كثيرا من الناس شاهد شيئا من هذه المخلوقات، وإذا كان مثيرو هذه الشبهة لا يؤمنون إلا بما هو حسي – فلم لا يؤمنون بوجود الجن وقد رآهم بعض الناس؟!
(*) السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.
[1]. اللب: أخص من العقل، فإنه مختص بالعقل السليم والفهم القويم، ومنه قوله عزوجل : ) لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ( (يوسف: 111).
[2]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص77.
[3]. محمد المثل الكامل، أحمد جاد المولى، دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص17 بتصرف.
[4]. عظمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرد على الطاعنين في شخصه الكريم، محمد بيومي، دار مكة المكرمة، مصر، ط1، 1426هـ/2005م، ص18.
[5]. الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عيون غربية منصفة، الحسيني الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة، ط1، 2006م، ص88.
[6]. عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص9 بتصرف.
[7]. عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص14 بتصرف يسير.
[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج6، ص3270، 3271.
[9]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/1978م، ص114.
[10]. السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص368، 369.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج14، ج29، ص218.
[12]. إسناده صحيح: أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، باب ذكر إسلام الجن، هبطوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقرأ القرآن (525)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحقاف (3701)، وصحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي.
[13]. استطير: ذهب به بسرعة كأن الطير حملته.
[14]. اغتيل: قتل خدعة.
[15]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن (1035).
[16]. السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص366: 368.
[17]. عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص17، 18.
[18]. عالم الجن والشياطين، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1426هـ/ 2005م، ص18، 19.
التشكيك في ثبوت معجزة الإسراء والمعراج
مضمون الشبهة:
يشكك بعض المغالطين في ثبوت معجزة الإسراء والمعراج، والجزم بوقوعها بالكيفية التي يعتقدها المسلمون، ويرون أنها لا تخرج في مجملها – لما فيها من مجاوزة للعقل والواقع المألوف – عن أحد هذين الاحتمالين: إما أنها رؤيا منامية مستدلين على ذلك بقوله عزوجل: )وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس( (الإسراء: 60). وإما أنها ضرب من الأفكار الفلسفية، مثل وحدة الوجود، وكشف الحجب، واتحاد الزمان والمكان. وهم في هذا وذاك يرمون صراحة إلى نفي معجزة الإسراء والمعراج، ضمن منظومة نفي معجزاته صلى الله عليه وسلم؛ بغية تجريده من تأييد الله له بها، والخروج به عن مقتضى كونه نبيا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن معجزة الإسراء والمعراج معجزة عجيبة مدهشة بالفعل، وليس كل عجيب منكرا، وليس كل مدهش خياليا غير واقعي!
2) إن في الحوار الذي دار بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقومه، ودقة وصفه للمسجد الأقصى؛ ما ينفي انتحاله هذه المعجزة من جهة، ويثبت وقوعها بالبدن والروح حال اليقظة من جهة أخرى.
3) إن وحدة الوجود، وكشف الحجب، واتحاد الزمان والمكان جميعها محل نظر، ولا ينبغي تشبيه معجزة الإسراء والمعراج بمثل تلك الأفكار الفلسفية؛ للبون الشاسع بينهما.
التفصيل:
أولا. إن معجزة الإسراء والمعراج معجزة عجيبة مدهشة، لكن ليس كل عجيب منكرا، وليس كل مدهش غير واقع:
ليس من الصواب في شيء أن يعد أحد المشككين كل ما هو خارج عن علمه في دائرة العدم، فنراه يتحدث بما لا يعرف قائلا: إن الإسراء والمعراج حدوثهما غير ممكن؛ لأن الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم الصعود إلى السماوات العلا، ثم الرجوع من حيث أتى في جزء من الليل أمر مستحيل؟ ذلك لأن الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية محدودة بثلاثمائة كيلو مترا تقريبا، فمن جاوزها صار عرضة للموت المحقق لعدم وجود الهواء الذي لا بد منه للحياة.
ومثل هذا الكلام لا ينهض على قدمين – ولو للحظة واحدة – أمام البحث العلمي الصحيح، “فالإسراء والمعراج أمران ممكنان عقلا أخبر بهما – عزوجل – في القرآن الكريم المتواتر، كما أخبر بهما الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم – في الأحاديث الصحيحة المشهورة، فوجب التصديق بوقوعهما، ومن ادعى استحالتهما فعليه البيان وهيهات ذلك، وكونهما مستبعدين عادة لا ينهض دليلا ولا شبه دليل على الاستحالة، وهل المعجزات إلا أمور خارقة للعادة كما قال العلماء؟ ولو أن كل أمر لا يجري على سنن العادة كان مظنة للإنكار لما ثبتت معجزة نبي من الأنبياء.
ثم ما قول المنكرين لمثل هاتين المعجزتين فيما صنعه البشر من طائرات نفاثة، وصواريخ جبارة تقطع آلاف الأميال في زمن قليل؟ فإذا كانت قدرة البشر استطاعت ذلك، أفيستبعدون على مبدع البشر وخالق القوى والقدر أن يسخر لنبيه “براقا” يقطع هذه المسافة في زمن أقل من القليل؟! لسنا نقصد بهذا أن الإسراء والمعراج من جنس ما يقدر عليه الناس – فحاشا لله – وإنما أردنا تقريبهما لعقول من ينكرونهما بما هو مشاهد ملموس، فمهما تقدمت العلوم ومهما تقدم غزو الفضاء فلا يزال الإسراء والمعراج آيتين ظاهرتين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما شبهة أن المعراج لم يذكر في القرآن كما ذكر الإسراء، فيدفعها – أن المعراج وإن لم يذكر في القرآن صراحة فقد أشير إليه فيه، ولو سلمنا بعدم ثبوته بالقرآن فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا للإنكار، فما الأحاديث النبوية إلا مبينة للقرآن، وشارحة له، ومتممة له، وهي الأصل الثاني من أصول التشريع في الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، والحق من الباطل، والهدى من الضلال، وإثبات الآيات والمعجزات، ولو أننا قصرنا الدين ومسائله على القرآن الكريم فحسب؛ لفرطنا في كثير من الأحكام والآداب، والآيات، والمعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما القول بأن المعراج يترتب عليه الخرق والالتئام وهو مستحيل ـ فمزعم قديم أكل الدهر عليه وشرب، وأبطلته النظريات العلمية الحديثة، فقد انتهى بحث العلماء إلى أن الكون في أصله كان قطعة واحدة، ثم تناثرت أجزاؤه، وانفصل بعضها عن بعض حتى غدا من ذلك العالم كله: علويه وسفليه” [1].
إن العلماء الكونيين قد خطوا خطوات واسعة في غزو الفضاء، والتنقل بين الأجواء، والدوران حول الأرض والقمر، ومعرفة كم هائل من المعلومات عن المجموعة الشمسية، مما قد يعد من ضرب المعجزات والخيال في القرون الماضية، وما زال التقدم العلمي في هذا المجال يزداد يوما بعد آخر، مما يدحض زعم هؤلاء أن الإسراء والمعراج غير ممكن عقلا.
وأما قولهم بأن الهواء ينعدم على بعد خاص فهو لا يسوغ الإنكار، فنحن نجد الغواصين يمكثون الساعات الطوال تحت الماء مكتفين بما معهم من هواء، وأيضا نجد رواد الفضاء قد تغلبوا على هذه المشكلة – إن صح أن تسمي هذه مشكلة – بل وعلى ما هو أشكل منها، ويختزنون معهم من الهواء ما يحفظ عليهم حياتهم أياما لا ساعات.
فإذا ثبت هذا في حق المخلوق وكان في مقدرته ذاك – وقليلة ما هي مقارنة بمقدرة الله – أفيبعد على الخالق ما أدركه المخلوق إن أراد حدوثه لأحد من الأنبياء على طريق الإعجاز، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون؟! إنه الله – سبحانه وتعالى – خلق السماوات، والأرضين معلقات في الفضاء بلا عمد، وأمسكهما أن تزولا وتسقطا على عظم أجرامهما، ودقة مساراتهما، وأبدعهما أيما إبداع، وربط الأسباب بالمسببات، وأوجد للكائنات نواميس خاصة بها، وعلم ما يحتاج إليه كل كائن حي من إنسان، أو حيوان، أو نبات، وقدر لكل ما يحفظ له حياته – وهو قادر على أن يسري بنبيه – صلى الله عليه وسلم – من مكة إلى بيت المقدس، ثم يعرج به إلى سدرة المنتهى في جزء من الليل، وأن يحفظ عليه حياته في عروجه من الأرض إلى السماوات السبع وما فوقهن[2].
ويحسن بنا في هذا الصدد أن نذكر أنه في بعض المجامع في بلدة بالهند قال أحد المنصرين مشوشا على بعض المسلمين: كيف تعتقدون في الإسراء والمعراج، وهو أمر مستبعد؟ فأجابه مجوسي من مجوس الهند قائلا: إن الإسراء والمعراج ليسا بأشد استبعادا من كون العذراء تحمل من غير زوج، فبهت المنصر!
والأمر كذلك ليس مستحيلا عقلا إذ إن خالق العالم قادر على أن يسري بمحمد – صلى الله عليه وسلم – بهذه السرعة، وغاية ما في الأمر أن المعجزة تمت خلاف العادة، والمعجزات كلها تكون كذلك[3]. ولم يكن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بدعا من أمره، بل شأنه في تأييد الله له بالمعجزات شأن سائر الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
ثانيا. إن في الحوار الذي دار بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وقومه، ودقة وصفه المسجد الأقصى، ما ينفي انتحالها من جهة، ويثبت أنها وقعت بالبدن والروح حال اليقظة من جهة أخرى:
إن معجزة الإسراء والمعراج ثابتة بالكتاب والسنة، والأدلة العقلية التي تلتقي مع نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، تقوم على تأكيد حدوث هذه المعجزة يقظة، ومن أظهر هذه الأدلة:
أن هذه الرحلة لو كانت مناما لما كان فيها آية ولا معجزة، ولما استبعدها الكفار ولا كذبوه فيها، ولما ارتد بها ضعفاء الإيمان ممن أسلموا وافتتنوا بها؛ إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا بعد علمهم أن خبره إنما كان عن جسمه لا روحه، وحال يقظته لا حال منامه[4].
فقد يقول قائل: إني رأيت أني ذهبت إلى أمريكا، ثم الهند، والصين، ثم عدت، وهو نائم على فراشه، وقد يرى أنه مات وانتقل إلى الدار الآخرة، ودخل الجنة أو النار بعد العرض على الملك الجبار، ولا يستطيع أحد أن يكذبه، فلو كان الإسراء والمعراج كذلك بالروح فقط لما كذبه المشركون؟
“وما أدري كيف يقبل الذوق السليم أن يكون الإسراء بالروح، بعد قول الله سبحانه وتعالى: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير (1)( (الإسراء).
فها أنت ذا ترى الآية الكريمة قد افتتحت “بسبحان” وهو استفتاح مشعر باستعظام ما كان من الأمر، والتعجب منه لجلاله، وذلك اللفظ لا يصح موقعه، ولا يتناسب وبلاغة القرآن الحكيم، إلا إذا كان الأمر غير معهود، ولا مقدور لأحد من البشر.
ولو كان الإسراء بالروح فقط لم يكن ثمة ما يقتضي هذا الاستعظام، وذلك التعجب؛ إذ لا خطورة في إراءة النبي – صلى الله عليه وسلم – آيات ربه في نومه، فإن هذا أمر يقع لكل أحد، وإنما يظهر وجه الاستعظام والتعجب إذا قلنا: إن ذلك الإسراء كان بالجسد والروح، كما هو ظاهر لكل ذي فطرة طاهرة وعقل سليم.
ثم تراه يقول )أسرى( وهو لا يقال في النوم، كما قال القاضي عياض؛ لأن ما يقع في النوم إنما هو تخييل وضرب مثل لا غير، ولا يحسن أن يعبر عن ذلك بأنه أسرى به، وإنما ذلك إذا أسرى به ليلا إسراء حسيا على ما هو معهود ومعروف.
ثم يقول: )بعبده( وهو نص قاطع في الموضوع؛ لأن العبد لا يطلق فيما تعرفه العرب إلا على الشخص المكون من الروح والجسد معا، ولم يعهد في لغة العرب إطلاقه على الروح فقط، فهم لا يعرفون من العبد إلا الشخص المحسوس المنظور، كما في قوله سبحانه وتعالى: )أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10)( (العلق)، وقوله: )وأنه لما قام عبد الله يدعوه( (الجن: 19) إلى غير ذلك، ثم يقول: )لنريه من آياتنا( (الإسراء: 1)، ويقول سبحانه وتعالى: )أفتمارونه على ما يرى (12)( ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18) (النجم).
ولا شك عند من له ذوق سليم، أن هذه الآيات الكريمة تدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أسري به إلى بيت المقدس، وأنه عرج به إلى السماوات العلا بجسمه وروحه وأنه رأى جبريل عند سدرة المنتهى، وأنه رأى من آيات ربه الكبرى.
ونحن نستحلفك بعلمك وذوقك وإنصافك، أن تنظر معنا إلى قوله: )أفتمارونه على ما يرى (12)( (النجم) ثم قل بعد ذلك ماذا ترى. أفيسهل عليك أن تسلم أن المراء والجدال كانا في رؤيا منامية؟ وهل يكون في رؤيا الروح وحدها في النوم جحود ومجادلة؟ وهل لذلك وقع عند القائل والسامع، حتى تذكر فيه تلك الآيات، وتحصل به تلك المجادلات، وينوه بشأنه في القرآن هذا التنويه العظيم؟ وهل عهدوا مثل ذلك في الرؤى المنامية؟ وهل ينكرون على أنفسهم ذلك، حتى ينكروه عليه صلى الله عليه وسلم؟
لا شك أن مناكرتهم ومجادلتهم، ما كانت إلا لعلمهم أنه يقول إن ذلك كان يقظة لا نوما، فهذا محل الاستبعاد والاستنكار؛ لأنه غير معهود لديهم، ولا في متناول قدرتهم” [5].
وأبعد من القول بأن الإسراء والمعراج كانا بروحه، قول من ذهب إلى أنهما كانا في المنام، مستدلين لذلك بقوله سبحانه وتعالى: )وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا (60)( (الإسراء)، وقالوا: إن الآية تشير إلى الإسراء والمعراج، والرؤيا إنما تطلق على المنامية لا البصرية.
وليس أدل على رد استدلالهم بهذه الآية من قول ابن عباس في تفسيرها: «هي رؤيا عين أريها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسري به، والشجرة المعلونة: شجرة الزقوم»[6]. ومراد ابن عباس – برؤيا العين – جميع ما عاينه – صلى الله عليه وسلم – ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية.
وابن عباس هو حبر الأمة، وترجمان القرآن، ومن أعلم الناس بالعربية، وكان إذا سئل عن لفظ من القرآن ذكر له شاهدا من كلام العرب، فكلامه حجة في هذا، والرؤيا كما تطلق على المنامية تطلق على البصرية أيضا. ومن شواهد ذلك من كلام العرب الذين يحتج بكلامهم قول الراعي يصف صائدا:
وكبر للرؤيا وهش فؤاده
وبشر قلبا كان جما[7] بلابله[8]
على أن بعض المفسرين يري أن الآية نزلت عام الحديبية بسبب رؤيا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه دخل المسجد الحرام، وعلى هذا فلا تكون الآية دليلا لهم قط، ولكن الصحيح هو الأول[9].
على أنه جاء في القصة ما هو قاطع في الموضوع، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما أخبرهم بذلك هاج هائجهم، وقامت قيامتهم، فمنهم الواضع يده على رأسه تعجبا، ومنهم المصفق، ومنهم القائل له: لقد كان أمرك أمما[10] قبل هذا. حتى ورد أنه ارتد بعض من كان قد دخل في الإسلام. فهل ترى أن ذلك كله كان من أجل رؤيا منامية؟
بل في القصة ما هو أكثر من هذا، وهو أنهم سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن عيرهم التي كانت فيها تجارتهم، فأجابهم – صلى الله عليه وسلم – بأنه مر بها وقد ند[11] منها بعير فانكسر، وأنه مر بعير أخرى قد ضلوا ناقة لهم، وكان معهم قدح من الماء، فشربه – صلى الله عليه وسلم – وقد سألوهم عندما قدموا مكة، فصدقوا ذلك كله، وفي القصة أكثر من هذا.
فهل ترى أن الروح شربت الماء من القدح؟ وهل يمكننا أن نقبل أنهم يسألونه عن عيرهم، وعن بيت المقدس وأبوابه، وكل ما يتعلق به، إذا كانت الرؤيا منامية؟ وأي علاقة بين رؤيا المنام وبين عيرهم التي تجيء من الشام[12].
على أن ثمة فرقا بين القول بإسرائه روحا والقول بإسرائه مناما، هذا الفرق يوضحه د. محمد أبو شهبة في قوله: “ومما ينبغي أن يعلم أن بعض الكاتبين – في معجزتي الإسراء والمعراج – يخلط بين قول من يقول: كانا مناما، وقول من يقول: كانا بالروح فقط، وبينهما فرق، فمن قال: كانا بالروح أراد أن الروح بما لها من قدرة على التصرف والانتقال هي التي انتقلت وجالت في هذه المعاني المقدسة في الأرض والسماء، وأما من قال في المنام، إنما أراد حدوث صور وانكشافات للروح فيما وراء الحس من عالم الغيب من غير انتقال، ومفارقة للبدن” [13].
وفي كون الإسراء والمعراج بالروح والجسد يقول الإمام النووي: “والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده – صلى الله عليه وسلم – والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها، إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل”، ويقول ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري: إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل” [14].
وليس في الأمر غرابة، لا من حيث قطع المسافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولا من حيث صعود النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى السماء، فأما من حيث قطع المسافة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في تلك المدة الوجيزة فقد يتوفر للجن، وهو الذي حدث مع سليمان – عليه السلام – وحكاه القرآن في قوله عزوجل: )قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك( (النمل: ٤٠) وحمل العرش من القصر إلى الشام أبلغ من إسراء النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أبلغ من قطع المسافة بين المسجدين في جزء من ليلة.
ومحمد – صلى الله عليه وسلم – أفضل من الذي عنده علم من الكتاب، ومن سليمان عليه السلام، فكان الذي خصه الله به أفضل من ذلك، وهو أنه أسري به، ثم عرج في ليلة واحدة، ليريه من آياته الكبرى.
فهذا ما لم يحصل مثله لا لسليمان ولا لغيره، والجن إن قدروا على حمل بعض الناس في الهواء فلن يقدروا على إصعاده إلى السماء، وإراءته آيات ربه الكبرى، فكان ما آتاه الله لمحمد خارجا عن قدرة الإنس والجن[15].
ومما سبق نخلص إلى أن معجزة الإسراء والمعراج ثابتة بالكتاب والسنة، وكان أهل مكة جميعا شهودا على هذه المعجزة، فعندما حدثهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عن هذه المعجزة، شككوا فيها واستنكروها وكذبوه، ولكنه – صلى الله عليه وسلم – استطاع أن يثبت لهم صحة ما أخبرهم به بأدلة واضحة لا يرقى إليها الشك؛ من ذلك:
إخباره – صلى الله عليه وسلم – عن القافلة التي يتقدمها جمل أورق[16]:
فحدثهم عن أشياء حدثت في الطريق، وتبينوا بعد ذلك صدق ما قاله؛ فقد سألوه عن قافلة لهم قادمة من الشام، سألوه عن مكانها، ومتى تقدم عليهم، فأخبرهم عنها وعن وقت وصولها، وقدم لهم دليلا، حيث أخبرهم أن هذه القافلة يتقدمها جمل أورق، وبعد أن تحقق أمام أعينهم كل ما أخبرهم به خرست ألسنتهم وثبتت شهادتهم على هذا الحدث العظيم الذي كان اختبارا ليقين المسلمين وتمحيصا لإيمانهم.
وصفه – صلى الله عليه وسلم – الدقيق للمسجد الأقصى:
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد صلى بالأنبياء في بيت المقدس كما ثبت في الروايات الصحيحة، وعندما عاد من رحلته طلب منه أهل مكة أن يصف لهم المسجد الأقصى ليتأكدوا من صدقه، فوصفه لهم بتفاصيله كاملة، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد رآه قبل ذلك، ولكن أهل مكة كانوا قد رأوه مرات عديدة أثناء رحلاتهم إلى بلاد الشام، فكان وصفه الدقيق للمسجد الأقصى دليلا آخر على صدقه صلى الله عليه وسلم، لم يعترض أحد من أهل مكة على ما قدمه لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من وصف دقيق ومفصل لهذا المكان المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: «لما كذبتني قريش، قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه»[17].
ثالثا. إن وحدة الوجود، وكشف الحجب، واتحاد الزمان والمكان جميعها محل نظر، ولا يصح تشبيه معجزة الإسراء والمعراج بمثل تلك الأفكار الفلسفية:
إن النصوص الصريحة القائمة على إثبات معجزة الإسراء والمعراج تجعل من نافلة القول أن نثبت بطلان تلك الأفكار الفلسفية، أما وقد شبهت هذه المعجزة النبوية بتلك الأفكار الفلسفية؛ فقد لزم الأمر أن نقر أن الإسراء والمعراج ليستا فكرة مثلا كوحدة الوجود من الصحة في شيء، كي نبني عليها معتقداتنا الدينية ونثبت على أساسها وننفي، ولو كان الأمر كذلك لكان عبدة الأصنام على حق، وعبدة البقر على حق، ومن عبد أي معبود بمقتضى تلك الفكرة على حق.
وغني عن الذكر – أيضا – أن نقول إن فكرة وحدة الوجود فكرة خاطئة وافدة إلى الإسلام فيما وفد إليه من آراء فاسدة لا يشهد لها عقل ولا نقل، وهي من مخلفات الفلسفات القديمة، وفيها ما فيها من أخطاء وأباطيل، وقد انتصر لها وتشيع بعض الغلاة الذين ينتسبون إلى الإسلام، وكتبوا فيها فكانت عاقبتهم الإلحاد في الله وصفاته.
وقد أبان بطلانها كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم، المتثبتين في العقيدة، والقول بها يؤدي إلى القول بالطبيعة، وقدم العالم، وإنكار الألوهية وهدم الشرائع السماوية التي قامت على أساس التفرقة بين الخالق والمخلوق، وبين وجود الرب، ووجود العبد، وتكليف الخالق للخلق بما يحقق لهم السعادة، ومقتضى هذا المذهب أن الوجود واحد، فليس هناك خالق ولا مخلوق، ولا عابد ومعبود، ولا قديم وحادث، وعابدو الأصنام والكواكب والحيوانات حين عبدوها إنما عبدوا الحق؛ لأن وجودها الحق، إلى آخر خرافاتهم التي ضلوا بسببها وأضلوا غيرهم، والتي أضرت بالمسلمين، وجعلتهم شيعا وأحزابا، ولقد بلغ من بعضهم أنه قال: إن النصارى ضلوا؛ لأنهم اقتصروا على عبادة ثلاثة، ولو أنهم عبدوا الوجود كله لكانوا راشدين، وقال بعض معتنقي الفكرة:
العبد حق، والرب حق
يا ليت شعري من المكلف؟
إن قلت: عبد فذاك رب
أو قلت: رب أنى يكلف؟
قال الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني في بعض كتبه بعد أن ذكر الفناء المحمود، والفناء المذموم: “ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطرق الفاسدة أورثهم ذلك الفناء عن وجود السوى فجعلوا الموجود واحدا، ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق، وحقيقة الفناء عندهم ألا يرى إلا الحق، وهو الرائي والمرئي، والعابد والمعبود، والذاكر والمذكور، والناكح والمنكوح، والآمر الخالق هو المأمور المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم، وعباد الأصنام ما عبدوا غيره، وما ثم موجود مغاير له ألبتة عندهم، وهذا منتهى سلوك هؤلاء الملحدين!
وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون: إن فرعون أكمل من موسى، وإن فرعون صادق في قوله: “أنا ربكم الأعلى”؛ لأن الوجود: فاضل ومفضول، والفاضل يستحق أن يكون رب المفضول، ومنهم من يقول: إنه مات مؤمنا، وإن إغراقه كان ليغتسل غسل الإسلام”.
فالحق أن فكرة وحدة الوجود فكرة زائفة، تصادم نصوص الدين القطعية، ولا يدل عليها شيء من قرآن أو سنة، وأن العقيدة الإسلامية السمحة براء من مذهب “وحدة الوجود”.
تفسير الإسراء والمعراج بهذا يلزم إنكار النصوص أو تحريفها:
ثم إن تفسير الإسراء والمعراج بهذه الفكرة أو غيرها، وتصويرهما هذا التصوير الذي ارتضاه المدعي يقتضي إنكارها على حسب ما جاء به القرآن القطعي، والسنة الصحيحة المشهورة، فليس ثمة إسراء حقيقة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بذات النبي – صلى الله عليه وسلم – وليس هناك عروج بالنبي – صلى الله عليه وسلم – من بيت المقدس إلى السماوات السبع وما فوقهن، ولا صلاة بالأنبياء، ولا لقاء ولا تسليم، ولا تكليم من الله لنبيه، وإنما كل ذلك تمثيل وتقريب على حد زعمهم.
وما الداعي إلى ذلك ما دام الكون كله قد اجتمع في روح النبيصلى الله عليه وسلم، كما قال صاحب الرأي: فالمسجد الحرام في روحه، والأقصى في روحه، والسماوات وما فيهن في روحه، ووجودها في وجوده!
إغراب وتشويش:
ثم ما الداعي إلى كل هذا التكلف والإغراب المدعى في فهم نصوص صريحة جاءت بلسان عربي مبين؟! وما الذي حدا بهؤلاء الأدعياء إلى أن “يشطحوا” هذه “الشطحات” التي لا داعي إليها؟!
إن الإسراء والمعراج كما جاء بهما القرآن والأحاديث الصحاح أقرب منالا، وأشد استساغة لعقول الناس مما ذهب إليه المدعون، ولو جلست زمانا لتفهم رجلا أميا أو متعلما، بالإسراء والمعراج على ما رأى هؤلاء ما أنت بمستطيع إفهامه هذه الألغاز والطلاسم التي حاول المدعون بها إحداث رأي جديد.
وهل تصوير الإسراء والمعراج بهذا التصوير إلا إشكال على عقول الكثرة من الناس، ومخاطبة لهم بما لا تبلغه عقولهم ومداركهم، وقد أمرنا أن نحدث الناس بما يعقلون وأن ندع ما ينكرون، وفي الحكم الذهبية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم» [18].
والحق أن الإغراب على القراء بمثل هذه الأفكار المسمومة، والآراء الشاذة الغريبة تشكيك لهم في عقائدهم الصحيحة، وتسميم لعقولهم، وانحراف بهم عن فطرتهم السليمة، والحق أبلج لا يحتاج إلى تكلف، وتفلسف من غير داع وقد حكى القرآن الكريم عن النبي صلى الله عليه وسلم: )وما أنا من المتكلفين( (ص: 86) [19].
الخلاصة:
إن الإسراء والمعراج من الأمور العجيبة والمدهشة حقا، ولكن العجب والدهشة شيء وإنكارها شيء آخر، وقد تكون محيرة للعقل ولكنها ليست مستحيلة في منطق الوحي، وإلا فكيف نفسر عقلا إحياء عيسى للموتى، وانبجاس الحجر ماء لموسى، وكيف تفسر عقلا ما فعلته عصا موسى مع فرعون، ومعلوم أن الرسول جاء بما يحير العقول وليس بما تتخيله العقول، فالإسراء والمعراج من الأمور التي لا يرفضهما العقل والبحث العلمي، فقد استطاع الإنسان في العصر الحديث أن يغزو الفضاء بعلمه وقدرته المحدودتين، فكيف يستبعد عن الخالق أن يسري بنبيه – صلى الله عليه وسلم – وأن يعرج به إلى السماء وهو القادر على كل شيء وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
ليست معجزة الإسراء والمعراج رؤيا منامية كما يدعي المشككون؛ لأن رؤيا المنام من الأمور المعتادة التي لا تستنكر، ولو كانت كذلك لما وجد كل هذا الاعتراض من كفار قريش على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولما ارتد بعض من دخل في الإسلام، ترى هل كل هذا يحدث بسبب رؤيا منامية؟!
إن القول بأن معجزة الإسراء والمعراج ضرب من الأفكار الفلسفية مثل وحدة الوجود، قول باطل وتزييف للحق؛ لأن هذه الأفكار الفلسفية لا أصل لها في الإسلام، ولا دليل عليها من عقل أو نقل، وأكثر من يقول بهذه الأفكار هم الملحدون الذين ينكرون الألوهية، فلا يمكن تشبيه معجزة من أعظم المعجزات التي حدثت للنبي – صلى الله عليه وسلم – بمثل هذه الأفكار.
إن معجزة الإسراء والمعراج حقيقة ثابتة بالكتاب والسنة، وقد أثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – صدق حديثه عن هذه المعجزة بأدلة واضحة أخرست ألسنة أهل مكة، وأفحمتهم، ومن ذلك: وصفه – صلى الله عليه وسلم – المسجد الأقصى وصفا دقيقا، فكان هذا الوصف دليلا آخر على صدقه، يجزم بكونها حال اليقظة لا المنام، وبالبدن والروح لا بالروح فحسب.
(*) اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، إدوارد جيبون، ترجمة: محمد سليم سالم، دار الكتب المصرية، القاهرة، د. ت. قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1998م. القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث، كارين أمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر ومحمد العناني، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1998م.
[1]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص419، 420.
[2]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص421.
[3]. رد افتراءات المنصرين حول الإسلام العظيم، مركز التنوير الإسلامي، القاهرة، 2008م، ص189، 190 بتصرف يسير.
[4]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص190 بتصرف.
[5]. محمد المثل الكامل، أحمد جاد المولى، دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص136، 137.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3675).
[7]. الجم: الكثير.
[8]. البلابل: أي الهموم والوساوس.
[9]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص411، 412.
[10]. الأمم: القريب.
[11]. ند: نفر وبعد.
[12]. محمد المثل الكامل، أحمد جاد المولى، دار المحبة، دمشق، ط1، 1412هـ/ 1991م، ص138، 139.
[13]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص413.
[14]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، مصر، ط7، 1398هـ/1978م، ص121.
[15]. النبوات، تقي الدين أحمد بن تيمية، تحقيق: الشحات الطحان، مكتبة فياض، القاهرة، 2005م، ص166.
[16]. الجمل الأورق: ما في لونه بياض إلى سواد، أو الرمادي.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب حديث الإسراء (3673)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال (446).
[18]. أخرجه مسلم في صحيحه، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (14).
[19]. السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص414: 417.
الطعن في عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – لتعرضه للنسيان
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كانت تعرض له حالات نسيان – لا سيما حين سحر – ذاهبين إلى أن نسيانه تكرر في شئونه الخاصة، فضلا عن صلاته. وهم يرمون من وراء ذلك إلى القدح في عقل النبي – صلى الله عليه وسلم – ووعيه بما يتنافى مع عصمته.
وجها إبطال الشبهة:
1) ما اتفق له – صلى الله عليه وسلم – من النسيان أيام تعرضه للسحر إنما كان بتأثير الضعف الجسدي الذي لحق به، لا الضعف العقلي، وكان من الأمور العارضة التي لم تستمر إلا عدة أيام.
2) النسيان الطبيعي الذي هو من خصائص النوع الإنساني ليس مطعنا في أحد، سواء أكان نبيا أم غير نبي.
التفصيل:
أولا. ما تعرض له – صلى الله عليه وسلم – من سحر إنما كان تسلطا على البدن دون الروح، ولا أثر له على عقله صلى الله عليه وسلم:
ما كان يحدث له – صلى الله عليه وسلم – من النسيان في الأيام التي سحر فيها – وهي قلائل – إنما كان بتأثير الضعف الذي لحق بقواه الجسمية، وليس العقلية، وكان أمرا عارضا من أمور الدنيا فقط، وليس من أمور الدين، تأكيدا لإنسانيته، مع عصمته من أن تتأثر بها روحه، أو وعيه بأمور الدين والتشريع.
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «سحر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يهودي من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم قالت: حتى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم – أو ذات ليلة – دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا، ثم دعا، ثم قال: “يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب([1])، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط([2]) ومشاطة([3]) وجف طلعة ذكر([4])، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان”.
قالت: فأتاها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أناس من أصحابه، ثم قال: “يا عائشة، والله، لكأن ماءها نقاعة الحناء([5])، ولكأن نخلها رءوس الشياطين”، قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال: “لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت» ([6]).
قال القاضي عياض: “وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في إحدى روايات الحديث:«حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» ([7])؛ أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور.
وهذا مثل ما يعتري الرجل السليم قوي البدن، المحطم للأرقام القياسية في رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسي أعلى، وعند محاولة الرفع لا يستطيع، ومثل ذلك أيضا الإنسان في حالة النقاهة من المرض، يظن أن به قدرة على الحركة، وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه.
وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل الشيء ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبسا على تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا فلا مطعن لأهل الضلالة، ثم إنه لم يثبت، بل ولم يرد أنه – صلى الله عليه وسلم – تكلم بكلمة واحدة في أثناء مدة السحر تدل على اختلال عقله صلى الله عليه وسلم، ولا أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به، ومن نفى فعليه بالدليل – ولا دليل – وكل هذا يوضح كيف أخطأ خصوم السنة والسيرة العطرة في تفسير السحر، بزعمهم أنه أثر على عقله – صلى الله عليه وسلم – عصمه الله من ذلك” ([8]).
ثانيا. النسيان الطبيعي من لوازم بشريته – صلى الله عليه وسلم – ولا يقدح في عصمته:
لقد صرح النبي – صلى الله عليه وسلم – بطروء النسيان عليه كعادة البشر وهو منهم، فالنسيان الطبيعي أمر فطري في البشر جميعا، بيد أن نسيانه – صلى الله عليه وسلم – لا ينافي عصمته.
يقول الشيخ محمد بن علوي المالكي تحت عنوان “سهوه – صلى الله عليه وسلم – وأنه لا ينافي كماله صلى الله عليه وسلم “: ومن ذلك حديث السهو: وهو «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى صلاة العصر فسلم في ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن»، وفي الرواية الأخري: «ما قصرت الصلاة وما نسيت»، فظاهر هذا الحديث يفيد أنه – صلى الله عليه وسلم – نفى الحالتين، وأنه لم يحصل قصر ولا نسيان، مع أنه قد حصل أحد ذلك، كما قال ذو اليدين: «قد كان بعض ذلك يا رسول الله» ([9]).
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة، منها: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر عن اعتقاده وضميره، أما إنكار القصر فحق وصدق باطنا وظاهرا، وأما النسيان فأخبر – صلى الله عليه وسلم – عن اعتقاده، وأنه لم ينس في ظنه فكأنه قصد الخبر بهذا عن ظنه، وإن لم ينطق به، وهذا صدق أيضا.
والذي يظهر أن قوله صلى الله عليه وسلم «لم أنس»إنما هو إنكار اللفظ فقط، وأراد – صلى الله عليه وسلم – أن يشير إلى أنه نسي، ولم ينس، وشبيه بهذا إنكاره – صلى الله عليه وسلم – على من يقول: نسيت آية كذا وكذا بقوله في الحديث: «بئسما للرجل أن يقول: نسيت، سورة كيت وكيت أو نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي»([10]). فلما قال له السائل: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ أنكر قصرها كما كان وأنكر نسيانه هو من قبل نفسه، وبين أنه – صلى الله عليه وسلم – إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره، فتحقق أنه نسي وأجري عليه ذلك ليسن.
فقوله على هذا «لم أنس» «ولم أقصر» «وكل ذلك لم يكن»، صدق وحق، فلم تقصر الصلاة ولم ينس حقيقة، ولكنه نسي.
وهذا لا يعارضه حديث: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» ([11])، لأن هذا الحديث فيه إثبات النسيان، والحديث الذي قبله فيه نفي لفظ النسيان وكراهة لقبه، وليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة فلا تعارض.
هذا ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما قصرت ولا نسيت»، وبقي بعد ذلك قضية نسبة النسيان إليه – صلى الله عليه وسلم – وحكمه.
والأحاديث الصحيحة المذكور فيها السهو من النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاثة:
حديث ذي اليدين: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلى بهم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين، ثم أتى جذعا في قبلة المسجد، فاستند إليها مغضبا، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما، وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة، فقام ذو اليدين فقال: «يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم – يمينا وشمالا فقال: “ما يقول ذو اليدين”؟ قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين. فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر، ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع»([12]).
حديث عبد الله بن بجينة رضي الله عنه: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم» ([13]). وهو دليل على أن ترك التشهد الأول سهوا يجبره سجود السهو، وأن سجود السهو يكون قبل السلام، ويدل أيضا على وجوب متابعة الإمام، ويؤيده حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تاما كانتا ترغيما للشيطان» ([14]).
حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى الظهر خمسا، فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قال: “وما ذاك”؟ قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه، فقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكني إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» ([15]). وهو دليل على أن متابعة المؤتم للإمام فيما ظنه واجبا لا يفسد صلاته، فإنه – صلى الله عليه وسلم – لم يأمرهم بالإعادة.
وهذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل، وحكمة الله فيه ليستن به المسلمون إذا نسوا، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول وأرفع للاحتمال، وشرطه أنه لا يقر على السهو، بل يشعر به ليرتفع الالتباس، وتظهر فائدة الحكمة.
وإن النسيان والسهو في الفعل في حقه – صلى الله عليه وسلم – غير مضاد للعصمة ولا قادح في التصديق.
وهذا بناء على التفريق بين أفعال النبي التشريعية، وبين أقواله التشريعية، فالسهو والنسيان قد يقع في الأفعال والأحكام منه – صلى الله عليه وسلم – وهو جائز عليه، كما ثبت من أحاديث السهو في الصلاة.
أما الأقوال التشريعية فلا يجوز وقوع النسيان والسهو فيها لقيام المعجزة على الصدق في القول، والنسيان يناقض ذلك، أما النسيان في الأفعال فغير ناقض لها ولا قادح في العصمة، بل غلطات الفعل من سمات البشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ([16]). وحالة النسيان والسهو هنا في حقه – صلى الله عليه وسلم – سبب إفادة علم، وتقرير شرع، وزيادة له في التبليغ، وتمام عليه في النعمة بعيدة عن سمات النقص، وأغراض الطعن.
أما ما ليس طريقه البلاغ، ولا بيان الأحكام من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وما يختص به من أمور دينية، وأذكار قلبية، مما لم يفعله ليتبع فيه، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها، وذلك بما كلفه من مقاساة الخلق، وسياسات الأمة، ومعاناة الأهل، وملاحظة الأعداء، ولكن ليس على سبيل التكرار ولا الاتصال، بل على سبيل الندور، وذهبت طائفة إلى منع السهو والنسيان والغفلات، والفترات في حقه – صلى الله عليه وسلم – جملة([17]).
وعلى كل فما وقع للنبي – صلى الله عليه وسلم – من حالات نسيان لا يمكن أن نسميه نسيانا، بل لقد شاء الله له أن ينسى حتى يعلم أمته ما يفعلون إذا تعرض أحدهم للنسيان والسهو في صلاته، فأين ما يقدح في عقله أو في عصمته صلى الله عليه وسلم؟
الخلاصة:
السحر الذي هو تسلط على الروح والإدراك العقلي لا نثبته للنبي – صلى الله عليه وسلم – فيما وقع له من لبيد بن الأعصم، بل كان هذا تسلطا على البدن والقوة الجسدية فقط، ومثل ذلك من جنس الأمراض وصنوف الأذى التي تعرض لها – صلى الله عليه وسلم – في سبيل دعوته، وهذا لا تعلق له بالنبوة أو العصمة.
النسيان الطبيعي من خصائص النوع الإنساني، وليس بمطعن على أحد نبيا كان أو غير نبي؛ إذ هو من خصائص الطبيعة الإنسانية، إلا أن يجاوز ذلك إلى أن يكون خللا نفسيا أو عقليا، فذلك ما ينافي النبوة، أما ما تعرض له النبي – صلى الله عليه وسلم – من سهو ونسيان في صلاته فقد شاء الله ذلك ليشرع للأمة ما تفعله عند النسيان في الصلاة، وهذا لا يقدح في عصمته – صلى الله عليه وسلم – ولا في نبوته.
(*) نقد كتاب “حياة محمد صلى الله عليه وسلم “، عبد الله بن علي النجدي القصيمي، المطبعة الرحمانية، مصر، 1354هـ/ 1935م.
[1]. المطبوب: المسحور.
[2]. المشط: ما يسرح به الرأس واللحية.
[3]. المشاطة: ما يخرج من الشعر عند التسريح.
[4]. جف طلعة ذكر: وعاء طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه.
[5]. نقاعة الحناء: أحمر كلون الماء الذي ينقع فيه الحناء.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب السحر (5430)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب السحر (5832)، واللفظ له.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432).
[8]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص250، 251 بتصرف يسير.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس (682)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1318)، واللفظ له.
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده (4744)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن (1879).
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس (682)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1316)، واللفظ له.
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب صفة الصلاة، باب من لم ير التشهد الأول واجب (795)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1297)، واللفظ للبخاري.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1300).
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
[17]. محمد الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص107: 110 بتصرف.
كيف تعرف صدق النبوة؟
كثيراً ما يردّد العلماء أن مدعي النبوة إما أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، أي أن كل ما يخطر في بالك من الصادقين فإن النبي الصادق أصدقهم، وكل ما يخطر في بالك من الكذابين فإن المتنبئ الكذاب أكذبهم. وهذا يقتضي عِظم التنافر والفرق بينهما؛ حيث الأول في أعلى ما قد يتصوره الإنسان من الصدق، والآخر في أسفل دركات الكذب، ومن التبس عليه حالهما حريٌ به أن يلتبس عليه صدق أو كذب من دونهما!
أود في هذه المقالة السريعة أن أُسلّط الضوء على بعض ما يكشف عن ذلك، أعني عِظم التنافر بينهما، فأقول:
أولاً: عِظم الدعوى
دعوى النبوة من أعظمِ الدعاوى على الإطلاق؛ فقول الشخص: أنا رئيس الدولة الفلانية أو أنا أملك قوةً خارقة أستطيع من خلالها الطيران في السماء أهون من أن يقول لك: خالق السماوات والأرض أرسلني إليك، فلئن كان من البديهي ألّا يسلّم الإنسان بما هو أهون من دعوى النبوة إلا بدليل، فالتحقق من صدق النبوة أشد وأولى، هذا من جهة طلب الدليل، أما من جهة إدراك الترابط بين الدليل والمدلول فهو ميسورٌ للكل مُدْرَكٌ لجميع أطياف المجتمع كما يُدْرِك الناس عدم الترابط بين الاستدلال بالقدرة على المشي لإثبات القدرة على الطيران! وإدراك عدم الترابط أيضاً بين دعوى النبوة والسّحر؛ إذ السحر مما يقدر عليه البشر وكثير منهم لم يدّع النبوة، ولئن خفي عليهم عدم الترابط في أول الأمر فلا بد من ظهوره مع الأيام.
ثانياً: ضرورة الشرع
النبوة تتضمن أخبارًا وأوامر، ولولا ذلك لم يكن لادّعاء النبوة معنى، والكذب في ادِّعائها يُفضي إلى الكذب في أمورٍ كثيرةٍ؛ حيث ما يسنده إلى الربِّ تعالى غالبه- إن لم يكن كله- كذب، ومن كَذَب على الخالق تعالى وتجرأ على ذلك هان عليه الكذب في أموره كلها.
ثالثاً: ضرورة التميز
ما يُخبر به النبي ويأمر به غيرَه لا بد أن يكون مما لا يقدر على إدراكه البشر؛ إذ لو كان الذي جاء به مدركاً عند غيره لم يتحقق معنى الاصطفاء الذي هو لبُّ النبوة؛ فيكون حاله كمن يخبر غيره أن للإنسان رأس ولسان يتحدّث به، أو يخبر عن شيء مما يُتوصل إليه بالعقل والتجربة، وبالتالي اشتراك غيره معه، فينتفي اختصاصه بما زعم أنه اختص به!
رابعاً: ضرورة الدليل
لا يعني مما سبق أن الحديث عما لا تدركه عقول الناس كافٍ في ادّعائها؛ إذ الكل بإمكانه أن يُطلق العنان لخياله وما يجوِّزه ذهنه ثم يدعو غيره إليه؛ وحيث كان الأمرُ كذلك فلا بد أن يكون مع النبي الصادق ما يدل على صدقه؛ ليتميز به عمن يتكلّم في أمر الغيب بلا سلطان.
ومن جوّز على الله تعالى أن يُسوِّي في الدنيا بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، لزمه نسبةُ النقص إليه سبحانه وتعالى؛ إذ التسوية بينهما تؤول إلى عدم إقامة الحجة على جنس الأخيار والأشرار، هذا من جهة حكمته، أما من جهة عدله سبحانه فإنه لا يسوّي بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب في الدنيا، ولا يساوي بين من صدّق رسله وأعرض عنهم في المآل الأخروي، فأما من جهة الدنيا فإن النبي- كما سبق بيانه- يأتي بجملةٍ من العلوم والأعمال اصطفاه الخالق بها ليبلغها خلْقه، وهي لا بد أن تتعارض مع ما يدعو إليه المتنبئ الكذاب من جهة مضمون ما يدعون إليه ومن جهة القصد والدافع لادّعاء النبوة؛ فإن النبي الصادق لا بد أن يأتي بما لا تدركه عقول البشر، والكاذب بشر، والدافع لادّعائها هو امتثال أمر ربّه لا غير ذلك، فلا يظهر- على تقدير عدم الدليل- صدق الصادق وكذب الكاذب في ادّعاء النبوة، وهذا أثقل ما يكون على الصادق؛ إذ علمه بصدق خبره دون القدرة على إثبات ذلك لغيره يقتضي تسويته- في حكم الناس- مع من يقول بضد قوله، فلا هو الذي استراح من هم التبليغ ولا هو الذي أُعطي ما يُثبت صدقه!
وأما من جهة المصدّقين والمكذبين فمعلومٌ أن الخالق سبحانه وتعالى لا يساوي بين الأخيار والأشرار، والأبرار والفجّار، لكون ذلك من الظلم الذي حكم العقل بانتفائه عنه ضرورةً، وحينئذٍ لو قُدّر اثنان: أحدهما صدّق رسل الله واتّبع ما جاءوا به والآخر كذّبهم وأعرض كبراً وعتواً لكان الأول من الأخيار والآخر من الفجّار. ومعلومٌ أن معرفة الإنسان للخير لا تستلزم بالضرورة اتّباعه، ومعرفته للشر لا تستلزم اجتنابه. ولكي يتميز الأول عن الثاني في المآل لا بد من تمييز النبي الصادق بما يقيم به الحجّة على الناس، ويُخضع طالب الحق.
يقول شيخ الإسلام:
«إذا كان قادراً- أي الله تبارك وتعالى- على أن يهدي الإنسان الذي كان علقةً ومضغةً إلى أنواع العلوم بأنواعٍ من الطرقِ إنعاماً عليه، وفي ذلك من بيان قدرته وحكمته ورحمته ما فيه، فكيف لا يقدر أن يعرفه صدق من أرسله إليه؟ وهذا أعظم النعم عليه، والإحسان إليه، والتعريف بهذا دون تعريف الإنسان ما عرفه به من أنواع العلوم؛ فإنه إذا كان هداهم إلى أن يعلم بعضهم صدق رسول من أرسله إليه بشر مثله، بعلامات يأتي بها الرسول، وإن كان لم تتقدّم مواطأة وموافقة بين المُرسِل والمرسَل إليهم.
فمن هدى عباده إلى أن يرسلوا رسولاً بعلامةٍ، ويعلم المرسَل إليهم أنها علامة تدل على صدقه قطعاً، فكيف لا يقدر هو أن يرسل رسولاً، ويجعل معه علامةً يُعرّف بها عباده أنه قد أرسله. وهذا كمن جعل غيره قديراً عليماً حكيماً فهو أولى أن يكون قديراً عليماً حكيماً، فمن جعل الناس يعلمون صدق رسول يرسله بعض خلقه بعلامات يعلم بها المرسَل صدق رسوله، فمن هدى العباد إلى هذا، فهو أقدر على أن يعلِّمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة.» النبوات ٢/٦٥٤
ويقول:
«ونحن نعلم بالاضطرار… أنه لا يبعث أنبياء صادقين يبلغون رسالته ويأمر الناس باتّباعهم ويتوعد من كذبهم، فيقوم آخرون كذابون يدّعون مثل ذلك، وهو يسوي بين هؤلاء وهؤلاء في جميع ما يفرّق به بين الصادق والكاذب. بل قد علمنا من سنّته أنه لا يُسوّي في دلائل الصدق والكذب بين المحدّث الصادق والكاذب، والشاهد الصادق والكاذب، وبين الذي يعامل الناس بالصدق والكذب، وبين الذي يظهر الإسلام صدقاً، والذي يظهره نفاقاً وكذباً، بل يميز هذا من هذا بالدلائل الكثيرة؛ كما يميز بين العادل والظالم، وبين الأمين والخائن؛ فإن هذا مقتضى سنته التي لا تتبدّل وحكمته التي هو منزه عن نقيضها وعدله سبحانه بتسويته بين المتماثلات وتفريقه بين المختلفات. فكيف يسوّي بين أفضل الناس وأكملهم صدقاً، وبين أكذب الناس وشرّهم كذبا فيما يعود إلى فساد العالم في العقول والأديان والأبضاع والأموال والدنيا والآخرة.» النبوات ١/٥٢٦- ٥٢٧
فمن ادّعى النبوة كذبًا فهو من أجهل الناس وأكذبهم؛ لأن دليله لا بد أن يكون مما يقدر عليه البشر، كمن يقول: أنا ملكُ الدولة الفلانية ودليلي أنني آكل وأشرب وأنام، فيُقال له: إذاً جاز للكل أن يدّعي ما ادّعيته لكون الكل يأكل ويشرب وينام، فلو كان دليلك مستلزمٌ لمدلولك لتحقق المدلول في كلِّ من تحقق فيهم دليلك!
فثبت عندئذٍ كذبه- بل وأحطّ درجات الكذب- لكونه ادّعى دعوى عظيمة جداً بلا دليل، بل وتجرأ على الكذب في حقِّ خالقه، والمتجرئ على هذا لن يترفّع عنه في حق المخلوقين.
خامساً: وجود المخالفين
مبنى هذه الفقرة على المحاور التالية:
- ليس كل من عرف الحق اتبعه.
- ليس كل الناس معرضون عن الحق.
- ثبوت الحقيقتين السابقتين يعني أن الناس منقسمون إلى طلاب حقٍ ومعرضين عنه.
- مدّعي النبوة إن كان صادقاً لن يصدِّقه ويتّبعه إلا طالب الحق.
- أما إن كان كاذباً فيسعارضه صنفان هما:
- طلاب الحق.
- من خالف أهواءهم ورغباتهم ؛ لاستحالة أن يرضي كآفة المدعوّين.
- وجود المعارضين يعني ظهور حاله وعدم خفائه فلا يلتبس على أحدٍ البتة.
وإليك تفصيل ما سبق:
مدّعي النبوة سواءً كان صادقاً أو كاذباً فلا بد أن يوجد مَن يُخالفه ويناهضه؛ ومستند هذا قاعدة مهمة مفادها: ليس كل الناس معرضين عن الحق كما أنه ليس كل من عرف الحقَّ اتّبعه؛ إذ القول بأن (الكل معرضٌ عن الحق) يقتضي سقوط الدعوى نفسها؛ لأن صاحبها أحد المعرضين عن الحق! أما القول بالثاني، أي(كل من عرف الحقّ اتبعه) فلا يسنده الواقع أبداً؛ إذ ما من قولٍ إلا وهناك من يقول بنقيضه فإما أن يُدّعى أن كافة الناس على حق، وهذا يقتضي الجمع بين النقيضين وهو مُحال، أو أنهم يطلبون ما ليس بمقدورهم الوصول له وهذه أيضاً دعوى ساقطة من عدة جهات، فمن جهة الواقع فالناس يجدون في أنفسهم شعوراً اضطرارياً بصدق كثيرٍ من القضايا وكونها حق، ومن جهة الدعوى نفسها فإن المدّعي لا يخلو من أن يعتقد أن قوله هذا حق أو ليس بحق، وفي كلا الحالين يسقط قوله؛ ففي حال اعتقاده أنها حق فقد أقرَّ بإمكان وصوله إلى الحقائق، وبهذا نقض دعواه. أما إن اعتقد عدم كونها حق فقد أغنانا عن تفنيدها!
وليس هذا موطن التفصيل في نقدها عقلاً من كل الجهات؛ لأن التدليل على الدعوى المركزية في هذه الفقرة له طريق آخر أيسر وأسهل تعلمه الآن إن شاء الله.
أقول: قد علمتَ فيما مضى أن مدّعي النبوة لا بد أن يأتي بأخبارٍ لا تدركها عقول المخبَرين؛ لأن هذا مقتضى اصطفائه بالوحي، فلو ادّعى النبوةَ مدّعٍ ولم يخبر ويأمر بأشياء وينهى عن أشياء ثم ينسبها إلى خبر الله تعالى ومراده، لكان كمن يقول أنا طبيب وهو لا يختلف عن عوامِ الناس في شيء!
وخبره وأمره ونهيه- سواءً كان صادقاً أو كاذباً- لا بد أن يُخالف بعض معتقدات ورغبات مَن يدعوهم، وهذه المعتقدات إما استحدثها المدعوون أو ورثوها عن آبائهم، وهم- أي المدعوون- بمقتضى القسمة العقلية إما طلاب حقٍ كلهم، وإما معرضون عن الحق كلهم، وإما بعضهم طلاب حقٍ والبعض الآخر ليسوا كذلك، فعلى تقدير الاحتمال الأول فإن كان صادقاً لزم أن يصدّقوه كلهم، وإن كان كاذباً لزِمَ تكذيبهم له، وإن خَفي على البعض أمره أظهره البعض الآخر لهم، فآل الأمر إلى تصديق كل من سَمِعَ به إن كان صادقاً أو تكذيبهم إن كاذباً.
وأما إن كان الكل في زمانه معرضٌ عن الحق قيل فيه ما قِيلَ في السابق فآل الأمر إلى اتفاقهم على تصديقه إن كان كاذباً، أو تكذيبه إن كان صادقاً، واللوازم المترتبة على الاحتمال الأول والثاني باطلةٌ فدل على بطلان الملزوم الذي هو (افتراض أن الكل طلاب حقٍ أو أن الكل معرض عنه لا يأبه له)، وبقي الاحتمال الثالث وهو (كون البعض طلاب حقٍ، والبعض الآخر معرضون عنه) وحينئذٍ لم يخفَ حال مدّعي النبوة على أحدٍ؛ لوجود المُعارض المكذّب له سواءً كان صادقاً في دعواه أو كاذباً، فعلى تقدير صدقه فإن تصديقه زمن ادّعائه يقتضي تخلّي المصدّقون به عمّا يخالف ما جاء به، واتّهام أنفسهم ومَن أخذوها عنه بالجهل، والحكم على كل من أصر عليها بعد قيام الحجة بالهوى والسفه حتى وإن كان من أقرب الناس بل كل ما يقوله هذا النبي عنهم يقولونه، وأيضاً يلتزمون كل ما أتى به وإن شقّ عليهم القيام به.
وهذا لا يفعله إلا طالب حقٍ علم صدق نبوته فهان عليه كل ما سبق، ويفر منه مَن لا يهمه اتّباع الحق، ومعلومٌ أنه لا تلازم بين كون الإنسان على باطل واعترافه بأن ما عليه باطل، بل كثير من أهل الباطل يسعى لتبرير موقفه ويجادل لدفع تهم الزيغ والضلال عن نفسه كما قال الله تعالى: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾.
أما على تقدير كذب مدعي النبوة فإن المخالفين له- في زمانه- هم طلاب الحقِّ، وغيرهم ممن يخالفه لا لأنه كاذب في دعواه وإنما لمخالفته إياهم، ووجود هؤلاء ضروري لاستحالة أن يأتي بما يُوافق أهواء ورغبات الكل، وبهذا تعلم أن مدّعي النبوة لا يمكن أن يخفى حاله على أهل زمانه ومن بعدهم لوجود المعارضين له، فإن كان صادقاً غلبهم وأركسهم؛ لأن الخالق تبارك وتعالى قد أعطاه من الأدلة ما يدحض به تبريرات المعرضين عن الحق الصادّين عنه، وإن كان كاذبًا فليس معه ما يثبت دعواه وكل ما ينصبه كدليلٍ له يقوم المخالفون له بتقويضه، ولا يتجرأ على الكذب في أعظم دعوى مع علمه بوجود المخالفين ثم إصراره على صحةِ ما ادّعاه إلا أكذب الكاذبين، فيذاع كذبه وينتشر لسعي طلاب الحق والمخالفين له في إظهار حقيقته، وذلك لأن الصنف الأول يجدون راحتهم في إذاعة ما علموه من الحق، والصنف الثاني يسعون لحفظ مكانةِ آبائهم وما نشأوا عليه وما أظهروه من علومهم وطقوسهم وغيرها.
وختاماً تبين لك أن مدّعي النبوة قد ادّعى دعوى عظيمةً تتضمن علوماً اختص بها عن غيره، لا يُسلَّم له بها حتى يقيم من الأدلة ما يُخضع طلاب الحق ويُبطل أصول المخالفين ويسحقها، وأنّى للكاذب إن سَهُلتْ عليه الدعوى أن يجوزَ حواجزَ لا يتجاوزها إلا الصادق دون مَن سواه، فإن تشبّث بدعواه فهو في الحقيقة يؤكد كذبه في كل يومٍ تسطع فيه شمسٌ لا مفر له من ضوئها!
المصدر: صفحة “براهين النبوة” على فيسبوك
هل الإسراء والمعراج تناقض العلم؟
يجب التفريق بين محالات العقول ومحارات العقول. فالذي يستحيل عقلا لا يمكن حصوله أبدا، كالقول بأن الجزء أكبر من الكل مثلا، لكن ما يحتار فيه العقل ولا يتناقض معه فلا يصح نفيه أبدا.
يعني مثلا لو أنك تعيش في القرن السادس عشر الميلادي وقيل لك إن مئات الأشخاص سيطيرون على مركبة من القاهرة إلى الصين بارتفاع عشرة آلاف ذراع، أو قيل إنك ستحادث شخصا في مكة وتراه وأنت في القاهرة صوتا وصورة، فهل هذا من محالات العقول أو محاراتها؟
إن نفيت إمكان ذلك فأنت مخطئ، فالمنطق يعارضك والواقع يكذبك.. لكن إن نفيت احتمال ذلك وأنه مثير لحيرة العقل فإن جوابك هنا مقبول.
فالإسراء والمعراج مثلا، بالمعيار المنطقي، من محارات العقول، وهنا وجه الإعجاز. ومثل ذلك وجود رجوم الشياطين في السماء الدنيا، فهذه أمور غيبية، ومثلما أن الشياطين كائنات غيبية لا نستطيع نفيها ولا نفي رجومها، سواء كانت رجومها خاصة بها أو كانت هي نفس المذنبات التي نراها وتؤدي وظيفة غيبية هي رجم الشياطين، فإن هذا الأمر لا يمكن نقضه عقلا بحجة أنه يناقض العقل وإن كان يثير حيرته.
لكن الإشكال هنا يقع عند الملحد الذي ينفي بلا برهان، ويبني نقاشه في هذه الأمور على منهجية خاطئة تماما؛ فإذا علمنا أن إيمان المسلم بهذه الغيبيات مبني على مصدر واحد فقط هو الوحي، والوحي مصدر معتبر عند المسلم وغير معتبر عند الملحد، فمن الغفلة لدى الملحد أن يناقش المسلم في هذا الأمر الغيبي نقاشا فيزيائيا وقد ثبت عنده بالوحي وليس بالفيزياء.. في حين أن المسلم لم يطالب الملحد أصلا بالإيمان بهذه الغيبيات التي استدل عليها بالوحي.
ولو كان الملحد ذا عقل مميز لناقشني في الأصل قبل الفرع، وهو وجود الخالق وصحة الوحي.
الزعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مزواجا شديد الميل للنساء(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان شهوانيا مزواجا محبا للنساء، وأنه كان شديد الميل لهن والولع بهن، ويستدلون على ذلك بما يزعمونه من أنه:
كانت له ست عشرة زوجة وسرية، ومع ذلك كان ينكح كل من وهبته نفسها، من غير تقيد بعدد.
جمع بين هذا العدد من النساء في حين أنه حرم على المسلمين أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة، وهو بهذا قد استحل لنفسه ما حرمه على غيره.
لم يختر زوجاته على أساس ديني؛ بل كان لهوى في نفسه.
اتخذ لنفسه من النكاح متعة على عادة سلاطين الشرق، بمجرد أن استقر له الأمر.
كان ينساق خلف شهوته ويعزف عن عفاف القلب والروح؛ ومن ذلك أنه غضب من صحابته يوم وليمة زواجه من زينب بنت جحش – رضي الله عنهاـ لأنهم تأخروا في الانصراف؛ مما عطله عن تلبية نداء مزاجه.
اعتبر زواج المسلم بلا مهر ولا شهود ولا ولي زواجا فاسدا، في حين أنه أباحه لنفسه؛ فقد أعتق صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها دون شهود ولا صداق ولا موافقة ولي، واعتبر مجرد عتقها صداقا لها.
وأخيرا… أباح تعدد الزوجات لأتباعه كنوع من محاولة الدخول في هذه العباءة الفضفاضة لكي لا يبدو أكثر شهوانية منهم.
ويهدف هؤلاء المشككون من وراء ذلك كله إلى الطعن في حياته – صلى الله عليه وسلم – الخاصة وعلاقته بالمرأة وإلباسها ثوبا – لم تلبسه – من الشهوانية والميل الغريزي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لم ينكح كل من وهبته نفسها، ولم يكن – صلى الله عليه وسلم – بدعا من البشر في تسريه؛ وذلك لأن التسري أمر موجود منذ إبراهيم – عليه السلام – والتوراة تذكر أن أنبياء بني إسرائيل قد اتخذوا السراري، فلما جاء الإسلام أقر هذه الظاهرة، ولكنه قيدها ووضع لها شروطا وضوابط تكفل حماية السراري.
2) لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في تعدد زوجاته؛ فأمر تعدد زوجات الأنبياء والرسل معهود ومشروع في أغلب الأديان السابقة، وقد تزوج إبراهيم وإسحق وداود وسليمان – مثلا – بأكثر من زوجة.
3) لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أمر المسلمين ألا يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات إلا مبلغا تشريع ربه، أما جمعه – صلى الله عليه وسلم – بين أكثر من أربع فهو مما اختصه الله – عز وجل – به ولا يجوز لغيره.
4) اختياره – صلى الله عليه وسلم – لزوجاته كان على أسس دينية وحكم إنسانية ومقاصد تعليمية مأمور بها، ولم يحد عنها – صلى الله عليه وسلم – في أي زيجة من زيجاته.
5) انطلق السلاطين في تعدد نسائهم من أمر دنيوي، لا يعدو أن يكون التعدد فيه مجالا للمتعة المزاجية واللهو الجنسي؛ ولذلك فإنهم كانوا لا يرضون إلا بالأبكار الجميلات؛ فهل يعقل أن يشبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بهؤلاء، وهو الذي تزوج في أول عهده بالزواج امرأة ثيبا تكبره بخمس عشرة سنة، ولم تكن في زوجاته بكر إلا عائشة؟!
6) ما جاء به القرآن في قصة وليمة زواجه – صلى الله عليه وسلم – من زينب بنت جحش إنما كان تهذيبا لسلوك المسلمين، وتنبيها لهم إلى مراعاة شدة حياء النبي – صلى الله عليه وسلم – وما ينبغي لهم أن يفعلوه إذا دخلوا بيته صلى الله عليه وسلم.
7) جواز نكاحه – صلى الله عليه وسلم – بغير ولي ولا شهود ولا مهر، وأن تحل له المرأة بغير عقد من جملة ما اختص الله به نبيه – صلى الله عليه وسلم – ولا يجوز لغيره.
التفصيل:
أولا. تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لم ينكح كل من وهبته نفسها، ولم يكن بدعا من الأنبياء في تسريه:
قبل أن نفصل الحديث عن هذا يجدر بنا أن نوضح معنى هذه الكلمة “التسري” لغة واصطلاحا:
التسري في اللغة: اتخاذ السرية، يقال: تسرى الرجل جاريته، وتسرى بها واستسرها: إذا اتخذها سرية، وهي الأمة المملوكة يتخذها سيدها للجماع، والتسري من السرور؛ وسميت الجارية سرية لأنها موضع سرور الرجل، ولأنه يجعلها في حالة تسرها من دون سائر جواريه، وقيل: من السر بمعنى الإخفاء؛ لأن الرجال كثيرا ما كانوا يتخذون السرارى سرا ويخفونهن عن زوجاتهم الحرائر، والتسرى في الاصطلاح لا يختلف عن معناه اللغوى.
والتـسـرى جـائـز في الإسـلام، بالكــتـاب والسنــة والإجمـاع، إذا تمت شـروطـه، يـقـول عـز وجـل: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)، وقد تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذلك اتخذ الصحابة السراري.
وليس معنى هذا أن الإسلام هو الذي ابتدع هذا النظام؛ فقد كان معروفا في كل الأمم قبل الإسلام، وعرفته الأديان الأخرى قبل الإسلام، وقد ورد أن إبراهيم – عليه السلام – تسرى بهاجر التي وهبه إياها ملك مصر، فولدت له إسماعيل – عليه السلام – وقيل: كان لسليمان – عليه السلام – ثلاثمائة سرية، وقد عرف العرب الجاهليون التسري أيضا[1].
أما عن تسري النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد ورد أنه – صلى الله عليه وسلم – تسرى بأربعة من النساء:
الأولى: مارية القبطية بنت شمعون، وقد أهداها المقوقس للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأختها سيرين، فأعطى النبي – صلى الله عليه وسلم – سيرين لحسان بن ثابت، وولدت مارية إبراهيم للنبي – صلى الله عليه وسلم – في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة
والثانية: ريحانة وقيل اسمها ربيحة بنت شمغون – بالشين والغين – بن زيد بن عمرو بن قنافة من بني النضير، وذكر ابن سعد عن الواقدي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سباها أرسلها إلى بيت أم المنذر بن قيس، فدخل عليها، فاختبأت حياء منه، فدعاها وخيرها، فاختارت رسول الله، فلم تزل عنده حتى ماتت.
والثالثة: نفيسة، يقال: إنها كانت جارية لزينب بنت جحش، وهبتها للنبي – صلى الله عليه وسلم – لما رضي عنها بعد هجرها.
والرابعة: أمة لا يعرف اسمها[2].
فلم يعاب على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه اتخذ السراري، والتوراة نفسها تذكر أن أنبياء بني إسرائيل اتخذوهن؟
وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – اتخذ السراري كغيره من الأنبياء فإنه لم ينكح كل من وهبته نفسها – كما يزعم مثيرو هذه الشبهة – ويجدر بنا قبل أن نفصل الحديث عن هذه الخصيصة من خصائص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نوضح معنى (الهبة أو الوهب)، وذلك على النحو التالي:
الوهب: انتقال ملكية بلا مقابل، نقول: وهبك فلان كذا، أي: أعطاه لك بلا مقابل، ليس بيعا وليس بدلا. وشرط الهبة أن تكون من امرأة مؤمنة، قال الشعراوي: “قال: )وامرأة مؤمنة( (الأحزاب: 50)؛ لأن الهبة هنا خاصة بالمؤمنة، فإن كانت كتابية فلا يصح أن تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
لكن أتحل له المرأة بمجرد أن تهب نفسها؟ قالوا: لا، إنما لا بد من القبول، فإن قالت المرأة لرسول الله: أنا وهبت نفسي لك، لا بد من أن يقبل هو هذه الهبة؛ لذلك علق الله على هذه المسألة بقوله: )إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها( (الأحزاب: ٥٠)؛ لأن المسألة مبنية على إيجاب وقبول” [3].
ولقد اختلف العلماء في مسألة هبة النساء أنفسهن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل كان عنده نساء موهوبات أم لا؟
ذهب بعضهم إلى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذ امرأة بهبة قط، مستندين إلى ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: لم تكن عند رسول الله امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
وذهب آخرون إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت عنده موهوبات، وقد رجح القرطبي ما ذهب إليه هؤلاء قائلا: “والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده؛ روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأقول: أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله تعالى: )ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء( (الأحزاب: ٥١)، فقلت: والله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» [4].
وعن عـائشـة أنها قـالت: «كـانت خـولـة بنت حـكـيـم من اللائي وهبن أنفـسـهن لـرسـول الله صلى الله عليه وسلم» [5]. فـدل هـذا على أنهـن كن غـير واحـدة. والله تعـالى أعـلم، قال الزمخشـري: وقيـل الـواهبات أربع: ميمـونة بنت الحـارث، وزينب بنت خـزيمة – أم المساكين – الأنصارية، وأم شريك بنت جـابرة، وخولة بنت حـكـيـم” [6].
ولعل مما يؤكد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يقبل كل من تهبه نفسها ما رواه الأئمة من طريق سهل بن سعد: «جاءت امرأة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي، قال: فنظر إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: “وهل عندك من شيء”، قال: لا والله يا رسول الله، فقال: “اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا”، فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظر ولو خاتما من حديد”، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري، قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء”، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موليا فأمر به فدعي، فلما جاء قال: “ماذا معك من القرآن”؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، عددها، فقال: “تقرؤهن عن ظهر قلبك”؟ قال: نعم، قال: “اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن» [7].
فهل يصح أو يعقل بعد هذا أن يزعم زاعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان ينكح كل من وهبته نفسها من غير حساب في العدد. وقد وجد من العلماء من نص على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن عنده من النساء الواهبات أنفسهن له واحدة؟!
ثانيا. لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في تعدد الزوجات:
لا بد أن نقرر أن الأديان السماوية قبل إبراهيم – عليه السلام – ليس لها كتب معروفة تؤخذ منها تشريعات الأسرة، والذي حكاه القرآن الكريم عنها هو المرجع الصادق لها وإلى جانبه النصوص الدينية الأخرى، وكتب التاريخ، ولا يوجد في هذه المصادر ما يدل على أن التعدد كان ممنوعا في هذه الأديان، ويهمنا أن نعرف ما جاء في الديانتين الكبيرتين اللتين نزلت بهما الكتب السماوية بعد إبراهيم – عليه السلام – وهما اليهودية والنصرانية.
وإن كان الاستدلال بما في التوراة والإنجيل الموجودين الآن غير معتبر؛ وذلك لتحريفهما بشهادة القرآن الكريم إلا إننا سنحكي ما ورد فيهما خاصا بالتعدد، مع العلم بأن القرآن نزل مهيمنا عليهما في أخبارهما ومضامينهما التشريعية خاصة.
وإبراهيم عليه السلام – وهو قبل التوراة والإنجيل كما ورد فيهما وفي القرآن الكريم – كان متزوجا من سارة، ولما لم يرزق منها بذرية، تزوج هاجر المصرية التي أهديت لسارة، فرزق منها بإسماعيل، ثم رزق من سارة بإسحاق، فهو قد جمع بين اثنتين في عصمته، بصرف النظر عن كون إحداهما وهي سارة زوجة، والأخرى هاجر سرية على الخلاف في ذلك[8].
وقد كانت له أيضا سراري كثيرة، والدليل على ذلك ما ورد في التوراة: “وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق وهو بعد حي”. (التكوين 25: 6)[9].
وجاء في التوراة أيضا أن إسحاق بن إبراهيم – عليهما السلام – ولد له اثنان، هما: عيصو، ويعقوب – عليه السلام – وأن عيصو جمع بين خمس زوجات، هن: يهوديت، بسمة، محلة، عدا، أهوليانة، وأن يعقوب جمع بين أربع زوجات هن: ليئة، راحيل شقيقتها، بلهة، زلفة، وهذا التشريع كان في صحف إبراهيم – عليه السلام – قبل نزول التوراة على موسى – عليه السلام – وكان من عادتهم أن الزوجة تسمح لزوجها بمعاشرة الجواري وتلحق أولاده منهن بها، وهذه العادة كانت شائعة في الزمن القديم عند إسبرطة اليونانية.
التعدد في اليهودية:
اليهودية دين اليهود الذي نزلت به التوراة على موسى بعد إبراهيم – عليهما السلام – والتوراة الحقيقية غيرت وحرفت، ومهما يكن من شيء فإنه يؤخذ مما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ولقد أكدت كتب اليهود أن مبدأ التعدد مقرر عندهم، وكان تقرير هذا المبدأ امتدادا لتقريره لديهم في شريعة إبراهيم – عليه السلام – ومن بعده، حتى جاء موسى. فداود جمع بين تسع زوجات أولا، ثم وصلن إلى تسع وتسعين كما قالوا[10].
وكذلك تذكر التوراة المحرفة أن سليمان كان يحب النساء، حتى فتن بهن، وغضب الله عليه، وفيها أيضا أنه كان له سبعمائة سيدة، وثلثمائة سرية، وعن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل[11]، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» [12].
واختلفت الروايات في عدد نساء سيدنا سليمان – عليه السلام – فقيل: ستون أو سبعون أو تسعون أو مائة – وتحقيق العدد في شرح الزرقاني على المواهب ولا يهمنا العدد فالثابت أنه كان في عصمته أكثر من زوجة.
وجاء في كتبهم أيضا أن “رحيمان” جمع بين ثماني عشرة زوجة، وأن “بهو باراع” الكاهن جمع بين زوجتين وأن “إيبا” ملك يهوذا جمع بين أربع عشرة زوجة.
ولقد ظل التعدد جائزا عند اليهود، ولم يحرمه إلا مجمع “وورمز” الرباني الشهير، الذي عقد في بداية القرن الحادي عشر الميلادي، وإن كان بعض طوائفهم ما زالت تمارسه، أسوة بأنبياء بني إسرائيل.
التعدد في المسيحية:
لقد جاء الإنجيل مكملا للتوراة، ورسالة عيسى – عليه السلام – مكملة لرسالة موسى – عليه السلام – بتقرير ما كان صالحا منها لتطور العصر وظروف البيئة، ومصححا ما لحقها من تحريف أو خطأ، يقول عيسى عليه السلام: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل”. (متى 5: 17). وقال سبحانه وتعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف).
وبهذا نقول: إن عيسى – عليه السلام – لم يحرم تعدد الزوجات، ولم نجد في الإنجيل الصحيح نصا صريحا في التحريم[13].
وقد جاء في إنجيل متى مثل مضروب للملكوت الأعلى على لسان المسيح يدل على أن الجمع بين خمس زوجات جائز، بل الجمع بين عشر كذلك جائز؛ حيث قال ما مؤداه: “إن عشر عذارى كن ينتظرن عريسا ليلا، وكان منهن خمس حكيمات أخذن القناديل واحتياطيا من الزيت، وخمس أخريات أخذن القناديل فقط… إلى أن قال: وذهبت هؤلاء الحكيمات الخمس إلى العريس، ودخل بهن منزلا وأغلقه، ولم يدخل الأخريات لعدم حيطتهن، ولوأنهن اشترين زيتا احتياطيا لدخل العريس بالعشرة”.
هذه هي العبارة المنسوبة إليه، ولو كان التعدد حراما ما ضرب المسيح مثلا للسعادة في ملكوت السماء بشيء محرم[14].
وفي الإنجيل أنه كان للمسيح أربعة إخوة هم: يعقوب، ويوسي، ويهوذا، وسمعان: “أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ههنا عندنا”؟ (مرقس 6: 3)، واتفق النصارى على أن مريم أتت بالمسيح بغير زرع بشر، وإذا كان هذا حاله، فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز؟
اختلفوا؛ لأن متى قال عن يوسف النجار: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع”. (متى 1: 25)، فيكون قد عرفها بعد ولادته، وإن منهم لفريقا يقولون: “إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت، وإن الأربعة أولاد ليوسف من زوجة سابقة له على مريم”. وعلى أية حال فإن غرضنا هو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة، وفي تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضا هما أستير وثامار[15].
“وهكذا نجد أن تعدد الزوجات لم يكن من صنع الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم”، وإنما هو تشريع قديم عرفته كل الحضارات والأديان وفي مقدمتها اليهودية، وأقرته المسيحية، إلا في حالة واحدة هي حالة الأسقف؛ حيث لا يستطيع الرهبنة مع تعدد الزوجات، فليكتف بزوجة واحدة، والقوانين الوضعية هي التي حرمت التعدد في العالم المسيحي.
يقول الأستاذ محمد فؤاد الهاشمي (العالم الذي كان مسيحيا ثم أسلم): “إن اعتراف المسيحية بتعدد الزوجات بقي إلى القرن السابع عشر”، وظل آباء الكنيسة في الغرب يبيحون تعدد الزوجات ويعترفون بأبناء الملوك الشرعيين من أزواج متعددات باعتراف وستر مارك wester mark، وبعرض من العالم القانوني جرتيوس Grotius[16]، وهكذا نجد أن تعدد الزوجات والسراري كان مباحا في كتب التوراة والإنجيل التي يقدسها المبشرون والمستشرقون لأنبيائهم، فكيف اعتبروه نقيصة ومطعنا لسيد البشر وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ومن قبل طعن أسلافهم اليهود في النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب هذا، فرد عليهم القرآن أبلغ رد، وذكرهم بأن التعدد سنة من سنن الأنبياء والمرسلين الذين كانوا قبله، روي أن اليهود عيرت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء، والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى في الرد عليهم قوله: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38)( (الرعد). فقد ألقمهم هذا الرد حجرا، فباءوا بالخزي والبهتان[17].
ونخلص من هذا كله إلى أن تعدد الزوجات سنة من سنن الأنبياء؛ وأن ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن بدعا من الأنبياء السابقين فلقد تزوج إبراهيم، وإسحاق، وداود، وسليمان.. وغيرهم بأكثر من زوجة، فلماذا توجه حملات الطعن والتشكيك في أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – بتعدد الزوجات دون غيره من الأنبياء؟
ثالثا. لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أمر المسلمين بألا يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات إلا مبلغا عن ربه:
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن الهوى، كما قال سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فهو لا ينطق في تشريعاته جميعها – ومنها بالطبع تشريعه عدم زيادة الزوجات عن أربع – عن هواه، إنما هو بوحي من الله عز وجل.
وثمة أحاديث كثيرة ينهى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه عن أن يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات، ويأمرهم بأن يمسكوا أربعا فقط ويفارقوا الأخريات. ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة: «أمسك أربعا، وفارق سائرهن» [18]. وقوله – صلى الله عليه وسلم – للحارث بن قيس، عندما أسلم وعنده ثمان نسوة. «اختر منهن أربعا» [19] [20].
لقد استدل مثيرو الشبهة بهذه الأحاديث التي يأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها أصحابه بألا يزيدوا على أربع زوجات، في مقابل ما شاع عنه – صلى الله عليه وسلم – من أنه تزوج أكثر من أربع زوجات – على أنه كان مزواجا محبا للنساء، والذي أوقعهم في هذا الزعم الخاطئ جهلهم بخصيصة من الخصائص التي اختصه الله – عز وجل – بها دون من عداه من أفراد أمته، وهذه الخصيصة هي: (زواجه بأكثر من أربع نسوة).
لقد أرسل الله – عز وجل – نبيه ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولما أرسل كان التعدد موجودا عند العرب، وثابتا حتى عند الأنبياء السابقين، لكن الله – عز وجل – أراد أن يحدد هذا التعدد تحديدا يمتص الزائد من النساء، ولا يجعله مباحا في كل عدد، فأمر رسوله أن يقول لأمته: من كان عنده أكثر من أربع فليمسك أربعا، ويفارق من زاد عنهن، في حين كان عنده – صلى الله عليه وسلم – تسع زوجات.
فلو أن الحكم شمله، فأمسك أربعا، وسرح خمسا لأصابهن ضرر كبير، ولصرن معلقات؛ لأنهن زوجات رسول الله وأمهات المؤمنين، وليس لأحد أن يتزوج إحداهن بعد رسول الله.
ولهذا نجد الله – عز وجل – يأمره أن يبقي على زوجاته كلهن (وكن تسعا)، يقول سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن( (الأحزاب: ٥٠)، كما أمره أن يقتصر عليهن بذاوتهن، بحيث لو ماتت إحداهن أو طلقت فليس له أن يتزوج بغيرها؛ لأن الله خاطبه بقوله: )لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن( (الأحزاب: ٥٢).
فلم يستثن النبي في العدد، ولكنه استثني في المعدود؛ حيث وقف عند هؤلاء التسع بذواتهن، وليس له أن يتزوج بغيرهن أو أن يستبدلهن بأخريات، أما غيره من أمته فله أن يتزوج ضعف أو أضعاف هذا العدد، شريطة ألا يزيد عن أربع في وقت واحد[21].
إنه ربما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – من أقل الناس حظا في التعدد؛ لأن قصر عدد زوجاته على رقم معين حدده له الشرع، لا يتجاوزه؛ إذ لا تحل له النساء من بعد ولا أن يبدل بهن من أزواج يجعل في إمكان أي مسلم أن يعدد أكثر منه، على الرغم من وجوب اقتصار المسلم العادي على أربع زوجات؛ وذلك أنه يستطيع تطليقهن جميعا أو بعضهن والبناء بزوجات جديدات دون حد.
رابعا. كان اختيار النبي – صلى الله عليه وسلم – زوجاته على أسس دينية وحكم إنسانية ومقاصد تعليمية مأمور بها من قبل الله عز وجل، ولم يحد – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الأسس مرة واحدة:
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – كامل الحرية في التزوج بمن يشاء، بل كان زواجه بأمر من ربه[22]. ويمكن تقسيم الحكم وراء تعدد زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قسمين: حكم عامة، وحكم خاصة بكل زوجة من زوجاته، وفيما يأتي نفصل هذين القسمين:
الحكم العامة:
تبليغ الأحكام الخفية الخاصة بالحياة الزوجية، والتي لا يطلع عليها إلا الزوجان غالبا، ومعرفة السياسة الخاصة بالمنزل، والمعاشرة الزوجية لها منزلتها في الحياة الاجتماعية، وقد يصعب على واحدة أو قلة من الزوجات القيام بهذا التبليغ كما ينبغي، وذلك لكثرة الأسئلة عن هذه الأحوال الخاصة؛ وكان لأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – باع طويل في رواية الأحاديث وتبليغ الأحكام بوجه عام، وعلى رأسهن السيدة عائشة، التي روت من الأحاديث قرابة ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، وتلقاها عنها كثير من الصحابة والتابعين، وكذلك روت السيدة حفصة ستين حديثا.
الاستعانة بهن في شرح الغوامض التي كانت ترد في إجابة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أسئلة النساء، وفيما يستحيا من ذكره، كشرح عائشة للمرأة كيفية التطهر بغسل الحيض الذي كنى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يفصح، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – على حياء كبير اضطره أحيانا أن يكني عن الأعضاء الخفية وما يتصل بها.
إظهار معجزة أو منقبة للرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت كامنة، ولولا هذا العدد من الزوجات ما برزت للناس، وذلك بزيادة أعباء التكاليف عليه، إذ كيف تظهر قوة الرسول في القيام بواجبهن جميعا مع تقشفه وكثرة صيامه وطول قيامه ومشاق جهاده؟ الأمر الذي جعل الصحابة يتحدثون عنه بأنه أعطي قوة ثلاثين أو أربعين من الرجال، إنها طاقة لا تكون إلا للموهوبين أو المصطفين من الناس.
تحقيق صدقه في دعوته وتبرئته من تهمة الناس له بالسحر والكهانة وما إليهما؛ إذ كيف يعرف أنه ليس كذلك، وربما مارس بعض هذه الأعمال كالاتصال بالجن مثلا خفية، حيث لا يكون غالبا إلا سرا، ولكن اطلاع الزوجات على أحواله الداخلية، وهن جمع يؤمن معه تواطؤهن على ستر العيوب، ولا يتصور اتفاقهن على ممالأته في ادعاءاته إن كانت باطلة.
رفع درجات النبي – صلى الله عليه وسلم – بزيادة أعباء التكاليف في القيام بواجبهن، وما أشقه وأدقه وأهمه!! لقد كان الوحي يلاحقه وهو مضطجع مع بعض نسائه، كما جاء عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل على الوحي، وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها» [23].
إظهار أخلاقه الشريفة المستنيرة ومحاسنه الباطنة، التي لا تعرف إلا في ظل الحياة الزوجية بشكل واسع، يدل على ذلك أنه تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكان أبوها كافرا محاربا للرسول إذ ذاك، وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل أباها وعمها وزوجها، فلو لم تطلعا من بواطن أحواله على أنه أكمل الأزواج لكانت الطباع البشرية تقضي بالنفور عنه، والميل إلى الآباء والأقارب، وقد صح ذلك عند البخاري ومسلم.
تأليف العرب بالمصاهرة، ليخفف ذلك من حدة عنادهم للرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد كان لهذا الإصهار أثره في مثل قول أبي سفيان، عنـدما سمـع أن النـبي – صلى الله عـليه وسـلم – تزوج ابنته: “هـو الفحـل لا يقـدع أنفـه”، ذكـره ابـن سعـد وغـيره[24].
في مثل اختيار صفية له – صلى الله عليه وسلم – عندما خيرها بين المقام معه والرجوع إلى أهلها وكان لهذا أثره في تخفيف الحدة بين الرسول واليهود بعد ذلك.
وكذلك في مثل جويرية بنت الحارث المصطلقية التي اختارت الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما جاء أبوها يفتديها منه، وكان قد أخفى بعيرين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “وأين البعيران اللذان بالعقيق في شعب كذا وكذا”؟ فأسلم، وأسلم معه ولداه وناس من قومه، كما روته كتب السيرة[25].
الحكم الخاصة:
لم يخل زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – من أية زوجة من زوجاته – من لدن خديجة وحتى آخر زوجاته – من حكم تشريعية وتعليمية وإنسانية، وفيما يلي نفصل هذه الحكم تبعا لزوجاته، واحدة تلو الأخرى:
خديجة بنت خويلد: أولى زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد تزوج خديجة وهي تكبره بخمسة عشر عاما، تزوجها – صلى الله عليه وسلم – بعد عودته من رحلة الشام 595م بشهرين، وقد كانت تلقب بسيدة قريش، وبالطاهرة. وقد تزوجها ثيبا؛ تزوجها قبله عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، ثم مات، فتزوجها بعده أبو هالة، وقد ولدت لعتيق هندا، ولأبي هالة هندا وهالة، وهي أول من آمن من النساء بدعوة الحق.
وكانت – رضي الله عنها – ذات شرف وسؤدد، فضلا عن غناها… قد آثرت تربية أولادها على الزواج إلى أن صادفت النبي – صلى الله عليه وسلم – فأرسلت إليه تعرض عليه الزواج فقبل. وأنجبت له – صلى الله عليه وسلم – البنين والبنات: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. ولقد آزرت النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعوته مؤازرة عظيمة بمالها ونفسها. وقد قضت في الحصار (شعب أبي طالب) ثلاث سنين، وهي الغنية الموسرة – رضي الله عنها – وعمرها يومئذ ثلاث وستون سنة. توفيت – رضي الله عنها – قبل الهجرة بثلاث سنين.
وكان السبب الرئيسي في زواجه – صلى الله عليه وسلم – من خديجة البحث عن الاستقرار والأمان في الحياة الزوجية؛ وقد أمضى – صلى الله عليه وسلم – معها فترة مديدة، ولم يتزوج غيرها وظل مخلصا لها في هذه الفترة حتى وصل الخمسين من عمره، وهي الفترة التي يكون الرجل قادرا على تعدد الزوجات، ولكنه لم يتزوج غيرها، وظل لها وحدها خمسة وعشرين عاما رغم أن من العادات والتقاليد العربية في كل القبائل تعدد الزوجات، ورغم ذلك فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يجار عادات العرب بتعدد الزوجات، واقتصر على زوجة واحدة فقط لمدة ربع قرن[26].
سودة بنت زمعة: ولم تكن الزوجة الثانية أفضل من سابقتها، من حيث الحسب، والجمال، لكنها زادت عليها بالفقر الشديد؛ حيث هاجرت إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو وفي العودة توفـي السكران وأصبحت سودة بلا عائل، فتزوجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – رحمة بها من مآسي الدهر، ولتكن راعية لأولاده الذين ماتت عنهم أمهم، وكان زواجه بها أيضا تشريفا لها ولقومها؛ لأن أخوالها من بني النجار، وهو يتألف بها بني عبد شمس، كما خاف عليها أن يفتنها قومها إذا رجعت إليهم بعد موت زوجها[27].
عائشة بنت أبي بكر: تزوجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى يقوي الرابطة بينه وبين أبيها أبي بكر الذي كان أول الناس دخولا في الإسلام.
وقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها. نزلت آيات كثيرة من القرآن بسببها مثل آيات الإفك والتيمم.
وكانت – رضي الله عنها – من كبار المحدثين وأغزرهم رواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانفردت برواية أحاديث عنه – صلى الله عليه وسلم – لم يروها عنه غيرها، فكانت أكثر النساء رواية للحديث، وقد بلغ ما روته عن النبي – صلى الله عليه وسلم – 2210 أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على 174 حديثا ويرجع لها الفضل في نقل كثير من السنة المطهرة، وبخاصة التي تتعلق بشئون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخاصة في بيته رجلا وزوجا وإنسانا.
“وتجدر الإشارة إلى أن زواج الرسول – صلى الله عليه وسلم – بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عاما ليس بدعا ولا غريبا؛ لأن هذا الأمر كان مألوفا في ذلك المجتمع، لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب على محمد – صلى الله عليه وسلم – جعلوا من هذا الزواج اتهاما للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه رجل شهواني، غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعا في ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات” [28].
حفصة بنت عمر: فقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – إكراما لأبيها عمر بن الخطاب، على الرغم من عدم وجود ما يغري على زواجها، فإنه بعد موت زوجها خنيس بن حذافة السهمي عقب غزوة بدر عرضها أبوها على أبي بكر، وعثمان، عقب وفاة زوجته رقية بنت النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يجيباه. وكان ترملها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يحزنه أن يرى جمال ابنته، وحيويتها تخبو يوما بعد يوم.. ويذهب إلى رسول الله يشكو له رفض أبي بكر وعثمان بعدما ضاقت به الأرض بما رحبت، وضاقت به نفسه، فيرد عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «تزوج حفصة خير من عثمان، ويزوج عثمان خيرا من حفصة» [29]. وأدركها عمر – رضي الله عنه – بفطرته؛ إذ معنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة، وارتياح القلب؛ لأن الله قد فرج كرب ابنته[30].
أم سلمة: تزوجها في السنة الرابعة للهجرة بعد موت زوجها عقب غزوة أحد، وكان زواجه بها مكافأة لها على ما لقيته من الشدة عند إسلامها وعند هجرتها، فقد كانت أول مهاجرة للحبشة، وأول ظعينة للمدينة، انتزعها أهلها من زوجها عند هجرته، ثم لحقت به بعد ذلك، وكان لها أولاد من أبي سلمة، اعتذرت بسببهم عن الزواج عندما عرض عليها ذلك أبو بكر وعمر، كما اعتذرت في بادئ الأمر للنبي – صلى الله عليه وسلم – عندما خطبها، فكان زواجه بها عزاء لها، وتكريما لجهادها، وحماية لأولادها.
زينب بنت جحش: إن الزوجات الأربع السابقات لا يحتجن إلى تعليل لتعددهن، فهن في حيز العدد المسموح به، ومن جاء بعدهن يحتاج زواجهن إلى تعليل، وأولاهن زينب بنت جحش وقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن طلقها زوجها مولاه زيد بن حارثة، وذلك لإبطال عادة التبني، الذي كان يمنع تزوج الرجل بمطلقة ابنه المتبنى، كما كان في زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – بها رد اعتبار لها، ومكافأة لها على رضاها بحكم الله ورسوله في الزواج من مولى وهي شريفة قرشية؛ لأنها بنت أميمة عمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانت هي موضع التجربة في إزالة العصبية الجاهلية في نظرتهم لكفاءة النكاح، إذ رأى أن تجربة الإلغاء تكون فيمن يمكنه أن يتزوجها قبل زيد إذا أراد، ثم إنه قد استفاض عنها بعد طلاقها من زيد أنها أتعبته، ولهذا لم يجرؤ أحد على زواجها بعده، فتزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن الملفت للنظر أن زيدا مطلقها هو الذي كلفه النبي – صلى الله عليه وسلم – بخطبتها له، فالموضع كله تخطيط للتشريع، لا لشهوة أو دنيا، ولهذا فإن الله – عز وجل – هو الذي زوجها للنبي – صلى الله عليه وسلم – بدون ولي عنها، قال سبحانه وتعالى: )فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)( (الأحزاب)، وكون الله – عز وجل – هو الذي زوجها له دليل على إباحة تجاوز العدد عن أربع زوجات له – صلى الله عليه وسلم – خاصة[31].
جويرية بنت الحارث: كانت أسيرة في غزوة بني المصطلق ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، فكاتبها على تسع أواق من الذهب ليعتقها، فدفعها النبي – صلى الله عليه وسلم – وأعتقت وتزوجها، وكان عتقها سببا في أن أهل مائة بيت من بني المصطلق أعتقوا، إكراما لعتق النبي – صلى الله عليه وسلم – لها وزواجه بها، فليس من اللائق أن يكون أصهار النبي – صلى الله عليه وسلم – أرقاء، وقد رأى الصحابة ذلك دون ضغط عليهم، تقول عائشة: «ما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق» [32].
وهكذا كان هذا الزواج تأليفا لبني المصطلق، بعد عداوتهم الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أم حبيبة: هي رملة بنت أبي سفيان الذي ناصب النبي – صلى الله عليه وسلم – العداء طويلا، تزوجها رحمة بها، حيث تنصر زوجها عبيد الله بن جحش بالحبشة، وأصبحت وحيدة وأبوها وإخوتها مشركون، فكان من الإنصاف والرحمة والحماية من الفتنة أن يضمها النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه؛ فضمها – صلى الله عليه وسلم – وهي ما تزال بالحبشة، كما أن فيه تأليفا لأبي سفيان، فقد حمد للنبي – صلى الله عليه وسلم – فعله، ولم يتألم حين علم بزواجه منها، بل قال فيه: “هو الفحل لا يقدع أنفه” [33].
صفية: تزوجت في بيت ابن أبي الحقيق، وهو بيت مشهود له في خيبر، وكان زواجها فيه من كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، عاشت معه قدر ما عاشت إلى أن غزا المسلمون خيبر، وإذا بها تخبر زوجها ذات صباح أنها قد رأت فيما يرى النائم أن قمرا قد وقع في حجرها، وطلبت منه أن يعبر لها رؤياها، فقال لها مغضبا: تتمنين ملك يثرب؟ ولطمها لطمة شديدة أثرت في إحدى عينيها، ولقد بقي هذا الأثر في عينها إلى أن وقعت أسيرة في يد المسلمين.
وظلت صفية مع الأسرى لا يعرف أحد ما شأنها، حتى هم القوم بالرحيل، وقد وقعت في سهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الغنائم، فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم – في شأنها، فوجدها من علية القوم، وقد وقعت أسيرة، وهي مكلومة[34] بفقد أبيها وفقد زوجها، وفقد بعض أقربائها، فتحركت النخوة في نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي نخوة عالية كما هي عادته في مواقفه، فرأى أن يرحم عزيزة قوم ذلت بالأسر، وحزنت لفراق أبيها، فما كان من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن أعتقها ثم تزوجها.
وهذا عمل قد حظي بإعجاب الكتاب والمؤرخين من المسلمين ومن اليهود على السواء.
وبهذا الحماس نفسه أظهر الكثيرون من المنصفين رأيهم على هذا النحو، وأبانوا عن إعجابهم بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – واتخاذه هذا الموقف من صفية، مع علمه الأكيد بخلائق اليهود التي لا يؤتمنون معها على شيء.
أما صفية فقد حولها الله إنسانة أخرى فأسلمت وحسن إسلامها، وأخلصت للنبي – صلى الله عليه وسلم – إخلاصا شديدا يليق بوضعها الجديد أما للمسلمين.
ولقد ظلت على وفائها هذا لا تعلن عنه بألفاظها، وإنما تعبر عنه بالأفعال إلى أن جاء وقت مرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واجتمع نساؤه حوله، فقالت صفية: يا رسول الله، إني قد تمنيت أن ما بك من الوجع ينتقل إلي، فغمزتها صويحباتها، ورأى النبي زوجاته وما فعلن بها، فأمرهن أن يغسلن أفواههن، فسألنه: ومن ماذا يا رسول الله؟ فقال: من غمزكن لصاحبتكن، فوالله إنها لصادقة.
هذا وإن صفية في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت تتعرض أحيانا لبعض الألفاظ التي تؤلمها، كأن يقال لها: إن أباك يهودي وأمك كذلك، وكانت تتألم من ذلك ألمـا شديدا، وتشكو للنبي – صلى الله عليه وسلم – ألمها، فقد روى ثابت بن أنس قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي تبكي، فقال: “ما يبكيك”؟ فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك”؟ ثم قال: “اتقي الله يا حفصة» [35].
أرأيت إلى هذا النبل الرشيد، والخلق العالي السديد في تصرفات خاتم المرسلين[36]؟
ميمونة: تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما كان معتمرا في مكة، وكان زواجه منها ربطا لصلته بأقاربه المصاهرين لأقاربها، حيث كانت أختها أم الفضل لبابة تحت عمه العباس، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس زوجة لجعفر بن أبي طالب، وأختها لأمها أيضا سلمى بنت عميس كانت تحت عمه حمزة، فكانت إحدى أخوات ثلاث, فتزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – بعدما تأيمت من زوجها أبي رهم الذي مات ولم يسلم.
زينب بنت خزيمة: تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – عقب موت زوجها عبد الله بن جحش في أحد، فكان زواجه منها تكريما لها، وقد توفيت بعد أقل من سنة من زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – منها.
كانت هذه بعض الملابسات والظروف التي صاحبت زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – من هؤلاء الزوجات، ويظهر من هذا أن زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا العدد لم يكن شهوة، بل كان دينا وإنسانية [37]، كما يمكننا أن نلاحظ من خلال العرض السابق لزوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – عدة حقائق منها:
أنه – صلى الله عليه وسلم – ظل عزبا مدة خمسة وعشرين عاما.
أن ترتيب زيجاته – صلى الله عليه وسلم – كان توفيقا إلهيا، إذ إن كل زوجة تناسب متطلبات المرحلة التي كان يمر بها النبي – صلى الله عليه وسلم – ودعوته المباركة.
أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يتزوج بكرا سوى عائشة – رضي الله عنها – على الرغم من تشجيعه على الزواج من الأبكار؛ فمن هديه – صلى الله عليه وسلم – في هذا الشأن قوله لأحد أصحابه: «هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك» [38]؟
أن السيدة عائشة – رضي الله عنها – هي أكثر النساء رواية للحديث، ونشرا للعلم من بعده، مقارنة بالسيدة خديجة أو سودة مثلا… إلخ، وهذه إحدى الحكم الإلهية والأسرار الربانية من تقدير الله زواجه – صلى الله عليه وسلم – بها صغيرة السن؛ لتحفظ عنه الحديث ويؤخذ عنها الدين (فالتعليم في الصغر كالنقش على الحجر)، فقد روت – رضي الله عنها – (2210) ألفين ومائتين وعشرة أحاديث.
أنه – صلى الله عليه وسلم – تزوج بامرأتين أكبر منه سنا، هما: خديجة بنت خويلد (أكبر منه بـ15 سنة)، وسودة بنت زمعة (أكبر منه بـ5 سنوات).
أنه – صلى الله عليه وسلم – تزوج بأربع نسوة كن قد تجاوزن الخامسة والثلاثين هن: خديجة (40 سنة)، سودة (55 سنة)، زينب بنت جحش (35 سنة)، رملة بنت أبي سفيان (40 سنة).
أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يتزوج قبل الخمسين سوى السيدة خديجة أما باقي نسائه فقد تزوج بهن بعد تجاوزه سن الخمسين.
فكيف يقال بعد كل هذه الحقائق أن زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – كان زواج شهوة لا يقوم على أسس دينية؟!
خامسا. اختلاف فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – في التعدد عن فعل السلاطين:
جرت عادة السلاطين والأمراء والملوك الذين يجرون وراء شهواتهم ونزواتهم فيتزوجون الكثير والكثير من النساء زواجا ليس في حقيقته إلا ضرب من المتعة الحسية واللهو الجنسي، ولذلك فإنهم لا يرضون بالأبكار الجميلات بديلا، وليس من شك في أنهم كانوا يقومون بنزواتهم وشهواتهم في قصور فارهة شامخة.
فهل يعقل أن يشبه هؤلاء السلاطين المترفون المنعمون برجل تزوج في أول عهده بالزواج امرأة ثيبا تكبره بخمس عشرة سنة، واستمر معها حتى جاوز الخمسين من العمر، وكانت زوجاته بعد ذلك كلهن ثيبات عدا عائشة – رضي الله عنها ـ!!
“كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – مشغولا في أكثر أوقاته بواجبات الدعوة، إلى جانب واجبات نفسه، فكان بالنهار يدعو إلى الله، ويقضي بين الناس ويجهز الجيوش والإمدادات، وينظم أمور المجتمع… وبالليل كان يتعبد الساعات الطويلة، فأين هو الوقت الذي يكفيه – إن كان شهوانيا – لإشباع رغبته الجنسية” [39]؟
إن بيت النبوة لا يحق له أن يكون وكرا للملذات، كما يحدث في قصور الملوك؛ ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس بملك ولا سلطان، ولكنه نبي مرسل للناس جميعا. وهل كان النبي – صلى الله عليه وسلم – من أصحاب القصور الفارهة التي يقتني فيها أصحابها ما يشاءون من النساء؟!
إنه كان يعيش في بيت متواضع، وكل من زوجاته تسكن في حجرة واحدة، لا تخرج منها إلا لحاجة.
ثم إن الحالة المعيشية للرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت رقيقة – كما هو معروف – ولذيذ الطعام والشراب والراحة الكافية، وما إلى ذلك مما يساعد على التمتع الشهواني غير موجود، ومن الذي يصدق أن رجلا تقدمت به سنه بعد موت خديجة، إذ تجاوز الخمسين، وفي الوقت نفسه كان فقيرا، إن لم يجد في الصباح ما يأكله نوى الصيام، وأحيانا كان لا يجد ما يفطر عليه من صيامه إلا الخل، فيتناوله شاكرا راضيا، وثبت أنه كانت تمر عليه الليالي الطويلة، شهرين أو أكثر ولا يوقد في بيته نار لإنضاج طعام لذيذ، وكان عيشه على التمر والماء – من الذي يصدق أن من في هذه الحالة يمكن أن يشبه بالملوك والسلاطين المترفين الذين لا هم لهم إلا المتعة الحسية؟
ولو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – كهؤلاء لوفر لنفسه الطعام والشراب ووسائل الراحة الكافية، وكان الحصول على ذلك سهلا؛ لأنه رئيس الدولة، والشعب كله يحب أن يوفر له ما يسره لو أراد، لكنه زهد وقنع، وتحرج عن مد يده إلى شيء من الخزينة العامة لمصلحة نفسه[40].
سادسا. ما جاء به القرآن في قصة وليمة زواج زينب بنت جحش، كان لتهذيب سلوك المسلمين وتنبيههم إلى مراعاة شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم:
إن ما جاء به القرآن الكريم لم يكن لغضب النبي – صلى الله عليه وسلم – كما ادعى مثيرو هذه الشبهة وإنما جاء لتعليم المسلمين، وعن سبب نزول قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق( (الأحزاب: ٥٣).
يقول القرطبي: “قال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء، فالجمهور من المفسرين على أن سببها «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما تزوج زينب بنت جحش – مطلقة زيد – أولـم[41]، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبي – صلى الله عليه وسلم – أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال أنس: فانطلق – صلى الله عليه وسلم – حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب، قال: ووعظ القوم بما وعظوا به، وأنزل الله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق( (الأحزاب: ٥٣)» [42] [43].
والحق – سبحانه وتعالى – وزع الأمر بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين أمته من بداية هذه السورة… وعلى هذا فالآية هنا للتعليم والتأديب وما كانت أبدا بسبب غضبه – صلى الله عليه وسلم – كما أن سبب نزول هذه الآية يؤكد ذلك، بل إنه يؤكد شدة حياء النبي – صلى الله عليه وسلم – هذا الحياء الذي منعه من التحدث إليهم، رغم ضيق البيت عليه – صلى الله عليه وسلم – هو وزوجه لدرجة أن زوجته – صلى الله عليه وسلم – كانت مولية وجهها نحو الحائط من شدة الحرج.
والحق – عز وجل – هنا يعلمنا الأدب مع رسول الله، ويجعله لنا قدوة، فإن لم يكن عنده – صلى الله عليه وسلم – من الحجرات إلا بعدد نسائه؛ لكل زوجة من زوجاته حجرة واحدة، فلا بد وأن تتعلم الأمة آداب الدخول وآداب الزيارة في مثل هذه الحالة، وخاصة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيوته، فقال عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث( [44].
سابعا. ثمة أمور اختص بها النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يجوز أن يشاركه فيها أحد من أمته؛ لأنها وقف عليه:
ويأتي على رأس قائمة الخصوصيات هذه ما يتعلق بجواز نكاحه – صلى الله عليه وسلم – النساء بغير عقد ولا ولي ولا شهود ولا مهر، وإليكم البيان:
أخبر أنس بن مالك «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين بنى بصفية قال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد، فقالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها فعرفوا أنه قد تزوجها» [45]. ووجه الدلالة منه ظاهر كما ترى.
وقال العلماء: إنما اعتبر الولي في نكاح الأمة للمحافظة على الكفاءة، وهو – صلى الله عليه وسلم – فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو – صلى الله عليه وسلم – لا يجحد ولو جحدت هي لم يرجع إلى قولها على خلاف قوله، بل قال العراقي في “شرح المهذب”: “تكون كافرة بتكذيبه”. وكان له – صلى الله عليه وسلم – تزويج المرأة من نفسه وتولي الطرفين بغير إذنها وإذن وليها لقوله تعالى: )النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم( (الأحزاب: ٦).
ومن خصائصه، أن المرأة كانت تحل له بتحليل الله – عز وجل – فيدخل عليها بغير عقد.
قال البيهقي: وإذا جاز ذلك جاز أن يعقد على المرأة بغير استئمارها، قال سبحانه وتعالى: )فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها( (الأحزاب: 37).
وعن أنس – رضي الله عنه – قال: «كانت زينب تفتخر على أزواج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات»[46].
وعن أنس – رضي الله عنه – أيضا قال: «لما انقضت عدة زينب قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لزيد: “اذهب فاذكرها علي”، فذهب فأخبرها، فقالت: ما أنا بصانعة شيئا على أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى دخل عليها بغير إذن»[47][48].
ويعجب المرء من كلام هؤلاء الذين يستكثرون على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يختصه الله دون أمته بخصائص وميزات، فالسوي إذا فكر في هذا فإن عقله سيهديه أن هذا الأمر أمر طبيعي. ألم يميز أهل الدنيا بعض أهلها في قوانينهم؟ أيجعلون ذلك حقا لهم، ولا يعدونه حقا لله تعالى؟ فلماذا إذن ينكر هؤلاء أن يختص النبي – صلى الله عليه وسلم – بأحكام ليس للناس أن يقلدوه فيها؟
وكذلك استدلوا – على أباطيلهم هذه – بأنه – صلى الله عليه وسلم – أعتق السيدة صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها دون شهود، ولا صداق، ولا موافقة ولي، واعتبر عتقها صداقها، وهذا الفهم المغلوط منهم ترده النظرة الحيادية المنصفة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وكونه مختصا من قبل ربه بخصائص وميزات دون أمته، وكذلك إلى ملابسات زواجه – صلى الله عليه وسلم – من السيدة صفية – رضي الله عنها – والحكمة من ذلك الزواج، وهنا نترك المجال لأحد المنصفين كي يرد عليهم.
يقول الباحث المنصف د. نبيل لوقا: “وكان من أسيرات اليهود صفية بنت حيي بن أخطب ابنة زعيم اليهود في خيبر، وكانت صفية بنت حيي في سهم غير الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكن عقلاء القوم وجدوها ابنة زعيم اليهود فوضعوها في سهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخيرها إما أن يعتقها ويتزوجها، أو يعتقها وتعود إلى أهلها معززة مكرمة كما كانت تعيش قبل موقعة خيبر، ولكنها بعد أن شاهدت معاملة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الكريمة الرحيمة الرقيقة قررت بلا تردد الزواج من الرسول – صلى الله عليه وسلم – وكانت الزوجة التاسعة للرسول صلى الله عليه وسلم” [49].
ويستطرد د. نبيل لوقا قائلا: فقد كان زواجه – صلى الله عليه وسلم – من السيدة صفية بنت حيي سببه الأساسي المواساة والرحمة طبقا للمثل الموجود من زمن طويل: “ارحموا عزيز قوم ذل” [50].
لم يكن حال السيدة صفية بنت حيي بن أخطب – رضي الله عنها – كحال باقي زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – الأحرار، وإنما كانت سبية من ضمن السبايا اللائي وقعن في يوم خيبر، وكانت سيدة بني قريظة والنضير، فأخذها – صلى الله عليه وسلم – في سهمه جبرا لخاطرها المنكسر، هذا هو الباعث الخفي على زواجه – صلى الله عليه وسلم – منها، ولم تكن الشهوة هي التي حركته إلى ذلك الزواج، وقد جعل – صلى الله عليه وسلم – صداقها عتقها، واشترى لها خادمة تسمى “رزينة”، كل ذلك حدث بعد أن خيرها النبي – صلى الله عليه وسلم – فاختارت أن يعتقها ويتزوجها[51].
الخلاصة:
لقد تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يكن بدعا من الأنبياء في تسريه؛ وذلك لأن التسري موجود منذ إبراهيم – عليه السلام – وموجود في التوراة والإنجيل، وقد تسرى أنبياء بني إسرائيل، فلما جاء الإسلام أقر التسري، إلا أنه قيده ووضع له شروطا وضوابط تكفل حماية السراري. فلم يعاب على النبي – صلى الله عليه وسلم – تسريه، دون سائر الأنبياء؟!
هبة النساء أنفسهن للرسول – صلى الله عليه وسلم – خصيصة من الخصائص التي اختصه الله – عز وجل – بها، ولم ينكح النبي – صلى الله عليه وسلم – كل من وهبته نفسها، بل هناك من العلماء من قال بأنه – صلى الله عليه وسلم – لم يقبل أيا منهن.
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمره المسلمين بألا يزيدوا على أربع زوجات – إلا مبلغا عن ربه، وكيف يشرع للناس تشريعا من عند نفسه وقد زكاه المولى قائلا: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، وزواجه بأكثر من أربع زوجات خصيصة من الخصائص التي اختص بها دون سائر أمته، والتي تخرج عن إطار التأسي به.
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – كامل الحرية في التزوج بمن يشاء، بل كان زواجه بأمر من ربه، وقد اختار – صلى الله عليه وسلم – زوجاته على أسس دينية وإنسانية وتعليمية مأمور بها، ولم يحد عنها مرة واحدة، والحكم وراء تعدد زوجاته تنقسم إلى حكم عامة، وأخرى خاصة تختص بكل زوجة على حدة.
انطلق السلاطين المترفون في تعدد نسائهم من أمر دنيوي لا يعدو أن يكون التعدد فيه مجالا للمتعة الحسية واللهو الجنسي في قصورهم الفارهة، وهم لا يرضون بالأبكار الجميلات بديلا، فهل يعقل أن يشبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بهؤلاء وهو الذي تزوج زوجاته كلهن ثيبات عدا عائشة رضي الله عنها.
ما جاء في القرآن في قصة وليمة زواج زينب بنت جحش؛ إنما كان لتهذيب أخلاق المسلمين، وتنبيههم إلى مراعاة شدة حياء النبي – صلى الله عليه وسلم – وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا دخلوا بيته صلى الله عليه وسلم.
من الخصائص التي اختص الله – عز وجل – بها نبيه – صلى الله عليه وسلم – جواز نكاحه بغير ولي ولا شهود ولا مهر، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يقتدي به في ذلك.
(*) موقع مفكرة الإسلام. www.islammem.net. هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات، عبد الله عبد الفادي. شبكة بلدي لمقاومة التنصير. حوارات مع أوربيين غير مسلمين، عبد الله أحمد فادي الأهدل، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط1، 1400هـ/ 1990م. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م. السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبد المتعال محمد الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م. المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، مصر، ط1، 1420هـ/ 1999م. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م. الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه، د. محمد الدسوقي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1995م.
[1]. الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويتية، ط1، 1407هـ/ 1987م، ج11، ص294 بتصرف يسير.
[2]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص224: 227 بتصرف.
[3]. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج19، 12107 بتصرف.
[4]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الأحزاب، باب قوله: )ترجي من تشاء(
(4510)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها (3704).
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد (4823).
[6]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص208.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب تزويج المعسر (4799)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك (3553)، واللفظ له.
[8]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص40.
[9]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص538.
[10]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص41.
[11]. شق رجل: نصف ولد.
[12]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد (2664)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الاستثناء (4376)، واللفظ للبخاري.
[13]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص44، 45.
[14]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص46.
[15]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص539.
[16]. الإسلام في قفص الاتهام، د. شوقي أبو خليل، دار الفكر، دمشق، ط5، 1425هـ/ 2004م، ص229.
[17]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص302.
[18]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة (1128)، وابن حبان في صحيحه، كتاب النكاح، باب نكاح الكفار (4157)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3176).
[19]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة (1952)، والترمذي في سننه، كتاب الطلاق، باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان (2243)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1588).
[20]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص74.
[21]. تفسير الشعراوي، الشيخ محمد متولي الشعرواي، أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج19، ص12102 بتصرف يسير.
[22]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص158.
[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها (3564).
[24]. قيل: إن عبارة “هو الفحل لا يقدع أنفه” قالها ورقة بن نوفل في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين خطب خديجة، وأصحاب الحديث يرددونها بلفظ “يقرع” بالراء بدل الدال، قالوا: إن البعير إذا لم يكن كريما وأراد الناقة الكريمة يضرب أنفه بالرمح حتى يرجع، يقال: قدع أنفه عن كذا: أي منع، والفحل هو الذكر من ذوي الحافر والظلف والخف وغير ذلك من ذي الروح. (حياة الحيوان الكبرى، الدميري. النهاية، ابن الأثير).
[25]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص159: 161.
[26]. محمد والخناجر المسمومة الموجهة إليه، د. نبيل لوقا، دار البباوي، القاهرة، ط1، 2005م، ص76، 77.
[27]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص161.
[28]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص357.
[29]. إسناده صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (6)، وصحح إسناده حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى.
[30]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م، ص358، 359.
[31]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص163، 164.
[32]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26408)، وأبو داود في سننه، كتاب العتق، باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة (3933)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (3931).
[33]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص163.
[34]. المكلوم: الجريح.
[35]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجامع للإمام معمر بن راشد الأزدي رواية الإمام عبد الرزاق، باب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (20921)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3894)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3055).
[36]. رسالة من النبي إلى الأمة من خلال تعامله مع خيانات اليهود، د. طه حبيشي، طبعة خاصة، القاهرة، ط2، 1423هـ/ 2002م، ص186: 189 بتصرف يسير.
[37]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص164 بتصرف يسير.
[38]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب استئذان الرجل الإمام (2805)، ومسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح البكر (3710).
[39]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص156.
[40]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص156، 157 بتصرف يسير.
[41]. أولم: دعا الناس إلى طعام زواجه.
[42]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الأحزاب (4516)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس (3575).
[43]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص224، 225.
[44]. تفسير الشعراوي، الشيخ محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج19، ص12121: 12124 بتصرف.
[45]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (3571).
[46]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب )وكان عرشه على الماء( (هود:7)،)وهو رب العرش العظيم (129) ( (التوبة) (6984).
[47]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس (3575).
[48]. الخصائص الكبرى، الإمام السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985، ج2، ص427: 430.
[49]. زوجات الرسول بين الحقيقة والافتراء، د. نبيل لوقا بباوي، دار البباوي، القاهرة، ط1، 2004م، ص150 بتصرف يسير.
[50]. زوجات الرسول بين الحقيقة والافتراء، د. نبيل لوقا بباوي، دار البباوي، القاهرة، ط1، 2004م، ص154 بتصرف يسير.
[51]. موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، الشيخ عطية صقر، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ج6، ص210 بتصرف يسير.
الزعم أن طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه في ليلة واحدة دليل على ميله الجامح للنساء (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتقولين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان رجلا شهوانيا؛ مستدلين على ذلك بأنه – صلى الله عليه وسلم – كان يطوف على نسائه كلهن في ساعة واحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى عشرة زوجة. رامين من وراء ذلك إلى وصمه – صلى الله عليه وسلم – بشهوانية لم تكن فيه.
وجها إبطال الشبهة:
1) إن ذكر طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه كان في معرض مدحه – صلى الله عليه وسلم – بالقوة الخارقة العجيبة له – صلى الله عليه وسلم – لا في مقام الذم باللهو والاستمتاع بالنساء، كما أن توفيقه بين واجب الدعوة الضخم وحق أهله عليه يدل على شرف وكمال له – صلى الله عليه وسلم – لم يتح لغيره.
2) طواف النبي – صلى الله عليه وسلم – على نسائه كلهن كان من باب تعليم الأمة العدل في القسمة بين الزوجات مودة واستئناسا، وبيانا عمليا لهم بأن يعطوا كل ذي حق حقه، وهذا لا يستلزم تأويل الطواف على أنه جماع.
التفصيل:
أولا. إن ذكر طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه كان في معرض مدحه بالقوة الخارقة العجيبة، لا في مقام ذمه باللهو بنسائه:
لقد استفاضت الأحاديث النبوية والآثار المروية الدالة على كمال خلقته – صلى الله عليه وسلم – وجمال صورته، ولذلك كان من تمام الإيمان به – صلى الله عليه وسلم – الإيمان بأن الله – عز وجل – قد جعل بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمي[1]، وأنه تعالى قد أعطى النبي – صلى الله عليه وسلم – من الخصوصيات ما لم يتح لغيره من البشر.
وعلى هذا فإن حديث طوافه – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه أنس – رضي الله عنه – بقوله: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن إحدى عشرة»، قال الراوي عن أنس: قلت: أوكان يطيقه؟ قال: «كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين» [2].
نقول إن السياق في حديث أنس إنما هو في معرض القوة الخارقة العجيبة للنبي – صلى الله عليه وسلم – لا في مقام الذم له باللهو بالنساء، وهذا يدل على شرف وكمال للنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يتح لغيره.
ثم إن حديث طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه جميعا يبين بيانا عمليا خيريته – صلى الله عليه وسلم – وكمال أخلاقه وعصمته مع أهل بيته كما أن الحديث يبين ما اختص به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفضل به على سائر الناس من أنه – صلى الله عليه وسلم – قد أعطي قوة ثلاثين رجلا والأمر هنا ليس من عند نفسه، ولا من عند رواة السنة، وإنما من عند ربه – عز وجل – وهو ما يفيده مجيء لفظ «أعطي» بالبناء للمجهول[3]، فتأمل كيف أن هذا المجهود الكبير يحتاج إلى قوة بدنية أساسها شهي الطعام، وراحة الجسم، وفراغ البال؟
وهل توفر للنبي – صلى الله عليه وسلم – كل هذا أو بعضه؟! اللهم إلا إذا كان ذلك بنفحة قوية من الله منحه إياها، وللأنبياء مزيد فضل من ربهم على غيرهم من الناس، فإن سليمان حلف أن يطوف على نسائه في ليلة واحدة، وهو طواف جماع بدون شك؛ وذلك لتأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، وكان له ألف من النساء ما بين زوجة وسرية، وأما ثناء الله – سبحانه وتعالى – على يحيي بن زكريا – عليهما السلام – أنه كان حصورا، أي: ممنوعا من النساء لا للعجز عنهن، فمعناه أنه كان معصوما من الذنوب، ومانعا نفسه من الشهوات المباحة، ومقبلا على عبادة الله تعالى حتى لا يشغله الزواج عن الطاعات التي ترفع الدرجات العالية في روضات الجنات.
وكذلك عيسى – عليه السلام – لم يتزوج؛ لمجاهدة نفسه برياضة نفسانية، وتفرغه للدعوة إلى الله – عز وجل – فكان لا يقر له قرار، ولا يبيت في مكان واحد، وإنما ينتقل في البلدان.
وأما نبينا – صلى الله عليه وسلم – فتمكن من التوفيق بين الأحوال المعتادة للرجال، فلم تشغله النساء عن عبادة ربه، بل ازداد عبادة؛ لتحصينه نساءه، وقيامه بحقوقهن، وهدايته إياهن بالعلوم الدينية ولا سيما ما يجب عليهن، بل صرح بأن النساء لسن من حظوظ دنياه، وإنما من حظوظ دنيا غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي من الدنيا: النساء، والطيب، وجعلت قرة[4] عيني في الصلاة» [5]. وأورد ذلك بصيغة الفعل المجهول (حبب)؛ إيماء بأن حبه لهن لم يكن إلا لما خلق في جبلته، وميل طبيعته، وأنه كالمجبور عليه في محبته، فدل هذا الحديث على أن حبه للنساء والطيب اللذين هما من أمر دنيا غيره، هو من أجل الآخرة، وقصد المثوبة، ورفع الدرجة، وليكون قدوة حسنة لأمته حرصا على التعفف والتصون، ومنع الخواطر الرديئة ودفع الوساوس النفسية.
وعليه فإن محبة النبي – صلى الله عليه وسلم – للزواج بالنساء إنما كانت لا للذاته، وإنما لابتغاء مرضاة الله وتحقيق مصلحة غيره، وهذا على سبيل الإيثار، ولذلك ميز النبي – صلى الله عليه وسلم – بين الحبين: حب النساء والطيب، وحب الصلاة، وفرق بين المقامين، فجعل قرة عينه في الصلاة، مع أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا في الجماع، كما كان لسليمان – عليه السلام – قدرة مائة رجل[6].
نخلص من هذا إلى أن نظرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – للمرأة قائمة على أساس من احترام آدميتها، والبر بها، وجبر خاطرها وصيانتها عن الامتهان والضياع، ولهذا ظلل بجناح رحمته إحدى عشرة زوجة ما كان دافعه إلى الارتباط بهن شهوة عارمة يريد إشباعها، وإنما إنسانية سامية أبت إلا أن تجبر خواطرهن وتعول من فقدت الزوج والعائل منهن، ويستدل على ذلك أنه – صلى الله عليه وسلم – كان قنوعا بزوجة واحدة فترة شبابه حتى الخمسين من عمره، ولا يستطيع العقل تصديق استبداد الشهوة به بعد الخمسين إلى حد أن يجمع العديد من النساء في عصمته لمجرد قضاء لذة جنسية.
ثانيا. طواف النبي – صلى الله عليه وسلم – على نسائه تعليم للأمة العدل بين الزوجات، وكونه – صلى الله عليه وسلم – طاف بهن لا يستلزم أن يكون جامعهن:
من الثابت المؤكد في كتب السيرة والأحاديث الصحيحة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقضي ليله في قيام الليل، وقراءة القرآن والعبادة، ويقضي نهاره في الجهاد والسعي في توطيد أركان دولته الجديدة، ومع هذا فقد كان حريصا على تعليم أمته كل صغيرة وكبيرة ببيان قولي وعملي.
ومن الثابت أيضا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أعطي بعض الخصوصيات، فقد روي عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: «كان عمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ديمة (من الدوام)، وأيكم يطيق ما كان يطيق» [7]؟! أي: لما كان له من قوة النبوة[8].
إنه يعلمنا كيف تكون العبادة، وكيف يكون قيام الليل، أليس هو القائل: «واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل» [9]؟
وقال عوف بن مالك: «كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليلة، فاستاك[10]، ثم توضأ، ثم قام فصلى، فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة، ثم سجد، وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك…» [11]؛ أي: من تطويل الركوع والسجود والتسبيح المذكور وغير ذلك.
وعن عـائشـة قـالت: «قـام رسـول الله – صلى الله علـيه وسلـم – بـآيـة مـن القـرآن ليلة» [12]؛ أي: صلى في ليلـة بتلاوة آيـة وهي: )إن تعـذبهـم فـإنهـم عبـادك وإن تغـفر لهـم فإنـك أنت العـزيـز الحكيـم (118)( (المائدة)؛ اقتداء بعيسى – صلى الله عليه وسلم – في الكلام، وإيماء إلى أنه – صلى الله عليه وسلم – يريد المغفرة والرحمة، ورفع العقوبة عن جميع الأمة، مع التسليم للإرادة الإلهية.
وروي أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» [13]، وروي: «أكثر من سبعين مرة» [14] [15]. فقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أشد الناس خوفا من ربه، وأكثرهم عبادة، وألزمهم طاعة لله – عز وجل – وذلك على قدر علمه بربه، وامتثاله لأمره عز وجل.
روي عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة – رضي الله عنه – كان يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا» [16]. وزاد الترمذي مرفوعا إلى أبي ذر – رضي الله عنه -: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء[17]، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات[18] تجأرون[19] إلى الله» [20] [21].
ما ذكرناه آنفا من مظاهر عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – وانشغاله بطاعة ربه، ليدل دلالة قاطعة على عدم تفرغه – صلى الله عليه وسلم – لإشباع شهواته كما يزعمون، أما حديث طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه فإنه لا يدل على شهوانيته – صلى الله عليه وسلم – ـ كما يزعمون – وإنما يدل على عدله – صلى الله عليه وسلم – بين نسائه في القسم؛ فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعامل زوجاته معاملة حسنة، ويحث المؤمنين جميعا على أن يعاملوا زوجاتهم بالمعروف؛ فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله» [22].
وعنها أيضا عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»[23]وهذه الأقوال منه – صلى الله عليه وسلم – مصداق قول الله – عز وجل -: )وعاشروهن بالمعروف ( (النساء: ١٩)، وهي كلمة جامعة تعني: التحلي بمكارم الأخلاق في معاملة الزوجات من: صبر على ما قد يبدر منهن، أو تقصير في أداء واجباتهن، ومن حلم عن إيذائهن في القول أو الفعل، وعفو وصفح عن ذلك، ومن كرم في القول والبذل، ولين في الجانب، ورحمة في المعاملة، إلى غير ذلك مما تعنيه المكارم الأخلاقية التعاملية الأسرية.
وذلك هو ما دل عليه حديث «عدله – صلى الله عليه وسلم – بين نسائه في القسم»، كما قالت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها» [24]. وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار.
إنه طواف حب ومداعبة بدون جماع، حتى يبلغ إلى التي هي يومها فيبيت عندها، كما هو ظاهر كلام عائشة – رضي الله عنها ـ[25].
والساعة هنا: هي حق له ولأهل بيته تطييبا لنفوسهن، ولا تشغله عن حق رسالته ونشر دعوته، وكان هذا من تمام موازنته – صلى الله عليه وسلم – بين جانبين طالما حرص على التوفيق بينهما وهو الذي لـما أخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أنه يصوم النهار أبدا، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله في ليلة، خاطبه بقوله: «فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا» [26].
وهكذا فإن سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شاهد صدق على أنه كان يعطي كل ذي حق حقه، ويدل على ذلك – أيضا – ما روي عن عائشة – رضي الله عنها – لما سئلت: ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصنع في أهله؟ قالت: «كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة» [27]. وفي رواية قالت: «كان بشرا من البشر، يفلـي ثوبه[28]، ويحلب شاته، ويخدم نفسه» [29].
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – كيف كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجمع بين حق الله تعالى في قيام الليل، وبين حق أهل بيته وحقه، أنها قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته، ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء، وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى ركعتين» [30].
فتأمل كيف جعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجماع تابعا لقيام ليله، وبعد فراغه منه، ثم ينام، حتى إذا دخل وقت الفجر قام بسرعة وبكل نشاط استعدادا لصلاة الفجر، بإفاضة الماء على جسده؛ تطهيرا من الجنابة إن كان جنبا، وتأمل دقة التعبير «وثب» ودلالته على مدى حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على صلاة الفجر في وقتها[31].
هذا ولا يفوتنا في هذا المقام أن نؤكد على أنه ليس ثمة تعارض بين ما يقتضيه حديث عائشة – رضي الله عنها – من كون الطواف طواف حب ومداعبة، بدون جماع، وبين ما يفهم من ظاهر حديث أنس – رضي الله عنه – في أن حقيقة طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه جميعا بجماع.
ذلك أن الجمع بين الحديثين ممكن بأحد وجهين؛ أولهما: بحمل المطلق في كلام أنس على المقيد في كلام عائشة، وثانيهما: بحمل كلام عائشة على الغالب، وكلام أنس على القليل النادر، فلا مانع من أنه – صلى الله عليه وسلم – إذا طاف على نسائه جميعا في بعض الأحيان يكون بجماعهن جميعا، وتكون له – صلى الله عليه وسلم – القدرة على ذلك. لما اختصه الله به من القوة وكثرة الجماع[32].
الخلاصة:
إن ذكر طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه كان في معرض نعم الله – عز وجل – التي اختصه بها لا في مقام الذم له باللهو بالنساء، كما أن توفيقه بين واجب الدعوة الضخم وحقوق أهله يدل على شرف وكمال له – صلى الله عليه وسلم – لم يتح لغيره، وهذه منحة من الله – عز وجل – اختص بها من يشاء من خلقه.
كانت حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – مقسمة إلى عبادة وتبليغ وتعليم لأمته – بالقول والفعل – إلى جانب ما تقتضيه الحياة الزوجية من رعاية واهتمام وتلطف، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يقضي ليله في القيام وقراءة القرآن والعبادة، ونهاره في الجهاد، وكان عمله – صلى الله عليه وسلم – متواصلا، ولم يؤثر هذا في جميل معاملته – صلى الله عليه وسلم – لزوجاته ولم يحجبه عن الوفاء بحقوقهن عليه.
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعامل زوجاته معاملة حسنة، ويحث المؤمنين جميعا على أن يعاملوا زوجاتهم بالمعروف، ولذلك ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يفضل إحداهن على الأخريات، فقد روي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها» [33]، وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه – صلى الله عليه وسلم – على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، إنه طواف حب ومداعبة دون جماع.
ليس ثمة تعارض بين مفاد حديث أنس ومقتضى حديث عائشة – رضي الله عنهما – والجمع بينهما ممكن، إما بحمل المطلق في كلام أنس على المقيد في كلام عائشة، أو بحمل كلام عائشة على الغالب، وكلام أنس على القليل النادر.
(*) رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م.
[1]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص15.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الغسل، باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد (265).
[3]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص492، 493 بتصرف يسير.
[4]. قرة عينه: سروره ورضاه.
[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (14069)، والنسائي في سننه، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3940)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124).
[6]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص96، 97.
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب هل يخص شيئا من الأيام (1886)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (1865).
[8]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص157.
[9]. حسن: أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، المجلد الرابع، من اسمه عبد الله (4278)، والحاكم في مستدركه، كتاب الرقاق (7921)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (831).
[10]. استاك: نظف فمه بالسواك.
[11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ (24026)، وأبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (873)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (776).
[12]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القرآن في صلاة الليل (1350)، والترمذي في سننه، أبواب الصلاة، باب قراءة الليل (448)، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (233).
[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (7033).
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليوم والليلة (5948).
[15]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص157: 159 بتصرف.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا” (6120).
[17]. أطت السماء: أصدرت صوتا من كثرة ما فيها من الملائكة، وهو على سبيل المجاز.
[18]. الصعدات: جمع صعيد، وهو الطريق.
[19]. تجأرون: تتضرعون وتستغيثون.
[20]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ (20539)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء (4190)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2449).
[21]. شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص156.
[22]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24721)، والترمذي في سننه، كتاب الإيمان، باب استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (2612)، وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.
[23]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء (1977)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (3895)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[24]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء (2137)، والحاكم في مستدركه، كتاب النكاح (2760)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1868).
[25]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص486، 487 بتصرف يسير.
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب “لزوجك عليك حق” (4903)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا (2800).
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب كيف يكون الرجل في أهله (5692).
[28]. يفلي الثوب: ينزع منه الشوك وغيره.
[29]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (26237)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب المريض، باب ما يعمل الرجل في بيته (541)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (671).
[30]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب من نام أول الليل وأحيا آخره (1095)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي في الليل (1762)، واللفظ له.
[31]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص490: 492.
[32]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، مطابع دار الصحيفة، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص487، 488.
[33]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء (2137)، والحاكم في مستدركه، كتاب النكاح (2760)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1868).
اتهام النبي – صلى الله عليه وسلم – بالانتهازية والوصولية (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغرضين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان انتهازيا وصوليا؛ إذ تزوج السيدة خديجة رضي الله عنها، لتحقيق مصالحه الشخصية، زاعمين أنه تزوجها قسرا[1] دون رضا أهلها، وأنه كان فقيرا مغمورا، فرأى أن يتزوجها وهو في مقتبل عمره للاستفادة من مالها، وليضمن بذلك وجاهة واحتراما في المجتمع. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في مبادئه وقيمه صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – بناء على رغبتها وبمباركة أهلها وترحيبهم، بل إنها هي التي سعت إلى الزواج منه لما أحسته ولمسته بذكائها من كونه الشخصية النموذجية في عصرها.
2) لو تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – خديجة – رضي الله عنها – لتحقيق مصالح شخصية، كالحصول على المال، أو الوجاهة الاجتماعية وغيرها – لما ظل وفيا لها بعد وفاتها رضي الله عنها.
التفصيل:
أولا. تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – خديجة – رضي الله عنها – بناء على رغبتها:
بعدما رجع النبي – صلى الله عليه وسلم – بتجارة السيدة خديجة – رضي الله عنها – من الشام، وقص غلامها ميسرة عليها ما قد رآه من كرامات للنبي – صلى الله عليه وسلم – وما سمعه من الراهب نسطورا، وبعدما رأت خديجة مالها قد تضاعف أعجبت بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وبأمانته، وأرادت الزواج منه بعدما ضنت بنفسها على وجهاء قريش، ولكن كيف ذلك؟ كيف تعرض امرأة الزواج على رجل؟ هذا ما تأباه البيئة العربية، ولكن.. كان هناك من حل هذا اللغز، إنها نفيسة بنت منية، خادمة السيدة خديجة، لنسمعها وهي تحكي هذه القصة قائلة:
“كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله – عز وجل – بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسا[2] إلى محمد بعد أن رجع في عيرها[3] من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: “ما بيدي ما أتزوج به”، قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال، والجمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: “فمن هي”؟ قالت: قلت: خديجة، قال: “وكيف لي بذلك”؟ قالت: قلت: علي، قال: “فأنا أفعل”، فأعلمت خديجة أهلها، فوجدت منهم قبولا وترحيبا، وحددت للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأهله موعدا يحضرون فيه، وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك لأعمامه، فخرج معه عماه: أبو طالب وحمزة، حتى جاءوا بيت خديجة، فوجدوا عندها عمها عمرو بن أسد حاضرا، فخطبها منه أبو طالب لابن أخيه محمد، فوافق ورحب، وقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه[4]، وخطب أبو طالب خطبة الإملاك[5]، وهي تنم عن فضائل النبي وخصائصه، وشرفه، وشرف آبائه، وهي قطعة من بليغ الكلام، وفصيح القول” [6].
هذا هو حديث ذلك الزواج، لا تجد فيه دليلا على “وصولية” أو “انتهازية” مما يزعمون، وإنما نجد شابا وكهلة[7] في سن أمه، أو أسن منها، فلو عاشت أمه آمنة بنت وهب لما تجاوزت الأربعين يومئذ، ونجد هذه الكهلة تعزف عن الزواج؛ لأنها استشعرت من الخاطبين الأثرياء طمعا في ثروتها الطائلة، فاعتصمت بالإباء، حتى وجدت ذلك الشاب الفقير، وجربت أمانته، وعفته، وعزة نفسه، فأدركت أن له خلقا يعصمه من الطمع في مالها، فأحبت أن يكون زوجها.
فظروف ذلك الزواج إذن وأسبابه على نقيض ما يزعمه المفترون من التكالب، أو الرياء، أو الانتهازية.
وهذا الزواج المبارك الميمون كان له في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – مقدمات هيأت أسبابه، ويسرت سبيله؛ فإن السيدة خديجة لم تكن لتسعى إلى الاقتران بهذا الشاب – وقد رغبت عن كهول مكة وسادتها – إلا لما رأته من تميز شخصيته، وكرم خصاله، ونبل شمائله. وما أخطأ نظر خديجة؛ فقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أكثر الناس أمانة، وأعف الناس عما لا يليق بحضرته، وأصدق الناس لهجة،[8] وكان هو الأعدل بين الناس؛ لأنه أعلمهم وأحكمهم، وأرحمهم، وآمن الناس، وأعف الناس، وقد اعترف له بذلك الجميع، حتى مخالفوه وأعداؤه، وكان يسمى قبل ظهور نبوته: الصادق الأمين، قال ابن إسحاق: كان يسمى الأمين بما جمع الله – عز وجل – فيه من الأخلاق الصالحة[9].
لقد كان – صلى الله عليه وسلم – قليل المال، يأكل من كسب يده، ليس عالة على أحد، وكان مستودع الأمانات، ورغم فقره لم تتطلع نفسه إلى شيء فيها، إن القوة النفسية التي تجعل صاحبها يصمد لإغراء المال أو الكسب الحرام وهو فقير، هي بعينها التي يمكن أن تتجه إلى إغراء الجنس أو اللذة الحرام، كي تمنع صاحبها من الزلل، فإذا هو “أمين”.
ولذا كانت أمانته – صلى الله عليه وسلم – في الأموال مضرب المثل، وهي في الواقع أمانة فرعية، أصلها الأمانة الكبرى وهي قوة النفس التي تلجم صاحبها عن تجاوز الحدود وإن كان ذلك التجاوز ميسورا.
وتلك القوة الأصلية الكامنة هي التي ألزمته حدودا لا يكترث لها الناس في تلك البيئة لذلك العهد، وهي حدود العفة في الجنس، والأمانة على العرض.
لا زوجة يومئذ له، ولا رقابة ولا إلزام من العرف بالعفة، ولكنه كان العفيف الأمين يضن بنفسه عن خساسة الفحش والفجور؛ لأن نفسه المترفعة الصافية كريمة عليه، والكرامة تلزم صاحبها حدودا أضيق مما يلتزمه الناس، فمحمد – صلى الله عليه وسلم – الشاب الوسيم غير المتزوج هو الذي فرضت عليه نفسه هذه الحدود المرهقة[10].
كل هذا دفع السيدة خديجة – رضي الله عنها – إلى أن تستأجر النبي – صلى الله عليه وسلم – ليكون أمينا على تجارتها “وكانت – رضي الله عنها – سيدة تاجرة ذات شرف ومال، وتجارة تبعث بها إلى الشام، وكانت تستأجر الرجال، وتدفع إليهم المال مضاربة[11]، وكانت قريش قوما تجارا، ومن لم يكن تاجرا فليس عندهم بشيء.
وكان النبي قد ناهز العشرين من عمره المبارك، وأصبح شابا جلدا قويا، أغر الطالع، ميمون النقيبة[12]، يزين شبابه الغض ما يتمتع به من حلو الشمائل، وكرم الأخلاق: من أمانة، وصدق حديث، وعفة، وعزوف عما ينغمس فيه أمثاله من الشباب من لهو ومجون، فكان ذلك مما وجه السيدة خديجة إلى أن يعمل لها في تجارتها، فأرسلت إليه، فلما جاء إليها قالت له: دعاني إلى طلبك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له: إن هذا لرزق ساقه الله إليك” [13].
فلا انتهازية ولا وصولية مما يدعيه هؤلاء؛ فالسيدة خديجة – رضي الله عنها – هي التي دعت النبي – صلى الله عليه وسلم – للخروج بالتجارة، ولم يسع هو – صلى الله عليه وسلم – لذلك، كما رأينا، بل هي التي طلبته ورغبت في أخلاقه وأمانته، وخرج النبي بتجارة خديجة إلى الشام، وكانت سنه تخطو إلى الخامسة والعشرين، وكان خروجه لأربع عشرة ليلة من ذي الحجة ومعه غلام خديجة “ميسرة”، حتى وصل سوق “بصرى”، فنزل تحت ظل شجرة في هذا السوق قريبة من صومعة راهب يسمى “نسطورا”، فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة – وفي رواية بعد عيسى – إلا نبي!!
ولا تسل عما غمر نفس ميسرة من حب وتقدير وإكبار لسيده محمد صلى الله عليه وسلم، لقد رأى تظليل الغمام له في مسيره هذا، ولمس عن كثب[14] الكثير من أخلاقه وبره وعطفه وحسن معاملته وأمانته، وسمع من نسطورا ما سمع، فلا عجب إذا كان حدث سيدته بعد عودته بما رأى وما سمع، وما وجده منه من حسن الخلق.
وباع النبي – صلى الله عليه وسلم – التجارة وابتاع، وعاد بربح وفير، وعاد معه غلام خديجة، ووصل الركب في الظهيرة إلى مكة، وخديجة في علية لها ـ غرفة عالية ـ، فرأت النبي تكسوه المهابة والجلال، فلما دخل عليها أخبرها بخبر التجارة، وما ربحت، فسرت لذلك سرورا عظيما، وخرج النبي، وترك ميسرة يقص على سيدته من شأن سيده محمد – صلى الله عليه وسلم – ما شاءت له نفسه أن يقص[15].
نخلص من هذا كله إلى أن هذا الزواج المبارك كان عن رضا وإعجاب متبادل بأخلاق كلا الطرفين وشمائله، ومنزلته من قريش، وكان سعي خديجة – رضي الله عنها – موفقا، وكانت فراستها صادقة؛ إذ أسفر سعيها الناجع هذا عن زواجها من سيد العالمين وسيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. وفاء النبي – صلى الله عليه وسلم – للسيدة خديجة رضي الله عنها حتى بعد وفاتها:
لو كان تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – من السيدة خديجة لغرض الحصول على المال أو الوجاهة الاجتماعية، لظهر ذلك في سلوكه ونشاطه بعد الزواج، ولكنه لم يكن من أمره بعد زواجها ما يدل على إسرافه في مالها، كما يفعل النفعيون الذين يتزوجون العجائز الثريات، فلم يعمد إلى البذخ في مظهره، بل كان متواضعا عفيفا، ولم يعمد إلى القصف مع أبناء المياسير إظهارا لثرائه الطارئ، بل ازداد تباعده عن كل ألوان القصف[16]، وزاد زهده في الرخاء والترف، وصار يقضي الكثير من وقته صائما معتزلا للناس وحده في الجبل.. حتى كانت خديجة تخرج للبحث عنه مع خدمها، كما تبحث الأم عن ابن لها أقلقها طول غيابه، وتحمل إليه هناك الطعام، لقد زاد الرجل بالزواج من الكهلة عفة واستقامة، وزاد الرجل بالزواج من الثرية نزاهة وعزوفا عن البذخ والترف، فأين الطمع هنا، وأين الوصولية؟ لا طمع ولا وصولية، ولكنها الأكذوبة التي لا تتورع ولا تستحيي.
وإن كان للوصولية موضع في حياة خديجة رضي الله عنها، فلن يكون لها موضع وقد ماتت، فإذا به يحزن عليها حزنا شديدا، وإذا حزنه يطول في حين اشتد عليه اضطهاد القرشيين وإيذاؤهم لشخصه، وقد زاد من جرأتهم عليه موت عمه أبي طالب في تلك السنة أيضا.
وفي ذلك الحين أدرك المؤمنون القلائل أن نبيهم – صلى الله عليه وسلم – في حاجة ماسة إلى من يؤنس وحشته، ويخفف عليه أعباء الجهاد ومتاعب الاضطهاد، وأن طفلته الصغيرة فاطمة الزهراء بحاجة إلى عناية الأمهات، وندب المؤمنون لمفاتحته في ذلك خولة بنت حكيم، فتلطفت في ذلك، ثم عرضت عليه أن يتزوج، فمن التي تزوجها ذلك “الوصولي المزعوم”؟ سودة بنت زمعة، امرأة متقدمة في السن ليس لها جمال خديجة، ولا مال لها على الإطلاق ولاجاه، وإنما هي أرملة طيبة القلب، ولم يكن للرجال فيها مأرب[17].
ثم أية مصانعة هذه التي تجعل الزوج يفي لزوجته بعد مماتها بسنين وسنين، فلا يذكرها إلا ورق قلبه ولهج لسانه بالترحم والثناء؟!
وهل ينسى المنصف ما حدث بعد موقعة بدر، فقد وقع “أبو العاص بن ربيع” زوج ابنته زينب في الأسر، وكان يومئذ على دين أبيه مستمسكا بالكفر، وطولب أبو العاص بالفدية كما طولب سائر الأسارى، وبعثت زينب بنت محمد – صلى الله عليه وسلم – من مكة بالفدية، وفيها قلادة كانت لأمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فإذا بالقائد الظافر يرق لمرأى القلادة أيما رقة، وكأنما تمثل له جيد[18] صاحبتها الراحلة، وكم التمس معها من عزاء، وكم نعم معها بالراحة من وعثاء الجهاد[19] وعناء الدعوة، وما يلقاه من صدود وجفوة وقسوة، فالتفت إلى أصحابه ينشدهم أن يردوا القلادة إلى زينب، ويفرجوا عن زوجها المأسور إكراما لتلك الذكرى العزيزة.
وأبو العاص بن الربيع من هو؟ أليس ابن أخت خديجة، ابن هالة بنت خويلد؟ وكانت خديجة تعده بمثابة ولدها، وهي التي أشارت على زوجها أن يزوجه من ابنتها زينب قبل بعثته.
وقد يتلكأ ذو طوية مغرضة في هذه المناسبة، فيزعم أنه ربما رق لمرأى القلادة، لأنه تذكر ابنته، ولأن هذه القلادة كانت من قبل لخديجة ثم “أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها” كما جاء في سيرة ابن هشام.
ولكن ما القول في أمر وقع بعد ذلك بأعوام، ولا شبهة في أن تكون عاطفته في تلك المناسبة منصرفة إلى الوفاء للزوجة الأولى التي غبر[20] على موتها زمن مديد؟
فقد كانت عائشة بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – على صباها وملاحتها، وهي البكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم – تقول إنها لم تغر من امرأة إلا خديجة، «كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة»[21].
وكانت عائشة كثيرا ما تغار منها كلما ذكرها صلى الله عليه وسلم، وضاقت ذات يوم بما في صدرها فهتفت مغيظة محنقة: «وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين[22] هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها؟[23] فإذا وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – يربد[24]، ويصيح بعائشة في زجر وتقريع عنيف: “ما أبدلني الله – عز وجل – خيرا منها؛ قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله – عز وجل – ولدها إذ حرمني أولاد النساء».[25] ولم تجسر[26] عائشة ـ الزوجة الشابة ذات الحظوة ـ أن تجري ذكر خديجة على لسانها بعد تلك الغضبة.
فمن ذا الذي كان محمد – صلى الله عليه وسلم – يصانعه وهو يفي لخديجة – رضي الله عنها – هذا الوفاء الجميل الذي يستحق أن يكون مضرب الأمثال لسائر الأزواج، رجالا ونساء!
أتراه كان يصانع التي ماتت، ليغضب التي يعيش معها ويحبها؟! ما القول في هذا الوفاء المعجز، والدنيا حافلة من حولنا بأمثلة العقوق ونسيان الفضل وخيانة العهد؟! وما كان أحرى ذلك “الوارث” أن يعوض ما فات عليه في ربع قرن من اللذات، لو أنه كان الرجل الانتهازي الذي يزعمون[27].
الخلاصة:
- كان زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – من خديجة – رضي الله عنها – نتاجا للرضا الكامل، والقبول المتبادل والترحيب التام من الأهل والعشيرة، وليس فيه أية شبهة قسر أو نفور، بل إن السيدة خديجة هي التي سعت إلى الزواج من النبي – صلى الله عليه وسلم – لـما لمسته بذكائها من كونه الشخصية النموذجية في عصرها، فقد نقل إليها غلامها ميسرة خبر رحلة محمد في تجارتها إلى الشام، وما كان من خلقه وسماحته ومهارته وحكمته، وكذلك ما ذكره الراهب النصراني نسطورا من نبوءة وبشارة بشأنه، وما كان له في ذلك السفر من الكرامات والخصائص.
- لقد كان ذلك الزواج موفقا، فقد كانت خديجة سيدة نساء مكة، وأوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وأوفرهم عفة واستقامة، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – زينة شباب قريش جمالا وعقلا وأدبا وخلقا، مع مكانة اجتماعية، ووجاهة في قومه، واشتهار بجميل الخصال من صدق وأمانة، وكل هذه الصفات وتلك، كانت دافعا للطرفين للاقتناع والرضا والقبول بهذا الارتباط الزوجي العظيم.
- لم يتزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – خديجة – رضي الله عنها – من أجل تحقيق مصالح شخصية، كالحصول على المال، أو الوجاهة الاجتماعية. فأما الوجاهة الاجتماعية، فلم تكن تعوز النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق الأمين، وهو الذي حكم بين قبائل قريش، وارتضت حكمه ورأيه حين اختلفوا حول وضع الحجر الأسود موضعه، ثم هو فتى بني هاشم، وزهرة شبابهم، وهم أهل السقاية والرفادة، وإليهم أمر البيت الحرام. وأما البحث عن المال، فلم يكن مطلبا للنبي – صلى الله عليه وسلم – بحال، وإلا لظهر على سلوكه بعد زواج خديجة ما يدل على هذا، تبذيرا في الإنفاق، وبذخا في المظهر، وترفا في الحياة، لكن شيئا من هذا لم يكن.
- لو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في زيجته هذه وصوليا انتهازيا لما عرف الوفاء إلى قلبه أو لسانه طريقا، لكنه ظل لخديجة الزوج الوفي، الذاكر بالخير والثناء لها دائما، الواصل لأهلها وصديقاتها، فلم تزده وفاتها إلا برا ووفاء لها، وما هكذا يكون شأن الوصوليين.
وهكذا ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – المثل الكامل، في الحب الكبير والمودة الصافية لزوجته خديجة رضي الله عنها في حياتها، ثم الوفاء المعجز والأحدوثة الطيبة الخالدة بعد وفاتها.
(*) لكن محمدا لا بواكي له، د. إبراهيم عوض، دار الفكر العربي، القاهرة، طـ2، 2001م.
[1]. القسر: القهر والكره.
[2]. دسيسا: خفية وسرا.
[3]. العير: الإبل.
[4]. لا يقدع أنفه: مثل يضرب للكفء الكريم.
[5]. خطبة الإملاك: إعلان الزواج.
[6]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص 220.
[7]. الكهل: من جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين.
[8]. أصدق الناس لهجة: أي: منطقا وحكاية.
[9]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص145 بتصرف.
[10]. محمد في حياته الخاصة، نظمي لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م، ص53، 54 بتصرف يسير.
[11]. تدفع إليهم المال مضاربة: يعملون لها في التجارة ولهم نصيب من الربح.
[12]. النقيبة: السجية والطبيعة.
[13]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص 214، 215.
[14]. الكثب: القرب.
[15]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص 214: 216 بتصرف.
[16]. القصف: اللهو واللعب والافتتان في الطعام والشراب.
[17]. محمد في حياته الخاصة، نظمي لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م، ص58: 60 بتصرف.
[18]. الجيد: الرقبة.
[19]. وعثاء الجهاد: مشقته.
[20]. غبر: مضى.
[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خديجة وفضلها رضي الله عنها (3607).
[22]. الشدق: جانب الفم مما تحت الخد.
[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب تزويج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خديجة وفضلها رضي الله عنها (3610)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل خديجة أم المؤمنين (6435)، واللفظ له.
[24]. اربد وجهه: احمر حمرة فيها سواد من الغضب.
[25]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24908)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الباء، ذكر أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهن (21)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد (24908).
[26]. تجسر: تجرؤ أو تتمكن.
[27]. محمد في حياته الخاصة، نظمي لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م، ص61: 64 بتصرف يسير.
الزعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مؤذيا لمن حوله مولعا بسفك الدماء(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يسلم من خالطه من أذاه، إذ كان مولعا بسفك دماء الناس بحق أو بغير حق، ويدعون أنه – صلى الله عليه وسلم – قتل بيده، ويمثلون لذلك بقتله – صلى الله عليه وسلم – أبي بن خلف في غزوة أحد بحربته، ويتساءلون: أهكذا تكون أخلاق الأنبياء؟ ويرمون من وراء ذلك إلى اتهامه – صلى الله عليه وسلم – بسفك دماء الناس دون وجه حق، وتغليب جانب الشر فيه على جانب الخير.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان – صلى الله عليه وسلم – رحمة للصغير والكبير، والقريب والبعيد، والصديق والعدو حتى الحيوان؛ فعطفه وحسن خلقه شمل كل من حوله وما حوله.
2) كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أحلم الناس، وأرغبهم في العفو عند المقدرة، صابرا على من آذوه، وكارها لإراقة الدماء، وهذا ما تؤكده سيرته العطرة.
3) لقد صبر النبي – صلى الله عليه وسلم – على أبي بن خلف صبرا طويلا على الرغم من أنه آذى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه كثيرا وهدده بالقتل أكثر من مرة، ولم يقتله – صلى الله عليه وسلم – إلا بعد أن سعى هو لقتله في أحد قائلا: “لا نجوت إن نجوت يا محمد”.
4) كان قتل النبي – صلى الله عليه وسلم – أبيا دفاعا عن نفسه، ولا شيء في ذلك، ثم إنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن بدعا من الرسل في هذا الأمر؛ فقد قتل موسى – عليه السلام – بيده قبطيا، وقتل داود – عليه السلام – جالوت بمقلاعه. فلماذا ينكرون على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويقرون ما فعل إخوانه الأنبياء قبله، وهذه كتلك؟!!
التفصيل:
أولا. لقد شملت رحمة النبي – صلى الله عليه وسلم – كل من حوله وما حوله:
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – برا رحيما، وقد وسعت رحمته – صلى الله عليه وسلم – كل من حوله، تلك الرحمة التي وصفه الله – عز وجل – بها في قوله: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
يقول صاحب كتاب “بطل الأبطال”: إن جانبا عظيما من جوانب شخصية محمد – صلى الله عليه وسلم – هو جانب رحمته وبره، ذاك الجانب الذي لا يدانيه فيه أحد، وهو صورة لنفسه الكريمة في أيام فقره وغناه، وضعفه وقوته، فقد كان البر إمامه، والرحمة محيطة به، وهو القائل: «إن البر يهدي إلى الجنة»[1] «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»،[2]«ولا يرحم الله من لا يرحم الناس»[3]«ولا تنزع الرحمة إلا من شقي»[4] وقد وصفه القرآن بهذه الصفة، قال عز وجل: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)( (التوبة).
وكانت رحمته – صلى الله عليه وسلم – تسع الناس جميعا، وكان بره يصل إلى المؤمنين والمشركين، وكان الفقراء والضعفاء أقرب الناس إلى قلبه الكبير، وعطفه الشامل، وبلغ حبه الفقراء أن دعا الله أن يبقى فيهم حيا وأن يحشر معهم ميتا، روت عائشة – رضي الله عنها – أنه كان يقول: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» [5].
وإذا ما استأذنا في الدخول إلى بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – لنسأل عنه زوجاته وهن أعرف الناس به، كان الجواب من السيدة عائشة – رضي الله عنها -: «كان خلقه القرآن»[6] أو كان قرآنا يمشي على الأرض – صلى الله عليه وسلم – فأخلاقه كاملة ككمال القرآن، فهل يطعنون في القرآن وتمثيله لأخلاق المسلم؟! أم في تمثيل النبي – صلى الله عليه وسلم – تلك الأخلاق خير تمثيل؟! وهو الذي ما نهر أحدا طول حياته، لا خادمه، ولا زوجته، ولا أحدا من أتباعه؟! حتى أعداؤه، الذين آذوه إيذاء بالغ الشدة، كان يقابل إيذاءهم بالعفو عنهم، والدعاء لهم.
ومع هذا كله كان – صلى الله عليه وسلم – يتهم نفسه بالتقصير، ويدعو الله – عز وجل – أن يرحم كل من صدرت منه إساءة إليه بدون قصد منه أو علم، يقول صلى الله عليه وسلم «اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته، أو جلدته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة»[7].
لقد عمل محمد – صلى الله عليه وسلم – بما آتاه الله، وما أودع فطرته من الرحمة، فاجتهد لرفع شأن الفقير وإكرامه، والأخذ بيد الضعيف، وأرسل بره في هذه الطبقة، حتى قلب نظام المجتمع الذي ظهر فيه في سنين قليلة، وجعل من الفقراء المستضعفين أمة دان لها المشرق والمغرب فيما بعد، كما كان – صلى الله عليه وسلم – يقول:«ابغوني ضعفاءكم،[8] فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم».[9] وكان يسره أن يجتمعوا إليه، وطالما سخرت قريش منه لحفاوته بالمساكين، وذهابه بهم إلى الحرم، فقالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟
وكانت رحمته وبره بالمساكين تمتد إلى ما بعد الموت، جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي ذكر ذات يوم رجلا أسود، فقال: “ما فعل ذلك الإنسان”؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: “أفلا آذنتموني”؟ فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، فحقروا من شأنه، قال: فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه»[10].
وكان – صلى الله عليه وسلم – يجاهد لتحرير العبيد، ولرفع قيمتهم، فلم يدخر مالا، ولا سلطانا ولا دعوة في سبيلهم، وكانت نفسه تفيض بالرحمة عليهم والبر بهم، وأظهر مثل ما كان منه مع مملوكه زيد بن حارثة، الذي خير بين سيده محمد ووالده، فاختار محمدا في الوقت الذي كان لا حول له فيه ولا قوة، بل كان موضع أذى قريش وسخريتها، وهو الذي جعل معتوقه زيدا هذا، القائد الأعلى للمهاجرين والأنصار حين وجههم لغزو الروم، فاستشهد في وقعة مؤتة، ولما استأنف النبي غزو الروم بعد الفتح أمر شابا ابن رقيق، هو أسامة بن زيد هذا، وهو حدث في العشرين، ومشى أكابر الصحابة وأشراف قريش والنبي – صلى الله عليه وسلم – في موكبه.
أرأيتم إذن كيف رفع برحمته وبره شأن الأرقاء المستعبدين؟
وكان بارا بالخدم والعمال من ذلك ما يأتي:
روى أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلس معه فليناوله لقمة أو لقمتين».[11] وقال معاوية بن سويد: «كنا بني مقرن على عهد رسول الله ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي فقال صلى الله عليه وسلم “أعتقوها”، فقيل: ليس لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها» [12].
وعن أبي مسعود البدري قال: «كنت أضرب غلاما لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي “اعلم أبا مسعود”، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإذا هو يقول: “اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود”، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام»[13].
وبلغ من رحمة محمد – صلى الله عليه وسلم – أنه كان لا يطيق أحدا يقول: عبدي أو أمتي، فأمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا: فتاي وفتاتي، وقد كان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء، ونشر المساواة، وتغليب روح الأخوة على ما كان من العصبية، والغرور، والتفاخر.
يقول المعرور بن سويد: «رأيت أبا ذر وعليه حلة، وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله – عز وجل – تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه»[14].
وقال أنس: «خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي أفا قط». [15] وكان – صلى الله عليه وسلم – يخالط المساكين والخدم والعبيد، ويحادثهم ويجيب دعوتهم، ويعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويصلي عليهم، وقد جعلت الشريعة المحمدية نصيبا في بيت المال لتحرير الأرقاء، وكان – صلى الله عليه وسلم – يعطي العبد بعد تحريره شيئا يعينه على الكسب.
رحمته بالأطفال:
هذه الرحمة كانت تظهر أنسا وبشرا في وجهه إذا رأى الطفل، أو لقي الصبي، فقد كان يأخذ أطفال أصحابه بين ذراعيه، ويطرب لذلك، وكان إذا مر بالصبية يقرئهم السلام.
وحدث أبو قتادة قال: «خرج علينا النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها» [16].
وقال أسامة بن زيد: «كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما» [17].
وقد حدث أن عجب بعض الأعراب من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقبل أولاده وأولاد أصحابه، «فقال:تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة» [18].
وهذه الرحمة في نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – كما كانت تبدو بشرا وأنسا، كانت تفيض دمعا وأسى، وكان جفاة القوم يستعظمون هذه عليه، فكان يبين لهم أنها رحمة، وأنه لا عيب فيها.
لم يكن رسول الله ليقصر رحمته وبره، الذي هو صورة صادقة لنفسه الكريمة، على الناطقين من بني الإنسان، فإن هذه الرحمة ملكت مشاعره، وحفزته لكفاح موفق في سبيل الرفق بالحيوان، فكم كان للعرب من عادات مرذولة أنكرها وأزالها، وأخذ النبي يرغبهم في الرفق به، ويرهبهم من القسوة عليه.
ومن مظاهر رحمته – صلى الله عليه وسلم – بالأعداء:
هذه الرحمة بالكبير والصغير لم تكن خاصة بأتباعه المؤمنين، بل كانت شاملة لأعدائه المشركين والمخالفين من أهل الملل الأخرى، فقد رفع إليه بعد إحدى الوقعات أن صبية قتلوا بين الصفوف، فحزن حزنا شديدا، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: «مرت بنا جنازة، فقام لها النبي – صلى الله عليه وسلم – وقمنا، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، فقال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا» [19].
تلك هي الرحمة التي لا تعرف التخصيص بالدين أو الوطن، ولا فرق عندها بين الرفق بالإنسان والحيوان.
ولما مات عبد الله بن أبي بن سلول – وكان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي رجع بمن تبعه من الطريق يوم أحد، فخذل النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحرج أوقاته، وله مواقف مشهورة كان فيها شرا على الرسول والمسلمين – طلب ابنه من النبي – صلى الله عليه وسلم – قميصه ليكفنه فيه؛ تطهيرا له، فأعطاه قميصه كفنا لزعيم المنافقين، أرأيت أبر وأكرم من هذا الصنيع؟
ثم مشى النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قبره، فوقف يريد الصلاة عليه، فوثب إليه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وقال: «يا رسول الله، أتصلي على ابن أبي، وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! أعدد عليه قوله، فتبسم الرسول وقال: “أخر عني يا عمر”، قال عمر: فلما أكثرت عليه قال: “إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها”، فصلى عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثم انصرف»[20].
وذلك إشارة إلى قوله – عز وجل – في المنافقين: )استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم( (التوبة: 80)، ففي الخيار بين أن يستغفر وألا يستغفر، نزعت به طبيعته الرحيمة إلى الاستغفار لأعدائه، بل قال لعمر: “لو علمت أني لو زدت في الاستغفار على السبعين غفر لهم، لفعلت أكثر من سبعين مرة”.
تلك هي الرحمة التي وسعت أعداءه وأصدقاءه، والناس جميعا، وسمع مرة أعرابيا يصلي خلفه، يقول: «اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فلما سلم النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للأعرابي: “لقد حجرت[21] واسعا» [22].
فمن هذا وغيره – مما سقناه من الأمثلة على امتلاء نفسه بالرحمة – يتضح أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكن نتاجا للبيئة التي عاش فيها، وإنما كان الرحمة الشاملة في وسط الجفوة والعصبية والأثرة، تلك الرحمة التي لا حد لها هي التي جعلته يدعو لأعدائه، وقد سئل الدعاء عليهم في أحد وهو جريح، وعمه حمزة ممثل به، وأنصاره بين القتل والجرح والتشريد، وهي التي جعلته يدعو لثقيف يوم الطائف، وقد امتنعت عليه. وتلك الرحمة هي التي جعلته يفتح لتجارة قريش طريق اليمامة، وطريق الشام، وقد سألوه صلة الرحم، وشكوا جوع أهليهم، وهم الذين أخرجوه من داره وحصروه في المدينة.
فرحمته وبره – صلى الله عليه وسلم – وسعتا العدو والصديق، والقوي والضعيف، والحر والعبد، والحيوان والإنسان، وفاض بها قلبه الكبير، فكانت في فمه بشرا، وفي عينه دمعا، وفي يده جودا.
تلك الرحمة التي وسعت الجميع هي أبرز صفات محمد – صلى الله عليه وسلم -، وهي التي يتسابق الأبطال إليها، فيردون عن هذا المدى، ويبقى رسول الله المثل الكامل، والقدوة العظمى، وحقا كان كما قال عن نفسه: «إنما أنا رحمة مهداة» [23]. وكما قال القرآن الكريم له: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء) [24].
ثانيا. إن المتصفح لسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – يجده أحلم الناس، وأرغبهم في العفو عند المقدرة، وهو في ذلك صابر على من آذوه، كاره لإراقة الدماء:
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحبس نفسه عن الأذى، ويصبر على ما يشق ويكره، ولا يزيد مع أذى الجاهل عليه إلا صبرا وحلما، ولم يؤاخذ الذين كسروا رباعيته[25] بل دعا لهم وعفا عنهم، وكم عفا عن مثلهم، وتجاوز عما بدا من المنافقين في حقه – صلى الله عليه وسلم – قولا وفعلا، ولم يقابل من شتمه ولا من أراده بسوء، طولا وفضلا منه – صلى الله عليه وسلم -. وحسبك معاملته – صلى الله عليه وسلم – لأهل مكة حين الفتح فقد قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء! والكل يعلم ما فعل أهل مكة به صلى الله عليه وسلم.
وحدث أنه لما كان المصطفى يقسم بعض الغنائم يوم خيبر قال له رجل: «يا محمد، اعدل، فقال له المصطفى: “ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل”، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: “معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» [26].
«وقسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قسمة، فقال رجل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فاحمر وجهه وقال: رحم الله أخي موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». [27]
ومن محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم ضبط النفس والرشد والعفو عند المقدرة، ومن ذلك:
ما روي عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أخبره «أنه غزا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل نجد، فلما قفل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قفل معه فأدركتهم القائلة[28] في واد كثير العضاه[29] فنزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحت سمرة[30] فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، ثم إذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن هذا اخترط سيفي[31] وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس. ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم» [32].
ومن الأحداث المماثلة: أن يهودية – هي زينب بنت الحارث بن سلام ـ وضعت سما للنبي – صلى الله عليه وسلم – في شاة وقد اعترفت بذلك، فصفح عنها وعفا عنها بعد اعترافها؛ لأنه كان لا ينتصر لنفسه، ثم قتلها قصاصا لمن مات من أصحابه بأكله من هذه الشاة، كبشر بن البراء الذي مرض من هذا السم حتى مات بعد سنة.
كذلك لم يؤاخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحره، وأعلم الله نبيه بالوحي، أو من طريق جبريل – عليه السلام – الذي أخبره بأنه سحره، وأبان حاله، فلم يعتب عليه، أي أعرض عن معاتبته، فضلا عن معاقبته، بل إنه – صلى الله عليه وسلم – قال لمن أشار عليه بقتل بعض من ارتكبوا منكرا من الأقوال والأفعال في حقه صلى الله عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» [33] [34].
إن رجلا بهذا العفو وذاك التسامح لا يمكن أن يكون أبدا سفاكا للدماء؟!!
وكان من حسن خلقه – صلى الله عليه وسلم – تريثه عند لقاء العدو: “فإنه كان يتذرع بالصبر، ويلتزم بالأناة، ولا يعاجل عدوه بالضرب حتى تظهر قوته، وكان يقول لجنوده لا تقاتلوهم، حتى تدعوهم، فإن أبوا، فلا تقاتلوهم حتى يبدءوكم فإن بدءوكم، فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم هل إلى خير من هذا سبيل؟ فلأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت” [35].
وبهذا يظهر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يبادر في إهدار الدماء، بل كان يدعو أعداءه إلى الحق حتى يبادروا هم، فإن بادروا فلا مناص من استعمال السيف، ومن حسن أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – أنه كان متمسكا بالفضيلة وإن جافاها العدو، وكانت تصدر في صورة أقواله ومواقفه في الحروب.
فهو لا يقاتل إلا من حمل السيف فقط، ويأمر جنوده بالعفة التي لا يحدها حد، والعفة التي ترقى بصاحبها إلى درجة الملائكة، فلا يعرف الجندي المسلم الإسفاف أو التردي إلى حضيض الحيوانية، ولا يقبل أن يكون وحشا ضاريا، إنما يمارس الحرب هاديا مهديا، متأسيا بنبيه ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، حتى إذا مات ذهب إلى الله راضيا مرضيا” [36].
تلك أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – التي لا ينكرها إلا جاحد أو حاقد، فالرسول كان أشد الناس حرصا على النفوس، وعلى عدم إراقة نقطة دم واحدة، وقد ظهر ذلك جليا يوم الفتح الأكبر فقد عفا عمن ظلموه وآذوه، وأخرجوه من بلده تاركا ماله وأهله، إلى أن نصره الله وأعزه بالفتح المبين، فلم يفعل الرسول الكريم ما فعله المشركون به وبأصحابه، بل «قال لهم: ” )لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف)» [37].
وقد ظهرت دلائل رحمته وحسن خلقه – صلى الله عليه وسلم – قبل ذلك يوم عفوه عن أسرى بدر، وقبوله رأي أبي بكر – رضي الله عنه – ورفضه رأي عمر – رضي الله عنه – بقتل الأسرى، ورضي النبي – صلى الله عليه وسلم – بالعفو، وعدم إراقة الدماء، وما ذلك إلا لكراهة النبي – صلى الله عليه وسلم – إراقة الدماء، تلك أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – التي لا يكاد ينكرها منصف!
ثالثا. لم يقتل النبي – صلى الله عليه وسلم – أبي بن خلف – الذي تهكم عليه وتوعده بالقتل – إلا دفاعا عن نفسه صلى الله عليه وسلم
قد كان أبي بن خلف من مشركي قريش الذين آذوا النبي وتهكموا عليه، وتوعدوه بالقتل، ونذكر «أن أبي بن خلف ذهب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعظم بال قد أرم، فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعدما أرم[38]، ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله، فقال له: “نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله، وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار».[39] وقد نزل الله – سبحانه وتعالى – فيه قوله: )وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)( (يس).
تلك كانت مجادلة أبي بن خلف للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يكتف أبي بالمجادلة، والإعراض والسخرية، بل زاد على ذلك بتوعد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقتل.
قال ابن كثير: “عن عروة بن الزبير قال: «كان أبي بن خلف أخو بني جمح، قد حلف – وهو بمكة – ليقتلن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما بلغت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حلفته قال: “بل أنا أقتله إن شاء الله»[40] فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول – صلى الله عليه وسلم – يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترقوة[41] أبي ابن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك، إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنا أقتل أبيا”، ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون.. فمات إلى النار )فسحقا لأصحاب السعير (11)( (الملك) [42].
فتأمل صبر النبي – صلى الله عليه وسلم – وأناته في مواجهة هذا المشرك، فهو لا يعجل بقتله عسى أن ينثني، فلما أصر أبي على ملاحقته، ودنا منه – صلى الله عليه وسلم – تصدى له بنفسه، ولم يسمح لأحد من أصحابه أن يكفيه ذلك، رغم جراحاته، وذلك أن الرجل كان يقصده ويتهدده في مكة، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – واثق من ربه، قوي برسالته، فهيهات أن يصيبه الجزع والوهن، وما أهون الكافر على الله!! إن ضربة واحدة من يده – صلى الله عليه وسلم – تكفيه ليتدحرج من كبريائه، وإن خدشا واحدا في جسده يحدث شرخا في أعماقه، وانظر إليه كيف يرتعد أمام يقينه بصدق محمد صلى الله عليه وسلم”قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله، لو بصق علي لقتلني”!! ما أعجب نفوس هؤلاء؟ لقد كانوا على يقين من صدق النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولكنه الجحود المتأصل في أعماقهم.
ومع ذلك منعتهم تقاليدهم من الإيمان، ونحن إذا نظرنا إلى مقولة أبي بن خلف، لوجدنا أنها تؤكد حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
ويذكر الرواة عند هذه الحادثة قول النبي صلى الله عليه وسلم «اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله».[43] صلوات الله عليك يا رسول الله، كم كنت حريصا على عدم قتل أحد بيدك، بل تعطي الجميع فرصة للمراجعة والنجاة، وهذا أبي استأنيت به، وهو يهاجمك متبجحا حتى اختار لنفسه هذا المصير وذاك المصرع [44].
رابعا. لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل حين قتل أبيا دفاعا عن نفسه؛ إذ قتل قبله سيدنا موسى – عليه السلام – قبطيا، وقتل – أيضا – سيدنا داود – عليه السلام – جالوت بمقلاعه:
عجيب أن يطعن في عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – وحلمه، ويتهم بحبه لسفك الدماء، مع العلم أن مبدأ الدفاع عن النفس موجود في مواقف من سبقه من الأنبياء.
ثم إن الدين – أي دين – لا يحرم القتل إذا كان دفاعا عن النفس، ما دام الأمر لا يتصل بهوى نفسي، وحقد فردي، غير أن هذا لا يجوز في مقام الأنبياء جميعا – عليه السلام – لأنهم معصومون من كل هذه النقائص والعيوب، وقد روت لنا كتب السيرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أكثر الناس حلما وعفوا، وهذا يتضح – كما أسلفنا – من مواقف كثيرة ومتعددة في حياته صلى الله عليه وسلم.
فهل يعقل أن مثل هذا النبي الحليم يقتل جورا وظلما، وهو الذي كان يتنازل عن حقه حلما وترفعا منه صلى الله عليه وسلم؟ وهل يحق أن نصم من حقن الدماء بأنه مولع بسفك الدماء؟!
ولا يبعد النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما فعل عن سيدنا موسى – عليه السلام – حين قتل رجلا قبطيا، ويحدثنا القرآن الكريم عن ذلك في قوله عز وجل: )ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15)( (القصص).
فقد قيل: كان القبطي من عملة مخبز فرعون، فأراد أن يحمل حطبا إلى الفرن فدعا إسرائيليا ليحمله فأبى، فأراد أن يجبره على حمله، وأن يضعه على ظهره فاختصما وتضاربا ضربا شديدا، وهو المعبر عنه بالتقاتل على طريق الاستعارة، وكان الإسرائيلي مغلوبا، فاستغاث بموسى – عليه السلام – فضرب موسى القبطي بمجامع يده وجمع أصابعه فمات، ففوجئ موسى بموت القبطي، ثم علم أن هذا العمل من عمل الشيطان واستغفر لذنبه[45].
هذا، وقد قتل أيضا سيدنا داود – عليه السلام – جالوت بيده بمقلاعه الذي كان معه، وقد حكى لنا القرآن هذه القصة في سورة البقرة، يقول الله عز وجل: )فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء( (البقرة:251).
فلما لم يستطع أحد مبارزة جالوت انبرى له داود ورماه بالمقلاع، فأصاب الحجر جبهته، وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه، وصار داود ملكا، ثم أتاه الله النبوة فصار ملكا نبيا[46].
فالقتل إذا كان في صالح انتشار الدعوة، أو للدفاع عن حرمة الدين، أو للدفاع عن النفس فلا شيء فيه، – حتى وإن كان من نبي أو رسول – فللرسول أن يدافع عن نفسه أيضا كغيره من الناس؛ لأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر، وإذا كان هذا الكافر قد توعده بالقتل في أكثر من موقف، فلماذا لا يقتله دفاعا عن نفسه؟!
الخلاصة:
كان – صلى الله عليه وسلم – رحمة مهداة شملت كل من حوله وما حوله؛ فقد وسع بره وحسن خلقه الصغير والكبير، والقريب والبعيد والعدو والصديق، حتى الحيوان فكان – صلى الله عليه وسلم – رحمة مهداة للعالمين بحق.
لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أحلم الناس، وأكثرهم عفوا عند المقدرة، وهذا من كمال أخلاقه – صلى الله عليه وسلم -، والأدلة على ذلك في كتب السيرة كثيرة، ويكفينا أن نشير إلى عفوه – صلى الله عليه وسلم – عن أسرى بدر وعدم قتلهم، وعفوه عن أهل مكة – الذين ناصبوه العداء – عند فتحها، وقوله لهم: )لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)( (يوسف).
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما قتل أبي بن خلف إلا نتيجة لتهكمه عليه – صلى الله عليه وسلم – في مكة، وتهديده له بالقتل لو تمكن من ذلك، فهل اعتدى عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أم كان يدافع عن نفسه كغيره من البشر؟!
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في هذا الشأن، خاصة فيما يتعلق بقتل الكفرة الذين يهددون حياتهم، وحياة دعوتهم، فقد سبقه إلى ذلك نبي الله موسى – عليه السلام – حين قتل القبطي، ثم استغفر لذنبه وتاب الله عليه، ونجد سيدنا داود – عليه السلام – قد قتل جالوت بمقلاعه، فلماذا لم ينكر أحد عليهما ذلك الأمر؟!
(*) أخطاء القرآن، موقع الكلمة.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119) ( (التوبة) (5743)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (6803).
[2]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب رحمة المسلمين (1924)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب ما على الوالي من أمر الجيش (17683)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).
[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( (الإسراء: 110) (6941)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصبيان والعيال وتواضعه (6172).
[4]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (7988)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب ارحم من في الأرض (374)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7467).
[5]. حسن: أخرجه عبد بن حميد في مسنده، من مسند أبي سعيد الخدري (1002)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء (4126)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (308).
[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (25341)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب من دعا الله أن يحسن خلقه (308)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811).
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي أو سبه أو دعا عليه وليس هو أهلا (6787).
[8]. ابغوني ضعفاءكم: اطلبوا رضاي بتقربكم إليهم.
[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، باقي حديث أبي الدرداء (21779)، وأبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب في الانتصار برذل الخيل والضعفة (2596)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[10]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن (1272)، وفي موضع آخر.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب إذا أتاه خادمه بطعامه (2418)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4407) بنحوه.
[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (4391).
[13]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (4396).
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (4405)، واللفظ له.
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (5691)، مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله أحسن الناس خلقا (6151)، واللفظ له.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5650)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة (1241)، واللفظ للبخاري.
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب وضع الصبي على الفخذ (5657).
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5652)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (6169)، واللفظ للبخاري.
[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1249)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب القيام للجنازة (2261).
[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين (1300).
[21]. حجر: ضيق.
[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5664).
[23]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما أعطى الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم (31782)، والدارمي في سننه، المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم (15)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (490).
[24]. بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن عزام، دار الهداية، القاهرة، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص 59: 65 بتصرف.
[25]. الرباعية: مقدمة الأسنان.
[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3414)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2496)، واللفظ له.
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخمس، باب ما كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي المؤلفة قلوبهم (3224)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه (2494)، واللفظ للبخاري.
[28]. القائلة: وقت القيلولة.
[29]. العضاه: كل شجر عظيم له شوك.
[30]. السمرة: نوع من أنواع شجر الطلح.
[31]. اخترط السيف: نزعه من غمده.
[32]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (3905، 3906)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب توكله على الله وعصمة الله تعالى له من الناس (6090)، واللفظ للبخاري.
[33]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3414)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2496)، واللفظ له.
[34]. شمائل المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص113، 114 بتصرف.
[35]. الدر المنقوش في الرد على جورج بوش، عبد البديع كفافي، دار الفتح، مصر، 2005م، ص 363.
[36]. الدر المنقوش في الرد على جورج بوش، عبد البديع كفافي، دار الفتح، مصر، 2005م، ص 366.
[37]. حسن: أخرجه النسائي في سننه الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة الإسراء (11298)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب السير، باب فتح مكة حرسها الله تعالى (18054)، وحسنه الألباني في فقه السيرة (1/ 376).
[38]. أرم: فني.
[39]. صحيح: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، كتاب نصر بن علقمة نصر عن أبي هريرة، باب ابن عائد عن المقدام بن معديكرب (2505)، والحارث في مسنده، كتاب التفسير، سورة يس (705)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 201).
[40]. صحيح: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب المغازي، باب وقعة هذيل بالرجيع (9731)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب سورة الأنفال (3263)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص.
[41]. الترقوة: عظمة مشرفة بين النحر والعاتق.
[42]. وامحمداه، د. سيد بن حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص262، 263.
[43]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجراح يوم أحد (3845)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم (4749).
[44]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص 252، 253 بتصرف يسير.
[45]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج10، ص 89، 90 بتصرف.
[46]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ج2، ص 500.
إنكار عصمته – صلى الله عليه وسلم – بدعوى أنها فكرة نصرانية (*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – ويزعمون أنها مستوحاة من النصرانية التي تؤمن بعصمة المسيح؛ بوصفه صورة لله ولا يجوز له أن يخطئ، ويرون أن ما قيل في عصمته – صلى الله عليه وسلم – إنما هو مما روجه علماء الكلام المسلمون؛ تنزيها للنبي – صلى الله عليه وسلم – عن الأخطاء. ويرمون من وراء ذلك إلى نفي عصمته صلى الله عليه وسلم؛ بغية اتهامه باقتراف ما يقترفه العامة من الذنوب والآثام، وإدخاله في جملة العصاة من البشر، إيذانا لتجريده مما اختص به من الرسالة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) تعريف العصمة وبيان معناها يؤكد أنها مبدأ قرآني، وينفي أن تكون فكرة مستوحاة من النصرانية، أو أن تكون مما روج له الكلاميون المسلمون.
2) معلوم أن الله – عز وجل – عصم أنبياءه جميعا، بما فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن عصمته – صلى الله عليه وسلم – كانت أسمى وأعلى؛ لكونه خاتم النبيين، ولعموم رسالته إلى البشرية جمعاء.
3) إن المسيح عيسى ابن مريم معصوم من الله عصمة لا تبعد عن عصمة سائر الأنبياء؛ وذلك ليؤدي مهمته التي بعث من أجلها؛ وليس لأنه صورة لله، فالله – عز وجل – ليس كمثله شيء في ذاته أو في صفاته وأفعاله.
التفصيل:
أولا. تعريف العصمة وبيان معناها يؤكد أنها مبدأ قرآني، وينفي أن تكون فكرة مستوحاة من النصرانية، أو أن تكون من ابتداع علم الكلام:
العصمة لغة: المنع، والحفظ، واصطلاحا: حفظ الله تعالى أنبياءه من الذنوب كبيرها وصغيرها، أي أن الله تعالى لا يعطي للنبي الذي يرسله فرصة اقتراف الذنب؛ إذ يحفظه من ذلك.
وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، منها حوار نوح – عليه السلام – مع ابنه، حينما خاطبه قائلا: )يا بني اركب معنا( (هود: 42)، فأجابه ابنه: )سآوي إلى جبل يعصمني من الماء( (هود: 43)، فكلمة “يعصمني” الواردة في هذه الآية تأتي من فعل “عصم” ومعناه “حفظ”، وأجاب نوح – عليه السلام – ابنه بجواب جاءت فيه كلمة من الاشتقاق نفسه، إذ قال: )لا عاصم اليوم من أمر الله (هود: 43)، وسواء أجاءت كلمة عاصم بنفس معناها أم بمعنى معصوم، فالأمر لا يختلف كثيرا؛ إذ هناك عاصم، وهناك معصوم، والمعنى يدور حول العصمة.
وعندما شرحت “زليخا” امرأة العزيز عفة يوسف – عليه السلام – قالت: )( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم( (يوسف: 32)، ومعنى كلمة استعصم هنا: امتنع، وصان نفسه ولم يقرب، وكلمة “اعتصموا” الواردة في الآية: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا( (آل عمران: 103) تأتي بمعنى استمسكوا بحبل الله المتين لكي تحفظوا أنفسكم من الوقوع في الانحراف، أي بمعنى الاستمساك بشيء قوي ومنيع، ومعنى المنع والحفظ يلاحظ في كلمة “يعصمك” الواردة في الآية: )والله يعصمك من الناس( (المائدة: 67)[1].
قال صاحب اللسان: العصمة في كلام العرب المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه، يقال: يعصمه عصما: أي: يمنعه ويقيه.
وبهذا المعنى جاءت الكلمة في القرآن والسنة المطهرة، قال تعالى: )قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة( (الأحزاب: 17)، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله» [2]. والعصمة: القلادة، وفي اللسان – أيضا – أصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئا فقد عصمه.
من خلال ما سبق نجد أن العصمة لها عدة معان، هي:
- المنع.
- الحفظ.
- القلادة.
- الحبل.
وبالإمعان في هذه المعاني جميعها ترى أنها ترجع إلى المعنى الأول الذي هو المنع، فالحفظ منع للشيء من الوقوع في المكروه أو المحظور، والقلادة تمنع سقوط الخرز منها، والحبل يمنع من السقوط والتردي.
وعلى المعنى الأول دار كلام حذاق المفسرين؛ قال الإمام الطبري في تفسيره لقوله تعالى: )ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101)( (آل عمران): “وأصل العصمة: المنع؛ فكل مانع شيء فهو عاصمه، والممتنع به معتصم به”… وقد عرف المتكلمون والمحدثون من أهل السنة العصمة في الشرع بتعريفات بعضها يختلف عن بعض لفظا إلا أن المعنى واحد، وقد يختلف بعضها لفظا ومعنى، والاختلاف في المعنى يعود إلى من سلب اختيار المعصوم في أفعاله، ومن أوجبه.
وهذه التعريفات وإن اختلفت مناحيها في التعبير، وتنوعت جوانب تناولها لمعنى عصمة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فإنها جميعها تنتهي إلى حفظ الله تعالى إياهم من مواقعة الذنوب والمخالفات بعد البعثة باتفاق المحققين، وقبل البعثة على التحقيق، ولعل من أحسن تعريفات العصمة وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب “نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض” من أنها: “لطف من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير، ويزجره عن الشر، مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء”.
ومن المستحسن في تعريفها أيضا أنها “حفظ الله – عز وجل – للأنبياء بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة، ولو في حال الصغر، مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء”.
إن العصمة تعني حفظ الله تعالى لأنبيائه عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة، وأن العناية الإلهية لم تنفك عنهم في كل أطوار حياتهم قبل النبوة وبعدها، فهي محيطة بهم تحرسهم من الوقوع في منهي عنه شرعا أو عقلا، وصدق القائل حين قال:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمان
فقد كان أنبياء الله تعالى ورسله – عليهم السلام – محفوظي الظواهر والبواطن من التلبس بمنهي عنه، ولو نهي كراهة أو خلاف أولى.
فهم محفوظون ظاهرا من الزنا، وشرب الخمر، والكذب، والسرقة، وغير ذلك من المنهيات المستقبحات في الخارج، ومحفوظون في الباطن من الحسد، والكبر، والرياء، وغير ذلك من منهيات الباطن[3].
وبهذا يثبت أن العصمة أصل من أصول النبوة أنعم الله بها على أنبيائه جميعا؛ وذلك لشرف الرسالة التي بعثوا من أجلها، ولما سيلاقون من مشاق ومتاعب، وهذا ينفي أن تكون العصمة مستوحاة من النصرانية، أو مأخوذة من علم الكلام، كما يدعي الطاعنون.
ثانيا. الأنبياء جميعا معصومون من الوقوع في الذنوب والآثام:
لقد حدثتنا آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الخاتم – صلى الله عليه وسلم – عن الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حديثا مستفيضا جلى حياتهم من جوانبها المختلفة، فوضحت للناس متلألئة مشرقة، كلها رشد واهتداء.
ومجمل القول فيهم: أن تربتهم طيبة، وأحسابهم أصيلة، ومعادنهم نقية، وأصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم طاهرة، وبواطنهم صافية، وظواهرهم صادقة، ونشأتهم قويمة، ومنهجهم في طفولتهم رشيد، وسلوكهم بعد أن بلغوا الرشد حميد، وتصرفهم بعد النبوة حكيم، وموقفهم فيما يأتون وما يذرون سليم.
فهم في القمة من الفضائل، وفي الذروة من الكمال البشري الذي يشهد ببراءتهم من كل ذنب، وينطق بنزاهتم عن كل خطأ[4].
فكل الأنبياء معصومون؛ ولن تجد في حياة أي منهم انحرافا مقصودا، فهم أناس مختارون ومخلوقون بشكل استثنائي وهم ليسوا أخيارا فحسب، بل هم مصطفون من بين أفضل الأخيار، وهؤلاء لا يقترفون طوال حياتهم أي شيء يلقي ظلا على اصطفائهم هذا وعلى قدسية المهمة التي بعثوا من أجلها.
ففطرة الأنبياء صافية طاهرة، وأرواحهم علوية سامية، وإرادتهم صلبة قوية، وقلوبهم نيرة وضيئة؛ فالتجليات الإلهية تتبلور وتنعكس في قلوبهم بأبعادها الحقيقية؛ فقلوبهم ونفوسهم مثل مرآة صافية نقية تعكس الأنوار على حقيقتها، فلا يوجد هناك أي انحراف أو تحول في أي لون[5].
وإذا نحن أردنا أن نمثل لعصمة بعضهم كموسى – مثلا – أوردنا قوله تعالى في معرض امتنانه عليه عليه السلام: )وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني (39)( (طه)، فيفهم من هذه الآية أن الله تعالى لم يدع تربية موسى – عليه السلام – في قصر فرعون إلى فرعون ولا إلى أمه؛ بل رباه هو، فكيف لا يكون مثل هذا النبي معصوما وهو منذ طفولته تحت رعاية الله وعنايته وتربيته؟! وفي عصمة عيسى – عليه السلام – يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها» [6] [7].
وبهذا تكون عصمة عيسى – عليه السلام – من الله، ليتحمل أعباء رسالته، وليس لكونه صورة من الله كما يدعي هؤلاء الطاعنون.
ومع إقرارنا لكافة الأنبياء بالعصمة إلا أن نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان أسمى عصمة؛ ولم لا وهو سلطان الأنبياء وغاية الخلق، وأحب الخلق لله تعالى، وقد أرسل كل نبي لفترة من الزمن، ولمكان معين، بينما أرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – للناس كافة حتى قيام الساعة، لذا فلا غرو أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – أمير المعصومين، وإمامهم الذي فاقت عصمته عصمتهم وعفته عفتهم[8].
وقد ظهرت عصمته – صلى الله عليه وسلم – عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة، بعد النبوة عقلا وإجماعا، وقبلها سماعا ونقلا، ولا بشيء من أمور الشرع، التي أداها عن ربه من الوحي قطعا، وعقلا، وشرعا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصدا أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا، وعن الصغائر تحقيقا، وعن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضى وغضب وجد ومزح[9].
ومن دلائل عصمته – صلى الله عليه وسلم – حفظ الله له من أقذار الجاهلية:
فلقد نشأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مجتمع جاهلي يعج بالمفاسد والانحرافات، تعبد فيه الأوثان وتشرب فيه الخمور، وينتشر فيه الظلم، وما إلى ذلك من المفاسد التي اعتاد العرب ممارستها في جاهليتهم، إلا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انسلخ عن هذا المجتمع انسلاخا تاما، وإن كان يعيش فيه، فلم ينغمس في هذه المفاسد، ولم يشارك قومه في عاداتهم السيئة، بل سما وارتفع عن ذلك كله؛ لأنه كان محفوفا بعناية إلهية خاصة تحفظه وتحميه من هذه الأقذار منذ صغره، لم يهم بعمل شيء مما عليه أهل الجاهلية إلا وصرفه الله عنه، وهذا من رحمة الله بعبده ورسوله الذي اصطفاه؛ حتى تكون سيرته بيضاء نقية لا غبار عليها؛ تهيئة له لحمل الأمانة العظمى.
وهكذا عصم الله نبيه من ضلالات الجاهلية، ومن عبادة الأصنام، إعدادا له للنبوة[10].
ومن عصمة الله له (كونه محفوظ اللسان):
“يذكر الإمام أبو الحسن الماوردي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – محفوظ من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا، فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا وكثيرا حتى صار بالصدق مرقوما[11]، وبالأمانة مرسوما، وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسدا ومنهم من كذبه عنادا، ومنهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم، وحسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند” [12].
وعلى هذا فالعصمة ملازمة للنبي – صلى الله عليه وسلم – منذ بداية بعثته حتى توفاه الله، هذا بشهادة القرآن الكريم، وبشهادة سيرته العطرة، فلا يحق لأحد أن يزعم أن هذه العصمة وليدة علم الكلام، أو أنها مقتبسة من النصرانية.
ثالثا. المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ معصوم من الله كعصمة الله لأنبيائه جميعا؛ وذلك ليؤدي مهمته التي بعث من أجلها، وليس لأنه صورة لله:
إن الله – عز وجل – ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى)، ويؤكد ذلك اعتراف المسيح نفسه بوحدانية الله، وبما ينفي عنه صفة الألوهية أو كونه صورة لله. ولقد ورد في الأناجيل اعترافات كثيرة على لسان المسيح، تؤكد أنه كان يدعو إلى عبادة الله الواحد منها:
“فأجابه يسوع: أن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى”. (مرقس12: 29، 30).
وأقر المسيح – عليه السلام – أيضا بأنه رسول من عند الله: “أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني”. (يوحنا 7: 16).
فإن كان المسيح – عليه السلام – يعترف بأن الله واحد، وهو الذي أرسله، فكيف يدعى أنه إله أو أن له نفس صورة الله، فهذا لا يجوز، فالله عز وجل: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى) وهو الواحد، الذي لا شبيه له في صفاته وأفعاله، حتى ولو كان هذا الشبيه ملكا، أو رسولا مرسلا.
ويؤكد ذلك قوله تعالى: )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)( (النساء)، وقوله تعالى: )ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل( (المائدة: 75).
وهذا يؤكد أن المسيح كان كغيره من الأنبياء في كل شيء حتى في العصمة فهو معصوم من الله؛ لكونه نبيا مرسلا من الله، وليس لكونه “صورة من الله” فهذا زعم باطل[13].
الخلاصة:
- إن العصمة في اللغة تعني: المنع والحفظ، وهي في الاصطلاح: لطف من الله يحمل النبي على فعل الخير، ويزجره عن الشر، مع بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء، وهي بهذا المعنى أصل من أصول النبوة، التي أنعم الله بها على أنبيائه جميعا من لدن آدم – عليه السلام – حتى محمد صلى الله عليه وسلم.
- إن سيرة الأنبياء جميعا كلها رشد واهتداء، فبواطنهم صافية، وظواهرهم صادقة، ولقد عصمهم الله تعالى من الوقوع في الذنوب كبيرها وصغيرها، فصاروا القمة في الفضائل والذروة من الكمال البشري، ولقد كان محمد – صلى الله عليه وسلم – في قمة العصمة، ولم لا؟ وهو سيد الأنبياء وخاتمهم، ورسالته كانت عامة إلى البشر جميعا.
- إن سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – منذ نشأته حتى توفاه الله تشهد بعصمة الله له من أقذار الجاهلية، وما فيها من شرك ووثنية، وما فيها من شرور وآثام، حتى إنه – صلى الله عليه وسلم – قد اشتهر في قومه منذ صباه بالصادق الأمين، وعرف عنه سمو الأخلاق، وبعده عن كل ما يمكن أن يشين رجلا عاديا فضلاعن أن يكون نبيا بعث قدوة للعالمين.
- إن الله – عز وجل – عصم المسيح عيسى ابن مريم لكونه نبيا مرسلا، مثله في ذلك مثل سائر الأنبياء والمرسلين، وليس كما يزعمون لكونه صورة الله؛ لأن الله – عز وجل – ليس كمثله شيء في صفاته وأفعاله، وقد ورد في الأناجيل اعترافات كثيرة على لسان المسيح، تؤكد دعوته لعبادة الله الواحد الذي لا يشبهه شيء.
(*) سقوط الغلو العلماني، د. محمد عمارة، دار الشروق، مصر، 1416هـ/ 1995م. الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، مصر، 1407هـ/ 1987م.
[1]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص7، 8.
[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ( (التوبة: ٥) (25)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله (138).
[3]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص23: 26 بتصرف يسير.
[4]. عصمة الأنبياء، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص141 بتصرف يسير.
[5]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص8.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) ( (مريم) (3248)، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى عليه السلام (6283).
[7]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص14 بتصرف.
[8]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص73، 74.
[9]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص172: 174 بتصرف يسير.
[10]. الأدلة على صدق النبوة المحمدية، هدى عبد الكريم مرعي، دار الفرقان، الأردن، 1411هـ/1991م، ص315: 318.
[11]. المرقوم: المعلم المعروف.
[12]. أعلام النبوة، أبو الحسن الماوردي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص294.
[13]. انظر: قوانين النبوة، موفق الجوجو، دار المكتبي، دمشق، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص85 وما بعدها.
التشكيك في عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لإصرار بعض أهله على عدم الإيمان به(*)
مضمون الشبهة:
يشكك بعض الطاعنين في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعدم إيمان بعض أهله به وبدعوته، ولأن من أهله بعض فحول الكفر وطغاته، كما أن بيئته هي منبع الكفر، وكان ينبغي في زعمهم أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – من بيئة طيبة مؤمنة أي: يكون معصوما في نسبه حتى يكون أهلا لتلقي النبوة. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في عصمته صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إن طهارة نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – وشرفه من أصدق الأدلة على أهليته للنبوة.
2) إذا كان بعض أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – وعشيرته من المشركين الذين لم يؤمنوا به وماتوا على الكفر، فإننا نجد بعض الأنبياء السابقين عليه قد خالفهم بعض ذويهم من الآباء والأبناء، مثل: سيدنا نوح – عليه السلام – الذي خالفه ابنه ومات مشركا، وسيدنا إبراهيم – عليه السلام – الذي خالفه والده، ومات كافرا مشركا يعبد الأصنام. فهل قدح قادح في عصمة نوح وإبراهيم عليهما السلام؟!
3) لم يكن للبيئة المكية وما فيها من شرك ووثنية أي تأثير على النبي – صلى الله عليه وسلم – سواء قبل بعثته أم بعدها، مما يبرهن على عصمة الله له ورعايته إياه.
4) كان للعرب في جاهليتهم بعض الأخلاق المرذولة، غير أنهم كانوا ذوي فضائل وأخلاق متأصلة فيهم، فلم يكونوا شرا محضا.
التفصيل:
أولا. نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – من أصدق الأدلة على أهليته للنبوة:
لا شك أن الأنبياء الكرام هم أشرف الناس نسبا، كما أنهم أكملهم خلقا وخلقا؛ لذا سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «كيف نسبه فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب». ثم قال:«سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها» [1].
ومن شواهد ذلك من قصص الأنبياء السابقين قول قوم شعيب لشعيب عليه السلام: )ولولا رهطك لرجمناك( (هود: 91)، وقول قوم صالح لما أجمعوا على قتله عليه السلام: )قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49)( (النمل).
قال ابن خلدون في حديثه عن علامات النبوة: “ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي أحساب في قومهم”.
وأولى الأنبياء الكرام بكل فضيلة خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله – عز وجل – اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [2].
وفي فضل قريش عن أم هانئ مرفوعا: «فضل الله قريشا بسبع خصال: فضلهم بأن عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قرشي، وفضلهم بأن نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأن نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيهم غيرهم )لإيلاف قريش( (قريش)، وفضلهم بأن فيهم النبوة، والخلافة، والحجابة، والسقاية» [3].
قال ابن حزم: هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب – واسمه شيبة الحمد – بن هاشم – واسمه عمرو – بن عبد مناف – واسمه المغيرة – بن قصي – واسمه زيد – بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ها هنا انتهى النسب الصحيح الذي لا شك فيه.
وعدنان – بلا شك – من ولد إسماعيل الذبيح رسول الله ابن إبراهيم خليل الله، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقال ابن كثير: وذلك أنه – أي إبراهيم – عليه السلام – ولد لصلبه ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة، وولد له يعقوب – أي من إسحاق – كما قال عز وجل: )ومن وراء إسحاق يعقوب (71)( (هود)، وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا، بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة، حين ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.
وأما إسماعيل – عليه السلام – فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف[4]، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه[5] الأولون والآخرون يوم القيامة[6].
ومن هذا البيان يتضح شرف نسبه صلى الله عليه وسلم، وعظمة أجداده، و لو مات بعض ذويه على الكفر، فهذا لا يقدح في نسبه أو عصمته ونبوته.
ثانيا. إذا كان بعض أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – من المشركين الذين لم يؤمنوا به وماتوا على الكفر، فقد كذب بعض الأنبياء السابقين من قبل آبائهم وأبنائهم، وماتوا على كفرهم:
إن مسألة إيمان أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – وعشيرته ليس فيها ما يدعو إلى الطعن في عصمته ونبوته صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن منهم من آمن به وصدقه منذ أن علم حاله، مثل ابن عمه جعفر بن أبي طالب وابن عمه علي بن أبي طالب، ومثل عمه العباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيد الله بن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم، ولم يكفر من أعمامه إلا أبو لهب، ومات كافرا، وهو الذي كان يؤذيه هو وزوجته فنزل فيهم قول الله عز وجل: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5)( (المسد).
وأما عمه أبو طالب، فإنه لم يؤمن، ولكنه كان يدافع عنه طيلة حياته، ويمنعه من قريش، وهذه هي سنة الحياة أن يكون فيها الطالح والصالح، فنجد في سير الأنبياء قبله – صلى الله عليه وسلم – أن سيدنا نوحا – عليه السلام – قد خالفه ابنه ولم يؤمن معه، قال عز وجل: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود): “كان في معزل” أي: من دين أبيه، وقيل: عن السفينة، وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن، ولذلك قال له: )ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود)، وكان ذلك قبل أن يستيقن القوم الغرق، وقوله )سآوي( أي: أرجع وأنضم )إلى جبل يعصمني( أي: يمنعني )من الماء( فلا أغرق، قال: )لا عاصم( أي: لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار إلا من رحمه الله فهو يعصمه، )وحال بينهما الموج( يعني بين نوح وابنه )فكان من المغرقين( [7].
وكذلك كان والد إبراهيم – عليه السلام – كافرا مشركا يعبد الأصنام، قال عز وجل: )واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48)( (مريم).
فهذه الآيات توضح أن آزر والد إبراهيم – عليه السلام – لم يؤمن بما جاء به ابنه رغم دعوة إبراهيم – عليه السلام – له، فلما أصر أبوه على كفره مات مشركا.
وكذلك تحدث القرآن عن نساء كافرات في بيوت أنبياء، قال تعالى: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما( (التحريم: ١٠)، والخيانة هنا خيانة الدين؛ إذ كانتا مشركتين، فامرأة نوح كانت تسخر منه مع الساخرين من قومه، وامرأة لوط كانت تدل القوم على ضيوفه، وهي تعلم شأنهم مع ضيوفه[8].
وفي هذا كله دلالة على أن عدم إيمان بعض العشيرة والأهل بالنبي لا يطعن في عصمة هذا النبي، ولا في كونه نبيا مرسلا، فهذه سنة الحياة، كما أرادها الله عز وجل، فقد تجد الرجل ينجب أولادا، بعضهم صالح يحب الخير، وبعضهم طالح يحب الشر ويأمر به، وصدق الله العظيم إذ يقول: )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص).
ثالثا. ثبات النبي – صلى الله عليه وسلم – على الحق، وعدم تأثره ببيئة مكة الوثنية:
لو لم يكن محمد هذا الرسول الكريم معدا بالفطرة للرسالة العظيمة التي قام بها، لما كان رسولا، ولو لم يكن ذلك الروح المشرق أهلا للاتصال بالقوى الإلهية اتصالا فوق العادة، لما أمكن أن تلقى إليه كلمة الله، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله عز وجل: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124)، فمحمد خلق عظيما قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يكون رسولا؛ نفر منذ صباه من عبادة الأوثان، وهي آلهة آبائه، ومصدر عزتهم في جزيرة العرب كلها، وكان منذ صباه الصادق الوفي، المحبوب المبجل في قومه؛ فسماه قومه الأمين، وكان فضله ظاهرا منذ شبابه، فدعته امرأة من صواحب الثروة الواسعة في قريش ومن أعلاها نسبا، إلى التزوج بها مع علمها بفقره.
ولما وقف لأول مرة على الصفا يدعو عشيرته إلى دينه، قال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» [9].
كان – صلى الله عليه وسلم – قبل الرسالة أشد الناس نفورا من الظلم، وهضم حقوق الضعفاء، فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو أشرف حلف في العرب، وسببه أن رجلا من زبيد، من أهل اليمن، باع سلعة من العاص بن وائل السهمي، فظلمه بالثمن، فذكر ظلامته في قصيدة مطلعها:
يا آل فهر لـمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الدار والنفر
فلما سمع بنو هاشم ذلك دعوا إلى تعاقد وتعاهد سمي “حلف الفضول”، فلا يجدون بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عليه مظلمته.
وفي هذا الحلف يقول محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد الرسالة: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» [10]. فنصرة الفقير والضعيف، هي أحب الأمور إلى نفسه.
ولد محمد – صلى الله عليه وسلم – كامل الخلق والمروءة، وعاش ولم يكن للبيئة سلطان على نفسه، بل كان طلب الحق والثبات عليه أبين صفاته الحميدة، وسنضرب بعض الأمثال على تلك الصفة البارزة في حياة بطل الإسلام الأعظم صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه وقد ولد في بيت رياسة متوارثة، عن هاشم عن عبد مناف عن قصي، قصي الذي دانت له الرقاب، واستأثر في مكة بالسلطان، وانفرد قومه قريش بالقيام على دين العرب، ورعاية أصنامها، وسدانة كعبتها[11]، والسقاية والرفادة[12]، وغيرها من المناصب التي ترفع الذكر في البلاد.
فهل منع هذا الميراث محمدا من طلب الحق والثبات عليه؟ كلا! لقد سفه أحلام آبائه، ودعا إلى هدم النظام الديني، الذي كان به فخر عشيرته وسلطانها.
وانظروا كذلك إليه في بني عبد مناف، وبين بني هاشم والمطلب، يلقى رعاية لم ينلها أحد من صبية هذا البيت؛ فهو الوحيد من البنين والحفدة الذي كان يجلس على فراش جده سيد القوم.
كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه هذا حتى يخرج إليه، ولا يجلس عليه أحد من بنيه، إجلالا له، فكان رسول الله يأتي وهو غلام، فيجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره، ويسر بما يراه يصنع.
وتهيأ عمه أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارة، فلما أجمع المسير ضبب[13] به محمد – صلى الله عليه وسلم – فرق له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني أبدا، فخرج به معه، يحمله في ذلك السفر الشاق الطويل.
هذا التدليل والبر الذي حباه إياه جده وعمه، كان جديرا أن يصرفه إلى دين آبائه، ولكن نفس محمد – صلى الله عليه وسلم – لم تسكن إلى غير الحق، فلما وجده ثبت عليه في وجه قومه المدللين له، والبررة به.
فأي مثل في طلب الحق أعظم من ذلك الذي ضربه محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولما أوفدت قريش زعماءها إلى أبي طالب تنذره، وتطلب إليه أن يكف ابن أخيه عنها، أو تنازله حتى يهلك أحد الفريقين، عظم الأمر على أبي طالب، وخشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، فبعث إلى محمد: فقال «يا ابن أخي إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك، فحلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: ماأنا بأقدر أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة، فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي فارجعوا»[14].
فبكاء محمد في طفولته ألزم أبا طالب أن يحمله إلى الشام، وثباته على الحق في كهولته جعله يعرض نفسه وأهله للهلاك، فلو لم يكن الحق الذي دان به محمد قد ملك قلبه، فلا يرى سواه، لكان وفاء عمه له هذا الوفاء، كافيا لصده عما هو فيه، أو كان كافيا على الأقل لقبوله هدنة يفرج بها عن عمه وأهله كربهم. فأي ثبات على العقيدة أعظم من هذا الثبات، وأي امتحان للإيمان أكثر من هذا الامتحان؟
ثم انظروا صورة أخرى، هي مثل في الكرامة والوفاء، وحرية الرأي، انظروا إلى رجل من آل عبد المطلب كان مولعا بالصيد، يخرج كل يوم للقنص، فإذا ما رجع طاف بالكعبة، ثم مر بأندية قريش يسلم على أهلها ويتحدث، وكان أعز فتى فيهم، وأبعدهم عن دين محمد، هو حمزة بن عبد المطلب، رجع يوما من قنصه، وطاف بالأوثان كعادته، فقالت له جارية: إن أبا الحكم بن هشام – أبا جهل – وجد محمدا ها هنا جالسا، فسبه ونال منه ما يكره، وانصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فغضب حمزة وثار، وقصد إلى أبي جهل في مجمع قريش، وضربه بالقوس، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ وأنا على دينه أقول ما يقول!
انظروا هذه الصورة: أعز فتى في قريش يتقرب إلى أصنامها، ويأنس بأنديتها، يخرج على القوم ودينهم، غضبا لكرامة ابن أخيه، وتحديا للذين تعرضوا لحريته، هل هناك أعظم من هذا الوفاء والبر بمحمد؟!
ثم انظروا إليه – صلى الله عليه وسلم – يشهد هذا الوفاء، ويرى بني عبد المطلب في فم الأسد، ولا يتزحزح عن مقامه، بل يهزأ بالدنيا، أرأيتم كيف يعشق الحق؟ وكيف يكون الثبات عليه؟ تلكم أظهر صفات محمد صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه كذلك في صورة أخرى: يفاوضه عن قومه عتبة بن ربيعة بجانب الكعبة، فيقول له: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل بعضها.
فقال محمد: قل يا أبا الوليد، قال عتبة: إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا، سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا[15] تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه.
فلما فرغ قال له محمد: استمع مني يا أبا الوليد فتلا عليه: )حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)( (فصلت).
ومضى يتلو عليه، وكان ذلك كل جوابه لما عرضت قريش، فلو لم يكن الحق الذي ملأ نفسه هو مطلبه الأسمى، لوجد في رفق قومه المخاصمين له ما يطفئ من حماسته، ويسكن من ثورته على دينها وآلهتها.
تلكم نفس محمد، خلقها المتجلي في كل صورة من صورها، حب الحق والثبات عليه، فالحق في ذاته هو الغاية التي دأب وراءها، وخاصم وابتلي وهاجر وقاتل لها، والناس جميعا طلاب للحق، أو يجب أن يكونوا كذلك، وقد ضرب لهم محمد المثل الأعلى. ولا يزال رسول الله في ميدان البطولة، تمر بين يديه أبطال العرب وغير العرب، كما تمر مئات السنين، وهو المثل الأعلى للثبات على الحق، والدعوة إلى أن يكون الناس كافة لله عبيدا، وفيما بينهم إخوانا[16].
رابعا. لم يكن العرب الذين عاش النبي – صلى الله عليه وسلم – بين ظهرانيهم شرا محضا:
كان للعرب في جاهليتهم بعض الأخلاق المرذولة، غير أنهم كانوا ذوي فضائل وأخلاق كريمة، متأصلة فيهم؛ ولهذا اختار الله خاتم الأنبياء منهم، ومن أخلاقهم الكريمة:
حب الحرية، وإباء الضيم والذل:العربي بفطرته يعشق الحرية ويحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلا، أو أن ينال من شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته.
الشجاعة:فقد كانوا مضرب الأمثال فيها، وقد كان الواحد منهم يقابل الأسد في الصحراء فينازله حتى يقهره، وبعضهم لم يعرف الفرار ولا الهزيمة قط، وقد كان لهذه الفضيلة وزنها حينما جاء الإسلام، وفرض عليهم الجهاد.
الكرم:وهو خلق متأصل في العرب، ولا سيما أهل البادية، وقد كان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان، بل كان يطعم الوحش والطير.
المروءة والنجدة:والعربي بفطرته ذو مروءة فهو يأبى أن ينتهز ضعف الضعيف، وعجز العاجز كالمرأة، والشيخ، والمريض، وهو ذو شهامة إذا استنجد به أحد أنجده، ويرى من النذالة التخلي عنه.
الوفاء بالعهد:وهو من صفات العرب المشهورة، وقصة السموأل بن عادياء في الوفاء مشهورة، فقد ضحى بابنه، ولم يقبل أن يخون العهد بتسليم الأدرع التي أودعت عنده، ومن أمثلة ذلك أيضا أنه لما ظفر الحارث بن عباد بقاتل ابنه، وهو المهلهل بن ربيعة في حرب البسوس، وهو لا يعرفه قال له: إذا دللتك على المهلهل تطلقني؟ قال له: نعم، فقال له: أنا مهلهل، فاكتفى بأن جز ناصيته وتركه، ولم يقبل أن يخلف وعده.
العفو عند المقدرة:وقد كان الواحد منهم ينازل خصمه، وقرنه، حتى إذا أمكنه الله منه، عفا عنه وتركه، بل كان يأبى أن يجهز على جريح.
حماية الجار وإجارة المستجير:وكانوا إذا استجار بالواحد منهم مستجير أجاره، وربما ضحى بنفسه وولده في سبيل إجارته، كما كانوا يرعون حقوق الجار، ولا سيما رعاية حرمه، والمحافظة على عرضه، قال عنترة:
وأغض طرفـي إن بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
القناعة والرضا باليسير:ومن أخلاق العرب القناعة، وهي الرضا باليسير، ولعل طبيعة البلاد هي التي فطرتهم على هذا، فقد كان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، ورشفات من ماء يرطب بها كبده، وقلة تكاليف الحياة جعلتهم يكتفون بالقليل، قال قائلهم:
إذا ما لم تكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصي [17]
فتملأ بيتنا أقطا[18] وسمنا
وحسبك من غنى شبع وري
قوة الروح، وعظمة النفس:العربي يمتاز إضافة إلى شجاعته البدنية، بقوة الروح وعظمة النفس، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد تشرفهم بالإسلام، وتوحدهم تحت لوائه؛ فإنهم لم يهابوا الفرس ولا الروم على كثرة عددهم وعدتهم، وكان لهم معهم في حروبهم مواقف مشهورة.
الصبر على المكاره، وقوة الاحتمال:ولعلهم اكتسبوا ذلك الخلق من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ومرنوا على الحر والبرد؛ ولهذا لما دخلوا في الإسلام بعد ضربوا في الصبر وقوة الاحتمال مثلا لم تعرف لغيرهم، ولم يؤثر فيهم الحر والبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ حينما كلفوا بالجهاد.
هذه الفضائل وغيرها كانت رصيدا مدخرا في نفوس العرب حتى جاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الحق والخير، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من شبه جزيرتهم كما ينطلق الملائكة الأطهار، ففتحوا الأرض، وملأوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا، وتحققت سنة الله تعالى لهم حيث قال عز وجل: )ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)( (القصص) [19].
ونخلص من هذا كله إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس بدعا من الأنبياء في عدم إيمان بعض أهله به، وإذا كان الأمر كذلك فإننا نتوجه لمثيري الشبهة بالتساؤل التالي: لـم طعنتم في هذا الصدد في محمد – صلى الله عليه وسلم – دون من عداه من الأنبياء؟!
الخلاصة:
لقد شاء الله تعالى أن يكون أنبياؤه ذوي أحساب في أقوامهم، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – هو أولى الأنبياء بكل فضيلة، لذا كان – صلى الله عليه وسلم – أشرف الناس نسبا، ولقد شهد له أعداؤه بذلك، فلما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن نسب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: «كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، ثم قال هرقل: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها»[20].
إذا كان بعض أهل النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يؤمنوا به، وماتوا على الكفر والشرك، فإننا نجد ذلك قد وقع مع بعض الرسل قبله؛ فهذا سيدنا إبراهيم يحاول أن يثني والده عن الشرك، ويدعوه للتوحيد وترك عبادة الأصنام، إلا أنه يأبى ذلك ويصر على الكفر ويموت عليه، وهذا سيدنا نوح – عليه السلام – يرفض ابنه الانضمام إليه والإيمان برسالته فيغرق مع من غرق ويموت كافرا.
إن كفر بعض أهل النبي وعشيرته لا يطعن في عصمته ونبوته؛ لأن ذلك ليس حجة عليه – ما دام قد دعاهم وألح عليهم، وقدر الله لهم ألا يؤمنوا، تصديقا لقوله عز وجل: )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص).
إن ثبات النبي – صلى الله عليه وسلم – على الحق قبل بعثته وبعدها ليدل على عصمته وأهليته – صلى الله عليه وسلم – للنبوة؛ فقد كان قبل الرسالة أشد الناس نفورا من الظلم وهضم حقوق الضعفاء، فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو حلف لنصرة المظلوم، وأما بعد بعثته فهناك من المواقف التي تدل على ثباته على الحق ما لا يحصى رغم محاولات قومه الدءوبة لصده عن دعوته بشتى الوسائل سواء بالترغيب أو الترهيب.
انماز العرب بصفات جليلة جعلت منهم حملة لواء الإسلام، ومن هذه الصفات: الشجاعة والشهامة والنخوة ونصرة المظلوم ورعاية حق الجار وإكرام الضيف، فضلا عن جلدهم وقوتهم الراجعة إلى أثر البيئة فيهم… كل ذلك جعل منهم العنصر البشري الأمثل لحمل تبعات الدعوة وتبعات إبلاغها للناس كافة، وهذه الفضائل جميعها تنفي أن يكون العرب شرا محضا، كما يزعم من أثار هذه الشبهة.
(*) محمد في مكة، مونتجمري وات، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ، حسن عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م.
[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه (6077).
[3]. حسن: أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير (24/ 409)، برقم (9173)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر أم هانئ فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (6877)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1944).
[4]. المنيف: الشامخ المشرف على غيره.
[5]. يغبط: يتمنى ما عند الغير دون تمني زوال النعمة عنه.
[6]. وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص21: 23 بتصرف.
[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص38: 40 بتصرف.
[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج6، ص3621 بتصرف.
[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة المسد (4687)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (الشعراء) (529).
[10]. صحيح: أخرجه البيهقي في سننه، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إعطاء الفيء على الديون ومن يقع به البداية (12859)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية، ص35.
[11]. سدانة الكعبة: خدمتها والقيام عليها.
[12]. الرفادة: إطعام الحجيج.
[13]. ضبب: تعلق به.
[14]. حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند عبدالله بن جعفر الهاشمي (6804)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).
[15]. الرئي: التابع من الجن.
[16]. بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن عزام، دار الهداية، القاهرة، دار القلم، الكويت، 1427هـ/ 2006م، ص12: 17 بتصرف يسير.
[17]. العصي: المسن منها.
[18]. الأقط: لبن محمض يجمد حتى يتحجر ويطبخ، أو يطبخ به.
[19]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص94: 97 بتصرف يسير.
[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).
ادعاء محاولة النبي – صلى الله عليه وسلم – الانتحار(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حاول الانتحار أكثر من مرة، ويستدلون على ذلك بأنه لما تأخر الوحي عليه فترة تتراوح ما بين سنتين ونصف إلى ثلاث سنوات، حاول الانتحار بإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، وقد آنسه القرآن في قوله عز وجل: )ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى). وأنه أصيب باليأس والإحباط لعدم إيمان الناس بدعوته، فحاول قتل نفسه بدليل قوله عز وجل: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف)، ويرمون من وراء ذلك إلى اتهامه – صلى الله عليه وسلم – بما يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم؛ محاولة منهم لنفيها عنه – صلى الله عليه وسلم – تدريجيا.
وجوه إبطال الشبهة:
1) كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في فترة انقطاع الوحي يرتاد الأماكن التي كان جبريل – عليه السلام – يظهر له فيها؛ اشتياقا إليه وليس عزما على الانتحار الذي يتعارض مع مبادئ دعوته صلى الله عليه وسلم، ثم إن سبب نزول سورة الضحى لاعلاقة له على الإطلاق بمحاولة الانتحار المزعومة.
2) مدة انقطاع الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم تكن طويلة كما يدعون بقدر ما كانت ثقيلة على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في بداية البعثة.
3) إن حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على دعوة قومه للإيمان، وتألمه لعدم استجابتهم أمر يحسب له، ولا يحسب عليه كما يدعون.
التفصيل:
أولا. ارتاد – صلى الله عليه وسلم – ذرا الجبال ائتناسا بأماكن ظهور جبريل – عليه السلام – لا عزما على الانتحار:
مما لا شك فيه أن الوحي ولقاء جبريل – عليه السلام – والاتصال بالله، كان – كل ذلك – زاد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في مشقة الطريق، وسقياه في هجير الجحود، وروحه في لأواء[1] التكذيب، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس الشاردة العصية العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة من طغاة المشركين.
على أن آية الضحى التي استدلوا بها في سياق إثبات محاولته – صلى الله عليه وسلم – الانتحار، ليست كما زعموا، ولم تنزل في هذا الشأن؛ بل حين انقطع الوحي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مدة من الزمان، قال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه، وحزن النبي – صلى الله عليه وسلم – حزنا شديدا لانقطاع الوحي، ولما يقوله كفار قريش، فأنزل الله – سبحانه وتعالى – سورة الضحى وبها قوله عز وجل: )ما ودعك ربك وما قلى (3)( (الضحى)، فكانت هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها وإيقاعها – لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائفا من ود، ويدا حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالروح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينة واليقين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم[2]، وعليه فليس في الآية الكريمة موطن الشاهد أي إشارة من قريب ولا من بعيد تدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد حاول الانتحار كما يدعي بعضهم.
وهناك من الطاعنين من تعلق بزيادة وردت في صحيح البخاري، ملحقة بحديث هو في أعلى درجات الصحة، واتهم من خلالها النبي – صلى الله عليه وسلم – بمحاولة الانتحار؛ فقد ذكر البخاري قصة مجيء جبريل – عليه السلام – للنبي – صلى الله عليه وسلم – في غار حراء ضمن حديث طويل، وكان مما ورد في هذا الحديث قول البخاري: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما بلغنا – حزنا غدا منه مرارا كي يتردى[3] من رءوس شواهق[4] الجبال، فكلما أوفى[5] بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا؛ فيسكن لذلك جأشه[6]، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي[7] غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك»[8].
وهذه الزيادة ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من بلاغات[9] الزهري وليست موصولة؛ بل من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي، الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة.
ثم إن ما استفاض من سيرته – صلى الله عليه وسلم – يرد ذلك؛ فقد حدثت له حالات أثناء الدعوة إلى ربه أشد وأقسى من هذه الحالة، فما فكر في الانتحار بأن يلقي نفسه من شاهق جبل أو يبخع[10] نفسه.
ونحن لا ننكر أنه – صلى الله عليه وسلم – قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله عليه، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام ذلك في سبيل الله، وفيه رضا الله عز وجل.
والتعليل الصحيح لكثرة غشيانه – صلى الله عليه وسلم – في مدة الفترة رءوس الجبال وشواهقها، أن الإنسان إذا حصل له خير أو نعمة في مكان ما فإنه يحب هذا المكان، ويتلمس فيه ما افتقده، فلما انقطع الوحي صار – صلى الله عليه وسلم – يكثر من ارتياد قمم الجبال، ولاسيما حراء، رجاء أنه إن لم يجد جبريل في حراء، فليجده في غيره، فرآه راوي هذه الزيادة وهو يرتاد[11] الجبال، فظن أنه يريد هذا، وقد أخطأ الراوي المجهول في ظنه قطعا.
وليس أدل على ضعف هذه الزيادة من أن جبريل – عليه السلام – كان يقول للنبي – صلى الله عليه وسلم – كلما أوفى بذروة جبل: «يا محمد إنك رسول الله حقا»، وأنه كرر ذلك مرارا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وصرفه عما حدثته به نفسه كما زعموا[12].
ثم إن هذه الزيادة ليست على شرط البخاري في صحيحه، فهو لم يخرجها في صحيحه بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري روايات غير مسندة، وهذا أمر لا بد من معرفته حتى لا يقع خلط ولبس بدعوى أن كل رواية أوردها البخاري في صحيحه يطلق القول بصحتها، فلا بد أن نفرق بين الحديث المسند في صحيح البخاري، والمعلق، وبين الموصول فيه، والمرسل الذي جاء في الحديث الموصول عرضا كهذه الزيادة المرسلة التي جاءت في حديث عائشة الموصول.
ولمزيد من بيان هذه المسألة نقول: “إن الأحاديث التي أوردها البخاري في صحيحه تنقسم ثلاثة أقسام”:
- القسم الأول: هو الأحاديث المسندة والمرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذه الأحاديث صحيحة جميعها بلا ريب.
- القسم الثاني: وهو الأحاديث المعلقة؛ والحديث المعلق هو الذي سقط من أول إسناده راو فأكثر على التوالي، وهذه الأحاديث المعلقة يوردها الإمام البخاري في تراجم الأبواب ومقدماتها.
وحكم الحديث المعلق أنه مردود؛ لأنه فقد شرطا من شروط القبول، وهو اتصال السند، وذلك بحذف راو أو أكثر من إسناده مع عدم علمنا بحال ذلك المحذوف، وقد قام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – بجهد جهيد تجاه الأحاديث المعلقة الواردة في صحيح البخاري، وذلك بتتبع أسانيدها فوجد أنها قد وردت بأسانيد متصلة في دواوين السنة المختلفة، وأنها قد بلغت درجة الصحيح إلا النزر اليسير منها.
- القسم الثالث: الموقوفات؛ وهي أقوال الصحابة أو التابعين، وهذه الموقوفات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غير ذلك، وتعرف الصحة من غيرها بواسطة أسانيد هذه الموقوفات[13].
والإمام البخاري – رحمه الله – يجزم منها بما صح عنده ولم يكن على شرطه، ولايجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع، إلا حيث يكون منجبرا، إما بمجيئه من وجه آخر وإما بشهرته عمن قال.
فلو نظرنا إلى صنيع الإمام البخاري في هذه الزيادة المرسلة لوجدناه أوحى إلى تمريضها حينما أورد جملة الإمام الزهري الاعتراضية – فيما بلغنا – وهي بلاشك صيغة من صيغ التمريض والتضعيف.
والحافظ ابن حجر – رحمه الله – أجاب لنا عن تساؤل ملح، وهو ما سبب إيراد الإمام البخاري هذه الموقوفات والمعلقات في صحيحه في الوقت الذي اشترط فيه الصحة؟
فقال رحمه الله: “إنما يورد ما يورد من الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين وتفاسيرهم لكثير من الآيات على سبيل الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة، فحينئذ ينبغي أن يقال… إن المقصود من هذا التصنيف بالذات هو الأحاديث الصحيحة المسندة، وهي التي ترجم لها، والمذكور بالعرض والتتبع والآثار الموقوفة، والأحاديث المعلقة، والآيات المكرمة، فجميع ذلك مترجم به…
ولكن المقصود بالذات هو الأصل، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن، يندفع به اعتراض كثير عما أورده المؤلف من هذا القبيل” [14].
وقال في موضع آخر: “إلا أن الجواب عما يتعلق بالمعلق سهل؛ لأن موضوع الكتابين – يقصد الصحيحين – إنما هو المسندات، والمعلق ليس بمسند، ولهذا لم يتعرض الإمام الدارقطني فيما تتبعه على الصحيحين إلى الأحاديث المعلقة، التي لم توصل في موضع آخر لعلمه أنها ليست من موضوع الكتاب وإنما ذكرت استئنا سا واستشهادا” [15].
ويؤكد د. عماد الشربيني عدم صحة الزيادة الواردة في الحديث، ويذكر مجموعة من الأدلة التي تثبت عدم صحتها، ومنها:
- معارضتها لأصل من أصول الإسلام، وهو عصمة الأنبياء والرسل – عليهم الصلاة والسلام -، بمعنى: حفظ الله ظواهرهم وبواطنهم، وتفكيرهم وخواطرهم، وسائر أعمالهم، حفظا كاملا، فلا يقع منهم قط ما يشكك في نبوتهم ورسالاتهم، وهذا البلاغ المعمري أو الزهري – نسبة إلى معمر والزهري راويي الحديث – لم يبق لعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – مكانا في مدة الحزن اليائس التي تقول أقصوصة هذا البلاغ: إنه – صلى الله عليه وسلم – مكثها وهو يغدو مرارا كي يتردى من شواهق الجبال، ولا سيما على مذهب من يرى أن مدة فترة الوحي – وهي مدة الحزن اليائس – قد طالت إلى ثلاث سنوات، أو سنتين ونصف سنة، أو ستة أشهر، وفي هذا البلاغ الضعيف تصريح بأن صاحبه يذهب مذهب من يرى طول مدة فترة الوحي؛ لأن ما ذكر فيه من الغدو مرارا لكي يلقي بنفسه من ذرا الشواهق الجبلية يقتضي طول المدة، ولا سيما مع تمثل جبريل – عليه السلام – له وقوله: أنا جبريل، وأنت رسول الله حقا أكثر من مرة.
- يتعارض هذا البلاغ مع ما يجب أن يكون عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من رسوخ الإيمان بنبوته، وكمال اليقين برسالته، ولا شك أن ما جاء في هذا البلاغ من تبدي جبريل – عليه السلام – للنبي – صلى الله عليه وسلم – كلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منها نفسه، وقوله له: يا محمد، أنت رسول الله حقا، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل – عليه السلام – فقال مثل ذلك – لا شك أن ذلك يصور مدى ما بلغه ذلك الحزن اليائس – في زعم قائليه – من نفس النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى جعله يتشكك في تبدي جبريل – عليه السلام – له، وفي إخباره أنه رسول الله حقا، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كما تصرح به عبارة هذا البلاغ – لم يكد يسكن جأشه لتبدي جبريل له وإخباره أنه رسول الله حقا حتى يعود إلى عزيمته في إلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال، فيتبدى له جبريل مرة أخرى، ويقول له: يا محمد، أنت رسول الله حقا.
فأين سكون جأشه الذي أحدثه في نفسه جبريل عليه السلام، وإخباره أنه رسول الله حقا؟ وأين رسوخ إيمانه برسالة ربه التي شرفه بها قبل فترة الوحي، وأنزل عليه في أول مراتب وحيها في غار حراء قرآنا يتلى، حتي يعود عن عزيمته لإلقاء نفسه من ذرا شواهق الجبال إذا طالت عليه فترة الوحي؟!
- إن ما تضمنه هذا البلاغ الضعيف يشمل أمرين:
الأول: ظاهر محسوس، يمكن مشاهدته، والحكم بوجوده أو عدم وجوده بمقتضى إمكان مشاهدته حسا.
الآخر: باطن محجوب في داخل النفس، لا يمكن معرفته إلا بإخبار صاحبه الذي دار في نفسه، أو إخبار من أظهرهم عليه بنقل ثابت عنه، فذهاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أعالي الجبال وشواهقها التي ألف الصعود إليها في أزمان خلواته، وتطلعاته للتفكر في عجائب آيات الله الكونية، وبدائع ملكوته، أمر محسوس، يمكن الحكم عليه برؤيته ومشاهدته، ولا حرج في أن يكون النبي – صلى الله عليه وسلم – قد حزن في فترة الوحي؛ اشتياقا لأنوار الشهود الروحاني الأعلى الذي كان يغمره في أوقات نزول الوحي، ونزول آيات القرآن المبين، حزنا كان يغدو منه إلى ذرا الجبال التي كانت مأنس روحه، تطلعا إلى آفاق أشواقه لشهود تجليات أمين الوحي جبريل – عليه السلام – الذي سبق له أن تجلى في آفاقها بصورته الملائكية الروحانية العالية.
وكون هذا الذهاب إلى ذرا شواهق الجبال لقصد التردي منها ليقتل نفسه – كما هو نص عبارة البلاغ الضعيف – أمر باطن محجوب بأستار الضمير في حنايا النفس لا يعلمه، ولا يطلع عليه إلا الله علام الغيوب، وإلا صاحبه الذي دار في حنايا نفسه وعزم على تحقيق ذلك عمليا، وإلا من يظهره عليه صاحبه العليم به، بإخبار منه إليه، وكل ذلك لم يثبت[16].
على أن هناك مؤشرات أخرى تدل على ضعف هذه القصة، فمن تلك المؤشرات: ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: “لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب» [17] [18].
فهنا ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن أشد ما وقع عليه، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له، حتى إنه بقي مهموما حزينا لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف، نعم، إن حزن النبي – صلى الله عليه وسلم – على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى، غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا.
ومع هذا كله، وبفرض صحة هذه القصة جدلا، فليس فيها ما يعيب شخص النبي – صلى الله عليه وسلم – أو يقدح في عصمته، وبيان ذلك أنه قد هم – على فرض صحة الرواية – بأن يلقي بنفسه، والهم هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ، وذلك شبيه بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله: )ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه( (يوسف:٢٤)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: “ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز، دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة”. وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» [19].
ثم نقول: إن العصمة متحققة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحالة، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري، وشرب الخمر، والجلوس مع فتيان قريش، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة.
ثانيا. ترجيح ثقل انقطاع الوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – دون طول مدته:
ذكر د. محمد أبو شهبة اختلافات المؤرخين وكتاب السير في تحديد المدة التي فتر فيها الوحي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “قيل: كانت أياما، روى هذا ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس، وروى أن أقصاها أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنتان ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ونسب هذا إلى ابن إسحاق، والذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق عدم التحديد بمدة.
والذي أرجحه وأميل إليه هو الأول، وأن أقصاها أربعون يوما، ويليه القول الثاني، وأما القولان الأخيران فإني أستبعدهما، فالفترة إنما كانت ليسترد النبي – صلى الله عليه وسلم – أنفاسه مما حدث له من ضغط جبريل عليه السلام، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي – صلى الله عليه وسلم – الشوق إلى لقاء جبريل – عليه السلام – بعد هذه الفترة.
أما أن يقضي النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاث سنين أو سنتين ونصف سنة من عمر الدعوة الإسلامية من غير وحي ودعوة، فهذا ما لا تقبله العقول، ولا يدل عليه نقل صحيح، وفي هذه الفترة كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يداوم الذهاب إلى حراء، وإلى ما جاوره من الجبال عسى أن يجد هذا الذي جاءه بحراء حتى وصل جبريل ما انفصم[20]، وعاد الوحي وتتابع” [21].
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما نقله د. منير محمد الغضبان عن المقريزي في كتاب “إمتاع الأسماع” إذ يقول: “يقول المقريزي: قيل إن فترة الوحي – انقطاعه – كانت قريبة من سنتين، وقيل: كانت سنتين ونصفا، وفي تفسير عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – كانت أربعين يوما، وفي كتاب “معاني القرآن” للزجاج كانت خمسة عشر يوما، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ورجحه بعضهم وقال: ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسي، وثبته وبشره أنه رسول الله، فلما رآه فرق[22] منه، وذهب إلى خديجة – رضي الله عنها – فقال: «زملوني زملوني»، فأنزل الله عز وجل: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر)، فكانت الحالة الأولى بغار حراء حالة نبوة وإيحاء، ثم أمر الله تعالى في هذه الآية أن ينذر قومه ويدعوهم إلى الله عز وجل، فكان – فيما قاله عروة بن الزبير، ومحمد بن شهاب، ومحمد بن إسحاق – من حين أتت النبوة وأنزل عليه: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق)، إلى أن كلفه الله الدعوة وأمره بإظهارها فيما أنزل عليه من قوله عز وجل: )فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94)( (الحجر)، وقوله عز وجل: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، )وقل إني أنا النذير المبين (89)( (الحجر) – ثلاث سنين.
ونلاحظ أن المقريزي رجح الآراء التي تعتبر فترة انقطاع الوحي فترة قصيرة حول الأربعين والخمسة عشر والثلاثة من الأيام، بينما ساق الأقوال الأولى عن السنتين والسنتين والنصف دون إسناد، وفي ترجيح المقريزي يزول الإشكال الكبير حول هذه الفترة التي لا نجد لها ذكرا أو تاريخا، ولو حسبت هاتان السنتان والنصف من المرحلة السرية لكانت مرحلة الدعوة فيها لا تعدو سنة أو نصف سنة، ومن المستبعد جدا أن يكون ذلك” [23].
وعلى كل فإن “فترة الوحي – طالت أو قصرت – شأن من شئون الله تعالى التي ينفرد بحكمتها، فقد كانت لطفا من الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ورحمة به؛ ليستجم من عناء ما لاقى من روع المفاجأة، وشدة الغط[24]، وشدة الوحي، لاستفراغ بشريته ليزداد تشوفا وتشوقا إلى تتابع الوحي، وتقوية لروحانيته، على احتمال ما يتوالى من الله – عز وجل – إليه، حتى يتم استعداده لتبليغ رسالته إلى الخلق كافة بصبر وقوة، ويقين لا يدانيه يقين في أن الله – عز وجل – سيتم عليه نعمته” [25].
ثالثا. تألمه – صلى الله عليه وسلم – لعدم إيمان قومه مما يحسب له لا عليه:
عندما أمر الله – سبحانه وتعالى – النبي – صلى الله عليه وسلم – بالدعوة إليه في قوله عز وجل: )يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5)( (المدثر)، والرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يأل جهدا في دعوة قومه، وكان يحزن أشد الحزن، ويأسف أيما أسف بإعراض قومه عنه، وعدم استجابتهم لما يدعو إليه؛ لأنه يعلم أن هذه الدعوة فيها خيرا الدنيا والآخرة، ولا يحيد عنها إلا من سفه نفسه، ونتيجة هذا الحزن الشديد، وهذا الأسف العميق أنزل الله – سبحانه وتعالى – قوله: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف).
قال الإمام الشعراوي: “أي: تجهد نفسك في دعوة قومك إجهادا يهلكها، وفي الآية إشفاق على رسول الله؛ لأنه حمل نفسه في سبيل هداية قومه ما لم يحمله الله له، وألزمها ما لم يلزمه، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يدعو قومه فيعرضون ويتولون عنه، فيشيع آثارهم بالأسف والحزن، كما يسافر عنك حبيب أو عزيز، فتسير على أثره تملؤك مرارة الأسى والفراق، فكأن رسول الله – لحبه لقومه وحرصه على هدايتهم – يكاد يهلك نفسه أسفا، وقد حدد الله تعالى مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي البلاغ، وجعله بشيرا ونذيرا، ولم يكلفه من أمر الدعوة ما لا يطيق، ففي الآية مظهر من مظاهر رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم” [26].
ورغم كل هذا يدعي هؤلاء المتوهمون أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حاول قتل نفسه نتيجة الإحباط الذي أصابه لعدم استجابة قومه!! قد لا يعاب على شخص آمن بمبدأ أو دعوة ما أن يموت في سبيل نشر دعوته هذه، بل يمدح بأنه شجاع مات من أجلها، فإذا زاد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على دخول قومه في دينه، وحزن على عدم إيمانهم حتى أثر الحزن عليه، أبعد ذلك يتهم أنه أراد أن ينتحر حزنا؟!
إن الشدائد لا تؤثر في عزائم أصحاب المبادئ والإيمان والقيم، فكيف تؤثر في نبي صاحب رسالة سماوية خاتمة؟!
لقد خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – والمسلمون من المحن التي تعرضوا لها – على قساوتها وشدتها – أقوى عودا وأصلب مكسرا لا تلين لهم قناة ولا تضعف لهم عزيمة، لقد استمروا في ثباتهم على طريق الهدى والتقى والإصرار على محاربة الشرك ومطاردته والقضاء عليه.
ويستفاد مما سبق أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان داعية لا يفتر عن الدعوة إلى الله، بل يبشر بدعوته وينشرها ويبلغها للناس، وأنه لم يعرف اليأس قط، ولم يشك في اصطفاء الله – عز وجل – له، وهذا ناتج عن إعداد الله – عز وجل – له وتنشئته في ظروف أهلته لذلك صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
- كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في فترة انقطاع الوحي يرتاد الأماكن التي ظهر له فيها جبريل – عليه السلام – لاشتياقه إليه، وليس لغرض الانتحار كما يدعي المتوهمون.
- الرواية الواردة في صحيح البخاري والتي اتهم من خلالها النبي – صلى الله عليه وسلم – بمحاولة الانتحار – ليست على شرط الصحيح؛ لأنها من بلاغات الزهري وليست موصولة؛ بل من قبيل المنقطع، الذي هو من أنواع الضعيف، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي.
- ليست ثمة أدنى علاقة بين سبب نزول سورة الضحى، وبين محاولة الانتحار المزعومة.
- اختلف أهل السير في مدة انقطاع الوحي، فقيل: كانت ستة أشهر أو أربعين يوما أو خمسة عشر يوما؛ وقيل سنتين ونصف، وقيل ثلاث سنوات. والراجح أنها لم تزد عن خمسة عشر يوما أو أربعين يوما؛ وذلك أن مدة الدعوة السرية كانت ثلاث سنوات فقط، فكيف يتفق هذا مع الرأي الذي يحدد فترة انقطاع الوحي بسنتين ونصف أو بثلاث سنوات؟!
- لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصا كل الحرص على هداية قومه، فكان يحزن ويتألم أشد الحزن إذا صده قومه، أو خذلوه في دعوته، وهذا أمر يحسب للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولا يحسب عليه، ونزل قوله عز وجل: )فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6)( (الكهف) للتخفيف عن النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى لا يتعب نفسه ويهلكها، فإنما الهدى هدى الله يهدي به من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
(*) هل القرآن معصوم، عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات. سيد رسل الله وأباطيل خصومه، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2004م.
[1]. اللأواء: الشدة.
[2]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج6، ص3925 بتصرف يسير.
[3]. يتردى: يلقي نفسه.
[4]. الشواهق: المرتفعات، جمع شاهقة.
[5]. أوفى بالشيء: أشرف عليه.
[6]. الجأش: القلب أو النفس.
[7]. فترة الوحي: انقطاعه.
[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوحي الرؤيا (6581)، وقوله: « حتى حزن النبي… » إلى آخر الحديث ليست ضمن الحديث الموصول كما سنبينه.
[9]. البلاغ: ما يرويه الراوي بصيغة “فيما بلغنا”، وهو نوع من الأحاديث المنقطعة.
[10]. يبخع: يهلك نفسه.
[11]. يرتاد: يتلمس.
[12]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص265، 266 بتصرف يسير.
[13]. عظمة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرد على الطاعنين في شخصه الكريم، محمد بيومي، دار مكة المكرمة، مصر، ط1، 1426هـ/2005م، ص276.
[14]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ص22.
[15]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، ص364.
[16]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص224، 225.
[17]. قرن الثعالب: قرية بينها وبين مكة واحد وخمسون ميلا.
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين. والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى (3059)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (4754).
[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة (6126)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (354) بلفظ: ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت.
[20]. انفصم: انقطع.
[21]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص264، 265.
[22]. فرق: فزع.
[23]. المنهج الحركي للسيرة النبوية، د. منير الغضبان، دار الوفاء، مصر، ط15، 1427هـ/ 2006م، ص17، 18.
[24]. الغط: هو العصر والضم، والمقصود به: عصر جبريل ـ عليه السلام ـ وضمه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أول لقاء بينهما.
[25]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص233.
[26]. تفسير الشعراوي، الشيخ محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، مصر، ط1، 1991م، ج14، ص8839، 8840.
ادعاء أن القرآن الكريم يثبت وقوع النبي – صلى الله عليه وسلم – في المعصية(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن القرآن الكريم أثبت وقوع النبي – صلى الله عليه وسلم – في الذنب والمعصية، مما استوجب معاتبة الله – عز وجل – له واستغفاره، ثم عفوه بعد ذلك عنه، ويستدلون على ذلك بقوله – عز وجل: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2) وما يدريك لعله يزكى (3)( (عبس)، وقوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، وقوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: ٤٣)، وقوله عز وجل: )ووضعنا عنك وزرك (2)( (الشرح)، وقوله عز وجل: )واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)( (النساء). ويتساءلون: كيف يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – معصوما، والقرآن يثبت له بعض الأفعال التي تخالف عصمته؟
وجها إبطال الشبهة:
1) إن العتاب الذي وجه للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الآيات – مناط الاستشهاد – ليس إلا لاختياره – صلى الله عليه وسلم – الحسن مع وجود الأحسن، وسياق الآيات شاهد على ذلك، وهي – مع ذلك كله – تبين عظيم مكانته وفضله عند ربه في الدنيا والآخرة.
2) اشتملت آيات العتاب في القرآن الكريم على بعض الحكم والأسرار؛ لكي تستفيد منها الأمة في حياتها؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أسوة لأمته يجب عليهم اتباعه.
التفصيل:
أولا. التنبيهات الموجهة إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم – في القرآن الكريم، هي مجرد عتاب له لاختياره الحسن مع وجود الأحسن:
معلوم أن الأنبياء أئمة المجتهدين؛ حيث يجتهدون في الأمور التي لم ينزل فيها الوحي، سواء أكانت أحكاما أم أمورا شخصية أم أمورا اجتماعية، وفي معظم الأحوال تتوافق هذه الاجتهادات تماما مع المراد الإلهي، وفي أحيان قليلة قد لا تصيب هذا الهدف تماما مع أنهم يتحرون الرضا الإلهي على الدوام، وقد يعد بالنسبة لمستواهم الرفيع خطأ؛ لأن عليهم أن يحققوا ما يريده الله بدقة، ولكن خطأهم في الاجتهاد لا يعد ذنبا أبدا ولا يخل بعصمتهم؛ لذا فلا يحاسبون عليه[1].
ونحن إذا تأملنا قوله تعالى: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس) نرى أن هذه الآيات لم تثبت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ذنبا، ولكنها من باب العتاب في اختيار الحسن وترك الأحسن؛ وذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مشغولا ذات يوم بدعوة أشراف قريش إلى الإسلام، وإذا بعبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن بعض الأمور الدينية، وكان عبد الله رجلا أعمى، شرف بهداية الإسلام من قبل، ولم يقدر تشاغله – صلى الله عليه وسلم – بدعوة هؤلاء الزعماء، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – حريصا على هدايتهم كل الحرص، وكان يتألفهم ويستميلهم إليه طمعا في أن يسلموا، فلا تلبث جماهير العرب أن تقتدي بهم في إسلامهم، ولكن عن أي شيء جاء هذا الصحابي يسأل؟ إنه مسلم، فطبيعي أنه لن يسأله عن ماهية الإسلام أو كيفية الدخول فيه، بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول: “يا رسول الله، علمني مما علمك الله”.
وجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام، ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم، فآثر الإقبال على أولئك الصناديد، وعبس في وجه ابن أم مكتوم هذا وأعرض عنه، ليس استهانة به ولا غضا من شأنه، ولكن حرصا على هداية هؤلاء المشركين، وخوفا من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم، فأنزل الله تعالى على رسوله تلك الآيات السالفة، يعاتبه فيها ذلك العتاب الإرشادي، ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغي أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد، وهم عنه معرضون، ولا إلى حد الإعراض العابس في وجه هذا الضعيف الأعمى، وهو عليه مقبل.
وكأني بك تحس معي حرارة هذا العتاب، وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية، هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شأنهم، والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم[2].
فليس ثمة إثبات ذنب للنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الآيات؛ لأنها إعلام لنا أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، فالخطاب لنا.
وفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فعل، وتصديه لذاك الكافر، كان طاعة لله، وتبليغا عنه، واستئلافا له، كما شرعه الله له، لا معصية أو مخالفة له.
وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله عز وجل: )وما عليك ألا يزكى (7)( (عبس).
ونخلص مما سبق إلى أن ما في الآيات السابقة ليس إلا عتابا من الحق سبحانه على ما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مما ظهر له صلاحه وترجح عنده نجاحه، وكان الواقع الذي قدره الله – عز وجل – بخلاف ذلك، والعتاب لا يقتضي ولا يلزم منه أن يكون بعد ذنب أو مخالفة كما هو الجاري بين الناس في معاملاتهم، فقد يعاتب الأخ أخاه والحبيب حبيبه على ترك الأولى، بل على ترك الأكمل[3].
وهذا يدل على عصمته – صلى الله عليه وسلم – من الوقوع في أي ذنب يستوجب اللوم أو الذم. إذن كان فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – من العبوس والإعراض، وتصديه لذلك الكافر؛ طاعة لله – عز وجل – وتبليغا لدعوته كما أمره ربه واستمالة للكافر رجاء إسلامه؛ لأن الله – عز وجل – أمره بالتبليغ والدعوة ولين الجانب لمن يدعوه، وعليه فلا معصية ولا مخالفة لله عز وجل.
وإذا انتقلنا إلى قوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، فإننا نجد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن مذنبا فيما فعله، وهذا يوضحه العرض الآتي:
قال عز وجل: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم (69)( (الأنفال).
نزلت الآيات وكأنها تحمل تنبيها للرسول صلى الله عليه وسلم، مفاده أنه لا يجوز أن يكون لنبي أسرى، إذن فما العمل بالنسبة للأسرى؟ ماذا يفعل بهم؟ يجب ألا يكون للنبي أسرى، حتى يقوي وضعه دون الحاجة إلى معونة من أحد، أي ما كان له إطلاق الأسرى حتى مقابل الفدية؛ لأن هذا سيسرع من تمكين المؤمنين في الأرض ويقويهم ويعجل وصولهم إلى توازن مع أعدائهم، ويجعل منهم قوة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يهدفون إلى الوصول إلى هذه الغاية أيضا. إذن هناك اجتهاد، ولكن كان هناك اجتهاد أفضل وأحسن، أي أنكم اجتهدتم وأخذتم الحسن وغاب عنكم الأحسن الذي يريده الله – عز وجل – منكم، ولولا أنه كتب في القدر ألا أعاقبكم فيما أخذتم لجاءكم عذاب عظيم، ولكن هذا الكتاب وهذا الحكم موجود منذ الأزل؛ لذا فلن يأتيكم مثل هذا العذاب.
إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما قام برد المشركين على أعقابهم في معركة بدر نزل النصر بردا وسلاما على قلوب المؤمنين، وكأنه أطفأ بذلك حريقا دام في قلوبهم خمس عشرة سنة؛ لأنه لم يبق هناك ألم لم يتجرعوه من هؤلاء الكفار، ولم يبق هناك ظلم لم يصبهم منهم، فقد أخرجوهم من ديارهم وبيوتهم وأهليهم في مكة، تحملوا كل هذه الآلام والدموع دون أن يدافعوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك ممنوعا عليهم حتى وقت قريب، ثم صدر لهم الإذن بالدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلموا: )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39)( (الحج). أجل، أصبح المؤمنون مخولين بالدفاع الفعلي عن أنفسهم ومقابلة القوة بالقوة، فكانت معركة بدر أول معركة كبيرة بين المؤمنين والكفار حيث انتصر فيها المسلمون وأسروا عددا كبيرا من الكفار.
فماذا يفعلون في هؤلاء الأسرى؟ كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها وهذه مسألة لم يكن لها أي حكم إلهي سابق أو أي إيضاح سابق، وهنا قام الرسول – صلى الله عليه وسلم – كعادته دائما واستشار أصحابه، فالذي يتقرر في هذه المشورة هو الذي سيعين كيفية التعامل مع الأسرى.
كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يحب إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، تمشيا مع خلقه اللين وكذلك مع التوجيه الإلهي السابق له؛ لأن القرآن الكريم خاطبه ووجهه في هذا الاتجاه: )فاصفح الصفح الجميل (85)( (الحجر)، )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة( (النحل: ١٢٥)؛ حتى أصبح العفو والصفح طبعا من طبائعه وخلقا من أخلاقه، وأصبح أي تصرف يخالف هذا غير متوقع منه؛ ذلك لأن القرآن الكريم كان يمدحه ويقول: )وإنك لعلى خلق عظيم (4)( (القلم)، ولكل فرد نصيب معين من الخلق، أما هو – صلى الله عليه وسلم – فله الخلق الكلي الشامل لكونه في الذروة من التخلق بخلق الله تعالى.
كان خلقه وقناعته تميلان نحو العفو على الدوام، ومع ذلك كان يستشير أصحابه في كل شأن، فاستشار أولا أبا بكر رضي الله عنه، فكان جوابه: «يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام فيكونوا لنا عضدا»، ثم توجه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: «ما ترى يا ابن الخطاب؟ فأجابه عمر رضي الله عنه: “والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان – قريب لعمر – فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان – أخيه – فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم».
وأخيرا استقر رأي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع رأى أبي بكر – رضي الله عنه – منجذبا إليه من طبيعة حلمه وخلقه اللين المتسامح، وطمعا في أن يهديهم الله – عز وجل – للإسلام في المستقبل فيكونوا له عضدا.
ولنستمع إلى بقية الحادثة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ يقول: «فهوي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة من النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنزل الله عز وجل: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض( إلى قوله: )فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الانفال: 69) فأحل الله الغنيمة لهم»[4].
إن الله – عز وجل – أعطى نبيه الإذن والصلاحية والقابلية للاجتهاد، فقام بهذا الاجتهاد وتوصل إلى الحسن، ولكن الله – عز وجل – كان يريد لأحب مخلوق لديه أن يصل إلى الأحسن والأجمل؛ ولهذا السبب قام بتنبيهه وتذكيره، أي لا يوجد هنا ذنب أو إثم، ثم يجب الانتباه إلى الأسلوب المستعمل في الآيات الكريمة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال).
وكلمة “لولا” في اللغة العربية تستعمل عند “امتناع الشئ لوجود غيره”، إذن يجب الانتباه عند ذلك إلى معنى الآية التي تقول بأن حكما صدر منذ الأزل وأنه تبعا لذلك الحكم ستأخذون الغنيمة وتستفيدون منها.
فكأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – اجتهد في هذا الحكم الإلهي من ذلك الوقت، ولكن استباق هذا الحكم آنذاك كان حسنا، أما انتظار صدور الحكم فكان هو الأحسن[5].
نخلص من كل ما سبق إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن مذنبا فيما فعله، وذلك من وجوه متعددة:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عمل بذلك بمقتضى المشاورة التي أمره الله – عز وجل – بها في قوله عز وجل:)وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159)( (آل عمران).
أنه – صلى الله عليه وسلم – جنح إلى رأي من قال بالفداء، لما فيه من الرحمة والعطف واللين، بمقتضى المقام الذي أقامه – عز وجل – فيه، وهو قوله عز وجل:)وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)( (الأنبياء).
أن فعله – صلى الله عليه وسلم – كان موافقا لما سبق من الكتاب الأول، الذي قضى الله تعالى فيه حل الغنائم له – صلى الله عليه وسلم – خاصة، ولم تحل لأحد قبله، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما – في قوله عز وجل:)لولا كتاب من الله سبق( (الأنفال: ٦٨) يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم.
كما أن قبوله – صلى الله عليه وسلم – الفداء، وافق قضاء الله – عز وجل – السابق في الكتاب الأول, كما أنه وافق أيضا الشرع اللاحق، النازل في الكتاب الحكيم، وهو قوله عز وجل:)فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، فكيف يقال في أمر وافق الكتاب الأول ووافق الشرع النازل بعده: إنه خطأ؟
أن نزول التشريع بإحلال الغنائم، وهو قوله عز وجل:)فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، هو إقرار لما فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتصويب لما رآه؛ إذ لو كان فعله خطأ فكيف يقره عليه ويجعله شرعا باقيا؟
لو كان موقفه – صلى الله عليه وسلم – مع أسرى بدر خطأ لأمره الله – عز وجل – أن يرد الفداء، وأن يستغفر الله – عز وجل – من الخطأ الذي وقع فيه، ولكنه – عز وجل – أقره على ذلك وشرع له الغنيمة فقال عز وجل:)فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا( (الأنفال: 69)، فلو كان ما فعله خطأ لما أقره الله – عز وجل – عليه. ومن ثم فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يشيد بهذه النعمة – نعمة حل الغنائم لهذه الأمة دون غيرها – في جملة من المناقب التي خصه الله تعالى بها فيقول: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي… وأحلت لي الغنائم، ولم تكن تحل لأحد قبلي» [6] [7].
“والحقيقة أن التحذير الوارد هنا والدرس المراد تلقينه هو للمسلمين جميعا، أما بالنسبة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم يكن له من قبل – ولن يكون له من بعد – أي ميل للدنيا، فهذا التحذير موجه للمسلمين في شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – لكي يعتبروا من جهة، ولا تمس كرامتهم من جهة أخرى، وهنا يتبين مدى الحساسية التي تبديها التربية الإلهية عند توجيه خطابها للمستمع” [8].
أما قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: 34)، فإن المرء عندما ينظر إليه يتخيل وكأن هناك ذنبا تم اقترافه، ولكن الأمر بخلاف ذلك، فالآية تفيد تكريم النبي – صلى الله عليه وسلم – وتعظيمه وبيان عظيم فضله ومكانته عند الله – عز وجل – بأعظم ما يكون البيان؛ خلافا لمن وهم ففهم منها عتابه أو تأنيبه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يخالف أمرا ولا نهيا، يستوجب ما فهمه ذلك الواهم.
فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما عزم على الخروج إلى تبوك استأذنه بعض المنافقين في التخلف لأعذار أبدوها، فأذن لهم فيه لسببين:
o أن الله – صلى الله عليه وسلم – لم ينزل حكما في ذلك بأمر ولا نهي.
أنه – صلى الله عليه وسلم – لم يرد أن يجبرهم على الخروج معه، فقد يكون في خروجهم على غير إرادتهم ضرر؛ فأنزل الله – عز وجل – هذه الآية ليبين له أن ترك الإذن لهم كان أولى، لما يترتب عليه من انكشاف الصادق من الكاذب فيما أبدوه من الأعذار، واستفتح رب العزة ما أنزله بجملة دعائية هي قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت لهم( (التوبة: ٤٣) على عادة العرب في استفتاح كلامهم بهذه الجملة أو بقولهم: غفر الله لك، أو جعلت فداك، أو نحوها، يقصدون تكريم المخاطب إذا كان عظيم القدر، ولا يقصدون المعنى الوصفي للجملة.
ولو بدأ رب العزة حبيبه ومصطفاه بقوله عز وجل: )لم أذنت لهم( (التوبة: ٤٣)، لخيف عليه من هيبة هذا الكلام، لكنه – عز وجل – برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه، ثم قال له: لم أذنت لهم بالتخلف حتى يتبين لك الصادق في عذره من الكاذب؟ وفي هذا من عظيم منزلته عند الله ما لا يخفى على ذي لب.
وبعض المتوهمين يعتقدون أن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول – صلى الله عليه وسلم – ذنب، ولكن هذا قول من يجهل لغة العرب في استفتاح كلامهم بهذه الجملة ونحوها، يقصدون بها تكريم المخاطب، إذا كان عظيم القدر، تحاشيا منهم عن جعل الاستفهام أول كلام للمعظم.
وليس قوله “عفا” هنا في الآية بمعنى “غفر”، أي: ستر وترك المؤاخذة، بل بمعنى: لم يلزمك شيئا في الإذن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إني قد عفوت عنك عن صدقة الخيل والرقيق، ولكن هاتوا ربع العشر، من كل أربعين درهما، درهما» [9].
ولم تجب عليهم زكاة في خيل ورقيق قط، أي: لم يلزمكم ذلك، فليس معناه: إسقاط ما كان واجبا، ولا ترك عقوبة هنا[10].
وصفوة القول أن يقال: إما أن يكون صدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذنب أو لا؛ فإن قلنا: لا! امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله عز وجل: )لم أذنت لهم( إنكارا عليه، وإن قلنا: إنه صدر عنه – حاشا لله – فقوله عز وجل: )عفا الله عنك( يدل على حصول العفو، وحصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه.
فثبت على التقديرين المذكورين، أن قوله تعالى: )لم أذنت لهم(ليس فيه ما يدل على كون الرسول – صلى الله عليه وسلم – مذنبا، وهذا جواب شاف كاف قاطع.
أما قوله عز وجل: )ووضعنا عنك وزرك (2)( (الشرح)، فمن تفكر في سياق الآية يجد أنها تظهر منة الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم – وتبين عظيم مكانته وفضله عند ربه – عز وجل – في الدنيا والآخرة، مما يؤكد أن ظاهر ما يطعن في عصمته غير مراد، وإنما هو في الحقيقة من جملة ما يمدح به صلى الله عليه وسلم.
والمتأمل في الآية يجدها قد وردت بين منتين من منن الله على رسوله:
الأولى: شرح الصدر في قوله عز وجل: )ألم نشرح لك صدرك (1)( (الشرح) شرحا حسيا ومعنويا؛ ليسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق جميعا، وليكون موضع التجليات، ومهبط الرحمات.
الثاني: رفع ذكره صلى الله عليه وسلم: )ورفعنا لك ذكرك (4)( (الشرح) رفعا بلغت قمته في الشهادة التي لا يكون الشخص مسلما إلا إذا نطق بها، فضلا عن قرن اسمه – صلى الله عليه وسلم – باسم الله – عز وجل – في الأذان والإقامة، والتشهد في الصلاة، وفي خطب الجمعة، والعيدين وفي خطبة النكاح، وجعل الصلاة والتسليم عليه – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين.
ومن ثم فلا يحق لمشكك أن يقول: إن الوزر هنا في الآية بمعنى الذنب، بل الصواب أن الوزر في الآية معناه ثقل الوحي وأعباء الرسالة، ويؤكد هذا قوله تعالى: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5)( (المزمل)، حيث كان الاهتمام بهما يقض مضجعه، حتى سهلهما الله تعالى عليه ويسرهما له.
والمعنى: أن الله تعالى أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية، التي لا تلائم ما فطر الله عليه نفسه من الزكاء والسمو، ولا يجد بدا من مسايرتهم عليه، فوضع ذلك حين أوحى إليه بالرسالة، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسره الله عليه بقوله عز وجل: )سنقرئك فلا تنسى (6)( (الأعلى) إلى قوله عز وجل: )ونيسرك لليسرى (8)( (الأعلى).
والآية تشير إلى أحوال كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في حرج منها، أو من شأنها أن توقعه في حرج، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها، أو هيأ نفسه لعدم النوء بها.
وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلمها، كما أشعر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرر بما قرر عليه، فلعلها ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوئ الأعمال، وكان في حرج من كونه بينهم، ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه، ولم يكن يترقب طريقها؛ لكي يهديهم، أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه، ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يود أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق، مما كان باعثا له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله، فكان يتحنث (يتعبد) في غار حراء، فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي، كان ذلك شرحا لما كان يضيق به صدره يومئذ، فانجلى له النور، وأمر بإنقاذ قومه، وقد يظنهم طلاب حق وأزكياء نفوس، فلما قابلوا إرشاده بالإعراض وملاطفته لهم بالامتعاض، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثله قوله عز وجل: )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)( (الشعراء)، وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه ربط جأشه بنحو قوله عز وجل: )ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء( (البقرة: 272)، فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحا لصدره.
وكان لحماية أبي طالب إياه، وصده قريشا عن أذاه، منفس عنه، وأقوى مؤيد له ولدعوته، ينشرح له صدره، وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره.
وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره، فكلما خلص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالا وغيره ينشرح صدره به، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحا وتعريضا نحو قوله في السورة قبلها: )ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)( (الضحى)، فذلك من الشرح المراد هنا.
وجماع القول في ذلك أن تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله – عز وجل – وبين رسوله – صلى الله عليه وسلم – المخاطب بهذه الآية.
وأما وضع الوزر عنه فحاصل بأمرين: بهدايته إلى الحق الذي أزال حيرته بالتفكر في حال قومه، وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: )ووجدك ضالا فهدى (7)( (الضحى)، وبكفايته مؤنة كلف عيشه، التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه، وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: )ووجدك عائلا فأغنى (8)( (الضحى)[11].
نخلص مما سبق إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حفظ من الذنوب قبل النبوة، وعصم منها بعدها، فلا تقع منه، ووضع الوزر عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كناية عن عصمته من الذنوب وتطهيره من الأدناس.
أما أمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار في الآية الكريمة: )واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)( (النساء)، فلا يستلزم وقوع الذنب من الرسول صلى الله عليه وسلم، يتبين هذا من سوق سبب نزول هذه الآية والتي قبلها، وذلك على التفصيل الآتي:
روي عن قتادة بن النعمان قال: «ابتاع عمي – رفاعة بن رافع – جملا من الدرمك[12] فجعله في مشربة[13] وفي المشربة سلاح له – درعان وسيفاهما وما يصلحهما – فعدي عليه من تحت الليل فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح.. قال: فتحسسنا في الدار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم.
فقال لي عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي – رفاعة بن زيد – فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سأنظر في ذلك”، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت[14]؟ قال قتادة: فأتيت رسول الله فكلمته فقال: “عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت، قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال لي: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء: ١٠٥)» [15].
ويلاحظ من هذا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء وإنما توقف، وأن الذي حصل منه – صلى الله عليه وسلم – هو حسن الظن ببني أبيرق، لإسلامهم، وعدم قيام دليل قوي، ولا بينة على سرقتهم، والغالب على المسلمين في ذلك العهد الصدق والأمانة، والغرض من النهي في قوله عز وجل: )ولا تكن للخائنين خصيما (105)( (النساء)، هو: ألا يحسن الظن بقوم لمجرد أنهم مسلمون، وألا يساعد من يظن أنه صاحب الحق، بل يسوي بين الخصمين في كل شيء حتى تظهر براءة أحدهما وخيانة الآخر.
ويكون أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار من ذلك؛ لأنه أحسن الظن بقوم لأنهم مسلمون، ومال قلبه – بعد شهادة الشهود لصالحهم – إلى براءتهم.
هذه هي المحامل التي ينبغي أن تحمل عليها الآيات السابقة، وبها يتأكد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يقع منه ذنب، وغيره من الأنبياء – عليهم السلام – مثله[16].
وعلى هذا نستطيع أن نفهم كل الآيات الواردة في عتاب الأنبياء جميعهم وليس سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – فقط، على النحو الآتي:
أن عتاب الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – الوارد في القرآن الكريم، هو في الظاهر عتاب، وفي الحقيقة كرامة وقربة إلى الله عز وجل، وتنبيه لغيرهم ممن ليس في درجتهم من البشر، بمؤاخذتهم بذلك، فيستشعرون الحذر، ويلتزمون الشكر على النعم، والصبر على المحن، والتوبة عند الزلة.
أن الله تعالى يعتب على أنبيائه وأصفيائه ويؤدبهم، ويطالبهم بالنقير والقطمير من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم، ولا غض من أقدارهم، حتى يتمحضوا للعبودية لله عز وجل.
أن غاية أقوال الأنبياء وأفعالهم، التي وقع فيها العتاب من الله – عز وجل – لمن عاتبه منهم – أن تكون على فعل مباح، كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السنية.
المباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح في عصمتهم ومنزلتهم، فهم لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات، مما يتقوون به على صلاح دينهم، وضرورة دنياهم، وما أخذ على هذه السبيل أصبح طاعة، وصار قربة.
أنه ليس كل من أتى ما يلام عليه يقع لومه، فاللوم قد يكون عتابا، وقد يكون ذما، فإن صح وقوع لومه، كان من الله عتابا له لا ذما؛ إذ المعاتب محبور (مسرور) والمذموم مدحور[17]، ومن هنا يتبين الفرق بين اللوم والذم، قال الشاعر:
إذا ذهب العتاب فليس ود
ويبـقى الود ما بقي العتاب
أن العتاب إنما كان على ما حكم فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالاجتهاد، والاجتهاد محتمل الخطأ، فكان تصحيح الخطأ في اجتهاده من الله عز وجل، بتوجيهه – صلى الله عليه وسلم – إلى الأخذ بالصواب فعاد الحكم بذلك إلى الوحي.
عدم ورود نهي عما عوتب فيه الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – حتى يكون عتابهم ثم ذما[18].
نخلص مما سبق كله إلى أن التنبيهات التي خوطب النبي – صلى الله عليه وسلم – بها لم تكن نتيجة اقتراف خطأ أو ذنب، ولكنها من قبيل اختيار الحسن مع وجود الأحسن، وهذا يشبه قيامنا بشرب ماء نقي مع وجود ماء نبع أكثر نقاء وصفاء؛ لذا فلا يجوز أبدا تناول الأنبياء بمقاييسنا الدنيوية، وإطلاق الأحكام بحقهم من هذه الزاوية، هؤلاء الذين دعوا للقصر وشرفوا بالمثول في حضور السلطان، كيف يمكن مساواتهم مع الذين بقوا خارج القصر، ولم يستطيعوا حتى الاقتراب من الباب الخارجي لحديقته؟ وكيف يمكن وزنهم بالميزان نفسه؟ تبسم الموجودين خارج القصر يعد صدقة، ولكن تبسم الماثلين في الحضور السلطاني قد يعد إساءة.. الموازين مختلفة تماما.. لذا يجب تقييم التنبيهات الواردة في القرآن الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – من هذه الزاوية[19].
ثانيا. اشتملت آيات العتاب في القرآن الكريم على بعض الحكم والأسرار التي تستفيد منها الأمة في حياتها:
إن الناظر في آيات العتاب التي عاتب فيها الله – عز وجل – النبي – صلى الله عليه وسلم – أو غيره من الرسل – عليهم الصلاة والسلام – يجد أنها تشتمل على حكم وأسرار تستفيد منها الأمة في حياتها، منها:
أن يجتهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – قدر استطاعته فيما لم ينزل فيه نص، حتى يقلده الخلق في الاجتهاد، فالمجتهد قد يخطئ أو يصيب، وإذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران، ولا ريب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان في موضع الإمامة الكبرى للخلق، فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق في الاجتهاد، ولبيان مشروعية الاجتهاد فيما ليس فيه نص، وأن يخطئ في بعض الأمور، لئلا يصرفهم خوف الخطأ في الاجتهاد عنه، ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ، ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد، بل عاش طوال حياته يجتهد في كل ما لم ينزل عليه فيه وحي، حتى يتقرر في الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح.
وكذلك من الحكم والأسرار في أخطاء الرسول الاجتهادية أمر له قيمته وخطره، وهو إقامة أدلة ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته، وأنه وهو أفضل خلق الله، لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله، يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب العباد، ومن ذلك خطؤه في الاجتهاد، ولكن الله لا يقره على الخطأ أبدا.
كذلك من الحكم والأسرار في ذلك العتاب، أنه دليل ناصع على عصمته وأمانته، وعلى صدقه في كل ما بلغ عن ربه، وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه، ولكنه تنزيل العزيز الحكيم[20].
الخلاصة:
إن الله تعالى قد جعل عصمة الأنبياء جميعهم سنة من سنن الحياة؛ لأنهم قدوة الناس وأسوتهم، وخلفاء الله في أرضه، ولكي يتم هذا الاتباع والاقتداء لا بد أن يكون الأنبياء معصومين، ثم إن عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – معروفة لنا من دراسة السيرة، وذلك منذ طفولته وإلى نهاية حياته وملاقاته ربه عز وجل.
إن عتاب الله للنبي – صلى الله عليه وسلم – الذي ورد في بعض الآيات، لم يكن بسبب أنه ارتكب ذنبا أو إثما يقدح في عصمته صلى الله عليه وسلم، إنما لتركه لما هو أولى في علم الله المغيب عنه فيما لا وحي فيه، من الأمور التي لا تنكشف له إلا بوحي… وهي تدل على أنه – صلى الله عليه وسلم – ترك الأولى والأفضل، وترك الأولى ليس بذنب.
إن قوله عز وجل: )عبس وتولى (1) أن جاءه الأعمى (2)( (عبس) مجرد عتاب من الله – سبحانه وتعالى – لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليس دليلا على أنه – صلى الله عليه وسلم – خالف أوامر ربه، أو أنه وقع في الذنب، بل هو عتاب على ترك الأولى، لتقرير مبدأ من المبادئ العالية، وهو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شأنهم، والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم.
إن قوله عز وجل: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، لم يثبت ذنبا للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه كان من قبيل تحليل شيء أراده الله – عز وجل – لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحليل الغنائم التي لم تحل لنبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم.
إن من يتدبر قوله عز وجل: )عفا الله عنك لم أذنت( (التوبة) يجد أن هذا العتاب كان في أمر لم ينزل فيه وحي، بل هو اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على مدى حب الله له؛ لأن العتاب لا يأتي إلا من الحبيب لحبيبه، ففي الآية الكريمة من معاني التكريم والتعظيم ما لا يخفى، وليس فيها نسبة الذنب له صلى الله عليه وسلم.
إن الوزر في قوله عز وجل: )ووضعنا عنك وزرك (2)( (الشرح) ليس المقصود به هنا: الذنب – كما يظنون – ولكن المقصود به هنا: أثقال الجاهلية، أو أعباء الرسالة، حيث سهلها الله عليه.
إن أمر الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار في قوله: )واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106)( (النساء)، لا يستلزم وقوع الذنب منه صلى الله عليه وسلم، بل هو مجرد تنبيه للنبي – صلى الله عليه وسلم – كي لا يحسن الظن بقوم لمجرد كونهم مسلمين، وحسن الظن في ذاته لا يعد ذنبا.
إن هذا العتاب من الله – عز وجل – لرسوله – صلى الله عليه وسلم – ولغيره من الرسل – تعليم للأمة من بعده أن الله – عز وجل ـلا يحابي أحدا من خلقه، وهو دليل على عصمته – صلى الله عليه وسلم – وأمانته في تبليغ الوحي، ودليل كذلك على بشريته صلى الله عليه وسلم.
(*) رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء القرآن والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م. عصمة الأنبياء عن الزلات والأخطاء، أبو بكر أحمد الباقوري، دار الطباعة والنشر، جامعة مركز الثقافة السنية، الهند، ط2، د. ت. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م. سيد رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأباطيل خصومه، د. عبد الصبور مرزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1424هـ/2004م.
[1]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص30 بتصرف.
[2]. مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص315، 316 بتصرف يسير. وانظر: القرآن ونقض مطاعن الرهبان، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص683، 684.
[3]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص103، 104 بتصرف.
[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (4687).
[5]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص77: 83 بتصرف.
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أبواب المساجد، باب قول النبي: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” (427)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد (1191)، واللفظ له.
[7]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الإنسان الكامل، محمد بن علوي المالكي الحسيني، دار الشروق، جدة، ط3، 1404هـ/ 1984م، ص111: 113 بتصرف.
[8]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص84.
[9]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب (1232)، وابن ماجه في سننه، كتاب الزكاة، باب زكاة الورق والذهب (1790)، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1447).
[10]. رد شبهات حول عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ضوء الكتاب والسنة، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168: 171 بتصرف.
[11]. التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 15، ج30، ص410: 412 بتصرف يسير.
[12]. الدرمك: الدقيق الأبيض.
[13]. المشربة: الغرفة.
[14]. الثبت: الحجة.
[15]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة النساء (3036)، والطبراني في معجمه الكبير، باب القاف، قتادة بن النعمان الأنصاري بدري يكنى أبا عثمان ويقال أبوعمر (15)، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (3036).
[16]. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، مصر، 1399هـ/ 1979م، ص480: 482.
[17]. المدحور: المطرود.
[18]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص168.
[19]. العصمة النبوية، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل، القاهرة، ط3، 1425هـ/ 2005م، ص76 بتصرف يسير.
[20]. مناهل العرفان، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1417هـ/ 1996م، ج2، ص311: 313 بتصرف.
إنكار عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان له(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المشككين عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان له، ويستدلون على ذلك بتأثر قلبه – صلى الله عليه وسلم – بوسوسة الشيطان؛ إذ يقر – صلى الله عليه وسلم – بذلك فيقول: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم مائة مرة»، وبأنه – صلى الله عليه وسلم – نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، وبأنه – صلى الله عليه وسلم – جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير عذر.
وجوه إبطال الشبهة:
1) إذا كان الله – عزوجل – قد حفظ المخلصين من عباده من كيد إبليس وجنوده، فما بالنا بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وهو إمام الصالحين، وسيد المرسلين، ومعلم البشرية الإخلاص والتقوى؟!
2) عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان ثابتة بالشواهد والأدلة، فكما حفظه الله من كل قوى الشر الظاهرة، حفظه من كل قوى الشر الخفية من الجن والشياطين وعصمه من كل كيد.
3) ليس المقصود بالغين في الحديث: الوسوسة والريب – كما يتوهمون – بل هو الغفلة عن مداومة الذكر ومطالعة الحق، وذلك من قبيل السكينة التي تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم.
4) كان نومه – صلى الله عليه وسلم – عن صلاة الصبح، إعلانا من الله – عزوجل – لإنسانيته، وليكون للمسلمين أسوة حسنة في تدارك ما فات.
5) كان جمعه – صلى الله عليه وسلم – بين صلاتين من غير عذر، تخفيفا عن أمته وبعدا بها عن الوقوع في الحرج.
التفصيل:
أولا. إذا كان الله – عزوجل – قد عصم عباده المخلصين من كيد إبليس، فكيف بإمام الصالحين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؟!
لقد أجمع العلماء على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، شأنه شأن سائر الأنبياء جميعا معصوم من الشيطان – أي: من ضرره الظاهري والباطني – سواء فيما يتعلق بظاهر جسده من أنواع الأذى كالجنون، والإغماء، أو فيما له صلة بخاطره بالوساوس في الصدور، أو فيما له صلة بعبادته وأداء رسالته، ومن المعروف أنه متى اتصل القلب بالله، واتجه إليه بالعبادة، وارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فأشرقت وأنارت؛ فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله، وهذا الروح المشرق بنور الإيمان: )وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء) يعصم وينصر، ويبطل كيد الشيطان، وإن انطلق الشيطان ينفذ وعيده، ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن، فما له عليهم من سلطان[1].
فلقد حفظ الله – عزوجل – عباده المخلصين من كيد إبليس وجنوده، فلا سبيل له عليهم، كما قال عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)( (الإسراء)، وقد اعترف إبليس بعجزه عن الكيد لهم، فحكى عنه رب العزة قوله: )قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)( (ص)، ولا شك أن أنبياء الله – عزوجل – ورسله وعلى رأسهم خاتمهم محمد – صلى الله عليه وسلم – على قمة عباد الله المخلصين، الذين عصمهم رب العزة من كيد إبليس وجنوده.
والمراد بعصمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الشيطان، يوضحه القاضي عياض في قوله: “اعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى – كالجنون والإغماء – ولا على خاطره بالوساوس”.
هذا وقد دل على المفهوم السابق الكثير من آيات القرآن الكريم؛ فقد ورد في القرآن الكريم تعرض الشيطان لبعض الأنبياء في أجسامهم ببعض الأذى، وعلى خاطرهم بالوسوسة، مع عصمة الله – عزوجل – لهم بعدم تمكن الشيطان من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، فقد قال عزوجل: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، وقال عزوجل: )فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( (البقرة: 36)، وقال عزوجل: )قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15)( (القصص)، وقال عزوجل: )وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)( (الأعراف)، وليس في هذه الآيات الكريمات ونحوها ما يتعارض مع قوله عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان( (الحجر: 42)[2].
فإن كان أنبياء الله جميعا معصومين من كيد إبليس وجنوده فما بالنا بسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيا. عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان ثابتة بالأدلة والشواهد:
إن عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان ثابتة بالأدلة والشواهد القطعية، ومن هذه الأدلة وتلك الشواهد ما ورد إما على لسانه صلى الله عليه وسلم، أو على لسان أصحابه، أو التي يحكيها القرآن الكريم، ومن ذلك:
- ما روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن عفريتا من الجن تفلت[3] علي البارحة، ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، حتى ذكرت دعوة أخي سليمان: )رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي( (ص: ٣٥) قال: فرددته خاسئا[4] » [5].
- وعن أبي الدرداء أنه قال: «قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلي، فسمعناه يقول: “أعوذ بالله منك، ثلاث مرات، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثا، وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا، لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، فقال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب[6] من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة» [7].
- وعن جابر بن سمرة، قال: «صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجعل يهوي قدامه، فلما صلى سألوه، فقال: “ذاك الشيطان كان يلقي علي شرر النار ليثنيني عن الصلاة، فتناولته، ولو أخذته ما انفلت مني حتى يناط[8] إلى سارية من سواري المسجد، ينظر إليه ولدان أهل المدينة» [9] [10].
- ومن ذلك أيضا ما ذكر من أحاديث أن الصحابة حينما أخبرهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «أن كل إنسان له قرين[11] من الشياطين – سألوه صلى الله عليه وسلم: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» [12].
وهكذا، فإن هذا الحديث الأخير يبين وجها من نعم الله على رسوله، فشيطانه أسلم، ولا يأمره إلا بخير، وهو – صلى الله عليه وسلم – أقوى من الشياطين حسا ومعنى، فلا يستطيعون الوسوسة له، ولا إلحاق الضرر به، إنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحفظه الله من كل قوى الشر الخفية من الجن والشياطين، ويحفظه الله – سبحانه وتعالى – من كل قوى الشر الظاهرة، وهذه أمور اختصه الله – سبحانه وتعالى – بها[13].
ثالثا. الغين هو: الغفلة عن مداومة الذكر ومطالعة الحق، لا الوسوسة والريب:
لقد سبق أن تحدثنا عن عصمة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – من الشيطان، أي: من ضرره الظاهر والباطن، سواء ما يتعلق بظاهر جسده من أنواع الأذى كالجنون والإغماء، أو ما له صلة بخاطره كالوساوس في الصدور.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله كل يوم مائة مرة» [14]. فليس معناه أبدا تعرض قلبه – صلى الله عليه وسلم – لوساوس الشيطان، أو وقوع ريب في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغين ليس وسوسة أو ريبا وقع في قلبه صلى الله عليه وسلم؛ بل أصل الغين في هذا ما يتغشى القلب ويغطيه، وقيل: الغين، شيء يغشى القلب، ولا يغطيه كل التغطية كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس.
والمراد بهذا الغين إشارة إلى فترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان – صلى الله عليه وسلم – يدفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وما كلف به من أعباء أداء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان – صلى الله عليه وسلم – أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة وأتمهم به معرفة، وكانت حاله – عند خلوص قلبه، وخلو همه وتفرده بربه، وإقباله بكليته ومقامه – هناك أرفع حاليه، رأى – صلى الله عليه وسلم – حال فترته عنها وشغله بسواها غضا من علو حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك.
ولقد ذكر العلماء عدة أقوال في المراد بالحديث، منها:
- أن المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه – صلى الله عليه وسلم – الدوام عليه، فإذا غفل عنه عد ذلك ذنبا، واستغفر منه.
- أن الغين السكينة التي تغشى قلبه، لقوله تعالى: )ثم أنزل الله سكينته على رسوله( (التوبة: ٢٦) ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار.
- أن الغين حالة خشية وإعظام، والاستغفار شكرها، ومن ثم قيل: خوف الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام، وإن كانوا آمنين من عذاب الله تعالى[15]، والاستغفار في حق الأنبياء، لا يكون من ذنب، وإنما شكر لرب العزة، فقد خاطبه رب العزة بقوله: )ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر( (الفتح: 2)، ومع ذلك كان يقوم لربه متهجدا حتى تتورم قدماه، ويسأل عن ذلك فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا» [16]؟
رابعا. كان نومه – صلى الله عليه وسلم – عن صلاة الصبح لحكمة تشريعية، تخفيفا عن أمته في إدراك ما فاتهم:
كانت الحكمة الإلهية من نومه – صلى الله عليه وسلم – عن صلاة الصبح هي مقتضى كونه أسوة وقدوة لمن بعده في تدارك ما فات، هذا على الرغم من أن الأنبياء جميعا، وعلى رأسهم النبي – صلى الله عليه وسلم – تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم.
والأعذار تكون على الناس أجمعين، والنبي – صلى الله عليه وسلم – من أصل البشرية، فيجري عليه ما يجري على الإنسان، ويرهقه ما يرهق الإنسان.
تروي كتب السيرة أنه – صلى الله عليه وسلم – كان في خيبر، وقد نام حتى أشرقت الشمس، وكان على رأسه حارس ينبهه إذا نام، ويوقظه إذا استغرق الناس، فضرب الله – سبحانه وتعالى – على آذانه أيضا فنام ولم يستيقظ حتى أشرقت الشمس؛ فاستغرق – صلى الله عليه وسلم – في النوم بعينه، وإن كان قلبه يقظا لم ينم، وذلك ليعلن الله – سبحانه وتعالى – إنسانيته، وليكون عمله أسوة للناس في تدارك ما فاته؛ لأن المؤمنين يتخذونه أسوة حسنة، ولأنه صلى الله عليه وسلم، قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» [17]. فهو يبين لهم الصلاة في حال الأداء، وحال القضاء معا.
فعن أبي هريرة «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قفل من غزوة خيبر سار ليله حتى إذا أدركه الكرى[18] عرس[19] وقال لبلال: “اكلأ[20] لنا الليل”، فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أي بلال”، فقال بلال: أخذ بنفسي الذى أخذ – بأبي أنت وأمي يا رسول الله – بنفسك، قال: “اقتادوا”. فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال )وأقم الصلاة لذكري (14)( (طه)» [21].
وهذا الحكم يستفاد منه وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت المرء بنوم أو نسيان، مما لا قبل له بدفعه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» [22] [23].
نخلص من هذا إلى أن نومه – صلى الله عليه وسلم – الذي هو نوم العين لا نوم القلب، لم يكن ناتجا عن كيد الشيطان له – كما يزعمون – ولكن الله – سبحانه وتعالى – قد ضرب على آذانه بالنوم لإقرار حكم شرعي، وقاعدة شرعية، وهي قضاء الصلاة الفائتة بنوم أو نسيان بما لا سبيل إلى دفعه.
خامسا. لقد جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بين صلاتين؛ ليرفع الحرج عن الأمةويخفف عنها:
معلوم أن الأصل في إقامة الصلاة أن تكون على وقتها، لقول الله عزوجل: )إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)( (النساء)، فلكل صلاة وقتها الذي لا تصح ولا تقبل إلا بدخوله، وتقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها المشروع دون عذر ظلم للنفس، وتعد لحدود الله عزوجل [24].
وقد حدد العلماء المواضع التي يجوز فيها الجمع في الصلاة، وهي:
- الجمع بعرفة والمزدلفة: اتفق العلماء على أن الجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير، في وقت العشاء بمزدلفة سنة؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الجمع في السفر: الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم، فعن معاذ «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب»[25].
خلاصة آراء المذاهب في ذلك: أن الشافعية تجوز للمقيم الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم فقط، بشرط وجود المطر، عند الإحرام بالأولى والفراغ منها، وافتتاح الثانية.
وعند مالك: أنه يجوز جمع التقديم في المسجد بين المغرب والعشاء، لمطر واقع أو متوقع، وللطين مع الظلمة، إذا كان الطين كثيرا يمنع أواسط الناس من لبس النعل، وكره الجمع بين الظهر والعصر للمطر.
وعند الحنابلة: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء فقط تقديما وتأخيرا؛ بسبب الثلج والجليد والوحل والبرد الشديد والمطر الذي يبل الثياب، وهذه الرخصة تختص بمن يصلي جماعة بمسجد – يقصد من بعيد – يتأذى بالمطر في طريقه، فأما من هو بالمسجد، أو يصلي في بيته جماعة، أو يمشي إلى المسجد مستترا بشيء، أو كان المسجد في باب داره، فإنه لا يجوز له الجمع.
- الجمع بسبب المرض، أو العذر: ذهب بعض العلماء إلى جواز الجمع، تقديما وتأخيرا بعذر المرض؛ لأن المشقة فيه أشد من المطر.
قال النووي: وهو قوي في الدليل، وفي “المغني”: والمرض المبيح للجمع، هو ما يلحقه به، بتأدية كل صلاة في وقتها، مشقة وضعف.
وتوسع بعض العلماء، فأجازوا الجمع تقديما وتأخيرا لأصحاب الأعذار وللخائف، وأجازوه للمرضع، التي يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، وللمستحاضة، ولمن به سلس بول، وللعاجز عن الطهارة، ولمن خاف على نفسه أو ماله أو عرضه، ولمن خاف ضررا يلحقه في معيشته بترك الجمع.
قال ابن تيمية: وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد؛ فإنه جوز الجمع إذا كان شغل، كما روى النسائي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: يجوز الجمع أيضا للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله.
- الجمع للحاجة: قال النووي في “شرح مسلم”: ذهب جماعة من الأئمة، إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة، لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر.
ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: “أراد ألا يحرج أمته، فلم يعلله بمرض، ولا غيره”.
وحديث ابن عباس الذي قال فيه: «جمع رسول الله بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته»[26].
وروي عن ابن عباس أيضا: «أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء» [27]. وعن عبد الله بن شقيق قال: «خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لم يفتر ولا ينثني[28]: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة، لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته؟ فصدق مقالته»[29] [30].
ومما سبق يتضح لنا أن النبي محمدا – صلى الله عليه وسلم – لا سبيل للشيطان عليه، وأنه هو المشرع في حدود ما يوحى إليه من رب العزة عزوجل، ونحن نتبعه ونقتدي به في كل ما يقره ويشرعه، وبذلك فإنه – صلى الله عليه وسلم – بسهوه عن الصلاة كان يشرع لأمته كيفية قضاء الصلاة، وأنه – صلى الله عليه وسلم – بجمعه في الصلاة في غير سفر ولا خوف، لم يفعل ما يخالف الشرع، وإنما فعل ذلك لئلا يشق على أمته، فقصد إلى التخفيف عنهم.
الخلاصة:
- حفظ الله – عزوجل – عباده المخلصين وعصمهم من كيد إبليس وجنوده؛ ولقد كان محمد – صلى الله عليه وسلم – إمام المخلصين الصالحين وأول المعصومين من كيد إبليس.
- عصمته – صلى الله عليه وسلم – من كيد الشيطان ثابتة بالكثير من الشواهد والأدلة التي لا ينكرها أحد، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – أقوى من الشيطان حسا ومعنى، فلقد تعرض الشيطان أكثر من مرة للنبي – صلى الله عليه وسلم – لينال منه ولكن الله مكنه منه، حتى إن قرينه من الجن قد أسلم فلم يكن يأمره إلا بخير.
- ليس المقصود بالغين في حديث: «إنه ليغان على قلبي» تعرضه – صلى الله عليه وسلم – لوسوسة الشيطان، أو وقوع الريب في قلبه، ولكن معناه ومقصوده أنه ربما يسهو عن مداومة ذكر ربه ومطالعة الحق، وليس هذا تقصيرا منه، وإنما من قبيل السكينة التي تغشى قلبه صلى الله عليه وسلم، وأما استغفاره فهو شكر لله عزوجل.
- النبي – صلى الله عليه وسلم – هو القدوة والأسوة الحسنة لنا جميعا، وقد أراد الله – عزوجل – أن ينام النبي – صلى الله عليه وسلم – عن صلاة من الصلوات لتقرير قاعدة شرعية وحكم شرعي، وهو “قضاء الصلاة الفائتة”، ولم يكن نومه هذا بسبب تأثره بكيد الشيطان له.
- لا يجوز الجمع بين صلاتين لغير عذر شرعي؛ لأن لكل صلاة وقتها، والعذر قد يكون خوفا أو سفرا أو مطرا أو مرضا… إلخ، أما جمعه – صلى الله عليه وسلم – بين صلاتين من غير عذر، فإنما كان بغرض التخفيف عن الأمة، ولئلا يشق عليهم.
(*) رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.
[1]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج4، ص2239.
[2]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص70، 71 بتصرف.
[3]. تفلت: مر بين يديه بغتة.
[4]. الخاسئ: المطرود الخائب.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ) ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب ( (ص) (3241)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1237).
[6]. الشهاب: الشعلة من النار.
[7]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه (1239).
[8]. يناط: يعلق.
[9]. صحيح لغيره: أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الصلاة، باب المار بين يدي المصلي (2338)، وأحمد في مسنده، مسند الكوفيين، باب من حديث أبي عبد الرحمن عن مشايخه من حديث جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (21038)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على مسند أحمد.
[10]. دلائل النبوة، أبو بكر البيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ج7، ص97: 99.
[11]. القرين: الصاحب.
[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (7286).
[13]. الرد على القس الأمريكي في افتراءاته على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، مكتبة الإيمان، مصر، 1425هـ/ 2004م، ص92، 93 بتصرف.
[14]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (7033).
[15]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص163، 164 بتصرف.
[16]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب التهجد، باب قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى تتورم قدماه (1078)، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد (7302).
[17]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة (605).
[18]. الكرى: النوم أو النعاس.
[19]. التعريس: نزول المسافرين آخر الليل للنوم والاستراحة.
[20]. اكلأ: ارقب أو احرس.
[21]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها (1592).
[22]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي الصلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة (572)، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها (1598).
[23]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة،1425هـ/ 2004م، ج3، ص808 بتصرف يسير.
[24]. الصلاة، د. عبد الله بن محمد الطيار، جامعة الإمام، السعودية، 1418هـ/ 1998م، ص158، 159.
[25]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب صلاة المسافر، باب الجمع بين الصلاتين (1222)، والدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين في السفر (13)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1080).
[26]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (1667).
[27]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مواقيت الصلاة، باب تأخير الظهر إلى العصر (518)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (1669).
[28]. لا يفتر ولا ينثني: يلح أو يصر.
[29]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (16670).
[30]. فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط2، 1419هـ/ 1999م، ج1، ص343: 346 بتصرف.
ادعاء أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتنافى مع عصمته(*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالين سحر لبيد بن الأعصم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويستدلون على ذلك بأن وقوع السحر عليه – صلى الله عليه وسلم – نقص وعيب ينافيان عصمته صلى الله عليه وسلم، وبأن القول بتعرضه للسحر يتعارض مع بعض آيات القرآن الكريم الثابتة في حقه صلى الله عليه وسلم. وهم بذلك يـغالون في وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – ويسيئون فهم معنى عصمته صلى الله عليه وسلم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) مما لا شك فيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بشر له صفات البشر، ويتعرض لما يتعرض له سائرهم من المرض والشفاء، والحزن والفرح، والعسر واليسر، فلماذا ينكرون عليه أن يسحر، والسحر مرض كغيره من الأمراض؟!
2) تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في أصح كتب السنة، بيد أن سحره لا يتعارض مع عصمته؛ لأنه لم يؤثر في قواه العقلية أو صفته الشرعية، وإنما أثر في شيء من نشاطه البدني فحسب.
3) إن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتعارض مع آية واحدة في القرآن الكريم، بل إن بعض آيات القرآن تؤيد حدوث هذا الأمر مثل المعوذتين.
4) لقد شاء الله – عزوجل – أن يقع هذا السحر على النبي – صبى الله عليه وسلم – لحكمة عظيمة، وهي أن تستفيد الأمة، وتتعلم ماذا تفعل إن حدث لأحد أفرادها شيء مثل هذا.
التفصيل:
أولا. النبي – صلى الله عليه وسلم – بشر؛ يتعرض لما يتعرض له البشر من المرض والشفاء، والحزن والفرح، والسحر من جملة تلك الأمراض:
نقر في البدء أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء والرسل الكرام – عليهم الصلاة والسلام – بشر كغيرهم من الناس، يطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من حيث الظاهر، فيجوز تعرضهم للآفات المنفرة والتغيرات من انقباض وبسط، وفرح وغم، وسائر الحالات من آلام، وأسقام، وتعرض للموت الزؤام، وهذا كله ليس بنقيصة فيهم، ومما يؤكد هذا أن الأنبياء قبله – صلى الله عليه وسلم – تعرضوا للعوارض البشرية فقتلوا تقتيلا كيحيى بن زكريا – عليهما السلام -، ونشروا بالمناشير كزكريا عليه السلام.
ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات، ومنهم من عصمه الله من القتل كعيسى عليه السلام؛ إذ تمالأت اليهود على قتله، فرفعه الله إليه، وطهره من صحبتهم، كما عصم نبينا من الناس، وحماه الله من عبد الله بن قمئة الذي جرح وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلق المغفر[1] في وجنته يوم أحد، وحجبه الله عن عيون أعدائه – أهل الطائف – عند دعوتهم إلى توحيد الله، وحماه الله من بطش أشداء المشركين من قريش يوم الهجرة عند خروجه من بيته إلى غار ثور عن يمين مكة، حين أرادوا قتله، فخرج عليهم وقرأ: )وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9)( (يس)، وأمسك الله تعالى عن نبيه – صلى الله عليه وسلم – سيف غورث بن الحارث، وحفظه من أبي جهل – فرعون هذه الأمة – حين حمل صخرة ليطرحها على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ساجد، فلزقت بيده، كما حفظه من شر سراقة بن مالك فغاصت أقدام فرسه بالأرض، ووقاه الله من أثر سحر لبيد بن الأعصم اليهودي كما في رواية البخاري، كما وقاه ما هو أعظم، وهو سم اليهودية بخيبر.
وهكذا سائر الأنبياء، منهم المبتلى كأيوب – عليه السلام – ومنهم المعافى من كثرة الأسقام وشدة الآلام، وكان ابتلاؤهم من تمام حكمة الله – عزوجل – ليظهر الله شرفهم في هذه الأحوال المتفاوتة، ويبين أمرهم، ويتم كلمته فيهم، ولتتحقق مقتضيات بشريتهم، ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم، لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب (خوارق العادات الغرائب) على أيديهم، كبرد النار على إبراهيم الخليل، وقلب العصا حية لموسى الكليم، وخلق الطير من الطين، وإحياء الموتى على يد عيسى، وانشقاق القمر لنبينا، لتكون حياتهم ومحنتهم عبرة لأممهم وإيناسا بسيرتهم وزيادة لأجورهم عند ربهم[2].
ومن هنا نعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت تجري عليه كل النواميس المعتادة التي كتبها الله على بني آدم من جملة البشر بما فيهم الأنبياء والرسل بطبيعة الحال.
ثانيا. تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في أصح كتب السنة:
لا غضاضة في تعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك؛ لأنه بشر يجوز أن يتعرض لهذا المرض كما يجوز عليه أي مرض، ولكن الله – عزوجل – عصمه من تأثير السحر في عقله، وجعل تأثيره منحصرا في نشاطه البدني فقط. فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – قالت: «كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سحر، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، فقال: “يا عائشة، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان[3]، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق، حليف لليهود، كان منافقا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر، تحت رعوفة[4] في بئر أروان”، قالت: فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – البئر حتى استخرجه، فقال: “هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين”، قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا أحرقته؟ فقال: “أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» [5].
ومن هذا الحديث يتبين لنا أن تعرضه – صلى الله عليه وسلم – لسحر لبيد بن الأعصم لا يتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأثير هذا السحر كان مقتصرا على بعض قوى النبي البدنية، وهي قوة الجماع، وهذا يتضح من قول السيدة عائشة – رضي الله عنها -: «حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن» [6].
وفي رواية أخرى: «مكث كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي» [7].
إن ما تعرض له النبي – صلى الله عليه وسلم – من باب المرض البدني، ولم يكن له أي تأثير على قواه العقلية، فقد تكفل الله بحفظها عليه صلى الله عليه وسلم.
إن سحر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لبيد على هذا النحو وتلك الكيفية – لو أدرك هؤلاء الغلاة – يؤكد بشريته صلى الله عليه وسلم، ويرفع قدر نبوته في الوقت ذاته، يقول د. عماد الشربيني: إن سحر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يرفع من مقام النبوة وشرفها، ولا يحط من شأنها، ولا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن معصوما من الأمراض، فلقد كان يأكل ويشرب ويمرض، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان رجلا مسقاما، وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم»[8]. وكانت تجري عليه كل النواميس المعتادة التي كتبها الله على ولد آدم، وليس في السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره وعصمته بوصفه إماما لسائر الأنبياء والمرسلين، ما دام السحر واقعا على بعض قواه البدنية فقط[9].
يقول القاضي عياض: “فقد استبان أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه، ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه يأتي أهله، ولا يأتيهن»، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى: إنه يتخيل إليه فعل الشيء وما فعله، من باب ما اختل من بصره كما ذكر في الحديث؛ فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه أو شاهد فعلا من غيره، ولم يكن على ما خيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره لا لشيء طرأ عليه في ميزه (تمييزه)، وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له، وتأثيره فيه ما يدخل لبسا، ولا يجد به المعترض الملحد أنسا” [10].
“ومن الثابت أن واقعة السحر ثابتة على الجسد فقط، وأن السحر لم يؤثر في الرسول – صلى الله عليه وسلم – في شئون تبليغ الوحي الإلهي والشرع إلى الأمة، وإنما اقتصر تأثير السحر على بعض حواسه، أو قدراته المتعلقة بشئون الدنيا من جماع وغيره” [11]، أما ما يتعلق بأمر النبوة، فقد عصمه الله في ذلك، وحرس وحيه أن يلحقه الفساد والتبديل، فلا ضرر لحقه من السحر على نبوته، ولا نقص فيما أصابه منه على دينه وشريعته، كما أن مدة هذا السحر لم تطل، بل عوفـي – صلى الله عليه وسلم – برقية جبريل – عليه السلام – له.
وعليه، فلا يحق لأحد أن يدعي أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر في بدنه يتنافى مع عصمته – صلى الله عليه وسلم – في أمر الدين.
ثالثا. تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتعارض مع آية واحدة في القرآن الكريم، بل إن بعض آيات القرآن تؤيد وقوعه للنبي صلى الله عليه وسلم:
أما ما يزعمه هؤلاء المغالون من أن القول بتعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتعارض مع بعض آيات القرآن الكريم، فهو زعم لا يقوم على دليل؛ وإنما هو تفسير خاطئ لآيات الكتاب الحكيم، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
- عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – الواردة في قوله تعالى: )يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)( (المائدة)، المراد بها: عصمته – صلى الله عليه وسلم – من القتل والاغتيال، والمكائد المهلكة، فضلا عن عصمته من الغواية والهوى والضلال، وعدم الوقوع في المعاصي والمنكرات، ولا يدخل في العصمة هنا عصمته من الأمراض كما سبق أن بينا؛ لأن الأنبياء جميعا غير معصومين من المرض، فهم جميعا تجري عليهم كل النواميس المعتادة التي أودعها الله في ولد آدم، وعلى ذلك فالآية ليست على عمومها.
ولو كانت على عمومها ما استطاع أحد أن يتطاول عليه – صلى الله عليه وسلم – ولا أن يناله بأذى، وها هم أعداؤه يخطئون في حقه ويتطاولون عليه – صلى الله عليه وسلم – كثيرا؛ بوصفه بالجنون، والكهانة، والسحر، وينالون منه في المعارك بكسر رباعيته، وشج رأسه، وحديثا بسبه ومحاولة تشويه صورته والطعن في سيرته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الآية في عصمته من القتل، والغواية، والضلال، فلا تعارض بينها وبين سحره صلى الله عليه وسلم، أو لحوق الأذى به – قديما وحديثا – كما هو ثابت ومشاهد ومعلوم.
- أما القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين في قولهم: )إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8)( (الفرقان)، فهو قول مردود؛ لأننا نعلم يقينا أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا أن يثبتوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أثبته هذا الحديث من تعرض بدن النبي للسحر مدة وجيزة، لما قام فلان من اليهود بسحره بضعة أيام، فأدركه شيء من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشيء، وهو لا يفعله، ثم إن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن ما يصدر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شيء، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين في دعواهم، فمفهوم الحديث من تعرضه للسحر شيء، ودعواهم تلك شيء آخر[12].
- أما الزعم أن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر، وهو من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، يتعارض مع قوله عزوجل: )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر).
فهذا الزعم مردود عليهم بما ورد في القرآن الكريم من آيات تثبت تعرض الشيطان للأنبياء بأنواع الإفساد والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله – عزوجل – بعدم تمكنه من إغوائهم، أو إلحاق ضرر بهم يضر بالدين، وتأمل قوله – عزوجل – في حق سيدنا أيوب عليه السلام: )واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41)( (ص)، وقوله – عزوجل – في حق سيدنا آدم وزوجته: )فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه( (البقرة: 36)، ومن هنا لا يلزم من وقوع السحر في حق الأنبياء إضلالهم وإغواؤهم، فإن ذلك ظن فاسد، وتأمل قوله عزوجل: )قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى (68) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)( (طه).
فقد صرحت الآيات بأن سحر أولئك السحرة، قد أوقع نبي الله موسى في التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات، وعندما أوجس في نفسه خيفة، كانت عصمة ربه له بالوحي إليه بعدم الخوف؛ لأنه رسول الله حقا، وعليه إلقاء ما في يمينه – يعني عصاه – فإذا هي حية تلقف ما صنعوا، فتأمل ما في الآيات من إثبات تعرض بعض الأنبياء للسحر، مع عصمتهم من آثاره المضرة بدعوتهم[13].
وهكذا يتضح أن الحديث لا يتعارض مع أية آية من القرآن الكريم، بل إن آيات القرآن الكريم تؤيده، نحو قوله عزوجل: )قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5)( (الفلق)، فهذه السورة وسورة الناس، واللتان تسميان بالمعوذتين، نزلتا في قصة سحره صلى الله عليه وسلم، كما جاء من حديث ابن عباس ومن حديث عائشة أيضا ففيه من الزيادة أنه «وجد في الطلعة تمثالا من شمع، تمثال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألـما، ثم يجد بعدها راحة، حتى قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كأنما نشط من عقال[14] » [15].
وبناء عليه، فإن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا ينكره إلا من نظر نظرة تعصب، وحرص على تشويه الحقيقة التي لا مراء فيها، وغالى في وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – وتجاوز بشريته التي أثبتها القرآن له في قوله عزوجل: )قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي( (الكهف: 110).
أما من ينظر نظرة إنصاف فإنه يرى أن الحديث يمثل صورة طيبة، فها هو قد سحر لكنه لم يترك، وإنما سأل الله ودعا، واستجاب له ربه، وجاءه جبريل وغيره من الملائكة، وأخبره الله بحقيقة حاله، ورقاه جبريل، ورقى – صلى الله عليه وسلم – نفسه، وبرئ بفضل الله – عزوجل – سريعا، فإن دل هذا على شيء فإنما يدل أولا على بشريتهصلى الله عليه وسلم، وثانيا على عصمة الله، عزوجل – له، وكريم منزلته – صلى الله عليه وسلم – عنده وعلى عظيم عنايته تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم فإن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا يتنافى بأي حال مع عصمته صلى الله عليه وسلم، وإنما يمثل نقطة مشرقة؛ إنه سحر، لكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان في أعلى درجات الاستقامة والهداية.
إن هذا السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي، ومع أنه أمر جسدي فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه وشفاه[16].
رابعا. الحكمة التشريعية التي تقف وراء سحر النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا كان لقائل أن يقول: إذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – معصوما، وإذا كانت العناية الإلهية أحاطت به فلم أثر فيه السحر؟
نقول: إن أعداءه – صلى الله عليه وسلم – كادوا له بكل ما استطاعوا:
- أثاروا الشبه، يشوهون بها الإسلام!
- رموه بكثير من الكلمات الجارحة، يريدون التقليل من شأنه.
- وصفوا ما جاء به من الهدى بصفات سيئة، حرصا على تضليل الناس.
- جاءوا بالقصص من الأمم الأخرى يصرفون بها الناس عن القرآن والإسلام.
- حاولوا صرف الناس عن سماع القرآن الكريم، وعن الإسلام بكل وسيلة.
- جاءوا بمشاهير الحساد، كي يحسدوه، كما قال تعالى: )وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون (51) وما هو إلا ذكر للعالمين (52)( (القلم).
- خططوا لقتله مع تفريق دمه في كل القبائل.
- جيشوا الجيوش لحربه، والقضاء على أمة الإسلام، كما في بدر وأحد، وغيرهما.
وكل هذه الوسائل لم تؤثر فيه صلى الله عليه وسلم، وإنما نصره الله وأيده.
وشاء الله أن يؤثر السحر فيه مرة، ليعلمنا تبارك وتعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ماذا نفعل إذا وقع لنا شيء من السحر.
لقد استفدنا من هذا الحديث – الذي يتحدث عن وقوع السحر له – صلى الله عليه وسلم – أننا نعالج أنفسنا من السحر بثلاثة أمور:
- الصبر على الحال، فإنه – صلى الله عليه وسلم – حينما أحس بما عليه حاله، فوض وسلم أمره إلى ربه، يرجو بذلك الأجر والمثوبة.
إنه يؤمن أن كل شيء بإذن الله، وأن كل شيء بقدر الله، كما قال عزوجل: )قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)( (التوبة)، وقال سبحانه في شأن السحرة: )وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله( (البقرة: 102).
إنه – صلى الله عليه وسلم – يؤمن أن الصبر على البلاء يؤجر عليه المسلم، ومن هنا صبر واحتسب، إنه لم يخف السحر ولم يضطرب؛ فالأمور بيد الله عزوجل، وهو الواثق بالله المتوكل عليه، ومن هنا صبر يحتسب أجر ذلك عند الله تعالى.
- كثرة الدعاء، ففي الحديث الذي معنا صبر – صلى الله عليه وسلم – مدة، ثم دعا، وألح في الدعاء، وفي هذا تعليم للمسلم أنه في مثل هذه الحالات يكثر من الدعاء، فإنه ببركة الدعاء يفرج الله عنه ما هو فيه، قال عزوجل: )وقال ربكم ادعوني أستجب لكم( (غافر: 60)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء» [17].
- الرقية، وذلك بقراءة سورتي الفلق والناس؛ ففي بعض روايات حديث السحر هذا أنه – صلى الله عليه وسلم – رقي بهاتين السورتين، وكلما رقي بآية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، وشفي بفضل الله تماما، وفي سورتي الفلق والناس – واللتان تسميان بالمعوذتين – يقول صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ متعوذ بمثلهما»[18].
وهكذا يتضح أن الله – عزوجل – شاء له ذلك ليعلم الأمة ماذا تفعل في مثل هذه الحالة.
والعلماء على هديه يسيرون، يستشفون بهذه الأمور، أما الجهلة فإنهم يذهبون إلى أماكن الدجل والشعوذة، ولولا أن الله شاء بنبيه ذلك، لذهب الجميع إلى الشعوذة والدجل.
على الرغم من أن تأثير السحر فيه – صلى الله عليه وسلم – هو درجة أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، لكن قد يقع له ما هو أقل من درجته للتشريع، ليس هذا في السحر فقط، وإنما وقع في أمور أخرى كسهوه – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة، فقد سها في الصلاة، والسهو أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، لكنه سها ليعلمنا ماذا نفعل إذا سهونا، ونام أصحابه عن وقت الصلاة وهو معهم، وليس هذا من شأنه، ولا هو باللائق بدرجته، ولكن شاءه الله ليشرع لنا ماذا نفعل إذا نمنا عن الصلاة، أو خرج وقتها.
إنها أحوال أقل من درجته صلى الله عليه وسلم، شاءها الله – عزوجل – ليعلم الأمة دينه سبحانه، من واقع أحوال رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهو المصطفى لتبليغ الرسالة، وتوضيح معالم دينه عزوجل.
ومن ثم فتعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت، وكذلك عصمته – صلى الله عليه وسلم – ثابتة، وكما لا يلتفت إلى من يستغل هذه الحادثة للتنقيص من عصمته والتشويش على الأمة في أمرها، فإنه لا يلتفت – ولا يحتاج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أحد يغالي في وصفه لإثبات عصمته صلى الله عليه وسلم، وحسبه أنه خير البشر، وإمام المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين[19].
مما سبق يتضح لنا أن وقوعه – صلى الله عليه وسلم – في السحر وتأثره به كان في نشاطه البدني فقط، ولا تأثير له على العقل، وفي هذا دليل على عصمة النبي – صلى الله عليه وسلم – ودليل على بشريته في الوقت نفسه.
الخلاصة:
- إن النبي – صلى الله عليه وسلم – وسائر الأنبياء بشر كغيرهم من الناس، فيطرأ عليهم ما يطرأ على سائر البشر من حيث الظاهر، فيجوز تعرضهم للآفات والتغيرات من مرض وسحر ظاهري ونحوه.
- إن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر ثابت في السنة الصحيحة، ولا يمكن التشكيك فيه، وتعرضه – صلى الله عليه وسلم – للسحر لا ينافي عصمته؛ لأن السحر لم يؤثر في قواه العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء بدنه، وهذا ليس له علاقة بالرسالة والوحي.
- القول بأن تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر يتعارض مع آيات في القرآن الكريم، قول لا يقوم على دليل، بل هو تفسير خاطئ لآيات الكتاب الحكيم، بل إن آيات القرآن الكريم تثبت تعرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للسحر، مثل المعوذتين اللتين نزلتا في سحره صلى الله عليه وسلم.
- لقد شاء الله أن يقع السحر على النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي تتعلم الأمة من بعده كيفية علاج السحر، ولا تلجأ إلى الدجل والشعوذة، إذ أرشدتنا حادثة وقوعه – صلى الله عليه وسلم – في السحر إلى ثلاث وسائل لعلاج السحر، هي:
o الصبر على الحال، والتسليم لقضاء الله، وعدم الجزع من السحر والثقة بالله عزوجل.
o كثرة دعاء الله لرفع هذا البلاء، فلا يرد القضاء إلا الدعاء.
o الرقية وذلك بقراءة المعوذتين.
(*) السنة النبوية الشريفة، د. أحمد محمود كريمة، مكتبة الأزهر، القاهرة، 1418هـ.
[1]. المغفر: غطاء ينسج من الدروع على قدر الرأس لحمايتها في الحرب.
[2]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص525، 526 بتصرف يسير.
[3]. رجلان: أي ملكان في صورة رجلين.
[4]. الرعوفة: صخرة تكون أسفل البئر.
[5]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432)، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب السحر (5832).
[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر (5432).
[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ( (النحل: 90) (5716).
[8]. إسناده صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب الطب (7426)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي في التلخيص.
[9]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص250 بتصرف.
[10]. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، ج2، ص182، 183.
[11]. شمائل المصطفى، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص530.
[12]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص251، 252 بتصرف.
[13]. رد شبهات حول عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، د. عماد السيد الشربيني، دار الصحيفة، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص252، 253.
[14]. العقال: الحبل.
[15]. صحيح: أخرجه البيهقي في دلائل النبوة، كتاب جماع أبواب غزوة تبوك، باب جماع أبواب كيفية نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم (3018)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2761).
[16]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص91، 92 بتصرف.
[17]. حسن: أخرجه الترمذي في سننه، كتاب القدر، باب لا يرد القدر إلا الدعاء (2139)، والبزار في مسنده، المجلد الثاني، مسند سلمان الفارسي (2540)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
[18]. صحيح: أخرجه الحميدي في مسنده، حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه (851)، وأبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب في المعوذتين (1465)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1299).
[19]. دفع الشبهات عن السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص92: 94 بتصرف.
إنكار أمية النبي صلى الله عليه وسلم )*(
مضمون الشبهة:
ينكر بعض المغالطين ما كان من أميته صلى الله عليه وسلم، مدعين أنه كان يقرأ ويكتب، ولكنه دعا نفسه النبي الأمي؛ بغرض استمالة قلوب قومه للإيمان بدعوته، وللتأكيد على أنه لم يتلق القرآن من غيره، ويستدلون على ذلك بما يزعمونه من أنه – صلى الله عليه وسلم – وقع بنفسه بعض الوثائق التاريخية مثل صلح الحديبية, وأنه – صلى الله عليه وسلم – حين أدركته الوفاة طلب صحيفة ليكتب عليها اسم من يخلفه، وبما توهموه من تناقض في قوله عز وجل: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة)، ويتساءلون: كيف يطلب الله منه أن يتلو ويقرأ عليهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وهو أمي؟! بل كيف يطلب منه أن يقرأ في قوله سبحانه وتعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)( (العلق). إن كان حقا لا يعرف القراءة؟! ويقولون: إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – كان تاجرا ناجحا؛ ولا بد أن يكون تعلم شيئا من العلوم والفنون التي كانت منتشرة في مكة وما حولها أثناء أسفاره. هادفين من وراء ذلك إلى إنكار حقيقة الأمية التي لازمت وصفه – صلى الله عليه وسلم – بالنبوة؛ بغية التشكيك في النبوة ذاتها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لقد أثبت القرآن الكريم في غير ما موضع أمية النبي صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت: ٤٨).
2) كان عدد من تعلموا القراءة والكتابة في مكة قليلا؛ لاعتمادهم على الحفظ في الصدور، ولقد حصرتهم بعض المصادر وذكرت أسماءهم وهم سبعة عشر رجلا ليس بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشتهر – صلى الله عليه وسلم – بأميته ولم يثبت عنه أنه غاب عن مكة غيبة تمكنه من التعليم حتى في رحلاته التجارية.
3) تؤكد الروايات الصحيحة أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – هو الذي كتب صلح الحديبية بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وعمرو بن سهيل، وليس النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يزعمون.
4) الحديث الذي جاء في الصحيحين من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حينما أدركته الوفاة طلب صحيفة ليكتب عليها اسم من يخلفه، لم يشر – من قريب ولا من بعيد – إلى ما ذهب إليه الطاعنون من كتابة النبي – صلى الله عليه وسلم – اسم من يخلفه بنفسه.
التفصيل:
أولا. القرآن الكريم أثبت في غير موضع أمية النبي صلى الله عليه وسلم:
حفل القرآن الكريم بآيات كثيرة تدل على أمية النبي صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه وتعالى: )وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48)( (العنكبوت)، وقال سبحانه وتعالى: )وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5)( [1] (الفرقان)، وقوله سبحانه وتعالى: )الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157) ( (الأعراف)، وقال سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2)( (الجمعة).
فهذه الآيات قاطعة الدلالة على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان أميا، بيد أن بعض المشككين فهم بعض هذه الآيات فهما خاطئا، فأخذ يجعلها دليلا على تعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – القراءة والكتابة. ومن هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: )هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة(, إذ يتساءل هؤلاء: كيف يتلو النبي – صلى الله عليه وسلم – ويزكي ويعلم وهو أمي؟!
وحول المعنى المراد لكلمة “الأميين” يقول الإمام ابن عاشور: والأميون: الذين لا يقرءون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب؛ لأنهم لا يكتبون إلا نادرا، فغلب هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب، حتى صارت الكلمة تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم، قال – سبحانه وتعالى – في ذكر بني إسرائيل: )ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78)( (البقرة).
وأوثر التعبير به هنا مشاكلة على اليهود؛ لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي – صلى الله عليه وسلم – جهلا منهم، فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا، وقد قال ابن صياد للنبي – صلى الله عليه وسلم – لما قال له: «أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين»[2]، وكان ابن صياد متدينا باليهودية؛ لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون العرب بأنهم أميون قال سبحانه وتعالى: )قالوا ليس علينا في الأميين سبيل( (آل عمران: 75)، فتحدى الله اليهود بأن بعث رسولا إلى الأميين، وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية، وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا بغيرهم، وقد قال – سبحانه وتعالى – من قبل لموسى: )ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)( (القصص).
ووصف الرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه منهم – أي من الأميين – شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية، وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة التي علمها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي هو مع كونه أميا، قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسىعليه السلام [3].
أما بالنسبة لرواية بدء الوحي التي استدلوا بها على إنكار أمية النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تدل على ما ذهبوا إليه من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنها من الأدلة القوية على أميته؛ إذ جعلوا قول النبي – صلى الله عليه وسلم – للملك – الذي كان يطلب منه القراءة – “ما أقرأ” استفهاما عن المقروء، لا نفيا للقراءة، مستدلين بما توهموه من عبارة الرسول – صلى الله عليه وسلم – على عدم أميته، وإلا فما وجه استفهامه عن المقروء؟!
ومن الواضح أن المنهج الذي اعتمدوه في بحث هذه المسألة منهج قاصر تماما؛ لأنهم لم يعطوا أي قيمة لروايات الشيخين التي تنص صراحة على الأمية؛ فقد ورد في الصحيحين: «ما أنا بقارئ» [4] عوض “ما أقرأ” التي جاءت في السيرة، وأكبر من هذا الخطأ أنهم لم يعطوا لأنفسهم فرصة القراءة التامة لرواية إمام السيرة – ابن هشام – التي تنص صراحة على الأمية، إذ ورد فيها مباشرة بعد العبارة التي اقتطعوها قوله صلى الله عليه وسلم: ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي” [5].
وهذا دليل على أن قوله: “ما أقرأ”؟ هو استفهام فعلا – كما هو واضح – ولكن في الوقت نفسه يعتبر دليلا على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يقرأ؛ ذلك لأنه قد أوضح بنفسه أن طلبه من الملك تعيين ما يطلب منه قراءته لم يكن إلا لخوفه من أن يعود إلى ضمه، كما حدث في كل مرة نفى فيها معرفته للقراءة قبل ذلك[6].
لا وجه – إذن – لتفسير آية الجمعة، أو آية العلق تفسيرا خاطئا يوهم بتعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – القراءة والكتابة، أو إنكار التفسير الحقيقي والقول بغيره للنيل من حقائق ثابتة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى ما وصف به وما اقترن بنبوته.
على أن هناك بعض الغربيين قد اعترف بأمية النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه “تاريخ العرب”: “ولما كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة”.
وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتابه “الأبطال”: “ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا، وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها”.
وجاء في كتاب “الإسلام” تأليف الكونت هنري دي كاستري: “إن محمدا ما كان ليقرأ أو ليكتب، بل كان – كما وصف نفسه مرارا – نبيا أميا، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس؛ لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار” [7].
وإننا نجد في الكتاب المقدس ما يؤكد أميته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في سفر إشعياء: “أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة، ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة”. (إشعياء 29: 12). وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن هذا النص في صورته العربية التي نقلناها، محرف، والسبب أن أصحاب الترجمة العربية التي بين أيدينا يعلمون معنى هذا النص.
إن الذي يعنينا هو استعمال كلمة “القراءة” في هذه التراجم محل كلمة “الكتابة”. فكيف يقول: “وقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف الكتابة”؟! إن سياق الكلام يدل على التحريف المقصود؛ لأن سياق الكلام الصحيح في العبارة متمشيا معها “لا أعرف القراءة” [8].
وعندما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابه مع عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، ثم قرأه عليه قال النجاشي: أشهد بالله أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل[9]. وهكذا بشرت الكتب السماوية السابقة بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي أمي يبعث في قوم أميين، رغم محاولة اليهود والنصارى تحريف ما جاء في كتبهم خاصا بهذا الشأن.
ثانيا. عدم معرفة النبي – صلى الله عليه وسلم – للقراءة والكتابة أمر ثابت، يدل عليه أنه ليس ممن اشتهروا بالقراءة والكتابة في الجاهلية:
لقد كان من شأن العرب أنهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة اللهم إلا النزر اليسير منهم، وقد حصرت بعض المصادر من يعرفون القراءة والكتابة في مكة في سبعة عشر رجلا، وذكرت أسماءهم، ولم يكن منهم الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يدل بوضوح على عدم معرفته القراءة والكتابة تلك الأمية التي اشتهر بها – صلى الله عليه وسلم – بين قومه، فلو رآه أحد وهو يكتب أو يقرأ لذاع ذلك عنه، وانتشر خبره في أرجاء الجزيرة العربية.
وهناك أيضا من الغربيين من تبنى هذه النظرة الإسلامية المتمكنة في تأكيد أميته – صلى الله عليه وسلم – مثل: أماري، وكازيميرسكي، ومونتيه، إضافة إلى ول ديورانت، الذي قال: “ولكن يبدو أن أحدا لم يعن بتعليمه القراءة والكتابة”، ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر رجلا يعرفون القراءة، ولم يعرف عن محمد أنه كتب شيئا بنفسه، وكان بعد الرسالة يستخدم كاتبا خاصا[10].
من هنا يتأكد بطلان الزعم القائل: بأن العلوم والفنون كانت شائعة في مكة قبل البعثة, وإذا سلمنا جدلا أن مكة كانت تعج وتمج بالفنون والعلوم، فليس معنى ذلك أن النبيـ صلى الله عليه وسلم – تعلم القراءة والكتابة؛ إذ لا يلزم من شيوع الكتابة ببلد أن يكون أهله جميعا متعلمين, والملاحظ أننا إذا توقفنا عند هذا الحد، فإننا نجد أن ما قرره هؤلاء لا يؤدي إلى أكثر من احتمال تعلمه صلى الله عليه وسلم، ولكننا إذا تعمقنا في البحث فإننا نجد هذا الاحتمال يسقط من تلقاء نفسه؛ إذ لا يوجد أي دليل علمي يسنده، بل إن كل الأدلة تؤدي إلى بطلانه.
ومن الواضح أن منهج هؤلاء المشككين منهج معوج، إذ استندوا إلى استنتاج للأزرقي في تأكيد شيوع الكتابة بمكة، إذ ذكر “أن بلدا مثل مكة كانت تكثر فيه التجارة، ولذلك ما كان يخلو من كثيرين يكتبون ويقرءون، فالتجارة تحتاج إلى الحساب، والحساب يحتاج إلى تدوين”، وتركوا الكثير من الأخبار الموثوقة التي تعرض لأمر التعلم بمكة في زمن البعثة.
ورغم أن أبا الوليد أحمد بن محمد الأزرقي – ت 219هـ – يعتبر مؤرخا موثقا لأخبار مكة المكرمة إلا أن استنتاجه يبقى مجرد استنتاج لا يعتمد على مادة علمية، إضافة إلى أنه يخالف ما اشتهر بين العلماء من أن مكة لم تكن تضم في ذلك الزمان أكثر من سبعة عشر رجلا يقرءون ويكتبون، وهو عدد ينافي وصف “كثيرين” الذي ورد عنده.
والحقيقة أن التعلم في أرض الحجاز، في ذلك الزمان، لم يكن بالأمر الشائع ولا بالقضية المهمة التي يقصد الناس إلى تحصيلها، إذ كانوا يعتمدون – كما هو معلوم – على الحفظ في الصدور، وحتى التجارة فما كانت تحتاج بالضرورة إلى تدوين؛ لأنها لم تكن بهذه السعة التي شهدتها التجارة الحديثة، إضافة إلى أن معاملات كل تاجر لم تكن تتعدى أمواله وأموال بعض المضاربين.
ولم تذكر لنا المصادر رواية عن معاملة تجارية تمت بواسطة التدوين، وفي ظل هذه الظروف لم يكن من الضروري أن يتعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – القراءة والكتابة لتسيير شئونه التجارية، أضف إلى هذا وذاك أن المتعلمين من أهل مكة والمدينة كانوا معروفين مشهورين بين الناس باختصاصهم بهذا الفن؛ فقد ذكرت المصادر أسماء السبعة عشر مكيا العارفين بالقراءة، كما أوردت أسماء المدنيين، إضافة إلى عدد من النساء المتعلمات، وفي إمكانية حصرهم مهما بلغ عددهم دليل قوي على قلة المتعلمين في الحجاز آنذاك.
هذا ولم يثبت أن سيدنا محمدا – صلى الله عليه وسلم – خرج من مكة وغاب عنها غيبة طويلة تمكنه من التعلم في تلك الرحلات التجارية، وكل ما ورد في كتب السيرة أنه – صلى الله عليه وسلم – خرج مرتين إلى الشام، مرة مع عمه أبي طالب، ومرة مع ميسرة غلام السيدة خديجة بنت خويلد,فأين تعلم محمد – صلى الله عليه وسلم – الكتابة؟ وهل كان محمد – صلى الله عليه وسلم – في خفاء من قومه أثناء تعلمه القراءة والكتابة، أم كان معهم أثناء تلك الرحلات التجارية؟! ألم يعلم أحد من قومه ممن كان يرتحل معه للتجارة بهذا الأمر – ولو مصادفة – أثناء تلك الرحلات المتكررة كما يزعمون؟!
إن التجارة لا ترتبط بالقر