تعزيز اليقين وهداية الحيران

شبهات حول الحياة بعد الموت

الرئيسية / بنك المعلومات / شبهات حول الحياة بعد الموت

الكتب

لا يوجد محتوى للكتب في هذا القسم حاليا.

المرئيات

تشغيل الفيديو

أيعقل أن تكون الجنة للمسلمين فقط؟

تشغيل الفيديو

الكافر الذي قدم خدمات للإنسانية

تشغيل الفيديو

خلود الكافر في النار

تشغيل الفيديو

كيف يدخل الكافر الذي قدم خدمات للبشرية في النار؟

تشغيل الفيديو

ما هو مصير أبناء الكفار الذين لم يبلغوا سن التكليف

تشغيل الفيديو

ماذا بعد الموت!

تشغيل الفيديو

لماذا يدخل النار من بلغه الإسلام مشوها

تشغيل الفيديو

دليل علمي مباشر على الحياة بعد الموت

تشغيل الفيديو

ماذا بعد الموت؟

المقالات

الزعم أن التوبة والغفران لا قيمة لهما إذا كانت جهنم موعدا للناس أجمعين

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أنه لا قيمة للتوبة والغفران ما دام مصير الناس إلى جهنم كما ورد في القرآن: )وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43)( (الحجر) وإذا كانت طائفة واحدة من الطوائف الإسلامية هي التي ستخلص كما في الحديث «إلا واحدة» أفلا يكفي هذا لإثارة خوف سائر المسلمين من مصيرهم المحتوم؟! ويظنون أن ذلك مبعث قلق وخوف يكدران حياة المسلم ويفسدانها.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  من مقررات العقيدة الإسلامية أن النار إنما هي مثوى وجزاء للكافرين وحدهم، لا يخلد فيها غيرهم.

2)  الآيات والأحاديث التي تعلق هؤلاء بها لا تشهد لدعواهم، والتفسير الصحيح يصوب أغاليطهم في ذلك.

3)  طريقة القرآن في الوعد والوعيد تحدث توازنا في نفسية المسلم، فلا تذهب إلى إفراط أو تغليب للخوف أو للرجاء.

التفصيل:

أولا. النار مثوى الكافرين:

إن النار مثوى الأشرار من الكفار، وليست مثوى كل الناس كما توهم الجاهلون، فهي دار الذين عصوا ربهم بعدما أمرهم بطاعته، ولم يتوبوا إليه ويستغفروه، قال الله عز وجل: )والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحـا فأولئـك يبـدل الله سيئاتهـم حسنات وكان الله غفــورا رحيمـا (70) ومن تاب وعمل صالحــا فإنه يتــوب إلى الله متابــا (71)( (الفرقان). وهي دار أعداء الله – عز وجل – قال تعالى: )ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19)( (فصلت)، وتنكيلا بهم يحشرون إلى النار على وجوههم: )الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا (34)( (الفرقان).

ويزاد التنكيل بهم فيحشرون عميا لا يرون، وبكما لا يتكلمون، وصما لا يسمعون: )ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97)( (الإسراء)، ويزيد بلاؤهم فيحشرون مع آلهتهم الباطلة وأعوانهم وأتباعهم )احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبـــدون (22) من دون الله فاهدوهــم إلى صـــراط الجحيــــم (23)( (الصافات)، والنار مثوى المتكبرين: )فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29)( (النحل)، ومن تمام عدل الله، وحكمته – سبحانه وتعالى – أنه لا يأخذ أحدا جزافا من هذه الجموع التي لا تحصى والتي أحصاها الله فردا فردا، وإنما يعلم من هم أولى بها صليا، قال تعالى: )ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا (70)( (مريم) [1].

ثانيا. المفهوم الصحيح للآيات التي استدلوا بها:

إن مفهوم الآيات ليس كما زعموا، ولو تدبروا الآيات التي وردت في هذا الباب – ورود النار – ما احتجوا بها لو كانوا يعقلون، وعلى فرض صحه ما ادعوه وما فهموه؛ فإن ذلك يكون على سبيل الخوف والرجاء، من العبد لربه، وقد غيرت هذه الآية أحوال الصالحين، فأسهرت ليلهم وعكرت عليهم صفو العيش، وحرمتهم الضحك والتمتع بالشهوات[2].

وما فعلوا ذلك إلا لأنهم أساءوا الظن بالنفس حتى تأتي ما هو خير وتترك ما هو شر، ومعنى قوله تعالى: )وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)( (مريم)، وهذا معناه أن ورود جميع الناس النار لا يعني تعذيبهم فيها، وإنما معناه مرورهم على الصراط الممدود على ظهر جهنم، فيقع فيها الظالمون حين يمرون على الصراط، وينجو المتقون – حسب أعمالهم – ويجوزون على الصراط، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم كالفارس، وهكذا كل حسب عمله[3].

وفي مرور المتقين على النار دون عذاب، ثم نجاتهم منها فيه معرفة مقدار رحمة الله بهم وتفضله عليهم، فقد رأوا العذاب بأعينهم ونجاهم الله منه، ثم أدخلهم جنته، فالنجاة من العذاب نعمة ورحمة، والدخول في الجنة نعمة ورحمة: )كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز( (آل عمران: 185).

وفي الصحيح أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد! الذين بايعوا تحتها قالت: بلى، يا رسول الله، فانتهرها، فقالت: حفصة: )وإن منكم إلا واردها( (مريم: ٧١)؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: )ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)( (مريم)» [4]، وأشار – صلى الله عليه وسلم – إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال نجاه الله منهم.

ولهذا قال الله تعالى: )فلما جاء أمرنا نجينا صالحا( (هود: ٦٦)، )ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا( (هود: ٩5)، ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الواردين على النار، يمرون فوقها على الصراط ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا.

صفوة القول: أن الورود على النار ورودان:

الأول: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك فيه، كما قال تعالى في شأن فرعون: )يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98)( (هود)، أي: بئس المدخل المدخول.

الثانى: ورود الموحدين، أي مرورهم على الصراط[5].

 وأما آية الحجر التي استدل بها الكاتب على أن جميع الناس يدخلون جهنم أبرارهم وأشرارهم فلا تدل – كما فهم – على ذلك، بل الضمير في قوله: )لموعدهم( (الحجر: 43) يعود على الغاوين الذين تبعوا إبليس. وهم المذكورون في الآية التي قبلها )إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)( (الحجر) ثم قال سبحانه: )وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43)( (الحجر) أي موعد هؤلاء الغاوين أجمعين، بدليل أنه قال بعد ذلك: )إن المتقيـن في جنـات وعيــون (45) ادخلوهـــا بســلام آمنيــن (46) ونزعنـا ما في صدورهـم مـن غل إخوانـــا على سرر متقابليـن (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48)( (الحجر).

وأما الحديث الذي أشار إليه الكاتب من أن طائفة واحدة من المسلمين هي التي تنجو من النار، وبقية طوائف المسلمين في النار، وأن ذلك مما يبعث على الخوف في نظره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»[6].

والحديث ضعفه بعض أهل العلم وصححه آخرون، وعلى فرض صحته، فإن الحديث ينبه إلى أن أصحاب الأهواء سيدسون في هذه الأمة فيفرقونها، كما حدث في الأمم السابقة، بل ما سيحدث في هذه الأمة من التفرق أكثر؛ نظرا لعمومها جميع الأمم والشعوب وخلودها على مر الزمن، فالتفرق واتباع الأهواء في داخلها كثير.

فالحديث ينبه إلى المنجي والمخرج من هذه الأهواء ويدل عليه، ألا وهو اتباع نهج النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم – وفي ذلك توعية وحض لها على التمسك بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه؛ ففيهما النجاة في الدنيا والآخرة.

ثالثا. الإسلام يبشر أهله ومتبعيه بالجنة وحسن المآب دائما:

إن الإسلام لا يقنط أهله من رحمه الله، وهو وإن خوفهم من النار وما فيها فإنما يريد أن يسلك بهم برا آمنا وطريقا غير طريق النار، وهذه رحمة أخرى، فلله الحمد على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.

والآيات التي تدل على ذلك أكثر من أن تحصى، من ذلك قوله تعالـى: )ألا إن أوليـاء الله لا خـوف عليهـم ولا هـم يحزنــــون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)( (يونس). وقال تعالى: )وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم( (يونس: 2)، وقال عز وجل: )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32)( (فصلت).

فليس في حياة المسلم بعد هذه البشريات – وما أكثرها في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خوف ولا حيرة كما يزعم المدعون[7].

الفرق بين حياة المسلم وحياة غير المسلم:

 حياة المسلم – وإن قدر عليه في الدنيا كان أقل الناس عبادة لله – هي خير وأعظم من حياة أحسن الناس في غير الإسلام؛ لأن بالإسلام والقرآن تطمئن النفس، ويهدأ البال، ويرضى كل واحد بما قسمه الله له، والحياة بعيدا عن الإسلام كلها نكد وكدر، وهذا ما يفسره لنا كثرة الانتحار في الحضارة الغربية المادية، فهؤلاء قد يئسوا من حياتهم، وليس لهم غاية يرجونها إلا التمتع بالدنيا، وحياة المسلم كلها خير، فإن أصابه خير شكر فهو خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – وسر سعادة المسلم أنه يؤمن بإله واحد – وهو الله – عز وجل – وأنه الذي خلقه, وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

وإن القرآن الكريم ليرسم صورة فاتنة للكون كله، فيها كل شىء عابد، وكل كائن خاشع وقانت، وهو بذلك يستميل الإنسان للتجاوب مع الكون من حوله، وهذا الشعور وحده يكسب في النفس طمأنينة وسكينة لا تحس بها نفس الكافر الذي يبدو كأنه نشاز في كون متناسق، أو نبت مقطوع الأصول لا امتداد له ولا ثبات.

الخلاصة:

القرآن الكريم حافل بالآيات التي تعد المؤمنين الجنة وتوعد الكافرين بالنار، ولا يذهب أحد من المسلمين على تسوية المؤمن بالكافر في هذا، ومرجع هذا الزعم الفهم الخاطئ لطائفة من الآيات أفاض مفسرو المسلمين في شرحها وبيان حقيقة معناها.

حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – في نجاة فرقة واحدة لا يفيد أن سواها خالد في النار، بل هم كسائر من يخالفون سنته – صلى الله عليه وسلم – يعذبون بمقدار مخالفتهم، ثم يدخلون الجنة، على أن تنويه النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك إنما هو هداية وإرشاد، ومن كمال تبليغه صلى الله عليه وسلم.

فكرة الإسلام عن الوعد والوعيد، والموازنة القرآنية المترددة في شأن نعيم الأبرار وعذاب الفجار، كل ذلك مما ينعكس في حياة المسلم هدوءا واستقرارا، وينعكس في حياة غيره ضنكا وشقاء يظهران في شعور القلق والاضطراب النفسي، وفي الجرائم والشذوذ والإدمان، على نحو ما يرى في المجتمعات الغربية.

 

(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.

[1]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، 1426هـ/ 2005م، ص259، 260.

[2]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، 1426هـ/ 2005م، ص261.

[3]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ/ 1980م، ج3، ص132.

[4]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم (6560).

[5]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، 1426هـ/ 2005م، ص268.

[6]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8377)، وأبو داود في سننه، كتاب السنة، باب شرح السنة (4598)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (203).

[7]. مقدمة الفرق بين الفرق، محيي الدين عبد الحميد، وذكرت بعض هذه الروايات في: الفرق بين الفرق،عبد القاهر بن طاهر البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص21: 23.

المصدر

الزعم أن تعذيب العصاة يوم القيامة ينافي الرحمة الإلهية

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغالطين أن ما قرره الإسلام في أمر العصاة من عذاب يوم القيامة إنما يتنافى مع ما يتصور في جناب الألوهية من رحمة ورأفة، وأن ترتيب عذاب الخلد للكافرين على ذنب محدود الزمان في الدنيا هو أدنى إلى التساؤل عن رحمة الله – عز وجل – بعباده.

وجها إبطال الشبهة:

1) لا يدخل أحد الجنة بعمله، بل بفضل من الله – عز وجل – ولا يدخل أحد النار إلا بعمله وجزاء ما كسبت يداه في الدنيا.

2)  مبدأ الثواب والعقاب عام في التصورات الدينية، وعام كذلك في النظم التربوية والاجتماعية.

التفصيل:

أولا. فضل الله – عز وجل – في الجزاء على العمل:

إن الله خلق الإنسان لعبادته – عز وجل – وخلق للإنسان كل شىء، فلا ينبغي للإنسان أن يشغل بما خلق له عما خلق من أجله، قال سبحانه وتعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات).

فمهمة الإنسان وغاية وجوده عبادة الله – سبحانه وتعالى – فإن تشاغل الإنسان عنها حق عليه العذاب.

ونعيم المتقين في الجنة فضل من الله – عز وجل – وليس حقا عليه، ولا بسبب أعمالهم، روى أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: لا ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا»[1].

حتى الرسول – صلى الله عليه وسلم – لن يدخل الجنة بعمله، إلا أن يتغمده الله برحمته، فالنعيم من الله فضل، والعذاب منه عدل، والإنسان ملك لله تعالى فإن شاء عذبه، وإن شاء رحمه.

وليس معنى ذلك اتصاف الله بالعبثية، فقد أرسل إلى البشر الأنبياء والمرسلين؛ ليوضحوا للبشرية طريق الهداية: )لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( (النساء:165)، وذلك بعد أخذ الميثاق الأول )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى( (الأعراف: 172).

فمن زاغ عن السبيل الصحيحة الواضحة، أو عاند واستكبر كان العذاب له حقا، وكانت النار له عدلا، ومبدأ الثواب والعقاب مبدأ طبيعي للغاية، أليست الدولة تضع ذلك المبدأ لمواطنيها؟ أليست الأم تضع عقابا لأبنائها الصغار حتى يفرقوا بين الصواب من الخطأ؟ إذن فوجود المبدأ (الثواب والعقاب) في حد ذاته ضمان لعدم انحراف حرية الاختيار، ولهذا لا يمكن أن نجد ثوابا وعقابا على أمر لا اختيار فيه، وما دام الإنسان مختارا فلا بد أن يتحمل نتيجة اختياره.

إذن، فوجود مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري للغاية مع وجود الاختيار، ما دام الإنسان مختارا لأن يفعل أو لا يفعل، فلا بد إذن من وجود الثواب والعقاب، وإلا فسدت حرية الفعل.

ثانيا. العدالة الحقة تقتضي أن يكون هناك حساب وجزاء:

والمراد بالحساب والجزاء، أن يقف كل إنسان منا أمام الحق – عز وجل – فيعرفه بأعماله التي عملها، وأقواله التي قالها، وما كان عليه في حياته الدنيا من إيمان أو كفر، واستقامة أو انحراف، وطاعة أو عصيان، وما يستحقه على ما قدم من إثابة وعقوبة، وأخذ للكتاب باليمين، إن كان صالحا وبالشمال إن غلبت عليه شقوته.

إن العدالة الحقة لا تكون في هذه الدنيا، فكيف يأخذ الضعيف حقه؟

إن الإنسان المستقيم في حياته، كأنه في سجن مظلم، والإنسان المجرم يفسق ويعربد في هذه الحياة، ويتلذذ ويتمتع، كما قال تعالى: )والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12)( (محمد)، )أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (44)( (الفرقان).

فأين تكون متعة المستقيم؟ إن الآخرة تصويب للأوضاع، ورد للاعتبار، وتحقيق للعدالة، والله – عز وجل – يختبر الناس بتأخيرالفصل بينهم، هذا الغبن جزء من نظام الدنيا، وهو من امتحاناتها الصعبة، ولا بد من أخذه في الاعتبار، ولذلك جاء في الحديث القدسي، في إجابة دعوة المظلوم «وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»[2]. فتبارك الله: )الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا( (الملك: 2).

إن العبد الذي سعى لتحقيق الغاية التي خلق من أجلها عبادة الله لا يستوي، ولا ينبغي أن يستوي، مع العبد الذي أفرط على نفسه في العصيان، فضلا عن أن يتساوى مع المجرم الذي أنكر وجود الله – مثلا – أو أشرك مع الله غيره، أو جحد فرضا من فروض الله تعالى.

ولذا فإن الله تعالى قال في الحديث القدسي: «وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة»[3]. )فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)( (النازعات). فمن خاف الله في الدنيا، فامتثل أوامره واجتنب نواهيه كان من الآمنين يوم القيامة، ومن عصى الله وأمن عقابه في الدنيا خوفه الله يوم القيامة.

فأين العدل؟ هل هو في تصوركم أم في التصور الإسلامي الحق؟

إن الله قد جعل الدنيا دار عمل وابتلاء، والآخرة دار حساب وجزاء؛ فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن عمل مثقال ذرة من شر سيجدها.

هذا ما يحكم به المنطق والعدل والحق، فلماذا تعجبون أيها المتوهمون، من تعذيب الكافرين أو المجرمين بالنار؟ إن هذا ما جنوه لأنفسهــم: )ذلك بمــا قدمـت يـداك وأن الله ليــس بظــلام للعبيــــد (10)( (الحج). وقد أخبر الله عن عدله المطلق؛ فلا تظلم نفس شيئا، قال تعالى: )ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)( (الأنبياء).

وأما أهل التوحيد والإيمان الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فإن عدل الله يقتضي أن يعذبهم بمقدار ذنوبهم، ثم يئول أمرهم إلى النعيم المقيم، جزاء إيمانهم وطاعتهم وعملهم الصالح، ومع ذلك فأمرهم مفوض إلى الله، فقد يخفف عنهم العذاب، وقد يتجاوز عنهم فلا يعذبهم: )وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم( (التوبة: 102)، ذلك ومن أراد الدنيا أعطاه الله منها ما أراده له، ومن أراد الآخرة، وسعى لها سعيها، وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكورا: )من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهــؤلاء من عطـــاء ربــك ومــا كـان عطــاء ربــك محظــــورا (20)( (الإسراء).

الخلاصة:

الله أرحم بالناس من الأم بولدها، ولكنه يعذب من استحق العذاب حتى لا تتحول الدنيا غابة للوحوش يأكل القوى فيها الضعيف.

إنه لا يدخل الجنة أحد بعمله، فالنعيم فضل من الله يمتن به على المؤمنين، والعذاب عدل من الله يعاقب به الظالمين الغاشمين.

من أشد أنواع الظلم ظلم النفس، ومنه الشرك بالله: )يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم( (لقمان) ومن الظلم الرغبة عن دين الله، كما فعلت قريش مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو التبديل والتحريف في كتبه – عز وجل – المنزلة كما فعلت اليهود والنصارى.

الحياة الدنيا ليست محلا للعدل والجزاء، فلا بد من الآخرة لتصحيح الأوضاع وتحقيق العدل والجزاء.

 (*) النظر في الأدلة العقلية حول إثبات الذات الإلهية. Nadyelfiker. net

[1]. أخرجـــه البخـــاري في صحيحــه، كتــاب المرضـى، بــاب نهـي تمنـي المريـــض الـمـوت (5349)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (7291).

[2]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8030)، والترمذي في سننه، كتاب صفة الجنة، باب صفة الجنة ونعيمها (2526)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[3]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حسن الظن بالله تعالى (640)، والبيهقي في شعب الإيمان (1/ 482) برقم (777)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2666).

المصدر

الطعن في حديث “يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح”

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المشككين في الحديث الثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والذي فيه: «أن الموت يؤتى به يوم القيامة على هيئة كبش أملح، ثم يذبح بين الجنة والنار».

مستدلين على ذلك بأن هذا الحديث يخالف صريح العقل؛ لأن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما، فكيف يذبح؟!!

هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في هذا الحديث، والادعاء بأنه يخالف العقل، ومن ثم التشكيك في السنة.

وجه إبطال الشبهة:

إن حديث «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح…» حديث صحيح متفق على صحته، بل له شواهد ومتابعات في كتب السنة الأخرى، وما أخبر عنه فهو من الغيبيات التي أخبر بها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي مما يجب التصديق بها، سواء أقبلها العقل؛ أم عجز عن إدراكها، وما يحتويه هذا الحديث ليس بمستغرب عن العقول، فإن العقل له حدود لا يتخطاها، والعقل نفسه الذي يعترض به على هذا الحديث هل يستطيع أن يدرك نفسه؟ أو يدرك الروح التي تسري في الجسد؟ وحياتنا كلها مليئة بهذه الأشياء التي لا يدركها العقل، مثل الكهرباء، فهل يستبعد أن يحول الله المعاني إلى مواد فيجعل الموت على هيئة كبش ويذبح؟!.

التفصيل:

نظرا لسوء فهم بعض الناس، فإنهم عارضوا أحاديث الغيب بعقولهم، والمتأمل الحصيف يعلم أن لعقله حدودا، كما أن للحواس ذاتها حدودا، فمن حكم عقله فيما لا مجال للعقل فيه، فقد برئت منه الإنسانية المفطورة على عجز الإنسان أمام قوانين الغيب، وإن الفلاسفة لما بحثوا في الكون مثلوا الحقيقة الكبرى بجماعة يجلسون في بيت، ثم طرق بابه، فتخيل كل واحد من الجالسين حقيقة معينة وصفة مميزة لهذا الطارق، إلا أنهم اتفقوا اتفاقا تلقائيا أن هناك طارقا، ولله المثل الأعلى.

 لقد اتفق جل العقلاء على وجود خالق إلا أنهم اختلفوا في حقيقته، فمن أجل أن يخفف الله عن العقل البشري القاصر أرسل الرسل فعرفتهم بحقيقة الخالق، وذلك بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلا، فإذا آمنا بالله – عز وجل – وهو (الغيب الأول)، فيجب أن نؤمن بكل غيب أخبر به الله ورسوله على هذه الصورة من الإيمان بالغيب.

ومن تلك الغيبيات الواقعة في يوم القيامة حادثة ذبح الموت بين الجنة والنار؛ ليراه أهلهما، ويعلن الخلود في كلتيهما.

وهؤلاء زعموا أن مثل هذا شيء فوق العقل، وهو أن يحول الله الموت – وهو معنى – إلى مادة لكي يجرى عليه الذبح، وعلى هذا يكون ذلك مستحيلا؛ لعدم موافقته صريح العقل.

ونحن نقول لهم: إن هذا الحديث صحيح متفق عليه، لم يطعن فيه بأية شبهة سندا ولا متنا بين نقاد الحديث.

فعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت – وكلهم قد رآه – ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت، وكلهم قد رآه. فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود فلا موت. ويا أهل النار، خلود فلا موت. ثم قرأ: )وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39)( (مريم)» [1].

وباتفاق الشيخين على هذا الحديث فهو صحيح في أعلى درجات الصحة سندا ومتنا، ومع ذلك فقد رواه غيرهما من المحدثين، مما يعضد رواية الشيخين له؛ فقد رواه الترمذي[2]، وأحمد[3]، وأبو يعلى[4]، وابن حبان[5]،والبغوي، والآجري، وعبد بن حميد بطرق مختلفة وألفاظ متنوعة يعضد بعضها بعضا، ويعضد الكل رواية الشيخين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – وبهذا فالحديث صحيح في أعلى درجات الصحة. هذا من ناحية ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما من ناحية ما اشتمل عليه الحديث من ذبح الموت، فإنه من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله، ولذا لابد من الانقياد والتسليم لكل ما جاء به الله – عز وجل – فإن أول صفة وصف الله – عز وجل – بها عباده المتقين في القرآن هي الإيمان بالغيب، فقال – عز وجل – عن كتابه: )هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب( (البقرة)، وأركان الإيمان – كما وضحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم – هي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والإيمان باليوم الآخر من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله – عز وجل – وأمور الغيب من الأشياء التي أخفاها الله عن كل الناس، فلم يطلع عليها لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فما علينا إلا تمام الإقرار والتصديق، والإذعان والاستسلام والخضوع، لما جاء به الله – عز وجل – أو بلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الله عز وجل: )إن الله عنده علم الساعة( (لقمان: ٣٤)، وعلم الساعة يقصد به يوم القيامة ووقت قيامها، وما سيحدث فيها من معجزات وخوارق لطاقة الإنسان العقلية والبدنية، فلقد أخبرنا رسول الله عن أشياء تحدث للإنسان، ولولا أنها ثابتة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية صحيحة، لعجز العقل أن يصدقها، ولكن كل شيء عنده بمقدار، وما ذلك على الله بعزيز.

إن يوم القيامة مليء بالمعجزات وخوارق العادات التي لا تعد ولا تحصى، وكلها ثابتة بالقرآن والسنة، ومنها: أن يكون الإنسان طوله ستون ذراعا، وأن يكون ضرس الكافر مثل جبل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، وما بين منكبيه مسيرة ثلاث، وأن يمشي على وجهه، وعندما سئل النبي عن ذلك، أخبرهم بأن الله – عز وجل – الذي أمشاه على قدمه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة، فالله – عز وجل – لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والأمر كله بيده، ومتوقف على قدرته، وليس لنا أن نحكم عقولنا فيما دبره الله – عز وجل – فهو لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.

يقول د. محمد السيد الجليند: “لقد أنكر المعاندون للوحي قضية البعث واليوم الآخر جملة وتفصيلا، وكان الحوار حولها مع أنبيائه ورسله إحدى محارات العقول، كما كان إحدى مثارات الشبه والشكوك، ولقد لخص القرآن موقف المنكرين للبعث في آيات كثيرة، جاءت في صيغ متنوعة، وبأسلوب استفهامي متعدد، تتفاوت دلالته بين الإنكار والرفض أحيانا”[6]، وكذلك موقف المنكرين لليوم الآخر وما يحدث فيه، ملخص في أقوالهم الباطلة التي أوردها القرآن والسنة أيضا، فالقرآن والسنة أتيا بمحارات العقول، ولم يأتيا بمحالاتها، أي: أتيا بما يحير العقل، ولا يستطيع الإنسان إدراكه، إلا إذا أنعم الله عليه بنعمة التصديق التي تقر في قلبه، ثم يصدقه عمله بعد ذلك، ولم يأتيا بما يستحيل على العقل فهمه من الأشياء المحالة الفهم.

وإذا علمنا أن الوحيين قد يأتيان بما يحير العقل، عرفنا أن للعقل حدوده وإمكانياته، بل ومجالاته التي لا يمكنه – بل لا يجوز له – تجاوزها، فلا يجوز للعقل الاعتراض على شيء ثابت في القرآن والسنة، ثم يدعي مدع أن هذا الذي جاء به القرآن، أو جاءت به السنة يخالف العقل؛ لأن القاعدة المعروفة عندنا أن صريح المعقول موافق لصحيح المنقول، وأن العقل الصحيح السليم لا يخالف النقل الصحيح ألبتة، وقد كفانا الإمام ابن تيمية هذا المجال في مصنفه الثمين «درء تعارض العقل والنقل”.

وخلاصة القول: أنه لا يجوز للعقل التعدي إلى أشياء قد كفاه النقل إثباتها.

ولما كان العقل له حدوده التي يجب الوقوف عندها، كان لابد له من مطلب أساسي للمعرفة بعالم الغيب، ألا وهو اليقين، وفي هذا يقول د. الجليند: “واليقين هنا مطلب أساسي لهذا اللون من المعرفة بعالم الغيب؛ لأن العقل يتخيل أمورا وعوالم كثيرة، لا نصيب لها من الواقع، والخيال العلمي له دوره المعرفي في عالم الشهادة، ولا سبيل إلى إنكاره، لكي ينبغي أن نعرف هنا أنه لما غابت الحواس عن العقل تخلف عنه العلم اليقيني بعالم المحسوسات؛ لأن روافد المعرفة الحسية أصبحت مفقودة بالنسبة له، فانتقل المستوى المعرفي للشخص من اليقين إلى التخيل. هذا في عالم الشهادة، أما في عالم الغيب، فإن الأمر يختلف تماما عن ذلك؛ لأن الحواس لا تناله أصلا، ولا سبيل لها إليه، وبالتالي فإن روافد العقل التي تزوده بالمعرفة بعالم الغيب مفقودة، والتخيل العقلي هنا ليس مطلوبا؛ لأن مطلوب المعرفة هنا هو اليقين الجازم الذي لا مجال فيه للتخيل”[7].

ومن الملاحظ أن كل المعارف الحسية المتنوعة ترتبط بالواقع الحسي، وتبدأ منه وتعود إليه بسبب ما، أما المعارف العقلية الخالصة، فلا علاقة لها بالمحسوسات أصلا، لا بدءا ولا نهاية، وإنما هي إدراك عقلي عن الحسيات ولواحقها.

ولكن هناك لون آخر من المعرفة يتعلق بما وراء المحسوسات، يتعلق بعالم الغيب، وليس التعرف على هذا العالم معزولا عن العقل، ولا منقطع الأسباب بالعالم الحسي، كما يخيل للبعض أن يزعم ذلك، ولكنه يختلف عن منهجه في التعرف علي عالم المحسوسات أو عالم الشهادة.

إن الخلاف فقط خلاف في المنهج والوسائل، وإذا أحسن الباحث توظيف المنهج العلمي في التعرف على عالم الشهادة، والتعرف على وظيفة هذا العالم، وأهداف وجوده ومقاصده، والغاية الإلهية من وجوده، فإن ذلك يقوده بالضرورة إلى التعرف إلى عالم الغيب وقضاياه.

ويوضح لنا د.الجليند – أيضا – أهمية الوحي في اليقين بهذا الغيب، فيقول: ولما كان هذا العلم عزيز المنال على كثير من العقول، صعب التحصيل؛ لكثرة ارتباط العقل بالمحسوسات، كان دور الوحي في التعرف عليه مهما وضروريا؛ ليقود العقل إلى ما غاب عنه؛ وليقرب إليه ما بعد عنه؛ وليكشف له عما وراء حجب المحسوسات، وليست حاجة العقل إلى الوحي هنا تعني الطعن في العقل أو التقليل من شأنه، كما يحاول البعض أن يصور القضية، وكأنها صراع بين العقل والوحي، لا؛ إن القضية ليست طعنا في العقل، ولا تهوينا من شأنه، إنها فقط توزيع وظائف، إنها أشبه بوضع كل أداة من أدوات المعرفة في مكانها المناسب لها، ومحاولة الإفادة منها في مكانها، وبوضعها الطبيعي المخلوقة من أجله[8].

وهكذا يوضح لنا فضيلة الدكتور أن لكل شيء مهمته ووظيفته، فالعقل له وظيفته في عالم الشهادة والمحسوسات، والوحي له وظيفته في عالم الغيب، فعالم الشهادة هو المقابل الشرعي للعالم الحسي والمحسوسات لدى علماء المناهج أو المعرفة الحسية.

 فالمريض لا يسوغ له أن يمتنع عن تناول الدواء الذي وصفه الطبيب بدعوى أنه لم يجربه قبل ذلك بنفسه، والأعمى لا يسوغ له أن ينكر ضوء الشمس بحجة أنه لم يره بنفسه، وهكذا يتواتر العلم لدى العامة والخاصة بكل ما ثبت صدقه مما جربه غيرنا، ولم تدركه حواسنا، وأصبح العلم به والعمل بمقتضاه لازما لنا لزوم ما جربناه بأنفسنا وأدركناه بحواسنا، ولا فرق في ذلك بين ما جربه الشخص بحواسه، وما جربه غيره، فالأخذ بكل منها ضرورة عقلية كمصدر من مصادر المعرفة.

ومما ينبغي أن يعلم أن هناك أمورا كثيرة يقتصر العلم بها على مجرد الإخبار عنها فقط؛ لأن الحواس لا تنالها بسبب غيابها عن الحواس، وليس لنا طريق إلى العلم بها إلا الخبر المتواتر، وهذا يشمل علمنا بتاريخ الإنسانية كله، فإنه لم ينقل إلينا إلا عن هذا الطريق، ومن العبث إنكار تاريخ الأمم الماضية بدعوى عدم التجريب أو عدم السماع به[9].

وقياسا على الكلام السابق، فإن هناك أشياء لا تستطيع الحواس أن تدركها أو تصدقها بسبب غيابها عنها، ومن هذه الأشياء الإتيان بالموت يوم القيامة على هيئة كبش أملح وذبحه.

ومن الأشياء التي يحسها الإنسان ويدركها ويراها بعينه، لكنه لا يستطيع تفسيرها، ولا يعرف حقيقتها الموت، فالإنسان يرى الموت أمامه كل يوم، لكنه لا يستطيع أن يفسر حقيقة الروح وكيفية خروجها، فجسم الميت أمامنا كجسم الحي، ترى ماذا ينقصه؟! إنه لا ينقصه شيء، لكنها الحقيقة التي أخفاها الله – عز وجل – عن أعيننا وعن عقولنا فقال: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي( (الإسراء: ٨٥)، فما علينا إلا الإيمان والتصديق، وكذلك من الأشياء التي نستخدمها في حياتنا، وهي مباحة لنا: استخدام الكهرباء، فأنت ترى المصباح مضيئا، وتراه مظلما، فما حقيقة هذا الضوء؟ إنها الكهرباء، فأنا أسألك هل رأيتها؟ بالطبع لا، هل تعرف كيف تسير؟ هل رأيت سيرها؟ بل أين عقلك هذا الذي تفكر به؟ هل تستطيع أن تمسكه بيدك؟!!

وخلاصة الكلام: أن للعقل حدودا لا يحق له أن يتخطاها قيد أنملة، وما عليه في هذه الحالة إلا أن يصدق ويوقن، ويؤمن إيمانا جازما راسخا لا شك فيه، حاله )سمعنا وأطعنا( (البقرة: 285) و )آمنا به كل من عند ربنا( (آل عمران: 7)؛ لأننا إذا أطلقنا لعقلنا العنان، فإننا نستنكر أشياء أقرها الإسلام، ونحرم على أنفسنا أشياء أحلها لنا الإسلام، والكلام السابق ما كان إلا مقدمة لإثبات أن حديث إتيان الموت على هيئة كبش يوم القيامة ليذبح من أحاديث الغيب التي تتعلق باليوم الآخر، والتي يجب الإيمان بها، وإن خالفت العقل، فالعقل له حدوده ومجالاته.

وقد ذكر الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع هذا الحديث تحت عنوان “مخالفة العقل” في مبحث التعليل بالمخالفة، فقال عن الحديث: “إنما يوجد في بعض الحديث ما لم تستوعب بعض العقول فهمه، تارة للجهل، وتارة للهوى، والبدعة، وبغض السنن، ووقع مثل ذلك عن طوائف من الناس ردوا بمحض العقول نصوصا تتصل بالغيب، كبعض نصوص الصفات واليوم الآخر، مما لم تنفرد به السنة الصحيحة، وإنما له في القرآن نظائر، وهذا مما لا يجوز أن يكون العقل فيه حاكما على النص… والذي ألجأ إلى ظن مخالفة صريح العقل قياس الغيب على الشهادة، وأمر الآخر غيب، وقص علينا ربنا تبارك وتعالى من شأنه، وكذلك نبيه – صلى الله عليه وسلم – ما لا يأتي على القياس، ولا تتصوره العقول، والله تعالى يخلق ما يشاء، ويحيل ما يشاء إلى ما يشاء، وليس في قدرته مستحيل، والوقف عند النص هو اللائق هنا دون التأويل، وهكذا في جميع ما تظن به العقول أنه لا يأتي على مقاييسها من أخبار الثقات المتقنين، فإن بابه كباب هذا الحديث، أو يكون وجهه خفي على مدعي معارضته للعقول”[10].

قال ابن حجر: ذكر مقاتل والكلبي في تفسيرهما لقوله عز وجل: )الذي خلق الموت والحياة( (الملك: ٢)، أن خلق الموت في صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي.

قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء، كما فدي ولد إبراهيم بالكبش، وفي (الأملح) إشارة إلى صفتي أهل الجنة والنار؛ لأن الأملح ما فيه بياض وسواد[11].

ونظرا لأن عقيدة أهل السنة تقر أن الموت مخلوق وذلك لقوله تعالى: )خلق الموت والحياة( (الملك: ٢)، فإنه يجوز تشبيه هذا المخلوق بأي شيء، وليس على الله ببعيد أن يجعله مثل الكبش، بل إن الله قادر على أن يجعله أقل من ذلك، وإنما جعله كبشا لعلة يعلمها الله عز وجل.

يقول ابن حجر: “قال القاضي أبو بكر بن العربي: استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل؛ لأن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما فكيف يذبح؟!! فأنكرت طائفة صحة الحديث ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا: هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه؛ لأنه الذي تولى قبض أرواحهم قلت – أي ابن حجر: وارتضى هذا بعض المتأخرين”[12].

أما قول الطائفة الأولى فمردود؛ لأن الحديث صحيح سندا ومتنا؛ فهو في أصح كتابين بعد كتاب الله – عز وجل – وقول الطائفة الثانية مردود أيضا؛ لأنه لا مجاز في الغيبيات، بل هي حقائق ثابتة بالقرآن والسنة، والراجح هو قول الطائفة الثالثة؛ لأن الموت حقيقة، والذبح حقيقة، والموت مخلوق، وليس ببعيد أن يأتي به الله على أي صورة شاء.

وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن قائل لم يعينه: “لا مانع أن ينشئ الله من الأعراض أجسادا يجعلها مادة لها، كما ثبت في صحيح مسلم في حديث: «إن البقرة وآل عمران تجيئان كأنهما غمامتان»[13]، ونحو ذلك من الأحاديث”[14].

ومن هذه الأحاديث أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتحميده وتهليله – يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل يذكرون بصاحبهن»[15]، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – كذلك في حديث عذاب القبر الطويل، حينما يتكلم العمل ويقول: «أنا عملك الصالح»، «أنا عملك الخبيث»[16].

ويقول الشيخ أحمد شاكر في الرد على مثل هذه الشبهة: “وكل هذا تكلف وتهجم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وليس لنا إلا أن نؤمن بما ورد كما ورد، لا ننكر ولا نتأول، والحديث صحيح، ثبت معناه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري، ومن حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن حبان، وعالم الغيب الذي وراء المادة لا تدركه العقول المقيدة بالأجسام في هذه الأرض، بل إن العقول عجزت عن إدراك حقائق المادة التي في متناول إدراكها، فما بالها تسمو إلى الحاكم على ما خرج من نطاق قدرتها ومن سلطانها؟! وها نحن أولاء في عصرنا ندرك تحويل المادة إلى قوة، وقد ندرك تحويل القوة إلى مادة، بالصناعة والعمل، من غير معرفة بحقيقة هذه ولا تلك، وما ندري ماذا يكون من بعد، إلا أن العقل الإنساني عاجز وقاصر، وما المادة والقوة والعرض والجوهر إلا اصطلاحات لتقريب الحقائق، فخير للإنسان أن يؤمن ويعمل صالحا، ثم يدع ما في الغيب لعالم الغيب؛ لعله ينجو يوم القيامة”[17].

إن الذي يتأمل هذا الحديث يجد فيه من الفوائد العقدية، والمعاني الباطنة ما يستحق الوقوف أمامها، فمن فوائده العقدية:

عدم فناء الجنة والنار.
إثبات الخلود في الجنة للمؤمنين، وفي النار للكافرين.
تسمية يوم القيامة يوم الحسرة؛ لتحسر الكافرين على تفريطهم في حق الله.
ذبح الموت دلالة على الخلود الأبدي، والذبح للموت نفسه، وليس لملك الموت. والقول أن الذبح لملك الموت هو من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله، والتأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل، وسببه إنما هو قلة الفهم عن مراد الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.

ومن المعاني الجيدة في هذا الحديث: أن الفناء والنعيم ضدان يؤثر الأول منهما على كمال الثاني، فكلما ظن المتنعم أو دار في خلده أن ما هو فيه من النعيم سوف يذهب وينقضي، آلمه ذلك ونغص عليه نعيمه، وكذلك المعذب إذا ظن أنه سيأتي عليه يوم ينتهي عذابه، فإن عذابه يهون، وصبره يعظم، ورجاءه يخفف ما هو فيه من ألم وشقاء.

وزيادة في نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين قضى الله بذبح الموت ذبحا حسيا أمام الجميع – أهل الجنة وأهل النار – وذلك ليدفع كل معاني الأمل من نفوس الكافرين في النجاة، وليقطع كل الظن في الفناء مما ينغص عيش أهل الجنة، ويذهب كمال نعيمهم، فيفرح أهل الجنة فرحا عظيما، ويشقى أهل النار شقاء مريعا، فلا نجاة لهم في حاضرهم، ولا نجاة لهم في مستقبلهم، فيعذبون حسيا بما هم فيه من العذاب، ويعذبون معنويا بانقطاع الرجاء من النجاة.

وخلاصة القول: أنه لا يصح لأي شخص أن يطلق لعقله العنان، وأن يجعله يتدخل فيما يعجز عنه، فعقل الإنسان قاصر لا شك في ذلك مهما أوتي من علم، فصدق الله العظيم؛ إذ يقول: )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)( (الإسراء: ٨٥)، كما يجب إلزام العقل بالوقوف عند حدود الله، وعدم تعديها، قال الله عز وجل: )تلك حدود الله فلا تعتدوها( (البقرة: ٢٢٩)، وبهذا يتبين عدم تعارض حديث إتيان الموت على صورة كبش أملح مع العقل الصحيح؛ لأنه كما قلنا: إن صريح المعقول يوافق صحيح المنقول، والحديث الذي تناولناه في أعلى درجات الصحة فهو متفق عليه، ونسأل الله عز وجل أن يعطينا عقولا صحيحة تعي ما يقال وما تسمع عن ربها – عز وجل – ورسولها صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة:

إن حديث إتيان الموت يوم القيامة على هيئة كبش أملح، ثم ذبحه أمام أهل الموقف، حديث صحيح متفق عليه سندا ومتنا، فهو في أعلى درجات الصحة؛ حيث إنه ورد في أصح كتابين – الصحيحين – بعد كتاب الله عز وجل.
حديث إتيان الموت على هيئة كبش من أحاديث اليوم الآخر، أي الغيبيات التي لا يجوز استخدام المجاز فيها، ولا العقل إلا إذا كان صحيحا، كما لا يجوز تأويلها إلا بمراد الله – عز وجل – ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذبح الموت يوم القيامة حقيقة، والمذبوح هو الموت، وليس ملك الموت كما يفهم بعض الناس خطأ، والموت مخلوق كما هو معلوم، وذبحه دليل على الخلود الأبدي.
إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، وهناك كثير من الأشياء الغائبة عنا لا نحسها ولا نلمسها، ومع ذلك لا ننكرها؛ لأننا لو أنكرناها لعشنا في ظلام وضلال، ومن ذلك: الروح، والعقل، والكهرباء، ولك أن تتخيل إذا أنكر المنكر وجود العقل ماذا سيحدث؟!
إن اليقين مطلب أساسي لمن يريد أن يبحث في عالم الغيب؛ وذلك لأن الوحي هو آلة هذا العالم الغيبي، أما عالم الشهادة فآلته الحواس والعقل يوافق ذلك ويقبله؛ لأنه يراه ويشاهده ويحسه.
إن كل ما على الأرض فان، ولن يبقى إلا وجه الله، وحتى يعلمنا أنه )كل شيء هالك إلا وجهه( (القصص: ٨٨)، ولذا فقد أمات الموت.
من رحمة الله – عز وجل – أنه أدام الجنة للمؤمنين، فلا تفنى أبدا، وأدام النار للكافرين فلا تفنى أبدا.
لقد سمى الله – عز وجل – يوم القيامة يوم الحسرة؛ وذلك لتحسر الكافرين على تفريطهم في حق الله عز وجل.
إن ذبح الموت ذبحا حسيا أمام أهل الجنة وأهل النار زيادة في نعيم المؤمنين، ونكاية في عذاب الكافرين، حتى لا يفكر المؤمن أن النعيم سينتهي، ولا يفكر الكافر أن العذاب سينتهي؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خلود فلا موت».

(*)كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط4، 1427هـ/ 2006م. تحرير علوم الحديث، عبدالله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ/ 2007م.

[1]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) وأنذرهم يوم الحسرة (، (8/ 282)، رقم (4730). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النـار يدخلهـا الجبـارون والجنـة يدخلهـا الضعفـاء، (9/ 3957)، رقم (7048).

[2]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة مريم، (8/ 478)، رقم (3366). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2523).

[3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما، (8/ 190)، رقم (5993). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[4]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، (5/ 278)، رقم (2898). وصححه حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى برقم (1175).

[5]. صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه، باب: صفة النار وأهلها، (16/ 515)، رقم (1175). وصححــه الأرنــؤوط في تعليقــه على صحيــح ابن حبــان برقــم (7474).

[6]. “الوحي والإنسان” قراءة معرفية، د. محمد السيد الجليند، دار قباء، القاهرة، 2002م، ص36.

[7] . الوحي والإنسان” قراءة معرفية، د. محمد السيد الجليند، دار قباء، القاهرة، 2002م، ص80.

[8]. الوحي والإنسان” قراءة معرفية، د. محمد السيد الجليند، دار قباء، القاهرة، 2002م، ص47،46 بتصرف.

[9]. الوحي والإنسان” قراءة معرفية، د. محمد السيد الجليند، دار قباء، القاهرة، 2002م، ص79،78 بتصرف.

[10]. تحرير علوم الحديث، عبدالله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ/ 2007م، (2/ 708، 709).

[11]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيـق: محـب الديـن الخطيـب وآخريـن، دار الريـان للتـراث، القاهـرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (11/ 427).

[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محـب الديـن الخطيـب وآخريـن، دار الريـان للتـراث، القاهـرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (11/ 428).

[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، (4/ 1394)، رقم (1843).

[14]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الديـن الخطيـب وآخريـن، دار الريـان للتـراث، القاهـرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (11/ 429)

[15]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير، رقم (18388). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير، رقم (18557). وقال الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح.

[17]. المسند، أحمد بن حنبل، تحقيق: أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1391هـ، 1971م، هامش (8/ 190، 191).

إنكار عقيدة البعث

مضمون الشبهة:

ينكر بعض الطاعنين إيمان المسلمين بعقيدة البعث؛ بحجة أنه لا يوجد دليل مادي واحد على صحتها، وينكرون طلاقة قدرة الله – عز وجل – على إحياء الإنسان بعد موته وفناء عظامه، ويستدلون على إنكارهم هذا بعدم وجود دليل مادي يهديهم إلى هذه العقيدة. ويرمون من وراء ذلك إلى التشكيك في ركن أساسي من أركان الإسلام.

وجوه إبطال الشبهة:

1) البعث أمر غيبي، وليس كل ما هو غيبي معدوما؛ ففيالكون بلايين الظواهر والكائنات التي لم تكن معروفة قبل حدوث التقدم العلمي، وبحدوثه علمها الإنسان، فهل كانت هذه الأشياء معدومة، ثم ظهرت؟

2) إن مبدأ العدالة الإنسانية في الإسلام يتنافى مع مبدأ نهاية الإنسان بمجرد موته، بلا ثواب ولا عقاب؛ لأن الحياة الدنيا ليست محلا للعدالة الحقيقية.

3) الموت لا يعدو كونه انتقالا من حياة فانية إلى حياة باقية يخلد فيها المرء، إما في جنة، وإما في نار؛ وذلك أن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف.

التفصيل:

أولا. ليس كل ما هو غيبي معدوما:

في الكون بلايين الأشياء أو الكائنات لم تكن معروفة قبل حدوث التقدم العلمي، وبالتقدم ظهرت للإنسان، فهل هذه الأشياء أو الكائنات كانت معدومة، ثم ظهرت؟ إن الماديين لا يعرفون للوصول إلى الحقيقة غير الحواس والمادة، سواء بتلك الحواس المباشرة، أو بالآلات العلمية المخترعة، والتي يتمكن بواسطتها الإنسان من إدراك الأشياء الدقيقة والبعيدة، مما تعجز الحواس المباشرة عن إدراكها.

ولكننا نقول لهؤلاء: ألم تكن هذه الأشياء الدقيقة، قبل حدوث هذا التقدم العلمي مجهولة بالنسبة للإنسان؟ ألم تكن هذه الأشياء غيبية؟! بلى كانت غيبية، فهل كان عدم العلم بها، أو عدم إدراكها دليلا على عدمها؟ كلا، ولكن عقل الإنسان قاصر، وحواسه بسيطة لا تدرك إلا ما في طاقتها، وهذه الأشياء فوق طاقة العقل، وقدرة الحواس.

وإن كنت لا تؤمن إلا بالمادة، فأين عقلك؟! إن آمنت أنه لا عقل لك؛ لأنك لا تدركه ولا تحسه، فأنت مجنون، وهذا ما يدرؤه كل إنسان عن نفسه.

إذن ليس كل ما هو غيبي معدوما، أو غير موجود؛ فكثير من الميكروبات – مثلا – التي نعرفها الآن بعد حدوث التقدم العلمي، والتكنولوجي، لم تكن معروفة من قبل؟ فهل كانت معدومة؟ إن المنكرين أنفسهم يتكونون من شيئين أساسيين، وهما الجسم والروح، فالجسم محسوس وملموس، ولكن الروح غير مدركة ولا محسوسة، فهل يستطيع هؤلاء المنكرون أن ينكروها؟

إن هؤلاء المشككين دائما ما يحاولون إخضاع الدار الآخرة، وبما فيها البعث، للمقاييس التجريبية، التي يخضع لها هذا الكون المادي، مع أن الدار الآخرة بطبيعتها لا تخضع لهذه المقاييس الدنيوية، وكأنهم في معملهم هذا، أشبه بمن يقيس الضغط الجوي[1] بميزان البقال، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة، أو يقيس مقدار الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسنتيمترات[2]!!

وحين نمعن النظر في الواقع والحقيقة، نجد أن الملحدين هم الذين يريدون أن يسيطروا على الكون وفق رغباتهم وأهوائهم؛ وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة إيمان بمحكمة العدل الرباني، وما تستتبع من جزاء، وفي هذه المحكمة العظمى يحاكم الناس، ويحاسبون على أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحل لها أن تتخلص من قانون الجزاء، حتى تنطلق في تلبية مطالب أهوائها وشهواتها، دون أن تقف في طريقها حدود ولا ضوابط، فقضية الإنكار: هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات، ولا تؤمن باليوم الآخر والحياة الآخرة، وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين، فقال سبحانه وتعالى: )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5) يسأل أيان يوم القيامة (6)( (القيامة) [3].

ثانيا. إن مبدأ العدالة الإنسانية الحقة ينافي مبدأ نهاية الإنسان بمجرد موته:

وعن انعدام تحقيق العدالة في الحياة الدنيا، يشير الشيخ الغزالي إلى هذا المعنى بقوله[4]: إن العدالة الحقة لا تتحقق في هذه الحياة الدنيا، فهناك سفلة تبوءوا القمم، وعباقرة توسدوا التراب، وقتلى أزهق المجرمون أرواحهم، وعادوا يضحكون أو يسكرون.

إن اثنين وسبعين ألفا من عرب فلسطين ومسلمي لبنان قتلوا في إحدى الحروب، فلنفرض أن الله جعل الدائرة للعرب وستكون إن شاء الله وارتدت الكرة بعد سنين طويلة أو قصيرة، سيكون هؤلاء المعتدون السفاحون قد ماتوا، وقد يعفى عن أبنائهم وأحفادهم – كما فعل صلاح الدين – وإن اقتص فسيقتص ممن لم يقترف جرما!!

إن القوانين الكونية لها منطق فوق ما نعرف، ولها ضحايا في حركتها الدائبة، يقول الشاعر:

وقالوا يعود الماء في النهر بعدما

ذوى بين جنبيه وجفت منابعه

فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا

ويعشب جنباه تـموت ضفادعه!!

“إن الوجود الإنساني كله عبر تاريخه الطويل، بهذا التصور المادي، يمسي مسرحية من مسرحيات العبث، ولو أن حياة الإنسان تنتهي كلها في ظروف هذه الحياة الدنيا، ثم لا شيء وراءها، فأين تحقيق قانون العدل الإلهي في ظروف هذه الحياة الدنيا؟

إن المنطق الحق، والضمير النقي ليشعر بداهة – ولو لم تنزل آيات الوعد، والوعيد، وأنباء اليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء – أن مرحلة حياتية غير هذه المرحلة لا بد منها لتحقيق العدالة، ولا بد أن يلاقي الناس فيها جزاء أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولئن كنا نشاهد أن بعض تطبيقات العدل الإلهي جارية في ظروف هذه الحياة الدنيا، ضمن سنن الله الثابتة، فإن الصورة الكاملة للعدل غير مستكملة في هذه الحياة، ولذلك كانت الضرورة الأخلاقية والإيمانية تقتضي أن هناك حياة أخرى؛ لإقامة العدل الحقيقي”[5].

إن البعث حق، والآخرة حق؛ لأنهما تصحيح لأوضاع، ورد لاعتبار، وتحقيق لعدل اختبر الله الناس بتأخيره إلى حين، هذا الحين جزء من نظام الدنيا، ومن امتحاناتها الصعبة، ولا بد من مراعاته؛ وذلك جاء في الحديث القدسي، في إجابة دعوة المظلوم: «وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين»[6] [7].

وقد تأمل كثير من أهل الفكر والنظر في ظروف هذه الحياة الدنيا، دون ملاحظة الآخرة، وما فيها من جزاء، فرأوا أن تاريخ الإنسان في هذه الحياة صورة للجرائم، والمصائب، وتهريج لا جدوى منه، وسجل للجرائم والحماقة وخيبة الأمل، وقصة لا تعني شيئا، وقد عبروا عن نتاج فكرهم ونظرهم، بأقوالهم الآتية:

قال فولتير: “إن التاريخ الإنساني ليس إلا صورة للجرائم والمصائب”.

قال هربرت سبنسر: “إن التاريخ تهريج، وكلام فارغ لا جدوى منه”.

قال واردجين: “إن تاريخ الإنسان لا يعدو أن يكون سجلا للجرائم، والحماقة، وخيبة الأمل”.

قال نابليون: “إن التاريخ بأكمله عنوان لقصة لا تعني شيئا”.

قال هيكل: “إن الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئا”.

هذا وقد علق المفكر الإسلامي وحيد الدين خان، بقوله: “هل قامت مسرحية العالم كله لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ إن فطرتنا تقول: لا.. فدواعي العدالة والإنصاف في الضمير الإنساني تقتضي عدم حدوث هذا الإمكان، لا بد من يوم يميز بين الحق والباطل، ولا بد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما، وهذا مطلب لا يمكن إقصاؤه من مقومات التاريخ، كما لا يمكن إبعاده عن فطرة الإنسان”[8].

إن المشاعر، مشاعر الفطرة والنظر، لا تنكر البعث، ومن هذه النظرات نظرات الفلاسفة اليونانيين، الذين سجلوا كلاما واضحا في ذكر اليوم الآخر، وما فيه من حياة أبدية؛ فهذا سقراط يقول: “إن الذين يمضون إلى الآخرة، وقد أفنوا أعمارهم بالطهارة، وسبيل القصد، فإن الملك يقودها إلى أرض مشرقة عجيبة، وما نبت فيها من الأزهار، والأشجار، بخلاف هذه، إذا كانت التربة والأحجار بخلاف تلك الأحجار.. إن الذين عظمت ذنوبهم وجناياتهم، وتركوا واجبات الشريعة، فإنهم يحملون إلى نهر يلتهب بنار عظيمة، ويغلي بماء وطين، فيكونون فيه أبدا، لا يخرجون عنها، وأما الذين برزوا في حسن السيرة، فإنهم يصيرون إلى فوق إلى المسكن النقي فيسكنونه”. وقال سقراط عند موته: “إلى الله أبتهل في أن يكون نقلي من هذه الدار إلى دار الآخرة نقلة سعادة”[9].

وعلى الرغم من إنكار كفار قريش للبعث بعد الموت، وسخريتهم من إمكانية عودة الحياة لأجسام بليت، وعظام تفتت، إلا أننا نجد بعضهم ينص على حياة أخرى وحساب وجزاء، كما ورد عن زهير بن أبي سلمى، أنه قال:

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم

ليخفى فمهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم

ثالثا. ليس الموت نهاية المطاف، ولكنه انتقال من حياة إلى حياة:

الحياة في الإسلام تمتد عبر الزمان والمكان والعوالم،فعبر الزمان تشمل الحياة الدنيا والآخرة وعن هذه الحياة يتحدث د. عثمان جمعة فيقول: “إن زمن الحياة الدنيا محدود صغير مهما بدا للناس واسعا شاملا، تستغرق جهودهم بعضه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة، والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، فكيف إذا ضممنا إلى الحياة الدنيا الحياة الآخرة، فكانت هي أيضا حلقة في سلسلة النشأة والمعاد؛ لأن الدنيا والموت ليسا هما نهاية المرحلة بالنسبة للإنسان.

فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة. والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود، يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها حق قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.

والناس في هذه الحياة على أصناف أربعة: فمنهم من همه من الحياة المتعة والأكل:)يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم (12)( (محمد). وقوم آخرون مهتمون بالزينة، والشهوات: )زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14)( (آل عمران).

ومنهم من لا هم له إلا إيقاد الفتن، وإظهار الشر وإيجاده: )وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205)( (البقرة).

وإذا كانت هذه هي مقاصد الناس في الدنيا، فالله عز وجل قد نزه طائفة من الناس، ليسوا كهؤلاء الناس البهائميين، ولكنهم صنف خصهم الله تعالى، وميزهم عن سائر البشر، هؤلاء هم المسلمون الذين ألقى الله على عاتقهم مهمة الرسالة المحمدية، مهمة هداية البشر وإرشادهم إلى الخير )ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207)( (البقرة).

وقد يكون المسلم – مع نبل هدفه ونقاء رسالته – مظلوما ومسلوب الحق وغير ممكن له في الأرض، وقد تكون السيادة والزعامة، لمن لا هم له إلا ملء البطن، وسفك الدم، وترميل النساء، وتشريد الشعوب، وتيتيم الأطفال، فهل يكون ذلك من العدالة في شيء؟ بالطبع لا. ومن ثم كان من الواجب والمفروض حتما أن يكون هناك مرد للإنسان؛ ليكون عزاء لكل من ظلم في هذه الحياة الدنيا.

إن الإنسان لم يخلق لكي تنتهي حياته بموته، وإنما خلق ليخلد، وقد وجدت هذه المفاهيم لدى الفراعنة والإغريق، وفلاسفة اليونان، فقد تصوروا ذلك، وآمنوا بالحياة الأخرى، وآمنوا بالحساب، والجزاء، إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم. وهؤلاء قد عاشوا قبل الميلاد، وقد رسخت هذه المفاهيم في عقولهم.

فكيف بهؤلاء الماديين بعد هذا التقدم العلمي الهائل، الذي كشف عن حقائق علمية أخبر عنها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، كيف بهم ينكرون بعد ذلك حقيقة البعث التي أخبر بها القرآن؟ ولماذا لم يسلموا بحقيقته، لما رأوه من صدق هذا القرآن؟

أيعجز الله عن أن يحيي الخلائق بعد موتها؟ إن الله سبحانه وتعالى أيد إبراهيم – عليه السلام – بإحياء الموتى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة).

·       وأيد موسى – عليه السلام – ببث الروح في العصا، فإذا هي حية تسعى: )قال ألقها يا موسى (19) فألقاها فإذا هي حية تسعى (20)( (طه).

 وأيد عيسى – عليه السلام – بإحياء الموتى، وتصوير الطين على هيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وكل ذلك ثابت تاريخيا وقرآنيا. أيعجز بعد ذلك عن إحياء الخلائق بعد الموت )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة) [10].

الخلاصة:

·       إن الآخرة لا تخضع للمقاييس التجريبية التي تخضع لها الحياة الدنيا، ومن أراد أن يخضعها لهذه المقاييس، فمثله كمثل من يقيس الضغط الجوي بميزان البقال، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة، أو يقيس الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسنتيمترات.

·       ليست الحياة الدنيا بمسرحية قامت لتنتهي بظلم الأقوياء للضعفاء، ولكنها اختبار أجلت نتيجته ليوم الجزاء الأكبر، ليعلم الله الصابرين من المنافقين، وليحاسب كل على أعماله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

·       إن الإنسان لم يخلق، لكي ينتهي وجوده بموته وإنما خلق لكي يحيا في هذه الحياة الدنيا ما شاء الله له أن يحيا، ثم يموت، ثم يبعث، فيحاسب على أعماله، ثم يدخل الجنة، أو النار، فما الموت الذي نراه إلا انتقال من حياة إلى حياة. وهذه الحقيقة آمن بها كل الخلائق إلا الماديين منهم، فالفراعنة آمنوا بها وكذلك الإغريق وفلاسفة اليونان، وقليل من الكفار من قريش، والكثير منهم أنكرها لعناده مع النبي صلى الله عليه وسلم.

(*) قضايا إسلامية: مناقشات وردود، محمد رجب البيومي، الوفاء للطباعة والنشر، مصر، 1984م. شبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1978م. نظرات جديدة في القرآن المعجزة، محمد عادل القلقيلي، دار الجيل، بيروت، 1417هـ/ 1997م.

[1]. الضغط الجوي: الضغط الذي يتركز على نقطة معينة بفعل الثقل الذي يحدثه عمود الهواء على هذه النقطة ويؤثر في جميع الاتجاهات.

[2]. السنتيمتر: وحدة لقياس الطول تقدر بجزء من مائة جزء من المتر، ويرمز إليها بـ (سم).

[3]. صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار العلم، دمشق، ط4، 1405هـ/ 1985، ص169 وما بعدها.

[4]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 2004م، ص40.

[5]. صراع مع الملاحدة حتى العظم، عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دار العلم، دمشق، ط4، 1405هـ/ 1985م، ص172، 173.

[6]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (8030)، وابن ماجه في سننه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته (1752)، وحسنه الألباني في السلسة الصحيحة (870).

[7]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 2004م، ص41.

[8]. الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط22، 1424هـ/ 2001م، ص86 وما بعدها.

[9]. أصول العقيدة الإسلامية: دراسات وبحوث، د. محمد سلامة أبو خليفة، دار الهاني، مصر، 1426هـ/ 2005م.

[10]. التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، عثمان جمعة ضمرية، دار الكلمة الطيبة، القاهرة، ط1، 1402هــ، ص53 وما بعدها.

إنكار البعث والمعاد وإحياء الخلق يوم القيامة مرة أخرى واعتبار ذلك أسطورة وسحرا

مضمون الشبهة:

ينكر الدهريون[1] ومن وافقهم من مشركي العرب البعث والمعاد، ويؤيد هذا بعض الفلاسفة فينكرون البداءة والمعاد، ويعتبرون إحياء الخلق مرة أخرى من قبيل الأسطورة والخرافة، كما زعمت طائفة أخرى أن البعث يكون للأرواح دون الأجساد. قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)( (الجاثية).

وجوه إبطال الشبهة:

1)  البعث حقيقة مؤكدة ومحددة بأجل معدود.

2)  الذي قدر على بدء الحياة قادر على إعادتها.

3)  القادر على خلق ما هو عظيم قادر على خلق ما هو دونه.

4)  قدرته – سبحانه وتعالى – على تحويل الخلق من حال إلى حال دليل على قدرته على البعث والإحياء بعد الإماتة.

5)  قصة من أنكر البعث خير دليل على قدرة الله تعالى على البعث والنشور يوم القيامة.

6)  إحياء بعض الأموات في هذه الحياة دليل واقعي على قدرته – عز وجل – على البعث البعث.

7)  ضرب المثل بإحياء الأرض بالماء وكذلك دورة النبات؛ للاستدلال على صحة البعث.

8)  حكمة الله وعدله يقتضيان بعث العباد للجزاء والحساب.

9)  اتفاق جميع الأنبياء على الإخبار بالمعاد.

10) ضلال منكري البعث؛ حيث لا دليل لهم ولا برهان.

التفصيل:

هذه شبهة داحضة أكثر المشركون مقولتها، وهي من أكثر مزاعمهم وشبههم تردادا وتكرارا في القرآن، فهم يزعمون أنهم لن يبعثوا، ويستبعدون المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا، ويعتبرون ذلك أسطورة وسحرا، وقد حكى القرآن عنهم وذلك في غير موضع، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر( (الجاثية: ٢4) وقال – سبحانه وتعالى – حاكيا عنهم قولهم: )إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين (37)( (المؤمنون) وقال عز وجل: )زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا( (التغابن: ٧)، وقال أيضا: )ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)( (هود)، وقال – سبحانه وتعالى – أيضا: )وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة( (سبأ:٣) ومثل ذلك كثير في القرآن.

وهؤلاء المنكرون للبعث الذين أخبر القرآن عنهم ليسوا فرقة واحدة، بل يمكن تصنيفهم – من خلال ردود القرآن عليهم – إلى ثلاثة أصناف:

الأول: الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومثلهم الشيوعيون[2] في عصرنا، وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن خالق؛ فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالق أصلا. وهؤلاء ناقشهم الله – عز وجل – أولا في وجود الخالق ووحدانيته – كما سبق أن بينا – ثم يأتي بعد ذلك إثبات المعاد؛ لأن الإيمان بالمعاد فرع الإيمان بالله.

الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: )ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (25)( (لقمان). فهم مع اعترافهم بوجود الخالق – عز وجل – ينكرون البعث والنشور يوم القيامة، وقد حكى القرآن عنهم ذلك، حيث قالوا: )أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين (68)( (النمل). وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم – في الوقت نفسه – يدعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم! وهم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء، ومن هؤلاء طائفة من اليهود يسمون “الصادوقيون”[3] يزعمون أنهم يؤمنون بتوراة موسى، وهم يكذبون بالبعث والنشور والجنة والنار!

الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية من النصارى، وهؤلاء هم الذين يعتقدون أن الذي ينعم أو يعذب يوم القيامة إنما هو الروح فحسب، وقال بقولهم كثير من الفلاسفة والفرق الضالة[4].

وقد رد القرآن على هؤلاء المنكرين للبعث المكذبين بالمعاد ما زعموه في غير موضع من آياته بالأدلة والبراهين القاطعة المثبتة للبعث والنشور، ومن ذلك:

أولا. بين القرآن الكريم أن البعث حقيقة مؤكدة ومحددة بأجل معدود:

لقد نوع الحق – سبحانه وتعالى – أساليب الإخبار عن تلك الحقيقة، فتارة يجزم المولى – عز وجل – بوقوع ذلك اليوم ومن ذلك قوله )إن الساعة آتية أكاد أخفيها( (طه: ١٥) وقوله: )إن الساعة لآتية لا ريب فيها( (غافر: ٥٩)، وقوله: )إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)( (الأنعام)، وقوله: )إنما توعدون لصادق (5)( (الذاريات)، وفي بعض الأحيان يخبر عن اقترابه، ومنه قوله عز وجل: )إنهم يرونه بعيدا (6) ونراه قريبا (7 (المعارج)، وقوله: )( اقتربت الساعة وانشق القمر (1)( (القمر)، وفي مواضع أخرى يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه، ومنه قوله تعالى: )الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87)( (النساء)، أو يأمر رسوله بالإقسام على وقوع البعث وتحققه وذلك في معرض الرد على المكذبين به المنكرين له[5].

ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: )ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53)( (يونس)، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: )وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب( (سبأ: ٣)، ويؤكد القرآن أن يوم القيامة يوم محدد لا يزاد في موعده ولا ينقص، قال سبحانه وتعالى: )قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)( (سبأ)، إذن فهو ميعاد معدود محرر لا يزاد في موعده ولا ينقص، قال سبحانه وتعالى: )إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر( (نوح: ٤)، فذلك وعد صادق، وخبر لازم، وأجل لا شك فيه، قال )ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103) وما نؤخره إلا لأجل معدود (104)( (هود).

ثانيا. ومن الأدلة العقلية المفحمة التي برهن بها القرآن على البعث والمعاد أنه استدل على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى:

نشاهد كل يوم حياة جديدة تخلق: أطفال يولدون، وطيور تخرج من بيضها، وحيوانات تلدها أمهاتها، وأسماك تملأ البحر والنهر، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يبيد الله هذه الحياة. إن الذين يطلبون دليلا على البعث يغفلون عن أن خلقهم على هذا النحو أعظم دليل على ذلك، فالقادر على خلقهم ابتداء، قادر على إعادة خلقهم مرة أخرى [6].

وقد أخبر الله – عز وجل – أن الإنسان نفسه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته،قال سبحانه وتعالى: )ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66)( (مريم).

ويبرهن – عز وجل – بالبداءة على الإعادة، يعني أنه – عز وجل – قد خلق الإنسان ولم يك شيئا، أفلا يمكنه – عز وجل – إعادته ثانية وقد صار شيئا موجودا؟! قال سبحانه وتعالى: )أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67)( (مريم).

وهذا بيان لهؤلاء، مفاده أن الذي قدر على البدء قادر على الإعادة، وهذا بطريق الأولى والأحرى، قال سبحانه وتعالى: )قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه( (الجاثية:٢٦)، فكما هو قادر على أن يخرجكم من العدم إلى الوجود، فهو قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها، قال سبحانه وتعالى: )وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( (الروم: ٢٧) وقال  سبحانه وتعالى – أيضا: )فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة( (الإسراء:٥١)، أي: فالذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا تنتشرون قادر على إعادتكم مهما تكن حالتكم.

ويذكرنا القرآن الكريم في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب؛ فالقادر على جعل التراب بشرا سويا، لا يعجزه أن يعيده بشرا سويا مرة أخرى بعد موته، كما يذكرنا بخلقتنا نحن – ذرية آدم – فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين، تحول هذا الماء فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة.

إلى أن نفخ فيها الروح وجعلها إنسانا سويا، فالقادر على الخلق المشاهد المعلوم قادر على إعادته وإحيائه بعد موته، قال سبحانه وتعالى: )يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير (6) وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7)( (الحج) [7].

ثالثا. ومن الأدلة القوية في هذا الصدد ما ساقه القرآن دليلا للعقل أن يتفكر فيه، إذ بين أن من جملة خلقه تعالى ما هو أعظم من خلق الناس؛ فالقادر على خلق الأعظم لا شك قادر على خلق ما هو دونه:

لقد نبه الله – عز وجل – كل من له عقل – يعي به – على قدرته على إعادة الخلق مرة أخرى، وذلك بدليل أنه خلق السماوات والأرض، فقدرته على إعادة الخلق أسهل من خلقه السماوات والأرض، قال تعالى: )لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس( (غافر: ٥٧)، وقال سبحانه وتعالى: )أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى( (الأحقاف: ٣٣)، وقال أيضا: )أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه( (الإسراء: ٩٩)، وقال أيضا: )أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)( (يس). ويوضح ذلك قول ابن تيمية بعد أن ساق هذه النصوص -: “فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك”[8].

رابعا. ومن ردود القرآن على منكري البعث أيضا ما بينه الحق – سبحانه وتعالى – برهانا للعقل البشري أن يتدبره من أن قدرته – سبحانه وتعالى – على تحويل الخلق من حال إلى حال لا يعجزها إعادة الخلق بعد الممات:

إن من تمام ألوهيته وربوبيته تعالى قدرته سبحانه على تحويل الخلق من حال إلى حال، فهو يميت ويحيي، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ويخلق ويفني، قال سبحانه وتعالى: )إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96)( (الأنعام)، فمن الحبة الجامدة الصماء يخرج نبتة غضة خضراء تزهر وتثمر، ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوبا جامدة، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردة التي تنطلق في أجواز الفضاء!

إن تقلب العباد: موت فحياة فموت فحياة، دليل عظيم على قدرة الله التي تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه، ولذلك يقول المولى عز وجل: )كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)( (البقرة) [9].

خامسا. ساق القرآن بعض أدلة البعث في معرض الرد على واحد من مكذبي المعاد:

يحكي القرآن عن أحد هؤلاء المشركين المستبعدين البعث – وهو العاص بن وائل – حين جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء، ويقول: «يا محمد، أيبعث الله هذا بعد ما أرم؟! قال صلى الله عليه وسلم: “نعم يبعث الله هذا، يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم”، قال: فنزلت الآيات: )أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77)( (يس)» [10].

ونزلت في هذه القصة الآيات الأخيرة من سورة يس، وفيها يقول الحق سبحانه وتعالى: )أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78)( (يس)، فهذا المشرك ضرب لله مثلا ونسي أنه خلقه من نطفة، فلم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه )أفعيينا بالخلق الأول( (ق: ١٥)، ولذاقال – عز وجل – جوابا على سؤاله المتهافت: )قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79)( (يس)، أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها أين ذهبت وتفرقت وتمزقت، ثم ضرب الله له مثلا آخر وهو الشجر الأخضر الذي يوقد منه النار، فالله بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار، وكذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يعجزه شيء، قال سبحانه وتعالى: )الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)( (يس)، ثم يقدم القرآن استدلالا آخر على إعادة الأجساد بخلق السماوات والأرض بما فيها من الكواكب السيارة، والجبال، والبحار، والرمال، وما بين ذلك، قال سبحانه وتعالى: )أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81)( (يس).

ففي هذه القصة نلاحظ أن الله – سبحانه وتعالى – ساق من الأدلة ما يكفي لإقناع هذا المشرك وغيره بحقيقة البعث والمعاد؛ إذ احتج بالإبداء على الإعادة، ثم بقدرته على تحويل الخلق من حال إلى ضده، ثم أكد ذلك بأن القادر على خلق الأعظم قادر من باب أولى على خلق الأيسر منه، فسبحان من يقول للشيء كن فيكون، فملكوت كل شيء بيده، وكل إليه راجع، قال سبحانه وتعالى: )وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80) أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)( (يس).

سادسا. إحياء بعض الأموات في هذه الحياة دليل واقعي على قدرته – عز وجل – على البعث والنشور يوم القيامة:

لقد ذكر القرآن الكريم عددا من القصص التي أحيا الله فيها بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، وكذلك ما أيد الله به بعض رسله من إحياء الموتى على أيديهم، وفي كل ذلك أعظم دليل على قدرته تعالى على البعث والنشور، فحدثنا القرآن عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فتعجب من إحياء الله لها بعد موتها وقد كان مؤمنا لا شاكا، ولكن الله أعلمه ذلك يقينا؛ أي بالمعاينة، قال سبحانه وتعالى: )أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير (259)( (البقرة).

وحدثنا عن إبراهيم – عليه السلام – الذي دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فكان هذا المشهد الذي حدثنا القرآن عنه، قال تعالى: )وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260)( (البقرة).

وحدثنا عن عيسى – عليه السلام – الذي كان يصنع من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، فقد قال لقومه: )ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49)( (آل عمران).

وحدثنا عن أصحاب الكهف الذين ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة، قال تعالى: )ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)( (الكهف)، وقال أيضا: )ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25)( (الكهف).

وحدثنا عن قوم موسى عليه السلام، هؤلاء الذين قالوا له: )لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة( (البقرة: ٥٥)، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم بعثهم الله بعد موتهم هذا، قال تعالى: )فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56)( (البقرة).

وحدثنا عن قتل بني إسرائيل قتيلا واتهام كل قبيل القبيل الآخر بقتله، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، فذبحوها بعد أن تعنتوا في طلب صفاتها، ثم أمرهم بعد ذبحها أن يضربوا القتيل بجزء منها، فأحياه الله وهم ينظرون فأخبر عمن قتله، قال تعالى: )فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)( (البقرة).

سابعا. ومن الأدلة التي ساقها القرآن الكريم على البعث أيضا – أنه لفت نظر الناس إلى ذلك حين ضرب المثل بإحياء الأرض بما ينبته فيها من النبات بعد نزول الماء، فكذلك تعاد الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية:

قال سبحانه وتعالى: )فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير (50)( (الروم).

·وقال: )والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9)( (فاطر).

·وقال: )ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير (39)( (فصلت).

وقال: )والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11)( (الزخرف).

والمعنى المراد من هذا كله هو: الاستبصار والاستدلال؛ أي: استدلوا بذلك على أن من قدر عليه قادر من باب أولى على إحياء الموتى، وهذا من قبيل الاستدلال بالشاهد على الغائب[11].

ثامنا. ومن أهم الأدلة الناصعة التي ذكرها القرآن على البعث أنه بين الحكمة منه:

إن الحكمة والعدل يقتضيان بعث العباد يوم القيامة للجزاء والحساب؛ إذ إن الخلق يصبح عبثا وباطلا إذا لم يكن هناك يوم آخر يبعث فيه الناس، ويحاسبون على أعمالهم التي عملوها في الحياة الدنيا؛ أي أن الحياة تصبح عبثا، وخلق السماوات والأرض يصبح باطلا لو كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف، قال سبحانه وتعالى: )أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115)( (المؤمنون) [12].

وقال أيضا: )إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)( (يونس)، فحكمة الله وعدله يقتضيان أن يبعث عباده ليجزيهم بما قدموا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فالله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به، فمن العباد من استقام على طاعته وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك، ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله وطغى وبغى، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولا يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟! )أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتاب فيه تدرسون (37) إن لكم فيه لما تخيرون (38)( (القلم)[13].

فنحن نشاهد في حياتنا الدنيا ظالمين ظلوا على ظلمهم حتى لحظة الموت، ومظلومين ظلوا مظلومين إلى آخر حياتهم، أفيكون هذا عدلا وحكمة إن كانت الحياة الدنيا هي نهاية المطاف؟! وأين هو العدل والظالم لم يقتص منه والمظلوم لم يقتص له؟! وأين هي الحكمة في خلق حياة تجري أحداثها على غير مقتضى العدل، ثم تنتهي على هذه الصورة؟!

أيكون من الحق أن الذين أجابوا داعي الله فآمنوا به واستقاموا على طريقه، يعيشون ويموتون في الهوان والذل كأنهم هم المغضوب عليهم، وأن الذين لم يستجيبوا لله ولم يؤمنوا به يعيشون ويموتون هانئين منعمين كأنهم هم الذين نالوا رضوان الله؟!

كلا بغير شك.

ولا يجوز ذلك في حق الله.

لا يجوز في حق عدالته وحكمته – سبحانه وتعالى – أن تكون الأمور على هذه الصورة، وإلا تكون الحياة عبثا لا معنى لها ولا حكمة فيها…

لذلك جاء هذا السؤال الإنكاري: )أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35)( (القلم).

حاشا لله أن يكون ذلك:

إنما ذلك ظن الذين كفروا، فهم الذين يظنون أن الأمر سواء، وأنه لا حساب ولا عقاب، فكأنهم يقولون إن الله خلق السماوات والأرض باطلا: )وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)( (ص).

فقد نزلت هذه الآية في كفار قريش الذين كانوا ينكرون البعث، ولكن العجيب أن الجاهلية المعاصرة تنتج نماذج تنطبق عليها الآية الكريمة تماما، ومن هؤلاء: سارتر الوجودي[14] الملحد، الذي يقول: إن الوجود كله عبث وكله باطل، وإن حياة الإنسان لا معنى لها ولا حكمة فيها: )ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27)( (ص)[15].

تاسعا. ومن الأدلة على البعث ما ذكره القرآن من اتفاق جميع الأنبياء على الإخبار بالمعاد: فالإيمان بالقيامة والجنة والنار من أصول الإيمان التي يشترك الأنبياء جميعا وأتباعهم الصادقون في معرفتها والإيمان بها:

فقد أخبر القرآن عن هؤلاء الأشقياء أهل النار الذين يقرون بأن رسلهم أنذرتهم باليوم الآخر، قال تعالى: )تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)( (الملك)، وقال تعالى أيضا: )فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71)( (الزمر).

فالكفار جميعا عندما يسألون عند ورودهم النار يقرون بأن رسلهم خوفتهم لقاء ذلك اليوم، ولكنهم كفروا وكذبوا.

وهذا الذي قررته الآيات السابقة بينه الله – عز وجل – في غير موضع من كتابه، فقد أخبر الحق – سبحانه وتعالى – أن مقتضى عدله وحكمته ألا يعذب أحدا لم تبلغه الرسالة ولم تقم عليه الحجة، قال تعالى: )وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)( (الإسراء)، وقال أيضا: )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)( (النساء)، من أجل ذلك عمت الرسالة كل البشر، قال تعالى: )إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)( (فاطر).

كما ذكر القرآن الكريم أنه ما من نبي من الأنبياء إلا أنذر قومه يوم القيامة وأخبرهم بالبعث والنشور من أجل الجزاء والحساب، وذلك حين قص قصص الأنبياء في القرآن الكريم[16].

عاشرا. يؤكد القرآن الكريم في أكثر من موضع أن المنكرين للبعث والمعاد لا يستندون إلى دليل ولا يقيمون على دعواهم تلك أي برهان:

فما عندهم من علم بالبعث والمعاد إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، قال سبحانه وتعالى: )وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24)( (الجاثية) وقال سبحانه وتعالى: )وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32)( (الجاثية).

وقال سبحانه وتعالى: )بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)( (النمل).

ويؤكد القرآن أيضا في أكثر من موضع أن هؤلاء المستبعدين المعاد والقيامة والبعث يعيشون في الوهم والضلال البعيد، قال سبحانه وتعالى: )أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (8)( (سبأ)، وقال أيضا: )ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18)( (الشورى)، فهم في جهل وضلال بين؛ لأن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى.

الخلاصة:

الموجد للشيء بعد العدم قادر على إعادة بعثه بعد فنائه؛ فالقادر على الخلق من عدم قادر على إعادة الخلق بعد إفنائه.

المنكر للبعث والمعاد وإحياء الخلق يوم القيامة يعيش في الوهم والضلال، فالأمثلة على ذلك متعددة، والأدلة كثيرة، ومن ذلك إحياء الله – عز وجل – للأرض بعد موتها ببعض الأمطار يسقطها عليها.

هناك بون كبير بين حقيقة البعث والمعاد وبين الأسطورة والسحر، ولقد شاهد بعض البشر – في فترات مختلفة من التاريخ – عودة الحياة إلى الجثث الهامدة، وجاء القرآن الكريم بقصص من ذلك، كقتيل بني إسرائيل، وكالذي مر على قرية، ومن ذلك أيضا قصة إبراهيم – عليه السلام – والأربعة من الطير، وإحياء عيسى – عليه السلام – للموتى بإذن الله عز وجل.

(*) الآيات التي وردت فيها الشبهة: (سبأ/ 3، 7، 29، 35، التغابن/ 7، يونس/ 53، الملك/ 25، ق/ 3، 15، الدخان/ 35، الجاثية/ 24، 32، يس/ 48، 78، الصافات/ 16، 17، 53، السجدة/ 10، 28، النمل/ 67، 68، 71، المؤمنون/ 35، 37، 82، 83، الأنبياء/ 38، مريم/ 66، الكهف/ 36، الإسراء/ 49، 51، 98، النحل/ 38، الرعد/ 5، هود/ 7، الشعراء/ 138، الواقعة/ 47، 48، النازعات/ 10، 12).

الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (سبأ/ 3، يونس/ 53، 54، التغابن/ 7، سبأ/ 8، 30، الجاثية/ 26، الإسراء/ 5، 52، 99، النحل/ 38، 40، هود/ 8، الأعراف/ 25، طه/ 55، الواقعة/ 49، 50، الحج/ 5، 7، الشورى/ 18، الصافات/ 18، 19، يس/ 79: 83، السجدة/ 29، 30، الأنبياء/ 39، 40، مريم/ 67، الكهف/ 21، 37، الروم/ 27).

[1]. الدهريون: جمع دهري، وهو الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة، ويقول ببقاء الدنيا، أو بأن العالم موجود أزلا وأبدا ولا صانع له.

[2]. الشيوعيون: هم من يعتنقون المذهب الشيوعي، مذهب كارل ماركس، وهو نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي يقوم على الإنتاج الجماعي وإشاعة الملكية وإزالة الطبقات الاجتماعية، وأن يعمل الفرد على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته.

[3]. الصادوقيون: جماعة قليلة العدد نسبيا، ولكن معظمها كان من المثقفين والأعيان، واسمها مشتق من صادوق رئيس الكهنة في أيام داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ وقد حصروا تعليمهم في الكتاب المقدس فقط، زاعمين أن حرف الناموس المكتوب وحده هو الملزم، وينكرون القيامة.

[4]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص61، 62، 84 بتصرف.

[5]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص63: 66 بتصرف.

[6]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص66 بتصرف.

[7]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص67.

[8]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68.

[9]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص69، 70.

[10]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة يس (3606)، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

[11]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج14، ص45 بتصرف.

[12]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص387.

[13]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص75، 76.

[14]. الوجودي: القائل بمذهب الوجود أو الوجودية، وهو مذهب فلسفي يرى أن الوجود سابق على الماهية، وأن الإنسان حر يستطيع أن يصنع نفسه، ويتخذ موقفه كما يبدو له؛ تحقيقا لوجوده الكامل.

[15]. ركائز الإيمان، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص390.

[16]. القيامة الكبرى، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص77: 81 بتصرف.

إنكار أحاديث سماع الموتى لكلام النبي صلى الله عليه وسلم

مضمون الشبهة:

 ينكر بعض المغرضين الأحاديث الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في سماع الموتى لكلامه – صلى الله عليه وسلم – ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – أنه قال: «اطلع النبي – صلى الله عليه وسلم – على أهل القليب[1]

فقال: وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فقيل له: تدعو أمواتا؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون».

ويزعمون أن هذا كلام باطل لا يصح، وهو أشبه بالخرافات، ويستدلون على بطلان هذا الحديث بأنه من المعلوم بداهة أن السمع والبصر والنطق من صفات الأحياء وليس الأموات، وليس أحدهما كالآخر. كما أن الحديث يعارض ما جاء به القرآن الكريم، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: )وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر).

ومثله – أيضا – قوله سبحانه وتعالى: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80)( (النمل). رامين من وراء ذلك إلى الطعن والتشكيك في السنة النبوية.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن المقصود بنفي السماع في قوله تعالى: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)، وقوله: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل:80)، هو سماع الكفار الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع، وهذا لا يتعارض مع صحة حديث قليب بدر.

2) لقد فصل العلماء القول في مسألة سماع الموتى، فجاء على ثلاثة آراء: فذهب بعض العلماء إلى إطلاق السماع؛ مستدلين بحديث القليب وحديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه، وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن السماع يكون في حال دون حال ووقت دون وقت؛ مستدلين بما سبق من أحاديث، وذهب فريق ثالث إلى نفي السماع مطلقا إلا ما ورد النص بتخصيصه، كما في حديث القليب وحديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه، وهذا هو الراجح.

التفصيل:

أولا. اختلاف مفهوم سماع الموتى في الآيات عنه في الأحاديث:

إن الأخبار التي جاءت في قليب بدر، ونداء النبي – صلى الله عليه وسلم – إياهم، وما أخبر أنهم يسمعون كلامه – أخبار ثابتة توجب العمل والمحاسبة. أما الآيتان اللتان استدل بهما على رد ما ثبت في الحديث، فقد أجاب أهل العلم عنها بعدة أجوبة:

أما الآية الأولى وهي قوله سبحانه وتعالى: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80)( (النمل).

قال الشنقيطي: “اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية، واستقراء القرآن أن معنى قوله: )إنك لا تسمع الموتى( لا يصح فيه من أقوال العلماء إلا تفسيران:

الأول: أن المعنى )إنك لا تسمع الموتى(؛ أي: لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه – إسماع هدى وانتفاع؛ لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع.

ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا، أن الله – عز وجل – قال بعده: )إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (81)( (النمل).

فاتضح بهذه القرينة أن المعنى )إنك لا تسمع الموتى( أي: الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول الحق، ما تسمع من ذلك الإ سماع )إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون(، فمقابلته – عز وجل – بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو دليل واضح على أن المراد بالموتى في الآية موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن…

التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله سبحانه وتعالى: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل: ٨٠) خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع، كما قال سبحانه وتعالى: )ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء( (البقرة: ١٧١)، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفي عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفي عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا”[2].

والتفسير الأول هو الذي عليه أغلب المفسرين.

وأما الثاني، فقد قال به ابن تيمية[3] وغيره.

أما الآية الثانية، وهي قوله عز وجل: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)، فالقول فيها كالقول في الآية المتقدمة.

قال القرطبي: )وما أنت بمسمع من في القبور(؛ أي: الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي: كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه… أي: هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه”[4].

ويقول ابن كثير: “قوله تعالى: )وما أنت بمسمع من في القبور(؛ أي: كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار – بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة، لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم”[5].

ويؤكد ذلك الطاهر ابن عاشور فيقول: “استعير )من في القبور( للذين لم تنفع فيهم النذر، وعبر عن الأموات بـ )من في القبور(؛ لأن من في القبور أغرق في الابتعاد عن بلوغ الأصوات؛ لأن بينهم وبين المنادي حاجز الأرض، فهذا إطناب أفاد معنى لا يفيده الإيجاز بأن يقال: وما أنت بمسمع الموتى”[6].

ثانيا. توجيهات أهل العلم وأقوالهم في مسألة سماع الموتى:

كان لأهل العلم عدة توجيهات وتفسيرات لمسألة سماع الموتى من الأحياء، فهل الأمر في ذلك على الحقيقة في كل وقت، أم هو في وقت دون وقت، أم أن الأصل عدم السماع، وما جاء في ذلك هو من باب خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهم في ذلك على ثلاثة أقوال، كالآتي:

القول الأول: جعل السماع هو الأصل، وذهب إلى هذا القول كل من: ابن مفلح، والشنقيطي، وهو ظاهر كلام قوام السنة الأصبهاني، وغيرهم.

قال الشنقيطي: “اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من كلمهم… وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك، مبني على مقدمتين:

الأولى منهما: أن سماع الموتى ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه، ولم يذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت.

والمقدمة الثانية: أن النصوص الصحيحة عنه – صلى الله عليه وسلم – في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها، وتأويل عائشة – رضي الله عنها – بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة، لا يجب الرجوع إليه؛ لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – بتأول بعض الصحابة بعض الآيات”[7].

القول الثاني: أن الأموات يسمعون في الجملة، لكنهم يسمعون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت.

قال ابن تيمية بعد ذكره لبعض النصوص، كحديث القليب وغيره:

“فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائما، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، لا يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله عز وجل: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل: ٨٠)، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قـال سبحانه وتعالى: )ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم( (الأنفال:٢٣)[8]“.

واستدل أصحاب القولين السابقين على قولهم بسماع الموتى بعدة أدلة، أهمها:

  • حديث القليب والذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي طلحة رضي الله عنه: «أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي[9]من أطواء بدر، خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي[10]، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟. قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد ولا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».

قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما[11].

  • واستدلوا بحديث أنس – رضي الله عنهم – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه – حتى إنه ليسمع قرع نعالهم – أتاه ملكان فأقعداه…»[12].
  • واستدلوا – أيضا – بمشروعية السلام على أهل القبور بصيغة الخطاب للحاضر، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون…»[13].

قال ابن تيمية: “فهذا خطاب لهم، وإنما يخاطب من يسمع”.

وقال الشنقيطي: “وخطابه – صلى الله عليه وسلم – لأهل القبور بقوله: «السلام عليكم»، وقوله: «وإنا إن شاء الله بكم» ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء، فمن البعيد جدا صدوره منه صلى الله عليه وسلم”[14].

القول الثالث: أن الأصل عدم السماع، وأما حديث القليب وغيره مما ورد فهو مستثنى من هذا الأصل، فيكون من قبيل تخصيص العموم، وهذا ما ذهب إليه قتادة والقاضي وأبو يعلى، والمازري، وابن عطية، وابن الجوزي، وأبو عبد الله القرطبي والشوكاني، والألوسي وابنه نعمان، والألباني، وغيرهم[15].

قال قتادة: “أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما”[16].

ونقل الإمام النووي عن المازري قوله في تعليقه على حديث القليب، قال: “قال بعض الناس: الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث. ثم قال النووي: ثم أنكره المازري، وادعى أن هذا خاص في هؤلاء”[17].

وقال أبو عبد الله القرطبي: “اعلم – رحمك الله – أن عائشة – رضي الله عنها – قد أنكرت هذا المعنى، واستدلت بقوله تعالى: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل:٨٠)، وقوله: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر) ولا تعارض بينهما؛ لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما، فإن تخصيص العموم صحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا بما ذكرناه، وقد تقدم[18]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليسمع قرع نعالهم» وبالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره وجوابه لهما. وغير ذلك مما لا ينكر”[19].

“وهذا القول قريب من سابقه – أي: القول بسماع في حال دون حال – فإن كلا منهما لم يطلق القول: بالسماع، إلا أن القول السابق جعل السماع أصلا، استنادا إلى ما ورد من الأحاديث، وأما أصحاب هذا القول فقد جعلوا عدم السماع أصلا إلا ما ورد من الأحاديث؛ استنادا إلى ما ورد من الآيات وغيرها، ولم يستثنوا من ذلك إلا ما ورد النص بإثباته”[20].

قال الألباني: “وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم… على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال، كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلا، فيقال: إن الموتى يسمعون، كما فعل بعضهم، كلا فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثني منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه”[21].

يقول د. سليمان الدبيخي: وعمدة هؤلاء فيما ذهبوا إليه أمران:

الأمر الأول: الآيات الواردة في نفي سماع الموتى، والتي منها:

الآيتان اللتان استدلت بهما عائشة – رضي الله عنها – على قولها بعدم سماع الموتى، وهما قوله سبحانه وتعالى: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80)( (النمل)، وقوله: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)، وذلك كما روى الإمام البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: «وقف النبي – صلى الله عليه وسلم – على قليب بدر، فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول. فذكر لعائشة، فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق. ثم قرأت: )إنك لا تسمع الموتى( حتى قرأت الآية»[22]، وفي رواية أخرى: «ثم قرأت: )إنك لا تسمع الموتى(، )وما أنت بمسمع من في القبور(»[23].

فقالوا: لا شك عند كل من تدبر الآيتين وسياقهما أن المعنى المراد منهما هو: تشبيه الكفار الأحياء بحال الموتى وأهل القبور، فهما واردتان في حق الكفار على ما تقدم بيانه، لا ننازع في هذا، بل نقول: على هذا جرى علماء التفسير، لكن ذلك لا يمنع الاستدلال بهما على عدم سماع الموتى؛ لأن الموتى لـما كانوا لا يسمعون حقيقة، وكان ذلك معروفا عند المخاطبين، شبه الله تعالى بهم الكفار الأحياء في عدم السماع، فدل هذا التشبيه على أن المشبه بهم – وهم الموتى في قبورهم – لا يسمعون، كما يدل مثلا تشبيه زيد في الشجاعة بالأسد على أن الأسد شجاع، بل هو في ذلك أقوى من زيد، ولذلك شبه به، وإن كان الكلام لم يسق للتحدث عن شجاعة الأسد نفسه، وإنما عن زيد، وكذلك الآيتان السابقتان وإن كانتا تحدثتا عن الكفار الأحياء وشبهوا بموتى القبور، فذلك لا ينفي أن موتى القبور لا يسمعون، بل إن كل عربي سليم السليقة لا يفهم من تشبيه موتى الأحياء بهؤلاء إلا أن هؤلاء أقوى في عدم السماع منهم، كما في المثال السابق.

قالوا: ومما يؤكد عدم سماع الأموات: تمام الآية الأولى: )ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80)( (النمل)، فقد شبه الله موتى الأحياء من الكفار بالصم أيضا، فهل يقتضي في المشبه بهم )الصم( إنهم يسمعون أيضا، ولكن سماعا لا انتفاع فيه؟! أم أنه يقتضي أنهم لا يسمعون مطلقا، كما هو الحق الظاهر الذي لا خفاء فيه.

قالوا: وفي التفسير المأثور ما يؤيد هذا، فقد قال الطبري في تفسيره: وقوله: )ولا تسمع الصم الدعاء( يقول: وكما لا تقدر أن تسمع الصم – الذين قد سلبوا السمع – الدعاء، إذا هم ولوا عنك مدبرين، كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء – الذين قد سلبهم الله فهم آيات كتابه – لسماع ذلك وفهمه، ثم روى بإسناده عن قتادة أنه قال: “هذا مثل ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء، كذلك لا يسمع الكافر )ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين(، يقول: لو أن أصم ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع، ولا ينتفع بما يسمع[24].

قالوا: وبهذا يتبين صحة فهم عائشة – رضي الله عنها – للآية، وتوجه اعتراضها، لولا أنه في مقابلة النص، وقد وافقها على هذا الفهم عمر – رضي الله عنه – فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه، «أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترك قتلى بدر ثلاثة أيام، حتى جيفوا، ثم أتاهم فقام عليهم، فقال: يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، قال: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ يقول الله عز وجل: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل: ٨٠)، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا»[25].

فعمر – رضي الله عنه – فهم من عموم الآية دخول أهل القليب فيه، فأشكل عليه مخاطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم، فبين النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم يسمعونه، ولم ينكر عليه فهمه للآية.

قال ابن رجب: وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء، طائفة من العلماء، ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا… واحتجوا بما احتجت به عائشة، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – دون غيره، وهو سماع الموتى كلامه[26].

ومما استدلوا به أيضا على عدم سماع الموتى، قوله عز وجل: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14)( (فاطر).

فقالوا: هذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين، الذين كان المشركون يمثلونهم في تماثيل وأصنام لهم، يعبدونهم فيها، وأخبر أن المعبودين يتبرءون من عابديهم يوم القيامة، فهم محشورون جميعا كما قال سبحانه وتعالى: )ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18)( (الفرقان).

وقال أيضا: )ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41)( (سبأ).

الأمر الثاني: أن هذه المسألة من الأمور الغيبية التي لا يجوز الخوض فيها إلا بنص، ولم يرد ما يدل على أن الموتى يسمعون مطلقا، فيجب الوقوف عند حدود ما ورد.

وأما أدلة أصحاب القولين السابقين، فقد أجاب عنها بعضهم بما يأتي:

  • أما حديث القليب فقالوا: إنه وإن دل على سماع المشركين للنبي – صلى الله عليه وسلم – حين مناداته لهم، إلا أنه لا يدل على عموم هذا السماع في كل وقت وحين، ومما يؤيد هذا ما جاء في رواية ابن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنهم الآن يسمعون ما أقول»، فقوله: “الآن” قيد يفهم منه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وعلى هذا يكون هذا الحديث حجة في كون الأصل في الموتى عدم السماع.

ومما يدل على هذا أيضا – من نفس الحديث – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرا في نفوسهم واعتقادهم من أن الموتى لا يسمعون، فلم ينكر ذلك عليهم، وإنما بين لهم ما كان خافيا عليهم من شأن أهل القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقا.

  • وأما حديث أنس رضي الله عنه: «إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان..»، فهو محمول على أنه في أول الوضع؛ أي أن هذا السماع خاص بهذا الوقت، وبقية الحديث يشعر بهذا، فإن روحه تعاد حينئذ استعدادا لسؤال الملكين[27].

قال المناوي عند شرحه هذا الحديث: وعورض بقوله سبحانه وتعالى: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)، وأجيب: بأن السماع في حديثنا مخصوص بأول الوضع في القبر مقدمة للسؤال[28].

وقال الشيخ ابن عثيمين: “إنه وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن”[29].

وأما استدلالهم بمشروعية السلام على أهل المقابر بصيغة المخاطب، فالجواب عنه: أنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي – صلى الله عليه وسلم – في حياته في التشهد وهو لا يسمعهم قطعا، وهذا شائع في العربية، فإن العرب تسلم على الدار وتخاطبها، على بعد المزار.

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن مثل هذا الخطاب يقصد منه استحضار المخاطب في القلب، ثم قال بعد ذكر السلام في التشهد: “والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصور في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب[30].

وقال القاضي عياض تعليقا على الحديث السابق في سلام النبي – صلى الله عليه وسلم – على أهل المقابر: يحتمل أن يحيوا له حتى يسمعوا كلامه، كما سمعه أهل القليب، ويحتمل أن يفعل ذلك مع موتهم ليبين ذلك لأمته[31].

وقال ابن عطية: هذا كله غير معارض للآية، لأن السلام على القبور إنما هو عبادة، وعند الله الثواب عليها، وهو تذكير للنفس بحالة الموت، وبحالة الموتى في حياتهم[32].

  • ترجيح الرأي الثالث:

والراجح عند أهل العلم أن أهل القليب قد سمعوا كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – كما دلت الروايات الصحيحة الصريحة المتعددة، كقوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عمر رضي الله عنه: «إنهم الآن يسمعون ما أقول»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم لما أقول بأسمع منهم».

وأما اعتراض عائشة – رضي الله عنها – على ذلك، فقد قال عنه أهل العلم: إن ذلك وهم منهـا؛ لأن ابن عمر لم ينفرد بذلك، بل وافقه عليه غيره من الصحابة، كعمر وأبي طلحة – رضي الله عنهما – وهما ممن شهد بدرا.

قال ابن تيمية: وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدرا، فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرا… والنص الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – مقدم على تأويل من تأول من أصحابه[33].

وقال ابن كثير: والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة[34].

وقال ابن حجر: وقد خالفها الجمهور في ذلك، وقبلوا حديث ابن عمر، لموافقة من رواه غيره”، وبتأمل رواية عائشة – رضي الله عنها – نجد أنها قد اعترضت بأمرين:

أحدهما: أنها قالت: «إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق»، والجواب عنه: أنه إن كانت قد سمعت هذا من النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذا اللفظ، فإنه لا يعارض رواية ابن عمر وغيره؛ لأن العلم لا ينافي السماع، ومن جاز عليه العلم جاز عليه السماع.

قال البيهقي: العلم لا يمنع من السماع.

وقال الإسماعيلي: وأما جوابها بأنه إنما قال: «إنهم ليعلمون»فإن كانت سمعت ذلك، فلا ينافي رواية “يسمعون” بل يؤيدها.

وقال السهيلي: إذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين، جاز أن يكونوا سامعين.

وأما اعتراضها الثاني: فهو احتجاجها بالآية، وهي قوله تعالى: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل:٨٠) وقد تقدم الجواب عنها بأن الجمع ممكن، وذلك بتخصيص الآية بحديث القليب وغيره مما ورد، وعلى هذا فلا تعارض بين الآية والحديث.

قال الإسماعيلي: كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية، والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه، أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؟![35].

وقال الخطابي: تأويل قتادة في هذا أحسن من رأي عائشة – رضي الله عنها – وادعائها على ابن عمر الغلط، وحديث أبي طلحة يؤكد ما رواه ابن عمر[36].

فالأصل في مسألة سماع الموتى هو عدم السماع، فلا يثبت منه إلا ما ورد النص بإثباته – على ما جاء في القول الثالث، لقوة أدلتهم، وإجابتهم على أدلة المخالفين؛ لأن أحوال البرزخ من عالم الغيب الذي لا يجوز لأحد أن يقول فيه برأيه أو اجتهاده، بل يتعين فيه الوقوف عند حدود ما ورد.

قال ابن عطية: “قد صح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما أنتم بأسمع منهم” فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد – صلى الله عليه وسلم – في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم[37].

وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، كقوله سبحانه وتعالى: )إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72)( (الأحزاب)، وقوله: )ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)( (فصلت)[38].

وقال الألباني: اعلم أن كون الموتى يسمعون أو لا يسمعون، إنما هو أمر غيبي من أمور البرزخ التي لا يعلمها إلا الله – عز وجل – فلا يجوز الخوض فيه بالأقيسة والآراء، وإنما يوقف فيه النص إثباتا ونفيا[39].

وهذا القول هو ما أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، حيث قالت: الأصل أن الموتى عموما لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم، ولا دعاءهم، كما قال عز وجل: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)[40].

ولا يخفى ما في هذا القول من إغلاق الباب على القبوريين، الذين يتشبثون بهذا الحديث وأمثاله، لإثبات جواز الاستغاثة بالموتى والتوسل بهم، بحجة أنهم يسمعون دعاءهم ونداءهم.

قال الألباني: ومن المعلوم أن الاعتقاد بأن الموتى يسمعون، هو السبب الأقوى لوقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأكبر، ألا وهو دعاء الأولياء والصالحين، وعبادتهم من دون الله – عز وجل – جهلا وعنادا… فإذا تبين أن الصواب أن الموتى لا يسمعون، لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله تعالى[41].

وعلى فرض أنهم يسمعون فإنهم لا يقدرون على الإجابة، كما قال سبحانه وتعالى: )ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5)( (الأحقاف)، وقال أيضا: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14)( (فاطر).

قال السعدي: )إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم(؛ لأنهم ما بين جماد وأموات وملائكة مشغولين بطاعة ربهم، )ولو سمعوا( على وجه الفرض والتقدير )ما استجابوا لكم(؛ لأنهم لا يملكون شيئا، ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولهذا قال: )ويوم القيامة يكفرون بشرككم([42].

وقال الشيخ عبد الله أبو بطين: فالمتصف بعدم سماع الدعاء، وعدم الاستجابة، أو المتصف بأحدهما ممتنع دعاؤه شرعا وعقلا[43].

وأما القول الأول، وهو أن الموتى يسمعون مطلقا فقول بعيد؛ إذ لا يوجد نص صحيح صريح يدل على العموم والإطلاق، وقد قال الألباني: لم أر فيها – أي: في هذه المسألة – من صرح بأن الميت يسمع سماعا مطلقا عاما، كما كان شأنه في حياته، ولا أظن عالما يقول به، وإنما رأيت بعضهم يستدل بأدلة يثبت بها سماعا لهم في الجملة[44].

وأما القول الثاني، وهو أنهم يسمعون في الجملة، أي: في وقت دون وقت، وحال دون حال، فإنه وإن لم يكن بعيدا عن هذا القول – الذي تقدم ترجيحه – إلا أنه جعل السماع أصلا، والأولى مراعاة ما ورد من النصوص في ذلك، فحيث جاءت الآيات واضحة في نفس السماع مطلقا: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل: ٨٠)، )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر:٢٢) – ولم يرد مثل هذا في الإثبات، فتعين القول: بأن الأصل عدم السماع، وما ورد من الإثبات في ذلك فهو مخصص له.

وقد يكون مراد بعضهم بقوله: إنهم يسمعون في الجملة؛ أي: فيما ورد الدليل بإثباته، وهذا ما عبر به الألوسي حيث قال: والحق أن الموتى يسمعون في الجملة… فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه[45].

وعلى هذا، يكون الخلاف مع من كان هذا مراده لفظيا، مع عدم الموافقة على مثل هذا التعبير، لما فيه من الإبهام، فقد يفهم منه أن الأصل هو السماع؛ أي: أنهم يسمعون في غالب أحوالهم، ولا يخفى ما في هذا من قلب الحقائق([46]).

فحديث أهل القليب فيه تحديد السماع بمدة وجيزة، وذلك فيما أخرجه البخاري وأحمد من حديث أنس – رضي الله عنه – الذي تضمن لفظ “الآن”؛ أي: أنهم الآن يعلمون حين تبوءوا مقاعدهم، ومثل ذلك في الحديث الذي أخرجه الشيخان في سماع الميت لقرع النعال، وفيه: «إن الميت ليسمع قرع نعال مشيعيه»، أي: الوقت الذي يلي دفن الميت مباشرة، وليس في هذا الحديث والذي قبله ما يدعو إلى إطلاق القول بسماع الموتى، أو حتى تخصيصه بالأولياء والصالحين، كما يدعيه بعض غلاة الصوفية وغيرهم.

والذين استدلوا بحديث أهل القليب على إثبات سماع الأولياء والصالحين من بعد موتهم، رغم أن الحديث الذي استدلوا به متعلق بسماع طواغيت قريش خطاب النبي صلى الله عليه وسلم – كان يفترض بهم أن يستدلوا بالصالحين، وليس بما حصل لأبي جهل والوليد بن المغيرة؛ لأن السماع الذي يريدون أن يثبتوه متعلق بكرامة المستمع لا بعقوبته وخزيه.

وفي هذا إبطال الاستمداد بالموتى، وطلبهم، والاستعانة بهم، وهو المراد من نفي السماع عنهم؛ لأن الميت إذا ثبت أنه لا يسمع، وأنه هو المشبه به في الآيات بطل الاستمداده به؛ لاستحالة إجابته.

وكما تقرر أن الأحاديث التي جاءت ودلت على إمكانية سماع الأموات للأحياء، إنما هي تخصيص لما نفته الآيات، فلا تعارض بين الأحاديث والآيات.

ورغم ما سبق، كان هناك من أنكر الأحاديث واعتبرها خرافات تناقض العقل والقرآن، وأخذ يجحد بآيات الله البينات، وينكر النصوص الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – جحودا من عنده، وبدلا من أن يراجع توجيهات العلماء وأقوالهم في المسألة أخذها تكأة للتشكيك في دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وبعد ما عرضنا ما يكفي لبيان الوجه الحق في المسألة، حتى أصبح واضحا جليا لكل من حاول أن يبذل عقله، ويتحرى الحق فيها – تبين دحض ادعاءات المغالين في دعاء الأموات من ناحية، وكذلك زالت شبهة الجاحدين للنصوص الثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ناحية أخرى.

 الخلاصة:

  • لقد ذهب جل المفسرين إلى أن قوله سبحانه وتعالى: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)( (فاطر)، وقوله تعالى: )إنك لا تسمع الموتى( (النمل:8) المقصود بهم الكفار الذين لم يستجيبوا لكلام الله تعالى وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – فهؤلاء أشبه ما يكونون بالأموات الذين لا يسمعون ولا يستفيدون بالكلام، فالسماع هنا سماع انتفاع واهتداء.
  • إن حديث القليب حديث صحيح ثابت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لأن ابن عمر لم ينفرد به كما يدعون، وإنما رواه عمر وأبو طلحة – رضي الله عنهما – وقد ورد في الصحيحين، وعند الإمام أحمد، فكيف يدعون بطلانه؟!
  • لقد ذهب العلماء في توضيح مسألة سماع الموتى إلى ثلاثة أقوال:

o  فذهب بعضهم إلى أن السماع أصل، وأن جميع الموتى يسمعون الأحياء، واستدلوا بحديث القليب، وأنه عام، ولم يخصص وقتا دون وقت، ولا شخصا دون شخص، ولم يرد ما ينفيه أو يعارضه. وهذا ما ذهب إليه الشنقيطي وابن مفلح وغيرهما.

o  وذهب بعض آخر من العلماء إلى أن سماع الموتى يكون في حال دون حال، وفي وقت دون وقت، واستدلوا بحديث قليب بدر، وحديث سماع الميت قرع النعال بعد الانتهاء من الدفن، وحديث إلقاء السلام على أهل القبور عند دخولها. وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من العلماء.

o  وذهب فريق ثالث إلى نفي السماع مطلقا، إلا ما ورد النص بتخصيصه، واستدلوا بقول الله تعالى: )وما أنت بمسمع من في القبور (22)(، وقوله تعالى: )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80)(. كما ذهبوا إلى أن حديث قليب بدر، وتكليم النبي – صلى الله عليه وسلم – لهم خاص بالنبي – صلى الله عليه وسلم – لأن هناك بعض الروايات التي تذكر قوله: «إنهم الآن يسمعون». وأما حديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه؛ فذلك لأن الروح قد ردت إلى الجسد استعدادا لحساب الملكين في القبر. وأما حديث إلقاء السلام عند دخول المقابر، فللعظة والعبرة في أحوال الموتى، ولم يأت نص عام في إطلاق سماع الموتى.

والراجح من خلال عرض الآراء حول هذه المسألة هو نفي السماع مطلقا إلا ما ورد النص بتخصيصه، كما حدث في تكليم النبي – صلى الله عليه وسلم – لقتلى المشركين في بدر، وحديث سماع الميت قرع نعال مشيعيه.

(*)دور السنة في إعادة بناء الأمة، جواد موسى محمد عفانة، جمعية عمال المطابع التعاونية، الأردن، ط1، 1419هـ/ 1999م.

[1] . القليب: البئر التي لم تبن جوانبها بالحجارة.

[2]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، (6/ 416: 421).

[3]. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (4/ 298).

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (14/ 340).

[5]. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (3/ 552).

[6]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (22/ 295، 296).

[7]. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، (6/ 422).

[8]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (24/ 364، 365).

[9] . الطوي: هو البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار.

[10] . شفة الركي: طرق البئر.

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، (7/ 350، 351)، رقم (3976). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، (9/ 3976)، رقم (7091).

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، (3/ 244)، رقم (1338). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، (9/ 3974)، رقم (7083).

[13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، (2/ 762)، رقم (573).

[14] . أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، بيروت، 1415هـ/ 1995م، (6/ 425، 426).

[15]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص703.

[16]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (7/ 351).

[17]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (9/ 3978).

[18]. يعني حديث القليب.

[19]. التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، القرطبي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط3، 1411هـ/ 1991م، ص164.

[20]. أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص705.

[21]. الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، ص41.

[22] . صحيـح البخـاري (بشرح فتـح البـاري)، كتـاب: المغـازي، بـاب: قتـل أبي جهـل، (7/ 351)، رقم (3980، 3981).

[23] . صحيـح البخـاري (بشرح فتـح البـاري)، كتـاب: المغـازي، باب: قتـل أبي جهـل، (7/ 351)، رقم (3979).

[24]. انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (19/ 495).

[25]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، رقم (14096). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[26]. انظر: أهوال القبور، ابن رجب الحنبلي، ص132.

[27]. انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ص56: 59.

[28] . انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، المناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415هـ/ 1994م، (2/ 505).

[29]. القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد صالح العثيمين، (1/ 207).

[30]. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، تحقيق: أحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ط2، 1369هـ، ص416.

[31]. انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ص97.

[32]. انظر: المحرر الوجيز، ابن عطية، (5/ 176).

[33]. انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (4/ 297).

[34]. انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1400 هـ/ 1980م، (3/ 438).

[35]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (7/ 354).

[36]. انظر: أعلام الحديث، الخطابي، تحقيق: محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، جامعة أم القرى، د. ت، (3/ 1708).

[37]. المحرر الوجيز، ابن عطية، (5/ 176).

[38]. انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (3/ 277).

[39]. انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، هامش ص20، 21.

[40]. انظر: فتاوى اللجنة الدائمة، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرازق الدويش، المجموعة الأولى، (1/ 472).

[41]. انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، هامش ص10، 11.

[42]. انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ص686.

[43]. انظر: تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود جرجيس، عبد الله أبو بطين، تحقيق: عبد السلام بن برجس العبد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، (1/ 94).

[44] . الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ص37.

[45] . انظر: الآيات البينات في عدم سماع الأموات، الألوسي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ص40.

[46] . أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، د. سليمان بن محمد الدبيخي، دار المنهاج، الرياض، ط1، 1427هـ، ص705: 716 بتصرف يسير.

التشكيك في حشر الوحوش يوم القيامة

مضمون الشبهة:

يشكك بعض المغالطين في حشر الوحوش يوم القيامة، ويتساءلون: كيف تحشر الوحوش والطيور والبهائم، وهي غير مكلفة كالإنسان؟

وجها إبطال الشبهة:

1) الحشر هو سوق الخلائق إلى الموقف لفصل القضاء، ولا فرق فيه بين من يعقل ويجازى، وهم الإنس والجن المكلفون، ومن لا يعقل ولا يجازى، كالحيوان وجميع ما لا يعقل،وذلك لتحقيق غاية العدالة التي لم تتحقق في الدنيا.

2)  للخالق – عز وجل – أن يفعل ما يشاء، كيفما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.

التفصيل:

أولا. مفهوم الحشر وغايته:

1.  مفهوم الحشر:

الحشر لغة: الجمع، وشرعا: سوق الخلائق إلى الموقف لفصل القضاء، ولا فرق فيه بين من يعقل ويجازى، وهم الإنس والجن المكلفون، ومن لا يعقل ولا يجازى، كالحيوان وجميع ما لا يعقل. فالحشر يتناول كل شيء، لا فرق بين عاقل وغيره، أو صغير أو كبير حتى السقط، فكل المخلوقات في ذلك اليوم – يوم الحشر – تجمع في ساحة العرض والحساب، قال سبحانه وتعالى: )ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47)( (الكهف). وقد بين – سبحانه وتعالى – في موضع آخر أن الحشر شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات في قوله سبحانه وتعالى: )وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام) [1].

يقول القرطبي في سياق تفسيره لهذه الآية: قوله سبحانه وتعالى: )ثم إلى ربهم يحشرون (38)( (الأنعام) أي: للجزاء، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء[2] من الشاة القرناء»[3].

ودل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة، وهذا قول أبي ذر وأبي هريرة والحسن وغيرهم، وجاء عن ابن عباس: حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضحاك، والأول أصح؛ لظاهر الآية والخبـر الصحيـح، وفي التنزيـل: )وإذا الوحـوش حشــرت (5)( (التكوير) [4].

2.  غاية الحشر:

يحشر الله الوحوش وغيرها مما لا يعقل حتى يقتص لبعضها من بعض، وذلك لتحقيق غاية العدالة والقصاص العادل الذي لم يتحقق في الدنيا؛ فعن ابن عباس قال: “تحشر الوحوش غدا (يوم القيامة)؛ أي: تبعث وتجمع حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ثم يقال لها كوني ترابا، فتموت”، كما روي عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: “إذا كان يوم القيامة، مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدواب، يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني ترابا، قال: فعند ذلك يقول الكافر: )يا ليتني كنت ترابا (40)( (النبأ) [5].

ويتضح مما سبق كله أن حشر البهائم والوحوش أمر ممكن لتحقيق العدالة الإلهية المطلقة التي تشمل كل شيء في الوجود، حيث يقتص من كل ظالم ومعتد، مهما كان أمره؛ ليتحقق موعود الله سبحانه وتعالى: )اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17)( (غافر)، فإذا ما تم القصاص عادت تلك الكائنات إلى الموت من جديد بعدما تحقق الهدف من بعثها وإحيائها، وهذا الحشر لتحقيق الغاية المشار إليها، وهي العدالة والقصاص العادل الذي لم يتحقق في الدنيا، وحانت لحظة تحققه في الدار الآخرة: )ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)( (الأنبياء).

عدل ما أعظمه وقسط ما أوسعه!! فهو يسع جميع المخلوقات، وتلك حقيقة تبعث في النفس طمأنينة وراحة، وتوجد نفوسا صحيحة خالية من الهموم والأحزان؛ لأنها تعلم جيدا أن حقها المسلوب مردود إليها لا محالة، فإن كان هذا شأن الوحوش وغيرها مما لا يعقل، فالأمر أوجب وأدعى في الإنسان.

ثانيا. الله يفعل ما يشاء، ولا ينبغي لأحد أن يسأله عن فعله:

الله – عز وجل – قادر على كل شيء، فهو يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فإذا حشر من لا عقل له أو من له عقل فإن ذلك سواء عنده سبحانه وتعالى؛ فالكل خلقه، وهو سبحانه يتصرف فيهم بما شاء كيفما شاء، وهذا معنى الإسلام الذي يعني الاستسلام التام لله تعالى بكل أمر ونهي، والتصديق الجازم لكل خبر، فإذا كانت العقول والجوارح لا تدرك بعض الأشياء المحسوسة؛ كالكهرباء، فمن باب أولى ألا تدرك حسابا وعقابا، وحشرا وبعثا، ونعيما وعذابا؛ لذا وجب التسليم، والإيمان بما أخبر به الله – سبحانه وتعالى – وأخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقول الإنسانية قاصرة عن إدراك الحقائق الإلهية الغيبية.

ثم إنه تعالى قد ينشئ للوحوش عقلا يوم القيامة، كما يفعل تعالى مع أهل الفترة، ومع من جاءته الرسالة وهو مجنون لا يعقل، فيقول: يا رب لم أعقل، فيعد لهم الله تعالى اختبارا، ويوقد له نارا، ويعد له جنة، ثم يقول تعالى له: ادخل النار فإن دخلها واستجاب للأمر الإلهي وجدها بردا وسلاما، وإن عصى ولم يدخل، فقد اعترض على أمر الله ولم يرض بأمره، ومن ثم يحق عليه العذاب، وهذا عدل إلهي لا يضاهيه عدل.

الخلاصة:

الحشر هو سوق الخلائق إلى الموقف لفصل القضاء، ولا فرق فيه بين من يجازى – وهم الإنس والجن المكلفون – بالثواب والعقاب، ومن لا يجازى كالحيوان وجميع من لا يعقل، فالحشر شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات وغايته تحقيق العدالة الإلهية المطلقة التي تشمل كل شيء في الوجود؛ حيث يقتص من كل ظالم ومعتد مهما كان أمره.

قدرة الله – عز وجل – مطلقة لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود، فهو قادر على أن يفعل كل شيء كيفما يشاء، وليس لأحد أن يسأله عن شيء.

(*) العقيدة في الله، د. عمر سليمان الأشقر، دار السلام، مصر، دار النفائس، الأردن، 1426هـ/ 2005م.

[1]. اليوم الآخر في الكتاب والسنة، د. عبد الباقي أحمد عطا الله، دار المنار، مصر، ط1، 1988م، ص162.

[2]. الجلحاء: التي لا قرن لها.

[3]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (6745).

[4]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج6، ص421.

[5]. جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج24، ص180.