تعزيز اليقين وهداية الحيران

مشكلة الشر

الكتب

الجواب عن سؤال الشر

هذا الكتاب يحوي نخبة منتقاة من المقالات والمناظرات والحوارات في منتدى التوحيد المتعلقة بقضية وجود الشر في العالم وعلاقته بوجود الله سبحانه وتعالى واتصافه بالكمال .
تحميل

كيفية الحصول على الحياة الطيبة؟

قضية الخير والشر لدى مفكري الإسلام

حاول المؤلف في هذا البحث أن يكشف المنهج الفكري لموقع المعتزلة والأشاعرة في هذه القضية من الناحيتين الميتافزيقية والإنسانية على حد سواء
تحميل

الإلحاد ومشكلة الشر (دراسة نقدية للإلحاد القائم على مشكلة وجود الشر في العالم)

تسعى هذه الدراسة إلى بيان أنَّ الشر لا يمثل حجة منطقيَّة أو برهانيَّة لنفي وجود الله. كما تسعى إلى تقديم تبريرات عقلانية للإيمان بالله مع التسليم بوجود الشر في العالم، تختلف عن دفاع اللاهوتيين وعلماء الكلام التي تقوم على مناهج خطابية وجدلية
تحميل

إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال

بيان لأسباب الزلزال الواردة في الكتاب والسنة المطهرة وفيه الرد على الملاحدة الذين يسندون هذه الحوادث إلى الطبيعة.
تحميل

عقائد المفكرين في القرن العشرين

نقد المؤلف تفسيرات الملاحدة لنشأة الدين وبين وجه الغلط فيها. وقام برصد لأهم الأسباب التي أدت إلى ضعف العقيدة الدينية في الفكر الأوروبي وإلى قوة الإلحاد وانتشاره. وناقش فكرة الدين الطبيعي وأسباب نشأته. وتحدث عن علاقة النظريات العلمية الحديثة بفكرة الإلحاد، وكشف عن الخلل في الاستدلال بها.
تحميل

أسس غائبة 25 مسألة في مشكلة الشر

يستعرض المؤلف في هذا الكتاب 25 مسألة من مسائل مشكلة الشر الشائعة حول وجود الألم والمعاناة في العالم، والتي يمثل الجهل بردود الإسلام عليها الأسس الغائبة التي قد تؤثر في بعض المسلمين للأسف، ولكن قبل ذلك يخوض لقرابة نصف الكتاب في مدخل عن مشكلة الشر، وأشهر الردود الغربية عليها، ومقارنتها بما في الإسلام.
تحميل

اللعين

رواية من مشهد واحد، لوحة حوارية جدلية بين الشيطان والإنسان، لتفنيد ادعاءات الإلحاد والملحدين بالمنطق لا بالأدلة الدينية
تحميل

فلسفة وجود الشر بين واحة الإيمان ومعضلة الإلحاد

في هذا البحث تم التركيز على تعريف الشر وذكر أصنافه، كما تم إيراد الحكم المستنبطة من مشيئته سبحانه وتعالى في ورود أنواع الشرور على الإنسان المكلف والسماح بوقوعها في اختبار عملي لإيمانه وصبره.
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

الزلزال.. لماذا لم يخلق الله حياة بلا شرور!؟

تشغيل الفيديو

مناظرة حول مشكلة الشر

تشغيل الفيديو

مشكلة وجود الشر

تشغيل الفيديو

الرد على مقولة ملحد لماذا الله لا يوقف الشر

تشغيل الفيديو

جدلية الشر.. أي الفريقين أحق الإيمان أم الإلحاد؟

تشغيل الفيديو

كورونا … بين القدر والأسباب

تشغيل الفيديو

ما هو الشر ؟ وما سبب وجود الشر في العالم ؟

تشغيل الفيديو

1- الإيمان بالقضاء والقدر

تشغيل الفيديو

لماذا يقدر الله علينا الأمراض والأوبئة؟

تشغيل الفيديو

أسئلة وردود حول الزلازل والأقدار المؤلمة

تشغيل الفيديو

الزلازل والشرور .. محاولة للفهم

تشغيل الفيديو

مفهوم الخير والشر في القرآن

تشغيل الفيديو

وجود الشر والظلم والبلاء دليل على وجود الله

تشغيل الفيديو

المغالطات الثمانية التي يقع فيها الملحد عندما يحتج بوجود الشر

تشغيل الفيديو

الحكمة من المرض

تشغيل الفيديو

كيف يكون العطاء في الحرمان؟! وكيف يكون الجمال في عدم الكمال ؟!

تشغيل الفيديو

الحكمة من وجود الشر

تشغيل الفيديو

كورونا.. والسيناريوهات الأربعة

تشغيل الفيديو

مشكلة الشر ووجود الله | عبدالله العجيري

تشغيل الفيديو

نقض شبهة مشكلة الشر للدكتور مطلق الجاسر

تشغيل الفيديو

كورونا.. فزع المادية وطمأنينة الإيمان!

المقالات

لماذا لا ينجحُ البعضُ في ابتلاءاتِ الدنيا؟

الحمدُ للهِ الرؤوفِ الرحيمِ، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ المرسلينَ والذي جاءَ رحمةً للعالمينَ يضعُ عنِ الناسِ إصرَهم والأغلالَ التي كانتْ عليهم..

يتساءلُ البعضُ عنْ حقيقةِ أنَّ الابتلاءَ على قدرِ الاستطاعةِ، وإنْ كانَ الأمرُ كذلكَ فلماذا يتفاوتُ الناسُ بينَ صابرٍ وقانطٍ متسخطٍ؟

وبعدَ سؤالِ اللهِ تعالى أنْ يفرِّجَ كربَ كلِّ مكروبٍ، نبدأُ في تناولِ الجوابِ محاولينَ الإحاطةَ ببعضِ الزوايا، وسيكونُ الجوابُ -بإذنِ اللهِ تعالى‐ منْ خلالِ العناصرِ الآتيةِ:

التكليفُ في حدودِ الاستطاعةِ.

لماذا الصبرُ؟

لماذا يسقطُ البعضُ؟

السبيلُ إلى الصبرِ.

القدرةُ على القيامِ وإنْ طالَ السقوطُ.

هذا، وما كانَ منْ توفيقٍ فمنَ اللهِ تعالى وحدَه، وما كانَ منْ زللٍ أو نسيانٍ فمنَ النفسِ والشيطانِ..

أولًا: التكليفُ في حدودِ الاستطاعةِ:

إنَّ اللهَ تعالى يعلمُ النفوسَ وطاقتَها، ومَنْ خلقَ النفسَ وجعلَ الابتلاءَ، قد عَلِمَ أنَّها على تحمُّلِه قادرةً، وقد قالَ سبحانَه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦]، وقد وضعَ اللهُ بعضَ التكاليفِ عمَّن لا يستطيعونَها كما لا يُكلِّفُ العاجزَ بجهادٍ، وكما يُفطرُ المريضُ، فاللهُ تعالى لا يأمرُ الناسَ بُمحالٍ، ونحنُ مأمورونَ بالصبرِ، واللهُ أعلمُ بنا منْ أنفسِنا، وعلى المؤمنِ أنْ يبحثَ عنْ أسبابِ ضعفِه أمامَ الابتلاءاتِ لا عنْ إخراجِ مبررٍ لهذا الضعفِ، وسقوطُ البعضِ أمامَ الابتلاءاتِ لا يقدحُ في إمكانيةِ الصبرِ، ولو قِيلَ هذا لقيلَ أيضًا إنَّ سقوطَ البعضِ أمامَ شهواتِه يدلُّ على عدمِ إمكانيةِ الصبرِ، وبهذا قد نبررُ كثيرًا من المعاصي بلْ والجرائمَ.

ثانيًا: لماذا الصبرُ؟

 نصبرُ لأنَّنا في اختبارٍ محدودةٍ مدتُه، وحسبُ عملِنا ستكونُ عاقبتُنا، وحلوُ الثمرةِ يهوِّنُ الابتلاءاتِ، لماذا؟

١- الابتلاءاتُ ستُنسى ويبقى جزاءُ الصبرِ نعيمًا مقيمًا:

 تخيَّلْ طفلًا حديثَ الولادةِ يبكي ويتألمُ، ويجوعُ ولا يستطيعُ أنْ يخبرَ أمَّه إلَّا بصرخاتٍ متواصلةٍ أو متقطعةٍ، فيكبرُ بينَ أبويهِ، ويتعلمُ في مدارسَ خاصةٍ، ويصيرُ رياضيًّا، ويأتيه والدُه بأحدثِ السياراتِ كلَّ عامٍ، ثمَّ يتولى إدارةَ أملاكِ والدِه الضخمةِ، ويتزوجُ بمَنْ أرادَها، ويُرزَقُ بأطفالٍ كأنَّهُمُ اللؤلؤُ.. هلْ تظنُ هذا الرجلَ السعيدَ الغنيَّ الرياضيَّ المُعافى يبتئسُ لوجودِه في الحياةِ بسببِ آلامِهِ وهوَ رضيعٌ؟

بالطبعِ لا؛ فتلكَ آلامٌ منسيةٌ، لا يذكرُها ولنْ يفعلَ.

هلْ تعلمُ أنَّ غمسةً في الجنةِ تُنسي كلَّ شقاءٍ؟

قالَ النبيُّ ﷺ: “ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ”. رواه مسلمٌ.

فهلْ يبتئسُ الإنسانُ منَ ابتلاءاتٍ في دنيا قصيرةٍ -سبقَ تبيينُ قدرِها- وهوَ سينسى أثرَ كلِّ ما عاناه منْ غمسةٍ؟

٢- حلاوةُ الثمرةِ تجعلُ الأمرَ يستحقُّ المجاهدةَ وتحمّّلَ المشاقِّ، وكما يقولُ الشاعرُ:

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا

وَمَن يخَطَبِ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ

وتأملْ هذا المثالَ الذي نشْهَدُهُ مرارًا في واقعِنا:

 امرأةٌ تزوجتْ، ورُزِقتْ حملًا أتعبَها، ثمَّ ولادةً ذاقتْ فيها ما لمْ تذقْه مِن قبلُ مِنْ آلامٍ، ثمَّ مشقَّةً منْ بكاءِ الطفلِ واستيقاظِه ليلًا طلبًا للغذاءِ..

ما بالُ هذهِ المرأةِ تسعى للحملِ مرةً أخرى وثالثةً وربَّما رابعةً أو أكثرَ؟

ما الجميلُ في هذا العناءِ لِتكرِّرَه؟

إنَّها ثمرةُ الأمومةِ، ورؤيتُها لطفلِها يكبرُ، فمِنْ أجلِ ذلكَ يهونُ كلُّّ شيءٍ، وتغبِطُ مَنٍ لمْ تُرزَقِ الولدَ تلكَ الأمَّ على ما هيَ فيه، تغبطُها رغمَ أنَّها لمْ تعاني مثلَها الآلامَ، ولكنَّها تعلمُ حلاوةَ الثمرةِ..

تأملْ قولَ نبيِّنا ﷺ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» (صحيح الجامع ٨١٧٧)

فلكَ أنْ تتخيلَ المآلَ حينَ يغبطُ أهلُ العافيةِ أهلَ البلاءِ.. ألا إنَّ سلعةَ اللهِ غاليةٌ، ألا إنَّ سلعةَ اللهِ الجنةُ!

قالَ تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة الزمر-١٠]

الذي له ملكُ السماواتِ والأرضِ يَعِدُ بأجرٍ، بغيرِ حسابٍ، فتأملْ!

ثالثًا: لماذا يسقطُ البعضُ؟

بدايةً فإنَّنا مُختبرونَ بالابتلاءاتِ، وطالما أنَّنا في اختبارٍ فإنَّ رسوبَ البعضِ ونجاحَهم أمرٌ مُتوَقعٌ، ولا يثيرُ أمرُ الراسبينَ دهشةً، والأمرُ محضُ اختيارٍ كما يختارُ البعضُ ألَّا يصلي، وهذا لا ينفي خصوصيةَ الصبرِعلى الابتلاءاتِ، ولوْ أردْنا إيجازَ سببِ السقوطِ في فخاخِ التسخُّطِ على قضاءِ اللهِ لَقلْنا بسببينِ:

١- عدمُ وجودِ الزادِ:

فإنَّ للصبرِ سبيلًا وأسبابًا لا بدَّ أنْ نأخذَ بها، وكما أنَّ مَنْ لمْ يتدربْ بَدَنيًّا جيدًا لا يستطيعُ الصمودَ في أرضِ الملعبِ، فكذلكَ مَنْ لمْ يدرِّبْ نفسَه فلنْ يستطيعَ الصمودَ بها أمامَ الابتلاءاتِ وشتى الفتنِ، وأسبابُ الصبرِ فيها تفصيلٌ سيأتي إنْ شاءَ اللهُ.

٢- المفهومُ الخاطيءُ عنِ الصبرِ:

وهنا فخٌّ منْ فِخاخِ الشيطانِ إذْ يُوهمُ المرءَ أنَّ لوازمَ الصبرِ تقتضي ألَّا يتألمَ الإنسانُ ولا يحزنَ ولا يبكي، فإنْ فعلَ ظنَّ أنَّ اللهَ كلَّفَه بما لا يستطيعُ، ثمَّ يتلقَّفُه اليأسُ، فيلتقمُه التسخطُ على أقدارِ اللهِ تعالى، ولكنْ على المرءِ أنْ يعلمَ أنَّ الحزنَ أو البكاءَ لا ينفي الصبرَ، بلِ المطلوبُ هوَ عدمُ إبداءِ التسخطِ، واحتسابُ الأجرِ على محاولةِ تحمُّلِ الابتلاءاتِ، وقد بكى الأنبياءُ وحزنوا، قالَ تعالى حكايةً عنْ نبيِّه يعقوبَ: {وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}[سورة يوسف]، فها هوَ نبيُّ اللهِ يعقوبُ حَزِنَ وبكى حتى فقدَ عينيه، ولكنَّه صابرٌ يشكو إلى اللهِ حالَه.

وهذا نبيُّنا ﷺ يقولُ عندَ موتِ ابنِه إبراهيمَ: [تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا إِبْرَاهِيمُ إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ.](رواه مسلم)، فعيناهُ دمعتَا وحزنَ قلبُه فِداه النفسُ.

ونرى عيناه تفيضانِ -عليه الصلاة والسلام- عندَ موتِ حفيدِه:«شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ…» رواه البخاري

رابعًا: السبيلُ إلى الصبرِ:

مَنْ أرادَ الصبرَ فعليهِ بالأخذِ بأسبابِه، وقدْ قالَ سبحانَه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا باللهِ}[النحل: ١٢٧]، فعلى المؤمنِ أنْ يستعينَ بربِه في أمرِه كلِّه، وأنْ يسألَه سبحانَه العونَ على الصبرِ، وهذه قبساتٌ مِنْ خطواتٍ قدْ تعينُ على الصبرِ:

١- إدراكُ حقيقةِ الدنيا ومنزلةِ الآخرةِ، ومعرفةُ بعضِ ما أعدَّه اللهُ للصابرينَ؛ فمعرفةُ حقيقةِ الدنيا وأنَّها قصيرةٌ عابرةٌ لا تكادُ تساوي شيئًا أمامَ الخلودِ مِنْ أعظمِ ما يعينُ العبدَ على الصبرِ، وإنَّكَ قدْ تصبرُ على حالٍ بائسٍ في دنياكَ حينَ تعلمُ أنَّ الأحوالَ ستتبدلُ بسببِ نقلِ مسكنٍ أو الحصولِ على وظيفةٍ جديدةٍ، فكيفَ بإدراكِ حقيقةِ الدنيا وما أعدَّه اللهُ لأهلِ الجنةِ؟

٢- تزكيةُ النفسِ، قالَ تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)}[سورة الشمس]، وتزكيةُ النفسِ تكونُ بالآتي:

أ- زيادةُ الأعمالِ الصالحةِ؛ فإنَّ الإيمانَ يزيدُ بالطاعاتِ، وقدْ قالَ ﷺ: [بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ](رواه مسلم)..

فبالأعمالِ الصالحةِ يزيدُ الإيمانُ، وبزيادةِ الإيمانِ نواجهُ الفتنَ والصعوباتِ.

ب- تركُ المعاصي: فكما يزيدُ الإيمانُ بالطاعاتِ فإنَّه ينقصُ بالمعاصي، ولذلكَ علينا أنْ نسمو بأنفسِنا عنْ الذنوبِ وأنْ نبادرَ بالتوبةِ والاستغفارِ إنْ زلتْ أقدامُنا.

وحقيقةً فإنَّ حياةَ المؤمنِ محورُها التزكيةُ..

٣- التعلمُ عنِ اللهِ تعالى؛ فبمعرفتِه سبحانَه وأسمائِه وصفاتِه نزدادُ حبًا له، ونزدادُ فقهًا لأفعالِه معنا سبحانَه، ومِنْ فَقِهَ حكمةَ اللهِ وأفعالَه في كثيرٍ مِنْ أمورِنا لَهانَ عليه ما يلقاه في سبيلِ ربِّه، ولَعلِمَ أنَّ للهِ في كلِّ شيءٍ حكمةً، وأنَّ اللهَ يجزي على الصبرِ ويضاعفُ الأجرَ، وأنَّه في بعضِ المنعِ عطاءٌ، وفي بعضِ التأخيرِ الخيرُ الكثيرُ.

٤- تدبرُ القرآنِ؛ ففيه شفاءٌ لِما في الصدورِ، وفيه أخبارُ الأنبياءِ وصبرُهم، وفيه فِقْهُ تلكَ الحياةِ، وهوَ شفاءٌ لما في الصدورِ كما قالَ سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: ٥٧].

٥- البحثُ عنْ سيرِ الصالحينَ والصابرينَ سواءً مِنَ المعاصرينَ والقريبينَ منكَ أو مَنْ توفَّاهمُ اللهُ تعالى؛ ففي الاعتبارِ بقصصِ الآخرينَ وقودٌ يشعلُ حرارةَ الإيمانِ في القلبِ، وهذا الأمرُ يعرفُه كلُّ مَنْ عايشَ حياةَ هؤلاءِ.

٦- النظرُ إلى النِّعمِ، ومعرفةُ أنَّنا وإنْ ابتُلينا بأشياءَ، فإنَّ اللهَ قدْ أنعمَ علينا كثيرًا، وفِقْهُ هذا الأمرِ يعيقُهُ المقارنةُ بالآخرينَ..

لوْ خلقَ اللهُ البشرَ بأجنحةٍ إلا قلةً لا أجنحةَ لديهم ولا يستطيعونَ الطيرانَ.. ماذا سيحدثُ؟

– سيعدُّ هؤلاءِ القلةُ أنفسَهم في ابتلاءٍ، وقدْ يتسخَّطونَ مِنْ وضعِهم هذا!

فماذا لوْ كانَ البشرُ كلُّهم أصحابَ عُرْجٍ أو كانوا بعينٍ واحدةٍ؟

– لوْ كانَ هذا لَمَا نظرْنا لتلكَ الأمورِ على أنَّها ابتلاءاتٌ..

فاللهُ سبحانَه أنعمَ علينا كثيرًا، ولكننا نغفلُ عنْ تلكَ النِّعمِ كما أنَّنا ننظرُ إلى الآخرينَ..

سابعًا: البحثُ عنْ صحبةٍ صالحةٍ

قالَ تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: ٢٨]، فهذا أمرُ اللهِ لنبيِّه ﷺ، فكيفَ بنا؟

خامسًا: القدرةُ على القيامِ وإنْ طالَ السقوطُ:

كانتِ الخنساءُ مِنْ شعراءِ الجاهليةِ، وماتَ أخوها صَخْرٌ، فملأتْ مجالسَ العربِ بأشعارِ الرَّثاءِ باكيةً أخيها، واستمسكتْ بحِدادِها أعوامًا حتى أدركتِ الإسلامَ ونالها فضلٌ مِنْ ربِّها فأسلمتْ وحَسُنَ إسلامُها، ثمَّ يسجِّلُ التاريخُ صبرَها العجيبَ حينَ قُتِلَ أولادُها الأربعةُ في اليومِ نفسِهِ في القادسيةِ..

كيفَ صبرتْ على مصابِها في أولادِها الأربعةِ وهيَ التي لم تصبرْ على ما هوَ أهونُ؟

قدْ أدركتِ الخنساءُ حقيقةَ الدنيا وأخذتْ بأسبابِ الصبرِ، فوجدتْ مِنْ نفسِها بفضلِ اللهِ عنْ المُصابِ خيرًا.

فلا ينبغي لمؤمنٍ أنْ ييأسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ أوْ أنْ ييأسَ مِنْ نفسِه أنْ تتوبَ بعدَ زيغِها أو تصبرَ بعدَ قنوطِها؛ فإنَّ اللهَ ييسِّرُ ويعينُ.

الخلاصةُ:

لا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَها، ونحنُ في اختبارٍ، وهناكَ مَنْ سينجحُ وهناكَ مَنْ سيرسبُ، والثمرةُ تستحقُ المجاهدةَ، وعلى المؤمنِ أنْ يأخذَ بأسبابِ الصبرِ وألا يقْنَطَ مِنْ رحمةِ ربِّه ولا ييأسُ مِنْ نفسِه وإنْ طالَ تسخُّطُها، وربُّ العالمينَ توابٌ رحيمٌ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المصدر

مُشكلةُ الشَّر، مُعضِلَةُ المُلحِد.

إنَّ مِنْ تمامِ عقلِ الإنسانِ اعترافُه بقصورِه، وعجزِه عنِ الوصولِ لعمقِ حقائقِ الأشياءِ مِنْ حولِهِ وتبيانِ ماهيّتِها، ومن هنا كانت حاجتُه الدَّؤوبةُ لمعرفةٍ تفوقُ قدراتِه الإدراكيَّةِ تعينُه على فَهمِ نفسِه وفهمِ الكونِ الّذي يحيا به.

ومِنْ لحظةِ إرسالِ اللهِ عزَّ وجلَّ للرُّسل، محمَّلين بأدلَّةِ صدقِ نبوَّتِهم عليهمُ السَّلامُ؛ والعقلُ البشريُّ المؤمنُ الصَّادقُ الخالي منَ الشُّبهاتِ والشَّوائبِ يُدركُ حجمَ حاجتِه لهذا المدادِ السَّماويَّ، شعاعِ النُّورِ الذي أضاءَ عتمتَه، وأهداه السَّبيل، وقدَّمَ له الإجاباتِ الشَّافيةَ والكافيةَ لكلِّ تلكَ الأسئلةِ المؤرِّقةِ الَّتي كانت تقفُ حاجزًا بينَه وبينَ فهمِه لنفسِه، وبينَه وبينَ فهمِه للحياة.

ومِنْ تلك الحواجزِ الَّتي أوجدَتْها الأزماتُ العاطفيَّةُ والنَّفسيَّةُ البشريَّةُ: (مشكلةُ الشَّرِّ)، فالعقلُ الّذي تقبَّلَ صفاتِ اللهِ كما جاءَ بها رسلُه من تمامِ عدلٍ وحكمةٍ ورحمةٍ؛ بدأت مصاعبُ الحياةِ تعبثُ به، مثيرةً الشَّكَّ والرِّيبةَ لتضعَه أمامَ سؤالٍ مركزيٍّ واحد، كانتِ النُّقطةَ الَّتي انطلقَ أغلبُ الملاحدةِ منها في إنكارِهم لوجودِ الله؛  لماذا يوجدُ شرٌّ إن كانَ هناك خالق؟، لماذا هذا الخالقُ لا يُبالي بكلِّ الكوراثِ الَّتي تحُلُّ على مخلوقاتِه؟!.

إذا رجعْنا إلى أصلِ القولِ في وجودِ الشَّرِّ؛ فإنَّنا نقفُ على احتمالاتٍ عدَّة،

أوَّلها: أنَّ اللهَ الرَّحيمَ اللَّطيفَ لم يخلقِ الشَّرَّ أساسًا، وهذا يعني أنَّه خالقٌ غيرُ قادرٍ على منعِ ظهورِه، ممَّا يعني عدمَ  قدرتِه على إدارةِ خلقِه- تعالى ربِّي عمَّا يصفون-،

وثانيها: أنَّ اللهَ قد خلقَ الشَّرَّ فعلًا ولكنَّه خلقَه لحكمةٍ تتناسبُ مع تمامِ وكمالِ قدرتِه وعلمِه وإرادتِه، بل وحتَّى تمامِ رحمتِه وصفاتِه،

أمَّا الاحتمالُ الثَّالثُ؛ وهو ما يجنَحُ إليهِ الملاحدةُ: القولُ بأنَّ وجودَ الشَّرِّ دليلٌ على غيابِ الخالقِ، وما قولُهم هذا إلَّا انعكاسٌ لسوءِ فهمٍ وتقديرٍ لطبيعةِ الحياةِ والغايةِ الَّتي خلقَ اللهُ مِنْ أجلِها الدُّنيا، فالعلَّةُ هنا أوِ الآفَّةُ كما أطلقَ عليها الشَّيخ محمدٌ الغزاليُّ: “ آفتُكم أنَّكم لا تعرفون طبيعةَ هذه الحياةِ الدُّنيا، ووظيفةَ البشرِ فيها؛ إنَّها معبَرٌ مؤقَّتٌ إلى مستَقَرٍّ دائمٍ، ولكي يجوزَ الإنسانُ هذا المعبرَ إلى إحدى خاتمتَيه؛ لا بدَّ أن يُبتلى بما يصقلُ معدِنَه، ويهذِّبُ طباعَه، وهذا الابتلاءُ فنونٌ شتَّى…”، فلمْ تُخلقْ هذه الدُّنيا للمتعةِ فقطْ، حتَّى إذا ظهَرَ بها ما يُكدِّرُ صفوَها؛ خلعوا الإيمانَ باللهِ وغابتْ عن أذهانِهم كلُّ صفاتِه الَّتي كانوا يقرُّونَ بها، والَّتي قامت عليها أصولُ الاعتقادِ مدعَّمةً بالأدِّلةِ الشَّرعيَّةِ والعقليَّةِ والكونيَّةِ، وكيف يمكنُ إهمالُ هذه الأدلَّةِ المتحقِّقةِ لصالحِ شبهةٍ بُنيتْ على افتراضِ وجودِ الخالقِ أصلًا، ذاك لأنَّكَ لن تستطيعَ مناقشةَ صفاتِ الشَّيءِ ما لمْ تكنْ مؤمنًا بشكلٍ أو بآخر بوجودِه!.

إنَّ قصورَ العقلِ البشريِّ عن معرفةِ حكمةِ اللهِ مِنْ خلْقِ الشَّرِّ، أو حتَّى محاولاتِه لتفسيرِها لا تعني بالضَّرورةِ غيابَها، فـ(عدمُ العلمِ ليس علمًا بالعدمِ).

كيف ننظرُ إذًا لمشكلةِ الشَّرِّ؟

إنَّ نظرةَ المؤمنِ لوجودِ الشَّرِّ تُمثِّلُ جزءًا مِنْ منظومةِ إيمانِه المتكاملةِ، والَّتي تبدأُ بالإيمانِ باللهِ وتنتهي بالإيمانِ باليومِ الآخِرِ وبالقدرِ خيرِه وشرِّه، ويعلمُ المؤمنُ علْمَ اليقينِ بأنَّ الحياةَ الدُّنيا دارُ نقصٍ لا كمالٍ، وما تقلُّبُه فيها بينَ الخيرِ والشَّرِّ إلا ابتلاءٌ له وفتنةٌ واختبارٌ، لقوله تعالى: ﴿…وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وأنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهِيَ المستقَرُّ، وفيها ينالُ كلُّ إنسانٍ جزاءَ أعمالِه؛ فإنْ كانَ خيرًا فخيرٌ، وإنْ كان شرًّا فشرٌّ، ويَقتصُّ اللهُ بها من الظَّالمينَ، وينصرُ بها المظلومين.

وممَّا يراه المؤمنُ في الشَّرِّ؛ أيضًا أنَّه لا يأتي مجرَّدًا خاليًا من صورِ الخيرِ أو أشباهِه، فلمْ يخلقِ اللهُ شرًّا محضًا، فكلُّ تلك الأمراضِ الَّتي فتكتْ بالبشريَّةِ كانتِ الحافزَ الأوَّلَ للبحثِ عن علاجاتٍ لها، والحقُّ أنَّ كلَّ الرَّاحةِ التي نعيشُ بها اليومَ جاءتْ نتيجةَ تعبٍ ونصَب، وكم من بلاءٍ أصابَ الإنسانَ فأعادَه إلى خالقِه!، فأصلُه شرٌّ ونتاجُه خيرٌ، بل إنَّ الكوارثَ الطَّبيعيَّةَ التي تحدثُ دونَ تدخلَّاتٍ بشريَّةٍ يراها اليومَ العِلمُ الوسيلةَ المثاليَّةَ الَّتي تخدمُ حياةَ الإنسانِ وتنفعُه، وإن كانتْ مصحوبةً ببعضِ الخسائرِ، فهذهِ البراكينُ على سبيلِ المثالِ التي تثورُ من باطنِ الأرضِ لتحرقَ ما حولَها، تأتي محمَّلةً بالمعادنِ والعناصرِ اللَّازمةِ لإعادةِ إحياءِ الأرضِ الجدباءِ الَّتي أفسدها سوءُ فعلِ البشرِ.

إنَّ مجرَّدَ وجودِ الشَّرِّ لا يمكنُ اعتبارُه سببًا  كافيًا أو حجَّةً تنفي بها وجودَ الخالقِ الذي سبقَ ثبوتُه بأدلَّةٍ قطعيَّةٍ عقليَّةٍ متعدِّدة، في حينِ تستندُ شبهاتُ مشكلةِ الشَّرِّ على حججٍ واهيةٍ وأهواءَ ترجعُ لاضطراباتٍ في التَّعاملُ معَ المشاكلِ والابتلاءاتِ الحياتيَّةِ، وإن كانتِ المُعضلةُ بدأتْ من سؤالٍ؛ فمِنْ حقِّنا أيضًا أن نطرحَ أسئلتَنا: هل غابَ الشَّرُّ في عالَمِ الملاحدةِ بعد أنِ اقتنعوا بأنْ لا خالق؟، هلِ انتهتِ الحروبُ والمجاعاتُ وانقطعَ موتُ الأطفال واستحالتِ الحياةُ  إلى خطِّ سعادةٍ أبديٍّ لا ينقطع؟، ماذا يفعلُ هذا المظلومُ الَّذي لا يجدُ مَنْ ينصرُه؟، من يحاسبُ الظالمَ ومتى ينتصرُ المظلومُ؟.

هذا ما يجعلُ مشكلةَ الشَّرِّ في الحقيقةِ معضلةً ومشكلةً للملحدِ نفسِه الذي لن يجدَ لها جوابًا على ضوءِ ما يعتقدُه، وعلى ضوءِ فهمِه المنقوصِ لحقيقةِ الخلقِ والغايةِ منه، بينما يرى المؤمنُ في وجودِ الشَّرِّ تأكيدًا آخرَ على وجودِ الخالق.

المصدر

هل وجود الشر ينفي وجود الله عز وجل ؟

الوجود الإلهي ومشكلة الشر!

“هي مشكلة المشاكل في جميع العصور، وليس البحث فيها مقصورا على القرن العشرين، ولا نظن أن عصرا من العصور يأتي غدا دون أن تُعرض فيه هذه المشكلة على وجه من الوجوه، وأن يدور فيه السؤال والجواب على محور قديم جديد”([1]) [العقّاد]

تاريخ الشُّبهة:

منذ آلاف السنين وقضيَّة الشر حاضرة في الفكر الإنساني، ابتداءً بطائفة الشُكّاك الذين جاؤوا بعد أرسطو واعترضوا على الوجود الإلهي بسبب حصول الشر في العالم، مرورا بالفيلسوف اليوناني إيبيقور وأتباعه الذين أنكروا العناية الإلهية للسّبب ذاته، وحتى جاء الاهتمامُ البالغ بأسس هذا الموضوع في الفكر الإسلامي وتناوله بتعمُّق واستقصاء، ثمَّ كان بروز القضيّة في الفكر الغربي تزامنا مع عصر النهضة، ومحاولة علماء كثيرين أن يقدّموا جوابا مقنعا يصلح لتهدئة الناس تجاه هذه القضية التي بدأت تتحول في النفوس إلى “مشكلة” خصوصا مع التَّدْميراتِ التي أحدثها زلزال لشبونة الشهير وما يشابهه من وقائع تأخذ الإنسان بغتة، ثمّ جاءت القاضية باندلاع الحربين العالميتين فاحتلَّت تلك القضيَّةُ مكانةً عُظْمى من الاحتجاج والجدل.

ومع اشتداد الآلام، طفق بعض رجال الدين المسيحي في الغرب يصرّحون بعبارات تدلّ على إدراكهم لعمق المأزق، إذ يقول جون ستون –وهو من رجال اللاهوت-: “إن حقيقة المعاناة تشكل بلا شك التحدي الأعظم الوحيد للإيمان المسيحي، وقد كانت هكذا في كل جيل، إن توزيعها ودرجتها تبدو أنها عشوائية تماما، ومن ثم غير عادلة، فالأرواح الحساسة تتساءل: هل يتوافق ذلك مع عدالة الله ومحبته؟!”([2])

وتسبَّب هذا كلُّه في اعتماد كثير من الناقدين للأديان من الملاحدة والربوبيِّين على مشكلة الشر واستدلالهم بها في موقفهم تجاه الإله، سواء بإنكار وجوده في حالة الملحدين، أو إنكار تدبيره للكون في حالة الربوبيّين.

ومن أبرز الملاحدة المحتجّين بتلك القضية من فلاسفة الغرب وعلمائه المحدَثين: هولباخ الذي اعتبر مظاهر الشرّ الواقعة في الكون مناقضة لاتصاف الإله بالرحمة والعدل، ونيتشه الذي وصف الإله “بالشرّير” للسبب ذاته، وداروين الذي اعتبر الشرور من وسائل التشكيك في وجود الله وعدله.

وكذا كانت قضيَّةُ الشَّرِّ أحدَ الأسباب التي دعت أنتوني فلو، ولي ستروبل إلى الإلحاد قبل رجوعهما إلى الإيمان.

عرضُ الشُّبهة:

مع اختلاف أساليب الاحتجاج بتلك القضيَّة، فإنَّ طريقة الفيلسوف اليوناني إيبيقور هي الأكثر حضورًا واعتمادًا عند جُلِّ من يتعرَّض لمشكلة الشَّرِّ، وحاصلُها: أنه إذا افترضنا أن الله كلّيُّ الرحمة والقدرة والإرادة كما يقول المؤمنون، فإنَّ الأمرَ لا يخلو من أربعة احتمالات:

إما أنَّ اللهَ يريد أن يمنع الشر ولا يستطيع.

وإما أنَّه يستطيع ولا يريد.

وإما أنَّه لا يستطيع ولا يريد.

وإما أنَّه يستطيع ويريد.

فإن كان الأوَّل؛ فهو عاجز ليس كلي القدرة فلن يكون إلها، وإن كان الثاني؛ فهو قاسٍ ليس كلي الرحمة فلن يكون إلها كذلك، وإن كان الثالث؛ فهو أشدُّ عجزًا ونقصًا،وإن كان الرابع؛ فليس لوجود الشر في الكون تفسير إلا أنَّ الإله غير موجود([3]).

مُجمَل الرَّدِّ على الشُّبهة:

يمكن تجليةُ الجوابِ عن مشكلة الشر بإيضاح جملة من الأصول الكلية، تُمهِّد بين يدي الجواب التفصيلي، على النحو التالي:

الأوَّلُ:

أنَّ اللهَ سبحانَهُ موصوفٌ أبدًا بالحكمة ولا يَفعلُ شيئًا إلا لغايةٍ حميدةٍ، فالكون مشتمل على أعلى درجات الدّقة والإتقان والجمال، فيستحيل أن يكون ذلك بلا غاية، فجميع أسماء الله وصفاته وآياته المشهودة في الكون تمنع أن يصدر عنه فعل إلا لحكمة بالغة.

الثَّاني:

أنَّ البَشَرَ لا يُمْكِنُ أن يحيطوا بكمال الله في علمه وحـكمته، ويستحيل عليهم أن يعلموا بكل مقاصد الله في خلق الكون وأحـداثه، لأنه متصف بكمال العلم وهم متصفون بنقصه، فكماله يمنع ذلك وكذا حكمته سبحانه، بل إن الإنسان لو أطْلَع غيره على جميع شأنه عُدَّ سفيها جاهلا، وشأن الرب أعظم من أن يَطَّلِعَ كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته([4]).

الثالث:

حِكمة الله سبحانه منها ما يظهر ومنها ما يخفى، والواجب على الإنسان أن يردّ ما يخفى إلى ما يظهر، فالحِكم الظاهرة من خلق الله كافية في تأسيس اليقين بأن الله تعالى لا يفعل في الكون إلا ما هو خير وصلاح.

الرابع:

أن الكمال الإلهي يستوجب تعدد أصناف الموجودات واختلاف طبائعها، فاتصافه بالقدرة يستوجب وجود الخلق، ووجود المتضادات في الكون، واتصافه بالإحسان يستوجب وجود العطاء، واتصافه بالعفو يستوجب وجود المخطئ والمذنب، واتصافه بالعدل يستوجب وجود الظالمين والمظلومين، وكذلك الحال في كل معاني الكمال الإلهي، ومن ثمّ، فإن وجـود الشر الإضافي في الموجودات هو حَدَث لازم في الوجود؛ لأنه بوقوع جنسه تنجلي عدد من الكمالات الإلهية، كالقدرة على خلق المتضادات، وانجلاء معاني الملك والجلال والجبروت وغيرها([5]).

الخامس:

أنَّ التكليفَ بالشَّرائعِ التعبُّديَّة قائمٌ على حُرِّيَّةِ الإرادة، ولو جعل اللهُ النَّاسَ كلَّهم مجبرين على أعمالهم لما صحَّ في العقل أن يُكلَّفَ أحد بشيء. واتصاف الإنسان بحرية الاختيار يستلزم وجود الصواب والخطأ، والقدرة على فعل الحسن والقبيح، وهذا يقتضي ضرورة صدور الشر من الإنسان، وحدوثه منه في الواقع، وبذلك يحصل التفاضل بين الناس، ويتحقق التمايز بينهم.

فهذا إجمال للأصول الكلية الناظمة للنظر الصحيح في هذه المشكلة، ونشرع الآن في تفصيل ما أجمل، وتوضيح ما أشكل، وبَسطِ ما اختُصِر.

مُفصَّل الرَّدِّ على الشُّبهة:

لقد خاضَ النَّاسُ كثيرًا على اختلافِ اختصاصاتهم الفَلْسَفِيَّة والدِّينيَّةِ والمعرِفيَّةِ في هذه القضيَّة، وقدَّموا لها حلولاً بحسب منطلقاتهم الفَلْسَفِيَّة أو الدِّينيَّة، وليس من شأننا أن نستقصي في ذكر ذلك، ولكنَّنا سنذكر ما رأيناه الأضبطَ في تحديد الرُّؤية المستقيمة للقضيَّة انبثاقًا من منهاج أهل السُّنَّة والجماعة في الأصول، وقد وقع المعترضون في أخطاءٍ أبرزها ما يلي:

أولا:

سوء تصوُّرهم للكمال الإلهي، فإنهم اختزلوه في صفة الرحمة دون النظر لصفات أخرى كالحكمة والعلم وغيرها من الصفات، ونتيجة لذلك رأوا أن اتصاف الله بالرحمة يلزم منه انتفاء وقوع مظاهر الشر في الكون، ولكن الكمال الإلهي في حقيقته لا يتمّ إلا بتضافر هذه الصفات معاً واستحضارها مجتمعة دون إغفال واحدة منها لما يترتّب عليها من آثار، ولو أنّهم فعلوا ذلك لعلموا أن مظاهر الشرّ قد تقع لحِكم تترتّب عليها لا للشرّ ذاته، فقد يفعل الأب بابنه فعلا ظاهره الشرّ لكنه يفعله حرصا على خير يأتيه بعده أو دفعا لشرّ أعظم وأخطر منه، ولسنا نقصد من هذا المثال المطابقة بين الصورتين ولا تشبيه خلق الشر بفعل الإنسان، ولكن المقصود هو أن وقوع الشر لا يلزم منه انعدام الرحمة، وهي صورة عقلية ضرورية، فمثل المدّعي أن وقوع الشر ينافي الألوهية كمثل من يدّعي أن حرص الوالد على ولده بطريقة تسبب الألم للابن = منافٍ الأبوّة!

وقد يعترض البعض: بأن الإنسان يفعل الشر لأجل الحكمة لأنه ناقص القدرة، لكنّ الله كامل القدرة، ولذلك لا يصحّ في حقِّه هذا الفعل.

وهذا الاعتراض باطل، لأنَّ استنتاجَ أنَّ كامل القدرة لا يخلق ما ظاهره الشرِّ لعدم وجود حكمة من ذلك = يحوي قفزا حكميًّا، فعدم المعرفة بحكمته ليس معرفة بعدمها.

كما أن هذا الاستنتاج قد تمّ بحكمة وعلم ناقصين وهما علم وحكمة الإنسان، وقد علمنا أن حكمة الله كاملة وعلمه كامل تماما ككمال رحمته وقدرته، فكيف يمكن أن نحاكم الكامل بالناقص؟!

ومن ذلك يُعلم: أن الفعل إنما يُحكم عليه بما يتعلق به من اعتبارات وجوديّة، ولا علاقة له -هنا- بتمام قدرة فاعله من نقصها، فإن تعلّقت به اعتبارات صالحة فهو خير، وإن كان شرّا في الظاهر.

فأصل الاعتراض هنا: هو النظر لصفة الرحمة دون تضافرها مع الصفات الأخرى، لا سيما صفتي العلم والحكمة، فهذه المسألة – بل جميع مسائل القدر- ترتبط بصفة الحكمة ارتباطا وثيقا، ولذلك يقول ابن القيّم رحمه الله عن باب القدر: “هو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، والحكمة آخيته (محوره وصلبه) التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها”([6]).

ثانيا:

الظنُّ الخاطئ بإمكانيَّة الإحاطة بكمال الله، فالبشر جميعا عاجزون عن ذلك، ويتأكَّد عجزهم في مجال الحكمة والعلم والغايات، لكونه ألصق بالربوبيّة وأدقّ من غيره، قال تعالى: ” عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا“(الجنّ: 26)، وقال: “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا“(طه: 110).

وما أحسن كلام ابن القيّم رحمه الله في هذا الباب إذ يقول: “فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته … ، فإن علوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه، كما يضمحلُّ ضوءُ السِّراجِ الضَّعيفِ في عَيْن الشمس”([7]).

فالمؤمنون يستحضرون العظمة الإلهية من كل جوانبها، في العلم والقدرة والحكمة والجلال والجبروت في تعاملهم مع تلك القضيّة، وأمّا المعـترضون فيغفلون عن هـذه الحقيقة، وكأنهم يعترضون على مخلوق محـدود القدرة والعلم والحـكمة، وكأنه يمكن للبشر أن يحيطوا بعلم الله وحكمته وقدرته.

يقول ابن القيّم مبيّنا شناعة هذا الخطأ: “فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القِحَة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين = عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه، وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك، فسبحان الله رب العالمين! تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون”([8])

وكشف هذين الخطأين يكفي في الجواب عن هذا الاعتراض، ولكننا سنزيد أمورا طلبا لجلاء الصورة:

ثالثا:

التصوُّرُ الخاطئ لطبيعة الوجود، فالطبيعة لها لوازمها التي لا يمكن قيامها إلا بها وإذا حدث اضطراب في أحدها سيختلّ نظامها تماما، وستصبح شيئا آخر غير نفسها، ونتيجة لاختلاف أنماط العيش في هذه الحياة، كان حدوث الآلام والأضرار جزءًا مهمًّا منها، فإذا لم توجد بعض الطيور التي تتغذّى على بعض الحشرات لتكاثرت بصورة مرعبة، وفي المقابل إذا تم القضاء على نوع معيّن من الحيوانات المفترسة لاختلّ النظام البيئي، فكذلك إنّ كل أنواع الشرور الموجودة في الكون ما هي إلا مكوّن أساسي في طبيعة الحياة، وهذا هو ما سمّاه الأستاذ عبّاس العقّاد بـ (حلّ التكافل بين أجزاء الوجود) ، يقول في بيانه: “خلاصة الحل الذي نطلق عليه اسم (حل التكافل بين أجزاء الوجود) : أنَّ المعتقدين به يرون أن الشر لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزء متمِّمٌ له أو شرطٌ لازمٌ لتحققه، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشِّدَّة، ولا معنى لفضيلةٍ من الفضائلِ بغيرِ نقيصةٍ تقابلها وترجِعُ عليها”([9]).

فالمعترض على الوجود الإلهي بقضيّة الشر، لا يعترض على وقوع الشر فحسب، وإنما هو في الحقيقة يعترض على طبيعة الوجود بأكمله، وقوانينه ومساره.

ويبرز هذا المعنى قولُ ابن تيمية رحمه الله: “خَلْقُ هذه الطَّبيعةِ بدونِ لوازمها ممتنعٌ، فإنَّ وجودَ الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ، ولو خُلِقَتْ على غير هذا الوجه لكانت غيرَ هذه، ولكانَ عالَمًا آخرَ غيرَ هذا، قال: ومِنَ الأشياء ما تكون ذاتُه مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفكُّ عنه-كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى-، فإذا قيل: لِمَ لَمْ تخلق الحركة المعيَّنة باقية؟ قيل: لأنَّ ذاتَ الحركة تتضمَّن النُّقلةَ من مكان إلى مكان، والتحوُّلَ من حالٍ إلى حالٍ، فإذا قُدِّر ما ليس كذلك لم يكن حركةً”([10]).

فطبيعة الوجود تقتضي أن يكون للشيء جوانبُ نافعةٌ وأخرى ضارَّةٌ، ومن يعترض على وجود الجوانب الضارَّة؛ فإنه يعترض على وجود الشيء كلّه؛ لأن جانبيه لا ينفصلان، فالنار تهدي السائرين وتُنضج الطعام وتُدفئ في البرد، ولكنها تحرق من لمسها أو اقترب منها، وسؤال المعترض هو كسؤال: هلّا تجرّدت النار عن الإحراق؟! وكسؤال: لماذا لا يتصف المخلوق بالعلم والغنى الكاملين؟!([11])، إنها إن تجرّدت عن ذلك فلن تكون نارا، وإنه لو تجرّد عن نقصه وفقره لم يكن مخلوقا، وكذلك العالم الذي نعيشه، فإنه لو تجرّد عن وقوع الشرّ فيه لصار شيئا آخر.

وليس في المصير إلى هذا النوع من الجواب تعلُّقٌ بالمجهول، أو احتجاجٌ بالجهل العَدَمِيِّ، وإنما هو في حقيقته رجوع إلى المحكمات، واحتكام إلى العلم اليقيني، فإن العقلاء يسلمون بأن في قدرة الطبيب الماهر الصادق وعلمه ما يجعله يفعل أمورا لا يعلمون لها حِكمةً ولا فائدةً، ولا يشترطون معرفة الحكمة التفصيلية منها أو إدراكها بالحسّ، ومع ذلك فهم لا يقدحون في علمه وحكمته، فمن باب أولى أن يسلّموا بعلم الله وحكمته.

فإن قيل: إذا كان الله متَّصِفًا بكمال القدرة فلا يمتنع عليه أن يجد طريقة لإظهار مقتضيات حكمته، وترتيب قوانين الكون من غير وجود الشر.

قيل: إن هذا السؤال فضلا عما فيه من خطأ في افتراض وجود الملزوم بغير لازمه الضروري، فإنه ناشئ عن تكبيرٍ وتضخيمٍ للذات الصغيرة الحقيرة، فحقيقته: راجعةٌ إلى أن محدودَ القدرة والعلم يفترض أن هناك طرقًا أخرى لتدبير الكون أكملَ مما وضعه الله، وأنه يمكن له أن يقترح على الله (كامل العلم والقدرة) فعل ذلك، وهذا منافٍ للعقل والمنطق.

رابعا:

القصورُ في تصوُّر الشرِّ، فإنَّ كافَّةَ الشُّرورِ الواقعةِ في الدنيا ليست شرورا محضة، وإنما تحوي جوانبَ من الخير قلّت أو كثُرت، فالله تعالى لا يخلق شرا محضا؛ لأن خلق الشر المحض منافٍ للحكمة، وهو نوع من العبث الذي ينزه الله عنه، وكل الشرور التي توجد في الخلق فهي شرور إضافية نسبية([12]).

“فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة، ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟! وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتفلة في بحر؟!وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك؟! وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها، كم تؤذى مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة، وكم تعطش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تشف من مورد، وتحرق من زرع، ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟! فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شرٌّ كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه”([13]).

ويبدو هذا المعنى جليًّا في قصة موسى مع الخضر، فإنه فعل أفعالا ظاهرها الشر، ولم يفهم موسى عليه السلام منها إلا أنها شر محض، ولكن الخضر كشف عن الخير الخفي الذي كان وراء أفعاله، فأثبت له أن أفعاله كانت شرورًا نسبية إضافية، وقد علق الرازي على هذه الحادثة بقوله: “كلُّ ما في العالم من مِحنةٍ وبليَّةٍ وألمٍ ومشقَّةٍ فهو وإنْ كان عذابًا وألمًا في الظَّاهر إلا أنَّه حِكْمَةٌ ورحمةٌ في الحقيقة، وتحقيقُه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثيرٌ”([14]).

خامسا:

الخطأ في تقييم الحياة في الدنيا، فإنّ المعترض ينطلق من أن غاية الحياة في الدنيا تنحصر في الظفر بالخير المطلق، الذي لا كدر فيه ولا ضرر، ولكن هذا غير صحيح، فالحياة الدنيا ما هي إلا مَعْبَرٌ إلى الحياة الآخرة التي يحصل فيها الاستقرار الدائم، فالشرور الدنيوية لا تخرج في طبيعتها عما يحصل لأي مسافر في طريقه من المشقة والتعب “وعندما ينجح المؤمنون في التغلب على العقبات التي ملأت طريقهم، وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء، فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}”([15]).

سادسًا:

الوقوع في مغالطة القفز الحكمي، فحتى مع التسليم-جدلاً- بثبوت مشكلة الشر، فإنه لا يوجد أي ترابط عقلي أو منطقي بين وجود الشر وعدم وجود الله، وغاية ما تدلُّ عليه هذه المشكلة هو القدح في صفة من صفات الإله -تعالى الله عن ذلك- كما أن هذه المشكلة معارضة بأدلة أقوى منها، فالأدلة على وجود الله أقوى وأظهر من هذا الاعتراض الضعيف، ولا يصح في مناهج الاستدلال أن نترك الدليل القوي في مقابلة الدليل الأضعف.

وهذا يدلُّ على أن استدلال الملاحدة هنا هو استدلال عاطفيٌّ نفسيٌّ وليس قائما على الاستدلال العقلي المجرّد، ومما يؤكد ذلك: أن الملاحدة كثيرا ما يعترضون على الشرور الحسّية الواقعة في الكون ويهملون الشرور المعنوية كالفساد الأخلاقي من كذب وخيانة وجشع وغير ذلك، مع أن مفاسد الشرور المعنوية أعظم وهي قائمة في الكون بفعل الإنسان.

وفي هذا السياق يقول العقّاد: “ليس الشر إذن مشكلة كونية، ولا مشكلة عقلية، إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عصي على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني، الذي يرفض الألم، ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبا على طبائع الأمور”([16])

سابعا:

الحُكمُ بالأقلِّ على الأكثر، فالشرُّ وإنْ كان واقعًا في الدنيا إلا أنه لا يغلب الخير الذي فيها، فالأصل في حياة الكائنات هو الاستقامة، والشرُّ طارئٌ عليها، وليس مقبولا في العقل والمنطق أن نحكم على الحياة بالنادر منها وندع الكثير الغالب، يقول ابن القيّم مؤكِّدًا هذا المعنى: “ومن تأمَّلَ هذا الوجود علم أنَّ الخيرَ فيه غالب، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر، ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيرُه غالبٌ لأجل ما يعرِضُ فيه من الشَّرِّ، لفات الخيرُ الغالِبُ، وفواتُ الخيرِ الغالِبِ شرٌّ غالِبٌ”([17]).

ثامنا:

الانتقائية غير المنهجية، فالعالم مشحون بالدلائل على حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة وفضله العميم، ولكن المعترضين تغافلوا عن ذلك كلّه وتمسّكوا بأمور قليلة خفيت عنهم الحكمة منها، والمنهج الصَّحِيحُ يقتضي أن يقاس المجهول على المعلوم، وأن يُردَّ المتشابهُ إلى الـمُحْكَمِ وليس العَكْس، فالواجب على من رأى في مشاهد الكون أمورا لم يفهم حكمتها هو إرجاع ذلك إلى ما يراه من مشاهد الإحكام الأخرى، التي هي أكثر في العدد، وأظهر في الدلالة، يقول الزمخشري في ردّ هذا الخطأ الاستدلالي: “وخفاءُ وجهِ الحسنِ علينا لا يَقْدَحُ في حُسنِه-أي في حُسن فعل الله سبحانه- كما لا يَقْدَحُ في حُسْنِ أكثرِ مخلوقاتِه جهلُنا بداعي الحكمة إلى خلقها”([18])، وبهذا يتبيّن فساد هذا الاعتراض وبطلانه.

تاسعا:

التناقض المنهجي، فإن كثيرا من أتباع التيار الإلحادي لا يسلّمون بالقيم المطلقة ولا المبادئ الكلّية، ويرون كلَّ شيء نسبيًّا، ومن ثم فلا يصحّ منهم اعتقاد وقوع الشرّ المطلق فضلا عن إنكاره وفق هذه المنطلقات لأنه نقيض الخير، ولهذا قلَب الفيلسوف بيترج ونكريفت الدعوى على أتباع التيار الإلحادي، فإن اعتراض الملحد هنا “معناه أن لديه مفهوما عما يجب أن يكون، وأن هذا المفهوم يقابل شيئا واقعيا، وهذه حقيقة اسمها الخير الأسمى، حسنا.. إنها اسم آخر لله، فإن لم يكن الله موجودا فمن أين جئنا بمعيار الخير الذي يحكم به على الشر بأنه شر؟!”([19]).

فهذه أغلاط تسعةٌ وقع فيها المعترضون على وجود الله وكماله بقضية الشر، ولعلّ الطريقة الصحيحة في التعامل مع هذه القضية قد اتضحت بالمسلكين الإجمالي والتفصيلي،وبذلك ينفضُّ هذا الإشكال، ويزول الضباب عن أعين المتخبِّطين فيه، والله أعلم.

 

(1)  عقائد المفكرين في القرن العشرين، ص65-66.

(2)  القضية الإيمان، لي ستروبل، ص13.

(3)  موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي (1/229).

(4)  انظر: شفاء العليل (2/571)

(5)  انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/329 – 330).

(6)  شفاء العليل (1/44).

(7)  المرجع السابق (2/925).

(8)  شفاء العليل (2/530).

(9)  حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص7.

(10)  انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص214.

(11)  المرجع السابق، ص224.

(12)  انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/226)، شفاء العليل، لابن القيم (2/522).

(13)  طريق الهجرتين، ص213.

(14)  التفسير الكبير (1/202).

(15)  قذائف الحق، ص201.

(16)  حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص9.

(17)  شفاء العليل (2/522).

(18)  الكشَّاف (4/548).

(19)  القضية الخالق، لي ستروبل، ص41.

المصدر

أفي الله شك؟

لطالما في صغري أحببت عبارة ” لا ملجأ من الله إلا إليه”، وكنت أرددها دائمًا لأستشعر قربي من الله، لكنني لم أفهمها جيدًا حتى حصل معي موقف طريف منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما كان ابني طفلاً صغيرًا لا يتجاوز عمره الثلاثة أعوام يصر على لمس فرن الطهي وهو ساخن، حتى اضطررت أن أضربه على يده لأمنعه من العودة إلى هذا التصرف؛ فبكى وأخذ يجول من مكان إلى آخر في المنزل لا يدري أين يذهب، تزامن هذا مع نداء أبيه له ليرضيه، لكن المفاجئة أنه عاد لي مباشرة بدلاً من الذهاب لأبيه وبكى في حجري مما أضحك والده، وقال: سبحان الله.

أما أنا فتذكرت قوله تعالى “لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ”[1]، وقلت في نفسي: الآن فهمتها، فالله سبحانه وتعالى يُذكرنا عندما نتعرض لبعض المصاعب للرجوع إليه كلما ابتعدنا عنه، وشعرت حينها بفرحة عارمة.

حكمة الله:

لقد وضع الخالق قوانين الطبيعة والسنن التي تحكمها وتصون نفسها بنفسها عند ظهور فساد أو خلل بيئي وتحافظ على وجود هذا التوازن بهدف الإصلاح في الأرض واستمرار الحياة على نحو أفضل، وأن ما ينفع الناس والحياة هو الذي يمكث ويبقى في الأرض، وعندما يقع في الأرض من كوارث يتضرر منها البشر كالأمراض، البراكين، الزلازل والفيضانات، تتجلى أسماء الله وصفاته كالشافي والحفيظ مثلاً، في شفائه للمريض وحفظه للناجي، و يتجلى اسمه العدل في عقاب الظالم لغيره والعاصي، ويتجلى اسمه الحكيم في ابتلاء وامتحان غير العاصي والذي يُجازى عليه بالإحسان إن صبر وبالعذاب إن ضجر، وبذلك يتعرف الإنسان على عظمة ربه من خلال هذه الابتلاءات تمامًا كما يتعرف على جماله من خلال العطايا، فإن لم يعرف الإنسان إلا صفات الجمال الإلهي فكأنه لم يعرف الله عز وجل.

سألني ملحد يومًا عن هؤلاء الذين وقع عليهم الابتلاء بالكوارث والأمراض أو ما شابه، فقلت له ببساطة:

إن الحياة الدنيا ليست إلا لحظة إذا قارنتها بالحياة الأخرى الأبدية، ومن ثم يهون كل ما عاناه المؤمن في الدنيا بغمسة واحدة في نعيم الجنة كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن وجود المصائب والشر والألم كان السبب وراء إلحاد كثير من الفلاسفة الماديين المعاصرين، ومنهم الفيلسوف “أنتوني فلو” وكان قد اعترف بوجود الإله قبل موته وكتب كتابًا أسماه “يوجد إله “، على الرغم من أنه كان زعيمًا للإلحاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وعندما أقر بوجود إله قال:

 “إن وجود الشر والألم في حياة البشر لا ينفي وجود الإله، لكنه يدفعنا لإعادة النظر في الصفات الإلهية”، ويعتبر “أنتوني فلو” أن لهذه الكوارث الكثير من الإيجابيات، فهي تستفز قدرات الإنسان المادية فيبتكر ما يحقق له الأمان، كما تستفز أفضل سماته النفسية وتدفعه لمساعدة الناس. وقد كان لوجود الشر والألم الفضل في بناء الحضارات الإنسانية عبر التاريخ. وقال: إنه مهما تعددت أطروحات لتفسير هذه المعضلة فسيظل التفسير الديني هو الأكثر قبولاً والأكثر انسجامًا مع طبيعة الحياة[2].

إن المتأمل السطحي يرى ما يُسبِّبه مرض الكورونا اليوم من معاناة وحالات وفاة وما ترتب عليها من توقف لكافة أنشطة الحياة وانعزال الناس في بيوتهم اتقاءً لهذا المرض، يراه شرًا لا محالة، غير أن الشر نسبي وليس مطلقًا، فلو أننا تفحصنا الوضع من زاوية أخرى لوجدنا أن نسبة التلوث في هذه الفترة نزلت لأقل مستوياتها في كل أنحاء العالم نظرًا لتوقف حركة الطيران وحركة السيارات والذي بدوره أدى إلى تقليل الانبعاثات الصادرة عن هذه المحركات الملوثة للبيئة. وكأن الكرة الأرضية والبيئة دخلت في مرحلة نقاهة خلال فترة انتشار مرض الكورونا، ولا بد للإنسان أن يتأمل ويعيد النظر في أموره الحياتية.

تسبب هذا الوضع في لم شمل الأُسر داخل البيوت، كما ذكرهم بنعم الله عليهم وبتقصيرهم في الحمد والشكر لرب العالمين، فالإنسان لا يشعر بالنعمة إلا حينما يفقدها. كما بدأت الناس تعي أهمية النظافة أكثر من أي وقت مضى، وتعي ضرورة اتباع أساليب وقاية جادة واستخدام معقمات بصورة مفرطة، وغسل اليدين بالماء والصابون في كل وقت وحين، من كان يتوقع كل ذلك؟

مما لا شك فيه أن هذا الحدث الجلل أعاد ترتيب أولويات الحياة، كما أظهر مدى ضعف الإنسان وهشاشته وجبروته الكاذب، ومحاولاته البائسة ضد هذا الميكروب، هذا الجبروت الذي هزمه فيروس لا يرى بالعين المجردة. هذا الحدث كسر كبرياء الكثير ممن ظنوا أن البشر وصلوا لأعلى درجات العلم المادي، وصاروا أشبه بالآلهة، وظنوا أنهم بذلك استغنوا عن الدين والخالق.

إن مرض الكورونا يفتك بالصغير والكبير، الضعيف والقوي، الفقير والغني، الإنسان البسيط والملك ولا يفرق بين أحد. وقد سمعنا عن كثير من الأثرياء الذين فروا إلى الملاجئ أو القصور المنعزلة في محاولة للهروب من بطش هذا المرض. هؤلاء أنفسهم كانوا لا يكترثون بمعظم الأوبئة والأمراض لظنهم أنه يمكنهم القضاء عليها من خلال الإنفاق على العلاج. المشكلة الآن لدى الأثرياء أن الأموال متوفرة في حين أن العلاج غير متوفر. وكأن الفيروس جاء ليقيم المساواة بين البشر، لا يُفرق بين قوي وضعيف ولا بين غني وفقير.

إنه لمن العجيب أن نرى أن البشرية بأسرها توحدت لأول مرة في التاريخ لمواجهة هذا الميكروب.

إن لم يكن هناك إله فمن أين لنا هذا الخير؟

إن المتسائل من الملحدين عن سبب وجود الشر في هذه الحياة الدنيا كذريعة لنفي وجود الإله، يكشف لنا عن قصر نظره وهشاشة فكره عن الحكمة وراء ذلك، وعن غياب وعيه عن بواطن الأمور، وقد اعترف الملحد بسؤاله ضمنًا أن الشر استثناء.

لذلك قبل السؤال عن حكمة ظهور الشر، كان من الأحرى طرح السؤال الأكثر واقعية وهو “كيف وُجد الخير بدايةً؟”

لا شك أن السؤال الأكثر أهمية لا بد أن يبدأ من سبب وجود الخير. فلا بد أن نتفق على نقطة البداية أو المبدأ الأصيل أو السائد، ومن ثم يمكن أن نجد التعليلات للاستثناءات.

يضع العلماء قوانين ثابته ومحددة لعلوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا بدايةً، ومن ثم يتم عمل دراسة للاستثناءات والحالات الشاذة عن هذه القوانين. وبالمثل لا يمكن للملحدين التغلب على فرضية ظهور الشر إلا حينما يُقروا بدايةً بوجود عالم مليء بالظواهر الجميلة، المنظمة والجيدة التي لا حصر لها.

ويمكننا مقارنة فترات الصحة والفترات التي يظهر فيها المرض على مدى متوسط ​​العمر، أو مقارنة عقود من الازدهار والرخاء وما يقابلها من فترات الخراب والدمار، وكذلك قرون من هدوء الطبيعة والسكينة وما يقابلها من ثوران البراكين والزلازل. من أين يأتي الخير السائد بدايةً؟ إن عالمـًا قائمًا على الفوضى والمصادفة لا يمكن أن ينتج عالمـًا جيدًا.

ومن المفارقات أن التجارب العلمية تؤكد ذلك. ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الإنتروبيا الكلية (درجة الاضطراب أو العشوائية) في نظام معزول بدون أي تأثير خارجي ستزداد دائمًا، وأن هذه العملية لا رجعة فيها.

بمعنى آخر، الأشياء المنظمة ستنهار وتتلاشى دائمًا ما لم يجمعها شيء من الخارج. على هذا النحو، فإن القوى الديناميكية الحرارية العمياء لم تكن لتنتج أبدًا أي شيء جيد من تلقاء نفسها، أو أن تكون جيدة على نطاق واسع كما هي دون أن ينظم الخالق هذه الظواهر العشوائية التي تظهر في الأشياء الرائعة مثل الجمال والحكمة والفرح والحب، وهذا كله فقط بعد إثبات أن القاعدة هي الخير والشر هو الاستثناء.

يقول ابن القيم:

“إن الشرَّ والألم: إما إحْسانٌ ورَحمة، وإما عَدلٌ وحِكمة، وإما إصلاحٌ وتهيئة لخَير يحَدثُ بعدَها، وإما دفعٌ لشَرّ هو أَصعب مِنهُ”.

في حوار لي مع ملحد روسي طرح كثير من الأسئلة من ضمنها المتاعب والالآم التي يعاني منها البشر.

قلت له ما قرأته يومًا[3]:

إن نظرتنا إلى الشر والألم تتوقف على نظرتنا إلى حقيقة الحياة الدنيا والغرض من الوجود الإنساني فيها والتي تختلف لدى المتدينين عنها لدى الماديين.

قلت له: إن المنظور المادي يعتبر أن الحياة الدنيا ليس وراءها غرض تحكمها غاية، وأن الإنسان اذا مات صار عدمًا، إذ ليس هناك بعث تتبعه حياة أخرى، فعلى الإنسان أن يحصل على أقصى ما يستطيع من متع، وبالتالي يصبح ما قد يشعر به من ألم وكل ما يحجبه عن هذه المتع شر لا جدال فيه، وانطلاقًا من هذا المنظور يصبح ما يتعرض له الإنسان من شرور وآلام أمورًا عشوائية تمر به خلال حياته في دنيا نشأت بأسلوب عشوائي أيضًا، ومن ثم يصبح القول بوجود إله كله رحمة ومحبة ينظم هذه الحياة هراء وعبث بالنسبة لهم، وهذا يعني أن كل ما يحجبهم عن هذه المتعة يُعتبر ألم بالنسبة لهم.

معرفة الله:

” وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ “[4] .

نفهم هنا من الآية الكريمة أن الله تعالى مَيَّز الجن والأنس منفردين دون سائر المخلوقات بحرية الاختيار. وأن تميز الإنسان هو بتوجهه لرب العالمين مباشرة وإخلاص العبودية له بمحض إرادته، ويكون بذلك حقق حكمة الخالق بجعل الإنسان على رأس المخلوقات.

تتحقق معرفة رب العالمين من خلال إدراك أسمائه الحسنى وصفاته العليا والتي تنقسم إلى مجموعتين أساسيتين وهي:

أسماء جمال: وهي كل صفة تختص بالرحمة، العفو واللطف، منها الرحمن، الرحيم، الرزاق، الوهاب، البر، الرؤوف…إلخ.

أسماء جلال: وهي كل صفة تختص بالقوة والمقدرة والعظمة والهيبة، ومنها العزيز، الجبار، القهار، القابض، الخافض…إلخ.

ويترتب على معرفتنا لصفات الله عز وجل القيام بعبادته على النحو الذي يليق بجلاله وتمجيده وتنزيهه عما لا يليق به، طمعًا في رحمته واتقاءً لغضبه وعقوبته. وتتمثل عبادته بالامتثال بالأوامر واجتناب النواهي والقيام بالإصلاح وتعمير الأرض. وبناءً على هذا يصبح مفهوم الحياة الدنيا عبارة عن امتحان واختبار للبشر لكي يتمايزوا ويرفع الله درجات المتقين ويستحقوا بذلك خلافة الأرض ووراثة الجنة في الآخرة، في حين يلحق بالمفسدين الخزي في الدنيا ويكون مآلهم عذاب النار.

“إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” [5].

المفهوم الحقيقي للإله:

لتقديم بعض التصورات عن مدى تدهور العلاقة بين الناس ورب العالمين، أعرض هنا قصة حدثت معي لسيدة ملحدة تقول إنها بعد أن كانت مؤمنة بالله ألحدت. فسألتها عن السبب فقالت: إن ابنتها مرضت بالسرطان، وقد دعت الله أن یُنجي ابنتها، وكانت تدعو الله وتقول إنه إن نجَّى ابنتها فسوف تؤمن به، وماتت البنت وكفرت الأم بالله.

هذه القصة من القصص التي أثرت فيَّ كثيرًا، وسبحان الله ما جاء في خاطري في هذه اللحظة أنهم بالفعل ما قدروا الله حق قدره، فهم یتعاملون مع الله بمبدأ إذا أعطیتني أؤمن بك وإذا لم تعطني لن أؤمن بك. فهذه المرأة لم تعرف الله حق المعرفة ولم تعرف القیمة الحقیقیة لهذه الحیاة التي نعیشها أصلاً، لأنها لو كانت تعرف قیمة هذه الحیاة لما تصرفت هذا التصرف ولما تعاملت مع ربها بهذه الطريقة.

مثلاً في علم الریاضیات يقولون: أن أي رقم مقارنة باللانهاية هو صفر. فحياتنا عبارة عن مجموعة أرقام ونخسر كل یوم من حياتنا رقم من هذه الأرقام، فحتى لو عشنا مائة أو مائتي سنة فمقارنة باللانهاية هو صفر، وان الموت آتٍ لا محالة في أي عمر، بمرض أو بدون مرض، وساعة الموت محددة. فنحن نعیش في الواقع في الصفر. فأنا قلت للسيدة: إنكِ لم تعرفِ الله حق المعرفة، لأنكِ لو عرفتیه حقًا لما رفضتِ الإيمان به والتسليم له، فجهلك بصفات الله تجعلكِ تعاملیه وكأنه إنسان أمامكِ تقايضيه بالمثل – سبحان الله – وهل الله تعالى زمیل لكِ في العمل؟! من هو الله بالنسبة لكِ؟! هل إيمانك كان مشروع بینك وبین رب العالمين؟! هل افترضتِ أنها إساءة وتردین الإساءة بالإساءة؟! هذا شيء عجیب! هل أنتِ مخلدة في هذه الدنيا؟!

فلو كنت عرفت الله حق معرفته لما كفرتِ به، وهو أرحم بك من أمكِ وأبیكِ، وأنه تعالى لدیه جنة عرضها السماوات والأرض. هل تخسرين ذلك بهذه الدنيا؟! هل تفضلين الصفر على اللانهاية؟!

قلت لها أيضًا: إنه ليس من المنطق أن نحكم على مسرحية دون أن نتابعها للنهاية، ولا أن نرفض كتابًا لأن الصفحة الأولى لم تعجبنا، هذا الحكم يُعتبر ناقصًا.

لقد وصلتني أسئلة كثيرة ومتكررة عن كيفية وقاية أبنائنا من الإلحاد. فأنا أقول وأكرر أن الحل هو في معرفة المفهوم الحقيقي للإله، لأنه من عرف الله هان علیه كل شيء. لأننا طبعًا لم ندرك حكمة آباءنا وأمهاتنا عندما كنا صغارًا في كثير من التصرفات، وكنا كثيرًا ما نتساءل لماذا يتصرف الوالدين بهذه الطريقة، هل یحبني أبي فعلاً؟ لماذا لم يوافق على ذهابي لهذه الرحلة؟ هل تحبني أمي؟ فإن كانت تحبني فلماذا تضغط علي في الدراسة والحصول على الدرجات العالیة. ولماذا تجبرني على أداء الواجبات الیومیة؟ لماذا ترسلني أمي للنوم كل يوم مبكرًا؟ عندما كبرنا وأصبح لدينا أولاد، فهمنا الحكمة من تصرفات آباءنا. وفهمنا أنه لا یوجد على الأرض من يحب لنا الخير أكثر منهم. فالمعرفة العميقة للإله مهمه جدًا لأننا إذا عرفنا الله حق المعرفة سوف نجد التفسير لكثير من تصاريف الأمور، وتتسع آفاق الإدراك والمعرفة وحينها يبلغ الإنسان رشده ويهتدى لحل كثير من المشاكل.

“مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [6].

وكثيرًا ما نسمع عن زيادة نسبة الإلحاد بسبب الحروب التي يتسبب فيها الإنسان والكوارث الطبيعية. لا شك أن تقدير الله لهذه الأمور أن تقع ما هو إلا امتحان واختبار لإيمانهم، حيث إن كثيرًا من الناس يعبد الله على حرف.

” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخرة ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ”[7] .

وهل أعبد الله أو أذكره فقط في الرخاء وعندما أتعرض للشدة أكفر به؟

رحمة الخالق:

في أحد الأيام تحاورت مع ملحد أمريكي وقلت له: إن الخالق الذي خلق عباده هو أرحم بهم من أمهاتهم، وأن المؤمن عندما يضع في اعتباره أن من سيحاسبه یوم القیامة هو ربه الذي خلقه والذي هو أرحم به من أمه التي ولدته، فتخیل مدى فرحته ومدى اطمئنانه عندما يقابل ربه، وهذا كافي لأن نشعر بالسعادة في هذه الدنیا وسوف تهون علينا كل الصعاب.

فأعطیته مثال بسیط عن أهمية معرفة الله، قلت له: إنك لو أخبروك أن فاتن صبري التي تتكلم معك من هواة تربیة الأسود مثلاً، وأنها لدیها شخصیة قویة ولا ترحم وممكن أن تؤذیك، فطبعًا سوف تصدق لأنك لا تعرفني، واحتمال كبیر أن تأتي هنا وتأخذ الاحتياطات اللازمة وترتعد، لكن من یعرفني جیدًا فسوف يتفاجأ ویضحك من هذه المعلومة لأنه یعلم جيدًا أن فاتن تخاف من القطط أصلاً، وضحك كثيرًا.

في حوار لي مع قسيس من قساوسة الفاتيكان وكنا قد دخلنا في نقاش عن عقيدة التوحيد، قلت له: إن المسلم یؤمن بإله واحد أحد، لیس له شريك ولا ولد، وأنه تعالى أرسل الأنبياء والرسل كعيسى المسيح وموسى ومحمد لنشر رسالة التوحيد في العالم، خلق المسيح من غير أب وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهو يخلق ولا يلد، وأمرنا بعبادته وحده كما عبدوه هم، فنحن نعبد الله كما عبد المسيح الله ولا نعبد المسيح نفسه، ونحن نعبد الله كما عبد محمد الله ولا نعبد محمد نفسه ونصلي لله. وكذلك فقد كانت السيدة مریم تصلي لله وحده، وعليه فيجب ألا نصلي لمريم نفسها ولا نطلب منها، بل نطلب من الله كما كانت السیدة مریم تطلب من الله مباشرة.

حينها قاطعني هذا القسيس وقال: نحن لا نعتبر مریم هي الله ولا نعبدها، ولكننا نستخدمها كوسيلة للوصول إلى الله. وبرر ذلك بمثال الأسرة عندما یطلب الأطفال مثلاً زيادة في المصروف أو ما شابه فإنهم يلجؤون إلى الأم لكي تكون وسیطًا بینهم وبین أبیهم، لأن قلب الأم طیب ورقيق وتحبهم أكثر، وممكن أن توصل طلبهم بطريقة أفضل للوالد. طبعًا جوابي كان قاطعًا وصارمًا في هذه النقطة وقد تفاجأ به، حيث قلت له: نعم كلامك صحیح، ولكن هذا في حالة أن الأطفال لا يعرفون أبیهم حق المعرفة، حيث أنه باعتقادهم أن الأم هي أرحم بهم من أبیهم، لكنهم لو عرفوا أن هذا الأب هو أرحم من الأم لذهبوا إليه مباشرة، وهذا جهل من الأولاد بطبيعة الأب.

واسترسلت قائلة له: أن البشر لو عرفوا الله حق المعرفة وعرفوا أن الله أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم لذهبوا إليه مباشرة.

فقاطعني ثانية وقال: لا أنتِ لم تفهميني، نحن نستخدم السيدة مریم كوسيلة للوصول لرب العالمين كالذي يريد أن یضیِّف زواره مثلاً ویضع المشروبات على صینیة، فالسیدة مریم هي الصينية التي نرسل بها طلباتنا لرب العالمين.

فقلت له: سبحان الله! ومن كانت بمثابة الصینیة التي استخدمتها مریم للوصول الى رب العالمين؟! هل مریم عبدت الله مباشرة أم عن طریق وسیط؟ هل وضعت دعائها على صینیة؟ أخبرني! هل عبدت المسيح علیه السلام؟ أم عبد المسيح أمه؟ أم اتخذت قسيسًا أم وسيطًا أم قديسًا؟

الشاهد هنا أن هذه القصة كانت بالنسبة لي نقطة انطلاق لنشر المفهوم الحقيقي للإله، وكانت سبب لكتابة كتابي: “المفهوم الحقيقي للإله”، الذي أردت به أن أوضح للعالم أن المفهوم الحقيقي للإله هي النقطة المفقودة الآن، لان أتباع الديانة الهندوسية مثلاً يؤمنون بإله واحد أحد ولكن هناك من أقنعهم أن الله یتمثل في حجر أو في صنم وقد أعجبهم ذلك لأنهم لم یعرفوا من هو الله، وأن الله لا یأتِ إلى الأرض، وأن ذاته العليا لا بد أن تكون خارج السماوات والأرض، وإرادته وقدرته نافذة لجميع مخلوقاته.

إن عدم معرفة رب العالمين يؤدي إلى وضع أفكار أو تصورات خاطئة عن الإله كأن يتجسد في ثلاثة أقانيم أو يتمثل في جسد بشر. إن تحريف المفهوم الحقيقي للإله في العهد القديم لم يشوش أذهان الناس فقط ويضعهم في حيرة فحسب، بل تسبب في توجههم إلى الإلحاد وصرفهم عن الدين بالكلية. فالتوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على موسى علیه السلام ذكرت أن الله تعالى بصفاته العليا هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا یموت، وهو الخالق الأبدي الرحيم المنزه عن كل عيب أو نقص، وأنه المعبود وحده، لكن نجد في العهد القديم (التوراة المحرّفة)، أنهم ينسبون إليه صفات لا تليق به (كأن ینسى، لا یعرف، یخاف، یرتاح) سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا.

وسبحان الله في صغري كنت دائمًا أتساءل: لماذا ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه خلق السماوات بدون أن يتعب وكنت أتعجب جدًا من الداعي لذكر هذه النقطة، حيث أنه معروف أن الله تعالى لا یتعب، حتى التحقت بمجال الدعوة، عندما عرفت أن النصراني یعتقد أن الله عندما خلق السماوات والأرض ارتاح. وهم دائمًا يسألونني: لماذا لا یعتبر المسلمون یوم الأحد یوم مقدس، وأقول ببساطة: لأن الله لا یتعب لكي یرتاح. المفاجأة أنهم یضحكوا بشدة من جوابي ويقولون فعلاً نعم كلامك صحيح.

التوحيد هو وسيلة الخلاص:

إنه لمن الخطأ أن نُعرِّف الإسلام على أنه الإيمان بإله واحد ونقف إلى هنا، فالإسلام هو: الإيمان بإله واحد أحد وهو الخالق والذي ليس كمثله شيء، وعبادته وحده مباشرةً بدون قسيس ولا قديس ولا صنم أو حجر ولا أي وسيط آخر.

فالإسلام ليس فقط توحيد الربوبية بل وتوحيد رب العالمين في العبادة (توحيد الألوهية، بمعنى عبادته وحده بدون وسيط). إن الإيمان بإله واحد (توحيد الربوبية) موجود في ديانات كثيرة، وكانت موجودة في عقيدة كفار قريش أيضًا؛ فعندما سُئلوا عن سبب عبادتهم للأصنام قالوا: لتقربنا إلى الله زلفى، فهم لا ينكرون وجود الله.

“أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ”[8].

وبإمعان النظر في معتقدات الشعوب، نكتشف أن غالبية الأمم التي لديها موروث ديني ولديها رموز دينية مختلفة لا تزال تؤمن بوجود خالق للكون وتلجأ اليه عند الشدائد، مما يؤكد ان هذه الديانات والمعتقدات لها أصول تاريخية نابعة من ديانة أصلية واحدة صحيحة، وأن ما لدى الشعوب الحالية من تراث ديني يحتوي بداخله على عقيدة التوحيد والإيمان بإله واحد والتفرد بعبادته، وأن هناك دلائل وشواهد في هذه الديانات والكتب تشير إلى أن جذورها وأصولها ترجع إلى عقيدة الإسلام والتوحيد.

إن الاختلافات بين الديانات تتمثل في الوسيلة المتبعة في التواصل مع الخالق مباشرة أو من خلال اتخاذ وسطاء (قديسين، كهنة، أصنام أو أنبياء).

فلو أن جميع الديانات أقروا بترك اللجوء للوسطاء وتوجوا مباشرة للخالق لتوحدت البشرية ولاستقامة قلوبهم واهتدت للحق. فكما أن الجميع يتفق في وحدانية التوجه نحو الخالق مباشرة دون شريك أو وسيط عند وقوع المصائب أو الشدائد، فكان لا بد من دعوة الجميع لعبادة رب العالمين مباشرةً في السراء والضراء. كما ورد القرآن الكريم:

“قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”[9].

=================================

[1] (التوبة:118).

[2] مقتبس من كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[3] مقتبس من كتاب خرافة الإلحاد. د. عمرو شريف. طبعة 2014م.

[4] (الذاريات: 56).

[5] (الكهف: 7).

[6] (التغابن: 11).

[7] (الحج: 11).

[8] (الزمر:3).

[9] (آل عمران: 64).

المصدر

شبهة وجود الشر

شبهة وجود الشر (وتسمى معضلة أبيقور) تتلخص في أن الخالق لا يمكن أن يتصف بصفتي الرحمة والقدرة معا، لأن وجود الشر يمنع إحدى الصفتين؛ فهو إما أنه قدير ويرضى بوقوع الشر فتنتفي عنه صفة الرحمة وإما أنه رحيم لا يرضى بوقوع الشر فتنتفي عنه صفة القدرة على منع وقوع ذلك الشر.

علاقة الشبهة بوجود الخالق

هذه الشبهة من الشبهات التي يثيرها الملاحدة رغم أنه لا علاقة مباشرة لها بالإلحاد الذي يقوم على إنكار وجود الخالق، فإذا أثبتنا وجود الخالق بالأدلة العقلية والعلمية والفطرية، فكيف يمكن للملحد أن ينفي هذه الأدلة لمجرد شبهة تدور حول صفات الخالق نفسه؟ بل إن الشبهة تقوم أصلا على افتراض وجود الخالق، إذ لا يمكن مناقشة الصفات دون افتراض وجود الذات الموصوفة.

وعلى ذلك فإن توظيف الملحد لهذه الشبهة يهدف أصلا إلى خلخلة توحيد الأسماء والصفات لدى المسلم وليس لإثبات صحة الإلحاد؛ فالإلحاد لا دليل على صحته أصلا.

ويغلب الاستشهاد بهذه الشبهة عند أولئك الملحدين إلحادا نفسيا، فهي شبهة تحرك المشاعر أكثر مما تجول في العقول.

ما هذه الشرور؟

الشرور التي تدور حولها هذه الشبهة هي مثل الزلازل والبراكين والفيضانات والأمراض الفتاكة والحروب والقتل.. الخ.

ويمكن تصنيف هذه الشرور إلى صنفين رئيسين: الأول هو من الأقدار التي لا يد للبشر فيها، كالكوارث مثلا، والثاني هو تلك الشرور التي يرتكبها الإنسان، كالحروب والقتل والجرائم بأنواعها.

قبل أن ترد على الملحد..

يعمد الملحد دائما إلى طرح الشبهة على المسلم ليبقيه في موقف الدفاع.. ما أقترحه عليك أيها الأخ المسلم هو أن تخبره أنك سوف ترد عليه، ولكن ليخبرك أولا إن كان قد وجد حلا لهذه المشكلة بعد أن صار ملحدا؟ نجد مثلا أن الملحد ستالين قتل ملايين البشر ثم مات ولم ينل عقابه، فهل يوجد في الإلحاد حل لهذه المشكلة؟ هل يقتل بشار هؤلاء الأطفال ويعيث في الأرض فسادا ثم يموت بعد ذلك وينتهي الأمر؟ دعه يخبرك ما هو الحل الذي وجده في الإلحاد لهذه المعضلة ما دام يرد الدين لأجلها! فإن كان يرد الدين لأنه لم يعرف جواب الدين عنها ثم يجدها في الإلحاد أعظم كثيرا، فإن الأجدر به أن يتهم الإلحاد قبل أن يتهم الدين.

المفارقة هنا هي أن معضلة الشر قائمة عند الملحد بصورة حقيقية ولن يجد لها حلا ما دام ملحدا، بينما هي غير موجودة عند المسلم إطلاقا كما سنرى، ومع هذا فالملحد هو الذي يوجه هذه الشبهة للمسلم، رغم أن العكس هو المفروض!

تفكيك الشبهة

تقوم الشبهة في أساسها على أن وجود الشر ينافي صفة العدل الإلهي، وهذا هو الطرح الحقيقي للشبهة، فعدم وجود الرحمة لا ينفي وجود العدل، ولكن وجود الظلم ينفي صفة الرحمة، ولا تكتمل الرحمة إلا بتحقق العدل.

وهذه الشبهة لا تقوم إطلاقا مع التصور الإسلامي، وإذا انتفى التناقض بين صفتي العدل والقدرة في التصور الإسلامي فقد انتفت الشبهة تماما، وسوف أضرب مثالا لذلك:

طفل صغير يصاب بالسرطان فيتعذب ويتألم ثم يموت، بينما طفل آخر يولد صحيحا معافى في أسرة غنية ويعيش حياته طولا وعرضا يتقلب في النعيم. ورغم أن كثيرا من أمراض الأطفال يكون سببها إهمال الأم في صحتها وصحة جنينها، ولكن ألا يبدو في هذا شيء من الظلم للطفل الذي مرض وتعذب ومات؟

هذا ما يبدو بالفعل إذا تناولنا الشبهة بعيدا عن التصور الإسلامي.. ولكن إذا أراد الملحد أن يطرح هذه الشبهة أمام المسلمين فإن عليه أن يحاكمهم إلى دينهم وعقيدتهم وتصورهم وليس إلى معياره هو.. وسوف نرى النتيجة عندما ننظر إلى هذه الشبهة في ضوء عقيدة المسلم.

البعد الأخروي يهدم الشبهة

أصول الإيمان في الإسلام ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. فلا يصح الإسلام دون الإيمان باليوم الآخر.

وعندما نتحدث عن المعاملات الدنيوية بين الناس فإن الظلم يقع، ولكنه ظلم بين البشر، ينتهي القصاص منه في المحاكم حين يُقتص للمظلوم من الظالم، فالبشر مجال عملهم ومعاملاتهم هو هذه الدنيا. ولكن عندما نتحدث عن الظلم الدائم من الناحية الوجودية فهو غير موجود، وإذا لم يقتص المظلوم من الظالم في هذه الحياة فإن الله جعل الآخرة هي دار الحساب الذي يتحقق فيه العدل المطلق وينتهي فيه الظلم.

أما من ناحية المصائب والبلاء الذي ينزل بالمسلم قدرا دون أن تدخل فيه إرادة البشر فهو ليس ظلما، وقد أشارت النصوص إلى ذلك بوضوح، فإما أن تكون عاقبته ثوابا من عند الله: “إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ” (النساء: 104)، وإما أن يكون رفعة في الدرجات للصابرين المحتسبين: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” (الزمر: 10)، وإما أن يكون تكفيرا للذنوب: “ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها” (رواه البخاري).

فكل ما يسلب من المسلم الراضي في هذه الدنيا من النعم المؤقتة الفانية يأتيه العوض عنه في الدار الباقية، وقد وصف الله تعالى يوم الحساب بقوله “لا ظلم اليوم” (غافر 17)، وهذا العدل بالطبع شامل لكل المخلوقات.

وعلى ذلك فإن الطفل الذي أصيب بالمرض المميت وتعذب خمس سنوات ثم مات سينعم عوضا عن ذلك بنعيم لا يقاس بخمس ولا عشر ولا ألف ولا مليار سنة، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها من النعيم البالغ..

ولكي تكون الصورة أوضح، لنتأمل هذا الحديث الذي ورد في صحيح مسلم: “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط.” وفي حديث آخر حسنه الألباني يقول صلى الله عليه وسلم: “يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ.” ولهذا فإن المسلم لا إشكال عنده من هذا الجانب الذي يقوم على تحقق العدل المطلق.

فالأمر هنا يتجاوز العدل المطلق إلى الرحمة المطلقة وإن بدت للملحد الذي لا يؤمن بالحساب وكأنها نوع من الظلم. وعلى ذلك قس كل ما تراه من مظاهر الآلام والكوارث والمصائب في هذه الحياة الدنيا.

وهذا التصور يتردد كثيرا في النصوص الشرعية حتى لا يقع المسلم تحت طائلة الشك، فيقول الله تعالى: ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.” (الحج 11)

بل إن الخير الدنيوي الذي نراه خيرا قد يكون في حقيقته فتنة وشرا، وهذا يتوافق مع التصور الإسلامي للحياة الدنيا وعدم كمالها.. فقد ينعم الله على امرئ فيفسق ويبطر ويتجبر ولا يشكر المنعم، ويكون هذا الخير الظاهري فتنة، قال تعالى: ” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.” (الأنبياء 35)

وهكذا نرى أن الموقف واضح تماما أمام المسلم.. فإذا كان من صفات الخالق العدل المطلق والرحمة المطلقة، وإذا كان العدل المطلق متحقق يوم الحساب، ويوم الحساب لم يأت بعد، فإن إثبات الظلم منتفٍ تماما، ويصبح من العبث ما يقوم به الملحد من إثارة هذه الشبهة.

الإرادة الحرة من ضرورات دار الاختبار

المسلم يعي جيدا أن هذه الحياة الدنيا هي دار اختبار كما قال تعالى: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” (الملك 2)، ويعي تماما أن من مقتضى دار الاختبار والحساب أن يكون المرء حرا في إرادته، يعمل الصالحات ويرتكب السيئات، فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته، ومن هذه السيئات ما يتعلق بالاعتداء على حقوق الناس من نفس ومال وعرض.. الخ.

ولهذا فإنه لا معنى لما يدندن حوله الملاحدة كثيرا من وقوع الحروب والقتل والمظالم بين البشر فيتساءلون: أين الله عن هذه الجرائم؟ فالجواب على مثل هذا السؤال ورد في نصوص شرعية كثيرة مثل قوله تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا” (الفرقان 27) وقوله: “إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا” (النبأ 40)، وغيرها من النصوص.

والظالم إنسان حر في إرادته، إن اقتص منه في هذه الحياة أو تاب ورد المظالم إلى أهلها وإلا فإن الحساب العادل ينتظره يوم القيامة، وحينها ينتهي ظلمه ويتحقق العدل المطلق.

الشبهة من زاوية أخرى

هناك من يطرح شبهة وجود الشر من زاوية أخرى بعيدا عن العدل والرحمة، وهي زاوية الحكمة؛ فيتساءل عن سبب وجود الشر ابتداءً، وما إذا كان وجود الخير فحسب هو الأجدى..

ومن يفهم سنن الخلق والوجود لا يطرح مثل هذا التساؤل، فالكون لا يقوم إلا على أساس التكافل في منظومة الوجود، ولا يمكنك أن تطلق الأحكام إلا من خلال النظر في كامل الصورة التي تجمع الأضداد ويظهر من خلالها التباين الذي تتضح معه الأجزاء.

الحاجة والفقر شر، فهل توجد صفة الكرم بدونها؟ والخطر شر، فهل توجد الشجاعة بدونه؟ وهكذا فإن اللذة والشبع والري والصحة والنصر والجمال لا توجد بلا جوع وعطش ومرض وهزيمة وقبح.. بل إن الظلم في هذه الدنيا شر، فكيف نعرف العدل أصلا إذا لم نعرف الظلم؟

ومن أكثر العبارات تصويرا لأهمية هذا التباين تلك العبارة التي يتداولها العامة حول قيمة الصحة بقولهم: “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى”.

الدنيا نموذج لفهم الآخرة

في كل زاوية ننظر من خلالها إلى التصور الإسلامي نجد أنه متناغم جدا، فوجود الخير والشر في الدنيا، وخصوصا اللذة والألم، يوفر للمسلم مثالا ملموسا لما سيراه في الآخرة، فالجنة فيها من النعيم ما يشبه نعيم الدنيا من المطاعم والمشارب واللذات ولكنه أكمل وأرقى كثيرا، وفي الحديث القدسي الوارد في البخاري قوله تعالى: “أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.”

ومن الجانب الآخر فإن الألم والعذاب في هذه الدنيا مؤشر بسيط للعقاب الشديد في الآخرة، وهذا من تمام الحجة على الناس، فالله لا يحذرنا من عذاب لا نستطيع أن نتصوره أو ألم لا نعرف عنه شيئا.

هل الشر محض؟

ونحن نتحدث عن الشر يجب أن ندرك جيدا أن الشر نسبي، فالله تعالى لم يخلق شرا محضا في هذه الدنيا، والأصل في الوجود هو الخير، وإنما الشر هو سلب نسبي للخير. فالقاعدة هي الخير والاستثناء هو الشر. والأمثلة في ذلك كثيرة جدا، فكل شر في هذه الدنيا هو استثناء يمكنك أن تتلمس جانبا من الخير فيه، فاستقرار الأرض هو القاعدة والزلازل استثناء، وهذا الاستثناء يساعد بدوره على تثبيت القاعدة فهو من أسباب استقرار قشرة الأرض، والصحة هي القاعدة واستثناؤها هو المرض، واستئصال العضو المصاب هو الشر الاستثنائي الذي فيه سلامة باقي الجسد، والألم المبرح إنما هو إشارة إلى وجود المرض المؤذي الذي يستلزم العلاج، وتعد متلازمة غياب الحس بالألم (CIPA) مرضا خطيرا قد يحرم المصاب من اكتشاف الإصابات المميتة، وقس على ذلك.

من جانب آخر، يمكن للشر الظاهر أن يكون في حقيقته خيرا، وقد ذكر الله تعالى قصة الخضر وكيف أنه خرق السفينة وقتل الغلام، وهذه من الأعمال التي تبدو شرا ظاهريا، ولكنها في الحقيقة خير كما بيّن الخضر لموسى عليهما السلام.

مقطعان مفيدان حول هذه الشبهة

الدكتور محمد راتب النابلسي

المصدر

مشكلة الشرّ ووجود الله

بقلم رضا زيدان.

لا نبالغ إذا قلنا إن مشكلة وجود شرّ في العالم هي أهمّ مشكلة نفسية وفلسفية يطرحها الإلحاد قديمًا وحديثًا، وهي الأكثر حضورًا في المناظرات الشهيرة بين أنصار الإلحاد الحديث واللاهوتيين. وهناك تصريحات كثيرة جدًّا تدلّل على مركزية هذه المشكلة في الإلحاد؛ فعلى سبيل المثال يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل تولي (Michael Tooley) في مناظرته لوليام لين كريغ (William Lane Craig) (2010) إن: ((الحجة المركزية للإلحاد الحديث هي حجة الشر))[1]. وقد وصفها الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنز (Georg Büchner) بأنها ((صخرة الإلحاد))[2]. ويلخّص الفيلسوف الأمريكي رونالد ناش الحال (Ronald Nash) بقوله: ((الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، لكن كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون بأن أهمّ تحدٍّ جادٍّ للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر))[3].

فما هي مشكلة الشر؟ أو معضلة أبيقور [نسبة لعرض الفيلسوف الإغريقي أبيقور]:

تصاغ المشكلة بصيغ مختلفة عادة، لكن أشهر الصيغ هي الصيغة التالية:

1- إذا كان يوجد إله كامل القدرة والخير والمعرفة بالعالم إذن لن يوجد الشرّ.

2- الشر موجود في العالم.

3- إذن، فإنه لا يوجد إله كامل القدرة والخير والمعرفة.

من الواضح أن المشكلة هنا ليست مشكلة تجريبية مطلقًا، أو كما يقول الفيلسوف الأسترالي ج. ل. موكي (J. L. Mockie): ((ليست مشكلة علمية يمكن حلّها بالمزيد من الملاحظة العلمية أو مشكلة عملية يمكن حلّها بقرار أو إجراء عملي))[4]؛ فهل هي مشكلة منطقية؟ وإذا كانت منطقية فهي مشكلة على من تحديدًا؟

اختلف الناس في التعامل مع هذه المشكلة – وسوف نسرد اختلافهم دون أسماء، لأنها لا تهم أصل البحث – فمنهم من أنكر وجود الشرّ أصلًا، ومنهم من أنكر وجود الله لوجود الشر، ومنهم من أثبت الخير والشرّ معا في إلهين مستقلين!، وغير ذلك. والإشكال الرئيس هنا أن مشكلة الشر تتعلّق بصفات الإله لا بوجوده؛ فالمشكل هنا هو التوفيق بين صفات الإله لا وجوده نفسه. الإنسان رقيق القلب بطبيعة الحال يصعب عليه تقبّل وجود الشرّ إجمالًا في هذا العال – سواء صرخة عجوز أو إيلام حيوان أو غير ذلك – مما يدفعه إلى وضع حاجز بينه وبين الإله، لكن ليس لإنكاره. وعادة ما يؤدّي هذا الإلحاد العملي إلى إلحاد فكري بطبيعة الحال، لكن الانتقال هنا ليس انتقالًا منطقيًا إنما هو انقالي نفسي. وهي النقطة المركزية في هذا الموضوع؛ فوجود الشرّ في العالم لا ينقل منطقيًا إلا إلى أن الإله ليس رحيمًا[5]، لا أن الإله ليس موجودًا. ومن الممكن عقلًا أن يوجد إله غير رحيم. وهذا الانتقال النفسي نابع من خلل في توفيق الإنسان بين صفات الله. ولذا سيكون نقدنا على محورين: محور معنى الشرّ نفسه، ومحور التوفيق بين صفات الله.

أ – معنى الشر:

نحن نسأل عن الحكمة من الشرّ لأننا نعتقد أن لحياة الإنسان قيمة، ولا يملك الملحد أن يفكّ نفسه عن إضفاء معنى الحياة حتى وهو يريد أن يعدمها بنفي الإله. ومن طرائف هذا الباب ما نشره الفيلسوف وليام كريغ في موقعه الإلكتروني، تحت عنوان: ((لقد دمّرت حياتي، بروفسور كريغ!)). وخلاصة القصة أن صاحب السؤال طالب فلسفة وقد أشرب قلبه الإلحاد حتى إن جل أبحاثه كانت عن الإلحاد ومعترضاته والرد عليها، وكان قرأ مقالًا لكريغ تحت عنوان ((عبثية الحياة من غير الله))، فاهتزّ له وجدانه ولم ينم يومين متتالين، وما أدركه هذا الطالب هو ما أدركته كبار العقول من قبله. يقول ديستوفسكي (Dostoyevsky) في العبارة الشهيرة على لسان إيفان كارامازوف (Ivan Karamazov): ((إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباحًا))[6]. لذا صرخ هذا الفتى عندما وضع رجله في عالم العدمية فقال: ((العدمية لا يمكن أن تعاش))، لقد أصيب بالتأزم النفسي، وانكفأ على نفسه في عزلة تامة، إذ أدرك أن الإيمان بالله هو الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يجعل للوجود معنى[7].

والسؤال البديهي هنا: إذا لم يكن الله موجودًا فمن أين أتى الملحد بمعيار الخير والشرّ؟ من أين أتى الملحد بالمعيار الأخلاقي؟ يقول وليام كريج: ((رغم أن المعاناة تشكّك على المستوى السطحي في وجود الله إلا أنها على مستوى أعمق تثبت وجود الله، إذ أنه في غياب الله لا تمثّل المعاناة شيئًا قبيحً؛ فإذا آمن الملحد بأن المعاناة شيء سيء أو بأنها أمر يجب ألا يكون، فهو بذلك يقدّم أحكامًا أخلاقية لا يمكن أن توجد إلا إذا وجد الله”[8]. ((بعبارة أوضح: لا يمكن للملحد أن يستدل بالشر الموجود في العالم لنفي وجود الله حتى يقر بوجود الخير والشر، ولا سبيل للإقرار بقيمتي الخير والشرّ حتى يقرّ الملحد بوجود المعيار الموضوعي، ووجود المعيار الموضوعي الأخلاقي غير ممكن دون وجود مشرع أخلاقي غير مادي، وهذا المشرّع هو الله الذي تسعى الحجة الأخلاقية المعتمدة على الشر لنفيه! وعلى هذا يكون لا سبيل لاعتماد حجة الشر لاثبات الإلحاد حتى يُنقض الإلحاد بإثبات وجود الله، فغاية الملحد ووسيلته لذلك تتنافيان (mutually exclusive)))[9].

فإذا فرغنا من ذلك فلعلّنا لاحظنا أن مشكلة الشرّ قد انقلبت على الملحد! وقد أحسن الفيلسوف دانيال هاورد-سنايدر (Daniel Howard – Snyder) إذ قال: ((إن مشكلة الشرّ هي مشكلة للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشة، أما إذا كان للمؤمن بالرب حجة صلبة فإن وجود الشر ليس مشكلة))[10]. وهو ما يؤكّد ما قلناه أن:

– مشكلة الشرّ مشكلة نفسية تتعلّق بإيمان الإنسان لا بالمنطق.

– مشكلة الشرّ لا يمكن أن تقوم إلا على أساس وجود الله ابتداء، الذي هو مصدر المعايير.

ب – التوفيق بين صفات الله.

– من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله عدل لا يظلم الناس شيئًا، لكن الإشكال في مشكلة الشرّ أنه يعرّف العدل بصورة معينة، ولكن التعريف الصحيح للظلم هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: ((قال كثير من أهل السنة والحديث والنظار: بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ومن ذلك أن يبخس المحسن شيئًا من حسناته أو يحمل عليه من سيئات غيره وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه))[11].

إن هذا التصوّر نابع من تصوّر الإنسان للعدل البشري، ثم المماثلة التامة بين العدل الإلهي والعدل البشري. وذلك يماثل الذي يفهم من أن لله يد أن له يد بشرية، إلا أن صفات الله يوصف بها من غير تمثيل ولا تكييف كما عليه أهل السنة، فلا هم ينكرون الصفة أصلًا ولا يمثّلونها بصفات البشر؛ قال الإمام ابن القيم في كتابه الماتع شفاء العليل: ((فالشرّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره كل خير، ولذلك تنزّه عن الظلم الذي هو وضع الشيء في غير موضعه))[12]. فالله من صفاته الرحمة والعدل وغير ذلك من صفات الكمال، أما ما يضاد ذلك على ما يظهر في بعض الأفعال الدنيوية فهي “مشتبهات” نردها إلى صفاته “المحكمة”. وهذه المشتبهات المتعلّقة بالشرور خصوصًا نسبية؛ قال الإمام ابن القيم: ((وإنما الشر نسبي إضافي وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل المؤدّي إلى غيره. وهذا بالنسبة إلى الفاعل، وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شرّ إضافي أيضًا، وهو ما حصل له من التألّم وفاته من الحياة. وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى وخير لغيره. وكذلك الوطء فإن قوة الفاعل وقبول المحلّ كمال، ولكنّ الشرّ في العدول به عن المحلّ الذي يليق به إلى محلّ لا يحسن ولا يليق. وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلّها جارية على هذا المجرى؛ فظهر أن دخول الشرّ في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة، لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر)).[13]

– وهذا مع إقرارنا بوجود الشر الظاهر الآني أمام أعيننا[14] وأنه -كباقي المشتبهات – محلّ اختبار، ثم نقول إن كلّ أشكال الشرّ هي أشكال ابتلاء للإنسان، يبتلي الله بها عباده لحكمة ما. ومن المحسوس أيضًا أن لهذه الشرور غاية معينة؛ قال أي سي إيفين (A. C. Ewing) – أحد أساتذة الأخلاق في جامعة كامبردج -: ((إنها لحقيقة واقعة أن ثمة خيرات لا تأتي بغير محصول الشرّ، فكيف تتسنّى الفضيلة مثلًا بغير عوائق المغريات ومن ثم بغير الشرّ ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحبّ في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية، لا بدّ من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربما كان هناك أنواع أخرى من الحبّ والفضيلة كالتي نتخيّل أن الكائنات التي تعلو على طوق الإنسان متّصفة بها ولا تنطوي على شرّ من الشرور، ولكنها – إذا صح تخيلنا – نوع آخر غير حبّنا وفضيلنا، وكلما تعدّدت الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل))[15]. بل يذهب الفيلسوف الشهير ألفن بلانتنجا إلى أنه حتى ولو لم يكن هناك غاية من وجود الشرّ إلا وجود الإرادة الحرة الإنسانية فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقية ومرضية لنعمة الارادة الحرة. وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنه يسمح للشر بالوجود، إنه لا معنى عقلا وواقعا أن نتحدّث عن كائن حرّ يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشرية المحضة ثم هو لا يفعل إلا الخير[16].

– ورغم أننا نقرّ بوجود الشرّ على النحو المذكور، وأنه من خلق الله وأن له حكمة في ذلك إلا أن الأدب النبوي يعلّمنا ألا ننسب لله أي شرّ، فقد جاء في صحيح مسلم: (..والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك)[17]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتّصف بها مَن كانت فعلًا له كما يفعلها العبد وتقوم به، ولا يتّصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتّصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك؛ فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها وسببا لذمه وعقابه وجالبة لألمه وعذابه. وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به؛ لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره))[18].

أما مشكلة الشرّ أو التصوّر الخاطئ للعدل قائمة على عدم إدراك ما سبق، لأنها تساوي بين التصوّر البشري القاصر للعدل أو الحكمة أو الخير الآني والتصوّر الإلهي الكامل الحكيم للحكمة والعدل. وكل هذا مع أن العقل السليم يقول بأن من الواجب أنه كما افترض أن الإله كلي الخير أن يفترض أنه كلي الحكمة، وبالتالي لا “يأنسِن” (Anthropomorphism) عدل الله أو حكمته بتصوّرات البشر الآنية؛ فالإنسان لا يريد إلا المتعة، ويقتضي تصوّره للعدل أن يخلقه الله على النحو الذي يريده هذا الإنسان، وأن يسأله الله في كل شيء قبل فعله! وهذا تصوّر مقلوب للألوهية والإنسانية كما هو ظاهر، لكن الله خلق الدنيا مليئة بالمكابدة، وعلى الإنسان أن يصبر على ما يلاقيه، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد 4]، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة 155].

ونختم بنقلين هامين لشيخ الإسلام وتلميذه:

قال شيخ الإسلام: ((فكل ما فعله [الله] علمنا أن له فيه حكمة؛ وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه. وكذلك نحن نعلم أنه “حكيم” فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها. ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه؛ لعدم علمه بتوجيهه. والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك))[19].

وقال الإمام ابن القيم: ((قد استقرّت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق، ولذلك حفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات. ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب؛ فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول. فلله كم بين الدخول الأوّل والدخول الثاني من التفاوت. وكم بين دخول رسول الله r مكة في جوار المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح. وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها. وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [البقرة: 216].

وربما كان مكروه النفوس إلى … محبوبها سببًا ما مثله سبب))[20].

 


[1] God and Evil: The Case for God in a World Filled with Pain (298)

[2] If God is Good: Faith in the Midst of Suffering and Evil (11)

[3] Faith and Reason (177)

[4] H. J. McCloskey, “God and Evil,” Philosophical Quarterly, Vol. 10, No. 39. (Apr., 1960), p. 97

[5] تعالى الله عن ذلك.

[6] الإخوة كارامازوف (4/ 161).

[7] http://www.reasonablefaith.org/you-have-ruined-my-life-professor-craig

[8] With Reason and Persuasion (162) Defending Your Faith On Guard:

[9] مشكلة الشر ووجود الله (62).

[10] The Evidential Argument from Evil (p.xi.)

[11] مجموع الفتاوى (8/507).

[12] شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل (359).

[13] شفاء العليل (182).

[14] تذكّر قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف.

[15] مشكلة الشر لسامي عامري (124).

[16] المصدر السابق ص120

[17] حديث رقم (771).

[18] مجموع الفتاوى (8/123).

[19] المصدر السابق (6/128).

[20] شفاء العليل (225).

هل وجود الشر ينفي وجود الله عز وجل ؟

الوجود الإلهي ومشكلة الشر!

“هي مشكلة المشاكل في جميع العصور، وليس البحث فيها مقصورا على القرن العشرين، ولا نظن أن عصرا من العصور يأتي غدا دون أن تُعرض فيه هذه المشكلة على وجه من الوجوه، وأن يدور فيه السؤال والجواب على محور قديم جديد”([1]) [العقّاد]

تاريخ الشُّبهة:
منذ آلاف السنين وقضيَّة الشر حاضرة في الفكر الإنساني، ابتداءً بطائفة الشُكّاك الذين جاؤوا بعد أرسطو واعترضوا على الوجود الإلهي بسبب حصول الشر في العالم، مرورا بالفيلسوف اليوناني إيبيقور وأتباعه الذين أنكروا العناية الإلهية للسّبب ذاته، وحتى جاء الاهتمامُ البالغ بأسس هذا الموضوع في الفكر الإسلامي وتناوله بتعمُّق واستقصاء، ثمَّ كان بروز القضيّة في الفكر الغربي تزامنا مع عصر النهضة، ومحاولة علماء كثيرين أن يقدّموا جوابا مقنعا يصلح لتهدئة الناس تجاه هذه القضية التي بدأت تتحول في النفوس إلى “مشكلة” خصوصا مع التَّدْميراتِ التي أحدثها زلزال لشبونة الشهير وما يشابهه من وقائع تأخذ الإنسان بغتة، ثمّ جاءت القاضية باندلاع الحربين العالميتين فاحتلَّت تلك القضيَّةُ مكانةً عُظْمى من الاحتجاج والجدل.

ومع اشتداد الآلام، طفق بعض رجال الدين المسيحي في الغرب يصرّحون بعبارات تدلّ على إدراكهم لعمق المأزق، إذ يقول جون ستون –وهو من رجال اللاهوت-: “إن حقيقة المعاناة تشكل بلا شك التحدي الأعظم الوحيد للإيمان المسيحي، وقد كانت هكذا في كل جيل، إن توزيعها ودرجتها تبدو أنها عشوائية تماما، ومن ثم غير عادلة، فالأرواح الحساسة تتساءل: هل يتوافق ذلك مع عدالة الله ومحبته؟!”([2])

وتسبَّب هذا كلُّه في اعتماد كثير من الناقدين للأديان من الملاحدة والربوبيِّين على مشكلة الشر واستدلالهم بها في موقفهم تجاه الإله، سواء بإنكار وجوده في حالة الملحدين، أو إنكار تدبيره للكون في حالة الربوبيّين.

ومن أبرز الملاحدة المحتجّين بتلك القضية من فلاسفة الغرب وعلمائه المحدَثين: هولباخ الذي اعتبر مظاهر الشرّ الواقعة في الكون مناقضة لاتصاف الإله بالرحمة والعدل، ونيتشه الذي وصف الإله “بالشرّير” للسبب ذاته، وداروين الذي اعتبر الشرور من وسائل التشكيك في وجود الله وعدله.

وكذا كانت قضيَّةُ الشَّرِّ أحدَ الأسباب التي دعت أنتوني فلو، ولي ستروبل إلى الإلحاد قبل رجوعهما إلى الإيمان.

عرضُ الشُّبهة:
مع اختلاف أساليب الاحتجاج بتلك القضيَّة، فإنَّ طريقة الفيلسوف اليوناني إيبيقور هي الأكثر حضورًا واعتمادًا عند جُلِّ من يتعرَّض لمشكلة الشَّرِّ، وحاصلُها: أنه إذا افترضنا أن الله كلّيُّ الرحمة والقدرة والإرادة كما يقول المؤمنون، فإنَّ الأمرَ لا يخلو من أربعة احتمالات:

إما أنَّ اللهَ يريد أن يمنع الشر ولا يستطيع.
وإما أنَّه يستطيع ولا يريد.
وإما أنَّه لا يستطيع ولا يريد.
وإما أنَّه يستطيع ويريد.
فإن كان الأوَّل؛ فهو عاجز ليس كلي القدرة فلن يكون إلها، وإن كان الثاني؛ فهو قاسٍ ليس كلي الرحمة فلن يكون إلها كذلك، وإن كان الثالث؛ فهو أشدُّ عجزًا ونقصًا،وإن كان الرابع؛ فليس لوجود الشر في الكون تفسير إلا أنَّ الإله غير موجود([3]).

مُجمَل الرَّدِّ على الشُّبهة:
يمكن تجليةُ الجوابِ عن مشكلة الشر بإيضاح جملة من الأصول الكلية، تُمهِّد بين يدي الجواب التفصيلي، على النحو التالي:

الأوَّلُ: أنَّ اللهَ سبحانَهُ موصوفٌ أبدًا بالحكمة ولا يَفعلُ شيئًا إلا لغايةٍ حميدةٍ، فالكون مشتمل على أعلى درجات الدّقة والإتقان والجمال، فيستحيل أن يكون ذلك بلا غاية، فجميع أسماء الله وصفاته وآياته المشهودة في الكون تمنع أن يصدر عنه فعل إلا لحكمة بالغة.

الثَّاني: أنَّ البَشَرَ لا يُمْكِنُ أن يحيطوا بكمال الله في علمه وحـكمته، ويستحيل عليهم أن يعلموا بكل مقاصد الله في خلق الكون وأحـداثه، لأنه متصف بكمال العلم وهم متصفون بنقصه، فكماله يمنع ذلك وكذا حكمته سبحانه، بل إن الإنسان لو أطْلَع غيره على جميع شأنه عُدَّ سفيها جاهلا، وشأن الرب أعظم من أن يَطَّلِعَ كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته([4]).

الثالث: حِكمة الله سبحانه منها ما يظهر ومنها ما يخفى، والواجب على الإنسان أن يردّ ما يخفى إلى ما يظهر، فالحِكم الظاهرة من خلق الله كافية في تأسيس اليقين بأن الله تعالى لا يفعل في الكون إلا ما هو خير وصلاح.

الرابع: أن الكمال الإلهي يستوجب تعدد أصناف الموجودات واختلاف طبائعها، فاتصافه بالقدرة يستوجب وجود الخلق، ووجود المتضادات في الكون، واتصافه بالإحسان يستوجب وجود العطاء، واتصافه بالعفو يستوجب وجود المخطئ والمذنب، واتصافه بالعدل يستوجب وجود الظالمين والمظلومين، وكذلك الحال في كل معاني الكمال الإلهي، ومن ثمّ، فإن وجـود الشر الإضافي في الموجودات هو حَدَث لازم في الوجود؛ لأنه بوقوع جنسه تنجلي عدد من الكمالات الإلهية، كالقدرة على خلق المتضادات، وانجلاء معاني الملك والجلال والجبروت وغيرها([5]).

الخامس: أنَّ التكليفَ بالشَّرائعِ التعبُّديَّة قائمٌ على حُرِّيَّةِ الإرادة، ولو جعل اللهُ النَّاسَ كلَّهم مجبرين على أعمالهم لما صحَّ في العقل أن يُكلَّفَ أحد بشيء. واتصاف الإنسان بحرية الاختيار يستلزم وجود الصواب والخطأ، والقدرة على فعل الحسن والقبيح، وهذا يقتضي ضرورة صدور الشر من الإنسان، وحدوثه منه في الواقع، وبذلك يحصل التفاضل بين الناس، ويتحقق التمايز بينهم.

فهذا إجمال للأصول الكلية الناظمة للنظر الصحيح في هذه المشكلة، ونشرع الآن في تفصيل ما أجمل، وتوضيح ما أشكل، وبَسطِ ما اختُصِر.

مُفصَّل الرَّدِّ على الشُّبهة:
لقد خاضَ النَّاسُ كثيرًا على اختلافِ اختصاصاتهم الفَلْسَفِيَّة والدِّينيَّةِ والمعرِفيَّةِ في هذه القضيَّة، وقدَّموا لها حلولاً بحسب منطلقاتهم الفَلْسَفِيَّة أو الدِّينيَّة، وليس من شأننا أن نستقصي في ذكر ذلك، ولكنَّنا سنذكر ما رأيناه الأضبطَ في تحديد الرُّؤية المستقيمة للقضيَّة انبثاقًا من منهاج أهل السُّنَّة والجماعة في الأصول، وقد وقع المعترضون في أخطاءٍ أبرزها ما يلي:

أولا: سوء تصوُّرهم للكمال الإلهي، فإنهم اختزلوه في صفة الرحمة دون النظر لصفات أخرى كالحكمة والعلم وغيرها من الصفات، ونتيجة لذلك رأوا أن اتصاف الله بالرحمة يلزم منه انتفاء وقوع مظاهر الشر في الكون، ولكن الكمال الإلهي في حقيقته لا يتمّ إلا بتضافر هذه الصفات معاً واستحضارها مجتمعة دون إغفال واحدة منها لما يترتّب عليها من آثار، ولو أنّهم فعلوا ذلك لعلموا أن مظاهر الشرّ قد تقع لحِكم تترتّب عليها لا للشرّ ذاته، فقد يفعل الأب بابنه فعلا ظاهره الشرّ لكنه يفعله حرصا على خير يأتيه بعده أو دفعا لشرّ أعظم وأخطر منه، ولسنا نقصد من هذا المثال المطابقة بين الصورتين ولا تشبيه خلق الشر بفعل الإنسان، ولكن المقصود هو أن وقوع الشر لا يلزم منه انعدام الرحمة، وهي صورة عقلية ضرورية، فمثل المدّعي أن وقوع الشر ينافي الألوهية كمثل من يدّعي أن حرص الوالد على ولده بطريقة تسبب الألم للابن = منافٍ الأبوّة!

وقد يعترض البعض: بأن الإنسان يفعل الشر لأجل الحكمة لأنه ناقص القدرة، لكنّ الله كامل القدرة، ولذلك لا يصحّ في حقِّه هذا الفعل.

وهذا الاعتراض باطل، لأنَّ استنتاجَ أنَّ كامل القدرة لا يخلق ما ظاهره الشرِّ لعدم وجود حكمة من ذلك = يحوي قفزا حكميًّا، فعدم المعرفة بحكمته ليس معرفة بعدمها.

كما أن هذا الاستنتاج قد تمّ بحكمة وعلم ناقصين وهما علم وحكمة الإنسان، وقد علمنا أن حكمة الله كاملة وعلمه كامل تماما ككمال رحمته وقدرته، فكيف يمكن أن نحاكم الكامل بالناقص؟!

ومن ذلك يُعلم: أن الفعل إنما يُحكم عليه بما يتعلق به من اعتبارات وجوديّة، ولا علاقة له -هنا- بتمام قدرة فاعله من نقصها، فإن تعلّقت به اعتبارات صالحة فهو خير، وإن كان شرّا في الظاهر.

فأصل الاعتراض هنا: هو النظر لصفة الرحمة دون تضافرها مع الصفات الأخرى، لا سيما صفتي العلم والحكمة، فهذه المسألة – بل جميع مسائل القدر- ترتبط بصفة الحكمة ارتباطا وثيقا، ولذلك يقول ابن القيّم رحمه الله عن باب القدر: “هو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، والحكمة آخيته (محوره وصلبه) التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها”([6]).

ثانيا: الظنُّ الخاطئ بإمكانيَّة الإحاطة بكمال الله، فالبشر جميعا عاجزون عن ذلك، ويتأكَّد عجزهم في مجال الحكمة والعلم والغايات، لكونه ألصق بالربوبيّة وأدقّ من غيره، قال تعالى: ” عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا“(الجنّ: 26)، وقال: “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا“(طه: 110).

وما أحسن كلام ابن القيّم رحمه الله في هذا الباب إذ يقول: “فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته … ، فإن علوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه، كما يضمحلُّ ضوءُ السِّراجِ الضَّعيفِ في عَيْن الشمس”([7]).

فالمؤمنون يستحضرون العظمة الإلهية من كل جوانبها، في العلم والقدرة والحكمة والجلال والجبروت في تعاملهم مع تلك القضيّة، وأمّا المعـترضون فيغفلون عن هـذه الحقيقة، وكأنهم يعترضون على مخلوق محـدود القدرة والعلم والحـكمة، وكأنه يمكن للبشر أن يحيطوا بعلم الله وحكمته وقدرته.

يقول ابن القيّم مبيّنا شناعة هذا الخطأ: “فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القِحَة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس، التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل، التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين = عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه، وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك، فسبحان الله رب العالمين! تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون”([8])

وكشف هذين الخطأين يكفي في الجواب عن هذا الاعتراض، ولكننا سنزيد أمورا طلبا لجلاء الصورة:

ثالثا: التصوُّرُ الخاطئ لطبيعة الوجود، فالطبيعة لها لوازمها التي لا يمكن قيامها إلا بها وإذا حدث اضطراب في أحدها سيختلّ نظامها تماما، وستصبح شيئا آخر غير نفسها، ونتيجة لاختلاف أنماط العيش في هذه الحياة، كان حدوث الآلام والأضرار جزءًا مهمًّا منها، فإذا لم توجد بعض الطيور التي تتغذّى على بعض الحشرات لتكاثرت بصورة مرعبة، وفي المقابل إذا تم القضاء على نوع معيّن من الحيوانات المفترسة لاختلّ النظام البيئي، فكذلك إنّ كل أنواع الشرور الموجودة في الكون ما هي إلا مكوّن أساسي في طبيعة الحياة، وهذا هو ما سمّاه الأستاذ عبّاس العقّاد بـ (حلّ التكافل بين أجزاء الوجود) ، يقول في بيانه: “خلاصة الحل الذي نطلق عليه اسم (حل التكافل بين أجزاء الوجود) : أنَّ المعتقدين به يرون أن الشر لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزء متمِّمٌ له أو شرطٌ لازمٌ لتحققه، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشِّدَّة، ولا معنى لفضيلةٍ من الفضائلِ بغيرِ نقيصةٍ تقابلها وترجِعُ عليها”([9]).

فالمعترض على الوجود الإلهي بقضيّة الشر، لا يعترض على وقوع الشر فحسب، وإنما هو في الحقيقة يعترض على طبيعة الوجود بأكمله، وقوانينه ومساره.

ويبرز هذا المعنى قولُ ابن تيمية رحمه الله: “خَلْقُ هذه الطَّبيعةِ بدونِ لوازمها ممتنعٌ، فإنَّ وجودَ الملزومِ بدونِ لازمِه محالٌ، ولو خُلِقَتْ على غير هذا الوجه لكانت غيرَ هذه، ولكانَ عالَمًا آخرَ غيرَ هذا، قال: ومِنَ الأشياء ما تكون ذاتُه مستلزمةً لنوع من الأمور لا ينفكُّ عنه-كالحركة مثلًا المستلزمة لكونها لا تبقى-، فإذا قيل: لِمَ لَمْ تخلق الحركة المعيَّنة باقية؟ قيل: لأنَّ ذاتَ الحركة تتضمَّن النُّقلةَ من مكان إلى مكان، والتحوُّلَ من حالٍ إلى حالٍ، فإذا قُدِّر ما ليس كذلك لم يكن حركةً”([10]).

فطبيعة الوجود تقتضي أن يكون للشيء جوانبُ نافعةٌ وأخرى ضارَّةٌ، ومن يعترض على وجود الجوانب الضارَّة؛ فإنه يعترض على وجود الشيء كلّه؛ لأن جانبيه لا ينفصلان، فالنار تهدي السائرين وتُنضج الطعام وتُدفئ في البرد، ولكنها تحرق من لمسها أو اقترب منها، وسؤال المعترض هو كسؤال: هلّا تجرّدت النار عن الإحراق؟! وكسؤال: لماذا لا يتصف المخلوق بالعلم والغنى الكاملين؟!([11])، إنها إن تجرّدت عن ذلك فلن تكون نارا، وإنه لو تجرّد عن نقصه وفقره لم يكن مخلوقا، وكذلك العالم الذي نعيشه، فإنه لو تجرّد عن وقوع الشرّ فيه لصار شيئا آخر.

وليس في المصير إلى هذا النوع من الجواب تعلُّقٌ بالمجهول، أو احتجاجٌ بالجهل العَدَمِيِّ، وإنما هو في حقيقته رجوع إلى المحكمات، واحتكام إلى العلم اليقيني، فإن العقلاء يسلمون بأن في قدرة الطبيب الماهر الصادق وعلمه ما يجعله يفعل أمورا لا يعلمون لها حِكمةً ولا فائدةً، ولا يشترطون معرفة الحكمة التفصيلية منها أو إدراكها بالحسّ، ومع ذلك فهم لا يقدحون في علمه وحكمته، فمن باب أولى أن يسلّموا بعلم الله وحكمته.

فإن قيل: إذا كان الله متَّصِفًا بكمال القدرة فلا يمتنع عليه أن يجد طريقة لإظهار مقتضيات حكمته، وترتيب قوانين الكون من غير وجود الشر.

قيل: إن هذا السؤال فضلا عما فيه من خطأ في افتراض وجود الملزوم بغير لازمه الضروري، فإنه ناشئ عن تكبيرٍ وتضخيمٍ للذات الصغيرة الحقيرة، فحقيقته: راجعةٌ إلى أن محدودَ القدرة والعلم يفترض أن هناك طرقًا أخرى لتدبير الكون أكملَ مما وضعه الله، وأنه يمكن له أن يقترح على الله (كامل العلم والقدرة) فعل ذلك، وهذا منافٍ للعقل والمنطق.

رابعا: القصورُ في تصوُّر الشرِّ، فإنَّ كافَّةَ الشُّرورِ الواقعةِ في الدنيا ليست شرورا محضة، وإنما تحوي جوانبَ من الخير قلّت أو كثُرت، فالله تعالى لا يخلق شرا محضا؛ لأن خلق الشر المحض منافٍ للحكمة، وهو نوع من العبث الذي ينزه الله عنه، وكل الشرور التي توجد في الخلق فهي شرور إضافية نسبية([12]).

“فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد والشجر والدواب، كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناء، ويعوق عن مصلحة، ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟! وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتفلة في بحر؟!وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجبٌ لأعظم المفاسد والهلاك؟! وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده، وإنضاج ثمارهم وأقواتهم، وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها، كم تؤذى مسافرًا وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة، وكم تعطش حيوانًا، وكم تحبس عن مصلحة، وكم تشف من مورد، وتحرق من زرع، ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟! فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شرٌّ كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه”([13]).

ويبدو هذا المعنى جليًّا في قصة موسى مع الخضر، فإنه فعل أفعالا ظاهرها الشر، ولم يفهم موسى عليه السلام منها إلا أنها شر محض، ولكن الخضر كشف عن الخير الخفي الذي كان وراء أفعاله، فأثبت له أن أفعاله كانت شرورًا نسبية إضافية، وقد علق الرازي على هذه الحادثة بقوله: “كلُّ ما في العالم من مِحنةٍ وبليَّةٍ وألمٍ ومشقَّةٍ فهو وإنْ كان عذابًا وألمًا في الظَّاهر إلا أنَّه حِكْمَةٌ ورحمةٌ في الحقيقة، وتحقيقُه ما قيل في الحكمة: إن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثيرٌ”([14]).

خامسا: الخطأ في تقييم الحياة في الدنيا، فإنّ المعترض ينطلق من أن غاية الحياة في الدنيا تنحصر في الظفر بالخير المطلق، الذي لا كدر فيه ولا ضرر، ولكن هذا غير صحيح، فالحياة الدنيا ما هي إلا مَعْبَرٌ إلى الحياة الآخرة التي يحصل فيها الاستقرار الدائم، فالشرور الدنيوية لا تخرج في طبيعتها عما يحصل لأي مسافر في طريقه من المشقة والتعب “وعندما ينجح المؤمنون في التغلب على العقبات التي ملأت طريقهم، وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء، فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}”([15]).

سادسًا: الوقوع في مغالطة القفز الحكمي، فحتى مع التسليم-جدلاً- بثبوت مشكلة الشر، فإنه لا يوجد أي ترابط عقلي أو منطقي بين وجود الشر وعدم وجود الله، وغاية ما تدلُّ عليه هذه المشكلة هو القدح في صفة من صفات الإله -تعالى الله عن ذلك- كما أن هذه المشكلة معارضة بأدلة أقوى منها، فالأدلة على وجود الله أقوى وأظهر من هذا الاعتراض الضعيف، ولا يصح في مناهج الاستدلال أن نترك الدليل القوي في مقابلة الدليل الأضعف.

وهذا يدلُّ على أن استدلال الملاحدة هنا هو استدلال عاطفيٌّ نفسيٌّ وليس قائما على الاستدلال العقلي المجرّد، ومما يؤكد ذلك: أن الملاحدة كثيرا ما يعترضون على الشرور الحسّية الواقعة في الكون ويهملون الشرور المعنوية كالفساد الأخلاقي من كذب وخيانة وجشع وغير ذلك، مع أن مفاسد الشرور المعنوية أعظم وهي قائمة في الكون بفعل الإنسان.

وفي هذا السياق يقول العقّاد: “ليس الشر إذن مشكلة كونية، ولا مشكلة عقلية، إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عصي على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني، الذي يرفض الألم، ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبا على طبائع الأمور”([16])

سابعا: الحُكمُ بالأقلِّ على الأكثر، فالشرُّ وإنْ كان واقعًا في الدنيا إلا أنه لا يغلب الخير الذي فيها، فالأصل في حياة الكائنات هو الاستقامة، والشرُّ طارئٌ عليها، وليس مقبولا في العقل والمنطق أن نحكم على الحياة بالنادر منها وندع الكثير الغالب، يقول ابن القيّم مؤكِّدًا هذا المعنى: “ومن تأمَّلَ هذا الوجود علم أنَّ الخيرَ فيه غالب، وأن الأمراض وإن كثرت فالصحة أكثر منها، واللذات أكثر من الآلام، والعافية أعظم من البلاء، والغرق والحرق والهدم ونحوها وإن كثرت فالسلامة أكثر، ولو لم يوجد هذا القسم الذي خيرُه غالبٌ لأجل ما يعرِضُ فيه من الشَّرِّ، لفات الخيرُ الغالِبُ، وفواتُ الخيرِ الغالِبِ شرٌّ غالِبٌ”([17]).

ثامنا: الانتقائية غير المنهجية، فالعالم مشحون بالدلائل على حكمة الله البالغة ورحمته الواسعة وفضله العميم، ولكن المعترضين تغافلوا عن ذلك كلّه وتمسّكوا بأمور قليلة خفيت عنهم الحكمة منها، والمنهج الصَّحِيحُ يقتضي أن يقاس المجهول على المعلوم، وأن يُردَّ المتشابهُ إلى الـمُحْكَمِ وليس العَكْس، فالواجب على من رأى في مشاهد الكون أمورا لم يفهم حكمتها هو إرجاع ذلك إلى ما يراه من مشاهد الإحكام الأخرى، التي هي أكثر في العدد، وأظهر في الدلالة، يقول الزمخشري في ردّ هذا الخطأ الاستدلالي: “وخفاءُ وجهِ الحسنِ علينا لا يَقْدَحُ في حُسنِه-أي في حُسن فعل الله سبحانه- كما لا يَقْدَحُ في حُسْنِ أكثرِ مخلوقاتِه جهلُنا بداعي الحكمة إلى خلقها”([18])، وبهذا يتبيّن فساد هذا الاعتراض وبطلانه.

تاسعا: التناقض المنهجي، فإن كثيرا من أتباع التيار الإلحادي لا يسلّمون بالقيم المطلقة ولا المبادئ الكلّية، ويرون كلَّ شيء نسبيًّا، ومن ثم فلا يصحّ منهم اعتقاد وقوع الشرّ المطلق فضلا عن إنكاره وفق هذه المنطلقات لأنه نقيض الخير، ولهذا قلَب الفيلسوف بيترج ونكريفت الدعوى على أتباع التيار الإلحادي، فإن اعتراض الملحد هنا “معناه أن لديه مفهوما عما يجب أن يكون، وأن هذا المفهوم يقابل شيئا واقعيا، وهذه حقيقة اسمها الخير الأسمى، حسنا.. إنها اسم آخر لله، فإن لم يكن الله موجودا فمن أين جئنا بمعيار الخير الذي يحكم به على الشر بأنه شر؟!”([19]).

فهذه أغلاط تسعةٌ وقع فيها المعترضون على وجود الله وكماله بقضية الشر، ولعلّ الطريقة الصحيحة في التعامل مع هذه القضية قد اتضحت بالمسلكين الإجمالي والتفصيلي،وبذلك ينفضُّ هذا الإشكال، ويزول الضباب عن أعين المتخبِّطين فيه، والله أعلم.

(1) عقائد المفكرين في القرن العشرين، ص65-66.
(2) القضية الإيمان، لي ستروبل، ص13.
(3) موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي (1/229).
(4) انظر: شفاء العليل (2/571)
(5) انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/329 – 330).
(6) شفاء العليل (1/44).
(7) المرجع السابق (2/925).
(8) شفاء العليل (2/530).
(9) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص7.
(10) انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين، ص214.
(11) المرجع السابق، ص224.
(12) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/226)، شفاء العليل، لابن القيم (2/522).
(13) طريق الهجرتين، ص213.
(14) التفسير الكبير (1/202).
(15) قذائف الحق، ص201.
(16) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص9.
(17) شفاء العليل (2/522).
(18) الكشَّاف (4/548).
(19) القضية الخالق، لي ستروبل، ص41.

المصدر