تعزيز اليقين وهداية الحيران

نقض ونقد الداروينية

الرئيسية / بنك المعلومات / نقض ونقد الداروينية

الكتب

دارون ونظرية التطور

لقد تم دمج علم الوراثة مع نظرية داروين للتطور بالاصطفاء الطبيعي في الوراثيات السكانية. كان تشارلز داروين أول من صاغ محاججة علمية لنظرية التطور الذي يحدث بواسطة الاصطفاء الطبيعي. التطور بواسطة الاصطفاء الطبيعي هو عملية يُستدل عليها من ثلاث حقائق تخص التجمعات:...
تحميل

هدم نظرية التطور في عشرين سؤالا

يناقش الكاتب الكبير هارون يحيى نظرية التطور في عدد من الاسئلة ويجيب عليها لمواجهة معارضين النظرية من جهة. ولشرحها وتفسيرها بإيضاح للذين يبحثون في هذا المجال. ليسهل الأمر على الباحث ويبطل أسباب المعارضين لنظرية التطور.
تحميل

أصل الإنسان

يقدم هذا الكتاب نظرة جديدة لأصل الإنسان، استمدت قوتها من تجارب خمسة وأربعين عالماً من دول مختلفة، أجروا أبحاثهم مؤخراً في أفريقيا بين عامي 1994و 2009. وظهرت نتائج أبحاثهم المنشورة في المجلات العلمية المرموقة مدهشة وواقعية على المستوى العالمي، ألا أنها خالفت نظرية دارون
تحميل

الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان وتفنيد نظرية داروين

في هذا الكتاب يفند المؤلف ادعاءات المفترين المارقين، ويدحض نظريات فلاسفتهم الأفاكين، و يثبت وجود الله سبحانه وتعالى بالدليل العقلي والعملي والمادي من خلال كشف النقاب عن آياته جل جلاله وصنعه المذهل في كل ما خلق وفلق..
تحميل

الإنسان مخلوق لا مصادفة

هذا الكتاب يمثل أحدث الدراسات العلمية في الرد على نظريتي النشوء والارتقاء. وقد نجح المؤلف في هذا الكتاب ويرجع هذا إلى الأهمية التي نجح في إضفائها على الإنسان، فقد سلخ من عمره المديد كطبيب، خمسين سنة قضاها يتنقل بين عنابر المرضى وأقبية الموتى وأسرة المحتضرين، يسجل الوقائع، ويجمع الحقائق، بحس علمي متميز، وحدس شفاف لا يخون...
تحميل

إنسان المؤمنين وإنسان الملحدين رداً على نظرية دارون

في الكتاب هذا يرد االمؤلف على نظرية دارون فجاء الكتاب هذا الذي معنا ليوضح أن إنسان المؤمنين هو آدم الذي خلقه الله من طين بيديه ونفخ فيه من روحه، وخلق منه أنثاه حواء، وهذا هو المعتقد الإسلامي الذي كفل لهذا الإنسان حقوقه وحرم دمه وماله وعرضه واحترم مشاعره وعواطفه وأخلاقه. أما إنسان الملحدين فقد خلق بواسطة النشوء والارتقاء.
تحميل

حقيقة الخلق ونظرية التطور

يتحدث الكتاب عن الاسس التي قامت عليها نظرية التطور ويحاول هدمها بالادلة العلمية وكذلك الرد على ادلة المحتجين بها وبيبين كيف انها تحولت من فرضية علمية الى ايدلوجية عندما قام بعض العلماء بتدليس بعض الادلة من اجل اثبات صحة النظرية ، يورد بعدها الادلة الشرعية من كتاب وسنة وكذلك من الكتاب المقدس التي تناهض هذه النظرية
تحميل

الحجج العصماء في نقض نظرية داروين في النشوء والإرتقاء

من الجحود ان تكفر بالله خالق ادم من تراب وخلق من كل شئ زوجين لنتكاثر وتؤمن بدارون الذي يقول بالتطور واصل الانسان قرد من القردة افشل نظرية إلحادية في التاريخ لا يقبلها عقل ولا منطق لذلك سوف ننقضها بالحجج حجة حجة حتى يتبين الصواب
تحميل

بطلان نظرية داروين

سقوط نظرية دارون

يتناول المؤلف خلال الكتاب دراسة موضوعية ومنهج بحثى واقعى عن طريق سرد عدة مقالات في فصول الكتاب المختلفة بأسلوب سلس ولغة واضحة يبحث من خلالها الكاتب في نظرية دارون والتي تسمى نظرية التطور. فيبحث في أصل النظرية ونقدها كما يبحث عن مدى صحتها. الكتاب مميز بوضوح لغته وسلاسة أسلوبه
تحميل

المرأة بين الداروينية والإلحاد

في هذا الكتاب نعرض بعض الرؤى الغربية الحديثة في قضايا المرأة والنسوية والتي لها تعلق بالمنهج المادي للإلحاد والداروينية، حيث تكتب لنا الأستاذة ملاك الجهني مدخلا لهذه الرؤى من وجهة نظر مختلفة، وهذه الرؤى هي ترجمات لأربعة مقالات بحثية تصف بعض الجوانب الخفية للمرأة بين الداروينية والإلحاد.
تحميل

قضية الخلق من الوحي إلى دارون

يلخص الكتاب الإجابة عن سؤال هام: هل الإنسان خلق تطوري أم خلق خاص؟ حيث يجيب: أن الإنسان (الجسد الطيني) هو خلق تطوري موجه، نشأ من الطين إلى الإنسان عبر كائنات أدنى منه، أما الإنسان كبشر عاقل فهو مميز، وهبه الله نفخة منه، لم تمر بمراحل ولا أطوار، كانت خلقاً خاصاً.
تحميل

٤٠ خطأ في نظرية التطور

كتاب جميل ومختصر للرد علي المتطورين و يمتاز كتاب 40 خطأ في نظرية التطور بصغر الحجم وبساطة العبارة مع ضبط كل معلومة علمية بمصدرها يعتمد الكتاب على أحدث الأبحاث العلمية والأوراق المُحكمة!
تحميل

الإسلام ونظرية داروين

يتناول هذا الكتاب موضوعًا حساسًا وهو نظرية التطور التي اقترحها داروين وكيف يتعامل الإسلام مع هذه النظرية. يبدأ الكتاب بتقديم نظرة عامة على نظرية داروين، ومن خلال هذا الكتاب، يحاول المؤلف إعادة تفسير موقف الإسلام من نظرية داروين، وإزالة التشويش عن كما يشير إلى أن الإسلام لا يتعارض مع نظرية داروين..
تحميل

الأمم الائدة، نقض دارون والداروينية

في هذا الكتاب دراسة يكشف المؤلف من خلالها عن آثار بعض حالات الدمار التي ذكرها القرآن الكريم. هذا وسيلاحظ القارئ بأن بعضاً من الأمم المذكورة في القرآن الكريم لم يتم تضمينها في هذا الكتاب؛ لأن القرآن الكريم لم يعرض لزمانها ولا لمكانها، وإنما اقتصر ذكرها على عصيان القوم لله ورسله، وللدمار الذي حلّ بهم نتيجة إضلالهم، وهذا كان داعياً للناس لأخذ العظة والعبرة من هذه الأحداث.
تحميل

الداروينية المتأسلمة أزمة منهج

ممن روج لها قريبًا الشيخ عبدالصبور شاهين: لذا استعرض البحث لكتابه ولمجازفاته الواهية. ثم استعرض لأدلة سادنها الأكبر في حيننا: الدكتور عمرو شريف، وهو الذي آلت إلى شماله رياسة الدعوة إليها. وهذا الكتاب في الجملة إنما جاء ردًا على هذا المنهج عمومًا، ثم تبيان خطورة مآلاته وتضارب جزئياته مع كلياته بالإضافة إلى تفكيك أبرز أطروحاته وجلاء عوارها.
تحميل

تهافت نظرية دارون في التطور أمام العلم الحديث

يتناول خلال الكتاب دراسة موضوعية ومنهج بحثى واقعى عن طريق سرد عدة مقالات فى فصول الكتاب المختلفة بأسلوب سلس ولغة واضحة يبحث من خلالها الكاتب فى نظرية دارون تحليلا ومقارنة بالعلم الحديث
تحميل

حوار بين مدرس ملحد وتلميذ مسلم

الحلقة المفقودة، الكشف عن الأصل البشري الأول

يقدم لنا كتاب «الحلقة المفقودة» تحقيقاً شاملاً عن «إيدا» والأصول الأولى للبشرية، فضلاً عن القصة العلمية البوليسية الرائعة التي أعقبت اكتشاف «إيدا». وفي الوقت ذاته، يفتح لنا هذا الكتاب شرفة ثرية ومذهلة على الماضي الإنساني السحيق، ويغير من ثم ما نعرفه عن تطور الرئيسات، والبشر في نهاية المطاف.
تحميل

هل قال علماء المسلمون القدامى بالتطور

خواطر حول فيلم وثائقي عن نظرية التطور

نقد فلسفة دارون

كان لهذا الكتاب - الرائد في الردّ على فرضيّة داروين وأتباعه - الأثر الفعّال في صدّ أهداف الاستعمار وأذنابه، في التمسك بداروين وفرضيّته لزعزعة الإيمان من قلوب أبناء المسلمين؛ بدعوى أنّ ما توصل إليه داروين يبتني على العلم والتجربة والبحث والتنقيب، وأمثال ذلك من الدعاوي الفارغة.
تحميل

المرئيات

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية من قبل علي عزت بيغوفيتش

تشغيل الفيديو

الداروينية عرض ونقد

تشغيل الفيديو

حوار مع داروين

تشغيل الفيديو

ما هي نظرية التطور؟

تشغيل الفيديو

التطور الموجه

تشغيل الفيديو

البيولوجي الملحد (داوكنز) يهدم التطور

تشغيل الفيديو

الجانب المظلم لتشارلز داروين

تشغيل الفيديو

العلاقة بين نظرية التطور والإلحاد

تشغيل الفيديو

أثر نظرية التطور الداروينية

تشغيل الفيديو

تحطيم وهدم نظرية التطور بالأدلة العلمية

تشغيل الفيديو

تعريف ومعنى التطور المتعارض مع الدين

تشغيل الفيديو

كتاب- معركة التطور لماذا اختلفوا؟ 

تشغيل الفيديو

كتاب من داروين إلى هتلر 

تشغيل الفيديو

هل داروين هو أول من تفرد بالتطور؟

تشغيل الفيديو

هل ينحدر الإنسان من القردة؟

تشغيل الفيديو

كيف الغت النظرة التطورية للعقل التفكير في التطور نفسه؟

تشغيل الفيديو

هل أخطأ داروين في نظرياته بشأن خلق الكون؟

تشغيل الفيديو

هل ستستمر نظرية التطور في لعب دورها تجاه العولمة؟

تشغيل الفيديو

داوكنز والحل الدارويني

تشغيل الفيديو

التطور حقيقة علمية ولكن أي تطور؟

تشغيل الفيديو

هل فشلت نظرية داروين؟

تشغيل الفيديو

شك دارون هل استطاع دارون تفسير كل شيء؟!

تشغيل الفيديو

نظرية التطور والإيمان بالغيب هل الملاحدة لا يؤمنون بالغيب؟!

تشغيل الفيديو

بقرة تتحول إلى حوت !!

تشغيل الفيديو

لقاء لمايكل بيهي عن ثغرات التطور

تشغيل الفيديو

تروس بأقدام الحشرات – وطفرات الهدم

تشغيل الفيديو

 الطفرات المفيدة أغلبها هدم وليست بناء – عكس مطلوب التطور

تشغيل الفيديو

كيف يهرب التطوريون من طفرات الهدم والتهدور ؟

تشغيل الفيديو

التطور الدارويني عاجز عن ظهور الأنواع الجديدة

تشغيل الفيديو

دوجما التطور الذي لا يهدمه الدليل وعكسه !!

تشغيل الفيديو

العلم والتطور والمادية – اتبع الدليل حيث يقودك

تشغيل الفيديو

السخرية من فصل الخالق عن التدخل في الخلق

تشغيل الفيديو

السوط البكتيري يسبق الحاقن البكتيري

تشغيل الفيديو

هل تم خلق خلية في المعمل ؟

تشغيل الفيديو

احذر إعلام التطور

تشغيل الفيديو

جدال التصميم

تشغيل الفيديو

ماذا يقول التطور الدارويني ؟

تشغيل الفيديو

التصميم الذكي يتحدى عشوائية التطور

تشغيل الفيديو

أدلة التصميم الذكي

تشغيل الفيديو

السوط البكتيري

تشغيل الفيديو

هل التصميم الذكي ديني ؟

تشغيل الفيديو

الاعتراضات العلمية

تشغيل الفيديو

الاعتراضات المفاهيمية

تشغيل الفيديو

الاعتراضات القانونية

تشغيل الفيديو

الشيفرة الوراثية والبروتينات

تشغيل الفيديو

معجزة المعلومات

تشغيل الفيديو

حل لغز الـ DNA 

تشغيل الفيديو

أفلاطون وأرسطو والتطور

تشغيل الفيديو

الجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون والتطور

تشغيل الفيديو

التكيف لا يؤدي للتطور

تشغيل الفيديو

هل تأتي الطفرات العشوائية بجين جديد

تشغيل الفيديو

هل يأتي الانتخاب الطبيعي بتطور ؟

تشغيل الفيديو

هل لا يوجد إرهاب تطوري ؟

تشغيل الفيديو

مشكلة الحفريات ؟

تشغيل الفيديو

التيكتاليك بين الأسماك والبر ؟

تشغيل الفيديو

الأركيوبتريكس ديناصور طائر ؟

تشغيل الفيديو

هل الإنسان من سلف القرود ؟

تشغيل الفيديو

مَن الذي يدلس على مَن ؟

تشغيل الفيديو

التشابهات الجينية دليل تطور ؟

تشغيل الفيديو

هل الكروموسوم 2 دليل تطور ؟

تشغيل الفيديو

تشابه الأعضاء

تشغيل الفيديو

إبداع العشوائية !

تشغيل الفيديو

الشيخ حسين الجسر والتطور ؟

تشغيل الفيديو

الشيخ القرضاوي والتطور ؟

تشغيل الفيديو

هل في التفاسير أشباه البشر؟

تشغيل الفيديو

هل في التفاسير أشباه البشر؟

تشغيل الفيديو

الرد على الحلقة الأخيرة

تشغيل الفيديو

لماذا لا ينكر أكثر العلماء خرافة التطور ؟

تشغيل الفيديو

طرد بروفيسور الأحياء التطورية ريتشارد سترينبرج

تشغيل الفيديو

طرد دكتورة الأحياء كارولين كروكر

تشغيل الفيديو

دكتور الأعصاب مايكل إجنور – وبروفيسور الهندسة روبرت ماركس

تشغيل الفيديو

اضطهاد دكتور الفلك جيليرمو جونزاليس

تشغيل الفيديو

لقاءات منوعة

تشغيل الفيديو

مطرودون غير مسموح بالذكاء

تشغيل الفيديو

وثائقي بالأدلة انهيار نظرية التطور وحقيقة الخلق

تشغيل الفيديو

المقدمة

تشغيل الفيديو

بدايات التطور الداروينية هدمها العلم

تشغيل الفيديو

الخلية الحية الواحدة تهدم خرافة التطور

تشغيل الفيديو

الخلية الحية الواحدة تهدم خرافة التطور 

تشغيل الفيديو

الحمض النووي DNA يهدم خرافة التطور

تشغيل الفيديو

فاصل بصري لمشاهدة بعض إبداعات الخالق

تشغيل الفيديو

فرضيات الانتخاب الطبيعي والطفرات تفشل علميا

تشغيل الفيديو

الصفات المكتسبة من البيئة لا تورث

تشغيل الفيديو

عجز الطفرات العشوائية يهدم خرافة التطور

تشغيل الفيديو

العجز عن إيجاد حفريات انتقالية يهدم خرافة التطور

تشغيل الفيديو

الظهور المفاجيء لحفريات الكائنات وثباتها يهدم خرافة التطور

تشغيل الفيديو

مسلسل الأمثلة الخاطئة في خرافة التطور لا ينتهي!

تشغيل الفيديو

لا يمكن الانتقال بين الزواحف والطيور والزواحف والثدييات !

تشغيل الفيديو

كيف يزور التطوريون أدلتهم في خرافة تطور الإنسان ؟

تشغيل الفيديو

فضائح التطوريين في تزوير أدلة تطور الإنسان من قرد

تشغيل الفيديو

ديفيد بيرلنسكي مفكر عنيد يتحدى الداروينية

تشغيل الفيديو

أكبر العلماء يسخرون من خرافة التطور

تشغيل الفيديو

خرافة التطور لا تصلح حتى كنظرية

تشغيل الفيديو

كيف تتحول بقرة إلى حوت ؟!

تشغيل الفيديو

هل التشابه دليل سلف مشترك أم لا ؟

تشغيل الفيديو

لماذا لم تهدم الطفرات العشوائية الكائنات الحية ؟

تشغيل الفيديو

خرافة التطور المضحكة والصدفة الحمقاء

تشغيل الفيديو

أقوى مثال لفضح خرافة التطور

تشغيل الفيديو

خرافة التطوريين مع العلم ذاتي النقد

تشغيل الفيديو

العلماء ينتفعون بخرافة التطور : علاقة ماركسية

تشغيل الفيديو

العلم التجريبي ليس كما يظن البعض

تشغيل الفيديو

متى يُستخدم أسلوب التهكم والسخرية ؟

تشغيل الفيديو

هل ستعترض على التعليم إذا رأيت أنه خطأ ؟

تشغيل الفيديو

هل قال أفلاطون وأرسطو تحديدا بالتطور ؟

تشغيل الفيديو

 هل قال الجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون بالتطور ؟

تشغيل الفيديو

هل التأقلم يأتي بصفة أو عضو ليس من أصل الكائن ؟

تشغيل الفيديو

هل يمكن أن تأتي الطفرات بجين كامل جديد ؟

تشغيل الفيديو

هل هناك انتخاب طبيعي يأتي بجنس أو عضو جديد ؟

تشغيل الفيديو

هل لا يوجد إرهاب تطوري في الغرب لفرض التطور ؟

تشغيل الفيديو

لماذا ظهرت فرضية التوازن المتقطع عند التطوريين ؟

تشغيل الفيديو

هل التيكتاليك فعلاً هي حلقة الانتقال بين الأسماك والبر ؟

تشغيل الفيديو

هل الأركيوبتريكس فعلاً الحلقة الانتقالية للطيور ؟

تشغيل الفيديو

هل تطور الإنسان بالفعل من سلف القرود ؟

تشغيل الفيديو

وقفة مع ردود الدكتور علينا : هل صح بالفعل ؟

تشغيل الفيديو

هل التشابهات الجينية دليل حقيقي بالفعل على التطور ؟

تشغيل الفيديو

هل الكروموسوم 2 في الإنسان هو ملتحم ؟

تشغيل الفيديو

هل مقارنة الأعضاء فعلا تدل على تقارب تطوري ؟

تشغيل الفيديو

كيف يقنع مسلم ملحدا بأن العشوائية لا تخلق ؟

تشغيل الفيديو

هل يرى الشيخ حسين الجسر أي توافق بين القرآن والتطور ؟

تشغيل الفيديو

هل يمكن التوفيق بين الإسلام ونظرية التطور

تشغيل الفيديو

نريد رواية واحدة في أي تفسير معروف عن أشباه البشر؟

تشغيل الفيديو

الرد على الحلقة 58 عن التطور

تشغيل الفيديو

أقوى 3 أدلة على نظرية التطور!

تشغيل الفيديو

أفضل كتاب في نقد الداروينية

تشغيل الفيديو

اعتراف فيل كنجريخ مكتشف الحلقة الوسيطة لتطور الحوت بأنها لم يكن لها زعانف

تشغيل الفيديو

اعطني دليلا واحدا على التطور – لا يوجد ؟!!

تشغيل الفيديو

الإنسان لا يعيش في الماء والصحراء والسيانوبكتيريا هي السوط البكتيري!

تشغيل الفيديو

التحديات الرياضياتية لتفسير الداروينية الحديثة للتطور

تشغيل الفيديو

التخفي والتمويه في الكائنات الحية ينسفان خرافات التطور

تشغيل الفيديو

التطور لا يصلح حتى نظرية علمية فضلا عن وصفه بأنه حقيقة

تشغيل الفيديو

التعليق على مناظرات أحمد سامي 

تشغيل الفيديو

انقراض 99% من الأنواع التي عاشت على الأرض!

تشغيل الفيديو

التطور ينسف الضبط الدقيق!

تشغيل الفيديو

التطوري جيري كوين صاحب كتاب لماذا التطور حقيقة ومعضلة نشأة الحياة والخلية الأولى

تشغيل الفيديو

الجانك جين أو الجينات الخردة ونفاق التطوريين وريتشارد دوكينز

تشغيل الفيديو

الجزء الأول من حقيقة نظرية التطور

تشغيل الفيديو

الجزء الثاني من حقيقة نظرية التطور

تشغيل الفيديو

الرد على أكاذيب عدنان إبراهيم والتطور

تشغيل الفيديو

هل توجد أخطاء في جسم الإنسان والحيوان

تشغيل الفيديو

المضادات الحيوية | الطب الدارويني

تشغيل الفيديو

الوثائقي: من ضفدع إلى أمير

تشغيل الفيديو

الملحد التطوري ريتشارد دوكينز يكشف أخيرا كيف ظهرت صفة الكلام عند البشر ..!

تشغيل الفيديو

أقوى فيديو لنسف خرافة التطور .. لا عذر لأحد بعد ذلك

تشغيل الفيديو

تحول الإنسان والسيارة – التطور والتلاعب بالجرافيك

تشغيل الفيديو

تقنية كريسبر RISPR في التعديل الوراثي والجيني

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 1 نشأة الحياة

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 2 مفهوم التطور

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 3 سجل الحفريات

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 4 التعقيد غير القابل للاختزال

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 5 تشابه الكائنات الحية

تشغيل الفيديو

نقد الداروينية – 6 الغرائز الفطرية

تشغيل الفيديو

ما هو سبب التشابه بين الكائنات الحية

تشغيل الفيديو

خرافة التطور : مزحة رياضية

تشغيل الفيديو

خرافة تطور الحوت – الملحمة المستحيلة

تشغيل الفيديو

دوكينز يقول: أنا قرد ، هل أنت قرد ؟ والقس يرد: لا ، أنا إنسان

تشغيل الفيديو

مصطفى محمود يبين موقفه من دارون ومن تطور الانسان والقرود من سلف مشترك.

تشغيل الفيديو

ريتشارد دوكينز يعجز عن مثال طفرة إضافة واحدة مفيدة

تشغيل الفيديو

هل التشابه بين الكائنات الحية دليل على الاصل المشترك؟؟

تشغيل الفيديو

مقدمة في البيولوجيا الجزيئية

تشغيل الفيديو

محاولة للفهم

تشغيل الفيديو

أربعة مصطلحات مهمة – الجزء الأول

تشغيل الفيديو

أربعة مصطلحات مهمة – الجزء الثاني

تشغيل الفيديو

الطب الدارويني

تشغيل الفيديو

فراغات شجرة التطور الخرافية التي لم يملأها أحد

تشغيل الفيديو

وهم التشابه الجيني بين الإنسان والشيمبانزي

تشغيل الفيديو

فشل الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية في التطور

تشغيل الفيديو

أكذوبة الحفريات المتدرجة التي تثبت خرافة التطور

تشغيل الفيديو

غش وخداع التطوريين لإثبات تطور الإنسان من سلف أشبه بالقرود

تشغيل الفيديو

أمثلة على أكاذيب التطوريين لإثبات تطور الإنسان من سلف القرود

تشغيل الفيديو

كتاب أصل الأنواع لداروين في الميزان

تشغيل الفيديو

كريج فينتر التطوري يعترف بأن شجرة التطور المزعومة خيالات !!

تشغيل الفيديو

لا مجال للتلفيق بين الإسلام ونظرية داروين في نشأة آدم

تشغيل الفيديو

لقاء المجموعة مع البروفيسور مايكل بيهي حول التطور

تشغيل الفيديو

مبرهنة القرد اللامتناهية

تشغيل الفيديو

خرافة تطور الحوت مع حفرية الروديسيتوس واعتراف فيل كنجريخ

تشغيل الفيديو

مشكلة داروين والعقل مع خرافة التطور

تشغيل الفيديو

مقاومة المضادات الحيوية | الطب الدارويني

تشغيل الفيديو

نسف خرافة التطور في 5 دقائق فقط

تشغيل الفيديو

هل تعالج نظرية التطور البشر؟ | الطب الدارويني

تشغيل الفيديو

هل قال داروين أن الإنسان أصله قرد ؟؟

تشغيل الفيديو

هل يمكن أن تتطور الكائنات الحية من نوع إلى نوع آخر ؟

تشغيل الفيديو

هل يمكن أن ينشأ نظام من العشوائية ؟

تشغيل الفيديو

وجود الغرائز في الكائنات الحية يبطل نظرية التطور

تشغيل الفيديو

4 مصطلحات مهمة في فهم نظرية التطور

تشغيل الفيديو

الفرق بين التطور الصغير والتطور الكبير

تشغيل الفيديو

ما معنى حفرية ؟ وما المقصود بسجل الحفريات ؟

تشغيل الفيديو

يزعم أنصار نظرية التطور أن سجل الحفريات يؤيد نظريتهم ، لكن الحقيقة بخلاف ذلك ، لماذا ؟

تشغيل الفيديو

سمات سجل الحفريات

تشغيل الفيديو

كيف وضع داروين نظريته في التطور على خلاف الدليل

تشغيل الفيديو

ما هو الإنفجار الكامبري

تشغيل الفيديو

ما هو تفسير غياب الكائنات الإنتقالية من سجل الحفريات

تشغيل الفيديو

النزاع حول تشريع الإجهاض وعلاقته بنظرية التطور

تشغيل الفيديو

هل نظرية التطور حقيقة علمية قطعية

تشغيل الفيديو

هل ينفي الإسلام تطور سائر المخلوقات خلاف الإنسان ؟

تشغيل الفيديو

7 أخطاء علمية في نظرية التطور

تشغيل الفيديو

أصل الإنسان قرد؟!

المقالات

حول نظرية التطور

تنبيه: المقصود هنا هو التطور الماكروي (الكبروي) بين الأنواع، أما التطور المايكروي (الصغروي) داخل النوع الواحد فهو مثبت علميا ولا إشكال فيه.

هواة التطور

على كثرة ما يُطرح من مواضيع لنقض التطور والداروينية من منظور علمي بحت، وما يضاف لهذا الطرح من تحدٍّ موجّه لأدعياء العلم الذين يعتبرون التطور حقيقة علمية، وعلى كثرة ما نطالبهم بدليل علمي يثبت صحة التطور بشروط الأدلة العلمية المعيارية المعروفة عند العلماء (دليل قابل للدحض، وقابل للرصد والملاحظة، وقابل للتجربة وقابل للتكرار)، ولكن لا توجد إجابة!

كل ما هنالك من ردود هو الاتهام بعدم فهم النظرية! وكأنها نظرية باطنية غامضة تكتنفها الأسرار، ويجب أن يؤمن بها الجميع ولا يفهمها إلا النخبة.. أي منطق علمي هذا؟

ما نطالب به هو دليل علمي يثبت حدوث التطور بين الأنواع.. هذا هو المطلوب بكل وضوح! ليس هناك ما يثير أو يستدعي الغضب وتوزيع الاتهامات..

التطوري ببساطة يدعي أن النظرية حقيقة، وعندما تطالبه بالدليل يجيبك: وما الدليل على عدم صحة النظرية؟

هذه العقلية في الإثبات تذكرنا بعقلية جحا عندما نظر إلى السماء وقال إن عدد النجوم 56256 نجمة، فلما طالبوه بالدليل أجابهم: ها هي السماء فوقكم، عدوا النجوم بأنفسكم وأثبتوا أنني على خطأ!

فلا تكن أيها التطوري مثل جحا؛ تدعي صحة النظرية بلا دليل ثم تطالبني بدليل ينقضها.. والمبدأ عند أهل الأصول هو أن البينة على المدعي وليست على من أنكر، أي أن عبء الإثبات يقع على صاحب الدعوى.

النظرية تُدرّس في الجامعات

أحيانا نصادف شخصا تطوريا لا يعرف شيئا عن الدليل العلمي، فيستدل على صحة التطور بأن النظرية تُدرّس في الجامعات العالمية.. وهو يظن أن مجرد تدريسها يعد دليلا علميا! ولو أن باحثا فعل ذلك لصار أضحوكة بين زملائه.. فماذا عن الهندوسية والزرادشتية التي تُدرس في الجامعات العالمية؟ هل نعتبر ذلك دليلا على صحتها؟

قدّم ورقة علمية واهدم النظرية

كثيرا ما ترى الرد على انتقاد النظرية بعبارة “قدم ورقة علمية واهدم النظرية وخذ جائزة نوبل!” والحاصل أن المنهجية العلمية لا تعمل بهذه الطريقة لسببين: الأول، أننا في مرحلة المطالبة بالدليل العلمي على صحة النظرية، فلا معنى للسعي لهدم نظرية لم تثبت بعد. والثاني هو أن الأوراق العلمية لها معايير معروفة في البحث العلمي، فهي مقيدة من ناحية حجم البحث وطريقته ومنهجيته ونطاقه بحيث لا يتطرق إلا إلى جزئية محددة.

حجة المجتمع العلمي

قد يقول التطوري إن نظرية التطور حقيقة علمية لأن المجتمع العلمي يقبلها! وهنا تستطيع أن تميز بين من يعرف الدليل العلمي بشروطه التي ذكرناها قبل قليل وبين من يمارس بقصد أو بغير قصد مغالطة الاستدلال بالسلطة (appeal to authority)، وهو هنا الاستدلال برأي شخص لأنه من السلطة العلمية رغم أن ذلك الشخص لا دليل لديه يقدمه لإثبات رأيه.

هناك أمثلة واضحة تثبت خطأ الاستدلال برأي المجتمع العلمي واعتباره دليلا علميا، فقد آمن المجتمع العلمي خلال فترات ماضية بنظريات وأفكار مختلفة، وربما اعتبرها العلماء من المسلمات، ولكن ثبت بطلانها فيما بعد.. إليك بعضا منها:

الفلوجستون

في بداية القرن الثامن عشر كان المجتمع العلمي يعتقد أن هناك عنصرا موجودا في المواد القابلة للاشتعال، وهو الذي يؤدي إلى الاشتعال، وأسموه (الفلوجستون)، واستمر هذا الاعتقاد حتى أسقطه لافوازييه في القرن الثامن عشر وأثبت خطأه.

التولد الذاتي

ساد الإجماع بين العلماء على صحة مبدأ التولد الذاتي، وهو نشوء الكائنات ذاتيا، كالبكتريا والديدان والضفادع، ثم أسقطه فيما بعد العالم الكيميائي الفرنسي باستور وأثبت خطأه في القرن التاسع عشر.

أزلية الكون

كان هناك إجماع بين العلماء على أزلية الكون، أي أن الكون ليس له بداية، ثم أسقط هذا الإجماع العالم البلجيكي لوميتر وأثبت خطأه في بداية القرن العشرين عن طريق إثبات تمدد الكون، الذي سماه فريد هويل فيما بعد بالانفجار العظيم.

الصفحة البيضاء

كان الاعتقاد السائد أن الإنسان عند ولادته يكون معرفيا كالصفحة البيضاء Tabula Rasa، أي أن الأفراد يولدون دون محتوى معرفي عقلي سابق، وأن كل المعرفة تأتي عن طريق التجربة أو الإدراك. وقد ثبت علميا بطلان هذه النظرية، وأورد الباحث Steven Pinker في كتابه الشهير ما يدحض هذه النظرية، وكذلك نقضها لغويا العالم تشومسكي.

نظرية الأثير

الأثير Aether هو مادة كان يُعتقد أنها تملأ الفضاء الكوني، وكان الداعي لهذا الاعتقاد هو التفسير القائل أن الضوء لا يسير في الفراغ. ثم أثبتت تجارب ألبرت ميكلسون وإدوارد مورلي في أواخر القرن التاسع عشر أن الكرة الأرضية لا تتحرك خلال الأثير. وفي عام 1905 نشر ألبرت أينشتاين نظريته الخاصة في النسبية التي توضح سلوك الضوء وأنه لا يعتمد على وجود الأثير.

فهل يجرؤ التطوري الذي يحتج بالإجماع العلمي أن يأخذ بصحة تلك الإجماعات العلمية التي ثبت خطؤها؟ بالطبع لا.. فإثبات الأمر بدليل علمي يعني بالضرورة أن صحة هذا الأمر غير قابلة أصلا للنقاش. ولذلك عندما يستدل التطوري بالإجماع العلمي فإن عليه أن يؤمن أيضا بالفولوجستون وأزلية الكون والتولد الذاتي والصفحة البيضاء والأثير، أو أن يقبل أن التطور نظرية قابلة للخطأ، وإلا فإن لديه ازدواجية لا يقبلها المنهج العلمي في معياره الذي يستخدمه للإثبات.

والاستدلال بحجية إجماع العلماء يلزم منه التناقض والدحض الذاتي، وذلك أنهم حين أجمعوا على أمر ما في زمن ما ثم أجمعوا على خلافه كان إجماعهم حقا وباطلا في نفس الوقت، وهذا تناقض، ومعناه عند التدقيق أنهم أجمعوا على أن إجماعهم السابق خطأ، فإجماعهم ينقض إجماعهم ويبطل حجيته. وهذه الازدواجية تشير إلى أن استدلال التطوري بالإجماع العلمي هو استدلال “مضروب”، وأنه صاحب هوى.

ليس هناك إجماع

نحن ندعو إلى التمسك بالدليل العلمي المعياري بشروطه المعتبرة فقط، وهذا بالطبع لا يعني أن الإجماع العلمي لا قيمة له، فهو قرينة لكنه يظل بعيدا عن اعتباره دليلا علميا، مع أنه لا يوجد إجماع علمي أصلا على صحة التطور، فآلاف العلماء يشككون فيه، ونظرية الخلق تُدرس في جامعات أمريكية مثل:

* Briyan College * Azusa Calvin * Bob Jones University * The Center for Theology and the Natural Sciences

والتطوري قد لا يعترف بهذه الجهات العلمية غير التطورية، لأن التطور صار عنده عقيدة لا يجوز الاقتراب منها، مع أن في تلك الكليات والجامعات أساتذة كبارا من جميع التخصصات. ومن يتهم تلك الجهات العلمية بأنها أيديولوجية يكون الرد عليه بالمثل؛ فالجهات الداروينية تنطلق أيضا من توجهات أيديولوجية لا تقوم على الدليل العلمي! فقد اعترف سكوت تود في مجلة Nature قائلا: “حتى لو أشارت جميع البيانات إلى وجود مصمم حكيم فإن هذه الفرضية تستبعد من العلوم لأنها لا توافق التفسير الطبيعي.” وكما قال الدارويني الشهير آرثر كيث- وكان صريحا: “التطور غير مثبت ولا يمكن إثباته، ولكننا نؤمن به لأن البديل هو الخلق، وهذا أمر لا يمكن حتى التفكير فيه.”

حجة “ملايين السنين”

أما الفاهم من التطوريين فهو من يقول إن التطور يحتاج إلى ملايين السنين، ولهذا لا يمكن ملاحظته أو رصده أو إثباته علميا! هذا هو الفاهم، لكن من الواضح أنه ينقصه بعض الفهم.. فهو في الحقيقة يقول إن التطور حقيقة علمية ولكنها حقيقة لا يمكن إثباتها! هذا يسمى إيمانا دوغماتيا أعمى، والإيمان الأعمى هو السائد عند التطوريين بكل وضوح، وعلامته الحماس الزائد المحموم للاعتقاد بأن التطور حقيقة علمية مع الفشل في إيجاد الدليل العلمي.

الفهم الانقيادي

وهناك صفة نفسية خطيرة تلاحظها عند بعض المتحمسين للنظرية، وهي صفة الانقيادية؛ فما إن يستمع إلى مقطع الدكتور فلان حتى يسلم عقله له، مع أن الموقف الصحيح هو التحقق من الأدلة بغض النظر عن مجرد الأقوال، فهذا الذي تستشهد بقوله إنسان لا يخلو من الميول والرغبات، وقد تكون عنده أخطاء فادحة في الاستدلال.. ومثل هؤلاء الانقياديين نقدم لهم هذه الصفحة التي فيها حوالي ألف عالم ومتخصص من حملة الدكتوراه في مختلف الميادين العلمية، وكلهم يشككون بصحة الداروينية.

بقي أن يجيبك التطوري قائلا: “التطور حقيقة وهناك أدلة تثبت صحته، فاذهب إلى قوقل وابحث عن تلك الأدلة بنفسك فأنا لست متخصصا!” وهذا واضح أنه كلف على نفسه كثيرا في الإثبات..

هل الأحافير دليل؟

غير أن أقوى الأدلة التي يحتج بها التطوريون هو الاستدلال بالأحافير والمتحجرات على تسلسل الأنواع بعضها من بعض.. غير أن احتجاجهم هذا قائم على التباس بين الفرضية والحقيقة العلمية.

ربط المتحجرات والأحافير أمر مخادع كثيرا، اعتمد عليه التطوريون كثيرا في تسويق التطور، ولكن عند التدقيق في الأمر فإن الربط بين تلك الأحافير بسلسلة التطور لم يقم على أساس علمي، أي أنه لا يوجد رابط بين الأحفورتين المتشابهتين سوى رابط واحد: هو الافتراض المسبق بوجود التطور وبالتالي الافتراض بأن هذه الأحفورة سلف لتلك الأخرى.. وعلى هذا فإن دحض هذا الافتراض لا يقوم إلا على عدم التشابه نهائيا بين أية مفردات من تلك الملايين الكثيرة من الأحافير والكائنات، وهو أمر محال بالطبع.

أضف إلى ذلك أن هذا الاستدلال فيه ثغرة قاتلة، وهي أن النتيجة المطلوبة (التطور) استخدمت كأساس للاستدلال، أي أنك تستدل على النظرية بنفسها. ولو لم تكن في ذهن الباحث أية فكرة عن التطور لما استطاع توزيع هذه الأحافير أو الكائنات المتنوعة والمختلفة ليحصل منها على تسلسل يخدم التطور. ولا معنى للادعاء بوجود التسلسل الزمني بين أحافير الكائنات البسيطة وأحافير الكائنات المعقدة، فهناك أحافير كائنات معقدة انقرضت منذ ملايين السنين كالديناصورات، بينما توجد كائنات بسيطة لا زالت تعيش على سطح الأرض.

لن نتطرق إلى ظواهر التكيف والتطور داخل النوع الواحد، كمقاومة البكتريا للمضادات واختلاف مناقير الطيور حسب البيئة.. الخ، فهذه تدخل في التطور داخل النوع الواحد، وهو مثبت علميا ومقبول كما أوضحت في التنبيه أعلى الصفحة، وشتان بين التطور داخل النوع الواحد (micro-evolution) والتطور بين الأنواع (macro-evolution).

ثغرات هائلة

إن من يتأمل النظرية سيرى فيها ثغرات هائلة يصفها هذا البروفيسور بأنها تتسع لمرور الشاحنات! فالنظرية تفترض أن التطور يحصل بين الكائنات من الأنواع البسيطة صعودا إلى الأنواع المعقدة، وهذا التطور يفترض أن لا يكون فيه أية فجوات، فهو تطور بطيء جدا عبر ملايين الكائنات الانتقالية، بينما الأحافير فيها فجوات كبيرة جدا وحلقات مفقودة.. بل كيف تكونت الأحواض الجينية؟ ولماذا لا توجد أحافير لكائنات خارج الأحواض الجينية؟

ويكفي لدحض النظرية تأمل الأجهزة الحيوية في الجسم وكيف تعمل.. كيف تطور الجهاز البولي مثلا؟ هو جهاز متكامل لا يؤدي دوره إلا بعمل جميع أجزائه، فلا يمكن أن تعمل الكلية دون المثانة مثلا.. فهل جاءت طفرة لتكوين الكلية وبقيت الكلية دون عمل إلى أن جاءت طفرة أخرى لتكوين المثانة؟ وكيف بقيت الكلية زائدة لملايين السنين دون وظيفة فإذا اكتمل الجهاز البولي بدأت بالعمل بشكل دقيق وسليم؟ أم أن الأجزاء في ذلك الجهاز جاءت كلها في طفرة واحدة؟ بل إن الجهاز الدوري للدم متكامل أيضا مع الجهاز البولي، فلا يعمل أحدهما من دون الآخر، فأيهما جاء قبل الآخر؟ أم جاء الاثنان أيضا بطفرة واحدة؟ وماذا عن الجهاز التنفسي؟ هل يمكن للجهاز الدوري أن يعمل دون الجهاز التنفسي أيضا؟ وماذا عن الجهاز الهضمي والجهاز العصبي وبقية الأجهزة الحيوية في الجسم؟ كيف ظهرت في طفرات مختلفة إذا كان كل جهاز منها لا يقوم أبدا إلا بوجود الجهاز الآخر؟

وعندما يكون الحديث عن الأجهزة الحيوية في الكائنات المعقدة وكيف تطورت عن الكائنات البسيطة التي لا تملك تلك الأجهزة الحيوية فإن التطوري يتعسف كثيرا في استخدام خياله لاختلاق سيناريوهات تطورية غريبة، كالادعاء بأن حاسة البصر بدأت بأجزاء من البشرة حساسة للضوء! كيف تكون البشرة حساسة للضوء ويحصل الوعي بوجود الضوء دون ربط هذه البشرة بأعصاب من نوع خاص تنقل البيانات الضوئية إلى الجهاز العصبي ثم إلى الدماغ.. الخ؟

لا تتعجب عندما تطرح على التطوري مثل هذه الثغرات فيجيبك بأنك جاهل، فهو غالبا يؤمن بالتطور إيمانا أعمى، وسوف تلاحظ أن من أكثر سمات التطوريين وضوحا تجهيل المخالف، ولو تأملت هذه السمة فإنك ستلاحظها دائما عند المناقش الذي لا يملك دليلا لإثبات دعواه، لأن وجود الدليل وبسطه يغنيه عن الاتهام بالجهل.

إشكالية الحلقات الانتقالية

بحسب نظرية التطور فإنه يفترض أن الحلقات الانتقالية بين الأنواع أكثر بكثير من الأنواع الموجودة نفسها، لأن الانتقال بين الأنواع يأتي في سياق تدريجي عبر أعداد كبيرة جدا من الكائنات، فهي بلا شك أضعاف مضاعفة من عدد الكائنات المعروفة التي تمثل الأنواع. ولكن أين بقايا تلك الكائنات التي تمثل المراحل الانتقالية بين الأنواع ما دامت أعدادها بهذه الكثرة؟

لتوضيح هذه الإشكالية الكبيرة في النظرية طرح ماتي ليزولا وجوناثان ويت، مؤلفا كتاب “المهرطق: رحلة عالم من داروين إلى التصميم” (Heretic: One scientist’s journey from Darwin to Design)، طرحا المثال البليغ التالي بعنوان “بلورات الداروينية المفقودة”:

لنفترض هذه القصة:

جرت استضافتك أنت ومجموعة من أصدقائك في حقل واسع جدًّا تغطيه بلورات زجاجية بعمق قدم عن سطح الأرض. ونظراً لعمق هذه البلورات واتساع امتدادها وكثافتها، فإنه من الصعب عليك تحديد لون البلورة دون معاينتها مباشرة، إلا أن مضيفك أعلمك أن البلورات تأتي في ألوان مختلفة تمثل ألوان الطيف كلها، ولكن لشدة تدرجها فإن ألوانها لا تعد ولا تحصى، لدرجة أنك لو صففت البلورات ذات الألوان المتدرجة بالترتيب فإنك ستحصل على طيف ضوئي مطابقٍ لطيفَ قوس قزح الضوئي، لكن لشدة انسيابية الألوان فإنك لن تستطيع أن تميز بسهولة الفرق في اللون بين كل بلورة والبلورة المجاورة لها.

لتحقيق هذه الغاية- أي ترتيب البلورات لتحصل على طيف ضوئي متدرج متناسق- دُفع لك ولأصدقائك مبلغ من المال، مع التذكير أنك وأصدقاءك غير قادرين على التمييز الدقيق بين لون هذه البلورات نظرًا لعمقها واتساعها داخل هذا الحقل. انطلقت أنت وأصدقاؤك تلمون “بعشوائية” أكياسًا من هذه البلورات بغية ترتيبها بتدريج للحصول على الطيف الضوئي المنشود!

جمعتم مئاتٍ ومئاتٍ من الأكياس من البلورات المنتشرة، ومع كل كيس كانت حيرتكم تزداد! البلورات داخل الأكياس المجموعة لا تتلون إلا بالألوان الرئيسة: الأحمر، والأصفر، والأزرق، والأخضر، وربما عشرة أو خمس عشرة بلورة باللون البرتقالي والبني بين عشرات الآلاف من البلورات ذات الألوان الرئيسة، ظهرت البلورات البرتقالية والبنية بسبب تشوه باللون الأحمر والأصفر!

لا توجد أي ألوان بينية!

رغم محاولاتك ألا تكون وقحًا فإنك وجدت نفسك مضطرًا إلى ذكر ذلك لمضيفك الذي أقنعك بأن الحقل يحتوي على بلورات بطيف لامتناهٍ من الألوان!

ماذا كان رده؟ أجابك بثقة عمياء: إن معظم البلورات الموجودة في الحقل تتكون من الألوان الأساسية، ولكن إن بحثت وبحثت فلا بد أن تجد بلورات بألوان بينية تُتَمِّم لك الطيف الضوئي، وإن كانت قليلة، إلا أنها موجودة.

عدت أيها المسكين مجددًا إلى هذا الحقل الواسع الممتد بحثًا عن هذه البلورات البينية الألوان، النادرة الوجود!

فشلت، فعدت إلى المضيف وأخبرته: “لم أجد أية ألوان بينية، فقط الألوان الرئيسة، ربما من نثر هذه البلورات في الحقل تعمَّد أن تكون البلورات كلها بلورات من الألوان الأساسية وتعمَّد ألا توجد أي بلورات بينية الألوان”. عندها قاطعك المضيف ناهرًا: “من نثر هذه البلورات اختار ذلك؟! هذه البلورات لم ينثرها أحد، وإنما وُجدت بألوانها في هذا الحقل بالصدفة المحضة!”

عندها وبتفكيرك المنطقي البسيط قلت للمضيف: “إذا كان هذا الحقل في حقبة من حقبات الزمن مليئًا بعشوائية محضة بالبلورات المتنوعة الألوان، المتكاملة في تدرجها، فكيف لا نستطيع إيجاد أيٍّ منها الآن؟” عندها غضب مضيفك صارخًا: “البلورات البرتقالية والبنية، ألا تراها؟”

هذا المثال، على ما فيه من السخرية، يوضح هذه الإشكالية الكبيرة في بنية النظرية.

وللكاتب رضا زيدان مقال نشره مركز يقين بعنوان: “السجل الأحفوري والداروينية”. يشرح فيه هذه القضية ويذكر اعترافات عديدة.

تزوير الأدلة

للتطور سجل حافل بتزوير الأدلة، ومن الواضح أن فقدان الدليل العلمي الصريح الواضح هو ما يدفع التطوريين إلى التزوير والتلاعب. وسوف أستعرض هنا أبرز الأدلة المزورة التي قدمها التطوريون واستخدموا كل واحد منها لتكريس النظرية في عقول العامة لسنوات قبل أن ينكشف التزوير. وسواء كان التزوير مقصودا أو غير مقصود فإن نشر الدليل والاستدلال به دون تحقق يعتبر جريمة علمية.

أوتا بينغا

كان أوتا بينغا شاباً مرحاً يعيش مع زوجته وطفليه في قرية صغيرة محاطة بالغابات الاستوائية على ضفاف نهر كاساي في الكونغو، التي كانت مستعمرة بلجيكية في ذلك الوقت (عام 1904). وفي إحدى الأيام هجمت القوات الاستعمارية على قريته، وابتدأ القتل العشوائي في أهل القرية البسطاء، فأبيدوا عن بكرة أبيهم! ونجى أوتا بينغا لأنه خرج مبكرا من القرية بحثاً عن الطعام.

أوتا بنجا

شاهد أوتا بينغا زوجته وطفليه صرعى، واقتيد مع بعض الأسرى نحو حياة من العبودية البائسة. وكان حظه الأسوأ، ذلك أنه في تلك الأيام كان قد وصل إلى أفريقيا المبشر والتاجر الأمريكي Samuel Phillips Verner قادماً بمهمة قبيحة هي جلب أقزام أفارقة يشبهون القرود لعرضهم على الناس إثباتا لصحة نظرية داروين، وكانت مهمة Verner بموجب عقد تجاري بينه وبين William John McGee المتخصص في علم الأعراق البشرية.

وجد صامويل في أوتا بينغا القصير القامة ضالته، فاقترب منه وفتح فمه ليرى أسنانه، ثم سأل عن ثمنه، وبعد مفاوضات اشتراه بحفنة من الملح ملفوفة في خرقة.

لما وصل أوتا بينغا إلى مدينة سانت لويس الأمريكية قُيد بالسلاسل ووضع في قفص حيث قام علماء التطور بعرضه على الجمهور في معرض سانت لويس العالمي إلى جانب أنواع من القردة، وقدموه بوصفه أقرب حلقة انتقالية للإنسان. وبعد عامين نقلوه إلى حديقة حيوان برونْكس في نيويورك وعرضوه تحت مسمى السلف القديم للإنسان مع بضع أفراد من قردة الشمبانزي وبعض الغوريلات، وقام الدكتور التطوري William Hornaday، مدير الحديقة، بإلقاء خطب طويلة عن مدى فخره بوجود هذا الشكل الانتقالي الفريد في حديقته وعامل أوتا بينغا المحبوس في القفص وكأنه حيوان. وبقي مع القردة حتى نشأت بينه وبين قرد الأورانغوتان صداقة.

أوتا بنجا

في نهاية عام 1906، أُطلق سراح بينغا تحت وصاية القس جيمس غوردون ووضع بينغا في ميتم هاورد، وهو ميتم تابع لكنيسة. ثم رتب القس غوردون في كانون الثاني 1910 لنقل بينغا إلى ايبسوم قرب لندن حيث عاش مع أسرة ماكاري، ورتب الأمور لتسوية اسنان بينغا وأن يلبس نفس ملابس الأنكليز، وبدأ بالذهاب إلى المدرسة الابتدائية في ايبسوم. وبمجرد أن شعر أن لغته الإنجليزية تحسنت بما فيه الكفاية أوقف بينغا تعليمه الرسمي وبدأ العمل في مصنع للسجائر في ايبسوم. وكان أحيانا يروي قصة حياته مقابل الساندويشات أو البيرة. ثم بدأ يخطط للعودة إلى أفريقيا.

في عام 1914، عندما اندلعت الحرب العالمية الاولى، أصبحت العودة إلى الكونغو مستحيلة، فاكتئب بينغا، وفي 1916 بعمر 32 سنة، أوقد نارا احتفالية، ونزع الغطاء الذي وضع بأسنانه وأطلق النار على قلبه منتحرا بمسدس مسروق. ودفن في مقبرة المدينة.

رجل بيلتداون

هذه الأحفورة تعتبر من أقوى الأدلة التي اعتمد عليها الداروينيون في تسويق النظرية، وهي عبارة عن بقايا متحجرة لإنسان بدائي غير معروف وجدت في منطقة بيلتداون في إنجلترا. وتم إعطاؤها اسما علميا هو Eoanthropus Dawsoni، على اسم مكتشفها دوسون!

استمر الاستشهاد بأحفورة بلتداون 40 عاما، حتى صارت جزءا من مناهج العلوم في المدارس، ثم اكتشفت الخدعة بعد هذه السنين، وهي أن الجمجمة مزيفة، حيث كان الرأس لإنسان معاصر ولكن تم إلصاق حنك قرد عليه!

لم يكن الرسام التطوري يعلم بالحنك المزور حين ظهر لنا بهذه الشخصية لإنسان بلتداون:

بلتداون

بالطبع لا يمكننا أن نتخيل أن حنك القرد وجد تلقائيا على جمجمة الإنسان دون تزوير متعمد.. فالواضح من التركيب أن التزييف مقصود. وكانت فضيحة كبيرة على الداروينية، وظلت تهمة التزوير تحوم حول مكتشفها Dawson. هذا رابط لمزيد الاطلاع.

إنسان جاوة

إنسان جاوة Java Man هو اسم اطلق على مستحاثات اكتشفت عام 1891 في موقع ترينيل في مقاطعة نجاوي على ضفاف نهر سولو في جاوة بإندونيسيا.

وبطل هذه الخدعة هو الطبيب الهولندي يوجين ديبوا Eugène Dubois، حيث سافر أثناء عمله في الجيش الملكي الهولندي إلى جاوا في بعثة استكشافية، فلما يئس من إيجاد أي حفرية تصلح لإثبات نظرية داروين في نهايات القرن التاسع عشر قرر أن يجمعها بنفسه.

عثر عماله عام 1890 في قرية تقع على نهر سولو على قطعة من فك سفلي وسن واحدة، ثم عثر في العام التالي 1891 على قطعة من قحف جمجمة مفلطحة ومنخفضة وفيها بروز فوق العينين وبروز في الخلف، أي أن حجم الدماغ صغير، وبذلك فهي مثالية لأنها تجعل أعلى الرأس صغير الحجم مثل القرود!

جاوة

وفي السنة التي تلتها عثر في نفس تلك المنطقة على بعد 40 م تقريبا على عظمة فخذ إنسان، ولكي يكون بطلا في نظر التطوريين فقد أعلن أن جميع ما اكتشفه من عظام يعود إلى مخلوق واحد!

وعلى الفور تلقف التطوريون ما لديه واعتبروه الحلقة المفقودة بين مشية الإنسان والقرد وأعطوه على الفور، كما هي الحال في كل مرة، اسما لاتينيا، فاختاروا له اسم Pithecanthropus erectus.

وكانت هذه هي أول كذبة أسست لما يعرف بـ هومو إريكتس Homo erectus، أي الإنسان منتصب القامة.

تصدى العالم المشهور الدكتور فيرشاو لهذا الزعم في مؤتمر الأنثروبولوجيا الذي عقد سنة 1895 وحضره ديبوا نفسه، وقال إن الجمجمة لقرد وعظمة الفخذ لإنسان، ثم طلب من ديبوا تقديم أي دليل علمي مقنع لزعمه فلم يستطع.

وفي 1907م أرسلت ألمانيا مجموعة خبراء من برلين إلى جاوا لدراسة الحفريات ومكان اكتشافها، ولكن ديبو رفض أن يطلعهم على أية معلومة أو يحققوا في أي شيء! والشيء الوحيد الذي اثبتوه هو أن المنطقة التي عثر فيها على العظام هي منطقة حديثة لأن بركانا كان قد انفجر من فتره قريبة وفاضت حممه لتغطي الموقع بطبقة رماد وطمي، وهي التي دفنت فيها العظام التي وجدها.

على هذا الرابط يمكن مراجعة المزيد من التفاصيل حول إنسان جاوة.

رجل أورس

في عام 1982 قام عدة منقبين أثريين باكتشاف عظمة بمنطقة أورس Orce في إسبانيا، وأطلق عليها اسم La Galleta لأنها مستديرة الشكل بحجم الكعكة الصغيرة. وفي 1983 اعتبرت هذه العظمة أقدم متحجرة لإنسان في أوروبا، إذ زعم العالم المكتشف وهو Jose Gibert أنها جزء من جمجمة مخلوق عمره 17 سنة عاش قبل 900 ألف إلى 1،7 مليون سنة. وقام ذلك البروفيسور بعمل رسومات تفصيلية عن شكل ذلك الكائن الذي يمثل القردة العليا، أسلاف الإنسان.

تأمل هذه الصورة للمكتشفين، ولاحظ الكائن الموجود في الخلفية كيف اخترعوه من كسرة عظمة في أعلى الجمجمة!

إتحاف الكرام كان الداروينيون متأكدين أن العظمة تمثل القردة العليا البدائية وأنها حلقة الوصل ما بينها وبين الإنسان، وأطلقوا عليها اسم رجل أورس Orce Man. كل هذا من عظمة بحجم كعكة صغيرة!

وفي عام 1984 تم الإعلان عن الاكتشاف وتم التوصل إلى أن العظمة الصغيرة هي جزء من الجمجمة. وبعد اختبار العظمة من عدة أطراف خارج فريق البحث اكتشفوا أنها تعود إلى حمار عمره ستة أشهر!

عند ذلك أصبح “رجل أورس” أو “حمار أورس” أضحوكة الصحافة، ونكتة يتندر بها الناس في إسبانيا..

اورس

إنسان نبراسكا

ظهرت تسمية “إنسان نبراسكا” في عام 1922 اعتمادا على سن شبه بشري تم العثور عليه في نبراسكا في الولايات المتحدة. أما بداية القصة فهي في عام 1917 حيث عثر هارولد كوك، وهو مزارع وجيولوجي من نبراسكا على سن، وأرسلها عام 1922 إلى هنري أوزبورن، وهو عالم أحافير ورئيس المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، حيث بدا له أن السن تعود إلى قرد، فسارع إلى نشر مقالة معلنا عن نوع جديد أسماه Hesperopithecus HaroldcookII.

ورغم أن بعض العلماء الذين زعموا أن إنسان نبراسكا سلف بشري، وسارعوا إلى إضافته في المناهج الدراسية، لكن أوزبورن وزملاءه وصفوه بأنه ربما كان نوعا متطورا من القردة العليا، ولم يجازفوا بالدفاع عنه كجزء من الحلقات المفقودة في التطور.

رسم علمي ولكن من سن واحد! لاحظ هنا كيف اختلق رسام التطور أميدي فوريستير هذا الكائن مع زوجته من خلال سن قديم.. ونشرت في صحيفة الاستريتد لندن نيوز عام 1922:

نبراسكا

وبعد ذلك ظهرت أراء قوية أن السن ربما كان يعود إلى نوع من الخنازير البرية، خصوصا وأنها تشبه سن الإنسان، ولا يمكن التحقق منها جيدا لقدمها وتآكلها.

رجل النياندرتال

في عام 1856 تم اكتشاف مستحاثة إنسان النياندرتال لأول مرة، واعتبر علماء التطور أنه هو الإنسان البدائي، وأنه انقرض منذ آلاف السنين. ولكن مؤخرا في عام 2010 نشرت صحيفة ساينس العلمية أن الحمض النووي للنياندرتال مشابه للحمض النووي لإنسان اليوم بنسبة 99،7%، ومثل هذه الفروق في الجينوم توجد بكل بساطة بين الأعراق المختلفة من البشر اليوم.

وربما كان من أهم ما يحرص عليه التطوريون هو وجود رسوم عالية الدقة والتفاصيل، بل وتماثيل أيضا، فهي ذات أثر كبير في تصديق النظرية، لأن الحواس تقتحم المخيلة وتؤثر على القناعات.. وتبارى رسامو التطور في إطلاق خيالاتهم لرسم ملامح متنوعة للنياندرتال. ولعل من أطرف ما رسموه هذا الكائن الشهير الذي يطفح براءة:

نياندرتال

ولكن اكتشف الباحثون مؤخرا أن النياندرتال كان يستخدم أدوات مثل أدوات البشر، وهذه الاكتشافات دعت الكثير من العلماء إلى الاستخفاف بفكرة أن النياندرتال هم من أسلاف البشر. لاحظ مجلة ساينس ديلي في هذا الخبر تصف الاكتشافات الجديدة بأنها تنسف “أسطورة النياندرتال الغبية”. وفي هذا المقال تقول مجلة لايف ساينس إن النياندرتال يضل في الحقيقة إنسانا من العصور الوسطى!

سقوط الأركيوبتركس

لم يعد الأركيوبتركس أول طائر، ولم يعد هو الحلقة التطورية بين الزواحف والديناصورات.. فبعد مائة وخمسين عاما من تدريس هذه الأسطورة وتصديق الناس لها باعتبارها أحد الأدلة الموثوقة على صحة نظرية التطور ظهر خطأ هذا الاعتقاد! المصدر من مجلة نيتشر. وأما مجلة (أمريكان ساينتست) فقد نشرت الخبر ثم حذفته. وهذا مصدر آخر.

رسوم هيكل

ظهر التطوريون بخدعة تسمى “التلخيص” وخلاصتها أن مراحل تطور الفرد تلخص مراحل تطور الجماعة. وتبنى هذا الطرح عالم الأحياء التطوري إرنست هيكل في نهاية القرن التاسع عشر. ونظريته تفترض أن الأجنة البشرية تشبه في بداياتها الأسماك، ثم تشبه صفات الزواحف، ثم صفات البشر، وظهر الادعاء أن الجنين له خياشيم! قد تبدو هذه النظرية خدعة، لكن أين يكمن التزييف؟

هيكل

لكن الفضيحة هي أن هيكل قام بتزييف رسوم الأجنة لتظهر أجنة الأسماك وأجنة البشر متشابهة! وانتشرت الرسوم في المناهج الدراسية لتكون إحدى عجائب الأدلة على صحة نظرية التطور.. وعندما افتضح أمره كان دفاعه الوحيد هو أن أنصار التطور الآخرين يرتكبون جرائم مشابهة! هنا بحث حول الموضوع لمزيد من الاطلاع من موقع جامعة شيكاغو.

والعجيب أنك لا تزال تجد من يستشهد على صحة التطور بأطوار الجنين!

الـ DNA الخردة

طالما رفع التطوريون أصواتهم بالدي إن أي الخردة Junk DNA على اعتبار أنها أقوى الأدلة التي تثبت صحة التطور على الإطلاق، والحجة في ذلك أن ذلك الجزء من الدي إن أي فقد وظيفته في الإنسان بعد أن كان له وظائف في أسلافه!

على سبيل المثال، في لقاء إذاعي عام 1998 قالت الداروينية يوجيني سكوت إنها أقوى أدلة التطور. استمع إلى مقتطفات من حوارها على هذه الصفحة.

ولكن في عام 2012 سقط هذا الدليل تماما، بعد أن اكتشف العلماء أن هذه الجينات لها وظائف حيوية مهمة! طالع هذا الخبر الصاعق من صحيفة الواشنطن بوست حين سقط مفهوم الـ دي إن أي الخردة.

هل تصدق أنني أجد من التطوريين العرب عند النقاش من يستشهد بالدي إن أي الخردة حتى الآن؟

الأعضاء الضامرة

من ادعاءات التطوريين التي طالما بثوها وحرصوا بنشرها في كتب العلوم هو قولهم إن هناك أعضاء ضامرة كانت عند أسلاف البشر، ويستدلون على ذلك بأنها ليست ذات وظائف! ولكي لا يتشعب الحديث هنا، ولكثرة الادعاءات حول اعتبار كثير من الأعضاء ضامرة، كالزائدة الدودية والعصعص وعضلات الأذن.. الخ، هنا صفحة تشرح بطريقة علمية وبالمصادر سقوط هذا الاستدلال بوجود أعضاء ضامرة عند البشر.

غير أن الاستدلال بالأعضاء الضامرة لا يقتصر على البشر، فمن أشهر الاستدلالات التي لا يزال العامة من التطوريين يستشهدون بها هو عظام الحوت الخلفية المخفية تحت الجلد، حيث يعتقدون أنها بقايا من أسلاف الحوت! وقد ثبت أن تلك العظام ليست أعضاء ضامرة وإنما لها وظيفة مهمة عند التزاوج، والاكتشاف شهير تحدثت عنه وسائل الإعلام كهذا الموضوع، ولكن يظل بعض التطوريين يستشهدون به إما جهلا أو تدليسا لعل المتلقي يجهل حقيقة الادعاء.

اعتراف بوجه صفيق

مكتشف أحفورة Rodhocetus، سلف الحوت المزعوم، يعترف بكل وقاحة بالتزييف:

تزوير التواريخ

في أحد المواقع شمال إسبانيا توجد عشرات الأحافير من الهياكل العظمية، حيث اعتبرته منظمة اليونسكو من المواقع المهمة للتراث العالمي لأهميته في فهم التطور، وتم جمع الملايين من اليورو لإنشاء متحف قريب من الموقع.

لكن أحد العلماء في متحف التاريخ الطبيعي في بريطانيا، كريس سترينجر، حذر من أن المسئولين عن الموقع قد قاموا بتزوير الأعمار للأحافير بزيادة 200 ألف عام. وكذلك اعترض فيليب انديكوت من متحف الإنسان في باريس على تقييمهم لأعمار تلك الأحافير. المصدر من صحيفة الجارديان.

ما علاقة التطور بالإلحاد؟

قد يعترض البعض على الربط بين الإلحاد ونظرية التطور، وهذا مستغرب ممن يعرف جيدا ما هو الإلحاد وما هي نظرية التطور! فلا يمكن أن يوجد ملحد لا يؤمن بالتطور، والإيمان بالتطور شرط أول لإنكار الخالق، لكن هذا لا يعني أن كل من يؤمن بالتطور فهو ملحد. فكل ملحد تطوري ولكن ليس كل تطوري ملحد. ونظرية التطور بالنسبة للإلحاد هي بلا شك كعب أخيل، فسقوط النظرية علميا هو آخر مسمار في نعش الإلحاد بعد سقوط خرافتي أزلية الكون والتولد الذاتي. ولهذا تجد أن نشر نظرية التطور ومحاولة إقناع الناس بصحتها من أهم الأعمال التي يحرص عليها دعاة الإلحاد. يقول دوكنز: “إذا كنت تريد أن تقضي على الدين فكل ما عليك هو أن تقنعهم بنظرية التطور!” استمع إليه في بداية الدقيقة الثانية من هذا المقطع:

وهنا مثال حي على أثر التطور في نقل الشخص من الإيمان الديني إلى الإلحاد، ثم أثر الإلحاد على حياته البائسة:

وهذا مثال آخر، حيث يتحدث القاتل المتسلسل جفري دامر عن اعتقاده بالتطور ثم إلحاده وأثر ذلك على سلوكه الإجرامي (قم بتفعيل الترجمة):

نظرية التطور “الإسلامية”

لعل الاندفاع المحموم من بعض الإخوة المسلمين نحو تأييد النظرية غالبا ما يكون باعثه تراكمات من الشعور بالنقص الحضاري والهزيمة الثقافية، فتلاحظ أنهم يعبرون عن مشاعر الخجل من الثقافات الأخرى والخوف من أن نصبح أضحوكة العالم التطوري، ويرددون عبارات مثل “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”..

وهذا مركب نقص حضاري متمكن في بعض النفوس، وتلك شريحة يصعب إقناعها بالنقاش العلمي نظرا لسطوة العامل النفسي لديها على الاستدلال العقلي الواضح. ولكن لحسن الحظ فإنك لن تجد هذا الشعور بالهزيمة عند من لديه تأسيس شرعي قوي من شباب المسلمين.

كنت أتمنى من المسلم الذي لديه هذا الخجل الزائد من العالم “المتحضر” أن يخجل قليلا من نبيه محمد وإخوته الأنبياء عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، فلا يدافع عن نظرية تقول إن هؤلاء الأنبياء ينحدرون من قردة عليا، في حين أن من أشد العقوبات التي أنزلها الله عند غضبه هي عقوبة المسخ إلى قردة: “فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ” (الأعراف 166)، وقال تعالى: “قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ” (المائدة 60)

وربما كان يخجل من هذا الأمر فيخرج البشر من الشجرة التطورية الداروينية معتقدا أن هذا الحل التوفيقي- أو التلفيقي بالأصح- مخرجا لقبول النظرية التي يستحي أن يرفضها.. وهنا كان عليه أن يخجل من عقله ومنهجيته.. إذا كان يؤمن بالنظرية بناء على “ثبوتها علميا” كما يظن، فكيف يخرج البشر مناقضا هذا الثبوت؟

وعلى أية حال، فالمسلمون التطوريون بينهم اختلافات كثيرة جدا، تحكمها عوامل شتى، منها قربهم من النصوص، وأثر الهزيمة الحضارية، وحسابات المصلحة بين فقد المؤمن والحفاظ عليه مع إيمانه بالتطور.. الخ.

وهذا مقطع مناسب للمقام، يخاطب فيه الدكتور هيثم طلعت دعاة التطور الموجه:

 المصدر

هندسة الإنزيمات الريبوزية لا تحاكي التطور الكيميائي غير الموجه

بسبب الصعوبات التي تواجه فرضية عالم الرنا والعدد المحدود من الوظائف الإنزيمية التي يمكن أن تنجزها الإنزيمات الريبوزية الموجودة طبيعيًّا، انتشرت صناعة مخبرية جديدة في البيولوجيا الجزيئية، حيث سعى العلماء المناصرون لفكرة عالم الرنا لتصميم جزيئات رنا جديدة ذات وظائف لم نشاهدها من قبل، لم يأمل العلماء بذلك في زيادة معرفتهم بكيمياء الرنا فقط، ولكن أيضًا في إثبات احتمالية فرضية عالم الرنا، بل وحتى إمكانية إنشاء نوع من حياة اصطناعية.40

عادة تستعمل تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية هذه إحدى طريقتين: أسلوب “التصميم العاقل” أو أسلوب “التطور الموجه”، وفي كلا الحالتين يسعى البيولوجيون إلى توليد نسخ أكثر فعالية من الإنزيمات الريبوزية أو إنزيمات ريبوزية جديدة بالكلية قادرة على إنجاز بعض الوظائف البروتينية الأخرى، في أسلوب التصميم العاقل يعدل الكيميائي مباشرة تسلسلات محفزات الرنا الموجودة في الطبيعة، أما في أسلوب التطور الموجه (أو “التصميم غير العاقل”) يحاول العلماء محاكاة شكل من الانتقاء الطبيعي قبل الحيوي لإنتاج إنزيمات ريبوزية ذات قدرات وظيفية محسنة، فيغربلون مجموعات من جزيئات الرنا باستعمال أفخاخ كيميائية لعزل الجزيئات التي تنجز وظائف معينة، وبعد انتقاء هذه الجزيئات من المجموعة، يولدون نسخًا متنوعة من هذه الجزيئات بالتعديل العشوائي (التطفير) لجزء من تسلسل الجزيئة الأصلية، ثم ينتقون أكثر الجزيئات وظيفيةً في هذه المجموعة الجديدة ويعيدون العملية مرات عدة إلى أن تنتج زيادة محسوسة في الوظيفة المطلوبة.

أُنجزت معظم إجراءات هندسة الإنزيمات الريبوزية على الليغازات، وهي ريبوسومات يمكنها وصل سلسلتي رنا (من السلاسل القصيرة oligomers) مع بعضهما بتشكيل رابطة (فوسفورية ثنائية الإستر) مفردة بينهما، ويريد مهندسو الإنزيمات الريبوزية إثبات أن هذه الليغازات يمكنها أن تتحول إلى بوليميرازات حقيقية أو “ريبلكازات”، لكن هذه البوليميرزات لن تربط الأسس النكليوتيدية فقط (بروابط فوسفورية ثنائية الإستر)، ولكن ستثبت طيقان القالب المكشوفة أيضًا، وسوف تستعمل الأسس المكشوفة كقالب لصنع نسخ ذات تسلسل معين.

إن البوليميرزات هي الكأس المقدسة والدرة المفقودة بالنسبة لهندسة الإنزيمات الريبوزية، وفقًا لفرضية عالم الرنا، فإنه بمجرد نشأة بوليميراز قادر على التضاعف الذاتي بتوجيه قالب، فإنه سيجعل من الانتقاء الطبيعي عاملًا في التطور الكيميائي اللاحق للحياة، وبما أن الليغازات تنجز وظيفة واحدة –وواحدة فقط– من الوظائف العديدة التي تنجزها البوليميرازات الحقيقية، توقع منظرو عالم الرنا أن الليغازات هي الجزيئات السلفية التي نشأت منها البوليميرازات ذاتية التضاعف، وحاولوا إثبات إمكانية ذلك باستعمال هندسة الإنزيمات الريبوزية لبناء بوليميرازات (أو ريبلكازات) انطلاقًا من إنزيمات ليغاز ريبوزية أبسط.

لم ينجح أحدٌ حتى الآن في هندسة بوليميراز رنا مرتكزًا على الرنا تام الفعالية، سواءً من ليغاز أو من غيره،41 ولكن مهندسي الإنزيمات الريبوزية استعملوا التطور الموجه لتحسين وظيفة بعض الأنواع الشائعة من الليغازات، وكما أشرنا سابقًا، فقد أنتجوا أيضًا جزيئة تستطيع أن تنسخ قسمًا صغيرًا من نفسها، وقدم رواد هندسة الإنزيمات الريبوزية مثل جاك شوستاك وديفيد بارتل David Bartel هذه النتائج على أنها تدعم عملية التطور الكيميائي غير الموجه الذي بدأ في عالم الرنا،42 وقد بشرت المنشورات العلمية والكتب المشهورة كثيرًا بهذه التجارب كنماذج لفهم نشأة الحياة على الأرض واعتبروها طليعة البحث العلمي الذي يثبت إمكانية تطور شكل اصطناعي من الحياة في أنبوب اختبار.

إلا أن هذه المزاعم بها عيب واضح، يميل مهندسو الإنزيمات الريبوزية إلى إغفال دور ذكائهم في تحسين القدرات الوظيفية لمحفزات الرنا التي أنتجوها، فالطريقة التي استخدم بها المهندسون ذكاءهم في مساعدة عملية التطور الموجه لا يوجد لها نظير في ظروف العالم قبل الحيوي –على الأقل في عالم دفعت فيه العمليات غير الموجهة فقط التطور الكيميائي للأمام– على الرغم من أن هذه هي عين الظروف التي يفترض أن تحاكيها تجارب الإنزيمات الريبوزية.

يتخيل أنصار عالم الرنا تطور الليغازات عبر عملية غير موجهة ابتداءً من أسس حرة إلى بوليميرازات رنا يمكنها أن تضاعف نفسها، ومن ثمّ تنشأ الظروف الملائمة لبداية الانتقاء الطبيعي، بعبارة أخرى؛ تحاول هذه التجارب محاكاة انتقالٍ يحصل –طبقًا لنظرية عالم الرنا– قبل أن يكون الانتقاء الطبيعي قد بدأ في عمله أصلًا، ولكن حتى يحسنوا وظيفة جزيئات الليغاز قاموا فعليًّا بمحاكاة ما يقوم به الانتقاء الطبيعي، بدءًا من مجموعةٍ من التسلسلات العشوائية، أنشأ الباحثون مصيدة كيميائية لعزل التسلسلات التي توضح وظيفة الليغاز فقط، ثم اختاروا تلك التسلسلات لتطويرها أكثر، فاستعملوا تقنية التطفير لتوليد مجموعة من النسخ المتنوعة من الليغازات الأصلية، ثم عزلوا هذه النسخ وانتقوا التسلسلات الأفضل –أي التسلسلات التي تبدي دليلًا على وظيفة ليغاز محسنة أو مؤشرات على وظيفة بوليمراز مستقبلية– وكرروا العملية إلى أن يتحقق بعض التحسن في الوظيفة المرغوبة.

لكن ما الذي كان يستطيع أن يؤدي هذه المهام قبل أن تتطور أول جزيئة ذاتية التضاعف؟ لم يخبرنا شوستاك وزملاؤه، بالتأكيد لا يستطيعون أن يقولوا إن الانتقاء الطبيعي قد لعب هذا الدور؛ لأن عملية الانتقاء الطبيعي تعتمد على النشأة المسبق للجزيئة المتضاعفة ذاتيًّا التي يبذل شوستاك وزملاؤه جهدهم لتصميمها، ولكن بدلًا من ذلك مارس شوستاك وزملاؤه دورًا تعجز الطبيعة عنه قبل نشأة نظام متضاعف ذاتيًّا، أو على الأقل جزيئة متضاعفة ذاتيًّا.

عمل شوستاك وزملاؤه عمل المضاعفات، فولدوا كمية كبيرة من التسلسلات المختلفة، واختاروا التسلسلات التي ستبقى لتخضع لجولة أخرى من التطور الموجه، بل واختاروها بناءً على بصيرة مستقبلية لا يملكها الانتقاء الطبيعي ولا أي عملية غير ذكية أو غير موجهة (بحد ذاتها)،43 فسمات جزيئات الرنا التي عزلها شوستاك وزملاؤه وانتقوها هي سماتٌ لا تضفي بنفسها أي ميزة وظيفية على الجزيئة في العالم قبل الخلوي.

بالطبع إنزيمات الليغاز تنجز وظائف ضمن الخلايا المعاصرة تمنح ميزة انتقائية للخلايا التي تحتويها، ولكن قبل نشأة أول خلية بدائية متضاعفة ذاتيًّا لم تكن لريبوسومات الليغاز أي ميزة وظيفية على غيرها من جزيئات الرنا، فلم يوجد في هذه المرحلة من التطور الكيميائي أي نظام ذاتي التضاعف لتمنحه أي فائدة.

إن قدرة على ربط (لصق) السلاسل النكليوتيدية أمر ضروري (بأفضل أحوالها)، لكنها غير كافية لأداء وظيفة بوليميراز أو ريبلكاز، وفي حال غياب جزيئة (أو نظام جزيئي، وهو الأرجح) فيها كل السمات المطلوبة للتضاعف الذاتي، لن تفضل الطبيعة أي جزيئة رنا على الجزيئات الأخرى؛ فالانتقاء الطبيعي لا ينتقي إلا السمات المفيدة وظيفيًّا، وفي النظم المتضاعفة ذاتيًّا فقط، فعينه تعمى عن الجزيئات التي تملك مجرد شروط ضرورية أو مؤشرات محتملة لوظيفة مستقبلية، بل “إنه” لا يقوم بشيء أبدًا حينما لا توجد آليات التضاعف والانتقاء. وفي تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية يلعب المهندسون دورًا في محاكاتهم للانتقاء الطبيعي لا يمكن أن تقوم به العمليات الطبيعية غير الموجهة قبل بدء الانتقاء الطبيعي أصلًا. وبالتالي، حتى إذا نجحت تجارب الأنزيمات الريبوزية في إحداث تحسين كبير في قدرات محفزات الرنا، فذلك لا يعني أنها أثبتت إمكانية حصول عملية تطور كيميائي غير موجهة. ولما كانت تجارب هندسة الإنزيمات الريبوزية مشتملةً على دورٍ أوضح للذكاء باعتبار استخدامها لأسلوب التصميم العاقل (بعكس أسلوب التطور المباشر)، فإنها لا تزال تعكس المشكلة نفسها.

  1. Szostak, Bartel, and Luisi, “Synthesizing Life.”
  2. Szostak, Bartel, and Luisi, “Synthesizing Life,” 388; Wolf and Koonin, “On the Origin of the Translation System.”
  3. ادعى إيكلاند وآخرون أن الريبوزمات الفعالة أكثر شيوعًا في تجمعات تسلسات الرنا مما كان يعتقد سابقًا (“Structurally Complex and Highly Active RNA Ligases”، خاصة في 364). مساحة التسلسلات (العدد الإجمالي للتوليفات الممكنة من النيوكليوتيدات) المقابلة لجزيئات الحمض النووي الريبي المكونة من 220 قاعدة والتي تم فحصها، 4220، أو تقريبًا 1 × 10132 احتمالات. نظرًا لأنهم كانوا قادرين على عزل ريبوسوم الليغاز عن طريق البحث عن جزء صغير من المساحة بأكملها (حوالي 1.4 × 1015 تسلسلات منفصلة)، فإن هذا يعني أن المساحة بأكملها ستحتوي على عدد ضخم من الليغازات قابلة للمقارنة. ولكن لكي تتطلب مثل هذه الوظيفة البسيطة تسلسل واحد في التريليون، فإن ذلك يثير أسئلة جدية حول ندرة الوظائف الأكثر تعقيدًا. كما لوحظ، على سبيل المثال، لم تنتج هندسة الإنزيمات الريبوزية حتى الآن ريبوزيمًا واحدًا قادرًا على أداء نشاط البوليميراز الحقيقي. كما لم يكتشف الباحثون الريبوزيمات القادرة على أداء معظم الوظائف الإنزيمية الأساسية الأخرى.
  4. كما لاحظ وولف وكونين: “نظرًا لأن التطور ليس له بصيرة، فلا يمكن لأي نظام أن يتطور بتوقع أن يصبح مفيدًا بمجرد بلوغ المستوى المطلوب من التعقيد”.

Wolf, Yuri I., and Eugene V. Koonin. “On the Origin of the Translation System and the Genetic Code in the RNA World by Means of Natural Selection, Exaptation, and Subfunctionalization.” Biology Direct 2 (2007): 1–25.

المصدر

الخيال والاعتقاد التطوري يدفع بمزاعم كاذبة عن “حوت رباعي الأرجل”

تضج وسائل الإعلام حاليًا بمزاعم عن حفرية اكتشفت حديثًا من مصر: “حوت ذو أربعة أرجل” وفيما يلي بعض العناوين البارزة:

الراديو الأمريكي الوطني العام NPR: “اكتشف العلماء أحفورة لحوت ذي أربعة أرجل له أسلوب أكل يشبه الطيور الجارحة”

تقول نيوزويك: “اكتشف العلماء حفرية لحوت قاتل ذو أربعة أرجل له رأس يشبه ابن آوى ويعيش على كل من اليابسة والبحر”

نيويورك بوست “عثر على حفرية لحوت رباعي الأرجل لم يكن معروفًا من قبل في مصر”

بي بي سي: “اكتشف في مصر نوع جديد من حوت قديم يدب على أربع أرجل”

والعناوين تطول وقد صاحب العناوين الرئيسية رسمة فنية لما يُفترض أنه عثر عليه. وهي رسمة تنسب إلى أحد مؤلفي الورقة التقنية، الجيولوجي روبرت دبليو بوسنكر.

“هذا صحيح يا قوم!”

تحذرنا القصة التي نشرت على NPR:

نأسف لإبلاغك أن كوابيسك ستزداد الآن سوءًا

اكتشف فريق بقيادة علماء مصريين حفرية عمرها 43 مليون عام في الصحراء الكبرى بمصر لحوت برمائي منقرض له أربعة أرجل.

هذا صحيح يا قوم؛ حوت له أرجل!

المشكلة مع هذه الادعاءات؟ وهذا صحيح، أيها الناس – أنهم لم يجدوا أيًا من أرجل الحفرية. وكل ما قرأته الآن حول هذه الحفرية من نتاج الخيال. في الواقع، إذا قمت بفحص الورقة التقنية، فستعلم أنهم عثروا على جزء ضئيل جدًا من الحفرية. يوضح الشكل 1 في الورقة، والذي يمكن رؤيته على الرابط (إضغط هنا للانتقال). العظام المكتشفة مظللة باللون الأحمر؛ كبر الصورة وانظر على الرسم الأوسط ربما تلاحظ، كما قلت، غيابًا غريبًا لعظام الساق المظللة باللون الأحمر.

001 a

وما يغيب في العظام المكتشفة أيضًا: الحوض، والغالبية العظمى من الأضلاع والفقرات، والجزء الأمامي من الخطم. لا شك أن الكائن الحي لديه هذه العظام، ولكن تسمية هذا الكائن “الحوت ذو الأرجل”، أو تصويره بشكل لا لبس فيه على أنه بعض الأنواع التي تنتقل بين الثدييات الأرضية والحيتان (كما رأينا أعلاه)، يضيف قدرا هائلا من الخيال التطوري على الحالة.

هل كان حوتًا؟

تمشيا مع كل هذا، تشير الورقة في الملخص إلى أن ما وجدوه كان “هيكلًا عظميًا جزئيًا”، وذكر لاحقًا أن “النوع الجديد مبني على هيكل عظمي جزئي”. وقدم وصف كامل للعظام لاحقًا في الورقة على النحو التالي:

هيكل عظمي جزئي يخص فردا واحدا ويشمل الجمجمة، والفك السفلي الأيمن، والفك السفلي الأيسر غير المكتمل، والأسنان المعزولة، وعنق الرحم، والفقرات والأضلاع الصدرية، الأحفورة النمطية الحالية هي العينة الوحيدة المعروفة.

ربما كان لهذا الكائن أربع أرجل، وربما كان لديه زعانف. ربما كان من أقارب الحيتان. ربما ليس من أقارب الحيتان. لا أحد يعرف حقًا. الحقيقة البسيطة للأمر هي أننا بالكاد نعرف أي شيء عن هذا المخلوق لأنه، ونقول مرة أخرى، تم العثور على جزئ ضئيل منه. إن قسر هذا النوع على نموذج تطوري لتلائم الأفكار المسبقة حول تطور الحوتيات، وإصدار عناوين رئيسية حول “الحوت رباعي الأرجل”، يصعب اعتقاده. في الواقع، أنا أتراجع عن هذه الكلمة فالاعتقاد –أي الاعتقاد بنموذج تطوري– هو الشيء الذي يدفع لنشر هذه العناوين الرئيسية.

الخيال، والاعتقاد. إن تلطفت بالقول؛ وهذا ما أصر عليه. كلنا نملك خيالا، وكلنا نملك معتقدات، وبهذا المعنى يكون الأمر مفهوما. ولكن إن تركت التلطف بالقول، يمكن استخدام مجموعة متنوعة من المصطلحات الأخرى لوصف عملية إخبار الجمهور بأن الحفرية تمثل “حوتًا رباعي الأرجل”.

فهل من الغريب أن الناس لا يثقون في الادعاءات التطورية المبالغة في وسائل الإعلام أو من بعض العلماء؟

المصدر

عقد مخيّب للآمال لدراسة التطور البشري

كان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عقدًا سيئًا لدراسة التطور البشري. نشرت مجلة معهد سميثسونيان مؤخرًا مقالًا بعنوان “أكبر اكتشافات هذا العقد في تطور الإنسان”[1]. افتتحته بالقول:

تطور البشر أحد أكثر مجالات البحث العلمي حيوية. شهد العقد الماضي العديد من الاكتشافات التي وسعت فهمنا لأصولنا البشرية. احتفالًا بالذكرى السنوية العاشرة لـ “قاعة ديفيد إتش كوخ للأصول البشرية” في معهد سميثسونيان، نعرض لكم بعض أكبر الاكتشافات في التطور البشري خلال السنوات العشر الماضية.

ما هي الاكتشافات الكبرى لهذا العقد؟ هل قدمت لنا أدلة جديدة ومقنعة على تطور البشر من رئيسيات أدنى منهم؟ الحقيقة أن بعض هذه الاكتشافات الكبيرة أضعفت أدلة التطور البشري، أما باقي الاكتشافات فغاية ما توصف به أنها تعديلات بسيطة على نظريات سابقة، ولا تؤثر كثيرًا على المبادئ الأساسية لعلم الإنسان القديم.

الحمض النووي القديم

أول اختراق علمي كبير ذكره معهد سميثسونيان هو اكتشاف الحمض النووي القديم. وهذا تطور هام فعلًا في حقل علم مورثات الأحياء القديمة paleogenetics المزدهر – أظهر وجود سلالات فرعية مختلفة من مجموعات حديثة جدًا شبيهة بالإنسان مثل إنسان دينيسوفا أو دينيسوفان Denisovans التي وجدت في المليون سنة الماضية. ورغم أنه دليل جديد ولافت للاهتمام، إلا أن الحمض النووي القديم في الوقت الحاضر لا يقدم شيئَا فعليًا بخصوص مبدأين أساسيين من مبادئ علم الإنسان القديم التطوري وهما:

(1) فرضية أن البشر المعاصرين ينحدرون من أنواع غير بشرية أو أقل بشرية أو بدائية،

(2) والادعاء بأن هذه “الأنواع من البشر الأوائل” التي اكتشفت مؤخرًا مختلفة تمامًا عنا.

صحيح أننا نعرف الحمض النووي للدينيسوفان، ولكن حاصل ما نعلمه حاليًا أن الدينيسوفان كانوا بشرًا مثلنا.

الاكتشاف الثاني الكبير في العقد الماضي كان “هومو ناليديHomo naledi “، وهو أمر لافت أيضًا لأنه يمثل مخزنًا ضخمًا من أحافير أسلاف الإنسان، التي تضيف الكثير إلى معرفتنا عن سجل الحفريات. في البداية، وصفت التقارير الإخبارية هومو ناليدي بأنه “سلف للإنسان”[2]. لكن وجد في عام 2017 أنه يبلغ من العمر بضع مئات من آلاف السنين، بما يعتبر أصغر بعشر مرات مما يمكن اعتباره أحد أسلافنا التطوريين. لقد مثّل هذا إخفاقًا كبيرًا لأنصار التطور البشري، كما ذكرنا في مقال سابق[3].

إخراج الموتى

هناك ادعاء رئيسي آخر حول نوع هومو ناليدي بأنه دفن موتاهم – مما يعني ضمنيًا أن هذه الأنواع ذات الأدمغة الصغيرة قد بدأت تظهر شيئًا من السلوك والذكاء الشبيه بالإنسان. ولكن هناك شكوك كبيرة حول هذا – انظر المقال الذي نشرناه على أخبار التطور للمراجعة [4]. كان هومو ناليدي اكتشافًا أحفوريًا مذهلًا، لكن بكل بساطة لم نعثر على دليل يثبت أنه نوع صغير الدماغ ويتمتع في الوقت نفسه بذكاء يناسب أن يكون سلفًا للبشر.

والحقيقة فإن الموضوع الرئيسي لعلم الإنسان القديم في عام 2010 هو معارضة الاكتشافات والتحليلات الجديدة لأعمار الحفريات تتعارض مع القصة التطورية المفضلة.

عمرها أقصر من المتوقع

أما ثالث اكتشاف كبير سجلته مؤسسة سميثسونيان لهذا العقد فهو اكتشاف جمجمة شبه كاملة العام الماضي من أسترالوبيثكس أنامينسيس Australopithecus anamensis، يعود تاريخها إلى حوالي 3.8 مليون سنة. كتب غنتر بيكلي Günter Bechly مراجعة ممتازة لهذه الحفرية الموجودة على موقع أخبار التطور [5]، وأشار إلى أن هذه الجمجمة سمحت ولأول مرة للعلماء بمعرفة الشكل الحقيقي لنوع أسترالوبيثكس أنامينسيس بالفعل. لكن حداثة عمرها غير المتوقعة جعلها تتداخل زمنيًا مع نسلها المفترض، أي نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس A. afarensis. نقلت مجلةScience Daily عن أحد العلماء المشاركين في الاكتشاف قوله: “كنا نعتقد أن أسترالوبيثكس أنامينسيس قد تحول تدريجيًا بمرور الزمن إلى أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس” لكن بسبب حداثة عمر الحفرية تركنا هذا الاعتقاد. أوضح بيكلي:

مثل هذا التطور بالتخلق التجددي anagenetic evolution عن طريق التحولات التدريجية من نوع إلى نوع (دون أحداث مفرعة) قد تنبأت به نظرية داروين فعلًا. لذلك، يلزم أن نتوقع العثور على بعض الأدلة الأحفورية لهذه العملية الهامة. لكن تبين أن هذه الأدلة بعيدة المنال (انظر أدناه)، وكانت حالة الانتقال المفترض من أ. أنامينسيس إلى أ. أفارينيسيس “إحدى أقوى حالات التخلق التجددي في السجل الأحفوري” (اقتبسMelillo في مارشال 2019، Kimble وزملاؤه 2006، هيلا سيلاسي 2010). لقد تبخرت هذه الحالة وهي الحالة الأقوى حتى الآن، ولم تكن الحالة الأقوى فحسب، بل كانت أيضًا الحالة الأخيرة …

وسنعيد سرد القصة، اكتشف في عام 2006 أحافير أ. أنامينسيس التي تسبق زمنيًا أ. أفارينيسيس، وأثار هذا الاكتشاف ضجة كبيرة. قرر علماء أنثروبولوجيا الآثار القديمة أنها أظهرت علاقة مباشرة من نوع علاقة سلف/خلف بين هذين النوعين. كتب تيم وايت وزملاؤه في ذلك الوقت في مجلة نيتشر [6] “أقدم نوع موصوف من أسترالوبيثكس هو أ. أنامينسيس، وهو النوع الزمني السلفي المحتمل لنوع استرالوبيثكس أفارينيسيس” التقطت وسائل الإعلام القصة ووصفتها بأنها دليل قوي حقًا على التطور. على سبيل المثال، ذكرت وكالة أسوشيتد برس [7]:

إن آخر حفرية اكتشفت في بقعة ساخنة لأسلاف الإنسان في إفريقيا سمحت للعلماء بربط أكثر سلسلة اكتمالًا للتطور البشري حتى الآن مع بعضها البعض… قال المؤلف المشارك في الدراسة وعالم الأنثروبولوجيا الإثيوبي برهان أسفاو في مقابلة هاتفية من أديس أبابا: “وجدنا للتو سلسلة التطور أي الاستمرارية عبر الزمن”. وقال “تطور شكل إلى آخر، هذا دليل على تطور حدث في مكان واحد عبر الزمن”.

كان هذا المثال المفترض للتطور التدريجي لعلاقة سلف/خلف مباشرة مهمًا للغاية ليس فقط لمروجي الداروينية في وسائل الإعلام، ولكن أيضًا لعلماء الحفريات القديمة. ويعود السبب إلى أنه من النادر جدًا كما يعتقدون أن نجد مثالًا على مثل هذا الشيء؛ أي العلاقة المباشرة. ولقد اعترفت مراجعة رئيسية لتطور البشر كتبها عام 2015 برنارد وود ومارك جرابوسكي [8]، نشرت في كتاب التطور الكبير: التفسير والتعليل والدليل Macroevolution: Explanation, Interpretation and Evidence [9]، بأن الأمثلة المقبولة لتسلسلات سلف/خلف في أحافير أشباه البشر hominin نادرة للغاية:

معظم أصناف أشباه البشر، لا سيما أشباه البشر الأوائل، ليس لهم أي أسلاف واضحة، وفي معظم الحالات، لا يمكن بناء تسلسلات سلف/خلف (أي السلاسل الزمنية الأحفورية) بشكل موثوق – وهناك استثناءان محتملان مذكوران أدناه.

وخمنوا ما هو أحد أفضل المثالين؟ لقد كان تطور أ. أنامينسيس تدريجيًا ومباشرة إلى أ. أفارينيسيس:

عرض في وقت ما أو غيره كل من أشباه البشر الأوائل الذين تمت مناقشتهم أعلاه على أنه “السلف” لأشباه البشر اللاحقين، ولكننا نرى أن زوجين فقط من الأصناف هما أ. أنامينسيس مع أ. أفارينيسيس (Kimbel et al. 2006)، و P. aethiopicus مع P. boisei (Wood and Schroer 2013) ، يشكلان أمثلة مقنعة من علاقات سلف/خلف (أي أمثلة من التخلق التجدديanagenesis ). في حالة الزوج السابق، أ. أنامينسيس و أ. أفارينيسيس هما على الأرجح صنفان متتاليان زمنيًا ضمن سلالة مفردة مع توسط أحفورة Laetoli hypodigm من الصنف الأول بين أ. أنامينسيس وأحفورة hypodigm Hadar من نوع استرالوبيثكس أفارينسيس. دعمت هذه الفرضية باكتشاف الأدلة الأحفورية من Woranso-Mille في إثيوبيا والتي تعد وسيطة من الناحية الزمنية والناحية المورفولوجية بين أ. أنامينسيس و أ. أفارينيسيس (هيلا سيلاسي وزملاؤه 2010).

لكن لم يعد ممكنًا استعمال هذا المثال الخاص بـ “تسلسل سلف-خلف” لأن  جمجمة أ. أنامينسيس المكتشفة العام الماضي عمرها 3.8 مليون سنة، أي ظهرت بعد100000 عام من ظهور أحافير أ. أفارينيسيس. فلم يعد ممكنًا افتراض الانتقال التدريجي بينهما.

لماذا يهمنا هذا؟

حسنًا، كما نعلم جميعًا، يفضل علماء الأحياء التطورية إثبات التطور التدريجي المباشر وليس التوازن المنقط لأن الأخير يقتضي التطور السريع دون تحولات في الأحفورات، بينما يعني التطور التدريجي أن الأشياء تتطور ببطء، كما توقع داروين تمامًا. روجت الورقة البحثية التي نشرها وايت وزملاؤه (2006) لتطور أ. أنامينسيس إلى أ. أفارينيسيس كمثال رائع محتمل لشكل من أشكال “التدرج” أو “التخلق التجددي” يرجح على “التوازن المتقطع”:

شك جولد في أن “التدرج المتقطع punctuated gradualism ” كان نادرًا. واعتقد في المقابل أن التوازن المتقطع (مع الانتواع من خلال “تكوين فرع سلالي جديد cladogenesis”) كان أكثر شيوعًا، لكن إثبات التوازن المتقطع يتطلب التحقق من التزامن واستمرارية لكلا النوعين السلفي ونسله. كما لاحظ جولد أنه “يمكننا التمييز بين تقطع التخلق التجددي “التطور السريع” من تقطع الانتواع المتفرع بتطبيق المعيار القوي لقابلية الاختبار على بقاء الأسلاف بعد نشوء نوع منحدر منها. إذا بقي السلف، فقد نشأت الأنواع الجديدة عن طريق التفرع. إذا لم يبق السلف، فعلينا أن نعتبر الحالة إما على أنها حالة غير محسومة، أو أنها دليل جيد على التطور السريع – وعلى أي حال، هي ليست دليلًا على التوازن المتقطع.” (ص 795) نادرًا ما تم استيفاء هذه المتطلبات في أحفورات أشباه البشر.

بالنسبة لأصل أسترالوبيثكس، فإن التطور السلالي مع موجة مفاجئة من تغير الاتجاه السريع خلال فترة 200000 سنة بين 4.4 و 4.2 مليون سنة ماضية لا تزال معقولة نظرًا إلى العلاقات الجغرافية والزمنية والمورفولوجية بين نوع Ar. ramidus ونوع استرالوبتيكس أنامينسيس وفهمنا لتشريح وتطور أسنان الرئيسيات. واعتمادًا على الأدلة المتاحة قد يتبين أن أصل أسترالوبيثكس هو حالة من “التدرج المتقطع” أو “تخلق تجددي متقطع” وليس بهيئة التطور العمودي rectangular evolution، ستانلي.

وهكذا يعترفون بأن متطلبات التطور التدريجي “نادرًا ما تحققت في أحافير أشباه البشر” لكن ورقة وايت وزملاؤه عام 2006 تنبأت بأن هذه هي حالة من التدرج. وسجلوا أنه من السهل اختبارها: “إذا بقي السلف، فإن النوع الجديد قد نشأ عن طريق التفرع” – أي عن طريق التوازن المتقطع.

حسنًا، يُظهر اكتشاف الجمجمة هذا لعام 2019 أن السلف المفترض قد بقي، لأن  أ. أنامينسيس كما يبدو بقيت موجودة بتاريخ 3.8 مليون سنة، أي بعد 100000 عام من الوجود الفعلي لسليلها المفترض أ. أفارينيسيس. كما تنص ورقة ” نيتشر” لعام 2019 [10] عن الاكتشاف:

نوضح كذلك أن  أ. أنامينسيس و أ. أفارينيسيس يختلفان بأكثر مما عرف سابقًا وأن هذين النوعين يتداخلان لمدة 100000 عام على الأقل – مما يناقض الفرضية المقبولة على نطاق واسع للتخلق التجددي… والأهم من ذلك، تبين الجمجمة المكتشفة MRD أنه على الرغم من فرضية التطور التدرجي المقبولة على نطاق واسع، فإن أ. أفارينيسيس لم تظهر كنتيجة لتحول سلالي فيلوجيني كما تُظهر أن نوعين على الأقل من أشباه البشر قد تواجدا معًا في شرق إفريقيا منذ حوالي 3.8 مليون سنة، مما دعم أكثر فكرة تنوع أشباه البشر في منتصف العصر البليوسيني”.

على الرغم من أنهم ما زالوا يعتقدون أن هناك علاقة سلالية محتملة بين أنامينسيس و أفارينيسيس، يجب علينا الآن شطب هذا المثال من قائمة “التدرج السلالي” أو ما أسماه وود وجرابوفسكي “أمثلة واضحة لعلاقات سلف/خلف (أي، أمثلة على التخلق التجددي)”. أو كما ذكرت مجلة ساينس دايلي [11]:

يتحدى هذا التداخل الزمني الفكرة المقبولة على نطاق واسع عن الانتقال الخطي بين هذين السلفين البشريين الأوائل… كنا نعتقد أن أ. أنامينسيس تحول تدريجياً إلى أ. أفارينيسيس مع مرور الوقت. ما زلنا نعتقد أن هذين النوعين كان لهما علاقة سلف-خلف، لكن هذا الاكتشاف الجديد يشير إلى أن النوعين كانا يعيشان معًا في منطقة عفار لبعض الوقت. [تم إضافة التأكيدات].

مثال ثالث

بالإضافة إلى أ. أنامينسيس، وأ. أفارينيسيس، وهومو ناليدي، وجد بالصدفة مثال ثالث من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شكلت أعمار أحافير أشباه الإنسان مشاكل للنموذج التطوري القياسي. وقد ذكرنا في مقال نشرناه [12] أيضًا في العام الماضي أن دراسة عن أسترالوبيثكس سيديبا sediba وسجل أحافير أشباه البشر المنشورة في مجلة Science Advances خلصت إلى أن هناك فرصة أقل من 0.1٪ في أن يكون أسترالوبيثكس سيديبا أحد أسلاف البشر. لأنه يلي ظهور أحفاده المحتملين في جنس الإنسان بحوالي 100000 عام. ولسبب ما لم يدرج معهد سميثسونيان هذه الدراسة في قائمة أهم الاكتشافات هذا العقد.

هناك ثلاثة اكتشافات كبيرة إضافية جرت في العقد سردها معهد سميثسونيان. تتعلق بتنقيحات طفيفة لأعمار لا تؤثر بشكل كبير على الدليل العام للتطور البشري:

(1) أن جنسنا الإنسان العاقلHomo sapiens ، يعود الآن إلى 300000 عام،

(2) أن الأدوات الحجرية تعود الآن إلى 3.3 مليون قبل عام، و

(3) يُعتقد الآن أن البشر المعاصرين قد غادروا “إفريقيا” في وقت سابق، بسبب عظم الفك في فلسطين الذي يرجع تاريخه إلى 174000-185000 عام.

نقول مرة أخرى أن الاكتشاف الأول هو مجرد تعديل طفيف للتواريخ المعتمدة سابقًا، وقد يكون العصر الثاني صحيحًا جدًا على الرغم من صعوبة تحديد الأعمار الدقيقة للأدوات. أما بالنسبة للاكتشاف الثالث، تضعه مجلة سميثسونيان على النحو التالي:

أعلن الباحثون في عام 2018 عن اكتشاف فك علوي في فلسطين يشبه الفك في نوعنا، أي الإنسان العاقل Homo sapiens قدر عمر الفك 174000-185000 سنة. يشير هذا الاكتشاف – مع اكتشافات أخرى من الصين واليونان – إلى أن الإنسان العاقل تنقل لفترة قصيرة في أوراسيا قبل الهجرة العالمية التي بدأت منذ 70 ألف عام.

وتعليقا على عام 2018 الذي كان ” سنة مروعة”لأنثروبولوجيا الأحافير القديمة، كتب غونتر بيكلي [13]:

يصف مؤلفو هذه الدراسة الجديدة إعادة تأريخ فك بشري حديث اكتشف عام 2001 في كهف ميسلية في جبل الكرمل في فلسطين. بعد إعادة تقييم دقيقة للغاية، باستخدام أساليب مختلفة عالية التقنية، أكد فريق كبير من الباحثين أنه يعود إلى الإنسان الحديث العاقل. ولكن مع ذلك وصلوا إلى تاريخ جديد مؤكد ومفاجئ لهذه العينة يضعها بين 177000 و 194000 سنة قبل الوقت الحاضر، مما يجعلها أقدم دليل على وجود الإنسان الحديث خارج إفريقيا. تكمن المشكلة في أن السرد القياسي يؤكد أن الإنسان الحديث نشأ منذ حوالي 200000 عام في شمال شرق إفريقيا، وبعد ذلك بوقت طويل (حوالي 60.000 إلى 70.000 عام) غادر إفريقيا للانتشار في جميع أنحاء العالم (Callaway 2018b). الاكتشافات المفردة للإنسان الحديث في بلاد الشام قبل هذا الوقت، مثل بقايا عمرها 80000-120000 عام من كهف سخول وقفزة في فلسطين، اعتُبرت محاولات مبكرة فاشلة لمغادرة إفريقيا ولم تترك نسلًا في وقت لاحق. تظهر النتائج الجديدة وغيرها من الاكتشافات الحديثة أن مثل هذه الفرضيات لتبرير الواقع وتفسير تضارب الأدلة لم تعد ممكنة. لهذا السبب يقول البروفيسور هيرشكوفيتس، “لقد غير هذا الاكتشاف المفهوم الكامل للتطور البشري الحديث … الرواية الكاملة لتطور الإنسان العاقل يجب ارجاعها للوراء بما لا يقل عن 100،000-200،000 سنة “. يعلق مؤلف المقال، “مع عظم فك كهف ميسليا، يعاد كتابة تاريخ التطور البشري” (Borschel-Dan 2018) [التأكيد مضاف]

أين سمعنا ذلك من قبل؟ يشير Dienekes Pontikos (2018)، الذي يدير إحدى أكثر مدونات علم الإنسان القديم شيوعًا، إلى النتائج الجديدة بعنوان “خارج إفريقيا: نظرية في أزمة”، ويلاحظ أنه “يجب أن تدفع لإعادة التفكير التقليدي لخروج الإنسان من أفريقيا”. اسمع، اسمع!

زوجان أوليان؟

لسوء الحظ لم تتضمن قائمة مجلة سميثسونيان لأهم الاكتشافات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التعرف على قصة أهم بكثير أجابت على سؤال يهم شريحة واسعة من السكان: هل نشأ البشر من زوجين أوليين؟ طوّر العلماء المؤهلون بين عامي 2016 و2019 لأول مرة نموذجًا لاختبار صارم لوجهة النظر التطورية المفترضة منذ فترة طويلة بأن الإنسان الحديث ينحدر في الأصل من عدد كبير من السكان يتكون من آلاف الأفراد. أسفرت هذه الدراسة عن ثلاثة منشورات وجدت في الختام أنه ربما لم ينشأ الإنسان الحديث من عدد كبير من السكان، بل نشاء من زوج أولي عاش مؤخرًا منذ 500000 عام (أو ربما حتى وقت أقرب، إذا طرحت افتراضات أقل).

وفقًا للورقة النهائية لهذه الدراسة [14]، التي نُشرت في عام 2019 من قبل عالمة الأحياء آنا غوغر وعالم الرياضيات Ola Hössjer في مجلة BIO-Complexity ، لأنه في أبحاث نشأة البشر “فسرت بعض الافتراضات الشائعة التي تستخدم لتسهيل العمل كما لو أنها استنتاجات نشأت عن البيانات، دون اختبار فرضية النشأة من زوجين مفردين علميًا”. يحاول نموذجهم اختبار سؤال إن أمكن للبشرية أن تكون قد نشأت من زوج أولي، ويسعى النموذج للقيام بذلك عن طريق تقليل الافتراضات:

يختلف نموذج SOC [النشأة من زوجين مفردين] الذي ندرسه عن التفسير السائد لأصل الإنسان في افتراضين فقط: (1) أننا تطورنا باستمرار من غير البشر في عدد كبير من السكان.

 (2) أن التنوع الجيني يرجع دائمًا إلى طفرات الخلايا الجنسية germline.

بدلاً من أن نفرض على النماذج افتراض أن التنوع الجيني ينشأ فقط من طفرات الخلايا الجنسية، وأن أحجام المجموعات السكانية يجب أن تكون دائمًا كبيرة جدًا، تسمح ورقتهم “بالابتداء” بزوج من البشر الأوليين مع “تنوع بدائي”.

هذه الدراسة هي مثال رائع لكيفية السماح باختبار نموذج من خلال التنفيذ العادل لشروط حدوده. إنه يوضح بالضبط لماذا من الخطأ استخدام التفكير الدائري لنفترض أولاً بأن شروط الحدود التطورية غير الموجهة هي الخيارات الوحيدة، ومن ثم الاستنتاج بأن النماذج الأخرى خاطئة بالتأكيد. بعد تطبيق شروط الحدود التي وضعها الباحثون وتطبيق رياضيات علم الوراثة السكانية، استنتج المؤلفون أن “حاصل ما نعرفه علميًا من البيانات الجينية، قد يكون الجنس البشري قد جاء من زوجين مفردين، بحيث يمكن لجميع البشر على قيد الحياة اليوم أن ينحدروا بشكل فريد من هذا الزوج الأول. ووجدوا أن هذين الزوجين الأولين ربما عاشا قبل 500000 عام. لمزيد من التفاصيل حول هذا البحث، راجع موقع Uniqueoriginresearch.org .

بالطبع تلتزم مؤسسة سميثسونيان تمامًا بنظرة تطورية غير موجهة فعلًا للأصول البشرية، كما أوضحت قاعة الأصول البشرية في واشنطن العاصمة، ومعرض أصولهم البشرية المتنقل في السنوات الأخيرة. فليس من المفاجئ تجاهلهم للدراسات التي تحدت الفكر التطوري السائد، وتتسق بشكل إيجابي مع الاكتشافات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التي أضعفت فعلًا الدليل على التطور البشري. إذا كان هناك أي شيء، فإن هذه الاكتشافات تظهر أن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لم يكن بنهاية المطاف عقدًا رائعًا للأدلة القديمة الأنثروبولوجية لتطور الإنسان.

ربما سنجري هذه الحوار مرة أخرى بعد عشر سنوات – وقد تمنحنا جميعًا وقتها مؤسسة سميثسونيان تحليلاً أكثر موضوعية للأدلة. فمن يدري ما سيأتي به العقد القادم؟

ملاحظات:

1ـ مقال مجلة معهد سميثسونيان ” أكبر اكتشافات هذا العقد في تطور الإنسان”:

https://www.smithsonianmag.com/blogs/national-museum-of-natural-history/2020/04/28/these-decades-biggest-discoveries-human-evolution/

2- خبر الهومو ناليدي كما ورد في محطة CNN:

https://www.cnn.com/2015/09/10/africa/homo-naledi-human-relative-species/

3- مقال “خيبة أمل إذ يبدو أن هومو ناليدي أصغر سنًا مما كان يعتقد مسبقًا”

Disappointment! Homo naledi Is Younger than Previously Thought

4- مراجعة عن الهومو ناليدي تبدي كيف طبق علماء الأحافير القديمة مبادئ التصميم الذكي:

Studying Homo naledi Fossils, Paleoanthropologists Apply ID Principles

5- مقال غنتر بيكلي:

Apeman Waves Goodbye to Darwinian Gradualism

6- مقال تيم وايت وزملائه في مجلة نيتشر:

https://www.nature.com/articles/nature04629

7- خبر اكتشاف الأحفورة في وكالة الأسوشيتد بريس، بعنوان اكتشاف أحفورة تسد ثغرة في التطور البشري:

http://www.nbcnews.com/id/12286206/ns/technology_and_science-science/t/fossil-discovery-fills-gap-human-evolution/%22%20%5Cl%20%22.XqogwS_MxTZ

8 – مراجعة بيرنارد وود ومارك جرابوسكي:

https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-319-15045-1_11

9- كتاب (التطور الكبير: التفسير والتعليل والدليل):

https://www.google.com/books/edition/Macroevolution/9YutBgAAQBAJ

10- مقال نيتشر الذي ذكر اكتشاف الجمجمة:

https://www.nature.com/articles/s41586-019-1513-8

The cranial morphology of the earliest known hominins in the genus Australopithecus remains unclear. The oldest species in this genus (Australopithecus anamensis, specimens of which have been dated to 4.2–3.9 million years ago) is known primarily from jaws and teeth, whereas younger species (dated to 3.5–2.0 million years ago) are typically represented by multiple skulls. Here we describe a nearly complete hominin cranium from Woranso-Mille (Ethiopia) that we date to 3.8 million years ago. We assign this cranium to A. anamensis on the basis of the taxonomically and phylogenetically informative morphology of the canine, maxilla and temporal bone. This specimen thus provides the first glimpse of the entire craniofacial morphology of the earliest known members of the genus Australopithecus. We further demonstrate that A. anamensis and Australopithecus afarensis differ more than previously recognized and that these two species overlapped for at least 100,000 years—contradicting the widely accepted hypothesis of anagenesis.

11- مقال ساينس ديلي:

https://www.sciencedaily.com/releases/2019/08/190828140118.htm

12- مقال موقع أخبار التطور عن تفحص تواريخ أسلاف البشر:

Another Human Ancestor “Falsified”: Study Puts Australopithecus sediba Back in the Ground

13- مقال غنتر بيكلي عن عام 2018:

#3 of Our Top Stories of 2018: For Paleoanthropology, Another Annus Horribilis

14- ورقة آن جيجر في مجلة التعقيد الحيوي BIO-complexity:

https://bio-complexity.org/ojs/index.php/main/article/view/BIO-C.2019.1

المصدر

ما هو معنى التطور؟

ما هو معنى التطور؟! هذا السؤال نرى أن الالتزام به ضرورة لا غنى عنها لكل أطراف الحوار، لأننا إن كنا سنختلف حول شيء، لا بد أن نعرف جيدا ما المقصود به، ولا بد أن تكون هذه المعرفة موثقة ومحررة جيدا، ولا بد أن ننحي جانبا انطباعاتنا وقناعاتنا المسبقة.

أصدرنا حتى الآن أكثر من 14 كتاب في معارضة التطور، وهذا المنشور ليس لاستعراضها ولا لاختصارها ولا حتى لبيان أسبابنا في معارضة التطور. ولكن الهدف هنا فقط هو تحرير المفاهيم.

ثمة معان للتطور ليست محل خلاف. من تلك المعاني: (تغير الكائنات الحية بمرور الزمن)، و(إمكانية تكيف الكائنات الحية مع الظروف البيئية المتغيرة)، و(إمكانية تغير تتابع الجينات في الجماعة الحية). لو كان هذا فقط ما تعنيه كلمة (التطور) إذًا لتركها الناس لحالها دون أذى. لكنّ هذه التعاريف تنطوي على تملّص واضح، فلو كان معنى التطور هو مجرد وجود التغير مع مرور الزمن فقط، فلن نجد بين الناس من يجادل حول هذه النظرية مطلقًا.

لكن النظرية لا تقف إطلاقا عند هذا الحد، فالنظرية التطورية تدعي حدوث أمرين:

1) انحدار البكتيريا –التي تطور مقاومتها ضد المضادات الحيوية–، والبشر –الذين يملكون جهازاً مناعياً عاجزاً عن صد الجراثيم–، والكائنات الحية الأخرى؛ من سلف مشترك واحد وجد في الماضي السحيق.

2) تتم العمليات التي أنتجت البكتيريا وكل الكائنات الحية الأخرى عن طريق الطفرات العشوائية (أخطاء النسخ الجيني) والتي يعمل الانتخاب الطبيعي على تثبيت الأصلح منها في ذرية الكائن، ثم مع تكرار العملية نفسها يتحول نوع لنوع جديد، وتنشأ الممالك والشعب والأصناف وكل التصنيفات البيولوجية بنفس الطريقة.

تبعات تلك النظرية في واقعنا على الفلسفة والدين والسياسة والمجتمع والأخلاق لا يمكن إنكارها، أحد أشهر علماء الأعصاب الملحدين (رايموند تاليس) ألف كتابا في 2014 بعنوان (قردنة البشر Aping Mankind) يحذر فيه من تلك المحاولات المستمرة لدرونة الإنسانية، وهذا ليس جديدا، (آدم سيدچويك) نفسه، أستاذ داروين السابق للأحياء بجامعة كيمبريدج، عبر عن خوفه البالغ فور قراءته لكتاب (أصل الانواع)، وأرسل خطابا لداروين عام 1859 قال له فيه: “هناك فقرات كاملة في كتابك… صدمت ذائقتي الأخلاقية… إن ذروة عظمة العلوم الطبيعية أنها تربط المادة بالأخلاق… وقد تجاهلت أنت هذا الرابط، وإذا لم أخطئ في فهم مرادك، فقد حاولت جاهدا لكسر هذا الرابط في حالة هامة أو حالتين. وإذا أصبح كسر هذا الرابط بين المادة والأخلاق ممكنًا –وأشكر الرب أنه ليس كذلك– أظن أن الإنسانية ستعاني ضررًا قد يصيبها بالتوحش، وسيغرق الجنس البشري في أدنى درجات الانحطاط التي لم يسبق أن وصل إليها حسبما يوثق تاريخه المكتوب”.(1)

لم يكن على سيدجويك الانتظار طويلًا لتتحقق مخاوفه، فقد كان أنصار الداروينية في ألمانيا في أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20، قادرين بالفعل على إغراق “الجنس البشري في أدنى درجات الانحطاط التي لم يسبق أن وصل إليها حسبما يوثق تاريخه المكتوب”.

الحاضر ليس أكثر إشراقا من الماضي، ووصف (دانيال دينيت) لـ”فكرة داروين الخطيرة” بأنها “حامض عالمي”، يأكل في طريقه كل المعتقدات التقليدية عن الدين والأخلاق، ليس مجافيا للواقع. ويلخص لنا أحد أشهر أنصار التطور الألوهي ونائب رئيس بيولوجوس السابق (كارل جيبرسون) في كتابه مع (دونالد يوركسا) واقع الساحة العلمية اليوم: “لا يوجد فرد واحد بارز بين المتصدرين لشرح العلم بالطريقة الشعبية (popularizer of science) يتبنى بشكل علني الآراء الدينية التقليدية، وهناك القليليون جدا ممن يتنبى الآراء التي يمكن أن توصف بأنها دينية”. ويكملان أن العديد من هؤلاء الكتّاب “يعادون الأديان التقليدية بقوة، وملتزمين بتوضيح أن العلم ليس فقط يفشل في إثبات أية منظورات دينية، لكن يمكنه فعلا أن يعري ويدحض أي منظورات دينية في العالم”.(2)

كارل جيبرسون، ومؤسسة بيولوجوس، يتنبون بالطبع أن العيب في هؤلاء المتصدرين للمشهد من أفراد المجتمع العلمي، وليس في التطور أو الداروينية نفسها، فهل معهم الحق في ذلك؟

دعونا نرى نظرية التطور على صورتها الحقيقية منذ نشأتها مع داروين، يقول داروين: “يبدو أنه لا يوجد تصميم في تباين الكائنات الحية، أو في عمل الانتقاء الطبيعي، أكثر من ذلك الموجود في الاتجاه الذي تهب فيه الرياح”.(3)

ويقول أيضا: “لا يوجد أدنى دليل على الإيمان بأن التغييرات التي هي الأساس… لتشكيل أكثر الحيوانات المتكيفة إحكاما في العالم، والتي من ضمنها الإنسان، كانت موجهة بشكل خاص ومقصود”.(4)

ويرى داروين أن لفظ الانتقاء الطبيعي “مصطلح سيء من بعض النواحي، لأنه يبدو كما لو أنه يعني الاختيار الواعي؛ ولكن هذا سيتم التخلص منه بعد القليل من الألفة. لا أحد يعترض على الكيميائيين عند حديثهم عن “الألفة الانتخابية elective affinity”؛ وبالطبع الحامض ليس لديه اختيار في الاندماج مع القاعدة، أكثر مما لدى ظروف الحياة في تحديد ما إذا كان شكلا جديدا سينتقى أو يحفظ أو لا”.(5)

لكن النظرية تغيرت كثيرا بعد داروين، وهذا صحيح بالطبع، ولكن لم تتغير الأعمدة الأساسية من تغيرات عشوائية وانتقاء طبيعي وسلف مشترك، لكن على أي حال دعونا نستعرض أقوال منظري التطور بعد داروين.

(إرنست ماير)، التطوري الشهير وأحد مؤسسي التركيبة التطورية الحديثة (أو الداروينية الحديثة)، يقول في كتابه (ما هو التطور؟): “الخطوة الأولى في الانتقاء، إنتاج الاختلاف الجيني، تكاد تكون بالكامل وحصريا ظاهرة صدفوية، بيد أن طبيعة التغيرات في موضع محدد مقيدة بشدة”.(6)

ويقول أيضا: “إن الإنجاز البارز حقًا لمبدأ الانتقاء الطبيعي هو أنه يزيل ضرورة استحضار “الأسباب النهائية”– والتي هي أي قوى غائية تؤدي إلى غاية نهائية معينة. وفي الحقيقة ليس هناك شيء مقدر مسبقا”.(7)

ويقول عالم الحفريات الأمريكي الأكثر تأثيرًا وأحد مؤسسي التركيبة التطورية الحديثة (جورج جايلورد سيمسون) في كتابه (معنى التطور): “الإنسان نتيجة لعملية طبيعية غير غائية لم تكن تضعه في الحسبان”.(8)

ويقول دوكينز أن الانتخاب الطبيعي هو صانع الساعات الأعمى، لا لا، عفوا، دوكينز ملحد متطرف…

حسنا، يقول عالم البيولوجيا التطورية المسيحي الكاثوليكي (كينيث ميلر) في كتابه (البحث عن إله داروين): “التطور عملية طبيعية، والعمليات الطبيعية غير موجهة”.(9)

وفي خطاب من 38 عالم، من الحاصلين على جائزة نوبل، إلى مجلس التعليم في ولاية كنساس (لحث المجلس على عدم القبول بالتعريف بنظرية “التصميم الذكي” في مناهج تدريس البيولوجيا) نرى تعريفهم للتطور على أنه:

“يفهم التطور على أنه نتيجة عمليات التغييرات العشوائية والانتقاء الطبيعي غير الموجهة وغير المخطط لها”.(10)

وفي إحصائية بيو الشهيرة، وهي إحصائية أجريت على 2500 عالم من أعضاء الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم AAAS، ويحب أنصار التطور الاستشهاد بها دوما لإثبات أن هناك 97% من العلماء يؤيدون التطور(11)، نجد أن من بين الـ 97% من تلك العينة، 87% منهم يرون أن البشر والكائنات الحية الأخرى تطوروا عبر الزمن عن طريق العمليات الطبيعية، و8% فقط منهم يرون أن التطور تم توجيهه من قبل كائن أعلى supreme being. وبالرغم من أن نفس الإحصائية توضح أن تلك العينة من العلماء، 33% منهم يؤمنون بإله، و18% منهم يؤمنون بقوة أعلى، بمعنى أنه بالرغم من إيمان 51% من العينة بكائن أعلى، 8% فقط من العينة يؤمنون أن هذا الكائن الأعلى تدخل في العملية التطورية، مما يؤكد على أن نسبة الـ 87% التي لا ترى أن هناك توجيها للتطور من قبل كائن أعلى، هي التي تعبر عن النظرة السائدة للتطور في الأوساط العلمية الحالية.(12)

بالطبع هذه الأرقام لا تعني شيئا بالنسبة لمن يعرف طبيعة العلم، فعلى مدار التاريخ، غالبا ما تم إثبات أن الإجماع العلمي غير جدير بالثقة. في عام 1500، انعقد الإجماع العلمي على أن الشمس تدور حول الأرض، الرأي الذي هدمه نيكولاس كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي. وفي عام 1750، انعقد الإجماع على أن بعض الكائنات الحية (كالديدان) تنشأ من خلال التولد الذاتي، الرأي الذي هدمه فرانشيسكو ريدي ولويس باستور. وهناك العديد من هذه الأمثلة في تاريخ العلم.(13) وبالتالي إجماع العلماء الحالي على نظرية التطور أو على غيرها من النظريات، لا يثبت كونها حقيقة، أقصى ما يمكن أن يثبته الإجماع العلمي على شيء ما، هو أن هذا الشيء يعبر عن القناعة السائدة المقبولة حاليا، لكن الإجماع العلمي متغير بطبيعته، وتعليق الثقة عليه (مع المعرفة المسبقة بأنه متغير عبر التاريخ) عملية نفسية يترفع عنها أي مفكر جاد.

لكن لنكمل مسيرة التعرف على نظرية التطور، ولننتقل للنظر للمناهج التعليمية والكتب الدراسية المختصة بالتطور والبيولوجيا… فهل الصورة مختلفة هناك؟

في موقع Understanding Evolution المتاح على موقع جامعة كاليفورنيا بيركلي، والذي يعتبر من أشهر الدورات المتاحة مجانا على الشبكة لكي يتعلم منها الطلاب والعامة التطور، نجد التصريح بأن “التطور عملية غير موجهة”.(14)

وفي الكتاب الدراسي الشهير (البيولوجيا)، الذي يفتخر أحد مؤلفيه كينيث ميلر بأنه يدرس في ثلث المدارس الثانوية وفي أكثر من 200 كلية في أمريكا(15)، نجد العبارة الشهيرة: “التطور يعمل بدون خطة أو هدف… التطور عشوائي وغير موجه”.(16)

وكذلك دوجلاس فيتوما في كتابه الدراسي المخصص لطلبة الجامعات (البيولوجيا التطورية) يقول بصراحة أننا “لا نستطيع أن نجد أي دليل على وجود أي تصميم أو هدف أو غاية في أي مكان في عالم الحياة”.(17)

وبالمثل بيرتون جوتمان في كتابه (البيولوجيا)، يقول: “بالصدفة فقط، ظهر التنوع الرائع لأشكال الحياة خلال مليارات السنين التي قضتها الكائنات في تطورها على كوكب الأرض”.(18)

وفي كتاب (الحياة: علم البيولوجيا) يصرح المؤلفون بأن “التغير التطوري يحدث بدون أهداف… التطور ليس موجها نحو هدف نهائي”.(19)

وفي كتاب (التطور: مقدمة) الذي تنشره دار جامعة أكسفورد، يشدد المؤلفان على أنه “لا شيء يختار بوعي ما الذي سيتم انتقائه. الطبيعة ليست فاعلا واعيا يختار ما سيتم انتقاءه”.(20)

إذن، يمكننا تلخيص الأمر في نقاط ثلاث:

1- التطور الذي يدرس في الجامعات وترى المؤسسات الرسمية والأكاديمية الحالية صحته هو عبارة عن عملية طبيعية غير موجهة، أول خطوة فيها هي الطفرات، وهي عبارة عن أخطاء تحدث أثناء نسخ الجينات بشكل عشوائي، وإذا ظهر من تلك الأخطاء ما يؤدي إلى تعديل مفيد على المستوى الجيني، تحدث الخطوة الثانية، وهي انتقاء طبيعي يثَبت نتيجة التعديل الجيني الذي حدث من خطأ في النسخ، ثم تحدث الخطوة الثالثة، وهي انتقال النتيجة المفيدة لأبناء الكائن عن طريق التكاثر، ثم مع تكرار تلك الخطوات الثلاثة تتفرع الحياة وتنشأ الأنواع الحية التي نراها اليوم.

2- المحاولات المستمرة من أنصار التطور الألوهي أو الخلق التطوري، سواء في مؤسسة بيولوجوس أو خارجها، تتجاهل دوما حقيقة أن المجتمع العلمي الذين يحتجون بإجماعه لا يرى مكانا للتوجيه الإلهي في النظرية، وتتجاهل أيضا حقيقة كونهم أقلية مثلهم مثل معارضي التطور.

3- التطور له تبعات لا يمكن إنكارها، له تبعات على أسئلة العقل والأخلاق واللغة والدين والسياسة والقانون، وبالتالي فنحن أمام منظومة كاملة، لا يسعنا أن نقبل أصلها ثم لا نقبل أن نتناقش حتى في فروعها، خاصة وإن كانت تلك الفروع لها حظها الوافر من القبول والترحيب والانتشار داخل الوسط العلمي والفلسفي.

(1) د. ريتشارد وايكارت، من داروين إلى هتلر، براهين 2019، ص14.

(2) Karl W. Giberson, Donald A. Yerxa, Species of Origins: America’s Search for a Creation Story, Rowman & Littlefield Publishers, Inc. (October 9, 2002), p122.

(3) Francis Darwin, ed., The Life and Letters of Charles Darwin, Including an Autobiographical Chapter (London: John Murray, 1887), I:309.

(4) Charles Darwin, The Variation of Animals and Plants under Domestication, second edition (New York: D. Appleton & Co., 1883), vol. II, pp. 428-429.

(5) Ibid.

(6) Ernst Mayr, “What is Evolution?”, Basic Books 2001, p325.

(7) Ernst Mayr, “Darwin’s Influence on Modern Thought,” Scientific American (July 2000), p80.

(8) George Gaylord Simpson, The Meaning of Evolution: A Study of the History of Life and of Its Significance for Man, revised edition (New Haven: Yale University Press, 1967), p. 345.

(9) Kenneth Miller, Finding Darwin’s God, p. 244.

(10) Ibid, p. 272.

(10) The Elie Wiesel Foundation for Humanity: Nobel Laureates Initiative (September 9, 2005).

(11) Pew Research Center, “Public Praises Science; Scientists Fault Public, Media”, July 9, 2009, Section 5: Evolution, Climate Change and Other Issues, https://www.people-press.org/2009/07/09/section-5-evolution-climate-change-and-other-issues/, Last Accessed April 6, 2019.

(12) Pew Research Center, “Public Praises Science; Scientists Fault Public, Media”, July 9, 2009, Section 4: Scientists, Politics and Religion, https://www.people-press.org/2009/07/09/section-4-scientists-politics-and-religion/, Last Accessed April 6, 2019.

(13) د. جوناثان ويلز، العلم الزومبي: أيقونات التطور من جديد، براهين 2019، ص14.

(14) The path not taken, Understanding Evolution website, https://evolution.berkeley.edu/evolibrary/article/3_0_0/constraint_18, Last Accessed April 6, 2019.

(15) Kenneth R. Miller, Kitzmiller v Dover Area School District, Trial Transcript: Day 1 am Session (September 25, 2005), pp. 41, 44.

(16) Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Englewood Cliffs: Prentice Hall, 1991), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Englewood Cliffs: Prentice Hall, 1993), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Engelwood Cliffs: Prentice Hall, 1995), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Upper Saddle River: Prentice Hall, 1998), p. 658; Kenneth R. Miller and Joseph S. Levine, Biology (Upper Saddle River: Prentice Hall, 2000), p. 658.

(17) Douglas J. Futuyma, Evolutionary Biology (Sunderland: Sinauer Associates Inc. 1998), p. 8.

(18) Burton S. Guttman, Biology (Boston: McGraw Hill, 1999), p. 37.

(19) William K. Purves, David Sadava, Gordon H. Orians, & H. Craig Keller, Life: The Science of Biology (6th ed., Sinauer; W.H. Freeman and Co., 2001), pg. 3.

(20) Stephen C. Stearns & Rolf F. Hoeckstra, Evolution: An Introduction, (2nd ed., Oxford University Press, 2005) pg. 30.

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: التطور في طبق بتري (5)

التطور في طبق بتري

تحدثنا مسبقا عن الأصل القديم للمقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية، وإن كل الأدلة تشير إلي أن البكتيريا تملك مقاومة لأغلب المضادات الحيوية المستخدمة في الأغراض العلاجية قبل التعرض لها بآلاف -وربما ملايين- السنين، ويبدو أن المنطق وراء ذلك بسيط، فإذا لم تمتلك البكتيريا منذ البداية تلك المقاومة لكان مصيرها الفناء. حيث أن المضادات الحيوية التي تنتجها شركات الأدوية ويستخدمها الأطباء في علاج الأمراض المعدية هي في الأصل مواد كيميائية تفرزها البكتيريا في الطبيعة.

لا جدال أن هناك بعض السلالات البكتيرية التي كانت معروفة مسبقا بحساسيتها للمضادات البكتيرية أصبحت الآن منيعة ضد العديد من الأنواع المختلفة من المضادات الحيوية، لقد تسببت تلك الزيادة في نسبة الأنواع المقاومة في أزمة علاجية بل كابوس للأطباء. فسبب الانتشار السريع للمقاومة يرجع للانتقال الأفقي للجينات بين السلالات والأنواع المختلفة، وهو ما يتيح لبكتيريا غير مقاومة في الأساس أن تكتسب مقاومة أو مقاومات للمضادات الحيوية.

في بعض الحالات قد تتسبب الطفرات في اكتساب البكتيريا مقاومة جديدة لمضاد حيوي، ولكن كما سنرى في الفقرات القادمة فإن في هذا الموضع استخدام “فقدان الحساسية” أنسب وأكثر مقاربة للحقيقة من “اكتساب مقاومة”. لقد تطورت البكتيريا بآليات مشابهة لتلك التي ناقشناها في تجربة لينسكي، بمعني أن البكتيريا لم تكتسب صفة أو وظيفة جديدة، بل فقدت بعض الوظائف الموجودة مسبقا، فكل الآليات الموثقة علي المستوى الجزيئي لاكتساب المقاومة عن طريق الطفرات تتضمن تعطيل تعبير جين، أو الإخلال بمعدل التعبير عنه، أو إفساد عمل إنزيم، أو تغير شكل إنزيم بحيث يفقد الألفة (Binding Affinity) للمضاد الحيوي، مما يعني أننا في كل مرة نفقد أو نعدل وظيفة كانت موجودة بالفعل، ولا يوجد إضافة فعلية لأي وظيفة جديدة.

يقوم مثلا المضاد الحيوي (سيبروفلوكسلاين ciprofloxacin) بعمله عن طريق استهداف إنزيم يعرف باسم إنزيم جيراز Gyrase، وهو إنزيم ضروري للبكتيريا حتي تستطيع أن تتكاثر وتنسخ الدنا الخاص بها، يتكون الإنزيم من بروتينين إثنين يشفرهما جينين (gyrA, gyrB). بفحص تلك الجينات وُجد أن المقاومة ضد السيبروفلوكساسين تنتج بسبب حدوث طفرات نقطية (Point mutation) لتلك الجينات، وبسبب تلك الطفرات يتغير شكل البروتينين المكونين للإنزيم ويفقده ألفته الكيميائية (Binding affinity) للمضاد الحيوي ولا يتفاعل معه. يمكن تشبيه تلك العملية بالقفل والمفتاح، فلكي يعمل المفتاح ويفك القفل يجب أن يكون كل من شكلي القفل والمفتاح مناسبين لبعضهما، بحيث يدخل المفتاح في القفل ويفكه، ولكن إن حدث تشوه في شكل القفل عن طريق كسره مثلا فلن يعمل المفتاح، عملية كسر أو تشويه القفل (الطفرة) تفسر لنا لماذا لم يعد المفتاح (المضاد الحيوي) يعمل، ولكن لا توضح لنا أي شيء عن نشأته في المقام الأول. وبالتالي تلك الطفرة رغم كونها مفيدة للبكتيريا بحمايتها لها من المضاد الحيوية، ولكنها تفسر فقط فقدان الألفة الكيميائية ولا تفسر نشأتها من البداية، وبالتالي فلا علاقة لها بالتطور الدارويني.(1)

مثال آخر هو المقاومة ضد الستربتوميسين streptomycin، يعمل الستربتوميسين عن طريق تعطيل قدرة الخلية علي تصنيع البروتين وذلك بإفساد مصانع البروتين في الخلية وهي الريبوسومات ribosomes، ونتيجة بعض الطفرات التي تغير من تركيب الريبوسوم، يفقد الريبوسوم قدرته علي تكوين روابط كيميائية مع المضاد الحيوي ويصبح في مأمن منه، ولكن تلك الطفرة تفسر لنا فقط كيف فقد الريبوسوم قدرته علي التفاعل مع الستربتوميسين، ولا يفسر لنا وجود تلك الألفة الكيميائية منذ البداية كما هو الحال في مثال السيبروفلوكساسين.(2)

البكتيريا الإشريكية القولونية E. coli في الظروف الطبيعية تمتلك مضخات تستخدمها في طرد المضادات الحيوية خارج الخلية وتقليل تركيزها تحت الحد القاتل، وبسبب تلك المضخات تستطيع البكتيريا الإشريكية مقاومة أنواع متعددة من المضادات الحيوية في آن واحد (mulitiple-drug-resistance)، ويخضع تصنيع البكتيريا لتلك المضخات لتأثير البروتين المنظم MarR الذي يمنع بناءها، ولذلك فإن الطفرات التي تقلل أو تلغي القوة الكابحة لذلك البروتين لتصنيع المضخات، تزيد من معدل تصنيع المضخات، مما يزيد من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. يحدث ذلك التأثير نتيجة إفساد عمل بروتين منظم، وليس نتيجة اكتساب وظيفة جديدة.(3)

نختم بالمضاد الحيوي الذي يستخدم في منع البكتيريا من تصنيع الدنا الخاص بها اللازم لتضاعف الخلية؛ وهو الميترونيدازول metronidazole. يدخل ذلك المضاد الحيوي للخلية في صورة خاملة ويعتمد في تنشطيه علي إنزيم تصنعه البكتيريا حتى يستطيع أداء وظيفته، يقوم ذلك الإنزيم NADPH nitroreductase بتحويل المضاد الحيوي من الحالة الخاملة للحالة النشطة، وبدونه لا يملك أي تأثير علي البكتيريا. إذن فوجود الأنزيم في البكتيريا شرط أساسي حتي يقوم المضاد الحيوي بعمله وهو ما يميزه عن الكثير من المضادات الحيوية، حيث يستطيع أن يستهدف الخلايا البكتيرية دون أن يمس الخلايا البشرية، ويحكم ذلك الإنزيم جين rdxA، وقد وجد أن الإنزيم قد يفقد نشاطة الحفزي إذا تعرض لطفرات حذف أو طفرات مغلطة Missense mutations. نتيجة فقدان الإنزيم قدرته علي اختزال الميترونيدازول فإنه يظل خاملا وبلا تأثير علي البكتيريا، مما يعني اكتساب البكتيريا مقاومة جديدة ضده، ولكن السبب في تلك المقاومة ليس اكتساب معلومات ووظائف جديدة ولكن مجددا نتيجة فقدان وظيفة كانت موجود سلفا.(4)

يتضح بعد تلك الأمثلة أن الطفرات رغم كونها مفيدة من الناحية الظاهرية إلا أنها ليست كذلك. إذا فحصنا جوهر تلك التغييرات، ففي كل الأمثلة نجد الطفرات مسؤولة عن فقدان أجهزة وآلات بيولوجية موجودة سلفًا في الخلية البكتيرية، فينحصر دور الطفرات في إيقاف عمل جين، أو تعطيل العناصر المنظمة لتعبير جين، أو فقدان إنزيم لنشاطه الكيميائي، وهو دور لا يشبه الدور الخلاق الذي يرسمه التطوريون للطفرات في عملية التطور. ولكن تلك ليست المشكلة الوحيدة، ففي حين ساعدت الطفرات البكتيريا علي الصمود أمام المضادات الحيوية والبقاء حية إلا أن ذلك كان بمقابل ثمن دفعته البكتيريا.

(1) Barnard, F. M., & Maxwell, A. (2001). Interaction between DNA Gyrase and Quinolones: Effects of Alanine Mutations at GyrA Subunit Residues Ser83 and Asp87. Antimicrobial Agents and Chemotherapy, 45(7), 1994-2000. doi:10.1128/aac.45.7.1994-2000.2001

(2) Leclerc, D., Melancon, P., & Brakier-Gingras, L. (1991). Mutations in the 915 region of Escherichia coli16S ribosomal RNA reduce the binding of streptomycin to the ribosome. Nucleic Acids Research, 19(14), 3973-3977. doi:10.1093/nar/19.14.3973

(3) Oethinger, M., Podglajen, I., Kern, W. V., & Levy, S. B. (1998). Overexpression of the marA or soxS Regulatory Gene in Clinical Topoisomerase Mutants of Escherichia coli. Antimicrobial Agents and Chemotherapy, 42(8), 2089–2094.

(4) Tankovic, J., D. Lamarque, J.-C. Delchier, C.-J. Soussy, A. Labigne, and P.J. Jenks. 2000. Frequent association between alteration of the rdxA gene and metronidazole resistance in French and North African isolates Helicobacter pylori. Antimicrobial Agents and Chemotherapy 44:608-613.

المصدر

الداروينية والتنين المجنح: اختبار قابلية نظرية التطور للتخطئة

– في جراجنا تنين:

عنون كارل ساجان Carl Sagan بابا بهذا الاسم في كتابه (عالم تسكنه الشياطين The Demon Haunted World). ويستعرض تحته الفرق بين العلم والزيف من خلال مثال يدعي فيه شخص وجود تنين في جراج بيته، و أول سؤال يمكن أن يطرح على هذا المدعي هو: أرنا التنين؟

يقودنا الرجل المتحمس إلى جراجه، ويشير إلى الداخل فلا نرى سوى سلم وبعض الأغراض المبعثرة…

– فنسأله: أين التنين؟

– يقول: إنه هنا بالطبع، لقد فاتني أن اذكر أنه تنين خفي.

هنا يقترح أحد الحضور نثر الدقيق كي نمسك بأثار ذلك التنين الخفي .

– فيرد صاحب الجراج قائلا: هذه فكرة جيدة لكن ألا تعلمون أن هذا التنين مجنح طائر يسبح في الهواء.

– يقول آخر: إذن سوف نستخدم جهاز تحسس يعمل بالأشعة تحت الحمراء كي نتبين ألسنة النار الخفية.

– يرد صاحب التنين الخفي قائلا بثقة: لكن هذه النار باردة.

يمكننا أن نرش رذاذ الطلاء في كل أرجاء الجراج كي نجعل التنين مرئيا، هذا اقتراح آخر يمكنه أن يحل المسألة!

– يقول صاحب التنين الخفي بغضب: مع الأسف، هذا التنين غير مادي ولا يلتصق به الطلاء، ولا يترك أي أثر.

هكذا يمكن لهذا الرجل الواثق أن يرد علي كل اختبار يتم اقتراحه بمبرر خاص يجعل من هذا الاختبار غير صالح.

بهذه الطريقة التي تتم بها الإجابة على كل سؤال بالتحايل علي أدلة التفنيد يمكننا القول بأن فرضية وجود التنين unfalsifiable؛ أي فرضية غير قابلة لإثبات الزيف ولا يمكن اختبار مدى صحتها.

اختبار النظريات وقابليتها للتفنيد

النظرية العلمية هي مجال من العلم يصف ظاهرة معينة بغرض تفسير كيفية حدوثها، وتقديم مجموعة من التكهنات أو التنبؤات التي يمكن عن طريق تفنيدها واختبارها تقييم مدى صلاحية هذه النظرية، ومن ذلك فإن قبول النظرية العلمية يتوقف على مدى قابليتها للاختبار testability، وقابليتها للتخطئة falsifiability.

ويطلق عليها وصف (نظرية غير قابلة للتفنيد unfalsifiable) عند غياب التجارب والاختبارات التي من شأنها إثبات صحة هذه النظرية من عدمه، لذلك فإن معيار القابلية لإثبات الزيف وفقا لبوبر وأقرانه هو إظهار الفرق بين ما هو علمي وما هو زائف، وترسيم للحدود بينهما، واختبار النظريات هو مهمة العلماء المختصين بالتعاون مع فلاسفة العلم.

موقف العلم من الداروينية

تشير المراجع الفلسفية المختصة بدراسة العلم أن معظم الاحكام القياسية أساسها فيزيقي، حيث يمكن معرفة أسباب الظواهر بوضوح لا يشوبه أدني غموض باستقراء قوانين معينة كالديناميكا الحرارية والجاذبية وامثالها.

لكن في علم الحياة البيولوجيا تأبى الأمور أن تسير بمثل هذه البساطة إلا عند المستوى الخلوي الجزيئي، وجدوى التكهن لا تكون ملحوظة إلا في مجال البيولوجيا الوظيفية ومستويات أولية تعتمد قوانين التفاعلات البيوكيميائية .

وبينما يستطيع العلماء اختبار النظريات على أكمل وجه بوساطة التجارب في العلوم العملية، نجد أن الأمر مختلف في العلوم التي يستحيل فيها إجراء التجارب ويكون التكهن محدود القيمة في اختبار فرض معين، كما هو الحال في العلوم التاريخية .

وهذا هو حال علماء البيولوجيا منذ أمد بعيد في محاولتهم للإجابة عن ذلك السؤال حول حدث تاريخي فريد هو :كيف نشأت ملايين الأنواع الحية؟

لتقصي هذا الحدث لن يكون بمقدورهم الاعتماد على القوانين الكونية، ولكن يتوجب عليهم دراسة مجموعة من المشاهدات الإضافية التي قد تساعدهم في هذا الشأن، ومن ثم يوضع سيناريو تفسيري يمكن تسميته “حكاية تاريخية”.

لكنه من غير الممكن التيقن من وقوع تلك الحكايات التاريخية، لأنها غير مشهودة، وأفضل ما توصف به فرص التكهن التي قد تتيحها هي أنها احتمالية probabilistic، وذلك لاستحالة رصد واختبار ما تتألف منه من أحداث، وإذا لم تكن متيقنا من المفاوضات التي أدت الى إبرام المعاهدة البريطانية المصرية بعام 1936م، فإن إعادة الحدث التاريخي هو اختبار غير متاح، ولا يمكننا في مثل هذه الحالة إجراء التجارب، واستدعاء المشاركين والشهود لتقدم الأسئلة نوع من الترف لأنهم في عداد الأموات، ولذلك لا يسعنا هنا سوي تقديم التكهنات، ومن هذا فباب التفنيد مفتوح أمام هذه الحكايات عن طريق الاختبارات المتكررة .

يدرك الباحثون أن الداروينية الحديثة تصنف جملة كنوع من الحكايات التاريخية، لاستحالة إعادة وقائعها من “البداية” وإخضاع أحداثها للرقابة والملاحظة المباشرة، فهي تغطي فترة عظيمة وغير مشهودة من التاريخ وقعت أغلب فصولها قبل وجود الإنسان، وفي أفضل حالتها لا يمكن للداروينية سوي تقديم مجموعة من التكهنات الاحتمالية -غير اليقينية- حول كيفية نشوء الأنواع، لأنها لن تتمكن يوما من إعادة أحداث تطوير حيوان ثديي من الزواحف لإثبات صحة الرواية التفسيرية المساقة (2).

كيف يختبر العلم نظرية الأصل المشترك؟

003

في عام 1837م رسم تشارلز داروين للمرة الأولى في دفتر ملاحظاته شجرة للحياة من شأنها أن تساعده في تفسير أصل الأنواع، وافترض أن كل الأنواع الحية على الأرض قد تحدرت من سلف مشترك، مرجعا ظاهرة التنوع الأحيائي الهائل الذي نراه اليوم إلى سلسلة طويلة من الانتواعات speciation، تباعدت خلالها الأنساب فيما بينها تدريجيا، لتكوّن تفرعات شجرية من النسل المتمايز سميت بشجرة تطور السلالات Phylogenetic tree.

بحسب النظرة البيولوجية يتكون الكائن الحي من صورتين متلازمتين في كيان واحد؛ هما الصورة الخبرية الجينية genotype، وتمثل في مكونات الحمض النووي الحامل للمعلومات، وهى بدورها المسؤولة عن ترميز وإنشاء الصورة الأخرى المظهرية .

ولذلك فإن الافتراض الرئيس للداروينية يزعم أن التشابه بين الكائنات الحية المختلفة هو بالضرورة نتيجة الميراث من سلف مشترك ، ويحتم ذلك وجود شجرة ترسم العلاقات التطورية من خلال الاستدلال بالتشابه في مصفوفات البيانات المورفولوجية (المظهرية) والجزيئية (محاذاة الأحرف الجينية أو متواليات الأحماض الأمينية ببروتينات محددة) بين الأنواع المختلفة.

وبناء على مدى التقارب بتلك المصفوفات يتم تسكين هذه الأنواع على شجرة الأنساب المفترضة ليمثل الجد أو السلف المشترك، الجذع الذي يتفرع منه أغصان شجرية تمثل النسل حيث تتموضع المجموعات ذات الصلة الوثيقة على مسافات متقاربة من بعضها البعض، وتبعد المسافات بين الأنواع على شجرة الأنساب هذه مع تباعد القرابة بينها، على غرار شجرة العائلة.

تنبؤات خائبة

يشرح بوبر من خلال عرضه لسمات النظرية العلمية أنه من السهولة بمكان أن نتحصل على براهين وإثباتات لكل النظريات تقريبًا إذا كنا نتطلع لمثل هذه الإثباتات، لكنها تظل بلا قيمة ما لم تكن متوافقة مع مجموعة من التنبؤات المجازفة التي تنير بصيرتنا في المستقبل لنتائج متوافقة.

ولذلك يتوجب على الداروينية أن تضع مجموعة من التنبؤات الخاصة القابلة لإثبات الزيف والاختبار، يمكن عن طريق تفنيدها تقديم نوع من الصلاحية لهذا الزعم والبرهنة على صحته.

ومن ذلك فإن بناء شجرة انتساب تصطف خلالها الأنواع الحية في تراتب من المجموعات الهرمية المتداخلة تدريجيا بالاستناد إلى مدى التشابه بينها كان بمثابة الكأس المقدسة التي طالما حلم أنصار التطور بامتلاكها، ويمكن اعتبارها التنبؤ الرئيس لنظرية الأصل المشترك وكما تذكر مجلة New Scientist ، فإن مفهوم شجرة الحياة كان مركزيا لفكرة داروين، على نفس قدر أهمية الانتقاء الطبيعي، ووفقا لعالم الأحياء فورد دولتيل W. Ford Doolittle فإنه بدون شجرة الحياة يمكن أن نعتبر نظرية التطور لا وجود لها .

“The tree-of-life concept was absolutely central to Darwin’s thinking, equal in importance to natural selection, according to biologist W. Ford Doolittle of Dalhousie University in Halifax, Nova Scotia, Canada. Without it the theory of evolution would never have happened”.(3)

ويخبرنا بيتر أتكينز Peter Atkins الكيميائي بجامعة أكسفورد في كتابه (إصبع غاليليو Galileo’s Finger) بأن التنبؤ الفعال يحتم اتساق تفاصيل التطور الجزيئي مع التطور المظهري.

“The effective prediction is that the details of molecular evolution must be consistent with those of macroscopic evolution”.(4)

لكن هذا التنبؤ كان مجرد ترف لم يتحقق قط، فالكأس المقدسة على حد تعبير إريك بابتيست Eric Bapteste باتت مجرد سراب بعدما كان يعتقد أنها قريبة من متناول اليد، وفي تعليقه على نتاج عقود من البحث عن شجرة الأنساب قال أنه لزمن طويل كان بناء شجرة للحياة بمثابة الكأس المقدسة، ولكننا لا نمتلك أية أدلة على أن شجرة الحياة حقيقية.

“For a long time the holy grail was to build a tree of life. We have no evidence at all that the tree of life is a reality.”

وأضاف Bapteste: “يرقد مشروع (شجرة الحياة) اليوم في حالة يرثى لها، ممزقا إلى أشلاء بفعل هجمة من الأدلة السلبية، وكثير من العلماء اليوم يجادلون بأن مفهوم شجرة الحياة عفا عليه الزمن، ونحتاج إلى التخلص منه”.

Today the project lies in tatters, torn to pieces by an onslaught of negative evidence. Many biologists now argue that the tree concept is obsolete and needs to be discarded.(5)

بدأت المشاكل في التراكم في وقت مبكر، بداية من تسعينيات القرن العشرين مع تقدم وسائل المقاربة وتوسع رقعة البيانات المرصودة، ولاحت بالأفق بوادر خيبة أمل حول تحقيق هذا التنبؤ الرئيس للداروينية.

ففي تقرير نشر عام 1993م بمعرفة الأقران المختصين، خلص إلى البيان التالي :

“عقد علم التشكل (الموفولوجيا ) آمالا عريضة على البيولوجيا الجزيئية، ولكن نهاية تطلعاتنا كانت محبطة؛ فالتوافق بين أشجار التطور الجزيئية بعيد المنال كما هو الحال في الموفولوجيا، وكما هو الحال بين الأشجار الجزيئية والمورفولوجية”.

“As morphologists with high hopes of molecular systematics, we end this survey with our hopes dampened. Congruence between molecular phylogenies is as elusive as it is in morphology and as it is between molecules and morphology”.(6)

وتوالت بعد ذلك الخيبات عبر عشرات التقارير العلمية رفيعة المستوى، التي تخبر عن تناقضات فادحة خلال المقاربات الفيلوجينية لبناء العلاقات التطورية بين الأنواع المختلفة، ولم يثبت مرور الوقت إلا تفاقم الإشكالية أكثر من السابق، حتى خلص تقرير لجامعة كامبردج بعام 2012م لنتائج أكثر إحباطا، ولخص بعضا من تلك المشاكل:

“لقد أصبح التعارض بشجرة تطور السلالات مشكلة أكثر حدة مع ظهور المزيد من البيانات على نطاق الجينوم”.

“Phylogenetic conflict has become a more acute problem with the advent of genomescale data sets.”

“سار التناقض بين أشجار التطور المستمدة من البيانات المورفولوجية مقابل التحليلات الجزيئية بمختلف المجموعات الفرعية يزداد انتشارا كلما توسع حجم البيانات في كافة الأنواع”.

“Incongruence between phylogenies derived from morphological versus molecular analyses, and between trees based on different subsets of molecular sequences has become pervasive as datasets have expanded rapidly in both characters and species.”

“التضارب والتعارض في شجرة تطور السلالات هو الحدث الشائع، القاعدة وليس الاستثناء”.

“Phylogenetic conflict is common, and frequently the norm rather than the exception”.(7)

وبعدما بات التعارض داخل مصفوفات الأشجار الفيلوجينية “phylogenies” الجزيئية والمورفولوجية وبينها أمرا مسلما به وعلى نطاق واسع، كان من المنتظر أن يؤدي هذا إلى الاعتراف بفشل تنبؤات الدراوينية حول شجرة الحياة، وبالتالي دفع الشكوك حول صلاحية النموذج التطوري برمته لتفسير تاريخ وأصل الأنواع، لكن كما سنرى فإن هذا لم يحدث وتم اللجوء لبعض الحيل.

001

الفرضيات الإضافية

وكأننا نتابع مشهدا دراميا من وحي الخيال، بطله فيلسوف العلم كارل بوبر يجلس في ركن قريب، يراقب عن كثب المسار التاريخي للنظرية الداروينية الحديثة ويدون ملاحظاته ليتخذها مثالا عمليا يحتذى به لتعريف العلم الزائف، حين يقر في معايير ضبط النظرية العلمية هذا الوصف:

“بعض النظريات التي هي حقا قابلة للاختبار، يصر أنصارها والمعجبون بها على التمسك بها، حتى حينما يثبت الاختبار أنها كاذبة، وذلك عن طريق وضع افتراضات إضافية مساعدة، وإعادة تفسير النظرية بما يوافق النتائج الجديدة للهروب من خضوعها للتفنيد، ومثل هذا الإجراء ممكن دائما، ولكن كل ما يمكنه تقديمه هو إنقاذ النظرية من عملية التفنيد والاختبار على حساب تدمير حالتها العلمية، أي تحويلها لنظرية غير قابلة للاختبار”.

Some genuinely testable theories, when found to be false, are still upheld by their admirers—for example by introducing ad hoc some auxiliary assumption, or by reinterpreting the theory ad hoc in such a way that it escapes refutation. Such a procedure is always possible, but it rescues the theory from refutation only at the price of destroying, or at least lowering, its scientific status.(9)

بعد اصطدامها بنتائج واضحة تفند تنبؤاتها وتثبت عدم جدواها لتفسير التنوع الحيوي أرغمت الداروينية على أن تحذو حذو صاحب التنين المجنح الخفي، ولجأ أنصارها لوضع بعض المبررات والفرضيات الإضافية لإنقاذها من الهلاك، وبسبب ذلك أصبحت النظرية غير قابلة للتفنيد وإثبات الزيف، ولم يكن أمام مسعفي الداروينية خيارًا آخر.

 فقد كانت المفاضلة بين خيار فشل توقعاتها وخيار تحويلها إلى مجموعة من الفرضيات غير القابلة للتفنيد بمثابة المفاضلة بين بقاء جسدها تحت أدوات الإنعاش بسبب الموت سريريا، كحل وحيد أو ترك هذا الجسد ليصنف مباشرة في عداد الميت بيولوجيا.

علي سبيل المثال لا الحصر، تفترض الداروينية أن السمات المشتركة بين الأنواع هي نتاج تحدرها من سلف مشترك يحمل نفس السمات، فيما عرف بالتنادد homologous، وعليه يمكننا أن نتنبأ بتوزيع مصفوفات هذا التشابه بشكل هرمي متداخل سلس خلال شجرة حياة تمثل العائلة والقرابة، لكن على عكس التوقعات المأمولة ترصد المشاهدات الفعلية من خلال الفحص الفيلوجيني انتشارا واسعا لسمات مشتركة بين أنواع متباينة وبعيدة الصلة على أغصان شجرة الأنساب بصورة يستحيل معها إرجاع هذا التشابه إلى فرضية التوارث من سلف، فبينما كان من المتوقع أن نجد الحصان هو الأقرب من الأبقار والمجترات الأخرى جزيئيا، بسبب التشابه التشريحي والوظيفي والسلوكي بينهما، تخرج دراسات نشرتها وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم لتؤكد بأن الحصان أقرب وراثيا للخفاش منه للأبقار والأغنام ، ليصنع معضله عصية على الحل حول تناقض سمات التشريح والمورفولوجية مع السمات الجزيئية.(10)

وفي موقع أخر تتساءل ناشيونال جيوغرافيك تحت عنوان “How a quarter of the cow genome came from snakes” كيف انتقل ربع جينوم الثعابين إلى الأبقار؟

حين تلاحظ على نحو غير مسبوق وجود تشابه في أكثر من ربع جينوم الثعابين التي تنتمي إلى الزواحف مع جينوم الأبقار، التي تنتمي لفئة مختلفة تماما هي الثدييات، لتتناقض بشدة مع أشجار القرابة المزعومة وتنبؤات السلف المشترك، وكالعادة لم تعدم الداروينية من اختلاق المبررات والفرضيات الإضافية حتى لو بدت غير منطقية، لتضع مسؤولية هذا التناقض على كاهل بقة (حشرة) صغيرة مسكينة، زاعمين أنها نقلت هذه الجينات تكرارية النسخ المسماة بالترانسبوزونات transposons نقلا أفقيا Horizontal gene transfer، والذي يعني نقل المورثات أفقيا بين الأنواع بطرق شبيهة بالعدوى، وليس رأسيا بطريق التوارث من السلف المشترك، ومثل هذا الحدث شائع في بدائيات النواة، لكن لا يوجد أي سند علمي لإمكانية حدوثه في الكائنات الراقية أو مسؤوليته عن مثل هذه التطورات كما بالسناريو السابق، والتي قامت فيه البقة بنقل الجين القافز من الزواحف إلى سلف قريب للأبقار عن طريق العدوى بسبب امتصاصها للدماء من كلاهما.(11)

وعلى صعيد آخر ينتشر كم هائل من التناقضات بشجرة الأنساب مع توسع رقعة الرصد داخل جينومات الأنواع الحية كما تقر مجلة الطبيعة nature، وتضرب لنا مثالا محيرا حول تطابق أكثر من مائتي منطقة في كلا من جينوم الخفاش والدولفين، واستحالة مسؤولية السلف المشترك عن ذلك، لتعزي ذلك التشابه إلى فرضية إضافية أخرى سميت بالتطور التقاربي convergent evolution، والتي تزعم أن السمات المشتركة بين تلك الأنواع لم تكن متوارثة من سلف مشترك، بل أتت نتاجًا لتطور كلا النوعين بطريقة متقاربة وبشكل مستقل.(12)

شجرة الحياة… وفرضية التنين

ونتيجة ذلك تحولت الفرضية الأساسية حول شجرة الأنساب بفعل هذه المسوغات والتبريرات الإضافية إلى فرضية غير قابلة للاختبار والتفنيد unfalsifiable، وأفشلت الاختبار الوحيد المتاح لتفنيدها؛ وهو الاعتماد على التشابه بين الأنواع، وبعبارة أخرى يمكننا القول أن التطور يعتمد التشابه بين مورثات الأنواع المختلفة كدليل على السلف المشترك -إن كان متوافقا- داخل شجرة الحياة التي تم اختلاقها، وفي نفس الوقت فإن التشابه في الموروثات بين الأنواع التي لا تتوافق داخل تلك الشجرة يمكن تخطيه بالقول إنه نتاج تطور تقاربي convergent evolution، أو نقل جينات أفقيا Horizontal gene transfer، ومن ذلك يمكن القول باطمئنان أن شجرة الأنساب ليست علما، بل احتيالا مجردًا.

النظرية —–> التنبؤ —–> فشل التنبؤ—–> فرضية إضافية —–> نظرية غير قابلة للاختبار

خلاصة القول:

يمكننا وصف نظرية التطور بالهدف المتحرك، فمع كل اكتشاف يناقضها يتم نقلها بعيدا عن مرماه بحيث يمكن دفن الاكتشاف أو التحايل عليه، ولم يثبت العلم يوما أن نظرية التطور صحيحة، كل ما فعله هو إعادة تعريف نظرية التطور لتوائم الاكتشافات العلمية الحديثة، فالعلم يعدل باستمرار نظرية التطور لتتناسب مع البيانات الجديدة، ومن ثم يدعي أن تلك البيانات تناسب نظرية التطور.

لكن هذا ليس علما… بل خدعة بهلوانية متخمة بالعبثية. أو كما نطلق عليها بتسمية قد لا تروق للبعض: (تنين العلم المجنح).

 يقول Richard Lewontin عالم الوراثة بجامعة هارفارد:

“التطور ليس حقيقة.. إنه فلسفة، يأتي المذهب المادي في المقام الأول كمقدمة بديهية، ومن ثم يتم تفسير الأدلة في ضوء هذا الالتزام الفلسفي غير القابل للتغيير”.

“evolution is not a fact, it’s a philosophy. The materialism comes first (a priori), and the evidence is interpreted in light of that unchangeable philosophical commitment”.(13)

(1) Carl Sagan, “The Demon Haunted World”, The Dragon in My Garage, p165.

(2) Ernst Mayr, “This Is Biology: The Science of the Living World”, Harvard University Press,1998.

(3) Graham Lawton, “Why Darwin was wrong about the tree of life”, New Scientist, Magazine issue 2692, 21 January 2009.

(4) Peter Atkins, “Galileo’s Finger: The Ten Great Ideas of Science”, p.16, (Oxford University Press, 2003).

(5) Graham Lawton, “Why Darwin was wrong about the tree of life”, New Scientist, 21 January 2009.

(6) Patterson et al., “Congruence between Molecular and Morphological Phylogenies,” Annual Review of Ecology and Systematics, Vol. 24: 179 (Nov. 24, 1993).

(7) Liliana M. Dávalos, Andrea L. Cirranello, Jonathan H. Geisler, and Nancy B. Simmons, “Understanding Phylogenetic Incongruence: Lessons from Phyllostomid Bats,” Biological Reviews of the Cambridge Philosophical Society, Vol. 87: 991-1024 (2012).

http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3573643/

(8) Laura Spinney, “Is life a tree – or more of a tangled thicket?”, The Guardian, Monday 26 January 2009 .

(9) Karl Popper, “Conjectures and Refutations, Routledge and Kegan Paul”, London, UK. Reprinted in Theodore Schick (ed., 2000), Readings in the Philosophy of Science, Mayfield Publishing Company, Mountain View, Calif.

(10) a) “Bats and horses get strangely chummy”, Newscientist.com, 25 June 2006.

  1. b) Z Chen & D E Ruffner, “Amplification of closed circular DNA in vitro”, Nucleic Acids Res. Dec 1, 1998; 26(23): 1126–1127.

(11) Ed Yong, “How a quarter of the cow genome came from snakes”, Nationalgeographic.com, Phenomena: January 1, 2013.

(12) Erika Check Hayden, “Convergent evolution seen in hundreds of genes”, nature.com, 04 September 2013.

(13) Phillip E. Johnson, Defeating Darwinism by Opening Minds, InterVarsity Press, Illionis, 1997, p.

المصدر

دعاية زائفة: هل لا شيء في البيولوجيا يُفهم إلا في ضوء نظرية التطور؟

“لا شيء في علم الأحياء من الممكن أن يُفهم إلاّ على ضوء نظريّة التطوّر”.

كان هذا عنوانا لمقالة كتبها (ثيودوسيوس دوبجانسكي) عام 1973م ومن ثم تحولت الى أيقونة مفضلة للترويج للداروينية.

ولكن…

ما مدى واقعية هذا الشعار المتكرر؟

يجيب إ. إس. ويلكِنز A. S. Wilkins رئيس تحرير مجلة (بيو إيسز BioEssays) في عددها الخاص الصادر عام 2000م عن هذا الادعاء كاشفا عن ذلك التناقض بين عقيدة الداروينيين في اعتبار التطور مركزيا وبين التطبيق الفعلي للتطور في شتي مجالات البيولوجيا التي تعتبره زائداً عليها وعديم الجدوى.(1)

ويــرى (فيليـب سكيــل) عضــو الأكاديمية الوطنية للعلوم بأمريكا أنه بعكس تلك الادعاءات التي يتم الترويج لها بأن التطور هو حجر الأساس في البيولوجيا التجريبية، فإنه لا يمثل أهمية تذكر كما جاء في تقرير مجلة The Scientist لعام 2005م.(2)

وكذلك الأمر في كافة مجالات البيولوجيا التطبيقية المختلفة، كما يؤكد البروفسيور (مارك كرشنر Marc Kirschner) رئيس قسم البيولوجيا بجامعة هارفرد للطب حيث يقـول:

“في الحقيقة، على مدار المئة عام الماضية، تقدمت معظم علوم الحياة باستقلال عن التطور، باستثناء البيولوجيا التطورية نفسها. علوم البيولوجيا الجزيئية، الكيمياء الحيوية، وعلم وظائف الأعضاء لم تأخذ التطور في اعتبارها على الإطلاق”.(3)

وحتى عام 2013 لازالت التقارير تكذب ذلك الادعاء، ففي أحد التقارير المختصة بممارسة الطب والتي تم نشرها يقول أن التفسيرات المباشرة هي ما نحتاجه للتشخيص والعلاج، وأن التفسيرات المتعلقة بالنشوء والارتقاء ضعيفة، والأهمية السريرية للطب التطوري فى أفضل الحالات غير مؤكدة.(4)

المراجع:

(1) “The subject of evolution occupies a special, and paradoxical, place within biology as a whole. While the great majority [of] biologists would probably agree with Theodosius Dobzhansky’s dictum that ‘nothing in biology makes sense except in the light of evolution’, most can conduct their work quite happily without particular reference to evolutionary ideas. ‘Evolution’ would appear to be the indispensable unifying idea and, at the same time, a highly superfluous one.”

“Special Issue: Evolutionary Processes”, BioEssays, December 2000. Last accessed 30/5/2015 http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/1521-1878%28200012%2922:12%3C%3E1.0.CO;2-8/issuetoc

(2) Philip Skell, “Why Do We Invoke Darwin?”, The Scientist, August 29, 2005.

Last accessed 30/5/2015 http://www.the-scientist.com/?articles.view/articleNo/16649/title/Why-Do-We-Invoke-Darwin-/

(3) “In fact, over the last 100 years, almost all of biology has proceeded independent of evolution, except evolutionary biology itself. Molecular biology, biochemistry, physiology, have not taken evolution into account at all.”

Peter Dizikes, “Missing links”, Boston Globe, October 23, 2005. Last accessed 30/5/2015 http://www.boston.com/news/globe/ideas/articles/2005/10/23/missing_links/

4) Michael Cournoyea, “Ancestral Assumptions and the Clinical Uncertainty of Evolutionary Medicine”, Perspectives in Biology and Medicine, Volume 56, Number 1, Winter 2013.

Last accessed 30/5/2015

http://muse.jhu.edu/login?auth=0&type=summary&url=%2Fjournals%2Fperspectives_in_biology_and_medicine%2Fv056%2F56.1.cournoyea.html

المصدر

تجاهل “ثقافة” الحيوان (نقد الأخلاق التطورية عند دوكينز)

قد يستغرب القارئ من مصطلح ثقافة الحيوان، لكن يزول هذا الاستغراب ببيان المقصود، فالمقصود بالثقافة هنا “صورة حياة” معينة موروثة يتعامل بها الكائن مع بيئته، في اختياره للطعام وكيفية الظفر به وكيفية التعامل مع الأقارب والغرباء وغير ذلك من ضرورات الحياة، أو تعريف المتخصصة في أنثروبولجيا الثقافة مارغرت ميد “مجموعة من الأنماط السلوكية المكتسبة، تتشارك فيها مجموعة من الأفراد وتنقلها إلى أبنائها”[1]، لم ينسب دوكينز في كتبه كلمة الثقافة مطلقا إلا للإنسان، ويعتبر تطور الإنسان فقط هو “من يحتم علينا التخلي عن الجينة كقاعدة أساس وحيدة لأفكارنا عن التطور”[2]، وفي الواقع يختلف البيولوجيون في التعامل مع ثقافة الإنسان، فبعضهم ينسب لها دورا مهما في عملية تطوره وبعضهم يتجاهلها تماما، ودوكينز يقدّر الثقافة الإنسانية كما سيأتي، إلا أنه يهمل تماما–كأغلب البيولوجيين– ثقافة الحيوان، ويتعامل بمصطلحات قائمة على معادلات رياضية كما سيتبين في تفسيره للإيثار، والسبب في ذلك واضح، وهو العقيدة المركزية في الداروينية الحديثة وهي التعامل الآلي مع الحيوان والتركيز على المورثات، إلا أن هذه الصورة قد اختلفت إلى حد ما بعدد عدد من الأبحاث الحديثة، أغلبها في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، وتحاول هذه الأبحاث إثبات أن للحيوانات سلوكيات معينة تورث من خلال “التعليم” وتوضح معنى جديدا “للغريزة” التي ظل البيولوجيون ينظرون إليها كعمل آلي جيني في الحيوان لعقود طويلة، وتهدف إلى ضرورة إدخال هذا التعليم في عملية الانتخاب الطبيعي بالإضافة للجينات، بل وتوضيح دور الكائن في عملية تطوره، وأن “هناك الكثير من أنماط السلوك ومنتجات النشاطات الحيوانية توحي بقوة أن هناك تطور ثقافي تراكمي يشبه الموجود في الإنسان إلى حد ما”[3] وبصرف النظر عن الهدف ومدى جدوى ذلك في إصلاح ضعف الداروينية فالمسلّم به أن هذه الأبحاث قد زعزعت العقيدة المركزية للداروينية الحديثة، وعادة يشار إلى أصحاب تلك الأبحاث باللاماركيين الجدد، ومن أشهر رواد هذا المجال إيفا جابلونكا المنظّرة البيولوجية الكبيرة[4]، التي لها اهتمام خاص أو مشروع خاص بالوراثة غير الجينية، كالسلوك، وسنركز على العناصر التي تعتبر انتقاد جذري لأطروحة دوكينز المهملة للسلوك الثقافي.

ترى جابلونكا أن هناك تركيز ” في جميع التقارير البيئية والتطورية للرعاية الأبوية تقريبا تم تجاهل نقل المعلومة من الأباء إلى الذرية، وتأثيرها التطوري”[5] وأنه ” ليس هناك معالجة منهجية لدور التعليم الاجتماعي في تطور السلوك داخل الكتب المدرسية المتعلقة بتطور أو بيئية السلوك”[6]، وهذا الإهمال ليس بسبب الجهل بالمعلومات المكتسبة والمورثة بطريق غير جيني “فآليات نقل المعلومات الحاسمة عن جوانب الحياة معروفة على مدار عدة سنوات لكل من البيولوجيين وعلماء النفس التجريبيين، لكن لم تدمج المعلومة بالكامل داخل بناء أساسي لفكر تطوري وبيئي”[7]، باختصار “لم يتلق السلوك الإدراك الشامل الذي يستحقه”[8]، وتعارض المدرسة السلوكية التي تعامل الحيوان كمستجيب للمثير فقط، فعادة ما يتم دراسة سلوك الحيوان كما تدرس الآلة، أي بالتركيز على سلوك واحد بمعزل عن صورة الحياة التي اكتسب فيها الحيوان الصغير هذا السلوك، ثم رسم خطة مقترحة لكيفية اكتساب أو نشوء هذا السلوك، ونادرا ما يتأكد من صحة الاقتراحات المتخلية للصعوبة البالغة في إعادة تصور الماضي معلوماتيا، فالسلوك حدث يقع في إطار زمني ولا يبقى له أثرا في الغالب بخلاف الحفريات، فعملية تصور صورة حياة كائن ما تنطوي على تصور ظروفه البيئية والاجتماعية، وذلك يستلزم مزيدا من المعالجات المبتكرة وغير المباشرة لعملية نقل المعلومة من حيوان لآخر بحاجة، والتي تستهلك وقتا وجهدا ومالا، وتعترف جابلونكا بهذا فتقول: “نحن بعيدون عن امتلاك تفسير تطوري كامل لاعتماد الباندا على الخيزران، فعلى الأقل يبقى ثلاث مشاكل رئيسية(أي بعد فهم النظام الغذائي لسلف الباندا والظروف البيئية التي عاشت فيها)، أولا: هل نحن حددنا كل الوظائف الحاضرة والماضية للسلوك؟ ثانيا: هل حددنا المسار النمائي الذي قاد إلى هذا السلوك؟ ثالثا: عند أي مستوى للتنظيم البيولوجي تجرى عملية النقل وانتقاء الانواع؟”[9].

 من أجل ذلك تقول جابلونكا أن “التطور الثقافي في الحيوانات قد يشمل أسلوب الحياة كلها، وليس سلوكا معزولا معينا”[10]، ولتوضيح ذلك قدمت مثالا شهيرا وموثقا بشكل جيد عن قرود المكاك، وهو المثال الذي كان نقطة الانطلاق للاهتمام بالثقافة الحيوانية، تعيش هذه القرود على جزيرة صغيرة في كوشيما، “واعتادت على أن تعيش وتجمع العلف في الغابات، لكن بدأ علماء رئيسيات يابانيون في إطعام تلك القرود بنشر البطاطا اللذيذة على الشاطئ الرملي. وبعد فترة وجيزة بدأت قوات القرود في مغادرة الغابة والتغذي على الشاطئ. وبعد نحو عام لوحظ القرود الصغار يغسلون البطاطا في واد قريب من الرمال، وفي غضون السنوات القليلة التالية انتشر غسل البطاطا في هذا المجتمع، وانتقلت هذه الممارسة من الوادي إلى البحر، وبجانب غسل البطاطا ترسخت مجموعة من السلوكيات المرتبطة بالتغذية على الشاطئ في مجموعة قرود المكاك، لقد انتقلت السلوكيات من الأمهات و أعضاء المجموعات الأخرى إلى الصغار”[11]، مثال آخر: “نجحت الثعالب الحمراء الأوربية من التكيف مع سلوك مدني معقد وجديد خلال الفترة التي تعتبر صغيرة جدا لكي تسمح بتكيف من خلال انتقاء الجينات”[12]. نلاحظ هنا أن الملامح الثقافية أو الميمية الرئيسية التي نسبها دوكينز للإنسان فقط موجودة في الحيوان إلى حد ما[13]، فهنا “انتقال ثقافي يشبه الانتقال الجيني من حيث أنه قد ينشأ كشكل من أشكال التطور”[14] وهنا “تطور وفقا لأساليب غير جينية، ولإيقاع يفوق بسرعة انتشاره وسرعة التطور الجيني”[15] وهنا اعتمد نقل الثقافة على “نسبة الوقت الذي يخصصه الأفراد لنقل هذا الميم على نحو فاعل إلى أفراد آخرين” وهنا “تنتشر الميمات في الجمعية الميمية عبر القفز من دماغ إلى آخر بواسطة مسار يمكن تسميته بالمعنى الواسع التقليد”[16]فلماذا إذن جعل دوكينز الإنسان فقط ذا ثقافة قادرة على “التمرد على جور المتضاعفات الأنانية” دون الحيوان؟ فإذا كانت ثقافة الإنسان “كاللغة” قد أثرت في عملية الانتخاب الطبيعي فلماذا تؤثر سلوكيات الحيوانات الاجتماعية في نفس العملية؟ يسلّم دوكينز بأن “الألحان التي يصدرها طائر التيكي تبدو أنها تتطور فعليا بأساليب غير جينية”[17] بل ويسلم أيضا بأن هناك “أمثلة أخرى تتوافر عن التطور الثقافي لدى الطيور والقردة” إلا أنه يتابع فيقول: “إلا أن هذه الأمثلة مجرد ظواهر شاذة مثيرة للاهتمام، فجنسنا البشري هو الذي يبين ما يمكن التطور الثقافي تحقيقه فعليا، واللغة ليست سوى مثال واحد من أمثلة كثيرة، فالموضة في الملبس والمأكل والاحتفالات والأعراف والفن والعمارة والهندسة والتكنولوجيا كلها تتطور تاريخيا بطريقة تبدو أشبه بتطور جيني سريع جدا، علما بأن لا علاقة لها على الإطلاق بالتطور الجيني”[18]، والرد عليه من ثلاثة أوجه:

الأول: ما معنى الشذوذ هنا؟! “الحيوانات الصغيرة إما أن تتعلم سلوكيات بسيطة أشبه بالبرمجة كبعض العناكب، أو من خلال التعلم الذاتي كالقنفذ الأوربي في تجميعه للعلف أو من خلال التعليم الاجتماعي، بأن يتبع مجموعة أمثلة من الآباء وغيرهم، مثل صغار الحجل”[19] فإهمال سبيل من سبل التعلم تعنت، ثم إن المقارنة لا بد أن تكون بين الإنسان وغيره من الحيوانات الاجتماعية ليظهر هل هناك شذوذ أم لا، وبشكل عام “تشير عدة مخططات من الأدلة بوضوح إلى وجود تدفق معلوماتي مستمر من الآباء إلى الذرية، وذلك من خلال مجموعة من القنوات غير اللفظية المخفية. نقل المعلومة التي تُكتسب بواسطة الآباء على مدى فترة طويلة نسبيا في نفس الموطن تساعد الصغار على إعداد مجرى حياة ناجح كالبالغين، وتغطي هذه المساعدة كافة جوانب الحياة تقريبا، من الدفاع المناعي–من خلال الطعام– والتزاوج واختيار الموقع البيئي والموضع إلى مكافحة الحيوانات المفترسة”.[20]

ولنأخذ بشكل خاص قطاع عريض جدا من الحيوانات الاجتماعية وهو الطيور والثدييات، فـمن المسلّم به أنه ليس هناك طائر أو ثديي يولد عارفا بما يأكل، أو بكيفية إيجاد أو حصاد طعامه، لذا يجب أن يتعلم هذا الفن، فـ”العالم يبدو في نظر صغار الطيور والثدييات معقدا ومكان خطير جدا في أحيان كثيرة للعيش فيه، فبين أشياء أخرى يجب على الأصغر أن يقدر على التعامل بنجاح مع مهام أساسية لكن معقدة لإيجاد الطعام والحماية والزوج المناسب لاحقا. وحيث أن هذه المصادر غير متوفرة بالقدر الكافي ربما يتحد الصغار ضد الأفراد الأخرى أو الأنواع الأخرى. كما أن العالم مزدحم بأعداء– كالحيوانات المفترسة والطفيليات– يمكن التنبؤ بهم وقد لا يمكن، وعلى استعداد لمهاجمة فاقدي المعرفة والغافلين. إن الصغار يجب أن يتعاملوا مع مخاطر مناخية كالصقيع وموجات الحرارة والجفاف والكوارث كالحرائق والفيضانات، بل والزلازل والأعاصير في بعض الأحيان”[21]، فكيف يمكن تجاهل نمطا تاما من ثلاثة أنماط تعليمية وهو النمط الاجتماعي التي طالته دراسات واسعة وأكدت على أهميته.

الثاني: لو سلمنا أن الأمثلة الثقافية عند الحيوان شاذة لا يعتد بها، فلماذا يعتد دوكينز بأمثلة على الإيثار التبادلي شبه مجمع على ندرتها؟ ناهيك عن أن الحالتين التي قدمهما محل أخذ ورد، وتفصيل الإيثار التبادلي يأتي لاحقا، وهذا على التسليم بأن الأمثلة الثقافية معدودة، وإلا فقد “كشفت أيضا الابحاث المتزايدة طويلة المدى على تجمعات الشمبانزي على نطاق من التنوع السلوكي بين التجمعات، الذي يعزى إلى التعليم الاجتماعي”[22] وغير ذلك من التجمعات، يقول روبرت بويد وبيتر ريتشرسون: “إن التعليم الاجتماعي متضمن في اكتساب السلوك في العديد من الأصناف، فكثير من الطيور المغردة تكتسب أغانيها من خلال نسخ أغنية الطيور البالغة، ويبدو أن الفئران تكتسب تفضيل طعام معين من خلال تلقينات تذوقية من لبن أمها، وشم شعر أجسام الفئران الأخرى، وهناك دليل مادي على أن أفراد من عدة أنواع مختلفة من الرئيسيات قد تكتسب سلوكيات جديدة معقدة من خلال التعليم الاجتماعي”[23]، وفي الصفحة التالية سنبين مدى دور التعليم الاجتماعي في البقاء والتكيف وغير ذلك.

الثالث: سبب وصف دوكينز لتلك الأمثلة الثقافية بالشذوذ قائم على سوء فهم لمعنى “الغريزة” عند الحيوان، نشرحه أيضا في العنصر النقدي التالي.

[1] منى عبود، الميماء: نظرية تطورية في تفسير الثقافة، بيسان للنشر، ص11.

[2] الجينة الأنانية، ص312.

[3] الجينة الأنانية، ص23.

[4] لمن يريد الاطلاع على هذا الاتجاه الحديث في فهم الوراثة فعليه بالكتابين التاليين بالإضافة لكتب إيفا جابلونكا، والكتاب الأول في غاية الأهمية:

Mary Jane West–Eberhard,2003, Developmental plasticity and evolution, Oxford University Press

Andreas Wagner, 2011, The origins of evolutionary innovations, Oxford University Press.

[5] Avital, E., & Jablonka, E. (2000). Animal traditions: Behavioural inheritance in evolution, Cambridge: Cambridge University Press. P.111

[6] ibid. p111.

[7] ibid. p111.

[8] ibid. p338.

[9] ibid. p45.

[10] ibid. p99.

[11] ibid. p10.

[12] ibid. p10.

[13] بغض النظر عن صحة تصور دوكينز للثقافة وتنظيره عنها، فما نقصده هو إلزام دوكينز بالاعتراف بثقافة الحيوان.

[14] الجينة الأنانية، ص309.

[15] المرجع السابق 309.

[16] المرجع السابق، ص313.

[17] المرجع السابق، ص310.

[18] Avital, E., & Jablonka, E. (2000), p310.

[19] ibid. p110.

[20] ibid. p111.

[21] ibid. p110.

[22] Michael A. Huffman , Satoshi Hirata, 2003, Biological and ecological foundations of primate, in The Biology of Traditions, Cambridge University Press, p269.

[23] Robert Boyd, Peter J. Richerson, 2005, The Origin and Evolution of Cultures, Oxford University Press, p20.

المصدر

هل بالفعل “نظرية التطور” مفيدة للبشر؟

في هذه المقالة نناقش صحة مقولة أن “نظرية التطور” مفيدة للعلم والحياة.

سنستعرض 6 نماذج:

  1. جائزة نوبل للكيمياء عام 2018
  2. مقاومة البكتيريا للمضادات
  3. المطاعيم
  4. الزراعة وتهجين الحيوانات
  5. سعر السمك !
  6. الفوتوتشيني والمنسف !

حلقة مهمة…ساعدونا في النشر يا كرام.

تعالَوا نرَ (6) نماذج بارزة، يُدَّعى أنَّ لخرافة التَّطور فضلًا عظيمًا فيها،

المطاعيم ضدَّ فيروس سارس،

البغال والقمح،

مقاومة البكتيريا للمضادات،

سعر السَّمك،

وجبات “Fettuccine”،

وجائزة نوبل للكيمياء عام (2018)

يقولون: فيروس سارس يشبهُ فيروساتٍ أخرى؛ وهذا مكَّن المكتشفين من إنتاج علاجاتٍ ومطاعيم معدَّلة بناءً على فهم هذا التَّشابُه.

ما علاقةُ هذا كلِّه باعتقادك عمَّا كان في الزَّمان الماضي؟ سواءً اعتقدت أنَّ هذه الكائنات تطوَّر بعضُها عن بعض بِعشوائيَّة وَصُدَفيَّة كما تقول الخرافة، أم أنَّ هناك خالقًا أخرج بعضها من بعضٍ بعلمٍ وتقدير، أم أنَّ الخالق خلَقَ كُلًّا منها خلقًا مستقلًّا؟

شرَحَ كتاب (العلم، التطور، والخلق) كيف عمِل المزارعون منذ زمنٍ قديمٍ على تحسين خصائص القمح والمحاصيل الأخرى، وعلى المزاوجة بين الأصناف المتقاربة من الحيوانات، ثُمَّ كيف حدَّد الباحثون جيناتٍ مسؤولة عن الخصائص المرغوب فيها.

يقول لك الكتاب: “إنَّ النَّاس كانوا بذلك يستخدمون تغيُّراتٍ تطوُّرية Evolutionary change” ثم يختم بقوله: “هذه التَّقدُّمات تعتمد على فهم التطوُّر لتحليل العلاقات بين النَّباتات، والبحثِ عن خصائص يمكن استخدامها لتحسين المحاصيل”.

يعني عندما كان أجدادنا وأجداد أجدادنا -قبل أن يولد داروين- عندما كانوا يُطَعِّمون أشجار التفاح بالإجاص، وعندما كانوا يزاوجون أصنافًا متشابهةً من الحيوانات؛ ليحصلوا على نسلٍ مُحسَّن، هل كانوا في ذلك ينطلقون من قناعاتٍ دارونيَّةٍ عن تغيُّراتٍ عشوائيَّةٍ وانتخابٍ أعْمى؟!

قالوا: “إنَّ معرفةَ كيف يؤدِّي التَّطور إلى زيادةِ المقاومةِ البَكتيريَّة مهمٌ في الحدِّ من انتشار الأمراض المعدية”

التَّطوُّر؟! ما علاقةُ التَّطورِ بالموضوع؟! ما علاقته بالمقاومة البكتيريَّة؟

ما علاقة الطَّفرات العشوائيَّة والانتخاب الأعمى بالآليَّات التي بهرتكم، أنتم أنفسَكم، وجعلتكم تصفون البكتيريا بالذكاء، وتُطْلقون على البكتيريا أوصافًا إلهيَّة كالعِلم والإرادة؟!! كما بيَّنا في حلقة (عَبَدة الميكروبات).

لو أخذنا -مثلًا- قدرةَ البكتيريا على مقاومة أوَّل مضادٍ معروف، وهو البنسلين “Penicillin” كيف استطاعت البكتيريا عملَ ذلك؟

بوسائل عديدةٍ كلٌّ منها في غاية التَّعقيد والإحكام، منها -مثلًا- إنتاج إنزيم بيتالاكتاميز “Beta-lactamase”، هذا الإنزيم مكوَّنٌ مِن مئات الأحماضِ الأمينيَّة المصفوفة بترتيبٍ دقيق، لا مكان فيه للعشوائيَّة، التي تتعرَّض في المراحل الأخيرة من إنتاجها لتعديلاتٍ على أماكن محدَّدة جدًا منها؛ لِتتخذَ شكلًا ثلاثيَّ الأبعاد؛ ليقومَ هذا الإنزيم بمهمَّةٍ محدَّدة وهي استهداف أضعف نقطةٍ في المضادِّ الحيويِّ؛ لإبطال مفعوله.

أين العشوائيَّة والصُّدَفيَّة في هذا كلِّه؟!

موقعٍ آخر، “Scientific American” المعنيّ بتثقيف الأمريكان في القضايا العلميَّة، تجدُ فيه هذا المقال بعنوان: (لماذا يجبُ على الجميع أنْ يتعلَّموا نظريَّة التطوُّر؟)

قال لك: “التَّطوُّر يجب أن يُدَرَّس كوسيلةٍ عمليَّةٍ لفهم المقاومةِ للدواء، وسعر السَّمك…”

يتابع: “الأكثر أهميَّةً هو أنَّ ميراث داروين له علاقةٌ مباشرة بصياغةِ المجتمع للسِّياسات العامَّة، وفي بعضِ الأوقات بالطَّريقة التي نختار أن نُدير فيها حياتنا. فالاصْطياد الزائد للأسماك الكبيرة البالغة سيقلِّلُها ويؤدِّي إلى تكاثر الصَّغيرة بدلًا منها، ومن ثم إلى زيادة سعر السَّمك في السُّوق.”

إذا بقينا نصطاد السَّمك الكبير فسيَقلُّ عددُه، وتكثر الأسماك الصغيرة، هذه الحقيقة لم نكُن لنعرفها إلا إذا آمنَّا بالتطور؛ وإلا إذا سمَّينا هذه العمليَّة بالانتخاب [Selection]، هذه الحقيقة لا يعرفها سكَّانُ أطرافِ الإسكيمو وأدغال إفريقيا ممَّن لم يسمعوا يومًا بفخامته.

تقول لك (الساينتفِك أمريكان): “كثيرٌ من الأمراض الحديثة كالسَمانة والسُّكريِّ تَنْتجُ جزئيًا من عدم التَّناسُق بين جِيناتنا والبيئَةِ الَّتي تتغيَّر بسرعةٍ أكبرَ من قدرة المادَّة الوراثيَّة على التَّطوُّر، فَهْمُ عدمِ التَّناسُق هذا قد يُسَاعِد في إقناع المريض بأن يُجْرِيَ تَغْيِيراتٍ في غِذائِهِ، تَتَنَاسبُ مع عَدَمِ قدرة جِيناتِهِ على التَّأقْلم مع الكميَّات الكبيرة من الكربوهيدرات المعدَّلة، والدُّهونِ المُشبَعة من التَّناول المستمر للنجوين ألفريدو “linguine alfredo” وشبيهاتها”.

إذن، حسْب مقال (ساينتفِك أمريكان) المريض البدين المصاب بالسُّكريِّ إذا جئتَه، وقلتَ له: أتعرف ما سبب مشكلتك؟ وجبات الأفريدو والدوناتس، أو الكنافة والمنسف إن كنت عربيًّا، هذه كلُّها اسُمها: تغيُّرات بيئيَّة، والطَّفَرات العشوائيَّة في مادَّتك الوراثيَّة -وإن كانت أخرجَتْكَ من نسل حيوان- لكنَّها -للأسف- ليسَتْ بالسُّرعةِ الكافية؛ لتُنتج لك آليَّاتٍ مناسبة للتَّعامل مع هذه التَّغيُّرات البيئيَّة، فالحلّ هو في أن تُعدِّل غذاءك بما يتناسب مع مادَّتك الوراثيَّة.

إذا قلتَ له هذا الكلام فإنَّه سيقتنع؛ وَيُعدِّل في غذائه، وتنحلُّ مشكلة البدانة والسُّكريِّ، ويأتي فخامته ليلتقط معهم الصُّور بعد أن تمتَّعوا بالصِّحة والعافية؛ ونعيش في عالمٍِ سعيد.

المصدر

هل بالفعل 99% من “العلماء” يؤيدون “نظرية التطور”؟

حقائق صادمة تغير نظرتك وتوسع آفاقك بإذن الله.

هذا السؤال الذي كان يتكرر مع نشر كل حلقة: (كيف تنكر نظرية يؤيدها 99% من العلماء؟!)

تعمدت أن أؤخر إجابته لأسباب أذكرها في المقالة.

ساعدونا في النشر يا كرام، واحتسبوا الأجر في توعية شباب المسلمين.

===================================

نسمع أنَّ 97%، 98%، 99% من العلماء الغربيّين مؤيّدون لنظريَّة التطور. عبارةٌ تدَّعيها مواقعُ علميةٌ مؤيَّدةٌ للخرافة، ويكررها بعض.

(د.نضال قسّوم) لماذا 98%، 99% من العلماء في العالم أحيائيين، وغيرهم… كيميائيين، فيزيائيين، فلكيين، يقبلون بهذه النظريّة، ومقتنعون بها قناعة مطلقة؟

(د.عدنان إبراهيم) أُجريت إحصائيةٌ سنة 1995، تفيد… أنَّ زُهاء 99.85% من 100% أي تقريبا 100% إلا قليلًا… 99.85% من علماء علم طبقات الأرض، وعلماء الأحياء الأمريكيين، يؤيّدون نظريّة التطور

فهذه النسب يكررها بعض كأحد الأدلة على صحة النظرية، على اعتبار أنَّه ما دام المجتمع العلميُّ الغربيُّ -الّذي يتميز بالحرّية المطلقة، والنَّزاهة العلميّة، والحياديّة- ما دام كلّه تقريبًا مقتنعًا بالنَّظريّة، فلا بدّ من أن تكون صحيحة، تعالوا نتعرّف على بعض الحقائق الموثَّقة الَّتي ستصْدمك وتغير انطباعك تمامًا عن هذه الصورة الوردية! ثمَّ أحدّثكم بعد ذلك عن تجربتي أنا الشَّخْصية في موضوع حرية التعبير عن الموقف من التطور في الجامعة الأمريكية التي درَسْت بها.

===================================

من فيلم: “المطرودون: غير مسموح بالذكاء”. لا تكن ذكيا! عليك أن تنحني لفخامة الخرافة المقدس، لا تشر إلى أن الكون أوجد بقصدٍ وإرادةٍ، ولو خفية، وإلّا، فالمصير الذي ينتظرك الطرد من الجامعة، وربّما عدم التعيين في جامعاتٍ أخرى، ووقف دعم البحث العلمي، ووقف الترقية، والتشهير بك، والانتقاد، والهجوم عليك، والسخرية منك، ووصفك بالإرهابي الفكري. إنها محاكم تفتيشٍ تابعةٌ للخرافة، والّتي تذكر بمحاكم التفتيش الكنسية.

===================================

كنت أتساءل… علماء الكيمياء الّذين يعلمون أنَّ أكثر من (90) عنصرًا طبيعيًا مكتشفًا في هذا الوجود، رُتِبَت نيوترونات كلٍّ منها وبروتوناته في أنويةٍ محددة الحجم بدقةٍ، تجْذب الإلكترونات في مداراتٍ بالأبعاد اللازمة، وهذه العناصر تفاعلت بقوانين كيميائيةٍ دقيقةٍ، لتعطي مركباتٍ تتألف منها أجسام الكائنات، كيف يصدق هؤلاء العلماء هُراء التطور؟!

===================================

بروفيسور جيمس تور ، يتهامس مع كبار العلماء في الكيمياء، لكنهم جميعًا خائفون من التصريح بعدم القناعة بخرافة التطور في العلن أمام الناس.

===================================

مايكل كريمو “Michael Cremo” الباحث في طبقات الأرض، يحدِّثك عن حالات الإرهاب والطرد من العمل الَّتي مورست على الباحثين الّذين جاؤوا باكتشافاتٍ جيولوجيةٍ تعارض سيناريوهات وتقديرات خرافة التطور مثل الدكتورة فرجينيا ستين ماكنتير “Dr.Virginia Steen McIntyre”، التي نشرت نتائجها المعارضة تمامًا لخرافة التطور، والمؤيدة لنتائج العديد من الباحثين قبلها، فتلقت هجوما من أنصار الخرافة، وطُرِدت من جامعتها. وكتبت لمُحرِّر مجلة “كوتيرنري ريسيرش” “Quaternary Research”، تشتكي هذا الهجوم الأعمى من الباحثين الَّذين يرفضون أيَّ نتيجة تُعارِض عقيدتهم الداروينية.

===================================

بروفيسور القانون فيليب جونسون “Phillip E. Johnson” الَّذي كان ملحدًا ومن أتباع الخرافة، ثمَّ آمن بالخلق. يجيب عن سؤال: لماذا لا يُبدي أكثر العلماء رفضًا لنظرية التطور؟ فيجيب:

[(فيليب جونسون): هناك سببان لماذا لا يرفضها علماء أكثر، الأول: أنهم إذا رفضوها فسيفقدون كل مكانتهم ووجاهتهم العلمية ولن ينالوا دعما لأبحاثهم في المستقبل وإذا لم يكن هذا الأكاديمي موظفا دائما فسيتم طرده هناك نظام قاس للتحكم في التفكير مما قد يكلفك حياتك المهنية.]

===================================

أصدرت ولاية لويزيانا قرارا بأن يُدَرَّس الطلاب في المدارس، أنَّ هناك تفسيرين للحياة: نظرية التطور، والخلق، فأصدرت المحكمة العليا الأمريكية عام 1987 قرارًا يعتبر قانون لويزيانا مخالفًا للدستور الّذي ينص على حرية الاعتقاد. أي اعتبرت خرافة التطور علمًا، والخَلْقَ دينًا، وممنوعٌ تدريس الدِّين.

وفي 20/12/2005، أصدر جونز قراره المطول، الذي جاء فيه: “استنتاجنا: هو أنَّه من غير الدستوري أن يُدَرَّس التصميم الذكي بديلًا من التطور، في صفوف المدارس الحكومية”.

كما حُكم بتعويضات بأكثر من مليون دولار للآباء ومحاميهم على الأضرار التي تسبَّب بها مَن حاولوا تدريس التصميم الذَّكي، علمًا بأنَّ هؤلاء لم يكونوا مفروضين من أحد، بل انتخبهم الأهالي أنفسهم.

وكذلك الأمر في بريطانيا مثلا، إذ فُرِضَ على المدارس المستقلة أنْ تُدَرِّس خرافة التطور. هذه هي أجواء الحرية في المدارس الغربية.

=======================================

أذكر -إخواني- في عام 2001 عندما كنت أدرس دكتوراه علم الأدوية الجزيئي في هيوستن بأمريكا كان أحد المساقات بعنوان: “Biochemical Pharmacology” [علم الصيدلة الكيميائية الحيوية]. وفيه تركيزٌ على ما يحصل للمادة الوراثية من تفاصيلٍ مبهرةٍ، رائعةٍ، جميلةٍ. فقلت في إحدى المحاضرات للدكتور والطلاب: لا أتصور كيف يمكن لغبي أن يقتنع بأنَّ هذا كلَّه جاء بالصُّدفة؟! فانفعل دكتور المادة، ودار بيني وبينه نقاش حاد، ثمَّ في الاستراحة، أخذني جانبًا وقال لي: إياد، أنا لا أتصور أن تعود إلى الأردن، ولا تُدَرِّس نظرية التطور! إن كنت لا تؤمن بها، فأنت خطير على المجتمع العلمي You are dangerous to the scientific community.

المصدر

لماذا تتعارض “نظرية التطور” مع الإسلام ؟

مع كل مقالة نشرناها في الموضوع كان هناك من يعترض: لماذا تفترض تعارض نظرية التطور مع الإسلام؟

هذه المقالة فيها الإجابة، كما أنها تتناول فكرة (التطور الموجه) والخلق من كائن مشترك.

المقالة فيها تفصيل منهجي مهم للفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة وخطأ تسليط السينس على عالم الغيب.

الآن، وبعد أن ناقشنا الموضوع نقاشًا عِلميًّا مفصَّلًا، سنُلَخِّص لكم الجواب، وكما وعدناكم أنْ تكون هذه الحلقات منهجيَّةً تُرْسِي قواعد للتَّفكير، فإنَّ جوابنا في هذه الحلقة وما يليها سيتضمَّن كثيرًا من هذه القواعد -بإذن الله-. بعض كلامنا اليوم مختصرٌ، أَشبَهُ بالعناوين ونُفصِّله ونَذْكر الأدلَّة عليه في الحلقات التَّالية.

مهمٌّ جدًّا في البداية أن نعرف: عم نتكلَّم تحديدًا؛ لأنَّه عندما يُقال (نظريَّة التَّطوُّر) فقد أعني شيئًا، وفي بالك شيءٌ آخر، (نظريَّة التَّطوُّر) لا تعني ببساطة تحدُّر الكائنات من سلفٍ مشتَرَكٍ؛ بل تحدُّرها من هذا السلف المشتَرَك بمجموع الصُّدَف؛ بلا قصدٍ من أحدٍ، ودون حاجةٍ إلى خالقٍ عليمٍ قديرٍ، هذا هو القدْرُ المشترَك بين النَّظريَّة في شكلها الأوَّليِّ الذي أنتجه داروين “Darwin” وكلِّ التَّعديلات التي أُجرِيت عليها بعد ذلك إلى يومنا هذا، كما بيَّنَّا بالتَّفصيل في حلقة: (عَبَدَةُ الميكروبات).

الشَّكل الأكثر انتشارًا من هذه النَّظريَّة هو القائل بأنَّ هذا التَّحدُّر من سلفٍ مشتركٍ كان بالتَّغيُّرات العشوائيَّة والانتخاب الأعمى.

وللاختصار: إذا قُلنا (نظريَّة التَّطوُّر) في هذه الحلقة، فالمقصود بها هذا الشَّكل الأكثر انتشارًا، وهناك من أتباع النَّظريَّة من ينفي عشوائيَّة التَّغيُّرات أو عَماية الانتخاب، ومع ذلك يُصرُّ على أن (لا خالق ولا قصد) وكلُّهم في ذلك يريدون الانسجام مع أُسُسِهم المادِّيَّة في تفسير الكون والحياة، ورأينا في حلقة: (المخطوف) كيف أنَّهم لم يستطيعوا الانسجام؛ بل اضطرُّوا للقول بغيبيَّاتٍ غبيَّةٍ عِوَضًا عن الغيب الحقِّ، عن حقيقة أنه لا بُدَّ من خالقٍ.

هذا هو المعنى الاصطلاحيُّ لـ(نظريَّة التَّطوُّر): كائناتٌ بلا خالق، وهذه هي التي قُلنا مِرارًا إنَّها خرافة، أسخفُ وأغبى فكرةٍ في التَّاريخ، وهذه التي بيَّنَّا في الـ(24) حلقةً الماضية كَمَّ المغالطات المنطقيَّة والخداع الذي مُورِسَ لإلباسها لباس العِلْم، فليست مشكلتنا مع (نظريَّة التَّطوُّر) أنَّها تنفي الخلْق المستقلَّ للكائنات كما يظنُّ بعض؛ بل مشكلتنا معها أنَّها بهذا التَّعريف تغتال العقل وتكرِّس الاستدلالات العوجاء وتُزيِّف العِلْم.

=======================================================

ماذا إذا حاولنا أن نُوفِّق بين الخرافة -بصُدْفيَّتها ولا قصْدِيَّتِها- والإيمان بالخالق، بأن نفترض وجود دورٍ -ما- للخالق في نشأة الكون ونشأة الحياة وتنوُّعها لكن مع الإبقاء على العشوائيَّة والعَمَاية كأركانٍ للنَّظريَّة؟

فالجواب: أنَّ هذه محاولةٌ للتَّوفيق بين أسخف فكرةٍ في التَّاريخ وأكبر حقيقةٍ في الوجود، محاولةٌ للتوفيق بين الماديَّة -التي تريد استثناء الخالق تحديدًا- والمنهجِ الذي يقوم على الإقرار بأنَّه لا بُدَّ من خالق، وسنبيِّن أنَّ أيَّة محاولة لتطعيم شجرة (داروين) بشجرة الإيمان بالخالق ستنتِج ثمارًا مشوَّهةً للغاية، منها الإلحاد في أسماء الله وصفاته، أي تحريفها عن أصلها، مما يؤدِّي إلى الشَّكِّ في القرآن وإلى الكُفْر كنتيجةٍ نهائيَّةٍ، كذلك سنبيِّن أنَّ أصحاب هذا الخلْط بين العشوائيَّة والصُدَفِيَّة؛ ووجودِ دورٍ ما للخالق يَجْترُّون خطوات (داروين) التي استطاع من خلالها اغتيال العقل وتمرير خرافته بالتَّدريج.

=======================================================

البعض يقول: أهذه مشكلتك الكبرى مع (نظريَّة التَّطوُّر)؟ العشوائيَّة والصُدَفيَّة وأنْ لا خالق؟ لا بأس ، نحن متُّفقون معك، أي ليس عندك مشكلةٌ في (التَّطوُّر المُوَجَّه)؟

– ماذا تقصدون بـ(التَّطوُّر المُوَجَّه)؟

أن يكون الله طوَّر الكائنات من أصلٍ مُشتَركٍ عن قصدٍ وإرادةٍ دون عشوائيَّةٍ ولا صُدَفيَّةٍ، هذا -إخواني- لمْ يَعُد تطوُّرًا ولا علاقة له بنظريَّة التَّطوُّر، التي اتَّفق أصحابها على نفي فعل الخالق فيها وعلى أنَّه: لا وجُوْدُ الكائِنَاتِ بهذا التَّنوُّعِ مقصودٌ، ولا تكامُلُها مقصودٌ، ولا أعضاؤها مقصودةٌ؛ بل صُدَفٌ في صُدَفٍ، وهي تقوم على عشوائيَّة التَّغيُّرات، وعَمَاية الانتخاب، وتدَّعي أخطاء في التَّصميم نتيجة انعدام القَصْد.

=======================================================

نظريَّة التَّطوُّر تقول: لا، لا حاجة إلى خالق فأغلقَت باب الغيب بذلك، وراحت تطلب تفسيراتٍ للحياة من عالَم الشَّهادة وقد دلَّلْنا في حلقات السِّلسلة -من بَدئِها حتَّى الآن- على بطلان هذه التفسيرات: فطرةً وعقلًا وعلمًا تجريبيًا.

النَّظريَّة التَزَمَت بعالَم الشَّهادة تفسيرًا وحيدًا فألزمناها به، ونقضناها بشواهده وأدواته وبيَّنَّا أنَّ العلم التجريبي الذي ادَّعته بريءٌ منها، بل يهدمها من قواعدها، ثمَّ دلَّلْنا على أنَّ النَّظريَّة اضطرَّت -بدلًا من فتح باب الغيب الحقيقيِّ- إلى افتراض غيبيَّاتٍ بيَّنَّا غباوتها، أمَّا عند قولنا بعدم اختصاص العلم التجريبي في بيان كيفيَّة الخلْق الأوَّل فإنَّا أجَبْنا بالفطرة والعقل والعلم التجريبي عن السُّؤال الأوَّل أنْ: نعم، لا بدَّ من خالقٍ، دلَّتنا مصادر المعرفة هذه كلُّها -بما فيها العلم التجريبي- على أنَّه خالقٌ مُطلَق القدرة، مُطلَق الإرادة، وعلى أنَّ أفعاله لا تَخضَع للقوانين المادِّيَّة، بل القوانين ما هي إلا أوصافٌ لبعض أفعاله التي نراها في عالَم الشَّهادة، أمَّا ما يكون في الغيب فليس مجالَ العلم التجريبي، بل مجاله عالَمُ الشَّهادة والسُّنن الكونيَّة التي نَظَمَ الخالق الكون والحياة عليها.

المصدر

كل الطرق تؤدي إلى الخرافة – إعادة تدوير نظرية التطور

لا زال الحديث متصلا عن أساليب التضليل.. مع خرافة التطور مثالا

سنحاصر حصون الخرافة الخمسة ونتعامل معها حصنا حصنا…وسنرى في ذلك مفاجآت كثيرة..

في الحلقة أيضا لفتات للذين يحاولون التوفيق بين “التطور” والإسلام، وكذلك للذين يقولون: (أي إسلام تريدوننا أن نتبع؟ الحل في ترك الدين جملةً واتباع “العلم”)

تابعوها وتابعوا حزمة الحلقات هذه إخواني ففيها بإذن الله فائدة كبيرة.

كتاب الله تعالى -أصل العلوم النّافعة- أعلن نبوءاتٍ وخفايا جاء الزّمان بتصْديقها، وأعلن معارِضاتٍ، إن ثبتت فهو ليس من عند اللّه، وتحدّى النّاس أن يثبتوا هذه المعارِضات: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [القرآن 2:23] ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [القرآن 4:82]

فأثبِتوا وجود تعارضٍ في القرآن أو ائتوا بسورةٍ من مثله، اختبارٌ يمكن لأحدٍ -أيّ أحدٍ- أن يجرّبه، وغيره الكثير من الاختبارات الّتي وضعها القرآن.

أمّا في عالم الخُرافاتِ، فالتّنبّؤات تسقط أولًا بأول، كما رأينا في حلقة (خنفشار داروين) عن تنبّؤِه بكائناتٍ لا حصر لها، وكما رأينا في تنبّؤ أتباعه عن وجود طفراتٍ نافعةٍ، وعن إمكانية صنع الحياة مخبريًا من الجمادات، مما جعل أتباعه يفترون التنبّؤات إلى أطرافِ الكون، بل وخارجِه، كما رأينا، حتّى لا يمكن اختبارها.

بقيَ السؤالُ الثّاني… هل هناك معارِضاتٌ إذا اكتشفناها، فسيعترف أتباع النّظريّة بأنّها باطلة؟ لأنَّ المعارِضاتِ لا تُبطل جزئياتٍ

من الّنظريّة فحسب، بل تَهْدم أركانها، وتُفْرغها من محتواها.

خيالات داروين الّتي تحولت إلى نظريّةٍ: كائنٌ بدائيّ تطوّر عبر تغيّراتٍ عشوائيّةٍ، وانتخابٍ طبيعيٍّ أعمى، بشكلٍ تدريجيٍ، بطيء، مرورًا بكائناتٍ وسيطةٍ لا حصر لها، لينتج عندنا ما نرى من كائناتٍ حيّةٍ.

احفظوا هذه الرّكائزَ الخمسة -إخواني- وهي نفسها ركائز الداروينية الحديثة، أو النّظريّة التّركيبيّة الحديثة في شكلها الأوّل.

تعالوا نبدأْ بالحصن الخامس، إلى أن نصل إلى عُقر دار النّظريّة: كائناتٌ وسيطةٌ لا حَصر لها.

دعونا من القصصِ البائسةِ لتزوير وسوء تفسير الحفريات. أتباع داروين يتّفقون معنا في المحصلة على أنّهم لم يجدوا كائناتٍ انتقاليّةٍ لا حصر لها في طبقات الأرض.

حتّى أن التّطوريّ ستيفن جولد “Stephen Gould” -من كبار علماء النّظريّة- نصّ في كتابه (ذا بانداز ثامب) The Panda’s Thumb-بعد مرور 120 عامًا من النّظريّة- على أنّ تاريخ معظم الحفريّات يتميّز بخاصيّتين،

ثانيهما هي الظّهور المفاجئ، بحيث أنَّه في المنطقة الواحدة، فإن النّوع من الكائنات لا يظهر بشكل تدريجيٍّ بالتحول عن كائناتٍ سابقةٍ له، بل يظهر فجأةً، مكتملَ التّكوين. وحاول غولد تقديم حلولٍ كما سنرى.

وشهاداتٌ مثلها للتّطوريّ بروفيسور التّاريخ الطّبيعي كيث تومسون “Keith Thompson” وروبرت كارول “Robert Carroll”، وغيرهما… كثيرٌ من الاعترافات التّي لا يذكرها مروّجو الخرافة شَعْبَوِيًّا بين الناس.

إذن، سقط الحصن الخامس، حصنُ كائناتٍ وسيطةٍ لا حصر لها. هل اقتنعتم ببطلان النّظريّة إذن؟

قالوا: بل سنجري تعديلًا على النّظريّة لتستوعبَ حقيقةَ سقوطِ نبوءةِ كائنات وسيطة لا حصر لها،

هذا التّعديل يقول أنَّ التّطور يحصل بسرعةٍ كبيرةٍ أحيانًا ريثما ينتج أنواعًا جديدةً من الكائنات، ثمّ هذه الأنواع تبقى دون تطوّر لملايين السّنين، ولذلك فالسّجل الأحفوري لم يلحق أن يحتفظ بعيّناتٍ من الكائنات الانتقاليّة التّي نتجت خلال التّطوّر السّريع،

وقد سمّينا هذه النّظريّة المعدّلة على مستوى عوائل الكائنات بالتّطوّر الكمّي Quantum Evolution، وعلى مستوى أنواعِ الكائنات لدينا تعديلٌ آخر، سميناه التّوازن المتّقطّعPunctuated Equilibrium، ويُسمّى أيضا التّطوّر المتقطّعPunctuated Evolution،

فبالعكس تمامًا، ظهورِ أنواعِ الكائناتِ فجأةً دون كائناتٍ انتقاليّة هو أحدُ أركانِ نظريّتنا المعدّلة!

أرأيتَ أنّك لا تفهم نظرّيتنا وتريد أن تناقشها يا جاهل؟!

لكن لحظة، تطوّرٌ سريع؟!

إذاً أنتم بأنفسكم هدمتم حصنكم الرّابع، حصن البطء، الذّي صدّعتم رؤوسنا به. كلما قلنا لكم: لماذا لم يحصل تطوّرٌ للكائنات في تاريخ البشر المعروف؟ تقولون: التّطوّر بطيء جدًا… يأخذ مئات آلاف، ملايين السنين… ففهِّمُونا، في المحصّلة تطورُكم هذا سريعٌ جدًا أم بطيءٌ جدًا؟

قالوا: أحيانًا يكون سريعًا، ونسمّيه التطور السريع “Tachytelic”، وأحيانًا بطيئًا ونسمّيه التطور البطيء “Bradytelic”.

نحن لا نسألكم عن الأسماء التي اخترعتموها، ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ نحن نسألكم عن الحقائق.

هل في عالم التّطوّر أيضًا واسِطات؟ لدينا أحافير لكائناتٍ تُقدّرون أنتم أعمارها بملايين، ومئات ملايين السنين، ومع ذلك، فهي هي، كما هي، إلى يومنا هذا، لماذا لم تتطوّر؟

المصدر

هولندا و البندورة فيتامين النجاح – خلط الحقائق بخرافة نظرية التطور

ما يمارِسه مروِّجو خرافة التَّطوُّر بمهارة، الخلطُ بين المشاهدات والافتراض بين الحقائق والخرافة، ساعاتٌ من الشَّرح المستفيض عن تفاصيل الأحياء والاكتشافات والأبحاث، ثُمَّ ذِكْرُ الخرافة في الثَّنايا ليَسهُلَ بلعُها، ليبدو وكأنَّ الحقائق المذكورة وخرافةَ التَّطوُّر جزءان لا يتجزءان، حزمة، لا بدَّ من أخذهما سويَّةً،

فتقولُ: “هذا الشَّخصُ كَلامُه علمي، ويتكلَّم بتجاربٍ وبملاحظاتٍ دقيقة” لكن حقيقةُ الأمر أنه حشر كذبةً أو سوء تفسير، وظَّف به كلَّ هذه المشاهدات في الاتِّجاه الخاطئ تمامًا. بغضِّ النَّظر عن إذا كان مقتنعًا بهذه الكذبة أم غير مقتنِع،

لعلك تُناقِش أَحدَهم فيقول لك: ماذا تعرفُ عن طائر البرقش؟ ماذا تعرفُ عن سمك الجابي؟ عن السَّحالي الإيطاليَّة؟ عن مقاومة البكتيريا للمضادَّات؟ وعن البكتيريا الهاضمة للسَّيْترات؟

تَسألُه: ما لها هذه الأمثلة؟

فيقول لك: هذه كلُّها حَصَل لها تطوُّر صغرويٌّ “micro evolution” نراه أمام أعيننا، طفرات عشوائيَّة في المادَّة الوراثيَّة أنتجت بالصُّدفة صفاتٍ نافعة للبرقش، سمك الجابي، السَّحالي، البكتيريا، فأصبحت أكثر قدرة على التَّكيُّف في بيئةٍ ما، فحَصَل لها انتخابٌ طبيعيٌ

وهذا كلُّه في زمن محدود، ومن ثم فمع مئات ملايين السنين يمكن أن تكون البكتيريا قد تطوَّرت إلى كل أنواع الكائنات الحيَّة بالطَّفرات العشوائيَّة أيضًا،

أي إذا أثبتنا حدوث التَّطوُّر الصُّغروي “micro evolution” في بضع سنين، فيمكننا تصوُّر أن يحدث التَّطوُّر الكبرويُّ “macro evolution”، الذي يَنْتُج عنه أنواعٌ مختلفةٌ من الكائنات في مئات ملايين السنين.

ويُفيض صاحبنا في شَرْحِ التَّغيُّرات التي حَصَلت في تراكيب هذه الكائنات ثُمَّ يقول لك: لا تعرفُ عن هذه الأشياء وتأتي لتُنَاقش في التَّطوُّر يا جاهل!

حتى تُحِسَّ أنَّك تتضاءل أمام هذا العالِم الذي يعرف أكثر منك بكثير، وأنَّه بنى قناعاته على علم. وعند التَّفحُّص العلمي تُفَاجَأ أنَّه -وببساطة- يكذبُ أو مكذوبٌ عليه، فكلُّ ما حشده من أمثلةٍ ليُوهِمَك أنَّها أمثلة على طفراتٍ عشوائيَّة وافقت البيئة بالصُّدفة، إنَّما هو في الحقيقة -حسب الأبحاث العلميّة- أمثلةٌ على التَّكيُّفِ بآلياتٍ دقيقة التَّصميم لا مكان فيها للعشوائيَّة أبدًا؛

فتجد في هذه الكائنات وفي مادَّتها الوراثيَّة وطريقة قراءتها القدرةَ على تغيير خصائصها؛ لتتأقلم مع التَّغيُّرات البيئيَّة بطريقةٍ دالةٍ على أنَّها وبيئتَها من تصميم عليمٍ، قديرٍ، حكيمٍ، قيومٍ على خَلْقِه، كما رأينا بوضوحٍ -إخواني- في حلقة البكتيريا الهاضمة للسَّيْترات، وكما سنشرح أكثر لاحقًا -بإذن الله- عن الأمثلة الأخرى التي يذكرونها.

في حين يدّعي متَّبع الخرافة أنَّها طفراتٌ عشوائيَّة، أي أنه بَهَرَكَ بكثرة الأمثلة، وكذبَ في محلِّ الشَّاهد تحديدًا، وحقيقةُ الأمر أنَّ كلَّ ما ذكره من أمثلة حجةٌ لك لا عليك.

خطأٌ كبيرٌ يقع فيه حتَّى بعضُ المعارضين للخرافة أنَّهم يقولون: “نحن لا نُنْكر التَّطوُّر الصُّغروي، لكنَّنا نُنْكر التَّطوُّر الكبروي، الذي يحوِّل كائنًا إلى نوعٍ آخر من الكائنات، فالبكتيريا تطوَّرت، لكنَّها بقيت بكتيريا، وعصافير داروين “Darwin” تطوَّرت، لكنَّها بقيت عصافير”

لا إخواني، لا، التَّطوُّر هو تغيراتٌ عشوائيَّة وانتخابٌ طبيعيٌّ ترقيعيٌّ أعمىً، هكذا يُعرِّفونه، وهذه هي دلالة المصطلَح عند أصحابه، فعندما توافقهم على ما يسمُّونه التَّطورَ الصُّغرويَّ، أنت تقرُّ بأنَّ العشوائيَّة تُكْسِبُ الكائنات خصائصَ نافعة، وهو أمر باطلٌ عقلًا وعِلْمًا،

وكلُّ الأمثلة التي يوردونها هي على تكيُّفاتٍ بديعةٍ دقيقةٍ لا مكان فيها للعشوائيَّة أبدًا، فليست ماكرو ولا مايكرو ولا نانو ولا فيمتو تطوُّر.

الخلط بين الحقِّ والباطل طريقةٌ قديمةٌ أنكرها الله -تعالى- على أهل الكتاب، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [القرآن 3: 71]. وهكذا هؤلاء، يخلِطون الحقائق بباطلِ الخرافة ويكتمون الحقائق التي تهدم خرافتهم.

بالإضافة إلى ذلك يتمُّ خلط المشاهدات الكونية الدَّالَّةِ على الله بالشَّهوات، فلا تكاد ترى فيلمًا وثائقيًّا إلا ويُحشَر فيه مشاهد تستدعي الغرائزَ وتَحْرِف العقل، وكأنَّه من وحي الشَّيطان إلى أوليائِه؛ حتَّى لا يتسرَّب الإيمان إلى القلوب عند مشاهدة بدائع الخلق، ولا يتحرَّكَ اللِّسان بقول:﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [القرآن 3: 191] بل تطغى الشَّهوة وتَسْتَحكِم الغفلة باستحضارِ هذه المشاهد.

إذن أوَّلُ أسلوبٍ تكلَّمنا عنه -إخواني- هو الخلط بين الحقيقة والخرافة، تستمع إلى كلام علمي ممتع تُحِسُّ أنَّه أضاف إلى حصيلتك المعرفيَّة الكثير حقًّا، فتنبهر ثُمَّ بلمسة سحرية يُوَظَّفُ هذا الكلام لترويج الخرافة.

عوِّد نفسك -أخي- أن تَفْرِز بين المعلومة والاستنتاج، هذا الذي تُحَدِّثُني عنه -يا من تخاطبني-، هل هو معلومةٌ واقعية أم استنتاجٌ من عندك؟ إن كان معلومة فأعطني الدَّليل عليها، وإن كان استنتاجًا فعَلَيَّ أن أتحقَّق من صحَّة استنتاجك؛ لأن صحَّة المعلومة لا تعني

بالضَّرورة صحَّة الاستنتاج. كن ناقدًا عميقًا وفرِّق بين الحقيقة والخرافة،

المصدر

أحرجتك – تعييب دعاة خرافة التطور لخلق الله وكيف نجيبهم

أتباعِ الخُرافةِ، يتكلَّمونَ عن ما يسمُّونَهُ: أخطاءَ في تصميمِ الإنسانِ!

كشَبَكِيَّةِ العينِ، وقناةِ السَّائلِ المَنَوِيِّ، أو عمَّا يَعتَبِرونهُ أعضاءَ زائدةً: كالزَّائِدةِ الدُّوديةِ، وعِظامِ العُصْعُصِ، وغيرها..

كُلُّها أدلَّةٌ بديعةٌ على خلقِ اللهِ المُحكَمِ، يُحوِّلُها هؤلاءِ -بجهلٍ حينًا وبتجاهلٍ أحيانًا إلى أدلَّةٍ على الصُّدَفِيَّةِ والعشوائيَّةِ.

هل سنُبَيِّنُ أنَّ هذهِ كلُّها أمثلةُ خَلْقٍ حكيمٍ بالفعلِ؟

نعم.

لكنْ قبلَ ذلكَ، ماذا -أخِي وأختِي- لو لمْ تَحضُر هذهِ الحلقةَ؟

وماذا لو لمْ تعرفِ الجوابَ عنِ الأمثلةِ الَّتي يَذْكرونَها؟

هل يكونُ أتباعُ الخرافةِ قدْ أحرجوكَ إلى أن تأتيَ بالجوابِ؟

هل أنتَ المُطالَبُ بالإجابةِ عن هذهِ الأمثلةِ؟

أم مُؤيِّدُ الخرافةِ هوَ المُطالَبُ بأن يفسِّرَ الإتْقانَ والإحْكامَ في الكونِ وكائناتِهِ تفسيرًا مُقنِعًا؟

طريقةُ أتباعِ الخرافةِ هذهِ تُسمَّى في علمِ المُغالطاتِ المنطقيَّةِ: (تحويلَ عبءِ الإثبات)؛ الخصمُ يقولُ كلامًا سخيفًا يَضعُهُ في وضعٍ مُحرِجٍ لأنَّهُ يُناقضُ الحقائقَ الواضحةَ لكلِّ أحدٍ، فإذا بهِ يثيرُ معركةً جانبيَّةً بمطالبتِكَ بالإجابةِ عن أمرٍ فرعيٍّ، فيُحَوِّلُ الأضواءَ عنهُ وتتوجَّهُ الأنظارُ إليكَ بانتظارِ أن تَرُدَّ على سؤالِهِ!

معَ أنَّ حقيقةَ الأمرِ أنَّكَ إنْ رددْتَ أمْ لمْ ترُدَّ، فإنَّ ذلكَ لا يغيِّرُ شيئًا من حقيقةِ أنَّ كلامَهُ سخيفٌ، وعدمُ امتلاكِكَ لجوابٍ عن سؤالِهِ لا يُعطي كلامَهُ هو أيَّةَ قيمةٍ.

لذلكَ أخي، فليسَ صحيحًا عندما يُواجِهُكَ أتباعُ الخرافةِ بمثلِ هذهِ الأسئلةِ على سبيلِ التَّحدِّي أن تبحثَ حثيثًا عن وظيفةٍ لهذهِ الأعضاءِ كأنَّكَ مُلزَمٌ بالجوابِ وإلَّا أفحمَكَ!

بلْ قُلْ لهم: اشْرَحوا لي بِدايةً عملَ الجهازِ الَّذي تتحدَّثونَ عن هذهِ الجزئيَّةِ فيهِ، مثلًا: حينَ يقولُ لكَ عرَّابُو الخرافةِ: “ترتيبُ خلايا شبكيَّةِ العينِ خطأٌ، الخلايا الحسَّاسةُ للضَّوءِ هيَ المخروطيَّةُ والعَصَوِيَّةُ، فكانَ يجبُ أن تكونَ إلى الأمامِ ليقعَ الضَّوءُ عليها مباشرةً، لكنَّها في الواقعِ إلى الخلفِ، وعلى الضَّوءِ أن يمُرَّ بخلايا لا علاقةَ لها باستقبالهِ، وهذا يدلُّ على أنَّ العينَ جاءتْ بالعشوائيَّةِ والصُّدَفِ”..

مُكرِّرينَ بذلكَ كالببَّغاواتِ ما قالَهُ ريتشارد دوكنز “Richard Dawkins” في كِتابهِ (صانعُ السَّاعاتِ الأعمى – طبعةُ عامِ 2015)، والَّذي اسْتهزأَ فيهِ بهذا التَّركيبِ للشَّبكيَّةِ وقالَ: “إنَّ أيَّ مهندسٍ سيضحكُ، ويشعرُ بالاستفزازِ من هكذا تركيبٍ معكوسٍ”.

حينَ تسمعُ هذا الكلامَ أخي فقبلَ أنْ تضيعَ الصُّورةُ الكلِّيَّةُ في التَّفاصيلِ، وقبلَ أن تكلِّفَ نفسكَ بالبحثِ عن جوابٍ، قُلْ لهم: اشْرحوا لي بدايةً عملَ الجهازِ الإبصاريِّ الَّذي تعْترِضونَ على جزئيَّةٍ فيه (ترتيبِ شبكيَّتِهِ)، فلا شكَّ أنَّكم لم تعْترِضوا إلَّا وأنتم تعلمونَ بتفاصيلِ هذا الجهازِ الإبصاريِّ، ولذلكَ اعْتَبرتُم أنَّ هذهِ الجزئيَّةَ فيهِ زائدةٌ أو فيها خللٌ، وأنَّ الصَّحيحَ أن تكونَ على نحوٍ آخرَ معيَّنٍ..

دعهم يشرحونَ إنْ كانوا يعلمونَ!

دعهم يحدِّثونكَ عنِ العينِ، عضلاتِها الَّتي تتحكَّمُ بِعَدَسَتِها بما يناسِبُ المرئيَّاتِ القريبةِ والبعيدةِ، والتَّغذيةِ العصبيَّةِ لهذهِ العضلاتِ، نوْعَي السَّائلِ اللَّازمَيْن فيها، خلايا الشبكيَّةِ المتنوِّعةِ (العُصَيَّات والمخاريط) الَّتي يوجدُ منها في كلِّ عينٍ أكثرُ من 100 مليونِ خليَّةٍ، والَّتي عَلِقَ في ذاكِرتي من أيَّامِ دراسةِ الدُّكتوراة بحثٌ يقولُ: “إنَّ تركيبَ أحدِها أعقدُ مِن أعقدِ مصنعٍ شيَّدهُ الإنسانُ!”

دعهم يفسِّرونَ لكَ كيفَ يمكنُ للعشوائيَّةِ أن تُجمِّعَ ذرَّاتِ مركَّبِ (11-سيس ريتينال) “11-cis-retinal” بالشَّكلِ المناسبِ، بحيثُ يتغيَّرُ شكلُ هذا المركَّبِ عندَ اصطدامِ فوتوناتِ الضَّوءِ بهِ؟

ثمَّ كيفَ وضَعَتِ العشوائيَّةُ هذا المُركَّبَ بالنِّسَبِ المناسبةِ في الرودوبسين “Rhodopsin” -الصِّبغةِ الحسَّاسةِ للضَّوءِ في العينِ-؟

دَعْهُم يحدِّثونكَ عن تهيئةِ العينِ لِتلتقِطَ المجالَ المرئيَّ تحديدًا منَ الطَّيفِ الكهرومغناطيسيِّ بما مَكَّنَها من رؤيةِ الكائناتِ.

دَعْهُم يُحدِّثونكَ عنِ: الُحزَمِ العصبيَّةِ المنبعثةِ منَ الشَّبكيَّةِ، النَّقلِ العصبيِّ، مراكزِ تفسيرِ الصُّورةِ في الدِّماغِ، تخزينُ الصُّورةِ في الذَّاكرةِ، أداءِ الجهازِ الإبصاريِّ لوظيفتهِ الَّتي يحتاجُها الإنسانُ على أكملِ وجهٍ حتَّى بلغتِ العينُ منَ الحساسيةِ أنَّها تستطيعُ الاستجابةَ لفوتونٍ واحدٍ -كما تذكرُ مجلَّةُ نيتشر “Nature”-.

دعْهم يَشرحونَ إنْ كانوا يعلمونَ.. وانظر كيفَ يردُّونَ على أنفسِهم بأنفسِهم!

فإنِ انتبهوا لجهلهم وإلَّا فذَرهُم في طُغيانهم يعمَهونَ، ففي أدلَّةِ التَّصميمِ من نفسِ الأجهزةِ الَّتي ادَّعَوا فيها خللًا كفايةٌ لِمَن أرادَ الهِدايةَ.

المصدر

ذيلك الذي لا تعرف عنه الكثير! – الشبه و وحدة الأصل في خرافة نظرية التطور

  1. أخي الإنسان، إذا نبت لك “ذيل”..فماذا تفعل؟!
  2. إذا كنت عاطلا عن العمل، فهل تعلم ما الميزات التي سيقدمها لك “ذيلك” بمجرد السفر إلى الهند؟ وبدعم من “نظرية التطور”؟
  3. أليس من الممكن أن يكون كبرنا يدفعنا إلى التنكر لآبائنا الأولين؟
  4. أليس من الممكن أن يكون لك أبناء عم –لا تعلم عنهم- وأنت قاطع لرحمهم؟!
  5. أليس من الممكن أن تكون ماكل مقلب بنفسك طوال السنوات الماضية ومفكر نفسك شيئ خاص؟!
  6. هل تعلم عن أهمية شجرة تطور البوكيمون؟
  7. ما الرسالة التي يوجهها لك “-التطوريون” عن إنسانيتك؟
  8. هل آن الأوان لتعود إلى أصلك وتعتذر لآبائك الأولين؟

التَّطوُّريُّونَ يقولونَ: إنَّ هناكَ شَبَهًا بينَ الكائناتِ الحيَّةِ، وإنَّ هذا الشَّبهَ يدلُّ على أنَّ أصلَ الكائناتِ جميعًا كائنٌ تعرَّضَ لطفراتٍ، وعمليَّاتٍ عشوائيَّةٍ، وانتخابٍ طبيعيٍّ أعمى، حتَّى نتجَ عنهُ ملايينُ الأنواعِ مِن الكائناتِ الحيَّةِ،

وبالتَّالي فيمكنُ رسمُ شجرةِ التَّطوُّرِ “evolutionary tree” بناءً على التَّشابهِ الشَّكليِّ والتَّشابهِ الجيني

وطبعًا ستختلفُ التَّقديراتُ، وتخرجُ لنا مُقترحاتٌ متباينةٌ للشَّجرةِ التَّطوُّريَّةِ، تبَعًا لاختلافِ تقديرِ التَّشابهِ الشَّكليِّ والطُّرقِ المستخدمةِ في تحديدِ التَّشابهِ الجينيِّ المهمُّ، أنَّ التَّشابهَ الشَّكليَّ دليلٌ عندَ التَّطوُّريِّينَ على الاشتراكِ في الأصلِ، وكلَّما زادَ الشَّبهُ بينَ كائناتٍ معيَّنةٍ؛ دلَّ ذلكَ على أنَّها قريبةٌ مِن بعضِها في شجرةِ التَّطوُّرِ، وانحدرتْ مِن سَلَفٍ مُشتَرَكٍ قريبٍ

مثلاً هذا كتاب (Raven and Johnson) طبعة (2017)، صفحة (432) يُعَنوِن: (الأعضاءُ المتشابهةُ تقترحُ -أو تشيرُ إلى- أصلٍ مشتركٍ) وهذا كتابُ (essentials of biology) طبعة (2018) يقولُ لك: إنَّ هذهِ الكائناتِ المذكورةِ متطابقةٌ تشريحيًّا، وإنَّ هذا دليلٌ على أنَّها من أصلٍ مشتركٍ.

ومثلُ هذهِ الرسوماتُ تملأُ كتبَ الأحياء، ومحاضراتِ التَّطوُّرييِّنَ عربًا وعجمًا

التَّطوُّريُّونَ- تقولونَ أنَّ الحيواناتِ الجِرابيَّةَ انفصلتْ عن المشيميَّةِ قبلَ (١٦٠) مليونَ سنةٍ وبالتَّالي فهي بعيدةُ القرابةِ عن الحيواناتِ المشيميَِّة،

أي أنَّ الجَدُّ المشتركُ قديمٌ جدًا وانقطعتْ أواصرُ القرابةِ، وعملتِ الطَّفراتُ العشوائيةُ والانتخابُ الطَّبيعيُّ الأعمى على كلٍّ من الخطَّينِ بحيثُ تكوَّنَت لدينا كائناتٌ جِرابيَّةٌ تختلفُ في مورِّثاتِها، وحَمْلِها بشكلٍ كبيرٍ عن المشيميَّةِ

إذن، فالقرابةُ بعيدةٌ جدًا، ويُفترضُ ألَّا يكونَ هناك شَبهٌ بين الحيواناتِ الجِرابيَّةِ والمشيميَّةِ

لكنَّ في كتاب Biology يثبتُ غير ذلكَ تمامًا، فهو يُثبتُ تشابهًا كبيرًا بين كائناتٍ مِن المجموعتينِ؛ فالسِّنجابُ المشيميُّ يشبه الِجرابيَّ جدًا، والذئبُ المشيميُّ يشبِهُ الجرابيَّ، ونفسُ الشَّيءِ نراهُ في الفأرِ، والخُلد، والونباتِ، وآكل النَّملِ، واللَّيمورِ، وغيرِها وغيرِها

حسبَ قاعدتكِم: فإنَّ الشَّبهَ يعني وَحْدةَ الأصلِ، ويعني شدَّةَ القرابةِ، بينما نجدُ هذهِ الحيواناتِ لا قرابةَ تذكرُ بينها -حسبَ شجرتِكُم التَّطوُّرِيَّةِ- وهي مع ذلك متشابهةٌ جدًا في شكلِها

أنتم اعتبرتمونا مُغفَّلينَ؛ لأنَّنا لم نلاحظُ الشَّبهَ الكبيرَ الذي يُشاركهُ السَّنجابُ المشيميُّ مع الحوتِ، والفيلِ، والغزالِ، وكلِّ الثَّدييَّاتِ المشيميَّةِ المعروفةِ والقريبةِ من بعضها -حسبَ الشَّجرةِ التَّطوُّريَّةِ-

أيُّهما أوضُح: هذا الشَّبهُ أم تشابُه السِّنجابُ المشيميِّ مع السِّنجابِ الِجرابيِّ؟!

فكيف تعتبرون الشَّبهَ بعد ذلك دليلًا؟! ونحن نرى أنَّ الحيواناتِ المتشابهة جدًا بعيدةُ القرابةِ -حسبَ شجرتكِم المزعومةِ- بينما المتقاربةُ جدًا على الشَّجرةِ مختلفةُ الشَّكلِ جدًا، إذا قُورِنَتْ بتشابهِ الجرابيِّ مع المشيميِّ

نريدُ جوابًا منكم -معشرَ التَّطوريِّين- عن هذا السُّؤالِ فإما أنْ تقولوا: بلِ السَّنجابُ المشيميُّ -هو بالفعل- أشبهُ بالحوتِ من السِّنجابِ الجِرابيِّ، وحينئذٍ فهنيئًا لكم حقائِقُكم العلميَّةُ ودقَّةُ ملاحظاتِكم! وإما أنْ تعترفوا بأنَّ الشَّبهَ لا يعني وحدةَ الأصلِ، وبأنَّ الأشجار التَّطوُريَّةِ -هي بالفعلِ- ليست أكثرَ قيمةً مِن شجرةِ تطوُّرِ (البوكيمون)

وحينئذٍ نشكركم على الاعترافِ، وننتقلُ إلى نكتةٍ أُخرى مِن نِكاتِكم لنُنَاقشَها ليسَ أمامكم إلا أحدُ الجوابينِ

ماذا إنْ نبتَ لديك نتوءٌ أسفلَ ظهرِكَ، وطالَ، وأصبحَ يُشبهُ الذَّيلَ؟ ماذا تفعل؟

بدايةُ القصَّةِ هو بطلُ الاشتباهاتِ (داروين) في كتابهِ (أصلُ الإنسانِ) سمَّى هذا النُّتوءَ “Rudiment of Tail” بقايا ذيلٍ، فوقعت الفكرةُ موقعها مِن أذيالِ داروين

قالوا هو ظهورُ صفاتٍ -في الإنسانِ مثلاً- بعد أنْ كانت مطمورةً مُصْمَتةً لأجيالٍ، تخلَّصَ الإنسانُ من الذَّيلِ عبر عمليةِ التَّطورِ،

لكنَّهُ عادَ فظهرَ في بعضِ أفرادهِ

كلَّف بعضُ الباحثينَ أنفُسهم ألَّا يقِفوا عندَ المظهِر الخارجيِّ، وأنْ يتجاوزوا الطَّبقةِ الجلديَّةِ قليلًا،

فتتابعتِ المنشوراتُ العلميَّةُ، ولباحثينَ بعضُهم من أنصارِ الخرافةِ -كما في مجموعةِ نيتشر “Nature”- لتؤكِّدَ أنَّ ما يُسمَّى بـ(الذَّيل الحقيقيِّ) هو في الواقعِ نُمُوَّ وزوائدُ من نسيجٍ دُهنيٍّ وأليافٍ لا علاقةَ لها بالذَّيلِ الحيوانيِّ،، ولا فيها عظامٌ، ولا غضاريفٌ بل، وقد تظهرُ هذه الزوائد في أماكنَ عديدةٍ عند الرقبِة -مثلًا- كما في هذهِ الورقِة لنيتشر “nature”

المصدر

الغشاش – التشابه الجينومي بنسبة ٩٩٪؜ مع الشامبنزي حسب خرافة نظرية التطور

موضوعها قصة التشابه المزعوم بين جينات الشمبانزي والإنسان بنسبة 99% لإثبات خرافة نظرية التطور، وهذه القصة التي يطنطن بها أتباع خرافة التطور كثيرا.

إذا وقف أستاذ أو دكتور أمام طلابه يوما وقال لهم: من أدلة التطور أن المادة الوراثية للإنسان تتشابه مع الشمبانزي Chimpanzee بنسبة 99%..

أن يضحك الطلاب (غصبن عنهم) لا شعورياً..

فيستغرب الدكتور ويضطر يراجع معلوماته لئلا يقف في مثل هذا الموقف المحرج مرة أخرى! ولعل الله يهديه مع ذلك ليحترم علمه ولا يكرر ما يقوله غيره دون تحقق!

بذلنا جهداً كبيراً في هذا برنامج الغوص في الأبحاث العلمية وتبسيطها، وتبسيط مبادئ المادة الوراثية لتكون في متناول الجميع.

فكما تعهدنا لكم في حلقة (أجِّرني عقلك !)، لن نكون مقلدين لأحد، بل نبسط الحقيقة ونقدمها لكم لتحكموا بفِطَركم وعقولكم بعيداً عن

تزوير وانبهار المؤجرين عقولهم لأسيادهم الغربيين.

اللهم تقبل منا وانفع بهذه الحلقة نفعاً عظيماً، واجعلها سبباً في انجلاء الشبهات عن المضلَّلين.

ولا تنسوا إخوانكم الذين شاركوا في إنتاج الحلقة و برنامج السلسة من دعائكم.

وصلَ أتباعُ الخرافةِ إلى أنَّ نِسبةَ التَّطابقِ بينَ المادَّةِ الوِراثيَّةِ لدى الإنسانِ والشَّمبانْزِي هيَ 98.8%، في واحدةٍ من أكثَرِ نِكاتِهم فُكاهَةً وانتشارًا.

كيفَ وصلوا إلى هذهِ النِّسبةِ: 98.8%؟

بما أنَّ الإنسانَ والشَّمبانْزِي تطوَّرَا عن أصلٍ مُشتركٍ، فبإمكانِنا مقارنةُ مادَّتِهما الوراثيَّةِ بطُرُقٍ تَفترِضُ أنَّهما من أصلٍ مُشترَكٍ. ومعَ إضافةِ بعضِ الفبركاتِ أيضًا، نَصِلُ إلى أنَّ نسبةَ التَّشابُهِ بينَهما 98.8%، وبما أنَّ النِّسبةَ عاليةٌ بهذا الشَّكلِ، فلا بُدَّ أنَّهما تطوَّرا عن أصلٍ مُشترَكٍ.

ما تقولُه الأبحاثُ إذنْ: جينومُ الإنسانِ والشَّمبانْزِي مُتشابهانِ إذا اعتبرناهُما تطوَّرا منْ أصلٍ مُشتركٍ. لكن الدّعاية الإعلاميّة للخُرافةِ حرَّفتْ نتيجةَ الأبحاثِ لتُصبحَ: جينومُ الإنسانِ والشَّمبانزي مُتشابهانِ، وبالتَّالي فقدْ تطوَّرا من أصلٍ مُشترَكٍ.

بواحدةٍ من أشهرِ دراساتِهم، وهيَ المنشورة عامَ 2002 في المجلَّةِ الأميركيَّةِ لعلمِ الجيناتِ البشريِّ. ما الَّذي جرى في هذهِ الدِّراسةِ؟ أُخذت عيِّنةٍ جُزئيَّةٍ من جينومِ الشمبانزي: 3 ملايينَ زوجًا منَ القَواعدِ النّيتروجينيَّةِ وللتَّبسيطِ، سنُعبِّرُ عن كلِّ زوجٍ بحرفِ. إذن، أخذوا 3 ملايينَ حرفٍ، من أصلِ حوالي 3 ملياراتِ حرفٍ “3Giga Base Pairs” -وهو عددُ حروفِ جينومِ الشمبانزي كاملًا، وعليهِ فالعيِّنةُ الَّتي أخذوها هيَ حَوالي 0.001 من جينومِ الشَّمبانْزِي، قارَنوا هذهِ العيِّنةَ بجينومِ الإنسانِ:

– الخُطوةُ الأولى: حذفُ جُزءٍ من هذهِ العيِّنةِ لعدمِ وُجودِ تشابهٍ أصلًا، لاحظَ الباحثونَ أنَّ ثُلُثَيْ هذهِ العيِّنةِ فيها شبهٌ من جينومِ الإنسانِ، بينمَا 28% منَ العيِّنةِ تمَّ استِثناؤُها؛ مُستَثناةٌ منَ الدِّراسةِ، لم يُقارِنوهَا بالإنسانِ لأسبابٍ تُصعِّبُ مُقارنتها. واستثنَوا أيضًا 7%، لماذا؟ (no region with similarity could be detected) لا توجد مناطقُ تشابهٍ بين الجينومَينِ، أي أنّهم شطبوا مَا مجموعُهُ 35% من عيِّنةِ الشَّمبانْزِي الـ0.001 الَّتي اختارُوها.

تصوَّروا -إخواني!- %35 مختلفةٌ، ومشطوبةٌ سلفًا، ثمَّ يتكلَّم لكَ أتباعُ الُخرافةِ عن 99% تشابُه.

الخُطوةُ الثَّانيةُ هيَ مُقارنةُ ما تبقَّى من عيِّنةِ الشَّمبانْزِي بالإنسانِ. كيفَ قارَنوها؟ باستخدامِ برمجيَّاتٍ تَفترضُ أصلًا صحَّةَ التَّطوُّرِ وأنَّ الإنسانَ والشَّمبانْزِي منْ أصلٍ مُشترَكٍ.

تَخرجُ النَّتائِجُ من هذهِ البرمجيَّاتِ فَتأْتي الخُطوةُ الثَّالثةُ: ألَا وهيَ تفسيرُ النَّتائِج على أساسِ افتراضِ صِحَّةِ التَّطوُّرِ. أي أنّ أجزاءَ جينومِ الشَّمبانزي تَظهرُ مختلفةً عن الإنسانِ، ومعَ ذلكَ، يفسِّرونَ الاختلافَ على أساسٍ تطوُّريٍّ.

الخُطوَةِ الرَّابِعةِ، ألا وهيَ: اِختيارُ نَوعٍ واحدٍ منَ الفُروقاتِ والتَّغافُلُ عنِ الفُروقاتِ الأُخرى؛ فتُتغافَلُ الأرقامُ الكَبيرةُ، ولا تذْكُرُ إلَّا الأرقامَ القَزَمَةَ.

ثم تَأتي الخُطوةُ الخامِسةُ في صِناعةِ الخُرافةِ، وهيَ فنُّ التَّغافُلِ الَّذي تُتقِنُهُ دِعايةُ الخُرافةِ لتُحافَظَ على الرَّقمِ المُثيرِ 99%:

الأبحاثُ العلميَّةُ لم يكُنْ موضوعُها إثباتَ التَّطوُّرِ من خلالِ نسبةِ التَّشابهِ، بل هُم يَنطلقونَ من افتراضِ صِحَّةِ التَّطوُّرِ، وَهُمْ يَعُونَ ذلكَ، ويَعُونَ أنَّهم يَستخدمونَ برمجيَّاتٍ تفترضُ ذلكَ. أبحاثُهم كانتْ عن أنواعِ الطَّفراتِ الَّتي يدَّعونَ حُصولها، والَّتي فرَّقتِ الإنسانَ -بزعمهِم- عنِ الشَّمبانزي، فسؤالهُمُ البحثيُّ لم يكنْ: هلْ حصلَ التَّطوُّرُ أم لا؟ وإنَّما: كيفَ حصلَ التَّطوُّرُ؟ أي كيفَ تطوَّرَ الإنسانُ والشَّمبانزي عن أصلٍ مُشترَكٍ؟ مشكلتُنا مع هذهِ الأبحاثِ هيَ مع هذا الافتراضِ الباطلِ الَّذي انطلَقُوا منهُ: افتراضِ صِحَّةِ التَّطوُّرِ، والَّذي بيَّنَّا ونُبيِّنُ بطلانهُ علميًّا.

المصدر

أكل زيد لحم الكلب – تشابه الجينات دليل لنظرية التطور أم عليها؟

– لو قارنا كتابين ووجدنا تشابها بنسبة 90 % مثلا لعدد كلمات الكتابين دون النظر إلى ترتيب الكلمات وتوظيفها

في سياقها، فهل نستطيع أن نقول أن الكتابين يصلان إلى نفس النتيجة بنسبة 90%

– هل لو قلت لك: أكل زيد لحم الكلب، فإنه بنفس معنى أكل الكلب لحم زيد؟!

– نسبة تطابق 100% في الكلمات ومع ذلك فالمعنى مختلف تماماً.

– بنفس طرق المقارنة الجينية التي ذكرناها وصلت كبريات المواقع البحثية الرسمية

إلى أن 60 % من جيناتنا وجينات الذباب متشابهة.

فهل يعني هذا أننا ذباب بنسبة 60% ؟!

وذكرنا أيضا أنه حسب Nature التطورية المعروفة

99 % من جينات أحد أنواع الفئران لها شبيهات في الإنسان.

– فهل يعني هذا أننا أو أنكم يا كهنة الخرافة فئران بنسبة 99% ؟!

– وهل تعلم أن كروموسوم X المميز للأنثى متشابه بنسبة 69% بين الشمبانزي والإنسان بينما كروموسوم Y المميز للذكر متشابه بنسبة 43% ؟

فهل يعني هذا أن النساء أقرب للشمبانزي بمرة ونصف من الرجال؟!

تابعوا معنا الحلقة لنطلع معا على تفنيد هذه الادعاءات…

لو افترضنا بالفعل هذه النسبة (99%) وأن الفرق الهائل بين الإنسان والشامبنزي نتيجة هذه الـ1% فقط

وأن العشوائية والانتخاب الأعمى هما من صنع هذين الكائنين وفرق خصائصهما من هذه ال 1%…. حينئذٍ: كيف يكون الفرق بين خلايا الجسم

الواحد وليس بينها أي اختلاف في المادة الوراثية، لا 1%، ولا واحد بالألف؟!

ا ما تفعلُه دعاية الخُرافة حين تدَّعي أنَّ نسبة التَّشابه بين الإنسان والشَّمبانزي في المادَّة الوراثيَّة هي (99٪)؛ حيث بيَّنَّا في الحلقة الماضية كيف تمَّت صناعة هذه الكذبة في مطبخ الخُرافة عبر عِدَّة خطوات، والحلقة كانت صدمةً كبيرةً للكثيرين.

صدمةُ اليوم أكبَرُ -إخواني-، وهي عندما نرى الاستنتاج الذي تريدُه دعاية الخُرافة

أن تبنِيَه على هذه النِّسبة الكاذبة.

فصلٌ مُميَّز من فصول احتقار كهنة الخُرافة لعقول النَّاس، نرى معه فصولًا من العظَمة والإبداع والقدرة الإلهيَّة، فتابعوا معنا…

حسب مجلَّة نيتشر”Nature” التطوُّريَّة المعروفة: عندما نرى أنَّ (99٪) من مورَّثات أحد أنواع الفئران لها شبيهاتٌ في الإنسان، فهل هذا يعني أنَّ البشر –يا كهنة الخُرافة- فئرانٌ بنسبة (99٪)؟!

وعندما تذكُرُ المؤسَّسة القوميَّة الأمريكيَّة للصحَّة: أنَّ (60٪) من مورِّثاتنا ومورِّثات الذُّباب متشابهة فهل يعني هذا أنَّ البَشَر ذبابٌ بنسبة (60٪)؟!

وعندما نرى أنَّ الصبغيَّة الوراثية إكس “X” -المُمَيِّزة للأنثى- متشابهةٌ بنسبة (69٪) مع الشمبانزي، والصبغيَّة الوراثيّة واي “Y” -المُمَيِّزة للذَّكَر- مشابهة بنسبة (43٪) فهل يعني هذا أنَّ النِّساء أقرب للشّمبانزي مرَّةً ونصفًا من الرّجال؟!

لو قارنَّا كتابين ووجدنا تشابهًا بنسبة (99٪) مثلًا في كلمات الكِتابيْن، دون النَّظر إلى ترتيب الكلمات وتوظيفها في سِياقها، فهل نستطيع أنْ نقول أنَّ الكتابين يصلان

إلى نفس النتيجة بنسبة (99٪)؟!

هل لو قلتُ لك: “أكَلَ الكلبُ لحمَ زيد” فإنَّها بنفس معنى “أكَلَ زيدٌ لحمَ الكلب”؟!

نسبة تطابقٍ (100٪) في الكلمات، ومع ذلك فالمعنى مختلفٌ تمامًا.

في هذه الحلقة نشرح خمس عمليَّات-:

1- نسْخ مورِّثات مختلفةٍ لإنتاج البروتينات بحَسْب الخليَّة في الكائن الواحد.

2- نسْخ مورِّثات مختلفةٍ في الوقت والكمِّيَّة المناسبين، بحَسْب الظروف التي يتعرَّض لها الكائن.

3- عمليَّة “الوصل المتنوِّع” والتي تُنتِج جُملًا عديدةً من نفس السطر.

4- عمليَّات الـ “بي تي إمس” التي تضع الحركات المناسبة على كلمات الجملة.

5- وتجمُّع البروتينات بأشكالٍ وتواليف مختلفةٍ لإنتاج بروتيناتٍ أعقد.

بهذه العمليَّات وغيرها أصبح بالإمكان إنتاج مليارات البروتينات المختلفة من (20) ألف مورِّث فقط!

ولولاها لاحتجنا إلى مليارات المورّثات لإنتاج مليارات البروتينات.

بهذه العمليَّات تنوَّعت خلايا الإنسان إلى آلاف الأنواع، مع أنَّها كلَّها لديها نفس المادَّة الوراثيَّة بالضبط بنسبة تطابقٍ (100٪).

بهذه العمليَّات وغيرها يصبح الإنسان إنسانًا، والقرد قردًا، والشمبانزيُّ شمبانزيًّا، والذباب ذبابًا، والفأر فأرًا، مهما تشابهت مادَّتهم الوراثيَّة (70)، (80)، (90)، أكثر، أقلُّ، ليس مهمًّا.

المصدر

الملحمة المستحيلة: إشكاليات الاستدلال بسجل الحفريات على التطور

مقدمة

مرة أخرى، نعود لنشارك أنصار التطور رحلتهم الشاقة تنقيبا عن الحلقات المفقودة، ونتابع واحدة من أكثر قصص التطور شهرة وغرابة، والتي تعد من الأحداث الكبرى في تاريخ التطور، نعود لنلقى نظرة مختصرة على أحد أهم فصول هذه القصة.

من خلال هذا الطرح نرصد تأريخ السجل الأحفوري لذلك الحدث الملحمي الذي يحكى لنا كيف تطورت وحوش اليابسة، التي كانت تسير على أربع، إلى وحوش البحار المهيمنة (الحيتان).

001

قصة تطور الحوت

الحيتانيات –الحيتان والدلافين– هي إحدى أضخم الثدييات، لكنها خلافا لمعظمها –التي تعيش على الأرض– تعيش حياتها كاملة في الماء، مع ذلك فهي ليست من الأسماك.

كان محتما على أنصار التطور حل تلك المعضلة، ووضع السيناريو الخاص بكيفية تطور هذه الثدييات وانتقالها إلى البحر مرة أخرى، بعدما غادرته قديما. لذلك افترض الطرح التطوري أن الحيتان ككل الثدييات تطورت من الزواحف، والتي تطورت بدورها عن البرمائيات، التي غادرت هي الأخرى المحيطات بعدما تطورت عن الأسماك، وذلك من حقب زمنية سابقة، حيث تركت الزواحف –أسلاف الثدييات– البحر منذ حقب زمنية سحيقة في تاريخ التطور، ونمت لها الأرجل، وكساها الفراء وتطورت الرئتان.

الأعجب هنا، هو إصرارها مرة أخرى على العودة إلى البحر، وذلك في حدث ملحمي استثنائي، لتفقد أرجلها وفرائها، وتبقي على رئتيها ونظام تكاثرها رغم هذه التحولات الجذرية التي طالت بنيتها.

ولدعم هذا الطرح، كان على أنصار التطور تقديم الأدلة والتنقيب في طبقات الأرض القديمة بحثا عن تسلسل انتقالي زمني بسجل أحفوري لأسلاف منقرضة كانت تسير على الأرجل، تظهر تدرجا وأشكالا وسيطة بين ثدييات الأرض وثدييات البحر، لكن ملامح ذلك السلف الأرضي القديم للحيتان ظلت شبحية برغم الافتراض السابق لداروين في مصنفاته –على استحياء– أنه كان دبا.

002

ولم تتكشف ملامح قصة تطور الحوت إلا بحلول عام 1966، حين قام عالم الأحافير فان فالين Van Valen أثناء فترة عمله بمتحف نيويورك للتاريخ الطبيعي برصد بعض التشابهات بين عظام مجموعة من آكلات اللحوم المنقرضة المسماة بوسطية الحوافر (الميزنيقيات Mesonychids) مع أحافير وعظام الحيتان Cetacea.

هذه الحيوانات المنقرضة الشبيهة بالذئاب والمسماة بـ(Mesonychids) امتلكت أسنان ثلاثية شبيهة بتلك التي في الحيتان المعاصرة، واستنتج فالين من تلك المشاهدة أن الحيتان انحدرت منها.(1)

منذ ذلك الحين توجهت بوصلة أنصار التطور وعلماء الأحافير للبحث في ذلك الاتجاه الذي اقترحه فالين عن عظام أسلاف الحوت، التي تمتلك صفات مورفولوجية (هيكلية– تشريحية) مرتبطة بمجموعة وسطية الحوافر Mesonychids، وكان رائد البحث في هذا الاتجاه هو عالم الأحافير جنجريتش Gingerich، المتخصص ببحثه عن أسلاف الحوت، والذي بدأ رحلته في البحث خلال عقد السبعينيات من القرن المنصرم، واستمر لأكثر من عقدين في رسم الأطر العامة لسجل تطور الحيتان وتبعاته، وتزامنت معه كشوفات حفرية أخرى ودراسات متعددة لعلماء أخرين، والتي نتج عنها تأطير للخطوط العريضة لذلك المسار عبر سجل أحفوري مفترض، اصطفت خلاله سلسلة كاملة من الحيوانات المنقرضة واحدا بعد الآخر في تتابع زمني، وفقا للفترات الجيولوجية التي كانوا يعيشون فيها، ووصفت بأنها أشكال انتقالية متسلسلة بين الثدييات البرية والثدييات المائية بالكامل على نحو ما، كما يظهرها المخطط التالي:

003

قبل 50 مليون سنة

باكيسيتوس Pakicetus

الأرضية بالكامل

قبل 49 مليون سنة  

أمبيلوسيتوس Ambulocetus

شبه المائية

قبل 46 مليون سنة  

رودهوكيتوس Rodhocetus

شبه المائية

قبل 37 مليون سنة

باسيلوسورس Basilosaurus

المائية بالكامل

 هكذا يحكى التطور قصة تحول الحوت بمخططات رائعة وقصة مثيرة، وهذا النوع من القصص يروقنا جميعا.

لكن دعونا نتعمق مع تلك القصة بجرعة أكبر من الإثارة، ونحاول إلقاء نظرة مدققة على هذا المقترح الذى يسجله السجل الأحفوري كعنصر وحيد للطرح، ولا ضير من أن نفتح أثناء عروجنا داخل أعماق تلك القصة أكثر من نافذة، نرى من خلالها مغالطات متأصلة وعامة في أصل المنهج التطوري، وقبل أن نبدأ بعرضنا هذا، أعدوا لأنفسكم فنجانا من القهوة وانعشوا ذاكرتكم ببعض التركيز لمتابعة تسلسل الأحداث.(2)

الإشكالية الأولى: هل سجل الحفريات دليل على التطور؟

عنوان الإشكالية السابق يطرح سؤالا بدهيًّا يتعلق باستعراض كفاءة الأحافير كدليل على السلف المشترك، بالتالي على صحة الاعتقاد في التطور الدارويني ككل، والإجابة عليه كفيلة وحدها بتحديد مصير الاستناد إلى تلك الدلالة.

إنَّ الإجابة عن هذا السؤال يمكن توضيحها بمثال بسيط للغاية؛ لنفرض أننا وجدنا أحفورة لكائن ما، فإن الحقيقة الوحيدة التي نستطيع تأكيدها على وجه اليقين من خلال رصد تلك الأحفورة هي أنها كانت لكائن حي –مات ودفن– في هذا المكان، فيما عدا ذلك لا توجد أيّة وسيلة لدى أيٍّ من العلماء تؤكد يقينا أن هذه العظام التي وجدت مدفونة تمثل سلفا أو جدًّا لأى كائن حي آخر بمجرد رصد بعض التشابهات بينهما؛ لأنه فضلا عن استحالة تأكيد افتراضية السلف المزعوم تلك، فإن التشابهات المورفولوجية (التشريحية/الهيكلية) التي يُستند عليها في تأكيد مدى قرابة الأحافير لا تدل حتما على أي قرابة مزعومة، وهذه الإشكالية يدركها أنصار التطور جيدا، وإلا لأصبح هذا الذئب الأسترالي الجرابي قريبا من الدرجة الأولى لنظيره الذئب الرمادي المشيمي وفقا لهذا التطابق المذهل في المورفولوجي.

لكن الحقيقة أن الذئب الرمادي هو أقرب تطوريا للفيل والأرنب والإنسان، من هذا الذئب الجرابي، الذي يعتبر هو الآخر أكثر قرابة للكنغر والكوالا والسنجاب الأسترالي الطائر، عن مدى قرابته للذئب الرمادي التوأم التشريحي له. وذلك وفقا لما رسمته شجرة التطور؛ حيث افترضت انفصالا تطوريًّا بين أسلاف كل من الجرابيات والمشيميات في فجر نشوء الثدييات، منذ ما يقارب 160 مليون سنة مضت، وتكرر رصد مثل هذه التوائم المورفولوجية بين الجرابيات والمشيميات بنسبة عاتية، مقارنة بعدد الجرابيات المعدود على سطح كوكبنا.(3)

004

تلك التوائم المتماثلة التي لا يمكن ربطها بسلف مشترك –بمعايير التطور–لم تقتصر على فئتي الجرابيات والمشيميات فحسب، بل تم رصدها على كافة المستويات التصنيفية داخل الممالك الأحيائية، ورصدت أيضا تشابهات بالغة التعقيد على النطاق الجزيئي، كما تم رصدها على النطاق المورفولوجي.

وقد تناولت في طرح سابق جزءًا يسيرًا منها، متعلقًا بتوائم الجرابيات والمشيميات، والذي سنتبعه لاحقا –إن أذن الله تعالى– بمنشورات أخرى، نعرض فيها أمثلة كثيرة مدهشة ومتنوعة من التماثل المُعارض لشجرة التطور، تشمل كافة المستويات التصنيفية، مورفولوجيا وجزيئيا، وكيف كانت ردة فعل أنصار التطور في مقابل تلك الإشكالية، واعتراف البعض منهم ممَن واتتهم الجرأة على نقض الدوجما التطورية، والخروج خارج الإطار المعتاد، مما يمثل تهديدا لمصداقية شجرة التطور، وتداخل البيانات بين ما يعدونه تشابها ناتجا عن سلف مشترك، وآخر غير مرتبط بسلف.(4)

005

للخروج من المأزق

مثلت الإشكالية السابقة تحديا لأنصار التطور لا يمكنهم تجاوزه؛ ذلك لأنها تطعن مباشرة في أصل الاستدلال بالتشابه بين الأنواع على السلف المشترك، لأن ذلك التشابه (المورفولوجي والجزيئي) الذي يعد الدليل الأوحد على التطور يعطي دلالة معاكسة تماما، كما أظهرت الأمثلة الأخرى سالفة الذكر تماثلات خارج إطار السلف المشترك، لذا لجأ أنصار التطور إلى الالتفاف غير المباشر حول هذه الإشكالية بسلوك المنطق الدائري، والادعاء أن تلك التشابهات التي تتعارض مع قواعد شجرة الأنساب الافتراضية هي في الحقيقة غير مرتبطة بسلف تطوري، أي أن كلا النوعين اللذين أظهرا هذا التماثل قد سلكا طريقين منفصلين تماما في التاريخ التطوري لإنتاج نفس الهياكل المتماثلة أو نفس التشابه الجزيئي، وأطلقوا على هذه الفرضيةconvergent evolution ، كواحدة من فرضيات الخروج من المأزق. ما تم هنا في الحقيقة ما هو إلا إعادة توصيف لمشاهدة تطعن في أصل فرضية التطور، ولي عنق القاعدة –التي قعدوها لأنفسهم–، بل وكسره لتوافق البِرادايم Paradigm أو الإطار التطوري الذي لا يجوز الخروج عليه.

لكن الخطأ المنهجي في هذه الفرضية هو الالتجاء لمغالطة منطقية جلية؛ وهي المصادرة على المطلوب، بجعل المطلوب إثباته –أو النتيجة المرجو الوصول إليها (التطور)– ومقدماته أو إحداها –التي يجب الاستدلال عليها (التشابه)– شيئا واحدا. والمغالطة المنطقية تحصل هنا حينما يتم افتراض صحة النتيجة التي يراد البرهنة عليها في المقدمات سواء بشكل صريح أو ضمني، وحين يتم الاستدلال بالنتيجة المرجو الوصول إليها كحقيقة أولية لبناء هذا الافتراض.(5)

وبدلا من إعادة ذلك الاستقراء الناقص المبني على دلالة التشابه بين الكائنات كدليل حتمي على وجود سلف مشترك، بسبب وجود ما ينقضه من معطيات مختلفة لا تؤيد هذا الاستقراء، توجهوا مباشرة الى بناء فرضية convergent evolution اعتمادا على أن التطور حقيقة، وقد عرفنا تلك الحقيقة من التشابه بين الكائنات!

لاحظنا بوضوح تجلي المنطق الدائري Circular reasoning الذي لا ذيل له ولا رأس، ولا نستطيع التفريق فيه بين المقدمات والنتائج. فحين يكون من المفترض أن تتصدر التشابهات طرائق الاستدلال على صحة التطور والاشتراك في سلف مشترك، وتقدم على أنها من أكثر دلائل دعم التطور، فإنه يصبح كافيا جدا لإسقاط هذه الدلالة رصد تضاربا يناقضها، ويؤكد أن التشابه لا يدل على سلف مشترك. لكن بدلا من ذلك لجأ أنصار التطور إلى اختراع فرضية التطور المتقارب convergent evolution، التي بنوها على التسليم بصحة التطور.

لكن لا تلبس تلك الدائرة أن تنكسر، فيفاجئنا رونالد ويست Ronald R. West عالم الجيولوجيا التطوري الشهير، ويجرؤ على الإقرار المباشر بالأخطاء المنطقية الفجة تلك في الاستدلال بسجل الأحافير، قائلا:

“على عكس ما يكتبه معظم العلماء، فإن سجل الحفريات لا يدعم نظرية التطور الداروينية؛ لأنها تلك النظرية (بمختلف إصداراتها) هي التي نستخدمها لتفسير السجلات الحفرية. لذلك فنحن مدانون بالوقوع في استدلال دائري حينما نقول أن السجل الأحفوري يدعم هذه النظرية”.(6)

ويمكنك عزيزي القارئ تلخيص المشهد السابق في كلمات بسيطة للغاية هي: التطور حقيقة، لأن التطور حقيقة!

هذا ما يقوله التطوريون بلسان حالهم، بل ربما يقره البعض بصيغة أكثر تحايلا حين يواجه مثل هذه الإشكاليات المنهجية فيقول: التطور حقيقة مثبتة مفروغ من صحتها، لكن البحث في آلياته وطرائقه مازال مستمرا ومفتوحا. لكن الإشكال هنا: كيف يثبت التطور أصلا بدون ثبوت فرضية السلف المشترك؟

بذلك المنطق الدائري الهزيل يتمكن أنصار التطور من تجاوز أي تضارب يعرض أمامهم، فتستخدم دلالات التطور حسب الحاجة، وتعطل أيضا حسب الحاجة، ليذكرونا بتلك الحكاية القديمة من عهود جاهلية العرب، حين يصنع الرجل أصناما ومجسمات من العجوة لألهته التي يعبدها، ويظل عليها عاكفا بالتضرع، حتى إذا جاع أكلها.

نخلص من التفصيل السابق بوضع الإطار العام للتعامل مع كافة الأمثلة التي يُستخدم فيها سجل الأحافير كدليل يثبت صحة التطور، وهو أن التشابه المورفولوجي البنيوي الذي تظهره بعض العظام الأحفورية مع عظام كائنات أخرى، سواء كانت حية أو منقرضة، لا يمكن تصديره كدليل على صلة قرابة حتمية أو أي تطور مزعوم من سلف قديم، فنفس التشابه نجده بين عظام كائنات حية لا يمكن إدراجها في إطار شجرة أنساب مشتركة كما أسلفنا الذكر في المثال السابق.

هذا إن تجاوزنا عدم قدرة سجل الحفريات على تقديم دعم حقيقي لفرضية التشابه من الأساس، فالفقر الحاد في تلك السجلات يجعل تقديم البيانات اللازمة للمقاربة المورفولوجية المطلوبة أمرًا في غاية الصعوبة، فلا تتوافر لدينا الأنسجة الرخوة، ولا غالبية أجزاء الجسد، ويمكننا ببساطه أن نوضح ذلك بمثال عملي حي:

لنفترض أن (الذئب التمساني الجرابي) و(الذئب الرمادي المشيمي) قد انقرضا منذ وقت طويل، قبل أن نتمكن من رؤيتهما أحياء، وتم اكتشاف أحافير عظمية خاصة بهما، فإنه مما لا شك فيه أن التعريف الخاص بالتطور سوف يؤكد وجود صلة قرابة وثيقة بينهما في شجرة التطور، بسبب هذا التطابق المذهل في تركيب الهياكل العظمية، لكن الهيكل العظمى رغم اكتماله لا يعطي أي تصور حقيقي لنظام التكاثر، سواء كان جرابي أو مشيمي، فكلاهما يمتلك نظام تكاثر خاص مختلف تمامًا عن الآخر، ولا توجد بينهما أيّة صلة!

لذلك فالأمر يزداد تراكبا وتعقيدا، فالإشكالية لا تنتهي عند إسقاط دلالة التشابه بين الحفريات كدعم للتطور بسبب وجود دلالات عكسية فحسب –كما بينا بأمثلة التماثل أو ما أطلق عليه التطور المتقارب كتعريف مضلل وموهم–، لكن تتعداه إلى الفقر الحاد في دعم الأحافير لتقديم بيانات يمكن الاستناد عليها لعقد هذه المقاربة المطلوبة من الأساس.

لنتخطى تلك الإشكالية، التي نعتبرها أيقونة في نقد الكثير من دلالات التطور، وندخل مباشرة إلى عرض أطروحة التطور الخاصة بموضوعنا حول قصة أسلاف الحوت.

ملخص ما سبق

1) الاستدلا الدائري وتناقض دلالات التشابه المورفولوجي يسقط حُجية الأحافير على التطور والسلف المشترك.

2) الفقر الحاد في البيانات التي يمكن أن تقدمها الحفريات في مقارنة الخلايا الرخوة التي لا يمكن تحجرها.

الإشكالية الثانية: هل تبدو النماذج الانتقالية المعروضة والرسوم تمثيلا حقيقيًّا للأحافير التي عثر عليها؟

الخطوة الأولى بعد العثور على عظام ما لأحفورة ما، هي توصيف هذه العظام بدقة، وذلك بواسطة فريق مختص، والعمل على ترميم وبناء شكل نهائي يمثل الحيوان الكامل، هذا إن توفرت العظام الكافية لذلك بشكل يضمن رسم صورة تخيلية يُظن أنها الأقرب إلى الواقع. فهل هذا ما تم حقا؟

للإجابة على تلك الإشكالية، لنرى كيف تعامل أنصار التطور مع الحفريات التي تم العثور عليها وكيفية ترميمها، وسننطلق من بداية تسلسل الحلقات الانتقالية كما بمخطط التطور من الجد الأول، حتى وصول أسلاف الحوت إلى الحياة المائية الكامل.

أولا: باكيسيتوس Pakicetus

006

في عام 1983، أثار فيليب جنجريتش ضجة إعلامية بزعمه اكتشاف حفرية لأحد الأسلاف الأولى للحيتان، والذي عرف باسم الحوت الباكستاني (باكيسيتوس Pakicetus). ادعى جنجريتش أنه كان حيوانًا وسيطًا بين حيوانات اليابسة والحيتان، وأنه الحلقة الانتقالية الأولى لهذا التحول.

007

احتفت مجلة العلوم Scince العلمية المرموقة بهذا الاكتشاف، وتصدرت أغلفتها رسومًا كاملة لذلك الحيوان، حيث يمتلك ساقين بهما أغشية كالزعانف، ويقوم بمطاردة الأسماك كحيوان بحري صياد.(7)

لكن إلى أي دليل استند جنجريتش في ترميم وصنع هذا المخطط الكامل؟ فكل ما يمكننا قوله هو أن الأدلة الأحفورية المتاحة لديه في هذا الوقت تألفت فقط من بعض شظايا الجمجمة؛ (جزء صغير في الجمجمة، وعدد قليل من الأسنان، وجزء صغير من الفك)، هذه هي المعطيات الحفرية التي ادعى من خلالها أنصار التطور أنها مثلت جد الحيتان في وقت مبكر في العصر الأيوسيني، وذلك بناءً على رصد بعض التشابهات في قمة الأسنان مماثلة لوسطية الحوافر المنقرضة Mesonychids –التي اعتقد فالين أن لها علاقة وثيقة بالحيتان الحديثة–، وبعض التشابهات في أجزاء من الجمجمة.

لكن بعد الفحص الدقيق للبيانات، لا زلنا نتساءل بدهشة لماذا تم اقتراح هذه العينة لأن تكون أي شيء. ظلت هذه الفكرة السائدة عن شكل باكيسيتوس لفترة؛ يحتفى بمخططه الكامل كما رسمه جينجريتش دون أن يُقدم أحد من أنصار التطور على الاعتراض البديهي السابق. لكن بحلول عام 2001، قام الخبير البارز بأحافير الحيتان هانز ثيوسين J. G. M. Hans Thewissen صديق جينجريتش وزميله حسين وفريقهما بإعادة إعمار أكثر حداثة، اعتمدوا فيها على اكتشافات لأكثر عظام الحيوان باكيسيتوس، ونشرت مجلة نيتشر ذلك الكشف.

008

مع إعادة ترميم أكثر معقولية تمت على تلك العظام وبعد إيجاد حفريات جديدة له، كانت المفاجأة أن المخطط الجديد كان لحيوان بري كامل لا يشبه الأول في شيء.

وأكد ثيوسين في نفس الورقة إلى أن تلك العظام تشير بوضوح إلى ثدييات برية بالكامل، بل وتظهر السمات التشريحية لعظام تحت القحف أن الحيوان كان من العدائين، ولم تلامس أقدامه إلا اليابسة.(8)

009

010

ربما نلتمس عذرا لجينجرتش في التجائه لهذه الرسوم المضللة في عام 1983، بسبب إحباطه وملله من البحث عن شيء ذي قيمة لسنوات عديدة، فكانت بعض شظايا الجمجمة التي تبدي بعض التشابه مع عظام الحوت كفيلة بصنع أسطورة الحوت الأول الصياد، لذلك لجأ إلى الخيال، ولم يتورع عن فعل ذلك؛ لأنها كانت سمة ظاهرة في تحليل أنصار التطور لعظام الأحافير، ومثل هذه الحوادث متكررة في كثير من المخططات الموهمة المتداولة، التي تم بناؤها على حفريات غير مكتملة، لكن هناك نوعًا آخرَ من التزييف الخفي المتعمد، التجأت له دوريّات حديثة، حتى بعد إعادة إعمار أكثر حيادية 011

للأحفورة، مثلما فعلته المجلة العريقة والأكثر شعبية (ناشيونال جيوجرافيك National Geographic) في تصويرها لمخططات الحفريات بعد إعادة إعمارها.(9)

حيث نجد في المخطط نوعا من الإيحاء والإيهام المتعمد لتمرير فكرة سلف الحوت، فالتجأ الناشر إلى تدليس الفنان باستخدام صورة لـباكيسيتوس في وضع السباحة، مع ذيل مكتنز انسيابي كذيل السمكة، وأرجل قصيرة نسبيّا، رغم أنه حيوان بري كامل، ويلاحظ أيضا أن الرسوم تظهر الساقين الخلفيتين ممددتين إلى الوراء؛ لتعطي انطباعا أنها تعمل مثل الزعانف.

ثانيًا: أمبيلوسيتوس Ambulocetus

012

الحفرية الثانية تدعى أمبيلوسيتوس Ambulocetus، التي وجدت عام 1993 في باكستان، وادعى مكتشفه ثيوسين وآخرون أن هذه العظام كانت لأحد أسلاف الحوت، في حجم ذكر أسد البحر، الذي كان يمشي على أرجل، وكانت أرجله الخلفية بمثابة الأرجل على الأرض، والمجاديف –الزعانف– في المياه، مما يشير للاعتقاد بأن هذا المخلوق قد تمكن من المشي على الأرض، وكذلك السباحة. مرة أخرى تدعى حاجة أنصار التطور لإثبات نظرية تطور الحوت إلى نشر ورقة أقل ما توصف به أنها تخمينية بامتياز، لكنها مرّت على هيئة التحكيم دون الإشارة إلى عوز تلك الورقة إلى أي استنتاج خارج إطار التخمين غير المعتمد على أية معطيات فعلية.(10)

لنختبر حقيقة القصة!

بالنظر إلى العظام التي وجدت لهذا الكائن المنقرض، فإن أول ملاحظة يمكن رصدها مباشرة في الكشوف الأولية هي أن الهيكل العظمي أيضا غير مكتمل، ويفتقد الأجزاء الهامة والجوهرية التي بُني عليها هذا الرسم التخطيطي للكائن البرمائي، والتي لا يمكن تصميم أي مخطط بدونها؛ لأنه يلزم لإنشاء وظيفة الساق الخلفية وترميمها تواجد عظام منطقة الحزام الحوضي pelvic girdle، لكنها مفقودة تماما في العظام التي عثر عليها.

013

وتم الترويج لهذه الرسوم التخيلية أيضا في كتب التدريس رفيعة المستوى، من قبل الأكاديمية الوطنية للعلوم. لاحظ الخيال المستخدم في الرسم، بما في ذلك أغشية وشبكات بين الأقدام.(11)

حتى (كينيث ميلر) كان له أيضا نصيب في نشر هذا التزييف بصورة مباشرة، حين استخدم هذه الحفرية كأيقونة مهمة للتطور في كتابه Finding Darwin’s God، حيث زعم أن هذا الحيوان يمكن أن يتحرك بسهولة سواء في البر أو في الماء.

014

وكالعادة، (ناشونال جيوجرافيك) كان لها نصيبها المماثل من التلاعب والخداع البصري في تصميم مخطط الأحفورة، بإيحاءات بصرية تم توظيفها بعناية؛ لتحويل أمبيلوسيتوس البري إلي حيوان سباح، حيث أظهرت شبكات وهمية بين مخالب الحيوان، تمامًا كما فعلت دورية الأكاديمية الوطنية للعلوم و(كينيث ميلر) في كتابه، وجعلت الأرجل الخلفية تبدو وكأنها أرجل كسيحة على الأرض لا يمكن أن تساعده على المشي، بل تعمل كزعانف.(12)

015

وبالرغم من تأكيد (كارول) في إعادة التعمير –الأكثر معقولية وقبولًا– أنه كان حيوانا يمتلك أرجلًا قوية يستخدمها في المشي، لكن يبدو أن أنصار التطور يبحثون عن أي سبيل لتأكيد فكرة الحلقات الوسيطة، ولو بالتحايل والخداع البصري.(13)

 016

017

ثالثا: رودهوكيتوس Rodhocetus

المرشح الثالث حسب الترتيب الزمنى للحلقات الوسيطة بين الثدييات البرية والحوت هو رودهوكيتوس Rodhocetus، ويُصوّر في المتاحف والكتب المدرسية كمخلوق لديه ميزات جوهرية للتحول من حيوان بري إلى حيوان بحري؛ حيث لوحظ تشكل الساقين إلى ما يشبه الزعانف، ونمو الذيل الشبيه بذيل الحوت.

018

 مخطط: الرسوم التوضيحية للأكاديمية الوطنية للعلوم NAS.

أثناء تصوير الفيلم الوثائقي عن التطور (تجربة عظيمة)، لاحظ الدكتور كارل فيرنر، القائم على التوثيق، تباين العرض الأحفوري للحيوان بجامعة ميشيغان والحفريات الفعلية، خاصة مع عدم وجود أيّة أحافير تظهر الذيل أو الزعانف، وهي الأشياء ذاتها التي يتم استخدامها كدليل على أن هذا المخلوق هو الحلقة المفقودة في تطور الحيتان.

ولمناقشة تلك الإشكالية، قام (فيرنر) بإجراء مقابلة مع جنجريتش العالم المسئول عن اكتشاف وإعادة بناء رودهوكيتوس، وكان الدكتور جنجريتش قد روج لفكرة أن رودهوكيتوس كان يمتلك ذيلًا بدائيًّا للحوت. كانت المفاجأة في رده على سؤال فيرنر حول كيفية تخمين ذلك النوع من الذيل بدون وجود عظام تدعم الفكرة، بتأكيده أنها مجرد تكهنات.(14) بل اعترف جنجريتش أيضًا أن الزعانف قد تم تخمينها، دون وجود أدلة داعمة من العظام.(15)

020

ونشاهد في الدقيقة (7:40) من الفيديو جنجريتش وهو يعترف أن الصور المتعلقة برودهوكيتوس –مثل الذيل– هي صورة متخيلة.(16)

الحقيقة أن هذه هي العظام التي تم العثور عليها كما يظهرها المرجع الشهير (كامبل).(17)

019

021

المزيد من العروض المضللة للأسلاف المزعومة للحوت أيضًا، ما نشرته الأكاديمية الوطنية للعلوم NAS من مخطط يوضح تسلسل التطور للحيتان، والذي يتضمن:Mesonychid التي تعيش في الأرض، يليها أمبيلوسيتوس و رودهوكيتوس وباسيلوسورس Basilosaurus، على الرغم من أن تقديرات المؤلفات العلمية تقول إن أطوال كل من أمبيلوسيتوس ورودهوكيتوس حوالي سبعة إلى تسعة أقدام، مقابل طول يقدر بحوالي 70 قدما في باسيلوسورس، إلا أن كتيب NAS أظهر جميع العينات الأربع على أنها بنفس الحجم، دون أن ينوه حتى في الحاشية –للتوضيح– أنه قد تم اختيارهم من الحجم الكبير! ومثل هذه الأخطاء لا يقع فيها مبتدئ في دراسة وعرض الأحافير، مما يثير الشك في كونها تدليسًا متعمدًا.(18)

تابعوا معنا فيديو الدكتور (تيري مورتنسن)، يبين فيه جانبا من مشاكل ترميم الأحافير السابقة، ويعرض مفاجآت وسط استغراب الحاضرين.(19)

ملخص ما سبق:

لجأ أنصار التطور إلى نوع من التضليل في بناء المخططات الكاملة لأنواع منقرضة، بناءً على ما تمّ العثور عليه من بعض عظامها، وذلك لتبدو أشبه بحلقة وسيطة بين أنواع مختلفة؛ لدعم أفكارهم.

وكما هو معهود، فإن خيال الفنان الموجه هو اللاعب الأساس في ترميم ورسم المخططات الكاملة لأغلب الحفريات، لتبدو للمشاهد كأنها تمثل حلقة وسيطة فعلًا، ودون اعتماد أية معطيات علمية حقيقية داعمة لهذه الرسوم المنشورة، وبمجرد أن ننظر نظرة متأنية في سجل أحافير الحوت سندرك هذه الحقيقة للأسف، إذ لا بأس عندهم من وضع عشرات المؤثرات البصرية لترسيخ الفكرة؛ فهنا جانب من مغامرات الصيد:

022

وهنا قليل من حنان الأمومة:

023

وهكذا، حتى نقبل الوهم ونصدقه!

لكن دعونا نتخطى ذلك، ونفترض أن تلك الأحافير كانت سليمة وكاملة حقا، فهل يمكن أن تدل على علاقة تطورية فعلية؟

الإشكالية الثالثة: السجل الأحفوري ومتاهة (مكعبات الليجو)

024

في الرسم البياني المقابل لسجل تطور الحيتان: أمسكْ قلمًا، وتتبع معي من نقطة البداية عند أي نوع من الأنواع الموجودة، وتحرك منه على خط السلف نزولًا بالزمن، حتى تصل إلى أصل هذا النوع ونهاية التفرع بالعودة إلى الماضي.

هل لاحظت شيئا؟

نعم، أنت لم تقابل أثناء مد الخط وفي رحلتك الزمنية نحو الماضي أي سلف أو جَدّ مباشر لهذا النوع.

جرب مع نوع آخر؛ مازالت نفس الإشكالية!

جرب مع كل الأنواع؛ الإشكالية نفسها!

إذن، أين هي الحلقات الوسيطة؟ وأين أسلاف الحوت؟

قبل الخوض في أي شيء يخص هذه الإشكالية، يجب علينا أولًا أن نعي جيدًا أن التطور ببساطة هو التغيير التدريجي من نوع إلى آخر خلال مدى زمني معين كما تقدمه لنا الداروينية.

نموذج الداروينية الحديثة يرسم توقعًا بوجود الكثير من الكائنات الانتقالية التي تمثل التغيرات التدريجية الصغيرة الناجمة عن طفرات جينية عشوائية التصرف يعمل عليها الانتقاء الطبيعي.

من خلال هذا التعريف، فإن السجل الأحفوري يُعنى بتوثيق العلاقة التطورية بين نوع معاصر وسلفه أو جده المفترض بحلقات وسيطة لأشكال انتقالية، يمكنها الربط المباشر بينهما كتدليل نظري على صحة هذا الفرض. أي أن هذا الخط الزمني بين النوعين يجب أن تتخلله وتتراص بداخله آلاف من الأشكال الانتقالية المتدرجة مورفولوجيا، ومن خلال هذا السريان التدريجي وعدم الانقطاع يمكن التأسيس لما يسمى بالسجل الأحفوري لتحول مفترض –نظريّا–، حتى يمكننا البدء في قبول تلك الفكرة مبدئيًّا كمشاهدة يمكن استقراؤها على نحو ما.

 لكننا نلاحظ في السجل الأحفوري للحوت –كغيره من سجلات الأحافير– أن الأشكال الانتقالية التي يمكنها رسم أي علاقة تطورية بشكل تدريجي ليست متوافرة لتدلي بأية معلومة يمكن الاعتماد عليها في رسم تنسيق معين وخط انتقالي تصاعدي منضبط وثابت، ينتقل عبر الطبقات الجيولوجية والزمن، ويشير إلى هذه العلاقة التطورية المزعومة بين تلك الأحافير.

بذلك فإن نموذج “الداروينية الحديثة” يواجه العديد من الصعوبات العلمية، وأهم المشاكل التي تواجهه هي أن السجل الأحفوري بالكامل متقطع للغاية، مع غياب ساحق للأشكال الانتقالية بين جميع الأنواع الرئيسة. والواضح تمامًا أن السجل التاريخي للحياة –فعليّا– لا يوفر الأدلة اللازمة لتغيير تطوري تدريجي.

الحقيقة السابقة حول الفقر المدقع لسجل الأحافير لا يجادل فيها أي باحث مختص، وقد أشار أكثر علماء التطور إلى تلك الإشكالية، بداية من (داروين) نفسه وحتى يومنا هذا، رغم أن لدينا الآن أكثر من مائة مليون أحفورة في المتاحف المختلفة، بالإضافة لتلك الموجودة بالجامعات وجهات الأبحاث، وكلها تمثل أكثر من 250 ألف نوع مختلف.(20)(21)(22)

بنظرة أولية لسجل أحافير الحوت، يمكننا رصد غياب تام لأيّة أحفورة تمثل الحلقة الوسيطة أو الجَدّ المشترك بين أي من الأسلاف المزعومة، بل يظهر بوضوح مدى زمني ظهرت به مجموعة من الأحافير لأنواع معينة لم تتغير أو يطرأ عليها أي تطور خلاله.

025

أي أن كل الحفريات كانت لأنواع ظهرت فجأة في السجل الجيولوجي، وعاشت في حقب زمنية لم يطرأ عليها خلالها أي تغيير، إلى أن انقرضت أو استمرت كما هي حتى الآن، كما في حالة الحوتيات الحديثة المعاصرة.

المخطط البياني التالي لسجل حفري، كما يجب أن يتم رصده بحسب (الداروينية الحديثة)، وتدعمه الآلاف أو الملايين من الحلقات التي يمكن عن طريق تسلسلها رسم منحنى تدريجي بتغير انسيابي سلس، للانتقال بين الأنواع بتفرع شجري معروف.(23)

026

027

شاهد المخطط البياني الفعلي للسجل الأحفوري المرصود، فهو يُظهِر خطوطًا عمودية للانتقال الزمني للنوع دون أي انحناء، مما يشير إلى امتناع التغير المورفولوجي والنوعي بالمطلق، ويشير إلى الظهور المفاجئ للنوع داخل السجل الجيولوجي، وبقائه ثابتا حتى انقراضه. وشاهد الربط الأفقي المباشر بين الأنواع، للإيحاء بالقرابة بين النوعين داخل السجل الأحفوري المرصود، لكن الخط الأفقي تمامًا الرابط بين نوعين يؤكد على حقيقة الظهور المستقل لكلا النوعين دون العثور على أي سلف مشترك بينها، ودون أدنى تدرج تدعمه حلقات وسيطة يمكنها أن تلعب دورَ قطع (الليجو) أو الفسيفساء بينهما.

028

هذه المشاهدات لا تقتصر على سجل أحافير الحوت، لكنها إشكالية عامة على كافة المستويات التصنيفية بشجرة التطور، وكل فروعها المرسومة، كما يقر بذلك المختصون من أنصار التطور في العديد من المواضع.(24) (25) (26) (27) (28)

هذه الحقيقة لم يتسنّ لأنصار التطور إخفاؤها، لكن أمكنهم التحايل عليها بالفرضيات المضللة والدائرية، وذلك باعتبار هذه الأحافير أبناء عمومة وليست أسلافا مباشرة لبعضها، وتم تسكينها داخل أفرع تطورية جانبية، دون توظيفها كجد حقيقي للأنواع الحالية، أي أنهم اعتبروا أن هذه الحفريات تطورت هي الأخرى من السلف المشترك الذي لازال مفقودا، وليست هي السلف الحقيقي، بذلك تكون قد سلكت فرعًا تطوريًّا مستقلا.

هكذا يمكن لأنصار التطور الهروب بذكاء من أيّة مسائلات أو إلزامات علمية حقيقية حول فقر السجل الأحفوري وعوزه إلى آلاف الحلقات الانتقالية، لنستطيع أن نصنع فروعَ شجرة الأنساب، التي لا يمكن اعتمادها نظريًّا إلا بوجود هذه الآلاف أو الملايين من الحلقات، تمثلها الأحافير المتدرجة مورفولوجيا، وتسكينها وفق منهجية صارمة؛ لتسير في خط تطوري تدريجي نحو التطور للنوع الجديد، وتتسق تتابعاتها صانعة انحناءً بيانيًّا زمنيًّا واضحا في رسوم شجرة الأنساب، يمثل فروع تلك الشجرة المزعومة، وهو ما لم يتوفر أبدًا في السجل الأحفوري للحوت، فضلًا عن أي من سجلات الأحافير المتاحة لأي نوع آخر، حيث تعاني كل السجلات الأحفورية الفقر الشديد في عدد الأحافير التي يمكن توظيفها كدعم لفكرة (التطور التدريجي) المزعوم، ورسمة شجرة الأنساب المتعلقة به.

لكن كما يؤكد أكثر العلماء المختصين، فإن فرص نجاح البحث عن تلك الأشكال الانتقالية المزعومة التي تمثل الأسلاف هي مثل فرص البحث عن سراب؛ ذلك لأن فقدها ليس متعلقًا بإمكانات البحث أو قلة عدد الأحافير التي عثر عليها حتى الآن، بل يرجع لكون السجل الأحفوري يمثل بالفعل الأحداث الحقيقية للحياة.(29)(30)

الظهور المفاجئ للأحافير –كما يظهرها السجل الأحفوري– يعني عدم التدرج السلس في التحول، لكن السمة الاكثر تحديًا للنموذج التطوري هي الثبات أو (الركود Stasis)؛ حيث تظل الأحافير للأنواع المختلفة ثابتة مورفولوجيًّا، دون أدنى تطور تظهره طبقات جيولوجية متعاقبة، وهذا ما يعبر عنه في الرسم البياني للسجل الأحفوري بالانتقال العمودي عبر الزمن –كما سلف ذكره–، وما يمكن معاينته من خلال السجل الأحفوري كما عرفه العلماء.(31)(32)

للخروج من المأزق

عدم وجود دعم من السجل الأحفوري، وندرة الأشكال الانتقالية التي يمكنها أن تؤلف الحد الأدنى المعقول لرسم سلسلة متصلة من التغيرات المتدرجة لدعم التطور، سبّبَا حرجًا بالغًا للفرضية التطورية، مما أدى بهم إلى اللجوء لحيلة دائرية جديدة للهروب من المأزق، وهي التي يعتمدون عليها في ترقيع الفرضية التطورية، شبيهة تمامًا بحيلة Convergent Evolution من حيث اعتماد المنطق الدائري بالالتفاف والمصادرة على المطلوب، حيث بدلًا من الاستدلال بالتغير المتدرج على صحة التطور –واعتبار العكس دليلًا ناقضًا له–، تم تبرير الظهور المفاجئ والركود في سجل الأحافير داخل البرادايم التطوري من منطلق الدوجما التطورية كحقيقة مطلقة، فتم التأسيس لما يعرف بفرضية Punctuated equilibrium أو التوازن المتقطع، وهي التي تفترض أن التطور لا يحدث في خطوات تدريجية صغيرة، بل يحدث في قفزات قصيرة من الزمن، قبل التوصل إلى الاستقرار والركود.

هذا يعني أن الأشكال الانتقالية ستكون قليلة العدد، لأنها لا توجد إلا في المجموعات الصغيرة لفترات صغيرة من الوقت، لذلك كانت الفرصة ضئيلة لترك الحفريات، بالتالي فإننا لا نتوقع العثور على الأشكال الانتقالية أو الحلقات المفقودة.(33)

029

هذه الفرضية تواجه إشكاليات منهجية حقيقية كثيرة لازالت مثارًا للجدل، منها تعارضها هي الأخرى مع بيانات السجل الأحفوري، وإن كانت اعترفت بجزء من إشكاليات السجل الأحفوري من الانقطاع المتمثل في الظهور المفاجئ للأنواع، والثبات دون تغيير، والتفّتْ حولها بمنطق دائري، لكن يبقى ظهور تحت الممالك الرئيسة للأحياء Phyla كلها بانفجار نوعى هائل، حائلًا دون قبولها.(34)(35)

030

لكننا هنا نكتفي برفضها منطقيًّا؛ لأنها استخدمت التطور كمقدمة ومعطاة أولية للبناء، في حين يجب أن يكون التطور نتيجة واستقراءً، يستدل على صحته بالسجل الأحفوري، لذلك ينطبق بجدارة عليها اعتراض (رونالد ويست Ronald R. West)ـ.(36)

أما من حيث المنهجية التطورية، فإنها فرضية عادلة بما فيه الكفاية؛ ليحصل أنصار التطور على السلام النفسي بعد عناء من البحث المضني عن تلك الأشكال الوسيطة، التي سبّبَ غيابها لهم صداعًا لا ينقطع، لكن في المقابل، فإن الخطأ كل الخطأ هو أن يجرأ الآخرون على ادعاء أن السجل الأحفوري –بظهور الأنواع من خلاله فجأة وثباتها حتى الانقراض– هو دليل مباشر على الخلق المستقل للأنواع، وإلا تم اتهامه ومحاكمته بالهرطقة.

لكن من الإنصاف عدم التعميم، فهناك مَن يجرؤ دائمًا من أنصار التطور على تحدي هذه الدوجما صراحة أو اضطرارًا، فيعترف (مارك بريدلى) الذي يشغل حاليا منصب أستاذ علم الحيوان في جامعة أكسفورد بمثل هذا الخطأ المنطقي، وعدم صلاحية الاستدلال بالسجل الأحفوري، سواء كان ممثلًا بنموذج النيوداروينية المتدرجة gradualist، أو بنموذج التوازن المفاجئ punctuationist على التطور في مقابل الخلق الخاص، لأنه يدرك رجوح كفة الخلق الخاص المباشر في هذه المقاربة.(37)

متاهة الليجو

031

عودة إلى ألعاب الطفولة، وإلى (مكعبات الليجو) الشهيرة، التي طالما أثارت شغفنا عندما كنا صغارًا. حيث مكمن الإثارة في هذه اللعبة هو وجود مساحات شاسعة من الاختيار في تركيب وصنع عشرات المجسمات المختلفة من نفس المجموعة من قطع الليجو.

تخيل أن لديك قطعتين من اللعبة على مسافة متباعدة، نريد سد الفراغ بينهما بقطع أخرى، فإنه من البدهيّ لدينا أن مساحة الاختيار تضيق بضيق هذه المساحة الفارغة بين هاتين القطعتين؛ فكلما ضاقت المسافة كان عدد قطع الليجو التي نحتاجها لملء الفراغ أقل، وفرصة الاختيار في طريقة ملء هذا الفراغ أيضًا أقل، ومساحة الخيال الذي يمكننا استخدامه لاختراع وابتكار أشكال معينة داخل المسافات البينية بالضرورة أيضًا ستكون أقل، وكلما قلت المسافات تقل فرص الاختيار، حتى تصبح المسافة بين قطعتين هي مسافة لقطعة ليجو واحدة، فحتمًا ستكون قطعة بعينها، لا نملك حق اختيار غيرها. هذا ما نعنيه بمتاهة السجل الأحفوري الشبيهة بمكعبات الليجو، حيث نلاحظ أن المساحة الأعظم منه خالية من الأحافير، ما يجعله مجرد سراب آخر، لا يمكننا من الوصول لاستنتاج ذي قيمة من خلاله، حيث لا يوجد أي قيد يمكن اختباره لاختيار مكان تموضع الأحافير بداخله، ولكي يتم تحديد مسار تسكين الأحافير يجب أن يتوافر كم هائل من الأشكال الأحفورية المتدرجة مورفولوجيا، لتقليص هذه المسافات الزمنية، فكلما قلت المسافة الزمنية والشكلية بين أحفورتين كانت فرص التسكين لشكل انتقالي بينهما أكثر صرامة.

032

نحن نستشعر الآن أننا بالفعل داخل متاهة حقيقية مسماة بالسجل الأحفوري، والسبب هو فداحة الفواصل الزمنية التي تفصل بين الحفريات، حيث لا نستطيع أن نفترض أي علاقة بينها؛ فهناك فروق شاسعة لملايين الأجيال عبر ملايين السنين تفصل بين الحفريات التي يدعي أنها أسلاف للحيتان –كمثال–، لذا فإن الادعاء بأن هذه الحفريات تمثل “الأشكال الانتقالية” هي مجرد فرضية غير مؤسسة في ظل عدم توافر رابط خطي مباشر بينها، متمثل في آلاف الأحافير المتدرجة.

لكن ما يعزز هذا التيه أكثر، هو أن الإشكالية تتعدى فقر السجل الأحفوري في عدد الأحافير، إلى عدم قدرته على تقديم أي بيانات سلوكية أو جزيئية، أو بيانات عن الأنسجة الرخوة التي تساهم في إجراء المقاربات المطلوبة، وهو ما قام O’Leary بدارسته و توثيقه في السجل الأحفوري المعتمد للحيتان، حيث قرب إلينا الفكرة برسم بياني يحدد حجم البيانات التي يمكن أن يدلي بها سجل أحافير الحيتان، ومَثَّلَ البيانات التي لا يمكن جمعها بمنطقة سوداء شاسعة، تمثل الغالبية العظمى من محتوى المساحة البيانية.(38)

033

ما سبق يقودنا إلى نتيجة مفادها أنه يمكننا العبث بأريحية تامة داخل هذه الفواصل المورفولوجية والمساحات الزمنية الشاسعة بالسجل الأحفوري، ويمكننا أن نصنع من المعطيات الحقيقية أي شجرة تطورية تحلو لنا وفق عشرات من التوافيق المتاحة بالفعل، ويمكننا أيضًا صنع الأفرع التطورية التي تحلو لنا ، ولا يوجد أي مانع منطقي أو علمي يمنعنا من ذلك مادام أنصار التطور فعلوها بالاعتماد فقط على بعض الخيال، وسأقوم أنا الآن بالبدء بصنع شجرة التطور الخاصة بتصوري لأسلاف الحوت عشوائيًّا، ودون تفكير بمقدمات، لأنني بالتأكيد سأجد دعمًا مماثلًا لما يعتمد عليه أنصار التطور .

يمكنكم تجربة اللعبة فهي سهلة، ويمكنكم اختراع المئات من الأشجار التطورية في المساحة الخالية، ولا يوجد منطق يمكنه إعاقتكم.

فقط يلزمكم بعض الخيال أو الكثير منه، وتبقى الحفريات كقطع لعبة الليجو التي يمكنكم تركيبها وتوظيفها كما تشاؤون لصنع المجسم الذي تريدونه، فبنفس القطع يمكنك أن تصنع سيارة أو بيتا أو سفينة، ويبقى الخيال هو اللاعب الرئيس ما دمنا نواجهه ذلك الفراغ والعوز في الربط بين أي مجموعة بين الحيوانات في هذا السجل بسلف يمكن دعمه بألف سيناريو اعتباطي، لكن عليك أن تتمتع بشيء واحد كما قلنا سابقا؛ الخيال.. والمزيد من الخيال.

هذا الانقطاع والتيه في واقع السجل الأحفوري، وعدم اتساقه مع السيناريو التطوري للحوت، هو ما اعترف به ماكهيدليتسيه G. A. Mchedlidze خبير الحيتان الروسي حين أعرب عن شكوكه الجدية حول ما إذا كانت حفريات مثل باكيسيتوس وأمبيلوسيتوس وغيرهما في سجلات التطور، يمكن اعتبارها أسلاف الحيتان الحديثة، ويرى أنه حتى لو تم قبولها كثدييات مائية، فإنه لا يمكن تمثيلها إلا كمجموعة معزولة تماما عن الحيتان الحديثة.(39)

لكن هذا النموذج الفعلي للسجل الأحفوري –كما تم رصده– الذي نقوم نحن ببناء التخيلات عليه، لو تركناه كما هو بدون أي إضافات أو تخيلات أو عبث، ما الذي يمكننا استقراؤه منه؟

دققوا النظر في الصورة التالية…

034

الظهور المفاجئ دليل على الخلق المباشر، وثبات الأنواع دون تغيير ينفي أي تطور حادث. لذلك نصحنا من البداية بعدم الاستدلال بالسجل الأحفوري؛ لأنه دليل مباشر على الخلق.

ملخص ما سبق:

 السجل الأحفوري لا يُظهر أي أسلاف مباشرة للحيتان الحالية، لكن أقصى ما يمكنه أن ينبئ به هو وجود أنواع من الحيوانات التي تظهر بعض التشابهات في صفات متفاوتة، هذه الأنواع ظهرت فجأة داخل سجل الأحافير خلال حقب زمنية قديمة، وعاشت لأجيال متعاقبة كما هي دون أن تبدي أي اتجاه نحو التغيير التدريجي والتطور لنوع آخر.

يُظْهِرُ الرصدُ المباشر لسجل الأحافير أن الأنواع المختلفة لمْ تنشأ من خلال التطور من بعضها البعض، بل نشأت بشكل مستقل ومفاجئ، بكل تركيباتها الذاتية. بعبارة أخرى؛ يختلف الخلق من نوع لآخر.

هذه المشاهدة يمكننا رصدها بجلاء على طول السجلات الأحفورية المتاحة لجميع الكائنات الحية دون استثناء، وإن كان يمكننا استقراء أي شيء ذا قيمة من هذه السجلات المتاحة، فإن الاستنتاج المنطقي المباشر والوحيد الذي يمكن أن نستقرئه من تلك البيانات هو الخلق المباشر للأنواع، وعدم قابليتها للتطور.

لنلملم قطع الليجو المتناثرة على الأرض بسرعة قبل أن نتعرض لعقاب الأم الغاضبة، وننتقل إلى لعبة أخرى محيرة لمساعدة الحوت في العثور على أمه، لعبة البحث عن نسب الحوت.

الإشكالية الرابعة: بيانات السجل الأحفوري تتناقض مع البيانات الجزيئية، وإشكالية النسب المجهول

035

لأكثر من ثلاثة عقود شيد أنصار التطور قلعة من الادعاء لنموذج تطور الحوت من مجموعة الثدييات وسطية الحوافر اللاحمة Mesonychians الشبيهة بالذئاب، بناء على وجود تشابهات في شكل الأسنان وبعض أجزاء الجمجمة، وانصبت كل طاقات البحث في هذا الاتجاه، فأجريت المقاربات ورسمت مخططات عديدة لتأكيد مثل هذا الطريق، وظلت العقيدة التطورية تعتمد بعض هذه المؤشرات المورفولوجية لرسم سجل أحفوري، للإشارة إلى أصل يعود إلى وسطية الحوافر، لكن دائمًا –وكما اعتدنا– في مثل هذه القصص التطورية تأتي الأمواج على قلاع الشاطئ العتيدة، ليتبين أنها لم تكن سوى صروح من الرمال، جرفتها تلك الأمواج في مد المساء حين ارتفع القمر.(40)

036

في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، خرجت بعض القرائن لدراسات استخدمت التقنيات الجزيئية لاستكشاف العلاقات بين مجموعات من الحيوانات، والتي أدلت بنتيجة مغايرة تمامًا للحديث السابق، وادعت أن الحيتان هي الأكثر قرابة لفئة أخرى من الثدييات تضم الماعز والخنازير والأبقار والغزلان والجمال وأفراس النهر، وتدعى مزدوجات الأصابع Artiodactyls.

ذلك من خلال دراسة مقارنات لبعض المناطق غير المكودة من الحمض النووي Noncoding DNA التي أظهرت تشابهًا بين الحوت وأفراس النهرHippopotamusesـ.(41)

البيانات الجزيئية تعارضت بشكل مباشر مع بيانات السجل الأحفوري، حيث إنها جعلت من المقاربات التي تمت بين الحفريات ونسبتها إلى وسطية الحوافرMesonychians –التي يعتقد مسبقا أنها سلف الحيتان بناء على شكل الأسنان وبعض ميزات الجمجمة– لا تؤدي أي دور في التطور، وكتبت العديد من الدوريات العلمية عن مأزق التناقض.(42)

كانت ردة الفعل المتوقعة لعلماء الأحافير المختصين بدراسة تطور الحوت في البداية هي الصدمة، وشككوا في جدية هذه النتائج الجزيئية وقابلوها بالرفض، حتى أن (جينجريتش) أحد أبرز من رسموا مخطط التطور الخاص به اتهم أصحاب هذا الرأي بأنهم مجانين.(43)

في ظل فوضى التناقض بين البيانات، التي لا يمكن دمجها في مخطط تطوري واحد، مما يستلزم رفض أحد طريقي البحث تمامًا، وهذا يمثل إحراجًا لمنهجية التطور؛ لأنه من المفترض –وفقا للداروينية– أن تتسق الدلالات الأحفورية والجزيئية في شجرة فيلوجينية واحدة.

هنا اضطر كثيرون من أنصار التطور المتحمسين لسجل القرابة السابق –لوسطية الحوافر– إلى أكل صنم العجوة الذي ظلوا عليه عاكفين لثلاثة عقود، وقبلوا الأدلة الجزيئية التي تدل على سجل قرابة آخر، لكن ما بال تلك التشابهات في شكل الأسنان والجمجمة الأحفورية التي بنيت عليها قلعة تطور الحوت؟

بالطبع الحل لتلك الإشكالية مُعلب وجاهز للاستهلاك المباشر، وأظن أنكم عرفتموه جيدًا؛ إنه التطور المتقارب convergent evolution، وببساطة تم التراجع عن أوضح سجلات التطور المزعومة، وتم إرجاع التشابه بين تلك الأشكال إلى ما يسمى التطور التقاربي غير المرتبط بسلف، أي أن هذا التشابه في الأسنان وعظام الأذن الذي اعتُمد لرسم القرابة، لم يعد يدل على سلف مشترك كما أدلت الدوريات العلمية.(44)

البيانات الأحفورية غير متناسقة بشكل صارخ مع هذه الفرضية، إذا كانت الدلالة الفيلوجينية للكازين دقيقة فلابد من الاعتراف بفجوات كبيرة في السجل الأحفوري، كذلك انتكاسات مورفولوجية واسعة، وتطور متقارب غير مرتبط بسلف.(45)(46)(47)

037

من المستغرب هنا، أنه بعد عامين فقط تتغير بوصلة الأدلة الأحفورية، ويبدي كل من (جينجريتش) و(ثويسين) نوعًا من المواربة الذكية، بفتح باب من المواءمة بين مخطط العلاقة الجزيئية واكتشافات حفرية تؤيد الفكرة الجديدة حول قرابة الحيتان من مزدوجات الأصبع artiodactyls .

لكن ما هو الرابط المورفولوجي الذي استخدمه كل من جينجريتش وثويسين لربط مزدوجات الأصبع بالحيتان؟

إنها عظمة واحدة فقط!

يمكن أن يكون هذا مثيرا للاستغراب، لكن ماذا لو عرفتم أن هذه العظمة التي تم الاعتماد عليها هي عظمة العقب astragalus إحدى عظام القدم؟

يتساءل أحدكم باستغراب: كيف هذا؟ هل لدى الحوت قدم؟

الإجابة كما اعتمدها علماء الأحافير تكمن في الربط غير المباشر، حيث استخدموا نتيجة البيانات الجزيئية التي اعتبرت الحيتان الأقرب من مزدوجات الأصابع كمقدمة للبحث عن أحافير تمتلك عظامًا مشابهة لتلك التي تميز مزدوجات الأصابع، وكان خيارهم الأمثل هو عظمة العقب التي تشبه البكرة.

038

بعيدًا عن منطق الاستدلال الدائري هنا، والذي عهدناه على أنصار التطور، يبدو أن جينجرتيش امتلك حظا فائقا أو فانوسًا سحريًّا ليجد للأحفورة رودهوكيتوس التي وجدت بدون أرجل في السابق أرجلًا منفردة، نسبها إلى ذلك النوع، وقال إنها تمتلك عظمة عقب شبيهة بتلك التي في مزدوجات الأصابع.

تزامنا مع ذلك الحظ السحري، يستخرج ثويسين وزملاؤه من مَطْمَرَة عظام في باكستان عظامًا من خلف القحف لحيوان ما ينسبها إلى النوع باكيسيتوس، كما استخرجوا هيكلا عظميًّا لفرد أصغر منه من فصيلة الپاكيسيتيدات، ويسمى Ichthyolestes، وقد امتلك كلاهما عَقِبا يحمل الخصائص المميزة للحافريات الزوجية الأصابع.

لكن الجدل الدائر في أوساط التطور حَوْلَ متاهة النسب، جعلت كلا من جينجريتش وثويسين يتريثان في تأكيد فكرة النسب الجديد، فتركا الباب مفتوحًا باعترافهما عدم دلالة هذه الكشوف على فكرة نسب الحوت الجديد لمزدوجات الأصابع artiodactyls، حيث أظهر جينجريتش أن الأحفورة Rodhocetus تمتلك معالم في أياديها ومعاصمها لا تماثل أي من مزدوجات الأصابع اللاحقة الأخرى. ويُحذر ثويسين من أن البيانات المورفولوجية لا تشير حتى الآن إلى حافريٍّ زوجي الأصابع بعينه –مثل فرس النهر– على أنه أقرب الأقرباء للحيتان، أو أنه يمثل مجموعة شقيقة له. ويقول ثويسين: “لم نتوصل بعد إلى حل لتصنيف الحيتان ضمن الحافريات الزوجية الأصابع، لكنني أظن بأن ذلك سيحدث.”(48)(49)

بتأمل بسيط لذلك الحدث المتعلق باكتشاف مفاجئ لأجزاء منفصلة لأحافير (أرجل)، تم نسبتها في السابق لوسطية الحوافر Mesonychians، أو أحافير جديدة بعد تغير الفكرة المسبقة في نسب الحوت، يمكننا أن نخلص إلى فكرة مفادها أن الأحافير يتم توظيفها لدعم تلك الفكرة المسبقة، وليست دلالة حقيقة يتم استقرائها بحيادية، كذلك يمكن التلاعب بها بسهولة لأنها تستند إلى مقارنة بين أجزاء مختارة، وفي كثير من الأحيان يتم تجاهل الاختلافات الأكبر. في أغلب الأحيان تقوم العديد من الأشكال الانتقالية المزعومة على رفات مجزأة لحيوان ما، والتي يمكن توجيهها للعديد من التفسيرات؛ ببساطة يمكننا القول أن سجل الاحافير يتم خلقه ليوافق الدوجما التطورية.

لكن لا يزال السؤال دون إجابة حقيقة؛ من هو السلف القريب من الحيتان، مزدوجات الأصابع Artiodactyls، أم وسطية الحوافر Mesonychians؟

الأدلة المتاحة تضع فرضية تطور الحوت في موقف لا تحسد عليه، خاصة والبيانات لا تظهر أفضلية واضحة نحو أي منهما، فهناك رأي لفريق كبير من أنصار التطور لا زال يدعم فكرة بناء قرابة بين الحيتان ووسطية الحوافر Mesonychians، بناء على شكل الأسنان التي تبرز تشابها. واعتبروا ميزة تشابه عظمة العقب، المميزة لمجموعة مزدوجات الأصابع Artiodactyls، لا تدل على سلف مشترك، إنما نشأت بشكل مستقل convergences homoplasyـ.(50)

 هكذا نجد أنفسنا أمام خيارين في الرصد الأحفوري لا يمكن التفضيل بينهما؛ الأول: اعتبار الحيتان أقرب الأقارب لمزدوجات الأصابع Artiodactyls، وتجاهل التشابهات بين الأسنان وشكل الجمجمة، واعتبارها مجرد تقارب convergences.

039

الثاني: اعتبار الحيتان أقرب الأقارب لوسطية الحوافر Mesonychians، وتجاهل التشابهات بين عظمة العقب، واعتبارها مجرد تقارب convergences.

040

في ظل هذا التضارب والعبث، يمكننا نحن أن نقف باطمئنان موقف المؤيد لكل فريق في نصف موقفه، وهو المتعلق برفض السيناريو الآخر، ونعتبر أن الحوت لا ينتمي لهذا أو ذاك، والقول بعموم أن التقارب convergences أيقونة استدلالية ذكية ضد التطور تهدمه من داخله، فننفي بها دلالة تشابه الأحافير ككل، وننفي بها أيضًا دلالة التشابه الجزيئي الداعم على التطور من أسلاف مشتركة .

حتى البيانات الجزيئية التي من الممكن أن يحتج بها البعض لا يمكن الاعتماد عليها، كما يقر نصير التطور وعالم الأحافير الأشد تعصبًا ضد الخلق (ستيفن جولد Stephen Jay Gould) بتلك الإشكالية وتأثيرها على صحة البيانات، في ظل طمس وانتكاسة شجرة التطور، بسبب التقارب، وأن البيانات المورفولوجية والجزيئية عرضة لمشكلة Homoplasies على حد سواء.(51)

في دراسة أكثر وضوحًا بشأن العلاقة المفترضة بين الثدييات الأرضية والمائية في مجلة Genetics، تم الكشف عن وجود خلاف كبير بين التدابير المورفولوجية والجزيئية، والاعتراف بأن التسلسلات الجزيئية لا تعطينا بالضرورة صورة دقيقة عن النسب.(52)

ملخص ما سبق:

تكشَّف لنا ألعوبة منهجية في طريقة استخدام بعض المعطيات غير الكافية والموهمة، بل والمتضاربة، من قبل أنصار التطور، لصنع قصة رديئة الحبكة، أقل ما يمكن أن توصف به هو العبث والاستهزاء بالعقول.

انتهازية واضحة في الطرح التطوري، هدفها الوصول إلى تحقيق الدوجما المسبقة بأية وسيلة، فحين تتعارض البيانات يتم الاستغناء عن جزء منها بكل بساطة، دون الارتباط بأية منهجية عامة تحكم إطار الاستدلال، ودون مراعاة التناقضات المرصودة في نفس قضية البحث، واللجوء إلى نوع من أسوأ أنواع التدليس العلمي، وهو الانتقاء حسب الحاجة وتجاهل الإشكاليات.

في ظل هذه الفوضى وتوليف الحجج حسب الاستهلاك المحلي دون أي قيد منهجي، فإنه من الواضح جليًّا أننا بالفعل أمام برادايم فكري مسيطر.

الإشكالية الخامسة: معضلة الإطار الزمني لتطور الحوت

041

يعتقد التطوريون أن الحيتان قد تحولت من السلف الأول الأرضي الكامل باكيسيتوس، الذي عاش قبل 50 مليون سنة، حتى الوصول إلى الحيتان كاملة المعيشة المائية باسيلوصوريات Basilosauridae، التي عاشت قبل 40 مليون سنة، كما تظهر سجلات الأحافير.

بعيدًا عن متاهة النسب المجهول، فإن أي مقترح تطوري لأي حيوان بريّ يمكنه أن يمثل سلفا للحوت، يتطلب اختلافات مورفولوجية هائلة، وتكاليف التحول إلى (الحيتان) باهظة، حيث يجب أن يحدث التطور المزعوم بمعدل عدد مذهل –لا يصدق– من الطفرات (المفيدة) والتكيفات. هذه الفترة الزمنية القصيرة، التي لا تتعدى 10 مليون سنة، والتي هي الإطار الزمني الذي رصد في السجل الأحفوري للتحول من الثدييات الأرضية بالكامل إلى الحيتان المائية بالكامل، شكلت تحديًا لأيّة آلية داروينية يمكن اعتمادها للحصول على هذا الكم الهائل من التحولات الجذرية، فالحيتان لديها العديد من المزايا الفريدة لتمكينها من العيش في الماء.

قطعًا ستحتاج ملامح الهيكل العظمي لتغيير جذري، كذلك الآليات الفسيولوجية –وظائف الأعضاء للكائن الحي–. فعلى سبيل المثال، إنه في وقت مبكر كان من المفترض أن أمبيلوسيتوس يشرب المياه العذبة طوال حياته –قبل 49 مليون سنة–، وكان Protocetid يشرب المياه المالحة –قبل 47 مليون سنة–؛ ما يعني أن تغييرًا متطرفًا في وظائف الأعضاء يجب أن يحدث في فترة لا تزيد عن 3 مليون سنة.

 كان سيتعين على Protocetid التحور بطريقة مفيدة لإنتاج التكيفات الفسيولوجية أعلاه خلال هذه الفترة القصيرة جدا، بالإضافة إلى ذلك من المفترض أنها طورت مختلف الآليات الفسيولوجية لتبادل الأكسجين والغطس لمسافات طويلة وتراكم حامض اللبنيك، كذلك تطوير نظام شامل لتخزين الدهون وتنظيم درجة الحرارة في وقت قصير جدًا، وثمة مشكلة أخرى؛ هي اختلاف نوعي تغذية الحيتان والحيوانات البرية وطرق بحثها عن الغذاء، تحتاج الحيتان لتكون جاهزة لهذا أن تكون معدة لممارسة رياضة الغوص العميق، وإمكانية إرضاع صغارها تحت الماء.(53)

واحدة من الإشكاليات العميقة هي أن الثدييات من ذوات الدم الحار، خلقها الله بدرجة حرارة ثابتة للجسم أعلى من الأسماك والزواحف والبرمائيات، والحفاظ على درجة حرارة الجسم الأساسية لكائن ثديي يعيش في محيط من الماء البارد يمثل مشكلة حقيقية. تتغلب الحيتان على تلك الإشكالية بامتلاكها هياكل بيولوجية رائعة ومعقدة تسمى المبادلات الحرارية المعاكسة countercurrent heat exchange للحفاظ على حرارة الجسم الثابتة.(54)

042

043

الإشكالية الأكثر تعقيدًا أمام نموذج التطور، هي إمكانية تطوير نظام السونار وتحديد الأماكن بصدى الصوت كوسيلة للاتصال تحت الماء من خلال الموجات الصوتية. والمدهش أن كثيرًا من الحيتانيات لديها هذا النظام الدقيق الذي تحسدها عليه أكثر الغواصات تقدمًا، حيث يمكنها الكشف عن سمكة في حجم كرة الجولف على مسافة سبعين مترًا.

044

جذبت هذه الآلية العبقرية خبيرًا في نظرية الفوضى يدعى روري هوليت Rory Howlett لدراستها في الدلافين، وتوصل إلى استنتاج مفاده أن تلك الأنماط لابد لها من تصميم رياضي بالغ الدقة لكي تعمل.(55)

هذه الميزة المذهلة لنظام السونار، متمثلة في نتوء دهني على جبين الحيتان والدلافين يسمى البطيخة melon، وهو عبارة عن عدسة متطورة، مصممة لتركيز الموجات الصوتية المنبعثة في شعاع يمكن للحوت أن يوجهه حيث يشاء، هذه العدسة الصوتية هي تجمعات دهنية مختلفة، يجب أن تكون مرتبة في الشكل الصحيح والتسلسل الصحيح، من أجل تركيز أصداء الصوت العائدة، وكل نوع من هذه الدهون فريد ومختلف عن الدهون الطبيعية، فهي تتكون من خلال عملية كيميائية معقدة تتطلب عددًا من الإنزيمات المختلفة.

ولكي يتطور مثل هذا الجهاز يجب على الطفرات العشوائية أن تشكل الإنزيمات الصحيحة لتكوين الدهون الصحيحة، وطفرات أخرى يجب أن تضع هذه الدهون في المكان والترتيب المناسب. إن التطور خطوة بخطوة –تدريجيًّا– لمثل هذا الجهاز ليس ممكنا؛ لأنه إما أن يكون قد تشكل بشكل كامل في المكان والترتيب المناسب، أو أنه سيكون عديم الفائدة، والانتقاء الطبيعي لا يحبذ أشكال وسيطة غير مكتملة، لأنها تمثل عبئا عليه.

لذلك يمكننا أن نعتبر مثل هذه الفسيولوجية من التعقيدات تتحدى آليات التطور؛ لكونها غير قابلة للتدرج أو الاختزال.(56)

وحتى لا نطيل في مئات التفصيلات، فإن ما يُفترض أن يحدث هو تحول شبه كامل لوظائف الأعضاء والملامح التشريحية وتجديد الأسلاك الكهربائية الجينية اللازمة لهذا التحول، وللاختصار نذكر فقط بعض الأمثلة الأخرى التي يجب أن تتطور:

– عيون مصممة لتتمكن من الرؤية بشكل صحيح تحت الماء مع عوامل الانكسار، وتحمل الضغط العالي.

– آذان مصممة بشكل مختلف عن تلك الثدييات البرية، التي تلتقط الموجات الصوتية المحمولة جوًا، مع طبلة أذن محمية من الضغط العالي.

– الجلد يفتقر إلى الشعر والغدد العرقية، وطبقة دهون للعزل الحراري.

– الخياشيم على الجزء العلوي من الرأس (blowholes).

– ذيل الحوت والجهاز العضلي.

– الجنين في موقف المقعدية –للولادة تحت الماء–.

– تعديل الثدي.

– فقدان الحوض والفقرات العجزية.

– إعادة تنظيم الجهاز العضلي.

والآن، بالعودة إلى عنوان الإشكالية، هل الإطار الزمني لتطور الحوت وظهور هذه التحولات المذهلة كافٍ؟

عالم الأحياء التطوري ريتشارد ستيرنبرج Richard Sternberg قام بالاستعانة ببعض آليات التطور المعتمدة لاختبار ذلك الحدث، ووفقا لتلك الحسابات التي أجراها ستيرنبرغ بالاستناد إلى معادلات الوراثة السكانية Population Genetics المطبقة في ورقة للعالمين شميدت Deena Schmidt ودوريت Rick Durrett في مجلة علم الوراثة، فإنه يتوقع حدوث تثبيت لاثنين من الطفرات في إطار زمني يقدر بحوالي ثلاث وأربعين مليون سنة.(57)

بالمقارنة مع حجم هذا التحول المرصود في تطور ثديي بري صغير –شبيه بالغزال أو الذئب أيًا كان التخيل التطوري– إلى حوت ضخم عتيد، فإن تطبيق آليات الوراثة السكانية وتثبيت الطفرات يعتبر هنا أمرًا جنونيّا، ولا يمكن حدوثه في فترة لا تتجاوز عشرة ملايين عام.

لكن ما رأيكم أن نزيد جرعة التعقيد، ونتخطى بها حاجز الجنون إلى الانتحار العقلي التام؛ ففي الآونة الأخيرة تم الإبلاغ عن اكتشاف عظم الفك لأحد الحيتان القديمة في القارة القطبية الجنوبية، بواسطة فريق بحث أرجنتيني، وقالوا إنها لأقدم حوت عاش حياة مائية كاملة قبل تسع وأربعين مليون سنة.(58)

هذا الكشف يدمر تمامًا المخطط الأحفوري السابق، ويُقلص الفترة الزمنية المزعومة لتطور الحوت من عشرة ملايين عام إلى مدة تقل عن ثلاثة ملايين عام أو أقل؛ ليصبح الأمر أقرب للخرافة.

الخاتمة:

لنتكلم بطريقة أكثر حزمًا أمام فاشية الداروينية، تلك التي تدعي زورًا انتهاجها سبيل العلم، ونلخص قصة تطور الحوت في المثال التالي: من المؤكد أن ثمرة الطماطم قد تطورت من عربة المطافئ الحمراء، لكنها فقدت عجلاتها التي كانت تسير عليها يومًا ما، ودليل ذلك أن كليهما أحمر اللون ومملوء بالماء!

لا تسخروا من منطقي وتقولوا وما شأن العجلات باللون، وهل هذا كافٍ لتقرير هذا الاستقراء العجيب؟! فإجابتي ببساطة ستكون إحالتكم لأصدقائنا من أنصار التطور، لأنهم وحدهم من يستطيعون الإجابة عن تلك الإشكالية، وهم وحدهم يستطيعون وضع السيناريو الكامل للتحول الجذري لثمرة الطماطم حتى فقدت عجلاتها من سلفها عربة المطافئ.

وكما قلنا سابقًا؛ الأمر يحتاج فقط للحبكة والمؤثرات، وبعض الخيال… الكثير من الخيال.

المصدر

نظرية التطور، نظرية داروين … بإنصاف

تعالوا ننصف “نظرية دارون” بعيداً عن أية مؤثرات غير معتبرة.

في هذه الحلقة نُقيِّم معًا أهمَّ أركان ما يُعرَف بنظريَّة التَّطور لداروين.

تشارلز داروين “Charles Darwin”هو باحثٌ إنجليزيٌّ في تاريخ الأحياء الطَّبيعيِّ، ذكَر مشاهداتٍ كثيرةً جَمَعها في رحلاته ونقلها عن آخرين؛ كالتَّشابه الشَّكليِّ والتَّشريحيِّ بين أنواعٍ مختلفةٍ من الكائنات، وأنماطِ توزُّعها الجغرافيِّ، وبنى عليها افتراض أنَّ كلَّ الكائنات الحيَّة أتت من أصلٍ مشتركٍ؛ مرَّ بعمليَّات تطوُّرٍ وتنوُّعٍ، بحيث يتغيَّر الكائن تغيُّراتٍ بسيطةً متراكمةً، ثُمَّ الطَّبيعةُ تُغربِل؛ فالتَّغيُّراتُ المفيدة تُبقيها الطَّبيعة وينتُج عنها نوعٌ جديدٌ من الكائنات بمرور آلافِ السّنين وملايينها! في حين قَضَتِ الطَّبيعة -حسب داروين- على عددٍ لا حصر له من الكائنات الانتقاليَّة، الَّتي حدثت فيها تغيُّراتٌ ضارَّةٌ أو غير نافعةٍ.

بالإضافة إلى دور الغربلة، افترض داروين أنَّ الطَّبيعة أسهمت في إحداث صفاتٍ جديدةٍ في الكائنات؛ بحيث عندما يكتسب الحيوان صفاتٍ مُعيَّنةً نتيجة بيئته فإنَّه يُورِّث هذه الصِّفات إلى أولاده، مُتَّفقًا بذلك مع افتراض لامارك “Lamarck” أنَّ الزَّرافة الَّتي تمتاز برقبةٍ طويلةٍ جدًّا كانت في يوم من الأيَّام برقبةٍ قصيرةٍ، ولكن مع تغيُّر الظُّروف الطَّبيعيَّة من حولها واضطرارها لمدِّ عنقها حتَّى تأكل من أعلى الشَّجر ظلَّ عنقها يستطيل جيلًا من بعد جيلٍ، حتَّى صارت إلى ما صارت إليه اليوم.

أهمُّ ما في الموضوع أنَّ داروين افترض أنَّ الكائنات الحيَّة إنّما نتجت عن هذه التَّغيُّرات بمجموع الصُّدف؛ أي دون قصد، دون قصد! وبتعبيره: “لم يكن هناك خطَّةٌ للخَلْق” “plan of creation” في إيجاد هذه الأنواع الكثيرة، وهو ما أكَّده في مواضع عديدةٍ من كتاباته.

نشر داروين أفكاره هذه عام 1859م في كتابٍ بعنوان: (حول أصل الأنواع) (On the Origin of Species) ثمَّ أراد أن يُعطي آليَّةً تفصيليَّةً لتوارثِ الصِّفات المكتسَبة فنشر بعد أعوامٍ من كتابه (أصل الأنواع) فرضيَّته الَّتي سمَّاها شموليَّة التَّخلُّق “pangenesis”؛ والَّتي افترض فيها أنَّ الطَّبيعة عندما تؤثِّر على خلايا الكائن فإنَّ هذه الخلايا الجسميَّة تُفرز موادَّ صغيرةً سمَّاها داروين جيميولز”Gemmules” والَّتي تتركَّز في الأعضاء التَّناسليَّة للكائن لتنتقل إلى ذرِّيَّته.

ومن أين جاء الأصل المشترك يا داروين؟! من أين جاء الكائن الأوَّل؛ الَّذي بَنَيْتَ عليه أفكارك، ونَسبت إليه الكائنات الحيَّة كلَّها؟!

لم يُبيِّن داروين في كتابه! لكنَّه نصَّ في مراسلاته مع عالِم النَّبات جوزيف دالتون هوكر “Joseph Dalton Hooker” على أنَّ رؤيته هي: أنَّ أوَّل كائنٍ نشأ في بِركةٍ دافئةٍ من عوامل كالضُّوء والحرارة والكهرباء، أي أن داروين اتَّفق بذلك مع فكرة “التَّوالُد الذَّاتي” الَّتي كانت شائعةً في عصره؛ حيث كان يُظَنُّ أنَّ الكائنات الحيَّة يمكن أن تتشكَّل تلقائيًّا من الجمادات، كان يُظَنُّ -مثلًا- أنَّ الحشرات تنشأ من بقايا الطَّعام، وأنَّ يَرَقات الذُّباب تنشأ من قِطع اللَّحم المتعفِّنة.

هذه باختصارٍ هي أركان نظريَّة التَّطوُّر لداروين: كائنٌ حيٌّ تولَّد بطريقةٍ ما من الجمادات، طبيعةٌ تُكسِب الكائن صفاتٍ جديدةً يمكن أن تحوِّلَه من نوعٍ لآخر، الصِّفات المكتسَبة تُورَّث، والطَّبيعة تَنتخِب بشكلٍ تراكميٍّ؛ وصولًا إلى كائناتٍ أرقى، فتُركِّب نُظُمًا حيويَّةً معقَّدةً من تغيُّراتٍ بسيطةٍ متعاقِبةٍ، والاستنتاج أنَّ الكائنات الحيَّة نشأت “evolved” دون قصدٍ ولا إرادةٍ مِن فاعلٍ مُريدٍ مختارٍ يعلم ما يفعل.

والآن…ما هو التَّقييم العام لتلك الأركان الَّتي بنى عليها داروين هذه النَّتيجة؟

أمَّا تولُّد الكائنات الحيَّة تلقائيًّا من الجمادات؛ فخرافةٌ سقطت بتجارب أشهرُها تجربة فرانسيسكو ريدي “Francesco Redi” قبل داروين بقرنين، وتجربة لويس باستور “Louis Pasteur” الَّتي نُشرت بعد كتاب داروين بخمس سنواتٍ، الَّتي أثبت فيها أنَّ الكائنات، الَّتي كان يُعتقد أنَّها تولَّدت ذاتيًّا من الجمادات كبقايا الطَّعام، إنَّما أتت من خارج الموادِّ الغذائيَّة مع الهواء الملوَّث بها، وإلى باستور هذا تُنسب عمليَّة التَّعقيم “البَسْتَرة”، والحليب المبْستَر.

والحقيقة أنَّ التَّولُّد الذَّاتيَّ ساقطٌ عقلًا أصلًا؛ أن تتصوَّر كائنًا حيًّا ينشأ هكذا تلقائيًّا من الجمادات! ومع ذلك أصرُّوا أن يجرِّبوا! جرَّبوا، فسقطت الخرافة بالعلم التَّجريبيِّ، بالإضافة إلى العقل.

وأمَّا إحداث الطَّبيعة لصفاتٍ جديدةٍ في الكائن عن طريق الاستعمال والإهمال كمثال رقبة الزَّرافة، فخرافةٌ سقطت أيضًا باكتشافات غِريغور مندل “Gregor Mendel”، الَّذي أثبت بعد داروين بسنواتٍ أنَّ الصِّفات الوراثيَّة للأبناء مهما تعدَّدت فهي لن تَخرُج عن الموجود أصلًا في الآباء، وسقطت كذلك باكتشافات الوراثة فوق الجينيَّة “epigenetics”؛ الَّتي بيَّنت أنَّ العوامل الخارجيَّة والبيئيَّة يمكن أن تُغيِّر طريقة قراءة المادَّة الوراثيَّة في كائنٍ ما؛ لتفعيل صفةٍ كانت كامنةً أو إخماد صفةٍ كانت منشَّطةً، لكنَّها لا تُضيف مادَّةً وراثيَّةً لم تكن موجودةً أصلًا.

وأمَّا توريث الصِّفات المكتسَبة؛ فخرافةٌ ساقطةٌ بالمشاهدة العاديَّة؛ فعضلات الحدَّاد والنَّجَّار-مثلًا- الَّتي اكتسباها في حياتهما لا تُورَّث إلى الأبناء، ومع ذلك أصرَّ أتباع داروين أن يجرِّبوا! جرَّبوا، وظلَّ فايزمن “Weismann” يقطع ذيول 19 جيلًا من الفئران ليُفاجأَ المسكين بعد طولِ تعبٍ، بولادة أبنائها كلَّ مرَّةٍ بذيولٍ من جديد! أي لم تنتقل الصِّفة المكتسبة وهي الذَّيل المقطوع إلى الأبناء.

المصدر

عنزة ولو طارت ـ خرافة نظرية التطور المعدلة

سقطت طاولة داروين “Darwin” بهدم الخرافاتِ الأربعة التي قامت عليها كما بينَّا في الحلقة الماضية، فسارع أتباع (داروين) لإجراء تعديلاتٍ على النَّظريَّة، هل هم بهذه التعديلات صحَّحوا أخطاء النظريَّة، وسدوا ثغراتها، وعدَّلوها لتتناسب مع المكتشفات العلمية الحديثة كما يقول البعض؟ أم أنَّ فكرة أنَّ الكائنات الحيَّة لا تحتاج إلى خالقٍ أعجبتهم، فأرادوا المحافظة عليها بأيّ ثمن؟ تعالوا لنرى…

أبرزُ التَّعديلات التي أجراها أتباع (داروين) على عناصر نظريته هي محاولة الجمع بين (الانتخاب الطبيعي)، و(مبادئ الوراثة الجينية) أي أنهم أقرُّوا بأنَّ الاستعمال والإهمال لا يُكسبانِ الكائنَ صفاتٍ غيرَ تلك الموجودة أصلًا في المادة الوراثية لأبويه، فالزرافة -مثلًا- لم يستطل عنقها عبر الأجيال لأنَّها مدَّته للأكل من أعالي الأشجار، كما أقرُّوا بأن الصِّفات المُكتسبة لا يورِّثها الكائن لأبنائه، خلافًا لطروحات (داروين) ولامارك “Lamarck”.

إذن ما سبب التغيُّرات المزعوم أنَّها حدثت في الكائنات، وكانت المادةَ الخام للانتخاب الطَّبيعي؟

قالوا: عوامل عديدة، أهمُّها الطَّفرات العشوائيَّة التي قد تقع في المادة الوراثيَّة بفعل الحرارة، موادَّ كيميائيَّة، أشعَّة كونيَّة، هذه الطَّفراتُ أحدثتِ التغيُّراتِ التدريجيَّة البطيئة المتراكمة التي افترضها (داروين)، والطَّبيعةُ قضت على الكائنات التي حدثت فيها طفرات ضارَّة، وأبقت على الكائنات ذات الطَّفرات المفيدة، كمرحلةٍ انتقاليةٍ إلى كائنٍ جديد، وسمَّوا هذا النَّموذج المعدَّل بـ(الداروينيَّة الجديدة) نيوداروينزم “Neo-Darwinism”، أو (النظريَّة التركيبيَّة الحديثة)، التي ساهم في صياغتها دوبنجانسكي “Dobzhansky” وفيشر “Fisher” وماير “Mayr” وهكسلي “Huxley” وغيرهم.

فحسب الداروينيَّة الجديدة: الطَّفَرات عشوائيَّة، والانتخاب الطَّبيعي موجَّهٌ باتجاه التطوُّر بتدرُّج، والتَّكاثر يَضمن استمرار النَّوع الجديد النَّاتج.

تعالوا لنرى هل هم بذلك أقاموا الأركان المنهارة لنظريَّة (داروين)، ووثَّقوا بينها وبين المكتشفاتِ الحديثةِ حقًّا؟ ما هي أركان نظرية (داروين)؟

– أولا: كائنٌ بسيطٌ تكوَّن تلقائيًّا من الجمادات

أَدرك من بَعدَ (داروين) أنَّه ليس هناك شيءٌ اسمه كائنٌ بسيط؛ فقد أظهرت المجاهرُ الإلكترونية أنَّ الخليَّة الحيَّة -وهي أصغر وحدة بناء، وهي التي كان يراها داروين كلطخة- هي في الحقيقة أعقد من أعقد مصنعٍ شيَّده الإنسان، وعملوا مقاطع مرئيّةً ثلاثيَّة الأبعاد؛ لتصوير روعتها، فهل كان ما اكتشفوه -من تعقيدِ وإبهارِ وروعةِ تصميم الخليَّة- سببًا في الاعتراف بأنَّه لا بدَّ لها من خالقٍ أوجدها بعلمٍ وإرادة، ليصحِّحوا خطأ (داروين) هنا؟

بل خلاصة أقوالهم هو الرُّجوع إلى قول (داروين) أنَّ الحياة نشأت تلقائيًّا من الجمادات، في رِدَّةٍ علميَّةٍ عن الحقيقة المقررة عقليًا، التي أثبتها تجريبيًّا أيضًا لويس باستور “Louis Pasteur”، بل وفرانسيسكو ريدي “Francesco Redi” قبل أربعة قرونٍ من الآن؛ أنَّ الحياة لا تنشأ تلقائيًّا من الجمادات رجَعوا إلى خرافة (داروين) في النُّشوء التِّلقائي، لكن بدل قول (داروين) أنَّ الكائن الأوَّل نشأ تلقائيًّا في (بِركَة)، قالوا: نشأ في (محيط) مع موسيقا وتصوير لإشعارك بهيبة هذه الخيبة، رجعوا لخرافة (داروين) لكن كانوا في ذلك أجهل منه؛ لأنَّ ما رأوه من تعقيد الخلايا أعظمُ ممَّا رآه (داروين).

– الرُّكن الثاني لنظريَّة (داروين): طبيعةٌ تُكسب الكائنَ صفاتٍ جديدةٍ بالاستعمال والإهمال كمثال الزَّرافة.

ظهرَ بطلانُ هذه الخرافة، فاخترعوا بدلًا منها خرافةً أكثر هزليَّة، خرافة أنَّ الطَّفرات العشوائيَّة -أي تراكماتِ الأخطاء- هي التي أبدعت الكائنات بما فيها من جَمالٍ، وتناسقٍ، وتنوُّعٍ، وتصميم، أي أن تخريب المادَّة الوراثيَّة لكائنٍ ما بفعل الأشعَّة أو السُّمومِ مثلًا، أنتجت منه -بعد محاولاتٍ كثيرة- كائنًا آخر أرقى، متناسقًا متكامل الأعضاء، وهكذا إلى أن وصلنا إلى ما نرى مِن أكثرَ من (8) ملايين نوعٍ من الكائنات المتناسقة المتكاملة في هذه الأرض.

حتَّى لا يقع أتباع الخرافة في مثل هذا الموقف المحرج مرَّةً أخرى اضطَّروا إلى صناعة أكبر كذبةٍ في تاريخ العلوم الحياتيَّة وهي تسميَّة (التَّكيُّفات) بـ(التَّطوُّر الصُّغروي) “Microevolution”، أي ادِّعاء أن التَّكيُّفات، التي في غاية في الدِّقَّة والرَّوعة والإحكام، تحدث نتيجة طفراتٍ عشوائيَّة وألَّف (دوكينز) كتابه: “أعظم استغباء…” عفوًا، “أعظم استعراض على سطح الأرض: أدلَّة التَّطوُّر” الذي يكذب فيه على قرَّاءه -وهو دكتور (بالإنجليزية) الأحياء التَّطوُّريَّة- فيحشد أمثلة للتَّكيُّفات البديعة، المشتملة على تفعيل جيناتٍ موجودةٍ أصلًا، على أنَّها ماذا؟ على أنَّها طفراتٌ عشوائيَّة، في كذبٍ سمجٍ مفضوح.

الرُّكن الثَّالث لنظريَّة (داروين): هو توريث الصِّفات المكتسبة بالاستعمال والإهمال

فالدُّب الذي اتَّسع فمه سنتيمترًا واحدًا ليلتقط به الذُّباب أثناء استجمامه في البحر، ورَّث هذا السنتيمتر لأولاده إلى أن اتَّسع الفم أكثر فأكثر، وتحوَّل دبُّنا إلى حوت وهذا كلُّه عن طريق الجيميولز “Gemmules” التي اقترح (داروين) أنَّ كل خلايا الجسم تفرزها؛ لتؤثِّر على الخلايا التناسليَّة وسمَّاها بنظريَّة بان جينيسيس “Pangenesis”.

الرُّكن الرَّابع لنظريَّة (داروين): هو تغيُّراتٌ طفيفةٌ تدريجيَّةٌ متراكمة تقود من كائنٍ إلى آخر بالانتخاب الطبيعي الذي يعمل بطريقة طائرة العميان، كما شرحنا في الحلقة الماضية

المصدر

قصة البكتيريا الهاضمة للسيترات-فضيحة لأتباع خرافة نظرية التطور

السَّلامُ عليكُم إِخوانِي وأخواتِي

هذا المقطعُ مكمّلٌ لحلقةِ “عنزةٌ ولوْ طارَتْ”، وهيَ الحلقةُ (22) مِن رحلةِ اليقينِ.

أتباعُ الخرافةِ يقولونَ لكَ: مُحرِّكُ التَّطوّرِ هو عمليَّاتٌ عشوائيَّةٌ أهمُّها الطَّفراتِ في المادَّةِ الوراثيَّةِ.

البكتيريا مثلًا، يقولونَ: “طوَّرَتْ صِفةً جديدةً نافعةً لها بالطَّفراتِ العشوائيَّةِ في زمنٍ محدودٍ، ومن ثَمَّ، فمعَ ملياراتِ السَّنواتِ يُمكِنُ أنْ تكونَ البكتيريا قد تطوَّرَتْ إلى كلِّ أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ بالطَّفراتِ العشوائيَّةِ أيضًا”.

سنؤجِّلُ مناقشةَ ملياراتِ السَّنواتِ هذه ومدى صحَّتِها، وسنؤجّلُ افتراضَ أنَّه إذا ثبتَ أنَّ العشوائيَّةَ تعطي البكتيريا صفاتٍ نافعةً، فإنَّ هذا يعني إمكانيَّةَ أنْ تتحوَّلَ بالعشوائيَّةِ أيضًا إلى كلِّ الكائناتِ التي نرَى، سنؤجِّلُ هذا ونركِّزُ على أصلِ الموضوعِ. هل تُطوِّرُ البكتيريا صِفاتٍ جديدةً نافعةً لها بالعشوائيَّةِ حقًّا؟

أشهرُ تجربةٍ يستدلُّونَ بها على ذلكَ هي تجربةُ رِيتشارْد لِينسْكي “Richard Lenski” على البكتيريا المعويَّةِ إِسشيريشيا كولاي “Escherichia Coli” أو اختصارًا إيكولاي “E. Coli”، التي قامَ فريقُ لينسكي بتنميَتِها مَخبريًّا. وأكثرُ ما يركِّزونَ عليهِ في هذه التَّجربةِ، هو أنَّ بعضَ هذه البكتيريا استطاعَتْ بعدَ مرورِ سنواتٍ طويلةٍ على تنميتِها، أنْ تلتقطَ مادَّةَ السّيتراتِ “Citrate” لتتغذَّى عَليها.

ما قِصَّةُ السّيتراتِ؟ بكتيريا الإيكولاي كأيِّ كائنٍ تحتاجُ إلى الغذاءِ. افترضْ أنَّ أمامَها جلوكوز “Glucose” وسيترات “Citrate”، أيَّهما ستستعملُ غذاءً؟ إذا كانَت البكتيريا موجودةً في مكانٍ فيهِ أوكسجين، كأمعاءِ الإنسانِ، فإنَّها تتغذَّى على الجلوكوزِ ولا تتغذَّى على السيتراتِ؛ لديْها النَّواقلُ اللَّازمةُ لإدخالِ الجلوكوز عبرَ غشائِها، وليسَ لديها النَّواقلُ اللَّازمةُ لإدخالِ السّيتراتِ.

لينسكي وضعَ هذِه البكتيريا في أنابيبَ مخبريَّةٍ، زوَّدَها بالجلوكوزِ والسّيتراتِ، وكانَ ذلكَ كلُّه في وجودِ الأوكسجين، إذنْ يُفترَضُ أنْ تتغذَّى على الجلوكوزِ فقطْ، معَ ذلكَ، تفاجأَ لينسكي بأنَّ هذه البكتيريا في إحدى مجموعاتِ الأنابيبِ، وبعدَ مرورِ سنواتٍ طويلةٍ نمَتْ وزادَ عددُها بشكلٍ سريعٍ، أسرعَ منَ الأنابيبِ الأخرى، بحثَ عن السببِ، فوجدَ أنَّها استطاعَت تناولَ وهضمَ السّيتراتِ، إضافة إلى الجلوكوزِ، ونشرَ نتائجَه هذِه.

ماذا استنتجَ أتباعُ الخرافةِ؟ استنتجوا أنَّ البكتيريا طوّرَتْ بالطّفراتِ العشوائيَّةِ النَّواقلَ اللَّازمةَ لنقلِ السّيتراتِ عبرَ غشائِها، لتهضمه بعدَ ذلكَ. ومن ثم، فها هيَ الطَّفراتُ العشوائيَّةُ تضيفُ صفةً جديدةً للبكتيريا تساعدُ في تطوُّرِها، وكلُّ هذا في بضعةَ عشرَ عامًا. ومن ثم، بمرورِ ملياراتِ السّنواتِ يمكنُ ألّا تكونَ البكتيريا قد طوَّرت صفاتٍ جديدةً فقطْ، بلْ وتطوّرَت إلى كائناتٍ جديدةٍ، وهذه تطوّرَت إلى غيرِها، إلى أنْ نتجَت عندَنا هذه الملايينُ مِن أنواعِ الكائناتِ الحيَّةِ، وكلُّ ذلكَ بفضلِ الطَّفراتِ العشوائيَّةِ التي انتخبَت منها الطبيعةُ.

بعدَما طارَ أتباعُ الخرافةِ فرحًا بالتَّجربةِ، اصطدمُوا بالجدارِ؛ عامَ (2012) نشرَ لينسكي صاحبُ التجربةِ نفسِهَا في مجلّةِ نَايْتْشرْ “Nature” ما حصلَ بالضَّبطِ في هذه البكتيريا. إنَّه مضاعفةُ الجينِ، التي تقرصنَت على بروموترْ ينشطُ بوجودِ الأوكسجين لإنتاجِ ناقلٍ للسيترات كانَ موجودًا أصلًا ولكنَّه غيرُ مفعّلٍ. ووضّحُوا ذلكَ بهذا الرَّسمِ المهمِّ.

لو مثّلنَا بكتيريا الإيكولاي بهذا الشكلِ، وهذا جزءٌ مّن مّادَّتِها الوراثيَّةِ (الجينوم “Genome”). هذه البكتيريا في العادةِ إذا كانَت في مكانٍ فيهِ أوكسجين، فإنَّها تلتقطُ الجلوكوز، ولا تلتقطُ السّيترات كما قلنَا، لأنَّ الجلوكوز يُنتِجُ لها طاقةً أكثرَ من السّيترات.

حسنًا، كيفَ تمكّنَتْ من التقاطِ الجلوكوز دونَ السّيترات؟ هناكَ موضع في جينوم ِالبكتيريا اسمُها برُومُوتَرْ “Promoter”، تتجمّعُ عندَها قارئاتٌ لتقرأَ الجينومَ بهذا الاتِّجاهِ -إلى اليمينِ- وبعدَ عمليَّاتٍ مُعقَّدةٍ، تُنتجُ بروتيناتٍ مُعيَّنةً مثلَ نواقل غلوكوز. الأوكسجين يُنشِّطُ هذا البروموتر في حين يُثبِّطُ هذا البروموتر، أي يمنعُ القارئاتِ من قراءةِ جين ناقلِ السّيترات. ومن ثَمَّ لنْ تستطيعَ البكتيريا في وجودِ الأوكسجين أنْ تستفيدَ مِن السّيترات. في تجربةِ لينسكي، كانَت البكتيريا تنمو إلى أنْ تستنفد الجلوكوز.

البكتيريا بشكلٍ عامٍّ كائناتٌ في منتهى المرونةِ، موجودةٌ في كلِّ مكانٍ، تحلّلُ الجثثَ، تنظّفُ كوكبَ الأرضِ، هذِه مَهمّتُها، فتستطيعُ التَّأقلمَ معَ الظُّروفِ المختلفةِ.

المصدر

في سبيل الخرافة – رحلة الفشل في محاولة إيجاد دليل على نظرية التطور

في الحلقتين الماضيتين، رأينا كيف أسَّس داروين عناصر خُرافته على شفا جرُفٍ هارٍ، وبنى عليها أنصارهُ من بعده؛ فَانْهار بهم في مزيدٍ من مصادمة العقل والعلم، فالمسألة ليست أخطاءً صُحِّحت وثغراتٍ سُدَّت، بل خروقٌ وُسِّعت، و(عنزةٌ ولو طارت)، وما زادتِ التَّعديلاتُ النَّظريَّةَ إلَّا خُرافيَّةً ومصادمةً للاكتشافات. يقولون لك: لكنْ، هذه النَّظريَّة عليها أدلَّةٌ، وقد جاء مَنْ بعد داروين ليحشدوا المزيد مِن الأدلَّة تعالوا نرَ مجموعات (الأدلَّة المزعومة)!

– أولًا: الأحافير

حسب داروين، فإنَّ الكائنات الحيَّة تطوَّرت من أصلٍ مشتَرَكٍ -أو أصولٍ قليلةٍ- بتدرُّجٍ بطيءٍ، ومن ثم يُفترَض أن نرى ذلك التَّدرُّج على أرض الواقع، لكنَّنا نجد بينها -في الحقيقة- تمايزًا كبيرًا، وفجَواتٍ هائلةً، وحدودًا عازِلةً، فأين الكائنات الانتقاليَّة بين الزَّواحف والطُّيور مثلًا؟ لا وجود لها على أرض الواقع. أَقرَّ (داروين) بأنَّ هذا يناقض خيالاته، فعوَّض عن ذلك بتخيُّل أنَّ هذا التَّدرُّج والكائنات الانتقاليَّة كانت موجودةً في الماضي، ومن ثم يجب أنَّ نجد أحافيرها وأجسامها المتحجِّرة تحت الأرض.

ثانيًا: وجد (داروين) أنَّ الكائنات الانتقاليَّة ليست (لا حصر لها) كما تُحتِّم خُرافته؛ بل لا وجود لها، ومن ثم فكلُّ الأدلِّة كانت ضدَّ افتراضات (داروين) هل جَهل (داروين) ذلك؟ لَمْ يجهله ولعلَّ البعض يظنُّ أنَّ هذه الاكتشافات جاءت بعد (داروين)، والحقُّ أنَّها مِن أيَّامه وقد تكلَّم باستفاضةٍ عن كائنات (العهد الكامبري)، وتساءل أيضًا عن غياب الكائنات الانتقاليِّة قائلًا: “بما أنَّه -حَسْبَ هذه النَّظريَّة- فإنَّه لا بدَّ أن تكون قد وُجِدت في الماضي أشكالٌ لا حصر لها مِن الكائنات الانتقاليَّة، فلماذا لا نجدها مدفونةً بأعدادٍ لا حصر لها في طبقات الأرض؟” ممتازٌ، إذن، استيقظتَ مِن أحلامك يا (داروين)؟ لا، بل لا بدَّ للخرافة أنْ تستمرَّ بدل أن يُعنوِنَ (داروين) اعترافاته هذه بعنوان: (السجلُّ الأحفوريُّ يخيِّب أحلامي كما خيَّبها ما فوق الأرض) عَنْوَنها في كتابه بعنوان: (عدمُ اكتمالِ السِّجلِّ الأحفوريِّ).

—————————–

عام (1922) وجد عُشَّاق الُخرافة ضِرسًا في (نبراسكا) في الولايات المتّحدة نعم، ضرسٌ فاعْتَبروه دليلًا مهمًّا على التَّطوُّر ورسموا عليه شِبه إنسانٍ قالوا أنّه عاش قبل (6) ملايين سنةٍ وأعطوه اسمًا علميًّا ونشرت مجلّة سَيَنْسْ “Science” -المعروفة- مقالًا علميًّا مُحكَّمًا عن هذا الاكتشاف العظيم، لكن بعد (5) سنواتٍ تبيَّن أنَّ هذا السَّنّ هو سنُّ خنزيرٍ وعادت مجلّة “سَيَنْسْ” نفسُها فنشرت نفيًا لما جاء في مقالها السّابق.

ثمّ عام (1979) عثر عُشَّاق الخرافة على عظمةٍ قالوا: وجدنا الدّليل، إنّها ترقوة شِبه إنسانٍ عاش في الزّمان البعيد ثمّ تبيّن أنّها جزءٌ من ضلع دولفين كما نشرت مجلة نيو سَيَنْتست “New Scientist” بعد (4) سنواتٍ.

ثمّ عام (1984) وجد ثلاثةٌ مِن العلماء -عُشَّاق الخرافة- جزءًا مِن جمجمة طاروا بها فرحًا، ها هو الدليل أخيرًا، رسموا على هذا الجزء من الجمجمة شِبه إنسانٍ قالوا أنَّه مات وهو في (17) من عمره وقدّروا أنَّه عاش قبل (900) ألفٍ إلى (1.6) مليون سنةٍ، وسَمَوهُ إنسان أورس (Orce Man)، وحدّدوا له مكانًا في سُلَّم التَّطوّرِ المزعوم، وسُمِّيَ هذا الاكتشاف (اكتشاف القرن)، وأُقيم له مؤتمرٌ صحفيٌّ حضره كبار الشّخصيّات، وعمّت الأفراح والّليالي المِلاح، لكنَّها فرحةٌ ما تمَّت؛ تبيَّن بعد ذلك أنها جمجمةُ حمارٍ صغيرٍ، وأصبح هؤلاء سخريةً للمجلّات السّاخرة.

وهكذا يسير عُشَّاق الخرافة في السّهول وفي الجبال والمزابِل والمقابر يبحثون عن أصولهم في كلِّ شيءٍ تَطؤُهُ أقدامهم؛ في أضراس الخنازير، وأضلاع الدّلافين، وجماجم الحمير كمفلسٍ ملتاثٍ يحسب البَصْقةَ قِرْشًا كلُّ هذا في سبيل الخُرافة.

——————————–

الدّليل الثّاني: بصمات الصُّدفة في أعضاءٍ لا فائدة منها

كان داروين في كتابه (تحدّر الإنسان)، الّذي نشره بعد (أصلِ الأنواع)، قد ذكر أمثلةً عديدةً على أعضاء ضامرةٍ غير مفيدةٍ في جسم الإنسان كدليلٍ على التّطوُّر وسمّاها (الأعضاء الأثريَّة)، مَنْطِقُهُ في ذلك: أنَّ هذا الإنسان ما دام قد جاء بمجموع الصُّدف، فإنّ الصُّدف ستكون قد تركت بَصْمَتَها في منتجاتها: بقايا تطوّريّةً، وآثارًا مِن الأسلاف والجدود الحيوانيّة، الّتي لم يَعُد لها وظيفةٌ في جسد الإنسان، وكأنّ (داروين) قد فتح بذلك بابًا فأسرع أنصارهُ يتدافعون فيه يُنقّبون جسم الإنسان ويمحِّصُونه جزءًا جزءًا بحثًا عن أخطاء!

الدّليل [الثالث] -والّذي اعتمد عليه داروين كثيرًا: وجود بعض التّشابهات الشَّكليَّة في الشّكل الخارجيّ، والتّشابهات التشريحيّة بين بعض الكائنات الحيّة

اعتبار الشَّبَه دليلًا على وَحْدة الأصل ليس مقدّمةً علميّةً، ولا منطقيّةً ويكفي في إبطال دلالته ظاهرة التَّشابهات الشّديدة بين الحيوانات (المشيميّة) وشبيهاتها (الجِرابيّة).

الدّليل [الرابع]: التّشابه الجنينيُّ

المصدر

بطلانُ نظرية داروين بالأدلة النّقْليّة والعقلية

الحمد لِلّهِ الذي وهبنا العلم وجعله نوراً نهتدي به، والصلاةُ والسلامُ على خاتم الأنبياء، أما بعد:

فلقد كثُرتِ المقالاتُ والأبحاثُ العِلميّةُ، حولَ نظريّةِ داروين، بين مُؤيِّدٍ ومُفنِّد. ويتساءلُ البعضُ: هل توجدُ أدِلّةٌ نَقْلِيَّةٌ، أو عقليةٌ على بُطلان هذه النّظريّة؟

هذا ما سنُحاوِل الإجابةَ عنه في هذا البحث، طالبين من اللهِ -سبحانه وتعالى- التوفيق والسّداد.

أوّلاً: بيانُ بطلان نظريّة داروين على ضوء النقل (الكتاب والسنة)

أ- نظرية التطور في ميزان القرآن:

لاشكّ أنّ القرآنَ كتابُ هدايةٍ، لا كتابَ أبحاثٍ علميّة؛ ولكنّنا قد نجد فيه بعضَ الإشاراتِ إلى بعض المسائلِ العِلْميّة.

ولقد جاء ذِكرُ خلقِ آدمَ -عليه السلام-، في بعضِ الآياتِ القرآنية بشيءٍ من التوضيح والتفصيل؛ من هذه الآيات الكريمة:

1 -قولُه تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [ آل عمران59 ].

جاء في كتاب «الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» للواحدي:” الآيةُ نزلت في وفد نجران، حين قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل رأيت ولداً من غير ذَكَرٍ؟ فاحتجَّ الله تعالى عليهم بآدم عليه السَّلام، أَيْ: إنَّ قِياسَ خلقِ عيسى عليه السَّلام من غير ذَكَرٍ، كقِياس خلق آدم عليه السَّلام، بَلِ الشَّأْنُ فيه عَجَبٌ؛ لأنَّه خُلِق من غيْرِ ذَكَرٍ ولا أُنثى؛ وقوله: (عند الله)، أَيْ: في الإنشاء والخلق. وتَمَّ الكلامُ عند قوله: (كمثل آدم)؛ ثُمَّ استأنف خبراً آخر من قصَّة آدم عليه السَّلام فقال: (خلقه من تراب)، أَيْ: قالباً من تراب ( ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ ) بشراً ( فَيَكُونُ ) بمعنى فكان”اھ.

وهذه الآيةُ، هي أقوى دليلٍ على أن آدم خُلِقَ خَلْقاً مُباشراً؛ والملاحظُ أنّ أكثرَ الباحثين، الذين يُؤيِّدون نظرية داروين، لا يذكرونها في أبحاثهم!

2-قوله تعالى: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي…) [ سورة المائدة: بعضُ آية 110 ].

إنّ قومَ عيسى -عليه السلامُ- كانوا يؤمنون بأنّ اللّهَ -تعالى- قد خلق جميعَ الأحياءِ خلقاً مباشراً؛ لأن هذا كان مذكوراً في التوراة، ورُؤيتُهم بأعيُنِهم كيف يخْلُق اللّهُ الطّير خلقاً مباشراً على يدِ عيسى -عليه السلام-؛ قد زادَتْهم إيماناً على إيمانهم بِقدرةِ اللّهِ -تعالى- على الخَلْقِ المباشرِ للأحياء؛ ولقد وَرَد عن النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّه قال:(لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) [أخرجه أحمد والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين والطبرانى فى الأوسط والضياء وابن حبان وصحّحه الألباني].

وهبْ أنّهم كانوا يجهلون كيف خلق اللّهَ الخلقَ (أي: هل خلقه خلقاً مباشراً أمْ أنّه -تعالى- خلقه عن طريق التطور)؟، فلا شكّ أنّهم كانوا يتساءلون عن كيفية بدء خلق الإنسان؛ ورُؤيتُهم معجزة خلق الطير خلقاً مباشراً -بإذن اللّهِ تعالى- سيعتبرونها جواباً عنْ سؤالهم، وسيَنْطَبِعُ في أذهانهم -وبطريقة عفوية- أنّ اللّهَ قد خلق جميع خلقه بنفس الطريقة. وفي هذه الحالة فإنّ اللّهَ -سبحانه وتعالى- لا يمكن أنْ يُرِيَهم قدرتَه على الخَلْق المباشر، إذا كان قد خَلَق الخَلْقَ عن طريق التطور؛ لأنّ هذا سيكون فيه تضليلٌ لهم!

إنّ معجزة كل رسول كانت مناسِبة لما انتشر في عصره، ففي عهد موسى -عليه السلام- انتشر السحر، فجاءهم بما يعجز عنه السحرة؛ وفي عهد عيسى -عليه السلام-، برع بنو إسرائيل في الطب؛ فأراهم رأي العين، كيف يخلق اللّهُ -تعالى- الخلق، وقدرته على إحياء الموتى وإبراء المرضى بدون سبب! وكأنه يقول للأطباء: هكذا يخلق اللّهُ الأحياء، فهل تستطيعون أن تفعلوا مثله؟ واللهُ يبرئ بدون أدوية، فهل تستطيعون إبراء المرضى بدون أدوية؟

3-قوله تعالى:(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) [سورة الكهف: الآية 37].

قال الطبري في تفسيره: “يقول تعالى ذكره: قال لصاحب الجنتين، صاحبُه الذي هو أقلُّ منه مالاً وولداً، (وَهُوَ يُحَاوِرُهُ): يقول: وهو يخاطبه ويكلمه: (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ) يعني خلق أباك آدم من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) يقول: ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة”.

وهذا يدل على أنّ الإنسان كان يعلم -منذ القدم- أنّ أصله بشرٌ مثلُه، وأنّه خُلِق مباشرةً من التُّراب. والمُخاطَبُ يعلم أنّ مُخاطِبَه يعني بكلامه (خلقك من تراب) آدم -عليه السلام-، ولو لم يفهم منه ذلك، لقال له: “أمجنونٌ أنت، أتزعم أنني خُلِقْتُ من تراب؟ “؛ لأنه -في غياب التقدم العلمي والتكنولوجي في ذلك العصر البعيد- لمْ يكن مُمْكنا تحليل جسم الإنسان؛ حتى يكتشفَ العلماءُ أنّ جسمَه أصلُه مِن تُراب!

فلا شكّ أن النّاسَ كانوا يعلمون -أباً عن جدٍّ- أن آدم خُلِقَ خَلْقاً مُباشراً من التراب، وأنّه هو أولُ إنسان وهو أبو البشر.

ب- نظريّةُ التطوّرِ في ميزان السُّنّة:

من الأحاديث الصحيحة التي جاء فيها ذِكْر خلق آدم – عليه السلام – :

1 -قوله -صلى الله عليه وسلم-: “لمّا صوَّرَ اللهُ آدمَ في الجنة تركه ما شاء اللهُ أنْ يتركه، فجعل إبليسُ يُطيفُ به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوفَ عَرف أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَك” [رواه مسلم].

فآدم صوّره الله -تعالى- في الجنّة، وليس في بطن امرأة!

ولا يُمكن أنْ يُقالَ: “إنّه يُحتَمَل أنْ يَكون قد صُوِّرَ في بطن أمّه، وأنّ أمّه كانت حينئذ في الجنة؛ وأنّه لمّا صُوِّرَ، جعل إبليسُ يطوف حوله قبل أنْ يُنفخَ فيه الروحُ وينظرُ إليه ليتعرّف عليه! هذا الطواف لا يمكن أن يحدث داخل بطن امرأة! ثُمّ إنّه لو كان لآدم أب وأُمّ، لكان قريب الشبه لأبيه -حسب نظرية داروين نفسها- ولما احتاج إبليسُ أن يطوف حوله؛ لأنّ آدمَ كان مخلوقاً غريب الشكل بالنسبة لإِبليسَ.

2-قولُه -صلى الله عليه وسلم-: “خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً” [رواه البخاري ومسلم].

فآدم لمّا خلقه اللهُ كان طولُه ستين ذراعاً، وبهذا الطول يُستبْعدُ جداً أنْ يكون قد خُلِقَ في بطن امرأة!

ملاحظة: طعن بعضُ النّاس (المعروفين بالسّطحيّةِ في أبحاثهم، والتَّسَرُّعِ في أحكامهم واستنتاجاتهم) في هذا الحديث المتفق عليه؛ وأتوا بأدلة لا علاقةَ لها بالبحث العلمي النزيه؛ ولقد رَدَّ عليهم بعضُ الباحثين، وبيّنوا ضُعْف أبحاثهم [انظر:

أ- كُتيّب «البراهين الواضحات في صحة طول أبينا آدم ستين ذراعاً والرد على الشبهات.«

ب- http://kazaaber.blogspot.com/2012/12/blog-post.html?m=1

ج http://kazaaber.blogspot.com/2013/07/blog-post_16.html?m=1-

3-قوله – صلى الله عليه وسلم – : ” إنّي عند الله في أمِّ الكتابِ لَخاتَمُ النّبيِّين، وإن آدم عليه السلام لَمُنْجَدِلٌ في طينته” [رواه الإمام أحمد].

ومعنى مُنْجَدِل في طينته، أي: مُلقى على الأرض وهو في مرحلة الطين؛ وهذا دليل على أنّ آدم خُلِق خَلْقاً مباشراً من الطين، قبل نفخ الروح.

4-قوله -صلّى اللهُ عليه وسلّم-:( الَّذينَ يصنَعونَ هذهِ الصُّوَرَ يُعذَّبونَ يومَ القيامةِ. يُقالُ لَهُم: أَحْيُوا ما خَلَقتُمْ ) [رواه البخاري ومسلم]

وقال -صلّى اللهُ عليه وسلّم-:(يَا عائِشَةُ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَاباً عِند اللَّهِ يَوْمَ القيامةِ الَّذينَ يُضاهُونَ بِخَلقِ اللَّهِ “متفقٌ عَلَيْهِ).

وفي حديث آخرَ قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم-: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً) [رواه البخاري ومسلم].

ففي هذه الأحاديث بيانُ غضبِ اللّهِ على مَنْ يقْصِد بتصويره مضاهاة خلق اللّهِ، أي مَنْ يحاول أنْ يخلق صُوَراً تشبه الصُّوَر التي خلقها اللّهُ قبل أن ينفخَ فيها الروح؛ ولم يبق لهذا المُصوِّرِ إلاّ أنْ ينفخَ فيما صوّرَه الروحَ لإتمام الخلق؛ ولذلك فإنّ عقوبتَه يوم القيامة هي أنْ يُقالَ له: أَحْيِي ما خلقتَه!

وهذا دليل على أنّ اللّهَ قد خلق الخلقَ خلْقاً مباشراً، أي: أنّه -تعالى- يُصوّرُ ما يريد خلقه صورةً كاملةً، ثمّ يخلقُ فيها الحياة. ولا شكّ أنّ هذا هو ما يتبادر إلى ذهن كلّ مسلمٍ سليمِ الفطرة وصلته هذه الأحاديث، ولم يسمع بنظرية التطور الداروينية!

تنبيه1: حسب علمي، الأدلة التي عرضتها لم أرَ أحداً أشار إليها، باستثناء الدليل الأول ( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم…).

تنبيه2: لم أذكر نصوصاً أخرى من االكتاب والسُّنة، التي تناولت خلق آدم -عليه السلام-؛ لأنه وقع فيها الجدال والنّكران، بين أهل العلم والإيمان.

تنبيه3: يقول تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ آل عمران: 33].

لقد استدلّ بعضُ المعاصرين بهذه الآية على أنّه وُجِدَ بشرٌ قبل آدم، لأنّ الاصطفاء لا يمكن أنْ يكون إلاّ كان مع آدم بشر آخرون!

وهذا خطأ في التفسير، ويدلّ على التّسرّع في الكتابة قبل إتمام البحث.

فلقد قال ابن كثير في تفسيره: “يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى { آدم} عليه السلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة”.

قال الشيخ الشعراوي في خواطره: “عندما يسمع الإنسان قول الحق: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ } فقد يتساءل عن معناها، ذلك أن من اصطفاء الله لآدم تأتي إلى الذهن بمعنى “خصه” بنفسه أو أخذه صفوة من غيره، فكيف كان اصطفاء آدم، ولم يكن هناك أحد من قبله، أو معه لأنه الخلق الأول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل العادي أن اصطفاء الله لنوح عليه السلام؛ كان اصطفاء من بشر موجودين، وكذلك اصطفاء إبراهيم خليل الرحمن وبقية الأنبياء.

إذن، فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى {ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ} -كما قلنا- تعني أن الله قد اختاره أو أن “المصطفى عليه” يأتي منه ومن ذريته. نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته، وهذا المعنى يصلح، والمعنى السابق عليه يصلح أيضا.”

قال السعدي في تفسيره:” يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه، فأخبر أنه اصطفى آدم، أي: اختاره على سائر المخلوقات، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأسكنه جنته، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات”.

قال الشيخ طنطاوي في تفسيره:”والمعنى: إن الله- تعالى- قد اختار واصطفى آدَمَ أبا البشر، بأن جعله خليفة في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته.”

ثانياً: دراسة نظرية التطور على ضوء التفكير المنطقي

هناك مدْرستان مشهورتان تُفسِّران نشوء الإنسان الأول، وَهُما:

–مدرسةُ التّصْميم الذكي؛ وتعتمد على مفاهيمَ تناقلَتْها البشريّةُ بطريق التواتر، عبْر تفاسيرِ الديانات والثقافاتِ المختلفة. [ انظر https://www.arageek.com/2015/10/01/ancient-legends-stories-creation-and-life.html ].

ولقد لاحظ بعضُ الباحثين اللادينيين اتفاقَ الأساطير والأديان الثلاثة المشهورة على الخلق المباشر، إلاّ أنّهم زعموا أنّ الإسلام والمسيحية أخذوا فكرة (الخلق المباشر) من اليهودية، واليهودية سرقتها من الثقافات والأساطير القديمة!

ولكن يبقى السؤال دائماً مطروحاً وبدون جوابٍ من طرفهم، وهو: مِن أين جاءت فكرةُ الخلقِ المباشر؟ ولماذا جميعُ الأساطير متفقة عليها؟

نحن -المؤمنين- نُؤمن أنّه كانت أديان كثيرة قبل هذه الأديان المعروفة، وفي التنزيل يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر:جزء من الآية 78].

فالصحيحُ -عندنا- هو أنْ يُقالَ: إنّ هذه الأساطير أخذت فكرة (الخلق المباشر) من تلك الأديان القديمة.

–المدرسة التطَوُّريّة، وهي تعتمد على فكرة التطور التدريجي للعالم والبشر، بناءً على نظرية التطور عبر الانتخاب الطبيعي.

ولعلّ المدرسةَ الأولى هي أقربُ إلى القَبول من المدرسة الثانية؛ لأنها توافق العُقول.

وهي توافق العقول؛ لأنّ الخلقَ المباشرَ لأول إنسان، كان معلوماً عند جميع أهل الإيمان والأديان، ومكتوبٌ في التوراة والإنجيل والقرآن؛ بلْ ومُسطّرٌ في أساطير الأوّلين -مع اختلافهم في مادة الإنشاء- منذ أقدم الأزمان.

ولا يمكن للجميع أنْ يتفقوا على الخلق المباشر بدون دليل ولا برهان؛ لأن حدوثَ مثلِ هذا الاتفاق يستعصي فهمُ سبَبِه على الأذهان، وذلك لأنّ الكائناتِ الحيّةَ وُجِدَتْ قبْلَ وجودِ الإنسان -وهذا باعتراف نظرية التطور نفسها-، وكان الناسُ يرون السِّباعَ والطّيرَ والحيتان، ولمْ يشاهدوا حيواناً خرج إلى الوجود بدون وِلادَةٍ ولا إعْلان! فكيف خطرَ على بالِهِم أنّ أصلَهم بَشَرٌ (وهو آدم) خُلِقَ خَلْقاً مباشرا، بدون أن يكون له أبوان؟ ولِمَ لَمْ يخْطُر على بالِهِم أن أصلَهم أو جدَّهم الأعلى هو قِردٌ أو سَعْدَان؟ ولو خَطَرَ هذا على بالهم، لكان مقبولاً؛ لأنه أقربُ إلى فكرهم البسيط وإلى الوِجْدان.

فلا شكّ أنّ فكرةَ الخلق المباشر لآدمَ -أوّلِ إنسان-، وصَلَتْهم عن طريق الوحي والإيمان!

واللهُ أعلم، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)، والحمد للّه ربِّ العالمين.

المصدر

رصاصة دارون على الإنسانية 1

الملحِدون حين أنكروا الله، لَجأ مُعظَمُهم، إلى ما يُعرف بنظرية التطّور لـ(داروين) كتفسيرٍ لوجود الإنسان، وسنُناقش هذه النظرية نقاشًا علميًا في الموضِع المناسب بإذن الله، وإنّما يَعنينا هنا الإشارة إلى بعضِ النتائج الأخلاقية (للتطّور الدارويني)

لِنرى هذا الذي تبنَّى التطّور كبديلٍ عن وجود الله: هل زوَّده هذا البديل بأيّ أساسٍ للأخلاق؟ أَمْ على العكس تمامًا؟

(التطوُّر الدارويني) يقوم على أنَّ الكائنات جاءت عَبْر تطوُّر خليةٍ أولية، بطَفراتٍ عشوائيِّة وانتخاب طبيعي.

الانتخاب الطبيعي يعني: أنَّ البقاء في هذه الطبيعة هو للكائن الأصلح في قدرته على التكيُّف مع الطبيعة.

و البقاء للأصلح يعني: الصراع مع الكائنات الأخرى الأحطّ في السُّلَّم التَّطوُّري

فالصراع هو قانون الطبيعة حَسْب داروين، نَشَرَ ذلك في كتابه (أصل الأنواع)، ثُمَّ في كتابه “The Descent of Man” (أصل الإنسان).

سحب داروين نظريته على الإنسان، واعتبر أنّه تطوَّرَ من أصلٍ شبيهٍ بالقرود، وحين يتكلَّم داروين عن الإنسان الأرقى تطوُّريًا، فإنَّما هو يعني (الأوروبيّ الأبيض) أمّا باقي الأجناس فهم عند داروين في مرحلةٍ وسطى بين القرود والغوريلّا وسلفِهم، وبين الإنسان، أي: لم يكتمل تطوُّرهم بعد.

كيف؟ يقول تشارلز داروين في كتابه (أصل الإنسان) في الفصل السادس: “في فترةٍ مستقبليةٍ ما ليست ببعيدة -إذا ما قِيست بالقرون-

ستَقوم الأجناس المتحضِّرة من الإنسان، وبشكل شِبه مُؤَكَّد بإبادة واستبدال الأجناس الهَمَجيِّة عَبْر العالَم”

أَطلق داروين -بأفكاره هذه- الرصاصة على إنسانيّة الإنسان واستند عليها الأوروبيّون للقيام بإباداتٍ جماعية وحملات تطهيرٍ عِرقي،

خاصَّةً ضد الإفريقيِّين وسُكَّان الأمريكتين وأستراليا الأصليين فهؤلاء أقرب للحيوانات في نظر الداروينيِّين.

صحيحٌ أنَّ كثيرًا من المُمارسات الإجرامية كانت تَتِمّ قبل انتشار فكرة التطوّر الدارويني، لكنَّ هذه الفكرة أراحت ضمائر المجرمين، فقد أصبح لِجَرائمهم مبرِّرٌ علميّ، فاسْتَمرّوا في أفعالهم، بل وتَصاعدت وتيرتُها.

مَلَفّ الإجرام الذي مُورِسَ كبيرٌ جدًا لا يتَّسِع له المقام، لكنْ إشاراتٌ سريعة تُقَرِّب لك الصورة:

وشمِلت الحملات سرقة أعدادٍ كبيرة من الأطفال الأستراليّين الأصليّين، وتم إرسال أعدادٍ كبيرةٍ منهم إلى متاحف التاريخ الطبيعي في أمريكا وبريطانيا لتحديد ما إذا كانوا يُشَكِّلون الحلقة المفقودة في طريق تطوّر الحيوان إلى إنسان، وقد اعتذر رئيس وزراء أستراليا

كيفن رود “Kevin Rudd” للأجيال المسروقة -قبل 9 سنوات فقط- في 13 فبراير 2008، وانتشر الخبر بعنوان: “الاعتذار الرسمي من كيفن رود للأجيال المسروقة”

أبدًا، بل لا زالوا يَتَبنَّون الداروينيّة، ولا زالت عقيدتها في نفوسهم، وبدافع الداروينيّة أيضًا أقنع البِيض بعض القبائل الإفريقية أنّها أرقى تطوُّريًا من قبائل أخرى، لِاختلاف طول الأنف أو ارتفاع القامة إلى آخره، وكان ذلك أحد الدوافع لحروب إبادةٍ بين هذه القبائل التي كانت تعيش بسلام، كما في مأساة رواندا “Rwanda” بين التوتسي والهوتو”Tutsi and Hutu”

بل لم يَسلم الداروينيّون من شرّ أنفسهم وبِاسم الداروينيّة أيضًا، فبعضهم رأى نفسه أرقى من البعض الآخر تطوُّريًا، فبعد أربعين عامًا من كتاب داروين (أصل الإنسان)، قامت الحرب العالميّة الأولى.

ما علاقة الحرب العالميّة الأولى؟ أليس سببُها -حسبما تعلّمناه في المدارس- هو اغتيال ولي عهد النمسا وزوجتِهِ مِنْ قِبَل طالب صربيّ؟

هذه كانت مُجرَّد شرارة، لا تُفسِّرُ اشتعال أوروبا كلِّها خلال أيام لتنخرط، في هذه الحرب، إنّما كانت هناك عوامل شحنت النفوس للحرب، أسباب دينية، سياسية.

ومن أهمّ الأسباب: انتشار الداروينيّة الاجتماعية التي هَيّأت كثيرًا من الأوروبيّين المؤمنين بها لدخول الحرب، والتصرُّف فيها كحيوانات برِّيَّة، فالصراع وسفك الدماء هو قانون الطبيعة عندهم، وقد ذكر هذا الدور الداروينيّ في الحرب، كثيرٌ من الكُتَّاب: كالكاتب البريطاني جيمس جول”James Joule” في كتابه (منابِع الحرب العالميّة الأولى)، وكذلك ريتشارد هفستاتر “Richard Hofstadter” في كتابه: (الداروينيّة الاجتماعيّة في الفكر الأمريكي) والذي أُلِّف أثناء الحرب العالمية الثانية.

بل وأنتج الفكر الدارويني كبار السفاحيّن، كهتلر “Hitler” الذي أسَّس النازيّة على تَمَيُّز العرق الآريّ الألمانيّ، كما في كتاب: (الداروينيّة وهولوكوست العِرقيّة النازيّة) وستالين “Stalin”، كما في كتاب (علامات في حياة ستالين) ليرسلافسكي “Yaroslavsky”

والذي جاء فيه:

“في سنٍّ مبكِّرةٍ جدًا -وبينما كان لازال تلميذًا في المدرسة الكَنَسِيَّة- نضج لدى الرفيق ستالين العقل النَّقدي والمشاعر الثَّورية، حيث بدأ القراءة لداروين وأصبح ملحدًا”

وقبل عامين نشرت السي إن إن “CNN” الأمريكية تقريرًا بعنوان : “الحرب مظهرٌ من مظاهر الداروينيّة الاجتماعية” خَلُص الى العبارة التالية:

“عندما تَلعب الداروينيّة الاجتماعية في غابة السياسات الدوليّة، فإنّ الحروب تبدو حَتميّة”

المصدر

رصاصة دارون على الإنسانية 2

ما القيم التي ينادي بها كثيرٌ من الملحدين الدَّاروينيِّين هذه الأيَّام؟

– الحرِّية

– المساواة

– حقوق الإنسان

– حقوق المرأة

تعالوا نرى وضع المرأة حسب الأسس العلمية الدَّاروينيَّة:

كان داروين”Charles Darwin” قد بذر بُذُور وصف المرأة بالدُّونيَّة تطوُّريًّا، ففي كتابه (أصل الإنسان) عقد فصلًا بعنوان: (القدرات الذِّهنيَّة للرَّجل والمرأة) وقال فيه عن بعض خصائص المرأة: “هي خواصُّ الأعراقِ الأدنى”

في الدَّاروينيَّة ليس هناك أي مبررٍ للتَّحلي بأيٍّ من الأخلاق، بل إنَّ الصِّراع الدَّارويني يتطلَّب من العرقيَّات التي ترى نفسها أرقى تطوُّريًّا أن تتحلَّى بأخلاق الأنانيَّة والطَّمع والاستئثار، والاعتداء على العرقيَّات الأحطِّ منها لتُبِيدَها وتتكاثرَ على حسابها.

أنت أيُّها الملحد أمام أحد خيارين: إما أن تتَّبع أسلافك هؤلاء، وتتَّبع نهجَهم (الإجرامي) -عفوًا، (الأخلاقي) حسب داروينيَّتكم- أو أن تقرَّ بالقيم الأخلاقيَّة وقيم المساواة بين البشر من حيثُ الأصل وترفض الممارسات الدَّاروينيَّة المذكورة، وحينئذٍ فأنت تُنَاقِضُ نفسَك، لأنَّ تفسيرك المادِّي للكون لا يصلح كأساسٍ للقيم المعنويَّة كما بيَّنَّا في الحلقة الماضية، ولأنَّ اقتراضَك لأخلاقٍ من خارج منظومَتِك الفِكريَّة المادِّيَّة هو اعترافٌ ضمنيٌّ منك بفشل منظومتك المادِّيَّة الدَّاروينيَّة، وعدم كِفايتها في تلبية حاجات الإنسان

إنَّك أيُّها الملحد حين تتبنَّى قيمًا إنسانيةً في التَّعامل مع كافَّة الأجناس دون تفرقة، وعندما تتبنَّى قيمة الرَّحمة بالضُّعفاء، تكون قد مارست ممارساتٍ لا أخلاقيَّة حسب داروينيَّتِكَ، تَكونُ قد فعلت كما في المثال الذي ضربناه أول الحلقة: سمحت لكائناتٍ أدنى في السُّلَّم التَّطوُّري،

بالتَّكاثر على حساب الكائنات الأرقى.

يقولون لك: هناك ملحدون أخلاقهم حسنة.

فنقول: ليس سؤالنا عن إمكانيَّة أن يكون الملحد حسن الأخلاق أو المؤمن سيِّـئ الأخلاق، بل السُّؤال العقلاني هو: هل الإلحاد يؤدِّي إلى الأخلاق الحسنة؟

لا شكَّ أنَّ ما لدى بعض الملحدين من أخلاقٍ حسنة ليس سبَبُه إلحادَهم، فالاعتقادُ بأنَّنا في هذه الحياة بلا هدف، بلا رقيب، بلا جزاءٍ على أعمالنا -خيرِها وشرِّها- هذا الاعتقاد لا يمكن أن يكون دافعًا نحو الأخلاق الحسنة، لكن الإنسان في النِّهاية يتأثَّر بمجموعة عوامل:

كالتَّربية في الصِّغر، والبيئة المحيطة، وليست القناعة الإلحادية هي العاملَ الوحيد في صياغة الأخلاق، أما الإيمان بوجود الله إيمانًا صحيحًا -ضِمْن التَّصوُّر الإسلامي- فإنه يَدفَعُ نحو مكارم الأخلاق، وإذا كان لدى المؤمِن سوءُ خلق، فهذا لنقصٍ في إيمانه لا أنَّ الإيمان هو الذي تسبَّب في سوء الخلق أو أدَّى إليه.

الملحدُ ينسجمُ مع إلحادِه إذا تحلَّى بأسوأ الأخلاق، ويمارِسُ فصامًا نفسيًا ويـخُون مادِّيَّته إذا تحلَّى بمكارم الأخلاق.

يقول لك الملحد: العلم الحديث يساعدنا في إبطال أخطاء (نظريَّة داروين) التي أدَّت إلى تفرقةٍ وطبقية، دون هدم النَّظريَّة من أساسها.

أعود وأؤكِّد أن هذا ليس مقام تفنيد التَّطوُّر الدَّارويني، لكن كجوابٍ على هذه النقطة نقول: التَّطوُّر الدَّارويني يؤكِّد على أنَّ كلَّ الكائنات

-بما فيها الإنسان- هي في تطوُّرٍ مستمر، وهذا يَلزَمُ منه وجود أعلى وأدنى في أعراق الإنسان الموجودة حاليًا، هذا لا خلاف عليه بين الدَّاروينيِّين.

قد يقع الخلاف بينهم على معيار هذا التَّفاضل التَّطوُّري، هل هو حسب حجم الجمجمة؟ أو لون العينين؟ أو بروز الجبهة؟ أو حجم الأنف؟

أو الذَّكاء؟ أو المهارات؟ أو البنية النَّفسيَّة؟ إلى آخره.

لكن من حيثُ المبدأ لابدَّ من وجود أدنى وأرقى في الأعراق البشريَّة حسب الدَّاروينيَّة، مما يؤدِّي حتمًا إلى التَّفرقة البغيضة التي رأيناها.

تَفْهَمُ بعد هذا كلِّه نعمة تأكيد الإسلام على مساواة البشر بعضهم ببعض من حيثُ الأصل: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [القرآن 49: 13]

(أتقاكم)، فجعل مجال التَّنافس أمرًا يملك الإنسان أن يسعى لتحصيله، (التَّقوى) لا لونَ البشرة، ولا حجمَ الشَّفتين، ولا تفلطحَ الأنف.

وتدرك بعد هذا كلِّه نعمة الإسلام الذي يقول نبيُّه عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ، إلَّا بالتَّقْوى» (المحدث : الألباني)

ويقول: «إنما النساء شقائق الرجال» (أخرجه أبو داود في سننه)

فالحمد لله الذي هدانا إلى أنَّنا لم نوجد في هذه الأرض من أجل الصِّراع، بل لعبادة الله، الذي جعل من أهمِّ وسائل عبادته إحسانَ الإنسان للنَّاس، والرَّحمةَ بضعفائهم، وإيثارَهم على نفسه.

المصدر

الإيمان الأعمى الدارويني في تفسير الظواهر الفطرية

في هذهِ الحلقة نجيب عن سؤال: هل أيٌّ من الظَّواهر الفطريَّة ثَبت أنَّ لها أسبابًا تطوريَّة؟

أم أنَّ الملحدين والتطوّريين يؤمنون إيمانًا أعمىً يسدُّون به فجواتهم المعرفيَّة؟

أي: الملحدون حين أنكروا وجود الله، ومن ثم أنكروا أنَّ هناك فطرةً فَطَر الله الناس عليها، وقعوا في مأزق: أنَّهم لا يملكون تفسيرًا لأيٍّ من الظّواهر الفطريّة، كنزعة التّديّن، أو النّزعة الأخلاقيّة والشّعور بالغائيّة، والإرادة الحرَّة والغرائز.

فهي ظواهرُ غيرُ ماديّةٍ في الظّاهر؛ لذا فقد بحثوا عن تفسيراتٍ ماديَّةٍ لها، وادّعوا أنَّ كلَّ هذه الظَّواهر لها أسبابٌ ماديّةٌ ضمن إطار التّطوُّر الدّاروينيِّ، فإمّا أن تكون الظَّاهرة الفطريَّة المعيَّنة ناتجةً عن جينٍ (مورِّث) معيَّنٍ، أو مجموعةِ جيناتٍ (مورِّثات).

وإمَّا أن تكون ناشئةً عن صفاتٍ أخرى متعلِّقةٍ بالجينات انتخبتها الطبيعة، أو أنّ الظَّواهر الفطريّة، أو الظَّاهرة الفطريّة المعيّنة قد تَمّ انتخابها داروينيًا، دون أن نعرف كيف ظَهرت هذه

الظّاهرة ابتداءً، لكنَّها ظهرت ثمّ انْتُخِبَت.

والسّؤال: هل ادّعاؤُهم هذا عليه دليلٌ علميّ؟

أمَّا الاحتمال الثَّالث: “لا نعرف كيف ظهرت”؛ فإحالةٌ على مجهولٍ، عبارةٌ لا يَقْبلها الملحدون من المؤمنين بالله في تفسير الظّواهر.

يبقى التَّفسير الذِّي يُمْكِن فحصه واختبارُ صحّتِه، هو ربطُ الظّواهر الفطريّة بالمورِّثات.

حتّى تدّعي أنّ صفةً ما في كائنٍ ما لها علاقةٌ بمورِّث معيَّنٍ، فهناك طرقٌ علميّةٌ محدّدةٌ لإثبات وجود هذه العلاقة.

الطّريقة الأولى: هي “إضافة مورّث” “Gene Insertion”، للبويضة المخصبة، أو “حذف مورَّث” “Gene Deletion”، ومتابعةُ ما إذا أدّى ذلك إلى ظهور أو اختفاءِ صفةٍ معيّنةٍ.

وهذا ممكنٌ في الحيوانات، مثلَ ما يسمَّى بـ “الفئران محذوفة المورِّث” “Knockout Mice” مثلاً.

لكن لم يَتّم إجراؤها في الإنسان، بالإضافة إلى أنّه يَدْخُلها عواملُ معقّدةٌ، “كالآليّات التعويضيّة” “Compensatory Mechanisms” والتّي قد تَعوِّض المورِّث، المحذوف مثلًا.

تبقى الطّريقة الممكنة في الإنسان هي أن تُجريَ مسحًا جينيًّا وتُثبِتَ أنّ المتّصفين بصفةٍ أو نزعةٍ

معيّنة لديهم مورِّثٌ ليس لدى الآخرين الذّين لا يمتلكون هذه الصّفة أو النّزعة، أو أنّ لديهم مورِّثات يحصل لها “تمْثيل””Expression” بشكل مختلفٍ عن الآخرين، فيما يعرف: “بالوراثة فوق الجينيّة””Epigenetics” مثلًا، وهذه الطّريقة رَبَطت بعض الصّفات الجسميّة والأمراض بأسبابٍ جينيّةٍ.

حسنٌ، نعود فنقول: الملحدون والدّاروينيّون أجْرَوْا عمليّةَ دَرْوَنة “Darwinization” لكلِّ شيءٍ، وكان ممّا دَرْوَنوه: الظَّواهرُ الفطريَّة.

وهناك قائمةٌ طويلةٌ من الكتب التي قامت على هذا الأساس، مثل: (الجين الإلهي) ، (الأساس التطوّري للنّزعة الأخلاقيّة)، (الأساس التّطوري للحريّة)، (نظرة دارونيَّة للمَحبَّة من قِبَلِ الوالدين)، (تطوُّر الرّغبة الجنسيَّة التَّزاوجيَّة)، وغيرها الكثير.

الآن، فلْنتجاوزْ دعوى الدّاروينييِّن: أنَّ هناك صفاتٍ ظهرت بطرقٍ لا نعرفها، لكنّها انتُخِبَت؛ لأنّ عبارة (لا نعرفها) ليست عِلمًا يُخْتَبَر.

يبقى الرّبطُ بالمورِّثات، فنقول: بِناءً على ما تقدّم مِن الطّرق العلميّة لإثبات العلاقة الجينيّة بالصّفات، هل أيٌّ من ادِّعاءات هذه المؤَلَّفَاتِ عليها دليل علميٌّ؟ هل تّم تحديد أيَّ مورّث مسؤولٍ عن أيّة نزعةٍ فطريّة؟

المصدر

من سرق المليون؟

سقوط حجة الحفريات الوسطية في خرافة نظرية التطور

يقولونَ لك: “نظريّة التّطوّر تتطلّب أن تكون هناكَ أحافيرُ لكائناتٍ انتقاليةٍ -أي حلقاتٌ وسيطةٌ بينَ الأنواعِ المختلفةِ-، وقدِ اكتشفَ العلماءُ حَقًّا كذا وكذا من أحافيرِ الكائناتِ الانتقاليَّةِ” ثمّ يشرح لك قبلَ كم من ملايينِ السِّنينِ وُجِدَتْ حسبَ زعمهِم. كما في هذا المقطعِ لريتشارد دوكنز “Richard Dawkins”

يقول دوكنز: “الناس يقولون في كثير من الأحيان: أين هي الحفريات الوسيطة أرنا هذه الحفريات الوسيطة التي تتكلم عنها هناك الكثير من الحفريات الوسيطة، وأحد أفضل هذه الأمثلة هو الحيتان

دعونا الآنَ من تزويرِ وسوءِ تفسيرِ هذهِ الأحافيرِ الَّتي يُشير إليها دوكنز، كما سنبيِّنُ في التَّعليقاتِ! ودعونا من حقيقةِ أنَّ ما يُشيرُ

إليهِ ليسَ أحافيرَ كما يدَّعي، بل خيالاتُهمُ الَّتي نسجوها على أحافير.

الأهمُّ أنَّ هؤلاءِ تهرَّبوا منَ الأمرِ الَّذي يترتَّبُ -ضرورةً- على الخرافةِ، فالخرافةُ لا تتطلَّبُ أن يكونَ هناكَ شيءٌ منَ الكائناتِ الانتقاليَّةِ، أو الحلقاتِ الوسيطةِ هكذا بسهولة، بل هيَ تتطلَّبُ عددًا لا حصرَ لهُ من هذهِ الكائناتِ، أي كمًّا بالإضافةِ إلى النَّوعِ الكمُّ “Quantity” وليس فقط النَّوعُ “Quality”.

تعالوا نُبيِّنْ!

واقعُ السِّجلِّ الأحفوريِّ أنَّ لدينا عددًا ضخمًا جدًا منَ الأحافيرِ للكائناتِ المتمايزةِ، الَّتي نراها بيننا في الواقعِ هيَ هيَ كما هيَ، ولا نجدُ إلَّا أحافيرَ معدودة أقلَّ وضوحًا، فيُسارعُ أتباعُ الخرافة إلى التمسُّكِ بها كأنَّها لكائناتٍ انتقاليَّة، ومن ثم، فالحديثُ عن حفرية هنا وأخرى هناك

لكائناتٍ يُدَّعى أنَّها وسيطةٌ هوَ أسخفُ منَ الحديثِ عن قرشٍ وشِلن كأدلَّةٍ على سرقةِ مليونِ دينارٍ.

فكيفَ عندما نرى أنَّ العلمَ الصحيحَ لا يَلبثُ أن يُبطِلَ هذهِ المزاعمَ؟ كما رأينا نماذجَ من ذلك في حلقةِ: (في سبيلِ الخرافةِ)، أي قروشًا وشلناتٍ مغشوشةً ومزيفةً.

داروين “Darwin” كان يُدرِكُ هذا، ولذلكَ ذكرَ أنَّ خرافتهُ تتطلَّبُ أن نجدَ عددًا لا حصرَ له من أحافيرِ الكائنات الانتقاليّة؛ لا حصرَ لهُ،

وبعبارتهِ: أعداد لا حصرَها، لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأبدى انزعاجهُ من عدمِ وجودِها، لكنَّهُ عوَّلَ على اكتمالِ السِّجلِّ الأحفوريِّ في المستقبلِ، تمامًا كما عوَّلَ المديرُ على احتماليَّةِ أن يكونَ (رياض) قد بلعَ مليونَ دينار.

أحافيرُ كثيرةٌ جدًا للكائناتِ، الَّتي نعرفُ، ليسَ بينها شيءٌ ممَّا توهَّمهُ داروين، معَ أنَّهُ ينبغي أن تكونَ مغمورةً في بحارٍ من الكائناتِ الانتقاليَّةِ، ومعَ ذلكَ يعوِّلُ على اكتشافِ المزيدِ.

بعدَ مئةٍ وثلاثينَ عامًا من تعويلاتِ داروين وأحلامهِ تجمَّعت أحافير لأكثرَ من (100) ألفِ نوعٍ من الكائناتِ، وأصبحَ غيابُ أحافير الكائناتِ الانتقاليَّة المزعومةِ أشدَّ مما كانَ أيامَ داروين، كما في هذا المقالِ الَّذي شقَّ

طريقَهُ إلى نيويورك تايمز “New York Times”.

—————————-

كَهَنةُ الخرافة يقولون: “لا خُطَّةَ خلق”، وفي الوقتِ ذاتهِ يبنونَ نصوصهم المسرحية على وجودِ هذه الخطَّة؛ يرسمونَ خطًّا بين كائنين، مع أنّ عبثيَّتهُم أشبه بالتفاعلِ الانشطاري لا بالخط المستقيم.

لذلكَ -إخواني- فالمصطلحات الَّتي يستخدمها أتباعُ الخرافة، مثل: (حلقات وسيطة، وكائنات انتقالية)، هيَ مصطلحاتٌ مضلِّلةٌ؛

فالوسيطة: تتوسَّطُ بين نقطتينِ محدَّدتين،

والانتقاليَّة: تنتقِلُ إلى غايةٍ محدَّدة،

في حين أن الصَّحيحَ أنَّ الخرافةَ تتطلَّبُ عددًا لا حصرَ لهُ من الأشكال العبثية لكائناتٍ كالفئرانِ مثلا، تتغيَّرُ على غيرِ هدى في كلِّ الاتِّجاهاتِ، قبل أن تتحوَّل بالصدفةِ وبطريقةٍ معجونيَّة إلى الشَّكلِ الذي افترضوا أنها تطوَّرت إليه.

كلُّ هذا إخواني في نوعينِ من بينِ ما يُقدَّرُ بأكثرَ من ثمانيةِ ملايينِ نوعٍ منَ الكائناتِ، التي افترضَ داروين أنَّ لها أصلًا مشتركًا.

—————————-

تعالَوا الآنَ -إخواني- نراجعْ ظلُماتِ الخرافةِ وتضليلاتِ كهنةِ العلمِ الزائف، الَّتي تكلَّمنا عنها في الحلقةِ السابقة وحلقةِ اليوم. تعاملوا معَ الكائناتِ كلُعَبٍ معجونيَّةٍ ورسماتِ فوتوشوب “Photoshop”، ولم يُراعوا أجهزتَها الدَّاخليةَ وتشفيرها الوراثيَّ، وتجاوزوا حقيقة أنَّنا لا نرى على سطح الأرض أثرًا لتغيُّرات الكائنات عبثيًا في كل اتجاه،

ونزلوا دونَ مبرِّرٍ من عالَمِ الشَّهادةِ المحسوسِ إلى الحفريَّات، ورسموا خطًّا لتحوُّلِ الكائنات، مع أنهم لا يعترفونَ بوجودِ خُطَّةٍ للخلق، وتحدَّثوا بعدَ ذلكَ عن قرش وشلن -يعني حفريات- كأَدلَّةٍ على سرقةِ المليون، وتجاهلوا العددَ الضَّخم جدًا من الحفريَّات للكائناتِ المتمايزةِ المعروفة بيننا على أرضِ الواقع، وما يتطلَّبهُ ذلك من أضعافِ أضعافِ أعدادها -التي لا تُقارَنُ- من حفريَّاتٍ انتقاليَّة حسبَ خرافتهم. وقروشهم، وشلناتهم، أي الحفرياتِ الَّتي يتعلَّقونَ بها، بعد هذا كلِّه مُزوَّرةٌ أو مُساءٌ تفسيرُها!

إذا أدركْتَ ذلك -أخي- فستضحكُ مِلءَ الفَم عندما يقولُ لكَ أحدَ أتباعِ الخرافةِ: “اكتشافُ الحفريَّةِ الانتقاليَّة الفلانيَّة أثبتَ تطوُّرَ الزَّواحِفِ إلى طيور وحسَمَ الخلافَ وأغلقَ الملفَّ”، في استخفاف من الجهلِ أوِ التَّجاهل، وستضحكُ عندما تراهم يحتفون بأيَّةِ حفريَّة، ولن تُكلِّفَ نفسكَ أن تستمعَ إلى هُرائهم عنها.

إذا أدركْتَ ذلك -أخي- عَلِمتَ معنى الجهلِ المركَّبِ والزَيفِ المركَّبِ وعَلِمتَ شيئًا من معنى قول الله -تعالى-: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوق بَعْض، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [القرآن 24: 40]

إذًا كانت حلقتُنا عنِ التَّهرُّبِ ممَّا يترتَّبُ ضرورةً على الخرافة.

https://www.alhesn.net/play/12149

خاطبهم كأطفال – الدكتور إياد قنيبي

في مقال للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي “Noam Chomsky” بعنوان: “عشر استراتيجيات للتلاعب من قِبَل الإعلام” ذكر الكاتب عشرَ وسائل يستخدمُها الإعلامُ ليغسلَ بها عقولَ الشعوب، وذكر منها: “خاطبهم كأطفال” هذا ما يفعلُه أتباعُ الخُرافة حين يتكلَّمون عن تحوُّل كائنٍ إلى آخر كأنَّ الكائنات الحيةَ لعبةٌ معجونيَّة، يمكن إعادة تشكيلها لإنتاجِ شكلٍ مِن آخرَ كأنَّها رسمةٌ بالقلم على ورقة، أو رسمة ثلاثية الأبعاد تعمل فيها استطالة هنا وتقصير هناك، ببضع ضغطاتٍ على فأرة الحاسب ثُمَّ فجأة: إذا لدينا كائنٌ آخر، دون أيَّة مراعاةٍ لما تتطلَّبُه هذه التَّغَيُّرات الشكلية الخارجيَّة من تغيُّراتٍ -ضخمةٍ جدًّا- في الأجهزة الحيويَّة والتشفير الوراثي.

تعالوا نأخذ مثالًا بسيطًا أقلَّ تعقيدًا، لن نتحدَّث عن تحوَّلِ نوعٍ من الكائنات إلى نوعٍ آخر مختلفٍ تمامًا في أجهزته الحيوية، بل عن تغيُّرٍ بسيطٍ في نفس الكائن: الزرافةُ التي يفترض داروين “Darwin” وأتباعه أنَّ رقبتها استطالت عبر الأجيال.

داروين كان يرى -مثلَ لامارك “Lamarck” بأنَّ ذلك حصل نتيجة مدِّها عنقَها لتناول الورق، وأتباع داروين علموا أن ذلك خرافة فقالوا بدلًا منها: بل بالطَّفرات العشوائيَّة؛ طفراتٌ عشوائيَّة أطالت رقبتها وانتهت القصَّة.

تعالوا نر -إخواني- ماذا تتطلَّب هذه الاستطالة من تغيُّراتٍ على مستوى أجهزة الجسم، ولنأخذ فقط القلب والأوعية الدموية.

المسافة بين القلب وأعلى رأس الزرافة تصل إلى (3) أمتار -يعني قريبًا من ارتفاع طابق-، ومن ثم فقلب الزرافة يجب أن يكون قويًّا جدًّا ليتمكَّن من ضخِّ الدم إلى هذه المسافة عكسَ الجاذبيَّة، وهو بالفعل كذلك؛ فوزن قلبِها قد يتجاوز 11 كيلوغرام، وطول قلبها حوالي 60 سنتيمترًا، وسُمك جدرانه 7.5 سنتيمتر، ومن ثم فهو يضخُّ الدم بقوَّةٍ شديدة إلى رأس الزرافة عكسَ الجاذبية.

تخيَّل معي الآن عندما تنزل الزرافة رأسها لتشرب الماء، القلب يعمل مع الجاذبيَّة الآن، وهذا الضخُّ القويُّ يُفترَض أن يفجِّر عروقَ رأسِها، لكنَّ هذا لا يحدث لماذا؟ لأنَّ هناك آليَّاتٍ عديدة لمنع حدوث ذلك:

– أوَّلًا: هناك صمَّامات على طول الشرايين السُّباتيَّة المغذِّية للدماغ تُبطئ من اندفاع الدم نحو الدماغ عندما تحني الزرافةُ رأسَها، لكن حتى مع هذه الصمَّامات، فإنَّ آخر دفقةٍ من الدم للدِّماغ كفيلةٌ بتفجير الشرايين الصغيرة الموصلة له

– لذلك فلدينا آليَّة حمايةٍ ثانية: وهي أنَّ الدم لا يذهب للدماغ وشرايينه الصغيرة مباشرةً، وإنَّما إلى شبكةٍ من الأوعية الدمويَّة أسفل الدماغ تعمل مثل الإسفنج لتمتصَّ الصدمةَ، ثمَّ تتكفَّل بتوزيع الدم برفقٍ في دماغ الزرافة، هذه الشبكةُ من الأوعية الدمويَّة تتمدَّد لتستوعبَ كمِّيات الدم الزائدة، عندما تُنزِل الزرافةُ رأسَها هذه الشبكةُ معقَّدةٌ للغاية وتُسمَّى ريتي ميرابيلي “Rete Mirabile”، ويسمُّونها أيضًا: (The wonderful network) أي: (الشبكة الرائعة)، وهي بالفعل رائعة، وأُجْرِيَت عليها الكثير من الأبحاث العلمية.

– الآلية الوقائيَّة الثالثة: هي وجود سبع صمَّامات في الوريد النازل من الرأس إلى القلب هذه الصمَّامات تمنع الدمَ النازل من الدماغ إلى القلب من الرجوع إلى الدماغ.

هذه الآليَّات الثلاثةُ تحمي دماغ الزرافة من الانفجار عندما تحني رأسها لتشرب حسنًا، عندما ترفع الزرافةُ رأسها من جديد، ماذا يحدث؟ تنقبض الأوعيةُ الدمويَّة في الشبكة الرائعة (Rete Mirabile) في الوقت المناسب لتضخَّ الدم إلى الدماغ، والصمَّامات في الشرايين المتوجِّهة من القلب إلى الدماغ تمنعُ انزلاقَ الدم إلى الأسفل، فيأخذ الدماغ حاجته من الدم، ولا يصيبها الدوار.

المشكلة العكسيَّة نُواجهها مع أرجل الزرافة، إذ أنَّه من المتوقَّع أن يتجمَّع فيها الدم وتنتفخَ الأرجل، لكنَّ ذلك لا يحصل، لأنَّها تمتلك جلدًا ثخينًا مشدودًا في ساقيها، مثلَ جوارب الضَّغط التي يستخدمُها بعض المرضى لمنع الدم من التجمُّع في الأطراف حتى وكالة ناسا “NASA” الفضائيَّة تدرس هذه الجزئيَّات في تصميم الزرافة، لتصمِّم أطقم جاذبية لرواد الفضاء.

كل هذا تطلَّبه طُول عنق الزرافة، وهذا على مستوى الجهاز الدموي فقط، اقرأ -إن شئتَ- عمَّا يتطلَّبه طول عنقها في جهازها الهضمي والتنفسي والعصبي وغيرها.

عندما تدرك ذلك -أخي- فستُدرك مدى الاحتقار للعقل البشري الذي يمارسُه أنصارُ الخرافة حين يعرضون لك رسمةً كهذه، أو كهذه، ريشٌ ينبت على أيدي الديناصور، ليستطيعَ التقاطَ البعوضةِ، في مهزلة دراميَّة، عيبٌ -يا جماعة- واللهِ، عيبٌ «إنَّ ممَّا أَدرَكَ الناسُ مِن كلامِ النُّبُوَّةِ الأُولى: إذا لم تَستَحِ فاصنَعْ ما شِئتَ»

المصدر

أجرني عقلك

من أساليب أتباع خرافة التطور: الخلط بين الحقائق والخرافة، حتى يمر عليك هذا الخلط، بالإبهار برجالات خرافة التطور.

عندما تسمع من بعض عَرَّابي الخرافة من بني جلدتنا مَن يمجد “العلماء” التطوريين فهذه كلها كثيرا ما تكون محاولات للطلب منك أن…تؤجر عقلك لهم!

أن يكون لدى هؤلاء علم كبير ومع ذلك يُحجبون عن أكبر الحقائق وأوضحها، يتكلمون بمهارة مبهرة عن الحقائق ثم لما يأتون للاستنتاج يخالفون بدهيات العقل.

عملنا هو أن نبسط المفاهيم العلمية التي تُذكر لدى الحديث عن التطور تبسيطا يجعلها في متناول عامة الناس، ونرد إلى العقل اعتباره ليحكم بعيداً عن التضليل.

————————————-

رأينا سابقا ً أنَّ من أساليب أتباع خرافة التَّطوُّر: الخلط بين الحقائق والخرافة، حتَّى يمرَّ عليك هذا الخلط يحتاج بعض البهار مِن الإبهار؛ الإبهار برجالات خرافة التَّطوُّر؛ لذلك عندما تَسمع من بعض عرَّابي الخرافة من بني جلدتنا من يُمجِّد العلماء التَّطوُّريين: داروين “Darwin” كان وكان! فلانٌ عالمٌ عظيم! الآخر عالمٌ كبيرٌ جدًّا جدًّا! كَتبَ في هذه الظَّاهرة كتابًا من (600) صفحة! بحث في تلك الظَّاهرة (20) سنة! فلانٌ حاز على جائزة نوبل “Nobel”! والآخر على لقب سير “Sir” في العلوم! كذا بالمئة من علماء الطَّبيعة يؤمنون بنظريَّة التَّطوُّر… عندما تسمع مثل هذه العبارات، فهي كثيرًا ما تكون محاولاتٍ للطَّلب منك أن تؤجِّر عقلك لهم كأنَّه يقول لك: هم يعرفون أكثر منك، أذكياءٌ يفهمون أكثر منك، جهِّز نفسك، ستسمع كلامًا غريبًا، لكنْ عليك أن تقتنع به؛ لأنَّ القائل به هم هؤلاء العظماء! إذَا خالف كلامهم عقلك فلا تتَّهم صِدْقَهم أو صحَّة استنتاجاتهم، بل اتَّهم عقلك! لا تحاولْ أنْ تتأكَّد بالنَّظر في التَّجارب الَّتي منها وصلوا إلى استنتاجاتهم

…….

هل تُريدني أنْ أُلغيَ عقلي وأتَّبِعَهم على عمى؟! تريدني أن أُقلِّدهم في استنتاجاتهم -مهما سَخُفت- لأجل عِلمهم وألقابهم؟! أتعلمون -إخواني-؟ تأجيرُ العقل هذا جريمةٌ ولو مارسْتَها مع مَن هو أعلم منك بالدِّين؛ مطلوبٌ منك اتَّباع العلماء؟ أي نعم، لكنْ ما تكلّموا بعلمٍ، ولا يَكتسبون يومًا قدسيَّةً تُصحِّح كلامهم دون هذا الشَّرط؛ ألم تر كيف ذمَّ الله -عزَّ وجلَّ- أهل الكتاب بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾

هؤلاء الأحبار والرُّهبان كانوا أعلمَ بالدِّين -ولا شكّ- لكنَّهم لمَّا أحلَّوا الحرام وحرَّموا الحلال، وخالفوا المسلَّماتِ المعلومةَ بالضَّرورة الواضحة من نصوص الوحي لكلِّ عاقلٍ كان مِن الجريمة أن يؤجِّر لهم عامَّة النَّاس عقولهم، ويتَّبعوهم على باطلهم ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

………..

الانتفاع بحقائق علوم الطبيعة فتوفيقٌ وهدايةٌ ويحتاج سلامة القلب، وحُسن القصد كالعلم الشَّرعيِّ تمامًا؛ مثلما هناك أناسٌ يحفظون القرآن والسُّنَّة وأقوالَ العلماء ولا ينتفعون بها بل ويوظِّفون علومهم في تضليل النَّاس فهناك علماءُ طبيعةٍ لا ينتفعون بعلومهم بل ويوظِّفونها في تضليل النَّاس.

ما السَّبب؟ هل هو خوفٌ من التحزُّب الدَّارويني؟ هل لأنَّ البديل لديهم دِينٌ محرَّفٌ غير مُقنِع؟ هل لعُقَدٍ نفسيةٍ أصابتهم من تصرُّفات الكنيسة في القرون الوسطى؟ هل هو حرصٌ على المناصب الأكاديميَّة؟ هل هو تربُّحٌ واكتسابٌ وصُعودٌ على ظهر الخرافة؟ هل هم يتظاهرون -كذبًا- أنَّهم مقتنعون بالخرافة؟ أم أنَّهم اتَّّبعوا أهواءهم فعَمِيَت بصائرهم حتَّى اقتنعوا بالخرافة بالفعل؟ لماذا يُظهرون إيمانًا بخرافة التَّطوُّر؟! ليس هذا موضوعنا الحالي، وإن كنَّا سنتعرّض لاحقًا للأسباب -بإذن الله- لكنْ -مهما كان السَّبب- لا تطلب منِّي أنْ أؤجِّر عقليَ لهم.

لذلك فعندما يقول لك عرّابو الخرافة: “داروين بقي يؤلِّف كتابه (أصل الأنواع) (20) سنة!” فبدل أن تنبهر قل: “اللّهمّ إنِّي أعوذ بك مِن علمٍ لا ينفع”، إذا لم يكن مِن اللهِ عونٌ للفتى فأوَّل ما يقضي عليه اجتهادهُ، ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾

…..

لذلك -إخواني وأخواتي- عمَلُنا في هذه الحلقات ليس أن أحشِد لك أسماء العلماء الَّذين ينكرون خرافة التَّطوُّر، ومقولاتهم في ذلك، لن أقول لك: لا تؤجِّر عقلك لريتشارد دوكينز “Richard Dawkins” وتعال أجِّره لمايكل دانتون “Michael Denton” لأنَّه أعلم، أو أبحاثه أكثر، بل هم رجالٌ، ونحن رجالٌ.

والعجب ممَّن يستخدمون هذه العبارة مع أئمَّة الإسلام ولا يستخدمونها مع ريتشارد وسام وجون… بل يريدوننا أن نؤجِّر عقولنا لهم! العجب ممَّن يقلِّل من شأن الإجماعات في العقيدة والتَّفسير ويجوِّز أن يكون علماء الأمَّة لـ(14) قرنًا قد أخطؤوا الفهم الصَّحيح بحُجَّة أنَّهم رجالٌ ونحن رجالٌ، ثمَّ هو طفلٌ مستسلِمٌ عالةٌ على علماء الغرب مؤجِّرٌ عقله لهم، وداعٍ غيرَه لتأجير عقولهم معه لهم!

المصدر

خنفشار داروين – الإحالة على المجهول

ادَّعى داروين أنّ نَظَريّته تَتطلَّب ظُهورَأنواعِ الكائنات بِشكلٍ تدريجيٍّ بطيءٍ جدًّا، وأنْ تَكُون طبقاتُ الأرض مليئةً بعددٍ لا حَصْرَ له من الكائنات الانتقالية.

وأنا أقولُ: (ادّعى) لأنّنا بيَّنّا؛ بالتَّفصيل في حَلَقة (من سَرَق المَليُون) أَنَّ عِبَارة (لا حَصْر لها) قاصرةٌ عن وصْف العَدَد الخَيَاليّ الفَلَكيّ الّذي سيَنتُجُ دُوْن أن يَتَحوّل كائنٌ إلى كائنٍ آخر.

على كلٍّ فَلْنَفترِض أنّه يُمْكن -بعددٍ لا حَصْر له من الكائناتِ الانتقاليّة- أنْ تَتَحقّقَ خيالاتُ داروين، هذا يعني أنّ الكائنات سَتَظهر في طبقات الأرض بتدرّجٍ وليس بشكلٍ فُجائيٍّ؛ لأنّ ظُهورها بشكل فُجائيّ يعني أنَّها لَمْ تَتَطوَّر عن شيءٍ قَبْلها.

لذلك قال داروين في الفَصْل العاشر مِنْ كتابه (أصلُ الأنواع):

“إذا ظَهرَت بالفعل أنواعٌ كثيرةٌ من الكائنات للحياة في وقْتٍ واحدٍ فإنَّ هذا سيكون قاتلًا لنَظَريَّة التطوُّر بالانتقاء الطبيعيّ”.

بتَعبِيره: Would be fetal to the theory of”

evolution through natural selection”.

حسنا يا داروين، أنت تَعْلم -مِن أيّامِك- أنَّ أنواعًا كثيرةً ظهرت فجأةً، بَدءًا مِن طَبَقات (العَهْد الكَامْبِري)، وتَعْلمُ أنَّ هذه الظّاهرة تَكرَّرت في طَبَقات أخرى حيثُ نرى أنواعًا عديدة تَظْهرُ فجأةً في نفسِ الطَّبقة غيْرَ مسبوقةٍ بكائناتٍ وسيطة -على حدِّ تعبيرِك-.

أَقرَّ داروين أنَّ هذه الصُّعوبة تُواجهُ نَظَريَّته، بَدَل أن يُقِرَّ بأنَّها حقيقةٌ تَهدِم خُرافَته، وذَكَر أنّ بَعْض أَقْرانه اعتَرَض عليه بهذه الحقيقة.

تُرى هل أَقَرَّ داروين من قَبِيل الموضوعيَّة والنَّزاهة كما يَظُنّ البعض؟

أين الكائنات الانتقاليّة التي (لا حَصْر لها)، والتي تَسبِق ظهورَ أنواعٍ كثيرة من الكائنات دَفعةً واحدة في طبقةٍ من الطبقات؟

يُجيبك داروين: “نحن نَجْهل طبقات الأرض فيما وراء حدود أمريكا وأوروبا”؛ يعني، رُبَّما توجد الكائنات الانتقاليّة التي لا حصْر لها -حسْب داروين والتي تعجُّ بها طبقات الأرض- هناك في أطراف جبال اليمن، والصين، وموزمبيق، وهونولولو، والواقواق.

يقول لك داروين: “نَحْن ننسى كم العالم فسيح، فقد يكون الذي حصل تاريخيًّا هو أن الكائنات تطوّرت تدريجيًّا”else where” في مكانٍ ما، وبالصُدْفة -بطريقةٍ ما- انتقلت نُسَخٌ من بعض الكائنات إلى أرض أمريكا وأوروبا”.

ومؤكَّدٌ -إخواني- حتّى يُضبَط هذا التصوُّر (السيناريو) علينا أن نفترض أنّ هذه الكائنات -لسببٍ ما- لَمْ تُتَابع عمليّة التطوُّر في أرض أمريكا وأوروبا، بل استمرَّ التطوُّر خارج أمريكا وأوروبا، وكُلَّ فترةٍ تنتقل نُسَخٌ من كائناتٍ أخرى -بطريقة ما- إلى أمريكا وأوروبا ولا تَتَطوَّر، وبالتالي فطبقات الأرض في مكان ما خارج أمريكا وأوروبا يجب أن تَعُجَّ بالكائنات الانتقاليّة.

بِمِثل هذا التصوُّر (السيناريو) الواهي جدًّا تَفْهم قول داروين في خِتام مُنَاقشته: “أنَّنا لا نمتلك إلاّ ما يُشبه المجلَّد الأخير لتاريخ السِجلّ الأُحْفوريّ محدودًا بِبلدين أو ثلاثة، ومن هذا المجلّد لم يُحفظ إلاّ فصلٌ واحدٌ، ومن هذا الفصل لم تُحفَظ إلاّ سطورٌ قليلةٌ من بعض صفحاته”.

حسنًا يا داروين، إذا قبِلنا تفسيرك هذا للطبقات العليا، فما ردُّك على طبقاتِ (العهْد الكامبري) السَحِيقة العَمِيقةِ في الأرض؟

هذه الطبقات ظهرت فيها أنواعٌ من الكائنات فجأةً أيضًا، فيما يُعرف بـ(الانفجار الكامبري) دون وجود (كائناتٍ انتقاليَّةٍ لا حصْر لها) تحْتها، فلا يُتصوَّر أن تُوجَد لهذه الكائناتِ كائناتٌ انتقاليَّةٌ سبقتها في مكانٍ ما؛ لأنَّها أعمقُ الطّبقات عمليًّا وليس تحتها طبقاتٌ ذات شأن.

– يقول لك داروين: “رُبَّما قبل أن تترسّبَ طبقاتُ العهد الكامبري السحيقة العميقة في الأرض، رُبَّما كانت هناك فتراتٌ من الزمن طويلةٌ جدًا بطول الزمن من العهد الكامبري حَتَّى الآن أو أَطْول، وهذه الفترات كانت تعُجُّ بالكائنات الحيّة”.

– لكن يا داروين هل يُعقَل أنَّ هذه الفتراتِ الزمنية الطويلة كانت تَعُجُّ بالكائنات الحيّة المتنوِّعة، ولم نجد من هذه الكائنات شيئًا يُذكَر؟

– هل تستطيع أن تُثبِت خطئي؟

هل نَزلْتَ عميقًا، وثَقَبتَ الأرض إلى أن وَصَلتَ إلى النّاحية الثانية من الكرة الأرضية، لتُثبتَ أنَّه ليس هناك طبقاتٌ كهذه؟

– بصراحةٍ، لا..

المصدر

عَبَدَة الميكروبات

كُنَّا في الحلقةِ الماضيةِ قد رأينا كيف سَقطَت ثلاثةُ حصونٍ لنظريَّة التَّطوُّر على أيدي أتباعِها أَنفسِهم: كائناتٌ انتقاليةٌ لا حَصر لها، البُطْء، والتَّدرُّجِيَّة.

وبقيَ حِصنان: الانتخابُ الطبيعيُّ الأعمى، والتَّغيُّراتُ العَشوائيَّة.

تعالوا نُضيِِّقُ الِخنَاق: “الانتخابُ الطبيعيُّ الأعمى”

نسألكم يا أتباع نظريَّة التَّطور: الكائناتُ المشيميَّة والجِرابِيَّة، هل هناك عَلاقة بينها حسَب شَجَراتِكم التَّطوريَّة؟

قالوا: “لا، بل انفصلت أُصولهُا بعضها عن بعضِ قبلَ 160 مِليون سنة”

ما بالهُا إذن متشابهةٌ جدًّا في الشَّكل، مع اختلافِها الكبير في التَّشفيرِ الوراثيِّ وأجهزتِها الحيويَّة؟ هل هذا عملُ العَمايةِ والعَشوائيَّة أَم خالقٍ جَعلَها آيةً على قُدرتِه؟

بإمكانك نزع كلمة (تطور) من كل الأسماءِ الهزلية للنَّظريَّة وتضع مكانها (اللَّاممكن):

اللَّاممكن المتوازي

اللَّاممكن المتقارب

اللَّاممكن الكَمِّي

اللَّاممكن المُتَقَطِّع، وهكذا…

ستجدُ من يقول: هذه ميزةٌ في نظريَّةِ التَّطوّر، أن تكون قابلةً للتَشَكُّل، بما يستوْعِبُ المُكتشفاتَ الحديثة.

فرقٌ كبيرٌ -إخواني- بينَ أنْ تكونَ لديك نظريَّةٌ قائمةٌ على شيءٍ: على أركانٍ سليمةٍ، عقلًا، وحِسًا، وتَجرِبةً، ثم تَأتي مشاهَدةٌ تُعارِضُ شيئًا من تفاصِيلها، فتعدِّلَ هذه التفاصيل بما يستوعِبُ المشاهدات، وفي المقابل، أنْ تكونَ النَّظريَّة عبارةً عن تخاريف، ولا تقومَ على شيءٍ،

وتأتي المشاهداتُ كلُّها بما يهدمُ أركانَها ويُفْرِغُها من محتواها، وأنتَ مع ذلك تُصِرُّ على هذه النَّظريِّة، بتعديلِ الأسماءِ واقتراحِ مزيدٍ من الافتراضات الَّتي ليس عليها برهانٌ، تمامًا كما فعل صاحبُنا بنظرِيَّتِهِ عن مؤامرة أبناءِ حَارته (يشير إلى مشهد تمثيلي من حلقة سابقة)

نعودُ فنسأل أتباعَ النَّظريَّة:نريدُ تفسيرًا علميًا، كفى أسماءً.

هل ظاهرة الأسماكِ القشريَّة هذه -مثلًا- نتَجَتْ من العَشوائيَّةِ، والانتخابِ الأعمى؟

يُجيبونك في ورقةِ من نيتشر “Nature” قائلين: “تفسيرُ هذه الظَّاهرة بالتَّطوِّر المُتقاربِ يحتاجُ مُصادفةً غيرَ اعتياديَّة

“extraordinary coincidence “

 عندما كُنَّا نقولُ لهم: الكائنات الحيَّة نِظامٌ كاملٌ متكامِلٌ، منها مُفترِسٌ، ومنها مُفترَسٌ، ومِنَ الطُّيور ما يَتغذَّى على الأَزهار ويَرُدُّ

لها الجميل بِنَقْلِ حُبوبِ لقاحِها لتتكاثر، والأزهارُ الطَّويلةُ لها نحلاتٌ طويلةُ الفمِ لتنقلَ رحيقَها، والتِّينة تتفتَّح ليَنْقُلَ نوعٌ من الحشراتِ

بذورَها لِزهورِ التِّين لغايات التَّلقيح، ويستفيدُ هُوَ -هذا النَّوع من الحشرات- بوضعِ بيوضِه في هذه الحبَّاتِ المتفتِّحةِ، ولكلِّ نوعٍ من التِّين نوعُ حشراتِه الخاص، والكائِناتُ البحريَّة الصغيرة تُنَظِّفُ خياشيمَ الأسماك الكبيرة وأسنانَها بتناول ما فيها من الطُّفيليَّات وبقايا الطَّعام، فيستفيدُ الطَّرفان، وفي أمعاءِ الإنسانِ الواحدِ ترِليونات البكتيريا المتنوِّعةُ الَّتي يستفيدُ منها، وغيرُها ممَّا لا يُحصَى من العلاقات التَّكامليَّة.

كلُّ هذا نتيجةُ مصادفاتٍ اعتياديَّة؟!

فيقولون: نعم، وسنُسمِّي الَّذي حصل “Co-evolution” التَّطوُّر المُتزامِن.

دعونا من أسمائكم، سؤالُنا واضحٌ: هل العشوائيَّةُ والعَمايَة أنتجتا كلَّ هذه الكائنات -ذكورًا وإناثًا، ثُمَّ أنتجتا هذا التَّكامل بينها في هذا النِّظامِ الدَّقيقِ المحكمِ المتناسقِ؟

المصدر

فانظروا كيف بدأ الخلق-هل أشار القرآن لتطور الإنسان؟

نناقش فيها استدلالات البعض على “التطور” من القرآن، وأهمية موضوع أصل الإنسان وخطورة الخوض فيه دون منهجية علمية.

أيها الكرام، يستدل البعض بآيات من القرآن ليؤيد بها تطور الإنسان عن كائنات أدنى. فهل استدلالهم هذا صحيح؟

بداية، هل العلم الرصدي التجريبي-السينس أثبت تطور الإنسان عن كائنات أدنى؟

أجبنا عن هذا السؤال بالتفصيل في مقالة أصل الإنسان والإحالات التي فيها، وأن الجواب: لا.

طيب وهل البحث في نشأة الإنسان أصلاً هو من اختصاص السينس؟

بينا أن أصل الإنسان أمر غيبي ليس خاضعاً للرصد والتجريب، وبالتالي فهو خارج اختصاص السينس (حلقة لماذا تتعارض).

إذن فكيف نعرف أصل الإنسان؟

مقالة اليوم بناءٌ على هذه المفاهيم التي أثبتناها، فالذي عنده اعتراض على هذه المفاهيم يرجع للحلقات المذكورة. وحلقة اليوم هي أيضاً للمؤمنين بأن القرآن من عند الله.

فبدايةً، ضروري نتحرر من ضغط محاولة التوفيق بين الآيات وفكرة تطور الإنسان التي لا دليل عليها من السينس، لننظر في نصوص الوحي نظرة متحررة فنفهمها فهماً صحيحاً غير متأثر بأوهام مسبقة.

  • فإن أصل انحراف كثير من المسلمين قديما وحديثا في التعامل مع القرآن هو أنهم استقر في أذهانهم أوهام باطلة، مقررات مسبقة، ثم راحوا يطوعون نصوص القرآن لهذه المقررات، فقادهم ذلك إلى تحريف معاني القرآن، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه. والله تعالى حين أخبرنا بأخبار أهل الكتاب أنهم (يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به)، فقد أخبرنا بأخبارهم لنحذر أن نفعل مثل فعلهم.

ومرة أخرى نقول يا كرام: هل الله قادر على تطوير الإنسان عن كائنات أدنى؟ نعم.. هذا ممكن في قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيء. لكن سؤالنا الآن: ما الذي أخبرنا به الوحي؟ أي: ما هو الدليل العملي الخبري على أصل الإنسان؟

فهذه الخطوة الأولى في منهجيتنا: التحرر من مقررات مسبقة لا دليل عليها.

ثانياً: سنرى: هل بين الله تعالى خلق الإنسان في آيات محكمات واضحة المعنى لا لبس فيها؟ أم أنه تعالى ترك كيفية خلق الإنسان مفتوحة للاحتمالات؟

ثالثاً: سنلتزم بما يأمرنا به إسلامنا من أن نستقي الأخبار الحقة من القرآن والسنة معاً، فنستعين بأحاديث صحيحة على تأكيد الجواب عن نشأة الإنسان.

رابعاً: سنرى الآيات التي يستدل بها مؤسلمو التطور على أن الإنسان تطور عن كائنات أدنى. سنضع هذه الآيات في سياقها القرآني، ونفهمها على ضوء الآيات الأخرى. فالقرآن يفسر بعضه بعضا.

  • وسنرى في مقابل ذلك ملامح طريقة مؤسلمي التطور، من التعامل مع القرآن بمقررات مسبقة موهومة، ثم تحريف دلالات الآيات المحكمة، والإعراض بالكلية عن الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، وبتر الآيات أو حتى أجزاء منها عن سياقها، شعروا بذلك أم لم يشعروا.

 الآية هي من سورة العنكبوت، وسياقها إقامة الحجة على منكري الإحياء بعد الموت، أن الله الذي يُبدئ الخلق بشكل متجدد مستمر قادر على أن ينشئهم بعد مماتهم للحساب يوم القيامة. اسمع لسياق الآية: قال الله تعالى:

وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ۖ وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ اللّه الخلق ثم يعيده إن ذلك على اللّه يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير (20) يعذِّب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقبلون (21)

  •  

(وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ۖ)

  • إن تكذبوا بالبعث والحساب فقد كذبت أمم أخرى بائدة.

ما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم يروا كيف يبدئ اللّه الخلق ثم يعيده

  • لاحظ: تركيبُ الكلام شبيه بالآية بعدها (فانظروا كيف بدأ الخلق)، وهنا: يبدئ الله الخلق.
  • هل المقصود بالآية: أولم يروا كيف ينشئ الله الكائنات من أصلٍ مشترك بالتطور الموجه؟
  • لا علاقة لهذا المعنى بالسياق، وإنما: أولم يروا كيف ينشئ الله المخلوقات من عدم، يعني بعد أن كانت معدومة…البشر والنبات والحيوانات، يوجدها بعد أن لم تكن موجودة. وهي بمعنى قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه). فإعادة المخلوق أهون من خلقه أول مرة. لذلك قال هنا: (إن ذلك على الله يسير (19)).
  • لكن الإنسان قلما يتعظ بالمخلوقات التي اعتاد عليها من حوله لأنه ألِفها، ولأن حواسه كانت تعمل من الطفولة قبل أن ينضج لديه التفكُّر والتأمل، فاعتاد على هذه الـمَشاهِد، وكان بحاجة إلى تجديدٍ يجدد لديه ملكة التأمل والتفكر والاتعاظ. كيف يحصل هذا التجديد؟

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)

  • بأن يسير الإنسان في الأرض فيرى مخلوقات أخرى، يرى حيوانات ونباتات وجبالاً وأنهاراً ومشاهد لم يعتدها تدله على عظمة الخالق وقدرته على البعث، يرى من آثار الأمم البائدة والأمم التي حلت محلها فيدرك أن الله الذي أهلك أقواماً وأحل محلهم أقواماً قادر على أن يبعثهم جميعا كما لم يعجزه إيجادهم ولا إهلاكهم.
  • لذلك قال بعدها: (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة)..يوم القيامة..(إن الله على كل شيء قدير).
  • طيب لماذا في الآية الأولى (كيف يبدئ الله الخلق) وفي الثانية: (فانظروا كيف بدأ الخلق)؟
  • لأنك في بلدك وبين أهلك ترى المواليد يولدون ويكبرون عبر السنين، ترى النبات يخرج وينمو شيئا فشيئا. بينما عندما تسير في الأرض لا تكون مستقراً لتشهد هذه المراحل، وإنما ترى مخلوقات بدأها الله من قبل.

المصدر

الدارونية بنكهة ماركسية: عندما تؤدلج السياسة مسارات العلم

يقول تشارلز ليون Charles A. Leone: “لا يمكن للعلم أن يبقى حرًا في نظام اجتماعي يسعى للتحكم بكل الحياة الفكرية والروحية لأمة من الأمم، ولا يمكن مطلقًا أن يتم الحكم على صحة نظرية علمية بناء على استعدادها لتقديم أجوبة توافق رغبة القيادة السياسية”.

عاشت أوروبا توجهاً عاماً نحو جعل كل شيء ميكانيكياً وتجريبياً، وسعى المشتغلون بالدراسات الإنسانية -وبالأخص علم النفس- والمجتمع للوصول إلى علم يوازي الفيزياء، من حيث الخضوع للقياس والضبط، ومن ثم العمل على إعادة تشكيل البشر ومجتمعاتهم، وأول من بدأ تناول العلوم الاجتماعية بطريقة مادية صِرفة: “أوجست كونت”، لدراسة الإنسان كما ندرس النبات والحيوان، وأطلق عليها مصطلح (الفيزياء الاجتماعية)، فنظرَ إلى الظواهر الاجتماعية بطريقة العلوم الأخرى، وقسمها إلى ديناميكيا اجتماعية واستاتيكا اجتماعية، ولكنه اعترف لاحقاً بأن الظواهر الاجتماعية معقدة، فتخلى عن مسمى الفيزياء وأعاد تسميتها باسم علم الاجتماع Sociology، ثم جاء “كارل ماركس” وأسس على ما وضعه علماء الاجتماع قبله ووضع رؤاه الخاصة مؤسسا للفلسفة الماركسية، فحلل المجتمعات البشرية وطرح فكرته التي ترمي إلى تفكيكها وإعادة تشكيلها وفق إطار نظري حتمي استمد له مفهوم الحتمية الاجتماعية والتاريخية من الحتمية الفيزيائية الكلاسيكية، بحيث تصل المجتمعات بتطورها إلى ما اعتبره الوضع المثالي (الشيوعية)، وكان ماركس قد تأثر بأفكار نظرية داروين وقد اطلع صديقه “إنجلز” على (أصل الأنواع) 1859م، وأرسل إليه ثناء على كتاب داروين، ثم بعد عام رد ماركس الرسالة إلى إنجلز قائلاً:

“إن كتاب داروين يقدم لنا أساس التاريخ الطبيعي المبني على نظرة مادية للعالم”، وبعد عام كتب رسالة إلى صديق آخر مؤكداً أن كتاب داروين يقدم أساساً في العلم الطبيعي للصراع الطبقي”.

“Darwin’s work is most important and suits my purpose in that it provides a basis in natural science for the historical class struggle.”

وبعد إعادة قراءة أصل الأنواع لمرة ثانية كتب ماركس:

“لقد أذهلني داروين لأنه استطاع أن ينقل أفكار مالتوس إلى النباتات والحيوانات أيضاً”.

وقد أرسل ماركس إلى داروين يستأذنه بكتابة إهداء له في بداية كتاب (رأس المال)، ولكن الأخير اعتذر منه لأنه رأى بوادر معركة ثقافية جديدة لا يريد خوض غمارها، وأرسل له نسخة من الطبعة الثانية:

“إلى السيد تشارلز داروين من معجبه المخلص كارل ماركس”.

وقد اعتبرت الفلسفة الماركسية المجتمع البشري مادة مرنة قابلة للتعديل، ورسمت لها إطارًا متخيلًا لتطورها السابق وخارطة طريق للتطوير المطلوب أو التطور الحتمي، وقد لوث العلماء اليساريون معظم العلوم التاريخية بمصطلحاتهم المؤدلجة، كمصطلح الإنسان البدائي والمجتمعات البدائية، ومنهم على سبيل المثال جون ديزموند برنال John Desmond Bernal صاحب كتاب (العلم في التاريخ)، الذي دمج الفلسفة الماركسية مع العلم حتى حوت كتاباته العلمية مدحاً للاشتراكية وذماً للرأسمالية، وبخلاف التصور الماركسي لتطور المجتمعات البشرية القديمة أكد البحث أن المجتمعات توصف بالأمية وليس بالبدائية بمعنى أن ما ينقصها العلوم وليس العقل، فلا يوجد عقل إنساني بدائي غير قادر على المحاكمة الدقيقة، ومن ناحية أخرى اعتبر الفكر الماركسي عقل الإنسان ووعيه لوحًا فارغا إلا من الانعكاسات الحياتية الضرورية وبرر لهم ذلك مطامح تغيير الوعي وتشكيل العقل الإنساني وفق شروط تفرض عليه للوصول إلى الحالة المثالية بزعمهم، وكان من مشاريعهم في بداية الحقبة السوفيتية تفكيك الأسرة كوحدة اجتماعية -متخلفة- حتى تعمدوا توظيف الرجل وزوجته في مدينتين مختلفتين! ثم تراجعوا عن ذلك لما أدركوا حجم العقبات.

ومن ثمار التجربة الماركسية المحاولات الحثيثة لاستئصال الدين والمتدينين كنوع من التطوير للمجتمعات، وكذلك الأخذ بوجهات نظر علمية توافق الفلسفة الشيوعية المعتمدة رسميًا، وهو ما نتناوله باختصار في هذا المقال…

ففي المجال العلمي البيولوجي تم تبني الصيغة اللاماركية من نظرية داروين التي تقول بتوريث سهل للصفات المكتسبة وتم رفض علم الوراثة المندلية واضطهد كل من اعتقد أو عمل به عشرات السنين، وبالمقابل نجد أن العلماء في بقية العالم غير الماركسي امتلكوا الحرية لإعادة صياغة الداروينية القديمة ودمج المندلية ضمنها في محاولة للقفز فوق عقبات علم الوراثة.

تروفيم ليسينكو

أصبحت قصة تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko في الاتحاد السوفيتي نموذجًا مدرسيا لحالات التدخل السياسي العقائدي في مسار العلم، فعالم النبات ليسينكو الذي عينه جوزيف ستالين مديرًا للبيولوجي، وامتلك تفويضًا من ستالين بحيث بات كل رأي يقدمه يؤخذ كعقيدة رسمية للدولة والحزب، وقد رفض ليسينكو علم الوراثة الذي أسسه مندل ومورغان ووصفه بأنه علم غريب وغير عملي ومثالي ومنتج برجوزاي رأسمالي، واعتمد علم بديل يعتمد اللاماركية الجديدة كصيغة للتطور، ومحور اللاماركية أن الصفات المكتسبة في أجساد الأباء يرثها الأبناء تلقائيًا، وكانت في بدايتها فكرة مقبولة لأنها انتشرت قبل معرفة علم الوراثة والطفرات بشكل واضح، ولم تنتشر هذه الفكرة بالطبع باسم اللاماركية في الاتحاد السوفيتي لأن “لامارك” ينتمي لطبقة أرستقراطية لا يرغب الشيوعيون بنسبة أي فضل لها، وهكذا تم اعتماد نفس الفكرة اللاماركية مع نسبتها إلى عالم النبات والوراثة السوفيتي إيفان ميتشورين Ivan Mitchurin، الذي اشتهر بتحسين وتهجين أشجار الفاكهة وذلك بعد وفاته في 1935م، ثم وصفت الفكرة لاحقاً بمذهب الليسينكوية الذي تقبلته الحكومة الماركسية في الاتحاد السوفيتي بسرور وحماس لأنه وافق ما تهواه وتسعى إليه في فلسفتها الماركسية من هندسة وإعادة بناء طوبيا اجتماعية شيوعية هي الحالة المثالية الحتمية، وهذا التوجه السياسي العقائدي يرفض وجود الثبات في الوراثة Hard Herdity، وهو ما فرضته الفكرة المندلية وبالمقابل يتقبل الفكر الماركسي بشكل أفضل اللاماركية بصيغتها الليسينكوية التي تسمح بإحداث تغيرات سريعة ونقلها إلى الأجيال الجديدة، وهكذا بناء على أفكار الوراثة المرنة التي تسمح بنقل صفات مكتسبة سريعة ظن السوفيت أن بإمكانهم إجبار النباتات والحيوانات -بل والمجتمع السوفيتي والإنساني كذلك- على تقبل تطورات سريعة محدثة تخدم متطلبات عملية، ومن ثم يستمر وجود هذه التغيرات في الأجيال التالية، وهذه الفكرة التي انتقلت إلى الصين الشيوعية وغيرها، ونجد صداها في أكثر من بلد يساري كبولندا إذ كانت “الليسينكوية” ترى كجزء أصيل من “الواقعية الاشتراكية”.

001

منشور رسمي يظهر تأثر العالم بعلم الوراثة السوفيتي الجديد

Imperial bureau of plant breeding and genetics

أكبر مجاعة في التاريخ: ثمرة السياسة الماوية في الصين

003

قامت حكومة “ماو” الصينية بفرض سياسات غير واقعية في الزراعة لرفع الإنتاجية، كاعتماد الزراعة المتقاربة close planting، ففي بداية إنتاش الحبوب يعتمد النبات على ما تختزنه الحبة من المغذيات ولكنه في مرحلة لاحقة يعتمد على التربة حوله وبسبب وجود النباتات قريبة جداً من بعضها كانت النتيجة فشل الزراعة، وأثمرت هذه السياسات المفروضة من الحكومة الماركسية المركزية في الصين أكبر مجاعة عرفها التاريخ بين عامي 1958م و 1962م، وصورت الحكومة الشيوعية الفشل في البداية كإنجاز! وقد مات في هذه المجاعة أكثر من ثلاثين مليون صيني، ووثق المؤلف جاسبر بيكر Jasper Becker في كتابه الأشباح الجائعة Hungry Ghosts تفاصيل هذه الكارثة الإنسانية.

انتحار العالم الألماني كاميرر Paul Kammerer

أحد العلماء المتحمسين لفكرة إحداث تغييرات في الحيوانات أو توجيه التطور مباشرة وفق طريقة لاماكية، وقد قام بأبحاث عدة منها بحث على نوع من العلاجم midwife toad، وادعى أنه قد أحدث تغيرًا فيه يجعله يعكس بعض خصائص التكاثر عنده، مما يجعله أقرب لسلف له يتكاثر في الماء، ولكن بعد طلب أحد العلماء فحص الأدلة التي احتفظ بها كاميرر لسبع سنوات، اكتشف العالم الآخر في عام 1926م أن كاميرر قد عدل النتائج باستعمال الحبر الهندي، فأرسل كاميرر رسالة إلى أكاديمية موسكو للعلوم يلقي فيها باللوم –بتحسين- النتائج على أحد مساعديه ثم انتحر.

كيفية تصوير حادثة انتحار كاميرر في الدولة الشيوعية:

004كعادة الماركسيين يجب أن يتم إلقاء اللوم على الشيطان الذي يعرفونه وهو “الرأسمالية”، فقام المسؤول عن الأفلام في الاتحاد السوفيتي بإعادة إنتاج قصة كاميرر، فلم يتحدث عن عالم شاب يعيش في مدينة أوربية مركزية ويخصص هذا العالم الشاب كل وقته الفائض لمساعدة عامة الناس، وقدم بحثه حول السلمندر دليلاً مباشرًا على وراثة الصفات المكتسبة، ولكن أسقف كاتدرائية المدينة يسمع ببحث العالم الذي يثبت وراثة الصفات المكتسبة، فيعرف أن هذا الدليل سيهدد سلطة الكنيسة، فيجتمع مع أمير البلدة الذي كان على صلة بهنري فورد! وهكذا اجتمعت الأرستقراطية والكنيسة والرأسمالية في مؤامرة على العالم الشاب الذي أثبت أن الصفات المكتسبة يتم توريثها، وتمت المؤامرة بتعيين الأمير كمساعد للعالم في مختبره، ثم يتسلل الأمير ليلاً إلى مختبر العالم ليحقن الحيوانات بالحبر الهندي، وهكذا عند عرض نتائج البحث للعموم يتسرب الحبر الهندي من العلاجم إلى الماء ويحرج العالم ويطرد من عمله، وينتهي به الأمر إلى التسول في الطرقات بصحبة قرد كان يستعمله في المختبر لإجراء التجارب، ثم ينتقل -الفيلم- إلى مرحلة جدية، حيث تصل مساعدة للعالم من الاتحاد السوفيتي، ولما رأته وهو على وشك الانتحار أخذته معها مباشرة بالقطار إلى موسكو، حيث طلبت مساعدة السلطات، وقدم مسؤول التعليم المساعدة اللازمة للعالم الشجاع، كما استقبله جمع من الفلاحين في أرض الحرية “الاتحاد السوفيتي”!

كانت رؤية علماء البيولوجي في الاتحاد السوفيتي لإمكانية توريث الصفات واثقة جدا، لدرجة أن بعضهم تبجح بمقدرتهم على زراعة أشجار الفاكهة باتجاه الشمال الأكثر برودة، حتى تحدوا أنهم سيزرعونها في القطب الشمالي، وقد تأثر بعض من درس في الاتحاد السوفيتي بهذه البروبغاندا والعنجهية الإلحادية، من الحديث عن التحكم التام بالطبيعية، وادعى ليسينكو -وكان قبل رئاسته لأكاديمية لينين للعلوم مختصًا بالنباتات- أنه أستطاع تغيير نوع من القمح الربيعي إلى قمح شتوي خلال بضع سنوات، وبالطبع فهذا الأمر غير صحيح لأن القمح الربيعي له زوجين من الصبغيات في حين أن القمح الشتوي له ثلاث أزواج من الصبغيات، وربما حدث خطأ في تجربته، ولكن ليسينكو كان يملك نفوذًا مستمدًا من مكانته في الحزب الشيوعي وأكاديمية لينين، بحيث لا يمكن لأحد الرد عليه، وفي عام 1948م سيطر ليسينكو على علم البيولوجي بصورة مطلقة، عندما أعلن في خطاب ساعده ستالين –شخصيًا- في صياغته أنه يرفض أبحاث مندل في الوراثة، وأن من يؤيد أبحاث مندل هم أعداء الشعب السوفيتي، ثم طُرِدَ العلماء الذين خالفوا رأي ليسينكو واضطهدوا واختفى بعضهم من الوجود، وبعد ذلك اكتشفت النتيجة الطبيعية للبيولوجيا السوفيتية، حيث تعطلت الزراعة وظهرت سلسلة من الإخفاقات في المحاصيل الزراعية، ثم حصل نقص في الأغذية مما دفع الاتحاد السوفيتي إلى طرد ليسينكو في عام 1965م وكان قد فقد جزءاً من سلطته بموت ستالين 1953م.

في مقابل التخريب العلمي الذي تم في الاتحاد السوفيتي تقدم العلم في بقية العالم، حيث لا توجد قيود سياسية وأيديولوجية على عمل العلماء كما حدث في الدولة الماركسية اليسارية، وختامًا تجدر الإشارة إلى أن البيولوجيين السوفيت كانوا قد نجحوا في تعديل تجريبي لبعض النباتات، ولكنهم وقعوا في المبالغة واتباع الهوى والإصرار بتكبر على الخطأ، واليوم تعود اللاماركية من جديد باعتدال في أبحاث “فوق المورثات” epigenetics بصيغة علمية معتدلة تجعل المورثات والبيئة عاملين فاعلين في صفات الكائن، ولكنهما متكاملين وغير حتميين!

 002

كتاب “علم الوراثة السوفيتي والعلم في العالم، ليسينكو ومعنى الوراثة”، تأليف جوليان هكسلي، الصورة يظهر فيها ليسينكو ووراءه عالم سوفيتي آخر.

المراجع:

1- Charles A. Leone, “Lysenko versus Mendel,” Transactions of the Kansas Academy of Science, 1952.

2- Willy Ley, Salamanders and Other Wonders: Still More Adventures of a Romantic Naturalist, The Viking Press, New York, 1955. https://www.sjsu.edu/faculty/watkins/lysenkoism.htm

3- “The International Workshop on Lysenkoism”, Harriman Institute, Columbia University, December 5, 2009. http://harriman.columbia.edu/event/international-workshop-lysenkoism-0

4- Jasper Becker, Hungry Ghosts: Mao’s Secret Famine, Free Press; 1st Printing edition (February 3, 1997).

5- Richard Weikart (1999), “Socialist Darwinism: Evolution in German socialist thought from Marx to Bernstein”, International Scholars Publications.

المصدر

داروين وتفسير أصل الأخلاق

لخص داروين بعناية آرائه عن الأخلاق ومنظومة القيم في مذكراته الخاصة، وقال فيها أن الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولا بحياة بعد الموت –مثله تمامًا– “يستطيع أن يتخذ قانونًا لحياته–كما أرى– فقط باتباع البواعث ونداءات الغرائز الأقوى أو التي يشعر أنها الأفضل”.(1) ويعد هذا انحرافًا جذريًا عن الطرق التقليدية في تأصيل الأخلاق، حيث تعتمد المسيحية على الوحي الإلهي، وبنى كانت Kant وغيره من مفكري عصر النهضة الأخلاق بناء على عقلانية الإنسان، حتى أن فلاسفة الأخلاق البريطانيون اعتبروا الأخلاق والفضائل جزءًا ثابتًا لا يتغير من الطبيعة الإنسانية، أيًا كان أصلها. أكد الفيلسوف ديفيد هال David Hull في كتابه (ميتافيزيقيا التطور The Metaphysics of Evolution) على الطبيعة الثورية لنظرية داروين فيما يتعلق بالأخلاق قائلًا: “نظرًا لاعتماد الكثير من نظريات الأخلاق والآداب والنظريات السياسية على مفهوم أو أكثر عن الطبيعة البشرية، وضعت نظرية داروين كل هذه النظريات محل الاستفهام”.(2)

وحتى قبل كتابة داروين لمذكراته خشي الكثير من معارضي الداروينية من النتائج الأخلاقية للداروينية، وبالتأكيد لم تهدئ تعليقات داروين عن اتباع الغرائز مخاوفهم. بعد أن كتب داروين هذه العبارة في مذكراته التي تحدث فيها عن اتباع غرائزنا، أسرع ليضيف أن الغرائز الاجتماعية في الإنسان والمشاعر الأخلاقية تكون أقوى من النزعات الأنانية أو التلذذية. وقد ذكر داروين في كتابه (أصل الإنسان) أن الحس الأخلاقي للإنسان ينبع من النشاط المشترك للغرائز والعقلانية. وذكر أيضًا أن الغرائز الاجتماعية للإنسان والاختيار الجمعي يقودان بشكل طبيعي إلى القاعدة الذهبية: (عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك)(3) دون الحاجة إلى تدخل غيبي. أكد داروين إذن لمعاصريه أنه ليس في نظريته ما يخشى منه لأنها تؤكد واحدًا من العقائد المركزية في الأخلاق اليهودية المسيحية.

ولكن لم يتفق كل داعمي داروين معه في الآثار الأخلاقية لنظريته وتناقش الداروينيون إن كان داروين أسقط الآراء الأخلاقية التقليدية أم أنه عدلها أم أكدها.

رغم رفض البعض بحدة واحتقار لكل الأخلاق ومنظومة القيم التقليدية معتبرين إياها ذاتية وغير علمية، إلا أن الكثير اتخذ مقاربة متوسطة، مؤكدين على أهمية النزعات الإيثارية والحب الأخوي، بينما رفضوا معظم عقائد الأخلاقيات اليهودية والمسيحية. أمل هؤلاء الداروينيون المتأخرون في إنقاذ لب الأخلاق الدينية، بينما كانوا يتخلصون من المظاهر التي اعتبروها فخاخًا دينية زائدة لم تعد لها أهمية في عصر العلم المتحضر. الأهم من ذلك أنهم اعتبروا الأخلاق والآداب منتجًا من منتجات الطبيعة، وبالتالي سيكون لها علاقة بمراحل التطور وبالقدرة على حفظ الانواع؛ وعليه فإنهم يرفضون أي قانون أخلاقي ثابت.

لم يكن تفسير أصل الأخلاق موضوعًا جانبيًا تافهًا بالنسبة إلى داروين، ولكن كان موضوعًا محوريًا عليه أن يواجهه إن كان مقدرًا لنظريته للتطور أن تصبح مقبولة وذات وجاهة. الكثير من الناس عبر التاريخ بعد كل هذا يطالعون الأخلاق كمفهوم إنساني فريد، يرقى بالإنسان عاليًا فوق باقي الكائنات. احتاج داروين أولًا إلى إثبات أن الأخلاق ليست انفرادًا إنسانيًا. وثانيًا، احتاج إلى تفسير آلية عملها أو الميكانيكية التي تنتجها. وقبل نشر نظريته بزمن صارع داروين أصل النزعات الأخلاقية. كانت الداروينية: “تنوي تفسير المجتمع الإنساني”، كما قال جيمس موور James Moore وأدريان ديسموند Adrian Desmond، حيث دمج داروين في نظريته أفكارًا عن الاقتصاد والاجتماع من البداية.(4) مذكراته الشهيرة باسم “M” التي نشرها عام 1838 كانت مليئة بتأملات عن التطور البشري وتضمنت دلالات عدة عن الأخلاق.(5)

وفي كتابه (أصل الإنسان) حاول داروين إثبات أن كل السمات الإنسانية –بما فيها السلوك الأخلاقي– تختلف في درجاتها وليس في نوعها، عن سمات باقي الكائنات الأخرى. وبيّن أن الكائنات الأخرى تعيش في مجتمعات وتتعاون، والغريزة الاجتماعية التي أنتجت هذا التعاون غريزة وراثية. بينما في الإنسان تطورت الغرائز الاجتماعية أكثر منها في الأنواع الأخرى وانتظمت سويًا من خلال قدرات الإنسان الإدراكية الواسعة، لتنتج لنا ما نطلق عليه الأخلاق. وبالنسبة لداروين فإن آلية إنتاج هذا الفيض من الغرائز الاجتماعية كان الانتقاء الطبيعي عبر صراع البقاء. وستنتصر المجموعات ذات العناصر المتعاونة والمضحية على المجموعات ذات العناصر الأكثر أنانية إما بشكل مباشر عبر الحروب أو بشكل غير مباشر عبر الزيادة السكانية.(6)

 بجعله الغرائز الإنسانية قاعدة تنبثق منها الأخلاق، قدم تفسير داروين للتطور سببًا منطقيًا وعلميًا لتطور النزوات البشرية غير العقلانية. من وجهة النظر هذه تجسد نظريته العلمية العقلانية في عصر النهضة. قدم داروين نظريته كمنتج لمنهج باكون التجريبي، وقد ساعدت نظريته على إحداث نقلة نوعية في البيولوجيا تجاه النموذج الوضعي الواقعي.(7) رغم ذلك ساعدت الداروينية أيضًا على تقويض العقلانية، خاصة في نطاق الأخلاق. الاحترام المتنامي للعلوم بوجه عام ولنظرية الداروينية بشكل خاص في أواخر القرن التاسع عشر ساعد على تعزيز الحتمية البيولوجية. فُسرت إذن سمات الإنسان العقلية والأخلاقية؛ وبالتالي سلوكه، بناء على سلوكه البيولوجي أو غرائزه وليس على عقلانية الإنسان. ولم ينفِ الداروينيون مطلقًا عقلانية الإنسان، ولكنهم بدأوا في تفسير السلوك الإنساني بمصطلحات داروينية، وأكدوا على أهمية الغرائز في تفسير السلوك الإنساني. وإن كانت التفسير الدارويني للسلوك الإنساني ممكنًا فإن البشر يجب أن يتشاركوا في سمات كثيرة مع الحيوانات، حيث أن الداروينية تقول أن العقلانية الإنسانية ليست المحرك الأساسي للسلوك الإنساني.(8)

 لم يكن داروين إطلاقًا هو أول من صور الأخلاق باعتبارها فطرية وغير عقلانية. في الواقع، تلقى داروين دعمًا كبيرًا من فلاسفة الأخلاق البريطانيين قبله. في القرن الثامن عشر قدم الفلاسفة نظريات عدة لتأصيل الأخلاق في المشاعر الإنسانية. على سبيل المثال شافتسبري Shaftesbury الذي كان شخصية محورية في تطوير الحس الأخلاقي في الفلسفة، ساهم بشكل حاسم في ظهور العقلانية في النظرية الأخلاقية. كما آمن كثير من الشخصيات البارزة؛ مثل فرانسيس هاتشيسون Francis Hutcheson وجوزيف باتلر Joseph Butler أن المشاعر الأخلاقية غرسها الله في صدر الإنسان. بينما يمكن أن يتحدث آخرون؛ مثل ديفيد هيوم David Hume عن فكرة الفلسفة الأخلاقية دون الإشارة لوجود أصل سماوي، ويبنيها ببساطة على الطبيعة الإنسانية. ولأن كثير من فلاسفة القرن الثامن عشر اعتبروا الطبيعة الإنسانية طبيعة جامدة، فقد اعتقد معظمهم أن المشاعر الأخلاقية مشاعر عامة ذائعة لا تتغير. كان داروين على دراية جيدة بالفلسفة الأخلاقية البريطانية.(9) في العام 1838 قرأ داروين كتاب جيمس ماكينتوش James Mackintoch عم زوجته؛ (بحث في تطور فلسفة الأخلاق)، ذكر ماكينتوش أن الأخلاق فطرية؛ لاعتمادها على دوافع أخلاقية، كما أنها عقلانية في الوقت نفسه.(10) ووافق داروين بشكل أو بآخر على مقاربة ماكينتوش، ولكنه رفض تمامًا وصف أخلاق الإنسان وطبيعته بالجمود.

انبثقت عن النظرية الداروينية محاولات عديدة لبناء نظام أخلاقي جديد يعتمد على فرضيات التطور. حتى قبل ظهور الداروينية حاول هربرت سبنسر Herbert Spencer بناء “منظومة أخلاقية علمية”، ولكنه في صياغته للأخلاق في العام 1851 كان لا يزال يستحضر وجود الإله كمصدر للأخلاق لدى الإنسان. ولكن بعد نشر داروين لنظريته تخلص سبنسر من وجود الإله وطور منظومة أخلاقية طبيعانية بالكامل. إلى جانب سبنسر كان المثقف الملحد ليزلي ستيفن Leslie Stephen أفضل المناصرين المعروفين لتطور الأخلاق في أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا، وبشكل أقل في الولايات المتحدة وغيرها كان هناك إشارات حاولت تشكيل النظريات الأخلاقية على قاعدة من التطور البيولوجي. بالطبع أفرزت هذه الإغارات على الداروينية انتقادات عديدة أيضًا، من بينها انتقادات واحد من علماء البيولوجيا الداروينيين البارزين؛ توماس هكسلي Thomas H. Huxley.ـ(11)

وجد التفسير الدارويني لأصل الأخلاق تربة خصبة في ألمانيا، ولكن الداروينيّون الألمان لم يتفقوا فيما بينهم على تأثيرات الداروينية على الوضع الأخلاقي الحالي. واعتبرها البعض نظرية ثورية، تطيح بالكامل بالنظام الأخلاقي التقليدي، خاصة الأخلاق المسيحية. آخرون، ومنهم داروين نفسه، حاولوا التركيز على انسجام الداروينية مع الأخلاق القائمة. ولكن الكثير اتخذ مقاربة مختلفة، حيث فرقوا بين بعض الظواهر الأخلاقية التقليدية التي تدعمها الداروينية وبعض الظواهر الأخرى التي تقوضها.(12)

 

(1) Charles Darwin, Autobiography (New York: Norton, 1969), 94.

(2) David Hull, The Metaphysics of Evolution (Albany: State University of New York Press, 1989), 75.

(3) Darwin, The Descent of Man (London, 1871; rprt. Princeton, 1981), 1:106.

(4) Adrian Desmond and James Moore, Darwin (London, 1991), xxi, 243, 263, 269.

(5) Charles Darwin, Metaphysics, Materialism, and the Evolution of Mind: Early Writings of Charles Darwin, ed. Paul H. Barrett (Chicago: University of Chicago Press, 1974).

(6) Darwin, Descent, 1:71-80.

(7) Neal Gillespie, Charles Darwin and the Problem of Creation (Chicago, University of Chicago Press, 1979).

(8) Robert J. Richards, Darwin and the Emergence (Chicago, 1987), 108-9; Robert J. Richards, “Darwin’s Romantic Biology: The Foundations of His Evolutionary Ethics,” in Biology and the Foundation of Ethics, ed. Jane Maienschein and Michael Ruse (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), 113-53. See also Paul Lawrence Farber, The Temptations of Evolutionary Ethics (Berkeley, 1994), ch. 1.

(9) Michael Bradie, The Secret Chain: Evolution and Ethics (Albany: Suny Press, 1994), ch. 2.

(10) Richards, Darwin and the Emergence (Chicago, 1987), 116-17.

(11) Paul Lawrence Farber, The Temptations of Evolutionary Ethics (Berkeley, 1994); C. M. Williams, A Review of the Systems of Ethics fiunded an the Theory of Evolution (London, 1893).

(12) Kurt Bayertz, “Darwinismus als Politik: Zur Genese des Sozialdarwinismus in Deutschland 1860-1900,” in Welträtsel und Lebenswunder: Ernst Haeckel¬Werk, Wirkung und Folgen, ed. Erna Aescht et al. (Linz, 1998), 247-9.

المصدر

إيثار الأقارب Kin Altruism

من البديهي من منظور الصراع من أجل البقاء أن الانتخاب الطبيعي يؤسس لتعزيز صلاحية الفرد، فكيف يمكن للانتخاب الطبيعي أن يحافظ على صفات إيثارية تكلف الفرد وتزيد من صلاحية الآخرين؟ كيف نشأ الإيثار أصلا؟ كيف نشأ الإيثار الذي هو “المقابل تماما للصراع من أجل الأكثر صلاحية”[1]؟

“لقد فُتن التطوريون بالسلوكيات الإيثارية، لا لأنها مهمة في الطبيعة فقط، بل لأن من الصعب تفسيرها من وجهة داروينية كما يظهر”[2]، وقد اعترف داروين بمدى صعوبة تفسير الإيثار: سوف يدور في الأذهان بالتأكيد أن لدي ثقة لا حد لها في مبدأ الانتقاء الطبيعي عندما لا أعترف بأن مثل هذه الحقائق المدهشة والمستقرة جدا تهدم النظرية تماما[3]، “ولطالما اعتبرت نداءات الانذار التي تطلقها الحيوان محرجة بالنسبة إلى نظرية داروين”[4]، لذلك قدمت تفسيرات مختلفة منذ داروين إلى الآن، فقد حاول داورن أن يفسر هذه النماذج الإيثارية من خلال منظور أوسع للانتخاب الطبيعي، بأن يجعله يعمل على مستوى صلاحية المجموعة لا الفرد فقط[5]، وظل مفهوم الانتقاء الجماعي حاضرا إلى الستينات، وبعد التمركز حول الجين انقلب الوضع تماما على الانتقاء الجماعي، فأعمال ويليام جيمس وماينارد سميث وويليام هاملتون وروبرت تريفرز وغيرهم قد نالت بكل قوة من الانتقاء الجماعي، وتحول البحث منذ هذه الفترة إلى المعلومات، والانتقاء الجيني، وتحول المنطق الدارويني إلى وحدات مشفرة تخلق الحياة، تميل لأن تكون أنانية، ليست الوحدات هي الكائن الحي الأناني ولا مجتمعه الأناني، إنما الجين الأناني، فالمجموعة الأنانية “لا تترك أي مجال للتفاعلات التعاونية، فلا مجال للإيثار هنا، والظاهرة المسيطرة هي الاستغلال الأناني من قبل كل فرد لأي فرد آخر، أما في الحياة الفعلية فقد نقع على بعض الحالات إذ يبدو أن الأفراد تتخذ خطوات فاعلة بغية حماية الأفراد الأخرى في المجموعة من الحيوانات المفترسة”[6] لذلك من المنطقي أن تكون “الطريقة الطبيعية للجينات لتضمن أنانيتها هو أن تبرمِج الكائنات لتكون أنانية، وبالطبع هناك ظروف كثيرة يلزم فيها بقاء الكائنات لبقاء الجينات التي تحملها، لكن في ظروف أخرى ينشط أسلوبا آخر، وفي ظروف معينة–ليست نادرة– يضمن الجين بقاءه بأن يجعل الكائن يسلك سلوكا إيثاريا”[7] يقسم البيولوجيين هذه الظروف إلى قسمين:

–ايثار الأقارب: أن تبرمج الجينات صاحبها بأن يتكلف كلفة ما من أجل أقاربه، فتضحية الأب بوقته وجهده بل وبنفسه من أجل أبناءه مبرمج عليها من قبل الجينات لنشر نفسها، فلو مات الأب من أجل ابنه الذي يشاركه في الجينات بنسبة ما لم تمت المعلومة، وبالتالي فالفعل في أصله أناني، ومن أجل صالح المعلومة.

–ايثار التبادل: علاقة منفعة تقع بين غير الأقارب سنتحدث عنها تاليا.

أما إيثار الأقارب فبدأ على يد ويليام هاملتون، بمقالتين بحثيتين في عام 1964، “وتعتبران من أكثر الكتابات أهمية في مجال الإثنولوجيا الاجتماعية”[8] طبقا لدوكينز وأكثر البيولوجيين، “وتشكل نظرية هاملتون أهم مراجعة نظرية فردية لنظرية داروين في الانتقاء الطبيعي في هذا القرن”[9]، كيف لا وهي تحاول تفسير مشكلة من أصعب المشاكل الرئيسية في الداروينية. كيف نفسر الأمومة من منظور دارويني؟ كيف نفسر صرخات التحذير التي تطلقها بعض الحيوانات لإنقاذ مجموعتها وتعرض حياتها للخطر؟!

وبعيدا عن المعادلات العديدة التي قدمها هاملتون سنحاول شرح نظريته عن اللياقة المتضمنة باختصار[10]، ففكرتها بسيطة، تصور أن جينا ما يدفع فردا إلى التصرف بإيثار تجاه فرد آخر، ومعنى الإيثار كما قلنا:

–تحمل كلفة على الذات، وقت أو مجهود مثلا.

–توفير منفعة لفرد آخر.

كان السؤال الذي طرحه هاملتون هو التالي: تحت أي ظروف يمكن لجين كهذا أن يتطور وينتشر بين الناس كلهم؟ أي أنه كان يبحث في الضغوط الانتقائية وليس في العوامل النفسية، ورأى هاملتون أن الإيثار يمكن أن يتطور إذا كانت التكاليف المفروضة على الذات تعوض بفوائد أكبر منها لملتقي الإيثار، مضروبة في إمكانية أن يكون هذا المتلقي حاملا من مورثة الإيثار تلك[11]، وبالتالي فستعتمد الإيثارية على درجة القرابة، وكلما زادت نسبة الجينات التي يحملها متلقي الإيثار كان استعدادك لتقديم أفعال إيثارية له أكبر، وحيث أن التشابه الجيني بين الأب وابنه وبين الأخ وأخيه وبين الشخص وابن عمه كبير فاحتمالية توفير ضغط انتقائي لإنقاذ هؤلاء أكبر، على تفاوت بطبيعة الحال يتناسب مع درجة التشابه الجيني، وأعلى القرابة هي الأبوة “فإن كنت تحمل نسخة من الجينة س، فسيظهر احتمال بنسبة 50% أن يحمل أي من أبنائك هذه الجينة، ولد من إحدى هذه الخلايا الجنسية، وإن كنت تحمل نسخة عن الجينة ص يتجلى احتمال بنسبة 50% أن يحمل والدك هو أيضا نفس الجينة، إذ أنك ورثت نصف جيناتك منه والنصف الآخر من والدتك” وبعبارة موجزة: “يشكل أقارب الفرد من منظور اللياقة المتضمنة عربات ناقلة للياقة، إلا أنهم يختلفون في القيمة”[12]، ويمكن تمثيل القيمة على النحو التالي[13]:

EEC 01

وعلى ذلك تكون رعاية الوالدين لأبنائهم إيثارا بين الأقارب، ومن الناحية الجينية يجدر بأي راشد أن يوفر الرعاية والاهتمام لابن أخيه اليتيم تماما كما لو كان واحدا من أولاده بسبب القرابة”[14] وبالطبع لا يرى دوكينز أن الكائنات الحية تقوم بحسابات القرابة والمنفعة والتكلفة بشكل واع، بل هي آلات بقاء “مبرمجة سلفا على التصرف كما لو أنها قد أجرت عملية حسابية معقدة”.[15]

ومن الأمثلة الشهيرة على الإيثار التي عالجها داروين واهتم بها جدا عند حديثه عن الغرائز: الإيثار في الحيوانات الاجتماعية، فالانتقاء الفردي الذي لابد أن يعمل لصالح الفرد يعارضه تماما عمل وتضحية الشغالات من أجل الملكة وأخواتها والخلية، لكنه عالجها بالانتقاء الجماعي أما دوكينز فيقول: مآثر الحشرات الاجتماعية أسطورية، ولا سيما منجزاتها المذهلة على مستوى التعاون والإيثار الظاهر، أما مهمات اللدغ الانتحاري فتمثل بما تتمتع به النحلات من بدع نكران الذات، ففي حالة النحل المخزن للعسل نجد طبقة من النحلات الشغالة التي تتميز ببطون منتفخة تختزن الغذاء، ولا وظيفة لهذه النحلات في حياتها سوى أن تتدلى بلا حراك من سقف القفير كأنها مصابيح منتفخة لتستخدمها النحلات الشغالة الأخرى كمخازن للغذاء، وهذا يعني على سبيل التشبيه بالبشر أن هذه النحلات لا تعيش كأفراد بل يتم إخضاع فرديتها الذاتية لمصلحة رخاء المجتمع على ما يبدو. فمجتمع النمل أو النحل أو الأرضات يحقق نوعا من الفردية عند مستوى أعلى، إذ يتم التشارك في الغذاء على نحو ما يسمح لنا بالحديث عن معدة جماعية، كذلك يتم التشارك في المعلومات بكثير من الفعالية بواسطة الاشارات الكيميائية والرقصة الشهيرة التي تؤديها النحلات، بحيث تتصرف المجموعة كما لو أنها وحدة لها جهازها العصبي وأعضاؤها الحسية الخاصة، أما الأفراد الغريبة والدخيلة فيجري رصدها وطردها بفضل انتقائية جهاز رد الفعل المناعي في الجسد”[16] ويشبه دوكينز الشغالات العقيمة في الحشرات الاجتماعية بالكبد والعضلات والخلايا العصبية في أجسادنا، فتنصب جهودها على الحفاظ على جيناتها عبر رعاية أقاربها بدلا من صغارها لأنها لا تلد، ويشبه الأفراد المولِّدة بخلايانا التناسلية في الخصية والمبيض.[17] ويعود إدراك أن الحشرات الشغالة أقرب إلى الحضنة من الملكة نفسها إلى هاملتون.

لعل القارئ يسأل الآن كيف يمكن للحيوان أن يتعرف على أقاربه؟ “ما هي القواعد العملية البسيطة التي يمكن للحيوانات اتباعها، والتي تحدث في ظل الظروف العادية مفعولا غير مباشر يعود بالمنفعة على علاقاتها القريبة؟”[18] يجيب البيولوجيون بسبل عديدة لذلك، كاستخدام حاسة الشم كما عند بعض الثدييات أو التعرض للأقارب في الطفولة كما في الرئيسيات[19]، أو من خلال التصنيف الثقافي كما عند البشر الموجود في كل اللغات والمحدد لعلاقات القرابة.

والحق أن هناك دعم تجريبي لحسابات هاملتون، فقد “أكدت الدراسات التجريبية أهمية القرابة كعامل متنبئ لسلوك المساعدة، وثقت إحدى الدراسات أن نداء التحذير الذي تطلقه السناجب الأرضية يحدث عندما يكون الأقارب الأقربين في الجوار على الأرجح، مع أنه نداء قد يكون مكلفا لسلامة مطلقته، إذ تجذب انتباه المفترسين إليها”[20]، “وتبين دراسات أخرى أن كمية الحزن والأسى التي يخبرها الأفراد مرتبطة مباشرة بدرجة القرابة الجينية”[21]، كما أنها تتمتع بقوة تفسيرية كبيرة، لذلك اعتبرت باراديما للنظرية التطورية المعاصرة، لكن قد اعتبر هذا النصر لانتقاء الأقارب نصرا لوجهة النظر المتمركزة حول الجين، وهنا محل نقدنا على النحو التالي.

أولا:

القوة التفسيرية الكبيرة لانتقاء الأقارب لا يعني صحة النظرة المتمركزة حول الجين، يتجلى ذلك في القراءات المختلفة الأخرى، كاعتبار إيثار الأقارب نتاجا ثانويا لتجمع من الأفراد، لم يكن له قيمة تكيفية أصلا[22]، أو القراءة الأهم من المشروع الحديث لإحياء الانتقاء الجماعي على يد ديفيد ويلسون والفيلسوف إليوت سوبر، فقد اقترحا في عام 1998 أن “الانتقاء الجماعي متمضمن في النظريات الأساسية التي يفترض أنها بديلة للانتقاء الجماعي”[23] وأن السياق الاجتماعي والظروف البيئية لها دور كبير في عملية الانتقاء عموما، واعتمدا على فقرة معينة كتبها هاملتون في أحد بحوثه، واقترحا أن انتقاء الأقارب ليس بديلا للانتقاء الجماعي، بل حالة خاصة من الانتقاء الجماعي[24]، ولا يعنينا تقييم عمل ويلسون وسوبر أو النتاج الثانوي الذي ابتدعه جولد، فهناك جدل كبير في الألفية الثالثة بين دوكينز وأنصاره وأنصار الانتقائية الاجتماعية في تعريف الانتقاء الجماعي وانتقاء الأقارب، وجدل آخر في فكرة النتاج الثانوي، لكن الجدير بالذكر أن الانتقائية الجماعية وانتقاء الأقارب جينيا متكافئان في النتائج، والخلاف في المعالجة نفسها[25]، وأنه لا علاقة بين القوة التفسيرية لنظرية ما وتأويل هذه النظرية، فقد يكون التفسير صحيحا والتأويل خاطئ، كما أن نظرية اللياقة الشاملة لا تنفي تأثير عوامل أخرى كالتعليم الاجتماعي وغيره.[26] فيمكن قراءة التأثير الجيني كعامل داخل عوامل كثيرة أخرى ودوافع أكثر في تفسيرنا لمثل هذه السلوكيات الحميدة، أما حصر التأثير بالتأثير الجيني كما تفترض النظرة المتمركزة حول الجين فغير مسلم.

ثانيا:

يؤكد بعض المتخصصين في سلوك الحشرات الاجتماعية على عوامل أخرى غير فكرة التقارب الجيني، فمثلا أكد جميس كوستا في كتابه (The other insect societies) على وجوب دراسة العوامل الأخرى التي تؤثر في النشاط الاجتماعي لدى الحشرات من منظور متجاوز لانتخاب الاقارب، “ويشير كتابه إلى مجموعة من الترتيبات الاجتماعية، ويوحي بأنه قد يكون هناك العديد من المسارات التطورية للنشاط الاجتماعي التي لا تنطوي جميعها على انتخاب الأقارب”[27] فهو يرى أن علاقة المنفعة والتكاليف قد درست من خلال المنظور الجيني بفضل التقدم التكنولوجي في أواخر القرن العشرين الذي سهل معرفة القرابة الجينية، وقابل ذلك إهمال للعوامل البيئية–بالمعنى العام– التي لا تقل أهمية عن الجينات، وسبب هذا الاهمال في نظره هو صعوبة تقييم وتحليل العوامل البيئية والسياق المحيط بالكائن. ودعت المتخصصة في سلوك الحيوان والتي لها اهتمام يقرب من الثلاثين عاما بالإنقاذ في عالم النمل إليس نوباهاري (Elise Nowbahari) إلى مزيد اهتمام وبحث، وعدم الاكتفاء بفكرة الانتقاء الجيني، فهي تعتقد أن “السلوك الإيثاري لم يأخذ ما يكفيه من الاهتمام والدراسة”.[28]

ثالثا:

لو صحت النظرة المتمركزة حول الجين وقراءتها لانتقاء الأقارب فلن يكون انتقاء الأقارب إيثارا بالمعنى الذي نستخدمه في حياتنا في اللغتين العربية والإنجليزية على الأقل، فكيف يمكن اعتبارها مقاربة لتفسير الإيثار الحقيقي عند الإنسان، فالفرد يتصرف أو يقاد جينيا لمصلحة معلومات الجين وانتشارها، “ففي الواقع هذه السلوكيات ليست إيثارا، فهي تفضل مباشرة الفرد الذي يقوم بها كفرد يسعى إلى زيادة ذريته”[29] ويصبح التفسير الدارويني حينئذ “لإيثار” الأقارب لا معنى له، لأنه يفسر الأنانية لا الإيثارية بالمعنى المعروف للكلمة، الذي يضع في حسبانه دوافع وعواطف وتعلم وصورة حياة الكائن. أما في حالة الإنسان خصوصا فالأمر أبين، فتلك النظرة المتمركزة حول الجين تقدم الأمومة والإنسان عموما كتمثيل للطيبة بإرادة ثقافية، لإخفاء اللامعنى للطيبة والإيثار الذي يقدمه التفسير الجيني.

 

[1] Sober, E. and Wilson D.S., 1998, p. 19

[2] ibid. p. 18

[3] تشارلز داروين، أصل الأنواع، المجلس الأعلى للثقافة، ترجمة مجدي محمود المليجي، ص436.

[4] الجينة الأنانية، ص272.

[5] أصل الانواع، ص439.

[6] الجينة الأنانية، ص272.

[7] Dawkins, R.2006, p.216

[8] الجينة الأنانية، ص143.

[9] دافيد باس علم النفس التطوري، ص462.

[10] أما مصطلح انتقاء الأقارب نفسه فلم يصرح به هاملتون، بل أدخله ماينارد سميث عام 1964 إلى اللغة التطورية.

[11] المرجع السابق، ص461.

[12] المرجع السابق، ص459.

[13] المرجع السابق، ص69.

[14] الجينة الأنانية، ص148.

[15] المرجع السابق، ص151.

[16] المرجع السابق، ص276.

[17] المرجع السابق، ص277.

[18] المرجع السابق، ص155.

[19] دافيد باس علم النفس التطوري، ص472.

[20] المرجع السابق، ص510.

[21] المرجع السابق، ص511.

[22] Alonso, W. J. (1998). The role of kin selection theory on the explanation of biologicalaltruism: a critical review. Journal of Comparative Biology, 3, 1–14.

[23] Sober, E. and Wilson D.S., 1998, p. 57

[24] Okasha, S., 2002, ‘Genetic Relatedness and the Evolution of Altruism’, Philosophy of Science, 69, 1: 138–149.

[25] Marshall, J. A. R. 2011. “Group Selection and Kin Selection: Formally Equivalent Approaches.” Trends inEcology and Evolution 26 (7): 325–332.

[26] Avital, E., & Jablonka, E. (2000), P.179

[27] العدالة في عالم الحيوان، ص106.

[28] Laura Spinney, 2013, New Scientist, vol. 220, no. 2948, pp. 62–63

المصدر

شبح التصميم الذكي يتجلى في اجتماع الجمعية الملكية بلندن

انفجرت قنبلة التصميم الذكي -التي كانت تدق طوال اليوم والنصف الأول- أخيرًا في جلسة بعد الظهر اليوم من اجتماع الجمعية الملكية (الاتجاهات الجديدة في البيولوجيا التطورية). لكنه كان بمثابة انفجار صدفوي، حيث أن المتحدث (آندي جاردنر Andy Gardner) من جامعة سانت أندروز لم يكن يدافع عن التصميم الذكي، بل عن استبداله كسبب بالانتقاء الطبيعي. ومع ذلك: بوووم!

كان دوجلاس آكس قد أشار سابقا إلى شريحة الفهد في محاضرة جاردنر. لكن الدكتور جاردنر كان قد افتتح حديثه بشريحة مختلفة، تظهر صورة ويليام بالي (1743-1805)، وصور حجر وساعة وعين. ثم شرح حجة بالي الكلاسيكية (لنفترض أنني وضعت قدمي في مواجهة ساعة…)، وشدد على أن التصميم العضوي المعقد يتطلب سببًا كافيًا لتفسير التأثير. بالنسبة إلى بالي، كان السبب إله مصمم؛ أما لداروين، الانتخاب الطبيعي. وأوضح جاردنر إنه بينما أخطأ بالي في الإجابة، لكنه بالتأكيد صاغ السؤال المهم أو المركزي بشكل صحيح: ما الذي يفسر التعقيد التكيفي الواضح للكائنات الحية؟ (حجة جاردنر الكاملة متاحة هنا).

ثم وصلنا لفقرة الأسئلة والأجوبة. كان البروفيسور (تيم إنجولد Tim Ingold) من جامعة أبردين جالسًا على يساري مضطربًا بشكل واضح. سأل جاردنر، هل تقول إن الكائنات الحية هي في الواقع أشياء مصممة؟ أجاب جاردنر: نعم. تابع إنجولد: حسنًا، إذا تم تصميم الكائنات بالفعل، فإن ذلك سيتطلب مصممًا؛ هل يمكن من فضلك أن توضح –وشدد على الأمر– كيف يختلف تفسيرك عن تفسير بالي؟

لم أضع ملاحظاتهم في علامات اقتباس لأن هذا الملخص يضغط كثيرًا من الصخب والكثير جدًا من الأخذ والرد بين إنجولد وجاردنر، لكنه يضع يدك على خلاصة تفاعلهما. في الأسابيع المقبلة، من المفترض أن يتمكن القراء من رؤية الحوار بأنفسهم، عندما تتيح الجمعية الملكية تسجيلات الحدث بأكمله.

كما تم التوضيح سابقا من قبل مراسلين آخرين، شبح الفاعلية الحقيقية كسبب للتعقيد البيولوجي يخيم على كل شيء يحدث في هذا الاجتماع تقريبًا.

وبينما كنت أكتب هذا التقرير، كانت محاضرة باتريك بيتسون Patrick Bateson على وشك الختام، حيث أنهاها بشريحة تنص على أن “الانتقاء الطبيعي ليس فاعلا”، مع تحذير ضمني بأن استدعاء الفاعلية هو السقوط من حافة العالم المعروف[1]. ومن حوالي دقيقتين فقط، في مناقشة المائدة المستديرة اليوم، كانت متحدثة في مقدمة الغرفة -لم أتمكن من التعرف عليها ولكن قيل لي إنها الدكتورة إيفا جابلونكا Eva Jablonka من جامعة تل أبيب- تقول “ليس الإله؛ نحن نستبعد الإله”.

[1] سبحان الله، وكأننا في “العالم المعروف” نرى أي شيء يحدث أو يظهر بدون أن يكون وراءه فاعل ما! للأسف الشديد، يضطر هؤلاء العلماء لقلب الحقائق قلبا صريحا وواضحا، فقط لكي يظلوا ضمن إطار المقبول وفقا لأيديولوجياتهم المادية. (براهين)

المصدر

هل تظن أن داروين اخترع الإنترنت؟!

بالرغم من أن أدلة الداروينية، طبقا لتعريف الداروينيين أنفسهم، أضعف من أن تؤهلها لتصبح نظرية. إلا أن عالم الأحياء التطورية (ثيودوسيوس دوبزنسكي Theodosius Dobzhansky) كتب في 1973 أنه “لا شيء في البيولوجيا يفهم”1 إلا من خلالها.

ودائما ما يدعي الداروينيون المعاصرون نفس الادعاء، ففي عام 1999 كتب رئيس الأكاديمية الأمريكية القومية للعلوم (بروس ألبرتس Bruce Alberts): “تطور جميع الكائنات الحية التي تعيش على كوكب الأرض الآن من أسلافها التي عاشت في الماضي، أمر في صميم علوم الوراثة والكيمياء الحيوية والأعصاب ووظائف الأعضاء وعلم البيئة ومجالات بيولوجية أخرى”.2

أيضًا (دوجلاس فوتويما Douglas J. Futuyma) صرح في كتابه الجامعي (التطور) أن “علم الأحياء التطوري معترف به على نطاق متسع؛ لفائدته في مجالات مختلفة كالصحة العامة والزراعة وعلوم الكمبيوتر، وكذلك لتقديم مفاهيم وأساليب ومعلومات علم الأحياء التطوري إسهامات لا غنى عنها في أساسيات البحث العلمي وتطبيقاته على حد سواء؛ فَفَهْمُ التطور أمر ضروري بالنسبة لأي شخص يتطلع إلى مهنة تعتمد على علوم الحياة سواء كان طبيبا أو باحثا بيولوجيا”.3 “لا شيء في علم الأحياء يفهم”1 إلا من خلالها، فهي “في صميم كل المجالات الحيوية”، و”لا بديل عنها” في علوم الحياة؛ فهل هذه الصورة صحيحة؟! خمن معي؟!

  • يفتخر الداروينيون بأنه لا شيء يفهم في علم الأحياء إلا في ضوء نظرية التطور، لكن الحقيقة أن الزراعة والطب لا تدينان بشيء للداروينية.
  • الادعاء المتكرر بأنه لا غنى عن الداروينية في فهم ومقاومة المضادات الحيوية، غير حقيقي.
  • معظم المجالات البيولوجية الرئيسة تأسست إما على يد علماء سبقوا داروين أو آخرين عارضوا نظريته.

– الزراعة وعلم الوراثة

لم يكن التقدم في الزراعة الحديثة قبل الداروينية فحسب، لكنه كان سياسيا وميكانيكيا في المقام الأول، وبحلول عام 1800 حُوِّلَ نظام تسييج الحقول الزراعية الأوروبية من النظام الإقطاعي القائم على مستوى معيشة مُتَدَنٍ إلى نظام أكثر كفاءة من الملكية الفردية، ثم تحسن مستوى الكفاءة بعد اختراع آلات البذر والمحاريث الحديدية والماكينات الدَّرَّاسَةِ، وكل ذلك قبل نشر كتاب داروين “أصل الأنواع” عام 1859. 4

حتى بعد عام 1859 لم يكن للتقدم في مجال الزراعة، كاختراع آلات حديثة كالجرافات الجيدة ومعدات البذر، وكذلك تحسن كفاءة المزارعين؛ لم تكن لذلك أيَّةُ صلة بنظرية داروين، حيث ازدادت كمية المحاصيل باستخدام السماد العضوي كَمُخَصِّبٍ للتربة، وحالت صوامع الغلال دون فسادها، وَحَسَّنَتْ جودة الغذاء. كما تم اختراع الجرارات الزراعية، وكانت تربية الحيوان والبستنة جيدة طورا قبل عام 1800، كما عرف المربين قبل الداروينية أهمية الانتقاء، وتوفرت العديد من الكتب بالإنجليزية حول ذلك بحلول عام 1859. 5

استفادت الزراعة الحديثة من التقدم في العلوم البيولوجية، لكن هذا التقدم جاء بشكل كبير من علم الوراثة الذي نشأ بفضل مجهود الراهب الأغسطينى (جريجور مندل Gregor Mendel)، فقد وجد مندل نظرية داروين غير مقنعة6 حيث قادته البيانات التي جمعها، إلى استنتاج أن الوراثة تتضمن انتقال العوامل الثابتة التي تحدد سمات الكائن الحي، وبالرغم من أن هذه العوامل يمكن أن تختلط وتتشابه خلال التناسل إلا أنها تبقى منفصلة وثابتة من جيل إلى آخر.

– جَلِيٌّ كَالْجِنِّيِّ

“نظرية داروين ووالاس تستند أساسا… على فرضيات واهية كالطبيعة التشريحية الشكلية والتي بالكاد يمكن أن يطلق عليها اسم نظرية… أفضل الإيمان بوجود الجنيات على تصديق هذا التخمين الطائش”.

– إرنست تشين Ernst Chain، الحاصل على جائزة نوبل 1972

 كانت وجهة نظر داروين عن الوراثة مختلفة تماما؛ فقد اعتقد أن كل خلية من خلايا الكائن الحي تنتج “البريعمات” التي تنقل السمات الوراثية إلى الجيل القادم خلال عملية خلط تسمى “شمولية التخلق”، فكانت فائدة وجهة نظر داروين أن البريعمات يمكن أن تتغير بالظروف الخارجية أو باستعمالها وعدم استعمالها، وهذا يؤدى إلى التغير التطوري، هذه هي الفائدة أما مشكلة نظريته فهي أنها كانت خاطئة.7

وقد تعارضت نظرية العوامل الثابتة لمندل مع نظرية البريعمات المتغيرة لداروين؛ ولذلك تجاهل الداروينيون نظرية مندل كليا لأكثر من ثلاثة عقود بالرغم من نشرها منذ عام 1866، وكتب ويليام باتيسون –وهو أحد العلماء الذين أعادوا اكتشاف علم الوراثة المندلي في مطلع القرن– أن “السبب وراء عدم الاهتمام، هو بلا شك إهمال الدراسة التجريبية لمشكلة النوع التي تبعت القبول العام للمذاهب الداروينية… تمت إجابة السؤال المتخيل، وانتهت المناظرة”.8

وحتى بعد عام 1900 وبالرغم من أن علم الوراثة المندلي قد ثبت بالدليل، إلا أن الداروينيون كانوا قليلا ما يستعملون نظرية مندل حتى الثلاثينات حين تخلوا عن نظرية شمولية التخلق، وأدرجوا المندلية في “التركيبة الداروينية الحديثة”، والذي لا زالت تهيمن على علم الأحياء التطوري. يدعي الدارويني (بروس ألبيرتس) الآن أن الداروينية في صميم علم الوراثة، على الرغم من أن مندل لم يكن في حاجة إلى فرضية داروين، فكيف تكون الداروينية في صميم علم الوراثة وهي لم تسهم بشيء في نشأته، بل وعارضته لنصف قرن، الداروينية هي التي تحتاج علم الوراثة وليس العكس.

– الطب

يرفض (مايكل ديني Michael Dini) أستاذ علم الأحياء بجامعة تكساس التقنية ترشيحَ أي طالب لكلية الطب إذا لم يقدم وصفا داروينيا لأصل الجنس البشري؛ فنظرية التطور بالنسبة له “هي القاعدة المركزية المجمعة لعلم الأحياء، والتي تشمل التطور الصغير (المايكرو) والكبير (الماكرو) على حد سواء، وتمتد لتشمل جميع الكائنات الحية، والشخص الذي يتجاهل النظرية الأكثر أهمية في علم الأحياء لا يُتَوَقَّعُ منه ممارسةُ مجال يعتمد بشكل كبير على علم الأحياء بشكل جيد”.9

ولكن، إلى الآن لا يدين الطب الحديث بشيء للداروينية لسبب واحد وهو أن أعداد الوفيات جراء الأمراض المعدية بدأت تتضاءل في الغرب قبل عام 1859، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى اتخاذ إجراءات للصحة العامة كأنظمة التخلص من مياه الصرف الصحي، وإمدادات المياه الآمنة.10 وتشمل أيضا النظافة الشخصية، كما ورد في قصة أخصائي الولادة المجري (إجنيس سيميلفايز Ignác Semmelweis).

ففي أثناء عمله في إحدى المستشفيات النمساوية لاحظ أن معدل وفيات الأمهات بسبب الحمى الولادية في الأجنحة التي يديرها طلاب كلية الطب كان أعلى بكثير منه في الأجنحة التي تديرها القابلات، وقد لاحظ أيضا أن طلاب الطب يذهبون مباشرة من المشرحة إلى جناح الولادة بدون أن يغسلوا أيديهم، واستطاع سيميلويز ببساطة أن يقلل عدد الوفيات من 30% إلى أقل من 2%،11 عن طريق إلزام طلاب الطب بغسل أيديهم في محلول كلور.

ونشأت الممارسة الحالية للتطعيم أيضا دون أية مساعدة من الداروينية؛ فقبل عام 1800 كان الجدري مرضا خطيرا وغالبا ما يكون قاتلا، وفي تسعينيات القرن الثامن عشر اكتشف الطبيب الإنجليزي (إدوارد جينر Edward Jenner) أنه يستطيع تحصين الناس ضد مرض الجدري بتطعيمهم جدري البقر، وهو مرض تقل خطورته كثيرا عن الجدري، لقد كان التخلص من الجدري عالميا أحد أكثر القضايا التي أدهشتنا بنجاحها في الطب الحديث، ورغم ذلك لم تكن للداروينية علاقة بها.12

يدعي الداروينيون أن الفيروسات، كالأنفلونزا التي تتطور من عام إلى آخر، تفتقر إلى نظريتهم لعلاجها، لكن تحضير لقاحات الأنفلونزا يعتمد على تقنيات مجالات أخرى كعلم الفيروسات والمناعة والكيمياء الحيوية؛ وليس علم الأحياء التطورية.

– اكتشاف المضادات الحيوية

في عام 2001 أذاع البرنامج الإذاعي الأمريكي العام حلقات مؤيدة لداروين مصحوبة بكتاب (التطور: انتصار فكرة)، والتي ادعت أن “مقاومة البكتيريا للعديد من المضادات الحيوية لم تحدث بدون سبب، لكنها تحدث طبقا لمبادئ الانتقاء الطبيعي مثلما نجحت البكتيريا التي تحمل أفضل الجينات في مقاومة الأدوية، فبدون فهم نظرية التطور يصبح أمل الباحث في معرفة كيفية ابتكار أدوية جديدة وتحديد كيفية إدارتها ضعيفا”.13

يستخدم علماء الأحياء الدقيقة كلمة “مضاد حيوي” عَامَّةً لوصف مادة تنتج بواسطة ميكروب يُثَبِّطُ أو يقتل الميكروبات الأخرى، وعلى هذا المنوال اكتشف عالم الأحياء الدقيقة الإنجليزي (ألكسندر فليمينج Alexander Fleming) المضاد الحيوي الأول؛ البنسلين. لاحظ فليمينج طبقا مستنبتا من بكتيريا ستاف staph، تستوطنه بذور فطر عفن، ولم تكن هناك مستعمرات من بكتيريا ستاف حول العفن، مما يرجح أن الفطر ينتج مادة تقتل أو توقف عمل بكتيريا ستاف حوله. وكان العفن نوعا من أنواع البنسلين (الذي يستخدم منه نوع آخر في صنع الجبن الروكفورت)، وتدريب فليمنج في علم الأحياء الدقيقة مَكَّنَهُ من تحويل هذه الملاحظة التصادفية إلى إنجاز طبي بالغ الأهمية.14

– مقاومة المضادات الحيوية

“لقد تم تطبيق مفهوم الصراع من أجل البقاء في الطبيعة على العلاقات الميكروبية، مقارنة بالنتائج التي خصصها داروين لأشكال الحياة الأكثر تطورا، ومن الراجح أن قدرة الميكروب على إنتاج المضاد الحيوي تَحُثه على الصراع مع الميكروبات الأخرى على متسع من المكان والمواد المغذية، تبدو مثل هذه الفرضيات غير مبررة كليا في ضوء المعرفة الراهنة…كل الجدل حول الصراع من أجل البقاء –والذي يُفْتَرَضُ أن تلعب المضادات الحيوية دورا فيه– هو مجرد تلفيق من الخيال، ميلٌ إلى الميلودراما، وابتعاد عن الواقعية”.

– سيلمان واكسمان Selman Waksman، الحاصل على جائزة نوبل 1956

نشر فليمنج اكتشافه عام 1929، لكنه لم يَسْتَفِدْ منه في علاج المرضى إلا بعد عام 1940 حين نجح الكيميائيان هاورد فلورى وإرنست تشين في تنقية وتركيز المضاد الحيوي، لم ير أيٌّ من هؤلاء العلماء الثلاثة أيَّ دور للداروينية خلال عملهم، وذكر فليمنج في مأدبة خطابه عن جائزة نوبل أنه شعر كأنه قطعة شطرنج تحركها قوة عليا على لوح الحياة، وبعد ذلك بسنوات أوضح إرنست تشين –الذي كان يهوديا– أنه “ليس في حاجة للداروينية مطلقا، وأضاف أن نظرية داروين ووالاس تستند أساسا… على فرضيات واهية كالطبيعة التشريحية الشكلية، والتي بالكاد يمكن أن يطلق عليها اسم نظرية… أفضل الإيمان بوجود الجنيات على تصديق هذا التخمين الطائش”.15

إن البنسلين فعال جدا ضد العديد من الأمراض، لكن ليس ضد السل الذي يسبب ملايين الوفيات حول العالم كل عام. في عام 1944 أعلن عالم الأحياء الدقيقة (سيلمان واكسمان) ومساعده البحثي (ألبرت شاتز) اكتشاف الستربتومايسين، وفي خلال عام كان يستعمل في علاج السل، ولم ير واكسمان أيضا أي دور للداروينية في اكتشاف الستربتومايسين مثل مكتشفي البنسلين. وفي عام 1956 أوضح أن العزل والتنقية والتطبيق العلاجي للمضادات الحيوية كان مصطنعا للغاية، ولم يكن له نظير في الطبيعة، واستنتج واكسمان أن الفرضية الداروينية “الصراع من أجل البقاء” بين الميكروبات في الطبيعة “غير مبررة نهائيا”.16

أيدت الأبحاث اللاحقة ذلك؛ فالبكتيريا في البرية تعيش بشكل دائم تقريبا في مجتمعات مع الميكروبات الأخرى، وتشمل أيضا أنواعا أخرى من الكائنات، وبدلا من أن تتناسل بأسرع ما يمكن لتنافس جيرانها في صراع من أجل البقاء، فعلى العكس من ذلك، نجدها تنمو ببطء عادة، وتتعايش بسلام في مكانها الملائم متناهي الصغر في مجتمع مستقر منغلق.17

يخلق الاستعمال العلاجي للمضادات الحيوية حالة مصطنعة للغاية، فالميكروبات المنتجة للمضادات الحيوية يجب أن تعزل من بيئتها المحيطة وتنمو في بيئة صافية بمواد غذائية خاصة، بعد ذلك يجب أن ينقى المضاد الحيوي ويركز إلى درجة لم نر مثلها في الطبيعة، لا شيء يكون طبيعيا بعد إعطاء المريض المضاد الحيوي أخيرا، إن الصُّوَبَ الزجاجية وحظائر الماشية المملوكة للمربين المحليين لهي أكثر طبيعية من غرفة مستشفى أو مكتب طبيب.

ربما تنجو القليل من البكتيريا من العلاج بالمضاد الحيوي من حين لآخر، ويتكاثر عدد الناجون، ويستمرون في العدوى التي لم يكن المضاد الحيوي الأصلي فعالا تجاهها، ويمكن أن يتحول هذا إلى مشكلة طبية خطيرة، وهذه العملية لم تختلف إلى الآن عن تربية الحيوانات الأليفة غير أنه في التربية تعيش الحيوانات المرغوب فيها أما في مقاومة المضاد الحيوي فتعيش الميكروبات غير المرغوب فيها، وتتضمن كلتا الحالتين الاختيار الإنساني في موقف مصطنع، ولم تتضمن أي منهما أصلا لنوع جديد من الكائنات؛ فبكتيريا السل المقاومة للمضادات الحيوية لا تزال هي بكتيريا السل.

بعض رواد علم الأحياء الحديث الذين إما سبقوا داروين أو عارضوا نظريته:

اندرياس فيساليوس Andreas Vesalius (علم التشريح)، 1514–1564

ويليام هارفي William Harvey (علم وظائف الأعضاء)، 1578 – 1657

فرانسيسكو ريدى Francesco Redi (الأحياء الدقيقة)، 1626 – 1697

جون راي John Ray (علم النبات)، 1627 – 1705

أنتون فان ليوفنوك Anton van Leeuwenhoek (الأحياء الدقيقة)، 1632 – 1723

روبيرت هوك Robert Hooke (الأحياء الدقيقة)، 1635 – 1703

كارولوس لينايوس Carolus Linnaeus (علم التصنيف)، 1707 – 1778

لازارو سبالانزانى Lazzaro Spallanzani (علم الأحياء التناسلي)، 1729 – 1799

كاسبار فريدريك وولف Caspar Friedrich Wolff (علم الأجنة)، 1734 – 1794

جيورجيس كافيير Georges Cuvier (علم الحفريات)، 1769 – 1832

كارل ارنست فون باير Karl Ernst von Baer (علم الأجنة)، 1792 – 1876

ريتشارد اوين Richard Owen (علم الأحياء المقارن)، 1804 – 1892

لويس اجاسيز Louis Agassiz (علم الحيوان)، 1807 – 1873

جريجور مندل Gregor Mendel (علم الوراثة)، 1822 – 1884

كيف يتعامل الأطباء مع مقاومة المضادات الحيوية عند ظهورها؟ إنهم لا يستشيرون عالم أحياء تطورية؛ فالعاملان الأكثر إسهاما لظهور مقاومة المضادات الحيوية هما: (1) الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية و(2) الفشل في عزل المرضى المتعرضين للعدوى، وقد كتب الدكتور (آلان هينمان Alan R. Hinman ) في طبعة عام 2003 من كتابه (مبادئ وممارسة أمراض الأطفال المعدية Principles and Practice of Pediatric Infectious Diseases): “الأسباب الرئيسة لمقاومة الميكروبات للأدوية هي الاستخدام غير المميِّز، وغير الملائم، والقاصر، والناقص، والمتعارض للمضادات الحيوية”، ويشمل ذلك استخدام المضادات الحيوية كإجراء وقائي في العلف الحيواني علاجا موصوفا لهم ضد الأمراض الفيروسية كالزكام الذي لم تكن المضادات الحيوية فعالة ضده؛ واستخدام جرعات غير كافية أو إيقاف العلاج قبل أوانه، وبذلك يسمح لبعض الكائنات الدقيقة بالبقاء حية طبقا لطبعة عام 2004 من كتاب (الأمراض المعدية Infectious Diseases) لجورباش Gorbach وبارتليت Bartlett وبلاك لو Blacklow، إن “سوء استخدام المضادات الحيوية يفسر نسبة كبيرة من المقاومة الناشئة”.18

يتعامل الأطباء مع العامل الثاني بالاعتماد على إجراءات العزلة المختبرة بالوقت، ويتعاملون معه أيضا عن طريق دراسة الآليات التي تنتقل بها مقاومة المضادات الحيوية من ميكروب إلى آخر؛ آليات تتضمن انتقال جين بين الكائنات الحية عوضا عن الانحدار الداروينى المقترن بالتعديل، وقد كتب دكتور (ستيفين أوبال Steven M. Opal) ودكتور (أنتونى ميديروس Antone Medeiros) في طبعة 2005 من كتاب (مبادئ وممارسة الأمراض المعدية) لمندل ودوجلاس وبينيت أن “أفضل أمل للمستقبل هو تطوير فهم أعظم لكيفية انتشار المقاومة الميكروبية وتطبيق استراتيجيات فعالة للسيطرة على العدوى”.19

تكتشف أيضا مضادات حيوية جديدة بدون أي مساعدة من النظرية التطورية، لقد اكتشف الباحثون في “جونسون وجونسون” مضادا حيويا جديدا، والذي أثبت فعاليته في الاختبارات المبدئية ضد أنواع السل المقاومة، وذلك باستخدام إجراءات الفحص الميكربيولوجية والكيمياء العضوية، وقد قامت مؤخرا مجموعة من صيادلة هارفارد بتركيب أشكال جديدة من التتراسيكلين –مضاد حيوي اكتشف في الخمسينات– والتي تبشر بفعاليتها ضد البكتيريا المقاومة للتتراسيكلين نفسه، كما كتب (مالكوم ماكوس Malcolm Maccoss) و(توماس بايلى Thomas A. Baillie) باحثى ميرك Merck في مجلة (العلم Science) عام 2004 أن العنصر الرئيس في اكتشاف دواء جديد هو الحاجة المستمرة للكيميائيين التخليقيين الممتازين، وليس لعلماء أحياء تطورية.20

– لا شيء في علم الأحياء…!

ادعى دوبزانسكي أن لا شيء في علم الأحياء يفهم إلا في ضوء التطور، ولكن على العكس من ذلك، فأغلب المجالات الأساسية في علم الأحياء الحديث قد ابتكرها علماء عاشوا قبل أن يولد داروين. من هؤلاء الرواد عالم التشريح (أندرياس فيساليوس Andreas Vesalius) وعالم وظائف الأعضاء (ويليام هارفي William Harvey) في القرن السادس عشر، وعالم النبات (جون راي John Ray) في القرن السابع عشر، ومنهم أيضا مؤسسو علم الميكربيولوجيا في القرن السابع عشر (روبيرت هوك Robert Hooke) و(أنتون فان ليوينهوك Anton Van Leeuwenhoek) ومؤسس علم تصنيف الأحياء في القرن الثامن عشر (كارولوس لينايوس Carolus Linnaeus) ومؤسس علم الأجنة الحديث في القرن الثامن عشر كاسبار فريدريك وولف، وعلم الدراسات القديمة أيضا الذي يعتبره الداروينيون الآن ملكا لهم قد أسسه (جيورجيس كافيير Georges Cuvier) قبل أن يولد داروين. العديد من رواد علم الأحياء العظماء الذين عاشوا حتى يروا نشر كتاب أصل الأنواع قد عارضوا نظرية داروين بشدة، ومن هؤلاء عالم الأجنة (كارل إرنست فون باير Karl Ernst Von Baer) وعالم الأحياء المقارن (ريتشارد أوين Richard Owen) وعالم الحيوان (لويس أجاسيز Louis Agassiz) وعالم الوراثة (جريجور مندل).21

يستحق مجالا واحدا تنويه خاص؛ علم الأحياء المقارن. يدعي الداروينيون أحيانا أن نظريتهم تساعدنا في فهم ماهية صلة الحيوانات الوثيقة بنا، وهذا يزيد من احتمال استخدامهم كنماذج لمرض الإنسان والاختبار العلاجي، وتحدد هذه الحيوانات على أساس التشابه الوراثي والكيميائي الحيوي للإنسان، وهذا فقط علم أحياء مقارن في مستوى الجينات والبروتينات، لقد عمل لينايوس على علم الأحياء المقارن بالرغم من كونه مبتكرا، وقد عاش قبل داروين بقرن، وعمل أوين وأجاسيز أيضا على علم الأحياء المقارن رغم معارضتهما لنظرية داروين، لم يكن مندل داروينيا، ولم يكن داروين كيميائيا حيويا؛ ولذلك فإن علم الأحياء المقارن مثل معظم المجالات الحيوية الأخرى لا يدين بشيء للداروينية.

في الحلقة النهائية من المسلسل التليفزيوني للبرنامج الإذاعي العام يصرح الراوي بأنه بعد تجربة عام 1925 الميدانية بعقود بدا داروين معزولا عن مدارس أمريكا العامة، وعندما أطلق السوفييت القمر الاصطناعي سبوتنيك –أول قمر اصطناعي صنعه الإنسان– عام 1957 وطبقا لما قاله الراوي فإن داروين قد أعيد إلى المناهج، وانتعشت برامج علمية مهملة منذ زمن مرة أخرى في الفصول الدراسية الأمريكية، وبالرغم من ذلك وأثناء عقود الجهل المفترضة بين عام 1925 و1957 قَدَّمَتْ مدارسُ أمريكيةٌ فائزين بجائزة نوبل أكثر من بقية دول العالم مجتمعة، وفي علم وظائف الأعضاء والطب –وهى المجالات المفترض عرقلتها بشدة لإهمال الداروينية لها– قَدَّمَتْ الولايات المتحدة ضِعْفَ ما قدمته الدول الأخرى مجتمعة من حائزي جائزة نوبل، وبذلك يتبين أنه من الواضح أن علم الطب الحيوي يقوم بعمله على نحو جيد فقط بدون الداروينية.22

أخبر (مارك كيرشنر Marc W. Kirschner) –عالم أحياء بجامعة هارفارد– (الفصل الثالث) مراسلا لبوسطن جلوب مؤخرا أنه خلال المائة عام الماضية استمرت جميع فروع علم الأحياء تقريبا في التقدم مستقلة عن التطور عدا علم الأحياء التطوري نفسه، وبالرغم من حزن كيرشنر في هذا الموقف إلا أنه اعترف بأن علم الأحياء الجزيئي والكيمياء الحيوية ووظائف الأعضاء لم تأخذ التطور بعين الاعتبار مطلقا.

وكتب الكيميائي (فيليب سكيل Philip S. Skell) عضو الأكاديمية القومية الأمريكية للعلوم في “العالِم” أن بحثه في المضادات الحيوية أثناء الحرب العالمية الثانية لم يتلق أي توجيه من بصائر التطور الدارويني، ولقد قام سكيل مؤخرا بسؤال ما يزيد عن 70 باحثا شهيرا إذا ما كان عملهم سيختلف لو اعتبروا نظرية داروين خاطئة، وكانت الإجابات كلها مماثلة: لا، ويستنتج سكيل بعد مراجعة الاكتشافات الحيوية الرئيسة بالقرن العشرين فيقول: “اكتشفت أن نظرية داروين لم تُقَدِّمْ أي توجيه قابل للإدراك بل تم جلبها بعد الإنجازات كملحق سردي مثير”.23

ربما يكون تقديم الملحق السردي مثيرا، لكن الاستحواذ على إنجازات أناس آخرين سرقة، يجب أن يكون هناك كلمة معينة لهذا الشكل الخاص من الاختلاس الثقافي، بالرغم من أن داروين نفسه لم يكن مذنبا عندما سرق الداروينيون إنجازات علمية لم يساهموا فيها بشيء إلا أن الفعل “يدرون to darwin” يمكن أن يكون مناسبا، أجيال من المربين قد دروِنوا ودرون مندل وجينر وسيميلويز وتمت درونة فليمنج وفلورى وتشاين وواكسمان، وقد حدث هذا مع الرواد الحقيقيين لعلم الأحياء الحديث؛ فقد تم درونتهم جميعا.

– ماذا يفعل داروين حيال ذلك؟

“لقد قمت مؤخرا بسؤال ما يزيد عن سبعين باحث شهير إذا ما كان عملهم سيختلف لو اعتبروا نظرية داروين خاطئة، وكانت الاجابات كلها مماثلة: لا، وفحصت أيضا الاكتشافات الحيوية البارزة بالقرن الماضى: اكتشاف اللولب المزدوج، وتمييز الريبوسوم (مصنع البروتين في الخلية)، وموضعة الجينومات (مجموع الجينات في الكائن)، والبحث في الأدوية والاستجابة لها، وتحسينات إنتاج الغذاء، والتعقيم، وتنمية جراحات جديدة وغيرها، لقد سألت حتى علماء الأحياء الذين يعملون في المجالات التي نتوقع أن يقدم النموذج الدارويني أبحاثا أكثر إفادة بها كظهور مقاومة المضادات الحيوية والمبيدات الحشرية، اكتشفت أن نظرية داروين هنا كما في أي فرع آخر لم تُقَدِّمْ أي توجيه قابل للإدراك، بل تم جلبها بعد الإنجازات كملحق سردي مثير”.

– فيليب سكيل (عضو الأكاديمية القومية للعلوم)، مجلة ساينتست، أغسطس 2005

– ادعاء ما ليس لك!

في عام 1999 أخبر نائب الرئيس آل جور (السي. إن. إن CNN) أنه أثناء خدمته في الكونجرس بالولايات المتحدة بادر باختراع الإنترنت، وقد كان من الواضح أن جور يبالغ؛ لأن ما يعرف بالإنترنت الآن كان طور الإعداد منذ أوائل الستينيات حين كان جور لا يزال طالبا جامعيا، وسريعا أصبح المرشح الذي ادعى أنه ابتكر الإنترنت أضحوكةً من نكات صانعي الكارتون ومذيعي برامج حوارات التوك شو الليلية.24

رغم ذلك كان ادعاء جور باختراع الإنترنت يحمل بعض الحقيقة؛ فإنه كعضو لمجلس الشيوخ 1988 قَدَّمَ تشريعا لعمل شبكة حاسوب وطنية سريعة، وكتب (روبيرت كان Robert Kahn) و(فينتون سيرف Vinton Cerf) مؤخرا –وهما من قاما بتصميم البنية الأساسية والنظم المحورية للإنترنت– أن جور كان القائد السياسي الأول الذي يفهم أهمية الإنترنت، ويشجع ويدعم تطويره، لذا بالرغم من أن جور كان يجب أن يكون متعقلا في وصفه لدوره بشكل أكثر اعتدالا، إلا أن تفاخره لم يكن بكامله غير مستحق.25

يتفاخر الداروينيون أيضا… لكن إذا لم يدرك شيء في علم الأحياء الا في ضوء التطور الدارويني، فكيف تأسست معظم المجالات الحيوية الرئيسة إما قبل داروين أو على يد علماء عارضوا نظريته؟ لماذا يدعي الداروينيون أن فرضيتهم لا غنى عنها في الزراعة حينما كان داروين يحتاج للمزارعين ولم يكن المزارعون في حاجة له؟ كيف أفلت الداروينيون بادعائهم ملكيتهم علمَ الوراثة المندلي حينما شك مندل في نظريتهم وتجاهلوا عمله لعقود؟ كيف كانت الداروينية لا غنى عنها في الطب حينما كان التناقص في الأمراض المعدية ناتجا عن إجراءات الصحة العامة والمجالات العلمية التي لا تدين بشيء لنظرية داروين؟

ربما حان الوقت لمذيعي برامج التوك شو الليلية لمقارنة الطريقة التي ينال الداروينيون بها الفضل في علم الطب الحيوي بالطريقة التي ينال بها آل جور الفضل في اختراع الإنترنت، إلا أن المقارنة لن تكون عادلة. على الأقل، قَدَّمَ جور بالفعل شيئا يخص اختراع الإنترنت.

 ملحوظة: أصل المقال هو الفصل السابع من كتاب جوناثان ويلز (الدليل غير الدبلوماسي للداروينية والتصميم الذكي)، بترخيص من Regnery Publishing.

 

– الهوامش:

  1. Theodosius Dobzhansky, “Nothing in Biology Makes Sense Except in the Light of Evolution,” American Biology Teacher 35 (March 1973), 125–29.
  2. Bruce Alberts, “Preface,” Science and Creationism: A View from the National Academy of Sciences (Washington, DC: National Academy Press, 1999). Available online (April 2006) at: http://books.nap.edu/html/creationism/.
  3. Douglas J. Futuyma, Evolution (Sunderland, MA: Sinauer Associates, 2005), xiv.
  4. John T. Schlebecker, Whereby We Thrive: A History of American Farming, 1607–1972. (Ames, IA: The Iowa State University press, 1975), 174–87, 316–18. Percy W. Bidwell and John I. Falconer, History of Agriculture in the Northern United States, 1620–1860 (Washington, DC: Carnegie Institution, 1925; reprinted in 1973 by Augustus M. Kelley Publishers). “British Agricultural Revolution,” Wikipedia: The Free Encyclopedia. Available online (April 2006) at: http://en.wikipedia.org/wiki/British_Agricultural_Revolution.
  5. Nicholas Russell, Like Eengend’ring Like: Heredity and Animal Breeding in Early Modern England (Cambridge: Cambridge University Press, 1986), 39, 216. Charles Darwin, The Variation of Animals and Plants Under Domestication (New York: D. Appleton, 1868), Volume II, Chapter XX. Peter J. Bowler, Evolution: The History of an Idea, Revised Edition (Berkeley, CA: University of California Press, 1989), 155–56, 166.
  6. William Bateson, Mendel’s Principles of Heredity (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1913), 329. B. C. A. Windle, “Mendel, Mendelism,” in The Catholic Encyclopedia, Volume X (Robert Appleton Company, 1911). Available online (April 2006) at: http://www.newadvent.org/cathen/10180b.htm.
  7. Charles Darwin, The Variation of Animals and Plants under Domestication , Chapter XXVII. Charles Darwin, On the Origin of Species, Sixth Edition, Chapter V. See also Chapters I and VI. Bowler, Evolution: The History of an Idea, 171, 190, 210, 250–52.
  8. Bateson, Mendel’s Principles of Heredity, 334. Windle, “Mendel, Mendelism,” in The Catholic Encyclopedia. Jan Sapp, Beyond the Gene: Cytoplasmic Inheritance and the Struggle for Authority in Genetics. (New York: Oxford University Press, 1987), Chapters 2–4.
  9. Michael L. Dini, “Letters of Recommendation,” Available online (April 2006) at http://www2.tltc.ttu.edu/dini/Personal/letters.htm.
  10. Thomas McKeown, The Role of Medicine (Princeton: Princeton University Press, 1979). Kenneth F. Kiple, “The History of Disease,” 16–50 in Roy Porter (editor), The Cambridge Illustrated History of Medicine (Cambridge: Cambridge University Press, 1996), 39–40.
  11. Sherwin B. Nuland, The Doctors’ Plague: Germs, Childbed Fever, and the Strange Story of Ignác Semmelweis (New York: W. W. Norton, 2003). Milton Wainwright, Miracle Cure: The Story of Penicillin and the Golden Age of Antibiotics (Oxford: Basil Blackwell, 1990), 11–12.
  12. F. Fenner, D. A. Henderson, I. Arita, Z. Jezek, and I. D. Ladnyi, Smallpox and its Eradication (Geneva: World Health Organization, 1988). Abbas M. Behbehani, The Smallpox Story (Kansas City, KS: University of Kansas Medical Center, 1988).
  13. Carl Zimmer, Evolution: The Triumph of an Idea (New York: Harper Collins, 2001), 336.
  14. Alexander Fleming, “On the antibacterial action of cultures of a Penicillium, with special reference to their use in the isolation of B. influenzae ,” British Journal of Experimental Pathology 10 (1929), 226–36. Wainwright, Miracle Cure, Chapter 2. Hare, Ronald, The Birth of Penicillin (London: George Allen and Unwin, 1970).
  15. E. Chain, H. W. Florey, A. D. Gardner, N. G. Heatley, M. A. Jennings, J. Orr–Ewing, and A. G. Sanders, “Penicillin as a chemotherapeutic agent,” The Lancet 239:2 (August, 1940), 226–28. Wainwright, Miracle Cure, Chapters 3 and 4. Alexander Fleming, “Banquet Speech,” December 10, 1945. Available online (April 2006) at: http://nobelprize.org/medicine/laureates/1945/fleming–speech.html. Ronald W. Clark, The Life of Ernst Chain: Penicillin and Beyond (London: Weidenfeld and Nicolson, 1985), 147–48.
  16. Albert Schatz, Elizabeth Bugie, and Selman A. Waksman, “Streptomycin, a Substance Exhibiting Antibiotic Activity Against Gram–Positive and Gram–Negative Bacteria,” Proceedings of the Society for Experimental Biology and Medicine 55 (1944), 66–69. Wainwright, Miracle Cure, Chapter 8. Selman A Waksman, “The Role of Antibiotics in Natural Processes,” Giornale di Microbiologia 2 (1956), 1–14.
  17. Joe J. Harrison, Raymond J. Turner, Lyriam L. R. Marques, and Howard Ceri, “Biofilms: A new understanding of these microbial communities is driving a revolution that may transform the science of microbiology,” American Scientist 93 (November/December 2005): 508–15. Roland F. Hirsch, “Darwinian Evolutionary Theory and the Life Sciences in the Twenty–First Century,” in William A. Dembski, Editor, Uncommon Dissent: Intellectuals Who Find Darwinism Unconvincing (Wilmington, DE: ISI Books, 2004), 215–31.
  18. Alan R. Hinman, “Perspectives on Emergence and Control of Infectious Diseases Worldwide,” 2–9 in Sarah S. Long, Larry K. Pickering, and Charles G. Prober (eds.), Principles and Practice of Pediatric Infectious Diseases, Second Edition (New York: Elsevier/Churchill Livingstone, 2003), 6. Larry J. Strausbaugh and Daniel B. Jernigan, “Emerging Infections,” 107–16 in Sherwood L. Gorbach, John G. Bartlett, and Neil R. Blacklow (Editors), Infectious Diseases, Third Edition (Philadelphia, PA: Lippincott Williams & Wilkins, 2004), 111.
  19. Steven M. Opal and Antone A. Medeiros, “Molecular Mechanisms of Antibiotic Resistance in Bacteria,” 253–70 in Gerald L. Mandell, John E. Bennett, and Raphael Dolin (Editors), Mandell, Douglas, and Bennett’s Principles and Practice of Infectious Diseases, Sixth Edition (Philadelphia, PA: Elsevier/Churchill Livingstone, 2005), 266.
  20. Stewart T. Cole and Pedro M. Alzari, “TB—A New Target, a New Drug,” Science 307 (2005), 214–15. Chaitan Khosla and Yi Tang, “A New Route to Designer Antibiotics,” Science 308 (2005), 367–68. Malcolm MacCoss and Thomas A. Baillie, “Organic Chemistry in Drug Discovery,” Science 303 (2004), 1810–13.
  21. William C. Dampier, A History of Science (Cambridge: Cambridge University Press, 1966). See also the relevant entries in Wikipedia, The Free Encyclopedia, available online (April 2006) at: http://en.wikipedia.org/wiki/Main_Page.
  22. Getting the Facts Straight: A Viewer’s Guide to PBS’s Evolution (Seattle, WA: Discovery Institute Press, 2001), Chapter 7. Available online (April 2006) at: http://www.reviewevolution.org/.
  23. Kirschner is quoted in Peter Dizikes, “Missing Links,” Boston Globe, October 23, 2005. Available online (April 2006) at: http://www.boston.com/news/globe/ideas/articles/2005/10/23/missing_links/. Philip S. Skell, “Why Do We Invoke Darwin?” The Scientist 19:16 (August 29, 2005): 10. Available online (April 2006) at: http://www.the–scientist.com/2005/8/29/10/1/.
  24. Transcript: Vice President Gore on CNN’s “Late Edition,” March 9, 1999. Available online (April 2006) at: http://www.cnn.com/ALLPOLITICS/stories/1999/03/09/president.2000/transcript.gore/. Declan McCullagh, “I Created the ‘Al Gore Created the Internet’ Story,” Politech, October 17, 2000. Available online (April 2006) at: http://seclists.org/lists/politech/2000/Oct/0032.html.
  25. Richard Wiggins, “Al Gore and the Creation of the Internet,” First Monday 5:10 (October 2000). Available online (April 2006) at: http://www.firstmonday.dk/issues/issue5_10/wiggins/. John Markoff, “Sharing the Supercomputers,” New York Times, December 29, 1988.

المصدر

التصميم الذكي والتطور الإلهي.. صداقة أم عداء؟!

يمر اليوم تلو اليوم، ونجد أنفسنا بين مصطلحات ومفاهيم لا حصر لها، فنحن إن حفظنا اسمها اللاتيني وترجمته العربية، نجدنا قد نسينا المعنى. وإذا تذكرناه فهو إما خليط غريب، أو صورة مشوشة لا نكاد ندرك معالمها. الزخْم المفاهيمي الذي يعيش فيه إنسان اليوم، أكبر من أن يستوعبه عقل واحد، ولكن من قال أصلا أن على الفرد الواحد استيعاب كل شيء وحفظ كل شيء وفهم كل شيء!

أحد أكثر الأمثلة شهرة في هذا المضمار، هو الحوار حول التطور بين المؤمنين بإله. فلا يكاد يمر اليوم إلا تجد من يتحدث في هذا المجال، بشكل يوحي إليك أنه قد قرأ كل شيء وفهم كل شيء. قدر الإقدام على الخوض في الأمور التي لا نعرف عنها إلا ظاهرها مرعب جدًا.

هذا المقال تأخرت في كتابته كثيرًا، كما تأخر غيري وسيتأخر غيره. والنتيجة التي لا تغفلها العين هي أنه في مقابل كل تأخر لباحث جاد في نشر ولو جزء صغير من بحثه، ينشر غيره –من دون أن يبذل أدنى مجهود بحثي– ما يشتت به الكثير. وأنا وإن كنت أدرك تماما مدى صعوبة النشر على أولئك الذين يعتبرون البحث أسلوب حياة، ولكني أصبحت أدرك أيضا، أن ضرر التأخر في نشر المادة الجادة –وإن لم ينته منها سوى جزء ضئيل– أكبر بكثير من نفع تأجيل نشرها.

نشرنا في مركز براهين حتى الآن ستة كتب مترجمة عن التطور والتصميم الذكي؛ (تصميم الحياة) و(أيقونات التطور) و(صندوق داروين الأسود) و(العلم وأصل الإنسان) و(شك داروين) و(الانتواع الخادع)، وبحث عن (التطور الموجه بين العلم والدين) للدكتور هشام عزمي عضو المركز، وفي الطريق (توقيع في الخلية) و(التطور: نظرية في أزمة) و(التطور: ما تزال نظرية في أزمة)، وما زال في خطتنا إنتاج المزيد في هذا الملف الشائك المتسع. ومع ذلك، لا نعتبر أنفسنا متحدثين رسميين باسم حركة التصميم الذكي، ولا نحن حتى بالذين نتفق معهم في كل كبيرة وصغيرة.

رسالة المركز “تفكيك الخطاب الإلحادي ونقد مضامينه العلمية والفلسفية وأبعاده التاريخية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية”، ولما كانت الداروينية هي الذراع العلمي للإلحاد الجديد، كان لزامًا علينا أن نفي هذا الملف حقه. وبالطبع رؤية المركز واضحة للمتابعين في الرفض التام لفكرة التطور الإلهي –ولعل بحث الدكتور هشام يوضح المزيد لمن يريد الإلمام بالأمر–، وكذلك سياسة اختيار المواد المنشورة لدينا قائمة على نقل أهم وأفضل وأصح ما كتب في نقد أسس الدارونية.

ومع كل ما تم إنتاجه ونشره، ما زلنا نُسأل حتى الآن عن سر رفضنا للتطور الموجه، عن سبب معارضتنا للجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالتطور، عن أساس إنفاقنا الوقت والجهد في محاربة ما يُظنه البعض مجرد نظرية علمية. لذا دعت الضرورة إلى وجود مثل هذا المقال الذي يوضح بعض المفاهيم التي اختلطت على بعض الناس، بلغة أظنها أبعد عن التخصصية التقنية، وأقرب إلى التفكيك والتبسيط. وإن كنت أرى أني لم أفِ المسألة حقها، وأنه ما زال هناك حاجة للمزيد من الشرح والإيضاح، لكن لعل هذا المقال يسهم ولو بشيء بسيط، ويعين الباحثين على معرفة الحق.

– التطور الإلهي؛ مفهومه وأنصاره

مقالة فيلسوف العلوم د. ويليام ديمبسكي: “منظرو التصميم ليسوا في صداقة مع التطور الإلهي”(1) لم تأتِ من فراغ، فعلى عكس ما سيتبادر لذهنك من مصطلح “التطور الإلهي Theistic Evolution”، التطور الإلهي لا يوجد فيه مكان للإله. أو بعبارة أوضح الإله الذي يتصوره أنصار هذا المذهب لا يشبه لا إلهك ولا إله أي دين، هو إله أُدخِل قصرًا على التصور الدارويني لشكل الحياة كي ينسب إليه كل تلك العشوائية وانعدام الحكمة والغاية التي في أذهانهم، و”الخلق” في أذهانهم هو حدث عابر، حدث من مليارات السنين، ثم توقف هذا الإله بعدها تماما عن التدخل، وترك المهمة لطفرات عشوائية وانتخاب طبيعي كي ينتجوا كل تلك الأنواع الحية من سلف واحد.

يعلق ديمبسكي على هذا المنهج قائلا: “التطور الإلهي هو عبارة عن إنجيلية أمريكية ملفقة –بشكل غير مدروس– للداروينية. ما يفعله التطور الإلهي هو أنه يأخذ الصورة الداروينية لعالم الأَحياء ويقوم بتعميدها(2)، ملقبًا إياها بالطريقة التي خلق الله بها الحياة. وحتى إن أردنا اختزاله في محتواه العلمي، فالتطور الإلهي لا يختلف عن التطور الإلحادي في قبول العمليات الطبيعية المادية اللاغائية فقط لنشأة وتطور الحياة”.(3) ويستطرد: “التطور الإلهي تناقض صارخ، شيء مشابه لـ «غائية اللاغائية». لو أن الله خلق الحياة لغاية ما، بالوسائل التي اقترحها داروين، إذن غاية الله كانت جعل الأمر يبدو كما لو أن الحياة خلقت بدون غاية”.(4)

نعم، التطور الإلهي لا يرى أن الخالق يمكن أن يتدخل إطلاقا، هم يسمحون للخالق بطلقة واحدة في البداية، وبعد ذلك عليه أن يبتعد تماما على حد تعبير بيهي. تعبر الأكاديمية الوطنية للعلوم في أمريكا في الكتيب الصادر عام 1999م بعنوان (العلم والخَلْقَوِيَّة Science and Creationism) عن هذا المفهوم بعبارة أكثر وضوحا: “العديد من الأشخاص المتدينين، والذين من بينهم العديد من العلماء، يتمسكون بأن الله خلق الكون والعمليات المتنوعة التي أدت إلى التطور الفيزيائي والبيولوجي، ومن ثم أدت تلك العمليات إلى خلق المجرات، ومجموعتنا الشمسية، والحياة على الأرض. هذا الاعتقاد، والذي يصطلح عليه أحيانا بـ«التطور الإلهي»، ليس في خلاف مع التفاسير العلمية للتطور”.(5)

يعلق د. مايكل بيهي (أستاذ الكيمياء الحيوية وأحد منظري التصميم الذكي) على هذا المفهوم الغريب موضحا تناقضه وعدم اتساقه، فيقول: “إذا كان هناك حقا –كما تسمح اللجنة– كائن حقيقي قادر حقا على خلق الكون وقوانينه… ما الذي يمكن أن يمنعه من التأثير في الكون إن اختار ذلك؟ هل هذا الكائن الذي خلق الكون وقوانينه عليه أن يأخذ الإذن من الأكاديمية الوطنية قبل أن يؤثر في الطبيعة؟ بالطبع لا”.(6)

– نبذة عن أشهر أطراف الصراع

الصراع بين منظري التصميم الذكي وأنصار التطور الإلهي قديم ومستمر، لعل أشهر ما حدث مؤخرا في هذا المسلسل هو مناظرة (من وراء كل ذلك؟!) والتي دارت في تورنتو بكندا في أواخر مارس 2016، بين د. ستيفن ماير (فيلسوف العلوم وأحد أشهر منظري التصميم) من جهة، ود. لورانس كراوس (الملحد الفيزيائي الشهير) من جهة، وثالثهم في المناظرة د. دينيس لامورو (أحد منظري التطور الإلهي). وكما هو متوقع كان لامورو الكاثوليكي في صف كراوس الملحد ضد ماير منظر التصميم.(7)

وبالطبع ليست هذه أشهر حلقات الصراع، فالحدث المحوري في تاريخ صراع التصميم الذكي مع التطور عموما والتطور الإلهي خصوصا، هو قضية كيتسميللر ضد إدارة مدرسة دوڤر في 2005. دكتور كينيث ميلر لمن لا يعرفه هو أستاذ البيولوجيا بجامعة برينستون وهو مسيحي كاثوليكي وأحد أشهر منظري التطور الإلهي في أمريكا، وكذلك أحد أشهر معارضي حركة التصميم الذكي عموما. والقصة باختصار أن إدارة المدرسة قررت أن تلقي بيانا مختصرا على الطلاب لإعلامهم بأن الداروينية ليست هي النظرية الوحيدة التي تحاول تفسير نشأة الحياة والأنواع، وأن هناك نظرية علمية أخرى تسمى “التصميم الذكي” تقدم تفسيرًا مختلفًا، كان هذا الأمر كافيا لكي يتم تحريك دعوى قضائية ضد إدارة المدرسة لاتهامها بتدريس الدين في حصة العلوم. وتبع الأمر حربٌ إعلامية ليس على إدارة المدرسة فقط، وإنما على كل منظري التصميم الذكي. وبالفعل أقيمت الدعوى واستدعت المحكمة ميلر كشاهد وكذلك استدعت الدكتور مايكل بيهي كشاهد أيضا، وقدم بيهي طرحه الذي يرى أنه يثبت أن التصميم الذكي أطروحة علمية، وكعادته قام ميلر بكل ما يستطيع فعله من محاولات لخداع المحكمة وإبطال حجج بيهي.(8)

حلقة أخرى لا ينبغي إغفالها في هذا الصراع، وهي حلقة البيولوجوس ومؤسسها فرانسيس كولينز (عالم الجينات الأشهر ومؤسس مشروع الجينوم البشري). والبيولوجوس BioLogos هو مفهوم طرحه كولينز في كتابه (لغة الإله) عام 2006م ليعلن فيه أنه لا خلاف بين الإيمان بالإله والإيمان بالتطور الدارويني العشوائي، ثم بعد ذلك قام بإنشاء مؤسسة بنفس الاسم كي ينشر من خلالها فكرته. وبالطبع حلقات العداء بين تلك المؤسسة وبين منظري التصميم أكبر من أن تحتويها صفحات قليلة.(9)

كارل جيبِّرسُون ومقالاته اللاذعة ومناظرته الشهيرة مع ماير(10)، البريطاني كيث فوكس ومناظرته مع مايكل بيهي(11)، فرانسيسكو آيالا ووصفه للتصميم الذكي بأنه معادل للكفر والتجديف(12)، والكثير غيرهم من العلماء الذين يفترض أنهم يؤمنون بإله ما، وعلى الرغم من ذلك يقفون في خندق واحد مع الملحدين لتكرار نفس حججهم ومقالاتهم.

– ظهور التصميم الذكي

نشأت حركة التصميم الذكي في أوائل الثمانينات(13) من تجمع صغير لعلماء وفلاسفة، اشتركوا جميعا في البداية في الشك في كفاية الآليات التطورية في تفسير التنوع الحيوي الهائل، ثم أخذت الفكرة في الاكتمال لتصل للشكل الحالي التي عليه الآن. لم يكن عملهم سهلًا على الإطلاق، ففكرة أن تعارض التيار العام وأن تأتِ بفكرة جديدة في الوسط العلمي، ليس أمرًا سهلًا كما يُظَن، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن تعارض الداروينية الحديثة، فأنت تحكم على نفسك بالطرد من مكانك وتوقف كافة أبحاثك واستبعاد نشر مقالاتك، ستجد نفسك فجأة بدون راتب وبدون عمل وبدون أي جهة داعمة لأبحاثك، باختصار إقصاء كامل من كافة الأوساط العلمية. وبالطبع فيلم (مطرودون Expelled) أشهر من أن نحيل إليه.

أضف إلى ذلك، أنه كان هناك بالفعل من سبقهم في معارضة الداروينية والسباحة ضد التيار، وهم من سموا بالخلقويين Creationists، وهم على تنوعهم(14) كانوا جميعًا ينطلقون من أساس واحد، وهو إثبات صحة النص المقدس باستخدام العلم. الأمر الذي لقى معارضة ضخمة، وانعدام استحسان على كافة الأصعدة، ثم صعبوا الأمر على أنفسهم أكثر بمحاولتهم فرض آرائهم –التي لم تكن مادة مكتملة أو نظرية بديلة– بالذهاب إلى القضاء لمحاولة تدريس الخلقوية في المدارس كعلم.

وقطعا لم يفت أنصار الداروينية فرصة سانحة لتحميل حركة التصميم الذكي كافة أخطاء الخلقويين، كي يسهلوا على أنفسهم نقد الأطروحات العلمية التي يقدمونها، ويكتفوا بوصفهم بـالخلقويين لكي يثبتوا للرأي العام أن أفكارهم لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. في نفس الوقت الذي يعارض فيه بعض الخلقويين حركة التصميم الذكي ويعتبرونها “ليست كافية”.(15) والأمر واضح بالطبع، فإن كنت ترى أن الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين نصا علميا دقيقا، فبالطبع لن يرضيك من يكتفي بالقول بأن الدراسة العلمية لعالم الأحياء تُظهِرُ تصميمًا ذكيًا.

تعرضت نظرية التصميم الذكي لانتقادات شرسة من الأفراد والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، من الملحد الدارويني الشهير ريتشارد دوكينز إلى الخلقي الشهير كين هام مرورا بكين ميلر وفرانسيس كولينز وآيالا وغيرهم من أنصار التطور الإلهي سالفي الذكر، ومن إدارة الجامعات التي تفصلهم من عملهم إلى بعض الكنائس التي تحذر أتباعها منهم إلى المؤسسات الداعمة للتطور التي تصدر البيانات الرسمية للتأكيد على أن أطروحات هؤلاء لا تمت للعلم بِصلة. ظروف غير عادية على الإطلاق.

بدأت قصة هذه المجموعة الصغيرة بجهود فردية من د. تشارلز ثاكستون(16)، ود. مايكل دنتون(17)، ود. دين كينيون(18)، وبالطبع د. فيليب جونسون(19)، بدون دعم مادي أو إعلامي أو أي شيء. وفي هذه المرحلة كان التركيز في الكتابة والبحث منصبًا على اختبار ونقد الادعاءات التي أسس لها منظري الداروينية الحديثة منذ عقود، من دون إدخال الدين أو الكتاب المقدس في القضية. وكان لثاكستون السبق في الإشارة إلى أن وجود المعلومات لا يمكن تفسيره إلا بوجود ذكاء وتصميم، ولم يبدأ العمل على توسيع أسس للنظرية البديلة للداروينية إلا بعد انضمام الرعيل الثاني من المفكرين إلى الحركة؛ ماير وبيهي وديمبسكي وبول نيلسون وجوناثان ويلز. اهتم هؤلاء بتأسيس برنامج بحث علمي، حيث يصبح فيه التصميم الذكي حجر أساس لفهم تنوع وتعقيد الحياة.

بعد نشر بيهي لكتابه (صندوق داروين الأسود) في عام 1996م، انفجر السد. حيث ظهر لأول مرة شرح علمي لآلية عمل التصميم الذكي في العالم البيولوجي. ظهرت عدة مراجعات للكتاب في المجلات العلمية الشهيرة كـ(نيتشر Nature) و(نيو يورك تايمز New York Times) و(التايم Time) و(وول ستريت جورنال Wall Street Journal) و(ساينس Science) وغيرها، واعتبرته مجلة (ناشيونال ريڤيو National Review) من ضمن أهم 100 كتاب في القرن العشرين.(20) وعلى الرغم من النجاح الذي حققه الكتاب، ومن العداء والاتهامات الجزافية التي نالها الكاتب وكتابه ومفهومه –التعقيد غير القابل للاختزال–، فالكتاب فعل شيئا جديدًا، وهو أنه ضرب فرضية داروين الأساسية –في الاكتفاء الذاتي للحياة بالتدرج البطيء لعملية التطور العشوائي– في مقتل. وكانت الأمثلة التي طرحها بيهي في كتابه للتدليل على مفهوم التعقيد غير القابل للاختزال مربكة جدًا للتطوريين؛ العين –العضو الذي دفع داروين لوصف نظريته بالسخيفة(21)–، وتخثر الدم في الإنسان، والسوط الباكتيري. ومن يتابع ردودهم على كتاب بيهي، يرى قدرًا من التخبط لا يمكن استيعابه.

بعد ذلك، ما لبث ديمبسكي أن لحق ببيهي في عام 1998م، حيث طرح مفهومه عن التعقيد المتخصص في كتابه المراجع من قبل الأقران (استنتاج التصميم The Design Inference)، وأنهى بذلك أوهام التطوريين في احتمالية أن تكون الصدفة هي سيدة الموقف في نشوء وتنوع الحياة. ثم تابعت الحركة نشر الكتب والمنشورات التقنية والأوراق المحكمة، وكانت سياستها واضحة منذ البداية، فهي لا تحاول تغيير الرأي العام قصرًا بأي وسيلة ضغط كانت، وإنما كان العمل منصبًا على إقناع النخب العلمية والثقافية بمدى جدية أطروحاتهم العلمية والفلسفية حول أصل وتنوع الحياة. وفي هذا المضمار قاموا بمناظرات شهيرة مع أنصار الداروينية الحديثة وأنصار التطور الإلهي، وفي كل مرة كانت الفكرة تكتسب أرضا جديدة، كان الهجوم اللاذع يزداد والاتهامات الكاذبة تزداد وشراسة الحرب تزداد.

– السلف المشترك والتصميم الذكي

في ظل جو مشحون بالأحقاد وحرب ضروس، فإن من الغباء بمكان أن تكتسب المزيد من الخصوم من دون داع. الفكرة الرئيسة في التطور الدارويني هي حصر التنوع الأحيائي في (الانتخاب selection)؛ الاختيار من ضمن ما هو موجود بالفعل. وفي المقابل، فإن الفكرة الرئيسة في التصميم الذكي هي أن كافة أشكال الحياة تخبرنا بوجود (تصميم design)؛ البناء الذي يفتقر إلى الفاعل الذكي. وبالطبع فإن كلتا الفكرتين لهما آثارهما المترتبة على القول بهما؛ الأولى: تستبعد الفاعل من العملية وتقترح حدوثها عن طريق الصدفة والضرورة، والثانية: تستلزم وجود الفاعل الذكي.

من أجل ذلك؛ كان الحديث عن السلف المشترك داخل إطار التطور الدارويني، يختلف تمام الاختلاف عن الحديث عنه داخل إطار التصميم الذكي. فأنت في إطار الداروينية تتحدث عن خلية حية تظهر بالصدفة، ثم تتكاثر حتى يظهر كائن عديد الخلايا بالصدفة، ثم بالصدفة أسماك فزواحف فثدييات فطيور… إلخ. ولأنه لا يوجد لا غاية ولا ذكاء ولا تصميم، فلا يوجد خيار أمامك إلا أن تفترض أن تكون كافة الأنواع الجديدة قد ولدت من رحم أنواع قديمة. أما في إطار التصميم، فإن المصمم له طرقه الخاصة التي سيصمم بها كل قفزة كبيرة أسفرت عن مرحلة جديدة من الحياة.

معظم منظري التصميم الذكي يرفضون فكرة السلف المشترك، وعلى الرغم من ذلك، فإنهم دائما ما يؤكدون أنهم منفتحون للنقاش في هذه القضية، وأنه لا يوجد تعارض نظري بين التصميم الذكي والسلف المشترك. يقول د. جون ويست (نائب رئيس معهد ديسكفوري): “نحن في معهد ديسكفري منذ زمن طويل، نؤكد على أن التصميم الذكي لا يتعارض مع فكرة أن الكائنات الحية تنحدر من سلف مشترك… لدينا علماء يقرون فكرة السلف المشترك، مثل عالم البيولوجيا مايكل بيهي وعالم الجينات مايكل دنتون… ولدينا بالطبع علماء يعارضون الفكرة بشدة… في ظني أن التنوع في هذه القضية أمر جيد”. ولا شك أن وجود هذا التنوع ضيع الفرصة على كثير من المتربصين بحركة التصميم، يتابع ويست قائلًا: “في الواقع، لقد قابلت العديد من المتدينين الداعمين للداروينية، الذين يجعلون السلف المشترك موضع الاختبار للحكم على الشخص ما إذا كان “ضد-العلم”، الأمر الذي سيترتب عليه أنه لن ينعم بأي حوار حول أدلته العلمية”.(22)

وبالطبع، فليس هذا يعني أن أنصار التصميم –بشكل عام– يغفلون المشاكل العلمية التي تواجه فكرة السلف المشترك، ولا حتى الذين يقبلون منهم السلف المشترك كبيهي ودنتون. فهم قطعا لا يتحدثون عن سمكة لها أرجل أو عن زاحف مشعر أو عن حيوان جرابي له مشيمة، ولا هم يغفلون القفزات الكبيرة التي تقف عائقا أمام الانتقال من نوع إلى نوع. ولا ريب أن مفهوم بيهي عن التعقيد غير القابل للاختزال هو من أسقط المفهوم الدارويني عن التدرج التتابعي، يقول بيهي: “نجحتْ نظريةُ داروين على نطاقٍ ضيق؛ مَثلها كمثل لاعب رياضي يؤكد أن بمقدوره أن يقفز فوق حفرة بطول أربعة أقدام. أما على مستوى التطور الكبروي –القفزات الكبيرة– فإن هذه النظرية تثيرُ الشك”.(23) وفي معرض حديثها عن المدرسة البنيوية في البيولوجيا –والتي يعتبر دنتون من أنصارها– تقول د. آن جوجر (أستاذة الأحياء النمائية): “أنصار البنيوية Structuralists يقبلون بالتطور، على اعتبار أنه التغير عبر الزمن. ومن الممكن أيضًا أن يقبلوا بالسلف المشترك، طالما أن هناك قانون للتشكل قادر على صنع القفزة من صنف إلى آخر. ما يخالفونه هو أن التطور حدث بالتكيف والطفرات العشوائية والانتخاب، وهي الرؤية التي يتبناها أنصار التكيفية”.(24) وعن المشاكل التي تواجه فرضية السلف المشترك، يقول بيهي: “أنا لا أملك حلولًا للمشاكل الصعبة التي يطرحها العلماء المتشككين في فرضية السلف المشترك العام؛ الجينات اليتيمة ORFan genes، الشفرات الوراثية اللامعيارية nonstandard genetic codes، الطرق المختلفة للتخلق الجنيني بين المتعضيات المتماثلة… إلخ. وعلى الرغم من ذلك –على وفاق رؤيتي– لو أننا تحدثنا عن سلف مصمم بذكاء بدلا من سلف التطور الدارويني، فإن تلك المشكلات –على الرغم من أنها ستظل موجودة– سوف تصبح أقل تعجيزًا”.(25)

إذن، فالقضية ليست أنهم لا يدركون الصورة العامة لفرضية السلف المشترك والمشاكل التعجيزية التي تقف حائلا أمامه –حتى إن كان الحديث عن سلف مصمم بذكاء–، ولا أنهم يتصورون سلفا مشتركا مشابها لما يتصوره أنصار الداروينية، ولكن القصة باختصار؛ هي أنهم لا يرون أن المشكلة الرئيسة في الصراع مع الداروينية هي في السلف المشترك. يقول ديمبسكي: “القضية الرئيسة ليست في القرابة بين كل الكائنات الحية… القضية الرئيسة هي في كيف نشأ التعقيد الحيوي، وفيما إذا كان الذكاء قد لعب دورًا محوريًا في نشوئه أم لا”.(26) ويقول ماير: “نظرية التصميم الذكي لا تتحدى معنيين من معاني التطور؛ التغير عبر الزمن وفكرة السلف المشترك… ولكنها تتحدى بشكل خاص فكرة أن العمليات العشوائية الخالصة –الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على التغيرات العشوائية أو الآليات المادية الأخرى المشابهة– يمكنها تفسير كل الأشكال التي نراها في عالم الأحياء”.(27) ويقول بيهي: “السلف المشترك لا يشرح الاختلافات الهائلة بين الأنواع”.(28) ويوضح في كتابه (حافة التطور) سبب عدم التركيز على مسألة السلف المشترك، فيقول: “الانحدار المشترك حقيقة، ولكن على الرغم من أن تفسير الانحدار المشترك –حتى الانحدار المشترك للإنسان والشمبانزي– جَذّاب، لكنه على نحو عميق؛ تافه. هو يخبرنا فقط أن السمات المشتركة كانت موجودة منذ البداية، حاضرة في السلف المشترك. لكنه لا يشرع حتى في محاولة شرح من أين أتت تلك السمات المشتركة، أو كيف اكتسب البشر بعد ذلك الاختلافات الملحوظة. الانحدار المشترك للحياة يجب أن يفسره شيء ما غير العشوائية”.(29)

الملحد ريتشارد دوكينز، يعلق على كلام بيهي السابق قائلا: “هل معجبوه من الخلقويين يعرفون أنه يقبل “كأمر تافه” حقيقة أننا قردة أفريقية، أبناء عمومة القرود، منحدرون من الأسماك؟”.(30) وعلى الرغم من أن دوكينز بالفعل شخص تافه، ولكن فَهمه لكلام بيهي بهذه الطريقة طبيعي منه ومن أمثاله. فالتصميم ووجود الغرض وعدم القابلية للاختزال والقفزات الكبيرة بل وحتى إدراك للتحديات، أمور منعدمة في تصور الداروينيين عن الانحدار المشترك.

 إن كنا نتحدث داخل إطار نظرية التصميم الذكي، فلكي تظهر الأنواع الجديدة هناك ثلاثة سيناريوهات للأمر:

1) أن ينشئ المصمم تصميمًا جديدًا من الألف إلى الياء لكل الأنواع الجديدة.

2) أن يقتبس المصمم في تصميم كل الأنواع الجديدة بعض النماذج القديمة من تصميماته السالفة، بالإضافة للجديد الذي سيضعه.

3) أن يختار المصمم إنشاء بعض الأنواع الجديدة بتصاميم جديدة تماما، وبعضها الآخر بأجزاء جديدة وأجزاء قديمة.

وأيا ما كان اختيار منظري التصميم –أو ما ستثبته الاكتشافات العلمية في المستقبل– من هذه الثلاثة، فليس في الأمر أدنى مشكلة ولا أدنى تشابه مع العبث الدارويني. وهم إن كانوا في الوقت الحالي يتركون الأمر مفتوحا للنقاش، فذلك لإدراكهم صعوبة الحسم في القضية، إضافةً إلى أن القضية برمتها لا تأخذ حيزًا ضخمًا من الصورة الكاملة.

– موقف الإسلام من الصراع

موقف الإسلام من نظرية التطور ومن التطور الإلهي أو الموجه، تناوله الدكتور هشام عزمي بشيء من التفصيل الجيد في بحثه المعنون بـ(التطور الموجه بين العلم والدين)، والصادر هذا العام عن المركز.(31)

باختصار، يتعارض الإسلام مع الداروينية في فلسفتها الرئيسة التي تهدف إلى إعطاء صورة عن العالم لا يوجد فيها إله أو خالق، ولو وجد فهو يعمل بعشوائية مطلقة وليس لديه هدف أو غاية. ويتعارض أيضا معها في خلق الإنسان، فالرواية الإسلامية أن الله عز وجل خلق آدم بيديه، خلقا خاصا يليق بجلاله عز وجل. وفي الداروينية ينكرون أصلا وجود إنسان أول، ثم ينكرون أي تميز للإنسان عن بقية الكائنات، فنشأة النوع البشري لم تأتِ من زوج واحد فقط –آدم وحواء في التصور الديني– وإنما من تطور بطيء وعمليات تزاوج وإنجاب كثيرة جدا على مدار آلاف السنين. ولا يشك العاقل أن الصورتين لا يمكن أن تلتقيا أبدًا.

أما بالنسبة لتصورات منظري التصميم –كبيهي– عن إمكانية الانحدار المشترك للأنواع من سلف واحد، كما سبق التوضيح. فوجهة نظري أن الأمر فيه سعة، والسيناريوهات الثلاثة التي ذكرناها، لا يتعارض أي منها مع تصور خلق الله عز وجل لآدم وحواء وكونهم بداية الجنس البشري المكلف. فسواء كان ظهور الإنسان عن طريق تصميم دنا DNA جديد من الألف إلى الياء، أو عن طريق DNA به ما هو جديد وبه ما هو مكرر من أنواع سبقت ظهور الإنسان، فلا تعارض بين هذا وبين المعتقد الإسلامي في أن الله عز وجل خلق آدم بيديه.

(1) William A. Dembski, What Every Theologian Should Know about Creation, Evolution, and Design, The Princeton Theological Review, April 1, 1996. http://www.discovery.org/a/122, Last accessed: 8/8/2016.

“Design theorists are no friends of theistic evolution.”

(2) طقس التعميد أو المعمودية هو طقس مسيحي يمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية (ويكيبيديا العربية).

(3) Last cited.

“…theistic evolution is American evangelicalism’s ill-conceived accommodation to Darwinism. What theistic evolution does is take the Darwinian picture of the biological world and baptize it, identifying this picture with the way God created life. When boiled down to its scientific content, theistic evolution is no different from atheistic evolution, accepting as it does only purposeless, naturalistic, material processes for the origin and development of life.”

(4) Last cited.

“…theistic evolution is an oxymoron, something like “purposeful purposelessness.” If God purposely created life through the means proposed by Darwin, then God’s purpose was to make it seem as though life was created without any purpose.”

(5) National Academy of Sciences. 1999. Science and creationism: a view from the National Academy of Sciences, 2nd ed. Washington, D. C.: National Academy Press, p. 7.

“Many religious persons, including many scientists, hold that God created the universe and the various processes driving physical and biological evolution and that these processes then resulted in the creation of galaxies, our solar system, and life on Earth. This belief, which sometimes is termed “theistic evolution,” is not in disagreement with scientific explanations of evolution. Indeed, it reflects the remarkable and inspiring character of the physical universe revealed by cosmology, paleontology, molecular biology, and many other scientific disciplines.”

(6) Michael J. Behe, The Edge of Evolution, Free Press, June 2008, p210.

“…if there is indeed a real being who could actually create the universe and its laws, as the committee allows, and if that explanation reflects (that is, is evidentially supported by) “the physical universe revealed by cosmology” and other scientific disciplines, what would stop the being from affecting the universe in other ways if it chose to do so? Would this being that created the universe and its laws have to ask permission of the National Academy to otherwise affect nature? Of course not.”

(7) جرت المناظرة في 19 مارس 2016 بكلية ويكليف بجامعة تورنتو بكندا.

(8) قريبا بإذن الله سننشر كتيب يخص تفاصيل القضية وملابساتها وردود منظري التصميم على ما وقع فيها، بعنوان (إعادة المحاكمة: القصة الخفية لقضية دوڤر).

(9) الصراع بين منظمة بيولوجوس وحركة التصميم الذكي كبير ومحوري، يمكن مطالعة بعض من فصوله في هذه المقالات:

Jonathan Wells, Darwin of the Gaps: Review of The Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief by Francis S. Collins, Discovery Institute, March 26, 2008, http://www.discovery.org/a/4529, Last accessed: 8/8/2016.

Jonathan Witt, Book Review: Random Acts of Design (Francis Collins Sees Evidence That God Made the Cosmos—But Life Is Another Matter), Touchstone Magazine, November 9, 2006, http://www.touchstonemag.com/archives/article.php?id=19-08-032-f, Last accessed: 8/8/2016.

Logan Paul Gage, Review: The Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief, American Spectator, October 1, 2006, http://www.discovery.org/a/3749, Last accessed: 8/8/2016.

David Klinghoffer, At BioLogos, Stephen Meyer Clarifies the Disagreement Separating Intelligent Design from Theistic Evolution, Jan 19, 2015, http://www.evolutionnews.org/2015/01/at_biologos_ste092841.html, Last accessed: 8/8/2016.

(10) David Klinghoffer, You Can Now Watch the Meyer-Giberson Debate on YouTube, April 24, 2014, http://www.evolutionnews.org/2014/04/you_can_now_wat084851.html, Last accessed: 8/8/2016.

(11) Robert Crowther, Intelligent Design vs. Theistic Evolution: Behe debates Fox on UK’s Premiere Radio, October 24, 2010, http://www.evolutionnews.org/2010/10/intelligent_design_vs_theistic039681.html, Last accessed: 8/8/2016.

(12) Casey Luskin, Signs of Desperation? Early Responses to Signature in the Cell Are Easily Dismissed, Salvo Magazine, March 29, 2010, http://www.discovery.org/a/14381, Last accessed: 8/8/2016.

“Ayala proclaimed that ID is tantamount to “blasphemy” because it implies that God is responsible for “design defects,” such as tsunamis, back problems, misaligned teeth, and complications encountered during childbirth.”

وأيضا: د. هشام عزمي، التطور الموجه بين العلم والدين، فرانسيسكو آيالا وسؤال وجود الشر في العالم، الطبعة الأولى 2016، مركز براهين، ص217.

(13) William A. Dembski, The Intelligent Design Movement, Cosmic Pursuit, March 1, 1998, http://www.discovery.org/a/121, Last accessed: 8/8/2016.

Also see: Jonathan Witt, A brief history of the scientific theory of intelligent design, Discovery Institute, October 30, 2007, http://www.discovery.org/a/3207, Last accessed: 8/8/2016.

(14) أشهر طوائفهم هم أولئك الذين يؤمنون بنظرية الأرض الفتية Young Earth creationism، حيث يعتقدون أن عمر الأرض يتراوح من 6 لـ 10 آلاف سنة، وهناك طائفة أخرى تؤمن بإن عمر الأرض قديم يصل إلى مليارات السنين Old Earth creationism، وهؤلاء بدورهم ينقسمون إلى طوائف أخرى، والسمة المميزة لهم جميعا أنهم يعتقدون أن العلم هو من يثبت صحة وجود الخالق وأحداث الخلق المروية في بداية سفر التكوين، وبذلك يخلطون ما بين دائرة العلم التجريبي الذي هو قاصر عن اختبار الفرضيات الغيبية وقاصر عن إعطاء رؤية شاملة للعالم، وما بين الدين الذي دائرته الأساسية هي تقديم رؤية شاملة للعالم. بعكس حركة التصميم، الذين يدركون تماما الحد بين العلم واللاعلم، وبالتالي يقفون عند القول بأن نشوء وتنوع الحياة تفسر علميا بوجود تصميم ذكي، ولا يتحدثون عن المصمم وهويته من منطلق علمي، لإدراكهم أن العلم التجريبي قاصر عن الخوض في هذه المسائل.

(15) Ken Ham, Intelligent Design Is Not Enough, Answers in Genesis, August 31, 2011, answersingenesis.org/blogs/ken-ham/2011/08/31/intelligent-design-is-not-enough, Last accessed: 8/8/2016.

(16) Charles B. Thaxton, www.discovery.org/p/96, Last accessed: 8/8/2016.

(17) Michael J. Denton, www.discovery.org/p/521, Last accessed: 8/8/2016.

(18) Dean H. Kenyon, www.discovery.org/p/89, Last accessed: 8/8/2016.

(19) Phillip E. Johnson, darwinontrial.com/biography.php, Last accessed: 8/8/2016.

(20) The Editors, The 100 Best Non-Fiction Books of the Century, May 3, 1999, National Review, nationalreview.com/article/215718/non-fiction-100, Last accessed: 8/8/2016.

(21) Charles Darwin, The Origin of Species, Harvard University Press, 1964, p. 190.

(22) John G. West, Debating Common Ancestry, May 14, 2016, http://www.evolutionnews.org/2016/05/debating_common102845.html, Last accessed: 8/8/2016.

(23) د. مايكل بيهي، صندوق داروين الأسود، الطبعة الأولى، مركز براهين، ص32.

(24) Ann Gauger, The First Thing to Note about Michael Denton’s New Book, January 27, 2016, http://www.evolutionnews.org/ 2016/01/the_first_thing102549.html, Last accessed: 8/8/2016.

(25) Interview with Michael Behe on The Edge of Evolution, Discovery Institute, June 18, 2007, http://www.discovery.org/a/4097, Last accessed: 8/8/2016.

“I have no solutions to the difficult problems pointed to by scientists who are skeptical of universal common descent: ORFan genes, nonstandard genetic codes, different routes of embryogenesis by similar organisms, and so on. Nonetheless, as I see it, if, rather than Darwinian evolution, one is talking about “intelligently designed” descent, then those problems, while still there, seem much less insuperable. I certainly agree that random, unintelligent processes could not account for them, but an intelligent agent may have ways around apparent difficulties.”

(26) William Dembski and Michael Ruse, Debating Design, Cambridge University Press, 2004, p323.

“The central issue is not the relatedness of all organisms – what is commonly called ‘common descent’. Indeed, intelligent design is perfectly compatible with common descent. Rather, the central issue is how biological complexity emerged and whether intelligence played a pivotal role in its emergence.”

(27) Stephen Meyer, Talk of the Times: Intelligent Design vs. Evolution, Seattle Times & Townhall, April 26, 2006, http://www.discovery.org/a/3505, Last accessed: 8/8/2016.

“In challenging – the theory of intelligent design does not challenge the first two meanings of evolution—change over time or the idea of common ancestry. Though some of us are skeptical about universal common ancestry. But it does specifically challenge the idea that a purely undirected process, natural selection acting on random variations or other similarly materialistic mechanisms, can account for all the form that we see in the biological world.”

(28) Michael J. Behe, Darwin Under the Microscope, The New York Times, October 29, 1996, Tuesday Final Section A; Page 25; Column 2; Editorial Desk.

“By itself, however, common descent doesn’t explain the vast differences among species.”

(29) Michael Behe, The Edge of Evolution, Free Press, June 2008, p72.

“Common descent is true; yet the explanation of common descent—even the common descent of humans and chimps—although fascinating, is in a profound sense trivial. It says merely that commonalities were there from the start, present in a common ancestor. It does not even begin to explain where those commonalities came from, or how humans subsequently acquired remarkable differences. Something that is nonrandom must account for the common descent of life.”

(30) Richard Dawkins, Inferior Design, The New York Times, Sunday Book Review, July 1, 2007, http://www.nytimes.com/2007/07/01/books/review/Dawkins-t.html? pagewanted=print&_r=0, Last accessed: 8/8/2016.

“Do his creationist fans know that Behe accepts as “trivial” the fact that we are African apes, cousins of monkeys, descended from fish?”

(31) د. هشام عزمي، التطور الموجه بين العلم والدين، الطبعة الأولى 2016، مركز براهين.

المصدر

ثقب في العين: هل يجب أن يطابق التصميم افتراضاتنا المسبقة؟

في النقاشات الدائرة حول نظرية التصميم الذكي، لا يوجد اعتراض يطرح بصورة متكررة مثل اعتراض (انعدام الكمال)، الذي يمكن تلخيصه في التالي؛ لو أنَّ طرفًا ذكيًّا هو من قام بتصميم الحياة على الأرض، إذًا لأمكنه أن يخلق حياة أخرى ذات تصميم مثاليٍّ، لا يتضمن أية نقائص واضحة، وكان بإمكانه أيضًا أنْ يفعلَ ذلك من البداية، ويبدو أنَّ لهذا الاعتراض قدرًا من الجاذبية الشعبية، غير أنَّهُ لا يتعدى صورة معكوسة لحجة ديوجانس؛ فبما أنَّ شيئًا ما لا يناسب فكرتنا عن الكيفية التي ينبغي أنْ تكون الأشياء عليها، إذًا فهو دليل ضد التصميم.

لقد تردد هذا الاعتراض بين أوساط العلماء والفلاسفة البارزين، لكنه طُرحَ متقنًا على يد كينيث ميلر (Kenneth R. Miller) عالم الأحياء بجامعة براون:

“هناك طريقة أخرى للرد على نظرية التصميم الذكي؛ وهي أن نفحص النظم البيولوجية المعقدة بعناية، بحثًا عن أخطاء لا يمكن لأيِّ مصمم ذكي أن يرتكبها؛ ولأن التصميم الذكي يعتمد في عمله على أسس قوية قائمة على أرض صلبة، فينبغي أن تكون الكائنات المصممة قادرة على تنفيذ مهامها مثاليًّا. وبالمقابل؛ لأن التطور يعتمد على البِنَى البيولوجية الهيكلية المادية القائمة بالفعل، فلا ينبغي عليه أن يصل للكمال. فأيّ البِنَى البيولوجية الحالية يعتبر نظامًا بيولوجيًّا معقدا؟

تمدنا العين –النموذج المفترض للتصميم الذكيِّ– بالإجابة، فلطالما سبق وتغنينا بالمزايا الاستثنائية لهذا العضو، لكننا لم نستعرض جوانب محددة في تصميمه مثل؛ التمديدات المشبكية العصبية لوحدات التحسس الضوئي، فهذه الخلايا المستقبلة للضوء، والتي تقع في شبكية العين، تمرر سيالات عصبيّة لمتسلسلة من الخلايا المتصلة بينيًّا، والتي بدورها تمرر المعلومات لخلايا العصب البصري في النهاية، وصولًا إلى الدماغ.

والمصمم الذكي –الذي يتعامل مع عناصر تلك التمديدات المشبكية– حتمًا سينتقي الاتجاه الذي يحقق أفضل وأعلى درجة جودة بصرية، فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لأحد أن يقرر وضع الوصلات العصبية أمام الخلايا المستقبلة للضوء بدلا من أن توضع خلف شبكية العين –وبالتالي يُمنَع وصول الضوء إلى الخلايا المستقبلة له–.

لكن ما لا يمكن تصديقه هو كيفية بناء شبكية العين البشرية!

فهناك خلل كبير يُوْجِبُ على التمديدات المشبكية العصبية أن تدخل مباشرة خلال جدار شبكية العين، لنقل السيالات العصبية الصادرة عن الخلايا المستقبلة للضوء إلى الدماغ، والنتيجة كانت نقطة عمياء في شبكية العين؛ وهي منطقة تقوم فيها ملايين الخلايا الحاملة للسيل العصبي بدفع الخلايا الحسية وتنحيتها جانبًا.

وينبغي ألا يُفهمَ هذا الكلامُ كإيحاء بأن العين تعمل بصورة سيئة، بل هي آلة بصرية رائعة؛ حيث أنها تخدمنا خدمة جليلة، لكن مفتاحَ نظرية التصميم الذكي لا يكمنُ فيما إذا كان عضو أو نظام ما يعمل جيدا أو لا، لكنه يكمن في التخطيط الأساسي للبناء البيولوجي الهيكلي، فالنظام هو نتاج واضح يدلُّ على حدوث التصميم. وبالنسبة للتخطيط الهيكلي للعين؛ فلا يتضح فيه أيَّ تصميم ذكي”.(16)

لقد عَكَسَ حديثُ ميلر التباسًا وغموضًا جوهريًّا واضحًا؛ فمفتاح نظرية التصميم الذكي لا يكمن فيما إذا كان التخطيط الأساسي للبناء البيولوجي الهيكلي هو نتاج واضح لحدوث التصميم أم لا، إنَّ الاستدلال على حدوث التصميم في النظم المتفاعلة قائم على (رصد التعقيد غير القابل للاختزال)، والذي يكون على مستوى عالٍ من التحديد والتخصص. فلا يضاهي تراصُّ العناصر المنفصلة متقنة التوافق والتركيب –لتحقيق وظيفة ما– أيًّا من العناصر نفسها. وبالرغم من تأكيدي أنّه ينبغي على المرء دراسة النظم البيولوجية الجزئية للوصل إلى أدلة تثبت وجود التصميم، لكن لنستخدم مقالَ ميلر كنقطة انطلاق، لدراسة إشكاليات أخرى بخصوص حجة (انعدام الكمال).

الإشكالية المركزية هي أنّ الاعتراض يستلزم ويستوجب وجود الكمال على الدوام! وبصورة أوضح؛ إنّ المصمم الذي يمتلك القدرة اللازمة لصنع تصميمات أفضل، لا يحتاج –بالضرورة– لفعل ذلك. فمثلًا يعتبرُ التقادم المخطط أو المدمج أمرًا شائعًا في مجال التصنيع، حيث يُتعمّد ذلك أثناء تصنيع المنتج؛ لئلا يدوم استخدامه، فيصبح غير مرغوب فيه بعد مدة زمنية معينة، على الرغم من أنه قد يكون صالحًا، وذلك لأسباب حلّت محلَّ أبسط أهداف التميز الهندسي! ومثال آخر شخصي: إنني لا أعطي أطفالي أفضل وأجمل الألعاب خشية إفسادهم بأن يكونوا مدللين، كذلك لكي يدركوا قيمة القرش. تتغاضى حجة (انعدام الكمال) عن إمكانية وجود دوافع متعددة للمصمم تُحيلُ التميز الهندسي مرارا إلى دورٍ ثانوي، وقد اعتقد معظمُ الناس –على مر التاريخ– بوجود التصميم، رغم ما يقعُ من أمراض وموت ونقائصَ أخرى واضحة.

الإشكالية الأخرى في حجة انعدام الكمال أنَّها تعتمد تحليلا نفسيّا ناقدًا للمصمم (غير معلوم الهوية)؛ فمعرفة الأسباب التي من شأنها أن تجعل مصممًا ما يفعل كذا ولا يفعل كذا تكاد تكون مستحيلة، إلا إذا أخبرك المصمم نفسه بها. يمكنني مثلًا أنْ أزورَ معرضًا للفن الحديث، لأجد –بالصدفة– أشياء مصممة وغامضة (بالنسبة لي وحدي على الأقل). فالخصائص التي تباغتنا بغرابتها في تصميم ما، قد يكون وضعها المصمم هناك لسبب ما؛ فنيٍّ جماليٍّ مثلًا، أو لإضفاء التنوع، أو للتباهي والتفاخر، أو لغرض عمليٍّ غير واضحٍ ولم نكتشفه بعد، أو لسبب لا يمكن تخمينه، أو أن تلك الخصائص قد وضعت بلا سبب أصلا. فحتى إن كانت تبدو غريبة، لا يمكننا إنكارها؛ لأنها لاتزال مصممة بيد كائن ذكي عاقل. إنَّ العلة من الاهتمام بالعلم ليست معرفة الحالة العقلية الداخلية للمصمم، بل (هل يستطيع الفرد تلمس التصميم من حوله أم لا؟). وفي مناقشة عن سبب قدرة الكائنات الفضائية الموجودة على الكواكب الأخرى بناء تكوينات اعتبارية، حيث يمكننا ملاحظتها ونحن على سطح الأرض كتب الفزيائي فريمان دايسن: “لست محتاجًا للتساؤل والبحث عن الدوافع، فمن يريد –ولماذا– أنْ يفعلَ مثل هذه الأشياء؛ لماذا يفجر الجنس البشري القنابل الهيدروجينية؟! لماذا يبعث بصواريخ صوب القمر؟! إنه من العسير تحديد الأسباب بدقة”.(17)

وعند النظر فيما إذا كانت الكائنات الفضائية ستحاول بث الحياة على الكواكب الأخرى أم لا؛ كتب (فرانسيس كريك Francis Crick) و(ليزلي أورجل Leslie Orgel): “إنَّ فهمنا لسيكولوجية المجتمعات الناشئة خارج الأرض ليس أفضل من فهمنا لسيكولوجية المجتمعات الأرضية، فمن الممكن جدا أنْ تستهدف تلك المجتمعات –التي توجد خارج كوكب الأرض– كواكب أخرى، لأسباب مختلفة تماما عن تلك التي اقترحناها سابقا”.(18)

استخلص هؤلاء الكتاب في كتاباتهم أنه يمكن للتصميم أن يتجلى وُيلمَس في غياب المعلومات عن دوافع المصمم.

الإشكالية التالية هي أن المؤيدين لحجة انعدام الكمال يستخدمون تقييمهم النفسي للمصمم مرارًا كدليل إيجابي يؤكد أن التطور غير موجه. ويمكن كتابة الاستنتاج في صورة قياس منطقي:

1)كان يمكن للمصمم خلق العين الفقارية بدون البقعة العمياء.

2) العين الفقارية لها بقعة عمياء.

3) إذًا فالعين نتاج التطور الدارويني.

وبسبب استنتاج كهذا تحديدًا ابتُكرت عبارة “مغالطة النتيجة الكاذبة”.

لا تحتوي المؤلفات العلمية على دليل يبرهنُ أن الانتقاء الطبيعي المعتمد على الطفرة يمكنه أن يُنْتِجَ عينًا ببقعة عمياء، أو بلا بقعة عمياء، أو جفنًا، أو عدسة، أو شبكية، أو رودوبسين rhodopsin، أو ريتينال! لقد وصل القائل إلى استنتاجه هذا المؤيد للداروينية استنادًا فقط إلى شعوره النفسي تجاه الأشياء، وكيف ينبغي أن يكون حالها من وجهة نظره. لكن أيَّ متفحص موضوعي سيخلُصُ إلى أن العين الفقارية لم يصممها أحد يعير اهتمامًا باتهام وهمي بالقصور، لأن المقارنة بغيره من الفاعلين الأذكياء غير ممكنة، وهذا قد لا ينطبق على كل العوامل الذكية.

لم تُنشر مقالة كينيث ميلر في مجلة (Reader’s Digest)، لكنها نشرت في مجلة (Technology Review)، وجمهور قراءها –في الواقع– رفيعو الثقافة ومحنكون، لكونهم قادرين على التعامل مع المفاهيم العلمية المجردة وتتبع الحجج الصعبة، ليصلوا إلى نتائج ثابتة. وفكرة أن يقدم ميلر لهؤلاء القراء حجة تستند لعلم النفس والعاطفة –بدلا من العلوم الطبيعية الصلبة– يعطي انطباعًا مغايرًا لما أشيع عن القوة المتضائلة للتصميم الذكي في مقابل التطور.

(16) Miller, K. R. (1994) «Life’s Grand Design,» Technology Review February/ March, pp. 29-30.

(17) Dyson, J. F. (1966) «The Search for Extraterrestrial Technology» in Perspectives in Modem Physics, ed. R. E. Marshak, John Wiley and Sons, New York, pp. 643-644.

(18) Crick, F. H. C., and Orgel, L. E. (1973) «Directed Panspermia,» Icarus, 19, 344.

المصدر

مسيرة العلم الزومبي… إلى أين؟ (الدحيح يكمل مسيرة دوكينز ورفاقه)

مشكلتنا مع الدحيح ليس في أنه مسلم يتبنى نظرية داروين ويروج لها، فقد سبقه بذلك الكثير للأسف. ولكن مشكلتنا الحقيقية معه هي أنه اختار تكرار ما يسميه مايكل بيهي “الاعتراض الأكثر تكرارا على التصميم الذكي”، والقصة التي أوردها في ثنايا “اعتذاره” عن تكرار حجة الشبكية المعكوسة Inverted Retina للقول بوجود عيوب أو أخطاء في التصميم، تثبت أنه يعي ما يفعله جيدا. فأن تقول أنني قرأت “للتطوريين” فوجدت أنهم يقولون ذلك، فظننت أن هناك “إجماع” على الأمر، فهذا ليس له سوى معنى واحد، هو أنك تفترض أن الدوجما التطورية وأنصارها، هم أصحاب الرأي فقط، ومن سواهم ليس بشيء أصلا! لا تعترف بوجود حتى نظام علمي للتحقق من صحة الافتراضات التي يتم تفسيرها تطوريا، لا تعترف أن هناك أوراقا علمية ينبغي عليك النظر فيها قبل أن تفترض الإجماع على مسألة ما! لا تفترض أن هناك مراجع كتبها متخصصين عليك مراجعتها!

هذا التدمير الخطير لأبجديات البحث العلمي، من شخص يدعي أن هدفه حث الناس على الانفتاح على العلوم التجريبية، ينبغي الوقوف عنده، وتبيان مدى خطورته.

لنعود إذن لبدايات القصة، في عام 1986م، نشر الملحد الشهير ريتشارد دوكينز، كتابه المليء بالأوهام (صانع الساعات الأعمى The Blind Watchmaker)، وكان من ضمن الاعتراضات التي أوردها على حجة التصميم، افتراضه أن هناك أخطاء أو عيوب في تصميم العين، وبالتالي فهذا يثبت -لديه- أنها ليست مصممة من الأساس، وأنها نشأت عن طريق العمليات التدريجية العشوائية غير الموجهة. يقول في كتابه:

“أي مهندس كان سيفترض بشكل طبيعي أن تكون الخلايا الضوئية متجهة نحو الضوء، مع توجيه موصلاتها للخلف ناحية المخ. وكان سيضحك على أي اقتراح تكون الخلايا الضوئية فيه بعيدة عن الضوء، مع وجود الموصلات في أقرب ناحية للضوء. وبالرغم من ذلك فهذا بالضبط ما يحدث في جميع أعين الفقاريات. في الواقع كل خلية ضوئية مربوطة للخلف، وموصلاتها خارجة في الجانب الأقرب للضوء. على الموصل أن ينتقل عبر سطح الشبكية، إلى نقطة يهبط من خلالها في ثقب في الشبكية (التي تسمى “النقطة العمياء”) لكي يتصل بالعصب البصري”.(1)

وبالرغم من مقولته تلك، يرى دوكينز أن أعين الفقاريات تعمل جيدًا! ولكن “المبدأ نفسه سيسيء إلى أي مصمم صاحب عقل منظم”.

بعد ذلك بستة أعوام، تبعه عالم البيولوجيا التطورية (جورج ويليامز George C. Williams) بمقولة أشد قسوة: “لن تكون هناك نقطة عمياء إن كانت أعين الفقاريات مصممة بذكاء بالفعل”، وقال أيضا: “في الحقيقة هي مصممة بغباء”.(2)

وبالمثل، في عام 1994م، البيولوجي -ومؤلف الكتب الدراسية textbook- كينيث ميلر كتب أن عين الإنسان “التي تعتبر النموذج المثالي للتصميم الذكي”، هي مصممة بشكل سيء. وقال أيضا: “المصمم الذكي -الذي يتعامل مع عناصر تلك التمديدات المشبكية- حتمًا سينتقي الاتجاه الذي يحقق أفضل وأعلى درجة جودة بصرية، فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن لأحد أن يقرر وضع الوصلات العصبية أمام الخلايا المستقبلة للضوء بدلا من أن توضع خلف شبكية العين -وبالتالي يُمنَع وصول الضوء إلى الخلايا المستقبلة له-. لكن ما لا يمكن تصديقه أن هذا بالضبط هو بناء شبكية العين البشرية”.(3)

وفي عام 2005م، نشر البيولوجي الشهير (دوجلاس فوتويما Douglas Futuyma) كتابا دراسيا textbook يدعي فيه أن “لا يتوقع من مهندس ذكي أن يصمم… الترتيب الوظيفي الأحمق” للخلايا العصبية لشبكية العين.(4)

وفي نفس العام، كتب البيولوجي الشهير (جيري كوين Jerry Coyne) أن العين البشرية “ليست النوع من العيون الذي يمكن لمهندس أن يخلقه من الصفر”.(5)

هل لو راجعنا الأدبيات العلمية المنشورة قبل أن ينشر التطوريين كلامهم هذا، سنجد فيها ما يثبت صحة أقوالهم تلك؟

لنتابع الكارثة مع فقرات من الفصل السابع من كتاب د. جوناثان ويلز (العلم الزومبي)، والذي صدر منتصف 2017:

إذن فمن منظور النظرية التطورية تبدو العين البشرية مصممة بشكل سيء، ولا تقدم النظرية باعثا على التحقيق أكثر في الأمر. ولكن، ماذا إن نظرنا للعين من منظور الوظيفة؟ ماذا إن كان تصميمها الذي يفترض أنه سيء يُمكنها فعلا من أن تعمل بشكل أفضل؟

النوعان الأساسيان للخلايا الحساسة للضوء في الشبكية الخاصة بالفقاريات هما العصي والمخاريط. والأخيرة حساسة جدا للضوء، وتؤدي وظيفتها جيدا في الضوء الخافت أو أثناء الليل. وهي في الواقع تستطيع أن تستشعر حتى الفوتون الواحد(6)، لكنها تبصر فقط اللونين الأبيض والأسود. ويقل عدد المخاريط كثيرا عن العصي، كما أنها ليست بحساسية العصي للضوء، ولكنها تبصر الألوان.

تحتاج كل من العصي والمخاريط كميات كبيرة من العناصر الغذائية و قدر هائل من الطاقة. تصفهم أحد الكتب الكلاسيكية للعين بأنهم “جشعون”.(7) في الثدييات، تمتلك أعلي معدل استقلاب من بين كل أنسجة الجسم.(8) يتدفق نحو ثلاثة أرباع الأمداد الدموي للعين خلال شبكة كثيفة من الشعيرات الدموية تسمي “شعيرات المشيمية”، والتي تقبع خلف الشبكية.(9)(10) يُنقل الأوكسجين والعناصر الغذائية ومنها فيتامين أ المعدل من الدم في الشعيرات الدموية إلي العصي والمخاريط من خلال طبقة وسطية من الخلايا المتخصصة يطلق عليها (11)(12) (الطبقة الطلائية الصبغية Retinal pigment epithelium).

بالإضافة لنقل الأكسجين والعناصر الغذائية، تؤدي الطبقة الطلائية الصبغية وظيفة أساسية أخري. تحتوي العصي والمخاريط علي أكوام من الأقراص التي تكتظ بالمواد الكيميائية الحساسة للضوء. وأثناء عملية استشعار الضوء، تتكون موادا كيميائية سامة لابد من التخلص منها حتي تستمر الخلايا الحساسة للضوء في العمل. في عام ١٩٦٧ أثبت (ريتشارد يونج Richard Young) تجريبيا أن الخلايا المستقبلة للضوء تجدد نفسها باستمرار عن طريق التخلص من الأقراص في نهايتها الأقرب للطبقة الطلائية الصبغية واستبدالها بأقراص أخرى تصنعها في الطرف الآخر.(13) تقوم الطبقة الطلائية ببلع وهضم الأقراص البالية لتعادل السموم.(14) وتستطيع الخلايا الطلائية أن تفصل نفسها و”تتجول في الطبقة العصبية للشبكية منظفة إياها من المخلفات”.(15)

إذا كان علي العصي والمخاريط أن تواجه الضوء القادم مباشرة كما يوجب عليها التطوريون، سيكون علي الشعيرات المملؤة بالدم والطبقة الطلائية الصبغية أن تكون أمام الشبكية حيث تحجب كل الضوء تقريبا. علي النقيض من ذلك، الخلايا العصبية شفافة نسبيا، وتحجب قدر ضئيل جدا من الضوء. بسبب الحاجات الاستقلابية للعصي والمخاريط وحاجاتها لتجديد نفسها، فإن الشبكية المعكوسة في الواقع أكثر كفاءة بكثير من التصميم “المنظم” الذي يتخيله علماء البيولوجيا التطوريين.

النقطة العمياء ليست مشكلة خطيرة، لأنها أولا صغيرة جدا، وثانيا لأن النقطة العمياء للعين اليسرى لا توجد في نفس المكان الخاص بالعين اليمني. مما يعني أن في الشخص الذي يملك عينين سليمتين، يقوم المجال البصري لأحد العينين بتغطية النقطة العمياء للعين الأخرى، والعكس صحيح.

معظم الأبحاث المشار إليها بالأعلى، والتي توثق الوظائف الأساسية للشعيرات المشيمية والنسيج الطلائي الصبغي نُشرت قبل عام 1986!

ولكن دوكينز، وويليامز، وميلر، وفوتويما، وكوين لم يكلفوا أنفسهم بمطالعة الأدبيات العلمية. لقد أفترضوا ببساطة أن التطور حقيقة وأنهم يعرفون كيف يجب أن تُصمم العين. ثم استنتجوا أن العين البشرية سيئة التصميم، وادعوا أنها دليلا علي التطور، وتجاهلوا الدليل المضاد. وذلك هو ما أسميه ممارسة العلم الزومبي.

بالنسبة لجوناثان ويلز، أن تدعي أنك تمارس العلم، ثم تعارض الأدلة، فأنت لا تمارس العلم، وإنما تمارس العلم الزومبي، أو العلم الميت الذي تصر على إعادته للحياة، فالعلم كممارسة هو اتباع الأدلة، ولا يسمى غير ذلك علما على الإطلاق.

أن تجد المراجع العلمية والأوراق العلمية -المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه لتحصل على “علم”- تسير في اتجاه، وأنت تذهب وراء الدوجما حيث أخذتك، فأنت تمارس الدجل والشعوذة لخداع الجماهير، ولا تمارس العلم إطلاقا!

أن تأتي في 2017، لتكمل مسيرة مروجي التطور الدوجمائيين، وتخرج لتقول للناس أنا ظننت أن هناك “إجماع” على الأمر فخرجت لأخبركم بما أرى أن عليه “إجماع العلماء”، وأنت لا تعرف من هم العلماء أصلا؟! فأنت في كارثة.

أن تخرج لتردد أكثر اعتراض يردده التطوريين على التصميم الذكي، وأنت في تجاهل تام لتعريف الناس بأن هناك شيء يدعى نظرية التصميم الذكي، فأنت تظهر للناس مدى التمسك الذي تبديه لدوجمائيتك الداروينية.

الخلاصة: ليست المشكلة في أنه أخطأ، لكن المشكلة أنه أثبت بنفسه مرجعيته في اختيار المعلومات التي تختص بهذا الملف. وطالما أنه اختار أن يكمل المسيرة التي بدأها عراب الملحدين ريتشارد دوكينز في عام 1986م، فعليه أن يتوقع هجوما مضادا.

(1) Richard Dawkins, The Blind Watchmaker (New York: W.W. Norton, 1986), 93.

(2) George C. Williams, Natural Selection: Domains, Levels, and Challenges (New York: Oxford University Press, 1992), 73.

(3) Kenneth R. Miller, “Life’s Grand Design,” Technology Review 97 (February–March, 1994): 24–32. http://www.millerandlevine.com/km/evol/lgd/.

(4) Douglas J. Futuyma, Evolution (Sunderland, MA: Sinauer Associates, 2005), 49.

(5) Jerry A. Coyne, “The faith that dare not speak its name: The case against intelligent design,” The New Republic (August 22 & 29, 2005): 21–33. http://pondside.uchicago.edu/ee/faculty/Coyne/pdf/New_Republic_ID.pdf.

(6) Jonathan N. Tinsley, Maxim I. Molodtsov, Robert Prevedel, David Wartmann, Jofre Espigulé-Pons, Mattias Lauwers, and Alipasha Vaziri, “Direct detection of a single photon by humans,” Nature Communications 7 (2016): 12172. doi:10.1038/ ncomms12172. PMID:27434854.

(7) Gordon Lynn Walls, The Vertebrate Eye (New York: Hafner, 1963), 652.

(8) Sidney Futterman, “Metabolism and photochemistry in the retina,” pp. 406–419 in Adler’s Physiology of the Eye, ed. Robert A. Moses, 6th ed. (St. Louis: C. V. Mosby, 1975), 406.

(9) Albert Alm and Anders Bill, “Ocular and optic nerve blood flow at normal and increased intraocular pressures in monkeys (Macaca irus): A study with radioactively labeled microspheres including flow determinations in brain and some other tissues,” Experimental Eye Research 15 (1973): 15–29. doi:10.1016/0014-4835(73)90185-1. PMID:4630581.

(10) Paul Henkind, Richard I. Hansen, and Jeanne Szalay, “Ocular circulation,” pp. 98–155 in Physiology of the Human Eye and the Visual System, ed. Raymond E. Records (Hagerstown, MD: Harper & Row, 1979), 139–140.

(11) Roy H. Steinberg, “Interactions between the retinal pigment epithelium and the neural retina,” Documenta Ophthalmologica 60 (1985): 327–346. doi:10.1007/BF00158922. PMID:3905312.

(12) Michael J. Denton, “The inverted retina: Maladaptation or preadaptation?” Origins & Design 19:2 (1999), issue 37. http://www.arn.org/docs/odesign/od192/invertedretina192.htm.

(13) Richard W. Young, “The renewal of photoreceptor cell outer segments,” Journal of Cell Biology 33 (1967): 61–72. doi:10.1083/jcb.33.1.61. PMID:6033942.

(14) Richard W. Young and Dean Bok, “Participation of the retinal pigment epithelium in the rod outer segment renewal process,” Journal of Cell Biology 42 (1969): 392–403. doi:10.1083/jcb.42.2.392. PMID:5792328.

(15) Steinberg, “Interactions,” 328.

المصدر

الداروينية بين دوكينز وكولينز: هل يمثلها الملحد أم المؤمن؟

يمكنك أن تخبر الناس أنه لا يشترط أن تكون ملحدا لكي تعتقد في صحة نظرية التطور الدارويني، لكن ما لا يمكنك أن تفعله هو أن تخفي الارتباط بين الإلحاد والداروينية.

– في عام 1998م تم إجراء استطلاع على أعضاء الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت إجابات علماء البيولوجيا بالأكاديمية على سؤال هل تؤمن بإله كالتالي؛ 65.3% لا يؤمنون بوجود الإله 29.1% لاأدريون، أي أن نسبة الإلحاد واللاأدرية داخل علما البيولوجيا بالأكاديمية تصل إلى 95%.(1)

– وبالمثل، ووفقا لاستطلاع أجري في عام 2003م للعلماء البارزين في مجال التطور، 87% لا يؤمنون بوجود إله، 88% لا يؤمنون بحياة بعد الموت، و90% يرفضون فكرة أن التطور تم توجيهة إلى “غرض نهائي”.(2)

– وإذا خرجنا من دائرة العلماء البارزين في البيولوجيا والتطور، فمعدلات الإلحاد واللاأدرية تكون أقل، ولكنها تظل مرتفعة بشكل بارز جدا عن معدلات الإلحاد في العامة. وفقا لدراسة قومية أجريت على طلبة الكليات والجامعات ونشرت في 2007، أكثر من 60% من طلاب البيولوجيا يعتبرون أنفسهم ملحدين أو لاأدريين.(3)

الخلاصة؛ إذا كان السؤال عن من هو الممثل الحقيقي لنظرية داروين، هل هو البيولوجي الملحد ريتشارد دوكينز مؤلف (وهم الإله)، أم عالم الجينات المسيحي فرانسيس كولينز مؤلف (لغة الإله)؟

الإجابة بكل وضوح؛ دوكينز.

يتبع…

(1) Larson and Witham,“Scientists Are Still Keeping the Faith,” Nature, April 3, 1997, 435‒36; Larson and Witham, “Leading Scientists Still Reject God,” Nature, July 23, 1998, 313; Larry Witham, Where Darwin Meets the Bible (New York: Oxford University Press, 2002), pp. 271-273.

(2) Gregory W. Graffin and William B. Provine, “Evolution, Religion and Free Will,” American Scientist, vol. 95 (July-August 2007), pp. 294-297; results of Cornell Evolution Project Survey.

(3) Neil Gross and Solon Simmons, “How Religious are America’s College and University Professors?” (Feb. 6, 2007) Available at http://religion.ssrc.org/reforum/Gross_Simmons.pdf.

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: ما السبب الحقيقي في الأزمة العلاجية؟ (1)

يؤرخ عام 1929 لبداية عصر المضادات الحيوية، عندما اكتشف (ألكسندر فليمنج Alexander Fleming) أول مضاد حيوي المعروف باسم (البنسلين)، والذي انضم إليه في عام 1935 (السلفوناميد Sulfonamide). اعتبرت تلك المواد الكيمائية أعجوبة عصرها، حيث ثبتت فاعليتها في علاج العديد من الأمراض القاتلة. ولكن بالرغم من ذلك، لم تكن فعاليتها كافية لعلاج مرض (الدرن Tuberculosis). ولكن الاكتشافات لم تقف عند ذلك الحد، بل توالت تباعا، وكان أكثرها تأثيرًا هو اكتشاف (الستربتوميسين Streptomycin)، الذي كان طفرة في علاج الدرن.

استمرت سلسلة اكتشافات المضادات الحيوية، وقد كانت في بداية استخدامها فعالة لدرجة كبيرة، وكان نتيجة ذلك سيطرة جو من التفاؤل علي الأوساط الطبية. بلغ بهم أن اعتقدو أنه آن الأوان لطي كتاب الأمراض المعدية، وإعلان انتصار البشر علي الأوبئة، ولكن النتائج التجريبية اللاحقة جاءت مخيبة لتلك الآمال.

من المؤسف أن العصر الذهبي للمضادات الحيوية لم يدم طويلا، ولم تتحقق الآمال العريضة التي علقناها عليها. ففي خلال فترة وجيزة ظهر عدد لا يستهان به من السلالات البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية، وتحول ذلك التفاؤل الذي ساد الأوساط الطبية في ستينيات القرن الماضي إلي كابوس. في عام 2004 نشر (د. توم فريدن Thomas R. Frieden) المدير السابق لمركز مكافحة العدوي الأمريكي CDC مقالا بعنوان “نهاية المضادات الحيوية، هل نستطيع العودة من علي الحافة؟”(1) يعكس ذلك المقال الإحباط الذي أصاب الأطباء بعد ظهور البكتيريا المقاومة، يقتبس د.توم في مقاله من كلام (د. مارجريت تشان Margaret Chan) مديرة منظمة الصحة العالمية سابقا: “نهاية عصر المضادات الحيوية يعني، بشكل عملي، نهاية الطب الحديث كما نعرفه”.

في عام 1960 كان البنسلين أو الأمبيسلين كافيا لعلاج معظم حالات مرض السيلان الذي تسببت به البكتيريا النسيسيرة البنية Neisseria Gonerrhoeae، ولكن اليوم حوالي 24٪ من الحالات في الولايات المتحدة لا تستجيب للعلاج بالبنسلين أو الأمبيسلين، وترتفع تلك النسبة لتصل إلي 98٪ في منطقة جنوب شرق آسيا. ارتفعت كذلك نسبة مقاومة عقار البنسلين في المكورات العنقودية الذهبية Staphylococcus aureus من لاشيء تقريبا عام ١٩٤٠، لتصل إلي 90٪ في عام 1980. ذلك الارتفاع المرعب يجعل من علاج الأمراض التي تسببها تلك البكتيريا أصعب بكثير من علاجها منذ عشر أو عشرين سنة مضت.

علي مدار 90 عام، لم تنقطع اكتشافات وتصنيع مضادات حيوية جديدة، ومع كل اكتشاف كانت التطبيقات العلاجية تحقق نجاحا باهرا في البداية ثم لا تلبث أن تبوء بالفشل بسبب ظهور أنواع مقاومة وانتشارها، فسر التطوريون ذلك التاريخ الذي يوثق العلاقة بين استخدام المضادات الحيوية وظهور السلالات المقاومة علي أنه تطور دارويني للبكتيريا، فقد تطورت البكتيريا عن طريق الطفرات –تحت ضغط انتقائي فرضه استخدام المضادات الحيوي– لتصبح مقاومة. تحول سلالات البكتيريا الحساسة مسبقا للمضادات الحيوية إلي سلالات مقاومة لها يعتبر في نظر الداروينيين دليل دامغ على صحة التطور، ولكن هل كان التطور الدارويني عن طريق الطفرات العشوائية والانتقاء الطبيعي هو السبب الحقيقي وراء تلك الأزمة العلاجية؟ أم أن السبب مختلف تماما؟

تابعونا…

(1) Tom Frieden, The End of Antibiotics. Can We Come Back from the Brink?, The Health Care Blog (May 5, 2014), Last Accessed Jan 10, 2018.

The End of Antibiotics. Can We Come Back from the Brink?

 الثلاثاء PM 01:41

المصدر

الدنا الخردة والاندماج الصبغي: نقد حجج كولينز في إثبات الانحدار المشترك للبشر والقرود

قدم فرانسيس كولينز -رائد أنصار التطور الإلهي- حجتين جينيتين لكي يدلل على وجود سلف مشترك بين الإنسان والقردة العليا وهما: الدنا الخردة Junk DNA والاندماج الصبغي Chromosomal Fusion. فأما الأولى -وهي الدنا الخردة-؛ فقد سقطت لأن الدنا غير المشفر Non-Coding DNA له وظائف خلوية مهمة، ولذلك فهو ليس (خردة). وأما الحجة الثانية وهي (الاندماج الصبغي)؛ فقد هوت هي الأخرى، لأن أقصى ما تشير إليه هو أن الجنس البشري قد شهد وجود حدث الاندماج الصبغي، ولا تشير إلى كون نسب الإنسان يرجع إلى سلف مشترك مع القردة.

في كتابه الأكثر مبيعًا (لغة الإله The Language of God) الصادر عام 2006، يدَّعي عالم الوراثة فرانسيس كولينز أن الدنا البشري: “يقدم دعمًا قويًّا لنظرية داروين للتطور، وهي الانحدار من سلف مشترك نتيجة الانتقاء الطبيعي الذي يعمل على التنوعات العشوائية(1)، وبشكل أكثر تحديدا؛ فإن الدنا البشري يثبت أن الإنسان والقردة العليا يتشاركان في سلف مشترك”.

كان كولينز -الذي يرأس مشروع الجينوم البشري- في السابق معروفًا بانتمائه للطائفة المسيحية الإنجيلية، وأنه يتقبل كلا من نظرية التطور الدارويني والأبحاث المختصة بالخلايا الجذعية الجنينية(2)، وفي عام 2008م حصل كولينز على 2 مليون دولار كمنحة من مؤسسة جون تيمبلتون ساعدته في إقامة مؤسسة بيو لوجوس BioLogos التي تهدف لإقناع الزعماء المسيحيين والعوام بنظرية التطور(3)، وتنحى كولينز عن تلك المؤسسة بعدما عيّنه باراك أوباما -رئيس الولايات المتحدة الأمريكية- مديرًا للمعاهد القومية للصحة (NIH)، لكن دفاعه المتشدد عن السلف المشترك بين الإنسان والقردة العليا مازال ذا تأثير واسع في المجتمع المؤمن، حيث قدم كولينز حجتين رئيسيتين تستند كل منهما على الدنا ليدلل بهما على ادعائه أن الإنسان يشترك مع القردة العليا بسلف مشترك وكذلك مع الحيوانات الأخرى.

الحجة الأولى هي أن الإنسان يشترك مع الثدييات الأخرى في الدنا غير المشفر الذي يفترض أنه ليست له أي وظيفة -خردة-، وهذا يعني وفقا لكولينز: “استنتاج أن السلف المشترك بين الإنسان والفئران أمر لا مفر منه تقريبا”.(4)

الحجة الثانية هي أن الصبغي البشري رقم (2) قد نتج عن اندماج صبغيين يشبهان نظيرهما لدى القردة، ويرى كولينز ذلك دليلا يصعب فهمه دون افتراض وجود سلف مشترك بين الإنسان والقردة.(5)

هذه هي أكثر حجج التطوريين شيوعا لإثبات وجود السلف المشترك بين الإنسان والقردة ولكن -كما سنرى لاحقا في هذا الفصل- فقد استند كولينز بصورة كبيرة على علوم قد عفا عليها الزمن، وعلى افتراضات مشكوك في صحتها، وبصورة أكثر تحديدا:

– كشفت العديد من الدراسات النقاب عن أدلة كثيرة على وجود وظائف للحمض النووي غير المشفر والذي تبين أنه ليس مجرد خردة جينية بأي حال.

– من الممكن أن يشير الاندماج الصبغي في البشر إلى أن الجنس البشري قد شهد حدث الاندماج هذا، ولكنه لا يخبرنا أيَّ شيء عن نسب الإنسان والسلف المشترك مع القردة، وعلاوة على ذلك فإن هذا الدليل الجيني -الاندماج الصبغي في البشر- ليس بتلك القوة التي يصوره بها كولينز والآخرون.

وباختصار؛ فإن الدليل الذي يستند على الدنا لا يثبت استنتاج كولينز عن تطور البشر.

الدنا غير المشفر ليس خردة بعد الآن!

يُحسب لكولينز أنه تجنب تلك الحجة الاعتيادية البسيطة التي تقول بأن التشابه الجيني الوظيفي بين نوعين يقتضى اشتراكهما بسلف واحد، معترفًا بأن التشابه الجيني الوظيفي بمفرده لا يبرهن بطبيعة الحال على وجود هذا السلف المشترك؛ وذلك لأن المصمم قادر على استخدام نفس قواعد التصميم الناجحة مرارًا وتكرارا،(6) وبدلًا من ذلك قدم كولينز حجة مختلفة، حيث أنه استشهد بوجود نوع من الدنا يسمى العناصر المكررة القديمة (ancient repetitive elements أو AREs) بزعم أنها بلا وظيفة (خردة)(7)، وذلك -في نظره- يدل على صحة التطور الدارويني والسلف المشترك بين الإنسان والقردة العليا.

العناصر المكررة القديمة (AREs) شائعة الوجود في جينوم الثدييات وهي موجودة عندنا نحن البشر وكذلك عند القردة العليا والفئران، وهي موجودة في نفس الموقع الجينومي لدى كل هذه الكائنات. يؤكد كولينز أن تلك العناصر المكررة القديمة AREs هي بمثابة “حطام جيني مهمل بلا قيمة، وهي تمثل تحديًا ساحقًا لهؤلاء الذين يحملون فكرة أن كل أنواع الكائنات الحية قد وجدت بطريق الخلق الخاص المستقل”. ومن وجهة نظر كولينز فإن استنتاج وجود سلف مشترك للبشر والفئران لا مفرَّ منه عمليا إلا بافتراض أن الإله قد وضع تلك العناصر المكررة القديمة AREs عديمة الفائدة في تلك المواقع الدقيقة من الدنا إرباكًا وتضليلًا لنا!(8) ومن الأصوات العالية أيضا ككولينز في هذا الصدد، الملحد الدارويني (ريتشارد دوكينز) الذي كتب أيضا: “ربما يجب على الذين يؤمنون بالخلق أن يقضوا أوقاتا جادة متأملين هذا السؤال: لماذا يكلف الخالق نفسه العناء في وضع جينوم به تكرارات متتالية من الخردة؟”.(9)

الجدير بالذكر أن كلًا من كولينز ودوكينز قد قدم حجة لاهوتية مبنية على أساس أن الله لا يفعل ذلك بتلك الطريقة، بدلا من تقديم ادعاء علمي، وأنا سأترك اختبار مدى صحة ومتانة نظرتهم اللاهوتية لغيري، لكن نظرتهم العلمية قد تبدلت بالأدلة.

وباطلاع خاطف على المنشورات العلمية نجد عكس ما يدعيه كل من دوكينز وكولينز، وأن الدنا المكرر -كغيره من أنواع الدنا غير المشفر- ليس مجرد خردة جينية بلا فائدة، حيث أدرك العلماء الذين يمتلكون عقولا متفتحة ذلك قبل أن يكتب كولينز كتابه بفترة طويلة؛ ففي عام 2002م قام عالم الأحياء ريتشارد شتينبرغ بدراسة إحصائية للمنشورات العلمية المختصة بهذا المجال ووجد أدلة مستفيضة لوجود وظائف لتلك العناصر المكررة القديمة (AREs)، وكتب في سجلات أكاديمية نيويورك للعلوم أنه وجد أن وظائف العناصر المكررة القديمة (AREs) تشمل الآتي:

تكرارات التوابع Satellite repeats تشكل البنى الهيكلية العليا للنواة.

تكرارات التوابع تشكل الجسيم المركزي centromeres.

تكرارات التوابع وغيرها من العناصر المكررة REs تشارك في عملية تكثف الكروماتين.

التكرارات الانتهائية Telomeres والعناصر النووية الطويلة المتخللة LINE.

العناصر النووية الكروماتينية الفاصلة للعناصر الانتهائية Subtelomeric nuclear positioning /chromatin boundary elements.

العناصر النووية الكروماتينية الفاصلة اللاانتهائية المتخللة Non-TE interspersed chromatin boundary elements.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) تعمل كمراكز نووية لإتمام عملية المثيلة.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) تعمل كعناصر كروماتينية فاصلة.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) المشاركة في عملية التكاثر الخلوي.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) المشاركة في الاستجابة للشدة الخلوية.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) المشاركة في الترجمة -ربما يكون لها علاقة بالاستجابة للشدة الخلوية-.

العناصر النووية القصيرة المتخللة (SINEs) المشاركة في ربط بروتين الكوهيزين cohesion بالصبغيات.

العناصر النووية الطويلة المتخللة (LINEs) المشاركة في عملية إصلاح الدنا.(10)

استنتج شتينبرغ أن: “تلك الروايات التي قد تم سردها عن وجود الدنا الخردة مرتبطة بالأيقونات الأخرى للنظرية التطورية الداروينية الجديدة، وبالرغم من تباينها عن العلم التجريبي إلا أن البعض مستمر في نشرها”.(11)

استمرت أبحاث جينية أخرى في هذا الصدد لتكشف النقاب عن وظائف الأنواع المختلفة لتكرارات الدنا التي تشمل: العناصر النووية القصيرة المتخللة SINEsـ(12)، والعناصر النووية الطويلة المتخللة LINEsـ(13) وكذلك عناصر Aluـ(14) حتى أن هناك ورقة اقترحت دور تسلسلات Alu المتكررة في إنماء الوظائف العليا للدماغ البشري.(15)

كما تم اكتشاف وظائف أخرى متعددة لأنواع مختلفة من الدنا غير المشفر، وتشمل:

إصلاح الدنا.(16)

المساعدة في عملية نسخ الدنا.(17)

تنظيم عملية نسخ الدنا.(18)

المساعدة في عملية طي الصبغيات ودعمها.(19)

التحكم في عمليات تحرير الرنا RNA وتضفيره.(20)

المساعدة في مكافحة الأمراض.(21)

تنظيم عمليات النمو الجنيني.(22)

توقع شتينبرج مع جيمس شابيرو -عالم الوراثة من جامعة شيكاغو- في عام 2005م أنه: “سيأتي ذلك اليوم الذي ستسقط فيه فكرتنا عما اعتدنا على تسميته بالدنا (الخردة)، وسنجد أنه مكوِّن أساسي لأنظمة التحكم الخلوي والتي هي في الحقيقة (متخصصة)”.(23)

لقد جاء اليوم الذي توقعه شتينبرج وشابيرو أسرع مما كانا يتوقعان، ففي عام 2007م نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) تقريرًا يفيد بأن المشروع العلمي الضخم المعروف بمشروع إنكود (ENCODE) قد توصل إلى أن: “الغالبية الساحقة من الشفرة الجينية المكتوبة عند البشر -والتي تقدر بثلاثة مليارات أساس- تقوم بمجموعة من الوظائف التي لم تكن معروفة من قبل”.(24)

وحسبما أفادت مقالة في مجلة Nature حول هذا المشروع فإن: “النظرة الحيوية الجديدة لعالم الدنا غير المشفر -الذي اعتدنا على تسميته بالدنا الخردة- جذابة ومربكة، وقد أظهرت نتائج الباحثين في المشروع التعاوني العالمي المعروف بموسوعة عناصر تكويد الدنا DNA (ENCODE) أن ما بين (74%- 93%) من الدنا الموجود في جزء محدد من الجينوم -والذي يحتوي نسبة ضئيلة من التسلسلات البروتينية المشفرة- قد تم نسخه إلى الرنا”.

لمعظم الدنا غير المشفر دور تنظيمي، إذ يبدو أن للأحماض النووية الريبوزية الصغيرة (small RNAs) على اختلاف أنواعها أهمية في التحكم بعملية التعبير الجيني على مستوى الدنا ونسخ الرنا بطرق بدأت في التكشف حديثا. (25)

وفى عام 2007م ظهرت ورقة علمية في مجلة Nature Reviews Genetics بعنوان (عمليات النسخ الواسع واشتراكها في عمليات التنظيم الجيني) تناقش مدى اتساع وتعقيد وحيوية تلك الوظائف الغامضة للحمض النووي غير المشفر، وتنص على ما يلي: “يشير الدليل إلى حدوث انتساخ لمعظم طاقي الجينوم البشري، مما يعنى أن هناك تداخلًا واسعًا بين الوحدات المنتسخة والعناصر التنظيمية، وتقترح تلك المشاهدات أن بنية الجينوم ليست خطية تشاركية، وإنما بنية متداخلة ومركبة من وحدات، وأن نفس التسلسلات الجينية لها وظائف متعددة؛ أي أنها تُستخدم في كثير من عمليات النسخ المنظمة والمستقلة، وتعمل أيضا كمناطق تنظيمية”.(26)

وكذلك ظهرت ورقة علمية في مجلة Science عام 2008م تكشف أن كل أجزاء جينوم الكائنات حقيقية النواة تقريبا (والتي تمت دراستها بشكل جيد) يتم نسخها، وهذا يؤدي لكميات هائلة من جزيئات الرنا غير المشفرة للبروتينات ولها وظائف مؤكدة: “كشفت السنوات القليلة الماضية أن الجينوم الخاص بحقيقيات النوى المدروسة يتم نسخه بشكل كامل تقريبا منتجًا بذلك عددًا هائلًا من جزيئات الرنا غير المشفرة لبروتينات وتسمى (ncRNAs). وبالتوازي مع ذلك تتزايد الأدلة بأن للعديد من تلك الجزيئات وظائف تنظيمية، سنسلط الضوء هنا على تلك الخطوات الحديثة التي وضحت أن جزيئات ncRNAs باختلاف أنواعها تتحكم في ديناميكية الجينوم وحيوية الخلية، وكذلك في البرمجة النمائية الجنينية”.(27)

وتتابع تلك الورقة العلمية تفصيل الأدوار الهامة لتلك العناصر المكررة في التحكم بالخلية قائلة: “قد تمثل وفرة التسلسلات المكررة المنسوخة استراتيجية شاملة في الجينوم للتحكم بمناطق الكروماتين، وقد تكون محفوظة conserved عبر الكائنات حقيقيات النوى”.(28)

وفي عام 2003م صرحت مقالة في مجلة Science بأن مسميات (الدنا الخردة) كالتي استخدمها كولينز قد ثبطت همم العلماء عن العمل لاكتشاف وظائف العناصر المكررة غير المشفرة: “على الرغم من جاذبية مصطلح (الدنا الخردة) إلا أن ذلك المصطلح قد صد أغلب الباحثين عن دراسة الدنا غير المشفر لسنوات عديدة، ومن ذا الذي سيقحم نفسه في دراسة مخلفات الجينوم، باستثناء ذلك العدد القليل من الشاردين في طريق بحثهم له؟ وبالرغم من ذلك فإنه يوجد في العلم -كما في الحياة العادية- بعض الشاردين المتحملين لسخرية غيرهم أثناء اكتشافهم للمناطق غير المأهولة أو غير المعروفة من قبل، وبسبب هؤلاء بدأت تتغير نظرة الباحثين للحمض النووي الخردة -وخاصة العناصر المتكررة- في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، والآن يوجد العديد والعديد من علماء الأحياء الذين يعتبرون أن العناصر المكررة كنز موجود في الجينوم”.(29)

وبالرغم من كون الافتراضات الداروينية المعارضة واسعة الانتشار إلا أن تلك الورقة قد استنتجت أن: “العناصر المكررة ليست بلا فائدة، بل إنها -بالأحرى- مكونات تكاملية مهمة في جينوم حقيقيات النوى”.(30)

بالإضافة إلى العناصر المكررة يوجد نوع آخر من الدنا الخردة الذي كان كولينز معجبا به ليدعم وجود السلف المشترك بين الإنسان والقردة؛ هذا النوع هو الجين الكاذب pseudogene، وكتب كولينز في كتابه (لغة الإله) أن الجين الكاذب caspase-12 بلا وظيفة عند الإنسان، ثم تساءل: “لماذا خلق الإله تلك المشكلة بوضع جين بلا وظيفة في ذلك الموقع الدقيق؟”.(31) وقد وضع نفس الحجة في كتابه التالي الصادر عام 2011م (لغة العلم والإيمان) مستشهدا بجين يصنع الفيتامين C في البشر، والذي من المفترض أنه جين كاذب بلا وظيفة قائلا: “إن الادعاء بأن الجينوم البشري قد خلقه الإله خلقًا مستقلًّا بدلًا من انحداره من سلف مشترك يعني أن الإله قد وضع قطعة معطلة من الدنا في الجينوم الخاص بنا، وذلك غير معقول نهائيا”.(32)

وبالمثل استشهد كينيث ميلر -عالم الأحياء بجامعة براون- بذلك الجين الكاذب على أنه دليل حاسم في قضية السلف المشترك، وذلك لأن؛ “السلف المشترك هو التفسير الوحيد الممكن لوجود العديد من الأخطاء المتماثلة في نفس الجين”.(33)

لكن، هل الجينات الكاذبة بلا وظائف؟ وهل هي دنا معطل؟ كما هو الحال في العناصر المكررة القديمة (AREs) فقد تم اكتشاف العديد من الوظائف لهذه الجينات(34)، وأعلن عالما أحياء مهمان -وهما محرران في Annual Review of Genetics- أن: “الجينات الكاذبة التي تم فحصها لها أدوار وظيفية غالبا”.(35) وكذلك صدرت ورقة علمية عام 2011م في مجلة رنا RNA بعنوان (الجينات الكاذبة: هل هي بلا وظائف أم أنها مفاتيح تنظيمية مهمة في الصحة والمرض؟)، وتعلن هذه الورقة عدم صلاحية إطلاق مصطلح الدنا الخردة على هذه الجينات، وأنها ليست نسخًا من بقايا الجينات التي حملناها أثناء عملية التطور، وقد ظهرت نتائج حديثة تحدَّت مصطلح (الخردة)؛ إذ وجد لبعض الجينات الكاذبة أهمية في تنظيم الجينات المشفرة للبروتينات المشابهة”.(36)

اقترحت دراسة أن الجين الكاذب (caspase-12) الذي استشهد به كولينز(37) قادرٌ على إنتاج بروتين يسمى (CARD-only protein)(38)؛ وهو نوع من البروتينات التي لها دور وظيفي لدى البشر(39)، وقد أشارت تلك الدراسة إلى أن الجين الكاذب المسمى بـ(caspase-12) متورط ببعض مسارات العمليات الحيوية، مما حفَّز العلماء على دراسة ذلك الجين الكاذب كي يفهموا وظيفته: “من المشوق دراسة مشاركة الجين الكاذب (caspase-12) في مسارات حيوية مشابهة لتلك التي تقوم بها الجينات المشابهة له بنيويا، كالجين المسمى بـ(ICEBERG)، وكذلك الجين المسمى بـ(COP/Pseudo-ICE) وهي من CARD-only proteins”ـ(40)

لقد أخطأ كولينز عندما ادعى ببساطة -رغم جهلنا الشديد بالدنا غير المشفر- أن الأغلبية العظمى من الدنا المكرر بلا وظائف، وأنه “حطام جيني بلا قيمة”، وأن الجينات الكاذبة هي عبارة عن حمض نووي معطل، لقد كشفت الثورة التي حدثت في آخر 5-10 سنوات في مجال الجينوم النقاب عن عدد كبير من الوظائف التي تقوم بها عناصر الدنا غير المشفر. ومن المفارقات أن كولينز نفسه قد شارك في بعض تلك الأبحاث كرئيس لمشروع الجينوم البشري (Human Genome Project)، وهذا يفسر تراجع كولينز عن فكرة الدنا (الخردة) في السنة التالية لإصدار كتابه (لغة الإله)؛ حيث ادعى أحد الصحفيين أن: “كولينز قد توقف عن إطلاق ذلك المصطلح”.(41)

رغم التراجع الواضح لكولينز، إلا أن مؤسسة (BioLogos) التي شارك كولينز في تأسيسها لا تزال مستمرة في نشر صورة الدنا الخردة بين أعضاء المجتمع المؤمن للتدليل على وجوب اعتناقهم لفكرة التطور الحيوي،(42) إن الدنا الخردة قد أصبح مصطلحا من الماضي في النظرة للحمض النووي غير المشفر، والاستدلال به على وجود سلف مشترك بين الإنسان والقردة العليا محل شك كبير.

الاندماج الصبغي دون سلف مشترك

الحجة الرئيسية الثانية التي احتاجها فرانسيز كولينز ليدلل على وجود السلف المشترك بين الإنسان والقردة هي ادعاؤه بأن بنية الصبغي البشري رقم (2) تشبه بنية الصبغي الذي نتوقع تكوّنه باندماج نهايات اثنين من صبغيات الشمبانزي مع بعضهما؛ فلدى البشر 23 زوجا من الصبغيات في حين يملك الشمبانزي والقردة العليا 24 صبغيّا، ويحتج كولينز في كتابه (لغة الإله) بأن الاندماج الصبغي يفسر امتلاك البشر لعدد من الصبغيات أقل بزوج واحد من القردة، وقال: “إنه لمن الصعب جدًا أن نفهم ذلك دون التسليم بوجود سلف مشترك”.(43)

بالعكس تماما؛ فمن السهل جدا فهم هذا الدليل دون التسليم بوجود سلف مشترك، وعلى افتراض أن الصبغي البشري رقم (2) هو ناتج اندماج كما يدعي كولينز فإن الاندماج الصبغي يشير إلى أن الاندماج بين صبغيين قد حدث يومًا ما عند أجدادنا، وعند الحديث بمنطقية؛ فإن هذا لا يعني أننا ننحدر من سلف مشترك مع القردة أو أن البشر الأوائل كانوا يشبهون القردة بشكل ما.

حتى لو امتلك أسلافنا 24 زوجا من الصبغيات يوما ما فهذا لا يعني اختلافهم نهائيًّا عن البشر المعاصرين، يلاحظ عالم الأنثروبولوجيا جوناثان ماركس من جامعة كارولينا الشمالية التالي بقوله: “ليس الاندماج الصبغي هو الذي منحنا اللغة أو جعلنا نمشي على رجلين بدلا من أربع، ولا هو الذي منحنا الدماغ الكبير أو صناعة الفن أو القدرة على مضغ العلكة، إنه مجرد تغير من التغيرات المحايدة فاقدة المعنى، ولا يمكن القول بأنها جيدة أو سيئة في حد ذاتها”.(44)

بأحسن الأحوال، يشير دليل الاندماج الصبغي في البشر ضمنا إلى أن واحدًا من أجدادنا قد شهد حدث الاندماج الصبغي، وأصبح الاندماج ثابتًا في الجماعة البشرية فيما بعد، لكن هذا الدليل لا يخبرنا أي شيء عن اشتراكنا مع القردة بسلف مشترك.

لا يقدم الاندماج الصبغي في البشر برهانا يثبت اشتراك الإنسان والشمبانزي بسلف واحد، يمكن تفسير هذا الاندماج بوجود السلف المشترك (A) أو بالتصميم المشترك (B) الذي لا يفترض وجود سلف مشترك بين الأنواع، وإذا نظرنا من خارج الصندوق الدارويني فسيغدو السيناريو التالي متساويًا في الاحتمالية مع السلف المشترك:

تم تصميم سلالة الإنسان بشكل منفصل عن سلالة القردة.

شهدت سلالتنا حدث الاندماج الصبغي.

انتشرت هذه السمة في الجماعة البشرية أثناء عبورها “عنقَ الزجاجة” الجينية (وهي المرحلة التي أصبح فيها عدد أفراد الجنس البشري ضئيلا).

في هذا السيناريو يظهر حدث الاندماج دون الحاجة للسلف المشترك مع القردة، كما هو مبين في الشكل 1-4، ويلائم النموذج (B) الواقع تماما كالنموذج (A)، ففي النموذج (B) لا يشترك الإنسان مع القردة بسلف واحد؛ فإن كان الجنس البشري قد شهد حدث الاندماج الصبغي، فإنّ هذا النموذج يظهر سهولة تفسير حدث الاندماج الصبغي دون افتراض وجود سلف مشترك مع القردة.

ولمزيد من توضيح فكرة عدم دلالة الاندماج الصبغي على السلف المشترك بين الإنسان والقردة لنتخيل الموقف الافتراضي الآتي: في عام 2050م شهد أفراد قبيلة بشرية صغيرة ومعزولة حدث اندماج صبغي ثان -مع بقائهم طبيعيين قادرين على الإنجاب-، وسنطلق على هذه القبيلة لقب (البشر ذوي الاندماج الصبغي المضاعف)، وفي عام 2100م شهد العالم حروبا وأمراضا ومجاعاتٍ دمرت الباقي من البشرية؛ ونجا أفراد هذه القبيلة، وعمّروا الأرض ثانية، وأعادوا اكتشاف علم الوراثة والتطور، أخيرا؛ قام هؤلاء البشر بإنتاج التكنولوجيا اللازمة لفحص الصبغيات الخاصة بهم، وعندها صرح علماؤهم قائلين: “نحن البشر ذووا الاندماج الصبغي الثاني نملك 22 زوجا من الصبغيات تشمل زوجين اثنين من الصبغيات المندمجة، في حين أن القردة العليا تمتلك 24 زوجا من الصبغيات؛ ولذلك فلا بد أننا قد انحدرنا من مخلوق شبيه بالقردة ولديه 48 صبغي!”.

نرى من ناحيتنا أن هؤلاء البشر ذوي الاندماج الصبغي الثاني مؤخرًا بعيدون عن الاستدلال على وجود سلف مشترك بين الإنسان والشمبانزي، وقد قدموا أسبابًا منطقية واهية لإثبات هذا السلف، لمَ علينا الاقتناع بأن هذه القصة تختلف عن حالتنا الحقيقية بوجود اندماج صبغي واحد بدلا من اثنين؟ لا يزال الكثير من علماء التطور يخطئون في نظرتهم إلى الاندماج الصبغي في زوج واحد -تماما كما أخطأ هؤلاء البشر ذووا الالتصاق الصبغي الثاني.

 4 1

قد يرد الدارويني قائلا: “إن دليل الاندماج الصبغي يشير لامتلاك أسلافنا 48 صبغيًّا كما هو الحال اليوم مع الشمبانزي والقردة العليا، وعلاوة على ذلك فإن الصبغي البشري رقم (2) الناتج عن عملية الاندماج الصبغي يتكون من قطع تشبه تلك الموجودة في الصبغيين (2a) و (2b) في القردة، تتنبأ نظرية السلف المشترك بكل تلك النتائج”. يستخدم هذا الرد الدارويني حقيقة امتلاك الإنسان والقردة لنفس البنى الجينية تقريبا، لكن الدرجة العالية من التشابه الجيني الوظيفي بين الإنسان والشمبانزي لا تثبت بالضرورة وجود السلف المشترك؛ ففي الفصل الأول قامت (آن جوجر) بتبيان لماذا لا يثبت التشابه الجيني الوظيفي بين البشر والشمبانزي وجود السلف المشترك: فقد تَنتج التشابهات الجينية الوظيفية نظرا للمتطلبات الوظيفية والتصميم المشترك، وليس لكونها موروثة من سلف مشترك، في الواقع -وكما رأينا مما سبق- حتى فرانسيز كولينز قد اعترف بأن: “التشابه الجيني الوظيفي بمفرده لا يبرهن بطبيعة الحال على وجود السلف المشترك؛ لأن المصمم قد يستخدم قواعد التصميم الناجحة مرارًا وتكرارا”.

إن دليل الاندماج الصبغي في أحسن أحواله يعزز الشيء الذي نعلمه جميعا؛ وهو وجود التشابه الجيني الكبير بين الشمبانزي والإنسان، قد تكون تلك التشابهات الوظيفية ناتجة عن المتطلبات الوظيفية التي وضعها المصمم الواحد.

كل ما ذكرناه سابقًا صحيح في حال افترضنا صحة وقوع حدث الاندماج الصبغي في التاريخ البشري، لكن ما هو مدى متانة الدليل الحقيقي لذلك الادعاء المثير للجدل؟

يدعي عالم الأحياء كينيث ميلر في معرض استخدامه للاندماج الصبغي كدليل على وجود السلف المشترك بين الإنسان والشمبانزي أن: “دليل وجود النسب استنباطا من قضية الصبغي المفقود لا يتطرق إليه الشك”،(45) ولكن الحقيقة أن الدليل على حدوث الاندماج الصبغي ليس واضحًا بهذا الشكل القاطع الذي يدعيه التطوريون أمثال كينيث ميلر.

يحتوي الدنا الانتهائي (Telomeric DNA) الموجود في نهاية الصبغيات في الحالة الطبيعية على آلاف التكرارات من سلسلة مكونة من ستة أسس (TTAGGG)، ولكن نقطة الالتصاق المزعومة في الكروموسوم البشري رقم (2) تحتوي على حمض نووي انتهائي أقل بكثير مما يفترض وجوده في حال حدوث الاندماج بين صبغيين من أطرافهما، يعترف عالم الأحياء التطورية دانيل فيربانكس بأن الموقع يحتوي 158 تكرارًا فقط منها 44 نسخة كاملة فقط. (46)

بالإضافة إلى ذلك، وجدت ورقة علمية منشورة في مجلة Genome Research أن تلك التسلسلات التيلوميرية المزعومة لدينا “متدرّكة بشكل ملحوظ ومختلفة بدرجة كبيرة عن التكرارات التيلوميرية النموذجية”. أظهرت الورقة تفاجؤها من هذا الاكتشاف لأن حدث الاندماج المفترض قد وقع منذ زمن قريب، وهذا الزمن أقصر مما ينبغي لتظهر تلك الاختلافات الكبيرة في التسلسل، لذلك تطرح الورقة هذا التساؤل: “لو حدث الاندماج الصبغي منذ أقل من ستة ملايين عام فلماذا تدركت التسلسلات في موضع الالتصاق لهذا الحد؟”.(47) نستنتج من هذا أن الإقرار بحدث اندماج صبغي بين نهايتي الصبغيين يستدعي الإقرار بفقدان -أو تخرب- كمية كبيرة من الدنا التيلوميري المزعوم.

وأخيرًا؛ فإن وجود الدنا التيلوميري في صبغيات الثدييات ليس نادرًا، كما أنه لا يشير بالضرورة إلى وجود نقطة اندماج قديمة بين زوج من الصبغيات. يشير عالم الأحياء التطورية ريتشارد شتينبرج إلى أن التسلسلات التيلوميرية البينية interstitial telomeric sequence (ITSs) شائعة الوجود في جينوم الثدييات، لكن علماء التطور ينتقون بقايا التسلسلات التيلوميرية الموجودة في (الصبغي البشري 2) ليستشهدوا بها على حدوث الاندماج الصبغي: “من بين جميع التسلسلات التيلوميرية الخلالية ITSs المعروفة -يوجد منها الكثير في جينوم الشمبانزي والإنسان كما هو الحال في جينوم الفئران والجرذان والبقر- فإن التسلسلات التيلوميرية الخلالية الوحيدة التي يمكن أن تكون مرتبطة بموضع تطور أو حدث اندماج صبغي هي تسلسلات ITSفي الموضع 2q13، لا تشير ITSs الأخرى إلى نهايات صبغيات مندمجة لدى الرئيسيات، وبالمختصر إن تسليط الضوء على تكرارات ITS في الموضع 2q13 هو انتقاء محض للبيانات”.(48) إذ ليس معظمها ندوبا في شريط الدنا كما يحلو للبعض تصويرها.

هناك ثلاثة أسباب على الأقل توضح اختلاف الدليل عما تتنبأ به قصة الاندماج الصبغي:

تحتوي نقطة الاندماج المزعوم في (الصبغي البشري 2) عددًا أقل بكثير من ITS المفترض وجودها.

التسلسلات التيلوميرية المفترضة متدرّكة بشدة وبعيدة جدًا عما نتوقعه فيما لو كان الاندماج الصبغي قد حدث منذ زمن قريب.

اكتشاف وجود ITS في صبغيات الثدييات ليس نادرًا ولا يشير بالضرورة إلى حدث اندماج صبغي.

لكن -وهنا مربط الفرس- حتى لو كان (الصبغي البشري 2) ناتجا عن اندماج زوج من الصبغيات؛ فإن ذلك ليس دليلا على وجود السلف المشترك، يشهد ذلك في أحسن الأحوال على أن أجداد البشر اليوم قد شهدوا حادثة الاندماج الصبغي، ولكنه لا يخبرنا أي شيء عما إذا كان نسبنا يرجع إلى سلف مشترك مع القردة.

الخلاصة

طرحت في السنوات القليلة الفائتة عدة حجج جينية أمام العامة على أنها براهين جديدة حاسمة على أن الإنسان يشترك في سلف واحد مع القردة والحيوانات الأخرى، وكان فرانسيز كولينز في طليعة هؤلاء الذين يعملون على إشاعة تلك الحجج بين العامة وخصوصا ضمن المجتمع المؤمن، ووفقا لكولينز فلا مجال للإنكار: “لقد أدت دراسات الجينوم إلى الاستنتاج بموثوقية أن البشر يشتركون مع بقية الكائنات الحية بسلف واحد،(49) من المؤكد أننا نشترك بسلف واحد مع القردة، كما أن من المؤكد أننا نشترك مع الفئران بسلف واحد”.(50)

وبغض النظر عن استعمال كولينز لمصطلحات توكيدية، إلا أن الدليل الذي قدمه والقائم على أساس جيني لا يدعم ما يدعيه.

يؤكد الدليل الذي ناقشناه في هذا الفصل الشيء الذي نعرفه سابقا بأن الإنسان والشمبانزي يتشاركان بتسلسلات جينية وظيفية متشابهة، يمكن تفسير هذا التشابه بوجود تصميم مشترك بنفس الدرجة التي يمكن تفسيرها بافتراض وجود سلف مشترك… ماذا تبقى؟

لا شيء.

رأينا أن حجج الدنا الخردة التي قدمها كولينز تتلاشى مع مرور الزمن، فمع كل شهر يمضي تكشف دراسات جديدة عن وظائف كثيرة للحمض النووي غير المشفر(51)، وقد اكتشف علماء الأحياء على وجه الخصوص أدلة واسعة النطاق لوجود وظائف للعناصر غير المشفرة كما حدث مع عناصر الدنا المتكررة القديمة AREs، وكما حدث مع الجين الكاذب -وهي الأنواع من الدنا التي ادعى كولينز وغيره أنها بلا وظائف وأنها حطام جيني ومهملات بلا قيمة-، واستدلوا بها على وجود السلف المشترك بين الإنسان والقردة.

وكذلك الأمر فقد سقطت حجة الاندماج الصبغي التي قدمها كولينز، وحتى لو أن الاندماج الصبغي قد حدث، فإن ذلك لن يخبرنا بشيء عما إذا كنا نشترك مع القردة بسلف واحد، وليس من الواضح تماما فيما إذا كان الاندماج الصبغي قد حدث بالفعل، كما أن الدنا التيلوميري البيني ITS لا يشير بالضرورة إلى حدوث اندماج صبغي، وكذلك فإن هذه التسلسلات في (الصبغي البشري 2) متباعدة بدرجة كبيرة عن تلك التي نتوقع وجودها لو كان هناك اندماج صبغي حديث.

وكداعم لفكرة أن التصميم الذكي قادر على تفسير العديد من جوانب الطبيعية -بطريقة أفضل من تفسيرها بأنها عمليات عشوائية غير موجهة-؛ فإني أريد أن أشير إلى أن التصميم الذكي لا يتعارض في المبدأ مع اشتراك الإنسان مع باقي الكائنات بسلف مشترك، فالتصميم الذكي -في جوهره- لا يقف ضد السلف المشترك، ولكنه يتعارض مع الادعاء القائل بأن التعقيد الموجود في الحياة قد نشأ بعمليات عشوائية غير موجهة كالطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، وبالتالي فإن نموذج السلف المشترك الموجه يتلاءم مع فكرة التصميم الذكي.

ومع ذلك، فإن المنظِّرين للتصميم الذكي -بخلاف أنصار التطور الدارويني- ليسوا مُلزَمين بقبول السلف المشترك بين الإنسان والقردة، وهم أحرار ليتبعوا الدليل حيثما يقودهم، ولن يقودهم الدليل إلى استنتاجات فرانسيز كولينز، لقد رأينا أن الحجج الجينية المستخدمة للدلالة على وجود السلف المشترك بين الإنسان والقردة مستندة بشكل كبير على الافتراضات الداروينية وعلى معطيات قد عفا عليها الزمن أكثر من استنادها على الاستدلالات الدقيقة.

 

(1) Francis Collins, The Language of God: A Scientist Presents Evidence for Belief (New York: Free Press, 2006), 127-28.

(2) See: David Klinghoffer, “Francis Collins: A Biography.” Wesley J. Smith, “Collins Heads NIH,” To the Point (July 30, 2009). David Klinghoffer, “Francis Collins on Abortion,” BeliefNet (July 8, 2009).

(3) For information about the Templeton grant to launch BioLogos, see “The Language of God: BioLogos Website and Workshop,” John Templeton Foundation, accessed March 19, 2012, http://www.templeton.org/what-wefund/grants/the-language-of-god-biologos-website-and-workshop.

(4) Collins, Language of God, 136-37.

(5) Ibid., 138.

(6) Ibid., 134.

(7) Ibid., 136-37.

(8) Ibid.

(9) Richard Dawkins, “The Information Challenge,” The Skeptic, 18 (December,1998).

(10) Richard Sternberg, “On the Roles of Repetitive DNA Elements in the Context of a Unified Genomic-Epigenetic System,” Annals of the New York Academy of Sciences, 981 (2002): 154-88.

(11) Ibid.

(12) Sternberg, “On the Roles of Repetitive DNA Elements in the Context of a Unified Genomic-Epigenetic System,” 154-88.

(13) Tammy A. Morrish, Nicolas Gilbert, Jeremy S. Myers, Bethaney J. Vincent, Thomas D. Stamato, Guillermo E. Taccioli, Mark A. Batzer, and John V. Moran, “DNA repair mediated by endonuclease-independent LINE-1 retrotransposition,” Nature Genetics, 31 (June, 2002): 159-65.

(14) Galit Lev-Maor, Rotem Sorek, Noam Shomron, and Gil Ast, “The birth of an alternatively spliced exon: 3’ splice-site selection in Alu exons,” Science, 300 (May 23, 2003): 1288-91; Wojciech Makalowski, “Not junk after all,” Science, 300 (May 23, 2003): 1246-47.

(15) Nurit Paz-Yaacova, Erez Y. Levanonc, Eviatar Nevod, Yaron Kinare, Alon Harmelinf, Jasmine Jacob-Hirscha, Ninette Amariglioa, Eli Eisenbergg, and Gideon Rechavi, “Adenosine-to-inosine RNA editing shapes transcriptome diversity in primates,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 107 (July 6, 2010): 12174-79.

(16) Morrish et al., “DNA repair mediated by endonuclease-independent LINE-1 retrotransposition,” 159-65; Annie Tremblay, Maria Jasin, and Pierre Chartrand, “A Double-Strand Break in a Chromosomal LINE Element Can Be Repaired by Gene Conversion with Various Endogenous LINE Elements in Mouse Cells,” Molecular and Cellular Biology, 20 (January, 2000): 54-60; Ulf Grawunder, Matthias Wilm, Xiantuo Wu, Peter Kulesza, Thomas E. Wilson, Matthias Mann, and Michael R. Lieber, “Activity of DNAligase IV stimulated by complex formation with XRCC4 protein in mammalian cells,” Nature, 388 (July 31, 1997): 492-95; Thomas E. Wilson, Ulf Grawunder, and Michael R. Lieber, “Yeast DNA ligase IV mediates non-homologous DNA end joining,” Nature, 388 (July 31, 1997): 495-98.

(17) Richard Sternberg and James A. Shapiro, “How repeated retroelements format genome function,” Cytogenetic and Genome Research, 110 (2005): 108-16.

(18) Jeffrey S. Han, Suzanne T. Szak, and Jef D. Boeke, “Transcriptional disruption by the L1 retrotransposon and implications for mammalian transcriptomes,” Nature, 429 (May 20, 2004): 268-74; Bethany A. Janowski, Kenneth E. Huffman, Jacob C. Schwartz, Rosalyn Ram, Daniel Hardy, David S. Shames, John D. Minna, and David R. Corey, “Inhibiting gene expression at transcription start sites in chromosomal DNA with antigene RNAs,” Nature Chemical Biology, 1 (September, 2005): 216-22; J. A. Goodrich, and J. F. Kugel, “Non-coding-RNA regulators of RNA polymerase II transcription,” Nature Reviews Molecular and Cell Biology, 7 (August, 2006): 612-16; L.C. Li, S. T. Okino, H. Zhao, H., D. Pookot, R. F. Place, S. Urakami, H.. Enokida, and R. Dahiya, “Small dsRNAs induce transcriptional activation in human cells,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 103 (November 14, 2006): 17337-42; A. Pagano, M. Castelnuovo, F. Tortelli, R. Ferrari, G. Dieci, and R. Cancedda, “New small nuclear RNA gene-like transcriptional units as sources of regulatory transcripts,” PLoS Genetics, 3(February, 2007): e1; L. N. van de Lagemaat, J. R. Landry, D. L. Mager, and P. Medstrand, “Transposable elements in mammals promote regulatory variation and diversification of genes with specialized functions,” Trends in Genetics, 19 (October, 2003): 530-36; S. R. Donnelly, T. E. Hawkins, and S. E. Moss, “A Conserved nuclear element with a role in mammalian gene regulation,” Human Molecular Genetics, 8 (1999): 1723-28; C. A. Dunn, P. Medstrand, and D. L. Mager, “An endogenous retroviral long terminal repeat is the dominant promoter for human B1,3-galactosyltransferase 5 in the colon,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 100 (October 28, 2003):12841-46; B. Burgess-Beusse, C. Farrell, M. Gaszner, M. Litt, V. Mutskov, F. Recillas-Targa, M. Simpson, A. West, and G. Felsenfeld, “The insulation of genes from external enhancers and silencing chromatin,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 99 (December 10, 2002): 16433-37; P. Medstrand, Josette-Renée Landry, and D. L. Mager, “Long Terminal Repeats Are Used as Alternative Promoters for the Endothelin B Receptor and Apolipoprotein C-I Genes in Humans,” Journal of Biological Chemistry, 276 (January 19, 2001): 1896-1903; L. Mariٌo-Ramيreza, K.C. Lewisb, D. Landsmana, and I.K. Jordan, “Transposable elements donate lineage- specific regulatory sequences to host genomes,” Cytogenetic and Genome Research, 110 (2005):333-41.

(19) S. Henikoff, K. Ahmad, and H. S. Malik “The Centromere Paradox: Stable Inheritance with Rapidly Evolving DNA,” Science, 293 (August 10, 2001): 1098-1102; C. Bell, A. G. West, and G. Felsenfeld, “Insulators and Boundaries: Versatile Regulatory Elements in the Eukaryotic Genome,” Science, 291 (January 19, 2001): 447-50; M.-L. Pardue & P. G. DeBaryshe, “Drosophila telomeres: two transposable elements with important roles in chromosomes,” Genetica, 107 (1999): 189-96; S. Henikoff, “Heterochromatin function in complex genomes,” Biochimica et Biophysica Acta, 1470 (February, 2000): O1-O8; L. M.Figueiredo, L. H. Freitas-Junior, E. Bottius, Jean-Christophe Olivo-Marin, and A. Scherf, “A central role for Plasmodium falciparum subtelomeric regions in spatial positioning and telomere length regulation,” The EMBO Journal, 21 (2002): 815-24; Mary G. Schueler, Anne W. Higgins, M. Katharine Rudd, Karen Gustashaw, and Huntington F. Willard, “Genomic and Genetic Definition of a Functional Human Centromere,” Science, 294 (October 5, 2001): 109-15.

(20) Ling-Ling Chen, Joshua N. DeCerbo and Gordon G. Carmichael, “Alu element- mediated gene silencing,” The EMBO Journal 27 (2008): 1694-1705; Jerzy Jurka, “Evolutionary impact of human Alu repetitive elements,” Current Opinion in Genetics & Development, 14 (2004): 603-8; G. Lev-Maor et al. “The birth of an alternatively spliced exon: 3’ splice-site selection in Alu exons,” 1288-91; E. Kondo-Iida, K. Kobayashi, M. Watanabe, J. Sasaki, T. Kumagai, H. Koide, K. Saito, M. Osawa, Y. Nakamura, and T. Toda, “Novel mutations and genotype-phenotype relationships in 107 families with Fukuyamatype congenital muscular dystrophy (FCMD),” Human Molecular Genetics, 8 (1999): 2303-09; John S. Mattick and Igor V. Makunin, “Non-coding RNA,” Human Molecular Genetics, 15 (2006): R17-R29.

(21) M. Mura, P. Murcia, M. Caporale, T. E. Spencer, K. Nagashima, A. Rein, and M. Palmarini, “Late viral interference induced by transdominant Gag of an endogenous retrovirus,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 101 (July 27, 2004): 11117-22; M. Kandouz, A. Bier, G. D Carystinos, M. A Alaoui-Jamali, and G. Batist, “Connexin43 pseudogene is expressed in tumor cells and inhibits growth,” Oncogene, 23 (2004): 4763-70.

(22) K. A. Dunlap, M. Palmarini, M. Varela, R. C. Burghardt, K. Hayashi, J. L. Farmer, and T. E. Spencer, “Endogenous retroviruses regulate periimplantation placental growth and differentiation,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA, 103 (September 26, 2006): 14390-95; L. Hyslop, M. Stojkovic, L. Armstrong, T. Walter, P. Stojkovic, S. Przyborski, M. Herbert, A. Murdoch, T. Strachan, and M. Lakoa, “Downregulation of NANOG Induces Differentiation of Human Embryonic Stem Cells to Extraembryonic Lineages,” Stem Cells, 23 (2005): 1035-43; E. Peaston, A. V. Evsikov, J. H. Graber, W. N. de Vries, A. E. Holbrook, D. Solter, and B. B. Knowles, “Retrotransposons Regulate Host Genes in Mouse Oocytes and Preimplantation Embryos,” Developmental Cell, 7 (October, 2004): 597-606.

(23) Sternberg Shapiro, “How Repeated Retroelements format genome function,”108-16.

(24) Rick Weiss, “Intricate Toiling Found In Nooks of DNA Once Believed to Stand Idle,” Washington Post (June 14, 2007), accessed March 6, 2012, http://www.washingtonpost.com/wp-dyn/content/article/2007/06/13/AR2007061302466_pf.html.

(25) Erika Check Hayden, “Human Genome at Ten: Life is Complicated,” Nature,464 (April 1, 2010): 664-67.

(26) Philipp Kapranov, Aarron T. Willingham, and Thomas R. Gingeras, “Genome- wide transcription and the implications for genomic organization,” Nature Reviews Genetics, 8 (June, 2007): 413-23.

(27) Paulo P. Amaral, Marcel E. Dinger, Tim R. Mercer, and John S. Mattick, “The Eukaryotic Genome as an RNA Machine,” Science, 319 (March 28, 2008): 1787-89. 28.

(28) Ibid.

(29) Makalowski, “Not Junk After All,” 1246-47.

(30) Ibid.

(31) Collins, The Language of God, pg. 139.

(32) Karl Giberson and Francis Collins, The Language of Science and Faith: Straight Answers to Genuine Questions (Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 2011),43.

(33) Private correspondence with Dr. Miller.

(34) See for example D. Zheng and M. B. Gerstein, “The ambiguous boundary between genes and pseudogenes: the dead rise up, or do they?,” Trends in Genetics, 23 (May, 2007): 219-24; S. Hirotsune et al., “An expressed pseudogene regulates the messenger-RNA stability of its homologous coding gene,” Nature, 423 (May 1, 2003): 91-96; O. H. Tam et al., “Pseudogene-derived small interfering RNAs regulate gene expression in mouse oocytes,” Nature, 453 (May 22, 2008): 534-38; D. Pain et al., “Multiple Retropseudogenes from Pluripotent Cell-specific Gene Expression Indicates a Potential Signature for Novel Gene Identification,” The Journal of Biological Chemistry, 280 (February 25, 2005):6265-68; J. Zhang et al., “NANOGP8 is a retrogene expressed in cancers,” FEBS Journal, 273 (2006): 1723-30.

(35) Evgeniy S. Balakirev and Francisco J. Ayala, “Pseudogenes, Are They ‘Junk’or Functional DNA?,” Annual Review of Genetics, 37 (2003): 123-51.

(36) Ryan Charles Pink, Kate Wicks, Daniel Paul Caley, Emma Kathleen Punch, Laura Jacobs, and David Paul Francisco Carter, “Pseudogenes: Pseudo-functional or key regulators in health and disease?,” RNA, 17 (2011): 792-98.

(37) يقر كولينز بأن جينة الـcaspase-12 تنتج بروتينا وظيفيّا مهما في الشمبانزي، لذا فليست القضية هنا أن البشر يشتركون بنفس التسلسل الجيني غير المشفر الذي لدى غيرهم من الكائنات، هذه الجينة ليست كاذبة عند كل البشر، وفقا لورقة علمية نشرت في مجلة The American Journal of Human Genetics فإن 28% من البشر الموجودين في مناطق تحت الصحراء الكبرى الإفريقية يمتلكون نسخة وظيفية من هذه الجينة، وتوجد بنسب أقل في جماعات بشرية أخرى، يتجاهل كولنز إمكانية حصول سيناريو أن الجينة caspase-12 قد صممت لإنتاج بروتين معين ثم تعرضت لطفرة عند البشر جعلت منها غير وظيفية في زمن ما.

See: Yali Xue, Allan Daly, Bryndis Yngvadottir, Mengning Liu, Graham Coop, Yuseob Kim, Pardis Sabeti, Yuan Chen, Jim Stalker, Elizabeth Huckle, John Burton, Steven Leonard, Jane Rogers, and Chris Tyler-Smith, “Spread of an Inactive Form of Caspase-12 in Humans Is Due to Recent Positive Selection,” The American Journal of Human Genetics, 78 (April, 2006): 659-70.

(38) M. Lamkanfi, M. Kalai, and P. Vandenabeele, “Caspase-12: an overview,” Cell Death and Differentiation, 11: (2004)365-68.

(39) Sug Hyung Lee, Christian Stehlik, and John C. Reed, “COP, a Caspase Recruitment Domain-containing Protein and Inhibitor of Caspase-1 Activation Processing,” The Journal of Biological Chemistry, 276 (September 14, 2001): 34495-500.

(40) Lamkanfi, Kalai, and Vandenabeele, “Caspase-12: an overview,” 365-68.

(41) Collins, quoted in Catherine Shaffer, “One Scientist’s Junk Is a Creationist’s Treasure,” Wired Magazine Blog (June 13, 2007), accessed March 6, 2012, .

(42) See discussion in Jonathan Wells, The Myth of Junk DNA (Seattle: Discovery Institute Press, 2011), 98-100.

(43) Collins, The Language of God, 138.

(44) Jonathan Marks, What it means to be 98% Chimpanzee: Apes, People, and their Genes (Los Angeles: University of California Press, 2003), 39.

(45) Kenneth R. Miller, Only a Theory: Evolution and the Battle for America’s Soul (New York: Viking, 2008), 107.

(46) Daniel Fairbanks, Relics of Eden: The Powerful Evidence of Evolution in Human DNA (Amherst, NY: Prometheus, 2007), 27.

(47) Yuxin Fan, Elena Linardopoulou, Cynthia Friedman, Eleanor Williams, and Barbara J. Trask, “Genomic Structure and Evolution of the Ancestral Chromosome Fusion Site in 2q13-2q14.1 and Paralogous Regions on Other Human Chromosomes,” Genome Research, 12 (2002): 1651-62.

(48) Richard Sternberg, “Guy Walks Into a Bar and Thinks He’s a Chimpanzee: The Unbearable Lightness of Chimp-Human Genome Similarity,” Evolution News & Views (May 14, 2009), accessed March 6, 2012. http://www.evolutionnews.org/2009/05/guy_walks_into_a_bar_and_think020401.html (internal citations removed).

(49) Collins, The Language of God, 133-34.50. Ibid., 136-37.51. For an in-depth discussion of these studies, see Wells, The Myth of Junk DNA.

(50) Ibid., 136-37.

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: مقاومة عتيقة تعود للعصر البليستوسيني (2)

مقاومة عتيقة

في عام 2014 أقيم أكبر مشروع (ميتاجينومي Metagenomic) للبحث عن الجينات المسؤولة عن مقاومة المضادات الحيوية في وسط تسلسلات الحمض النووي الموجودة بالمجتمعات الميكروبية علي مستوي العالم، وانتهي البحث بنتيجة مفاداها أن تلك الجينات موجودة في الطبيعة أينما بحث عنها العلماء، ونشرت النتائج في مجلة (البيولوجيا الحالية Current biology)ـ3 يصرح أحد العلماء المشاركين في المشروع: “بالرغم من معرفتنا أن البيئة تضم سلالات بكتيرية مقاومة للمضادات الحيوية -كما أثبتت دراسات سابقة عديدة- إلا أننا لم نكن على علم حقيقي بمدى وفرتها”.

يرى الباحثون أن سبب وفرة تلك الجينات المقاومة للمضادات الحيوية في البكتيريا واضح ومنطقي، إذ أن معظم المضادات التي يستخدمها الأطباء اليوم تم تحضيرها من الكائنات الدقيقة التي تعيش في الأرض كالبكتيريا والفطريات، مما يعني أن جينات المقاومة كانت موجودة قبل أن يستخدم الإنسان المضادات الحيوية، والبكتيريا التي لم تملكها منذ البداية قامت لاحقا باستعارتها (بالنقل الأفقي) ببساطة من رفيقتها التي تملكها.3

كانت المستشفيات قبل ذلك ينظر إليها على أنها مراع خصبة للبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، نظرا لوجود كثير من المرضي ذوي المناعة الضعيفة مما يساعد علي تفوق البكتيريا. وكذلك بسبب هلاك البكتيريا المنافسة لها والتي لا تستطيع مقاومة المضادات الحيوية، مما يؤدي إلى استفحال البكتيريا المقاومة. ولكن نتائج المشروع تشير إلى أن تلك المقاومة موجودة في كل مكان في البيئة من حولنا، وليست حكرا على المستشفيات. يعبر أحد الباحثين عن دهشته قائلا: “أكثر ما يدهش هو حقيقة أننا استطعنا اكتشاف جينات مقاومة للمضادات الحيوية بكميات وفيرة نسبيا في كل بيئة فحصناها”.3

ربما تمتد وفرة المقاومة البكتيرية لأماكن بعيدة تماما عن بصرنا وقد اكتشف هذا مجموعة من الباحثين قاموا بدراسة البيئة الميكروبية لأحد الكهوف بولاية نيو ميكسيكو الأمريكية، كهف يعرف باسم ليتشيوجيلا Lechuguilla، يتميز بأنه من أكثر الكهوف عمقا علي سطح الأرض، وأكثرها عزلة كذلك، حيث لا يصله ضوء الشمس إطلاقا. وقد انعزل ذلك الكهف بيئيا منذ ما يقرب من أربعة ملايين سنة عن سطح الأرض، وفقد كل اتصال بها. ونشر الباحثون النتائج التي توصلوا إليها بعد إجراء التجارب والفحوصات علي عينات البكتيريا التي عزلوها من الكهف في مجلة (بلوس وان PLOS One) في إبريل 2012ـ4

توصل الباحثون من تلك التجارب أن تلك البكتيريا كانت شديدة المقاومة لأنواع مختلفة من المضادات الحيوية، كانت منها أجناس مقاومة لحوالي 14 مضادا حيويا مختلفا، مجموعة واسعة الاختلاف من المضادات الحيوية ذات التركيب الكيميائي المختلف، ومنها (الدابتوميسن Daptomycin) الذي يعتبر الحل الأخير في علاج سلالات البكتيريا إيجابية الجرام المقاومة للعديد من المضادات الحيوية multi-drug resistance. أيضا وُجدت آليات إنزيمية لمقاومة مضادات (الماكروليد Macrolide) شبه الاصطناعية، “مما يدعم فهمنا المتزايد لكون الجينات المسؤولة عن مقاومة المضادات الحيوية طبيعية، وقديمة، ومغروسة بقوة في جينوم الكائنات الدقيقة”.

ويستنتج الباحثون من النتائج التي توصلوا إليها عن طريق اختبار حساسية تلك العينات البكتيرية للمضادات الحيوية، أن المقاومة ضد المضادات الحيوية موجودة من قبل أن يستخدمها البشر في الأغراض العلاجية :”تؤكد الأدلة المتزايدة على أن الكائنات البيئية مستودعات لجينات المقاومة تلك. ولكن من الناحية الأخرى، الدور الذي يلعبه الاستخدام البشري للمضادات الحيوية في ظهور هذه الجينات لا يزال موضع اختلاف”.4

ومن أقصي الشمال المتجمد جاءت الاكتشافات التي تدعم ذلك الموقف، حيث نشرت العديد من المقالات التي توثق العثور علي أجناس من البكتيريا الأثرية المقاومة للمضادات الحيوية المدفونة في التربة المتجمدة تحت طبقات الثلج في سيبيريا5، حيث تمكن العلماء من فصل وعزل البكتيريا من التربة وإكثارها في مزارع بكتيرية خاصة واختبار مقاومتها للمضادات الحيوية، إلا أن تلك الدراسات يشوبها بعض الشكوك.

للفصل في مسألة عمر وجود المقاومة للمضادات الحيوية وهل تسبق الاستخدام البشري للمضادات الحيوية أم تليه، شرع مجموعة من العلماء إلي فحص البيئة الميكروبية بالتربة الرسوبية المتجمدة (Permafrost) الموجودة في (بيرنجيا Beringia) التي تصل بين ألاسكا وسيبيريا، تكونت تلك التربة في أواخر العصر البليستوسيني (Pleistocene) ويُقدر عمرها بثلاثين ألف عام، وهو عمر طويل مقارنة بعمر اكتشاف المضادات الحيوية الذي لا يزيد عن تسعين عاما. لقد احتفظت تلك التربة بتركيبها منذ تكونها كما جمع العلماء من الأدلة ما يؤكد أن تلك التربة المتجمدة لم تذب منذ تكونها. لقد كانت تلك التربة بمثابة كتاب تاريخ حُفظ بعناية فائقة والآن العلماء يفتحون الكتاب ليروا في أي فصل ظهرت مقاومة المضادات الحيوية.

بعد فصل وتحضير عينات الدنا DNA من التربة مع مراعاة عدم اختلاطها وتلويثها قدر الإمكان، أجريت الفحوص الكيميائية والجينومية، وكانت النتائج مدهشة. حيث استطاع العلماء التعرف علي تسلسلات من الدنا تشفر مقاومة للمضادات الحيوية، من تلك التسلسلات جين (TetM) المشفر للبروتين المسؤول عن إكساب البكتيريا المقاومة ضد عقار (تتراسيكلين Tetracycline)، كذلك جين مقاومة لمضادات (بيتا-لاكتام Beta-lactam)، والأكثر إثارة للدهشة هو العثور على عناصر لمقاومة مضادات (البيبتيد السكري Glycopeptide). ومن أمثال تلك المضادات (الفانكوميسين Vancomycin) ويلجأ إليه الأطباء كحل أخير لأنواع العدوى المستعصية، وبتحليل الجين المسؤول عن مقاومة الفانكوميسن و مقارنته بالموجود في البكتيريا الحديثة وجد أنهما متشابهان.5

لقد كانت المقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية دائما المثال الكلاسيكي الذي يلجأ إليه التطوريون كدليل تجريبي لإثبات التطور. لقد زادت نسب البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية زيادة هائلة منذ اكتشافنا للمضادات الحيوية واستخدامها في التطبيقات العلاجية، وقد فسر التطوريون ذلك التاريخ من الزيادة المتصاعدة للمقاومة علي أنه تطور للبكتيريا، وكان الاعتقاد السائد أن البكتيريا نتيجة تعرضها للمضادات الحيوية تطورت عن طريق الطفرات والانتقاء الطبيعي لتصبح مقاومة لها.

ولكن التفسير الأقرب الآن للمنطق بعد إثبات قدم المقاومة للمضادات الحيوية، هو أن استخدامنا للمضادات الحيوية هو الذي خلق بيئة تنافسية، ووضع سلالات البكتيريا تحت ضغط انتقائي استأصل السلالات غير المقاومة، وأبقى على السلالات المقاومة؛ فزادت نسبتها. وقد خلص إلي هذا الاستنتاج مجموعة العلماء الذين عثروا علي الجينات المقاومة، كما وجدوا هذا الاستنتاج متسقا مع حقيقة الظهور السريع لتلك المقاومة في المستشفيات والوحدات العلاجية، فلا بد أنها كانت موجودة قديما ثم انتشرت بعد ذلك بمساعدة المضادات الحيوية.

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: كيف تكتسب البكتيريا المقاومة؟ (3)

مقاومة مكتسبة

تستطيع سلالات البكتيريا المختلفة التي كانت حساسة للمضادات الحيوية من قبل أن تصبح منيعة وتفقد حساسيتها لها وذلك إما عن طريق انتقال المادة الوراثية من إحدى السلالات المقاومة إلى إحدى السلالات غير المقاومة، وإما عن طريق طفرات تحدث ذلك التأثير. ولكن كما سنرى، فإن حتي تلك الطفرات لا يمكن الاستدلال بها مطلقا علي التطور بمعناه العام (الانحدار المشترك عن طريق الانتخاب الطبيعي العامل من خلال التغييرات العشوائية).

1) النقل الأفقي للجينات: وهو انتقال المادة الوراثية المسؤولة عن مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي من بكتيريا إلى أخرى بطريقة غير الإنقسام، تلك الخاصية تشيع في البكتيريا عن الكائنات الأرقى -مثل النباتات والحيوانات-، و تسمح تلك الخاصية بالانتشار السريع للمقاومة بين الأنواع المختلفة للبكتيريا. توجد المعلومات الوراثية المسؤولة عن المقاومة محمولة على جزيء صغير من الحمض النووي يُعرف باللازميد (Plasmid)، وعن طريق بعض الآليات تنتقل تلك البلازميدات من بكتيريا إلي أخرى حاملة معها المقاومة. وعلي الرغم من أن تلك العملية تفسر لنا كيف اكتسبت البكتيريا مقاومة جديدة، إلا أنها لا تفسر لنا كيفية نشأة هذا الجين في عالم البكتيريا من الأساس.

التنبيغ Transduction

وهي عملية نقل بعض جينات الخلية البكتيرية (الواهبة) إلى خلية بكتيرية أخرى (مستلمة) بواسطة العاثي البكتيري Bacteriophage وفيه تصاب بعض أجناس البكتريا ببعض أنواع الفيروسات والتي تدعى بالعاثيات. خلال عملية تضاعف الفيروسات، ينحشر جزء من دنا الخلية البكتيرية في الفاج الجديد المتكون وينتج عنه فاج معدي infective phage، الذي بإمكانه إصابة خلية بكتيرية أخرى (مستلمة) ونقل دنا الخلية البكتيرية (الواهبة) لها، عندها يحدث التبادل الوراثي بين الخلايا البكتيرية.

التحول Transformation

وفي تلك العملية تلتقط البكتيريا أجزاء من الدنا من البيئة المحيطة بها، تلك الأجزاء من الدنا كانت في الأصل لبكتيريا أخرى تحللت وأخرجت ما فيها من مادة وراثية.

الاقتران Conjugation

الاقتران هو الوسيلة الأشهر لنقل الجينات أفقيا بين أجناس البكتيريا، والاقتران عملية شديدة التعقيد ينتقل فيها جزيء دنا دائري وهو البلازميد من الخلية البكتيرية الواهبة إلي المستلمة. يتم ذلك عن طريق الشعيرات البكتيريا التي تمتد بين الخلايا البكتيرية كالجسر فتسمح باقترانهم و نقل المادة الوراثية. أحد الأمثلة على ذلك هو الجين المشفر لإنزيم البنيسيلناز (Penicillinase) الموجود في بلازميد الخلايا المقاومة للبنسلين، ويقوم ذلك الإنزيم بتدمير البنسلين وإبطال عمله فيحمي البكتيريا منه ويجعلها مقاومة له.

لا يستطيع الانتقال الأفقي للجينات أن يخبرنا الكثير عن تطور جينات المقاومة، كل ما يقدمه هو تفسير انتقال جينات المقاومة من بكتيريا مقاومة في الأصل إلى بكتيريا أخرى غير مقاومة، أما كيف ظهرت هذه الجينات في الأصل، فهذا السؤال لا تجيب عنه، وبالتالي فلا يمكن الاستدلال بالانتقال الأفقي علي حدوث التطور. فالمطلوب لإثبات التطور هو إثبات نشأة المعلومات الجديدة، وليس انتقالها من كائن لآخر.

2) الطفرات: وتعرف بتغييرات في الحمض النووي تحدث غالبا نتيجة خطأ في عملية تضاعف الحمض النووي، أو نتيجة التعرض لمؤثر خارجي. تتسبب الطفرات في أغلب الأحيان في إلحاق الأضرار بالخلية وإفساد وظائفها، ولكن من حين إلى آخر -ورغم ضعف الاحتمال- قد تتسبب في إحداث تغيير مفيد، وبناءً على هذا، فإن الطفرات هي الآلية الوحيدة التي لديها القدرة على تعليل أصل وجود المقاومة ضد المضادات الحيوية لدى البكتيريا.

ولهذا فإن المناعة الناتجة عن وقوع طفرة معينة في البكتيريا تصلح تمامًا لتكون مثالاً واقعيًا على صحة وسلامة نظرية التطور؛ لأنه في ظل وجود مضاد حيوي معين، فإن أي طفرة تؤدي إلى حماية البكتيريا من التأثير الضار أو القاتل لهذا المضاد الحيوي سوف يتم اعتبارها صفة أو سمة جديدة نافعة، ثم يأتي دور الانتقاء الطبيعي ليحافظ على سلالات البكتيريا الحاملة لهذه الطفرة، والتخلص من غيرها من البكتيريا عتيقة الطراز. هذا هو السيناريو الذي يقصه علينا التطوريون لإثبات أن ظهور المقاومة لدى الباكتيريا ضد المضادات الحيوية هو دليلٌ جليٌّ على صحة نظرية التطور وسلامة أطروحاتها، لكن الواقع أن دراسة هذه الطفرات عن كثب علي المستوي الجزيئي يفرز لنا سيناريو مغاير تماما.

لمحاولة الوصول لإجابة عن حدود قدرة الطفرات تابعوا معنا الجزء القادم…

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: ما هي حدود قدرة الطفرات؟ (4)

حدود قدرة الطفرات

لمحاولة الوصول لإجابة عن حدود قدرة الطفرات ليس هناك أفضل من تجربة (ريتشارد لينسكي Richard Lenski) عالم البيولوجيا التطورية بجامعة ميتشجان الأمريكية. بدأ لينسكي تلك التجربة الطويلة –التي لازالت مستمرة منذ عام 1988 وحتى الآن– للإجابة عن الكثير من الأسئلة المتعلقة بالتطور، ولفهم طبيعة التطور وآليات عمله. بدأت التجربة باثنتي عشرة سلالة متطابقة من بكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli، حيث سُمح لها بالتكاثر بمعدل 6-7 أجيال في اليوم الواحد، ليصل عدد أجيال البكتيريا في عام 2016 إلى 66 ألف جيل بعد مرور ما يقرب من 30 عام، وأثناء نمو وتكاثر البكتيريا كانت تؤخذ عينات كل 500 جيل ويتم حفظها تحت ظروف خاصة حتى تكون سجل محفوظ لتطور البكتيريا.

تجربة استثنائية، وعدد هائل من الأجيال والخلايا البكتيرية؛ سمحت لنا بمراقبة عملية التطور عن قرب. ولكي تدرك الصورة، فعليك معرفة أن عدد الأجيال البكتيرية هذه تساوي تقريبا مليون عام في عمرنا نحن البشر.

جاءت نتائج تلك التجربة مرضية للكثير من التطوريين، فقد رُصدت تغيرات في الأجيال الحديثة جعلت منها أكثر كفاءة وتكيف مع البيئة التي نشأت فيها في المعمل، لقد زادت في الحجم وزادت معدلات نموها بمرور الوقت عن طريق الطفرات والانتقاء الطبيعي فقط. بفضل السجل الذي صنعه لينسكي ومساعديه، أصبح من الممكن رصد تلك الزيادة في التكيف لدى الأجيال الحديثة عن طريق وضع الأجيال الحديثة مع أسلافها في منافسة في بيئة واحدة، وكانت الغلبة للأجيال الحديثة مما يعني أنها تطورت لتصبح أكثر تكيفا مع البيئة.

لقد رُصدت العديد من التغيرات في الأجيال البكتيرية ونشر بذلك عدد كبير من الأوراق العلمية، ولكن ربما تلك التغيرات التي زادت من لياقة وتكيف البكتيريا لم تكن علي ذلك القدر من الأهمية التي يروج لها التطوريون، ربما الحدث الذي أثار أكبر ضجة في تلك التجربة هو تطور قدرة البكتيريا على استخدام حمض السيتريك Citrate، والذي اعتبره البعض ظهور لنوع جديد من البكتيريا.

أحد مميزات البكتيريا الإشريكية أنها لا تستطيع أن تستخدم حمض الستريك ولا الحصول عليه من البيئة المحيطة بها تحت الظروف الهوائية المؤكسدة aerobic conditions، ولكن بعد مرور 30 ألف جيل بتجربة لينسكي تطورت البكتيريا واكتسبت وظيفة جديدة، أي معلومات جديدة؛ وهي القدرة على استخدام حمض السيتريك، والاعتماد عليه كمصدر كربوني تحت الظروف المؤكسدة. تم نشر ورقة بالنتائج تلك، وكان ذلك التغير التكيفي من الأدلة علي التطور.

ما الذي طرأ علي الأجيال الجديدة وزاد من لياقتها الحيوية وتكيفها؟ ما هو نوع المعلومات التي اكتسبتها البكتيريا؟ هل كان هذا التطور الملحوظ في قدرة البكتيريا على التكيف نتيجة اكتساب البكتيريا وظائف جديدة؟ نتيجة إضافة معلومات وراثية جديدة عن طريق الطفرات والانتقاء الطبيعي؟

نشر عالم الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي (مايكل بيهي) ورقة في مجلة Quarterly review of biology تناول فيها بالتفصيل نتائج تجربة لينسكي وفحص فيها الآليات الجزيئية وراء التغيرات الظاهرية التي زادت من تكيف الأجيال الجديدة مع البيئة.

بعد فحص كل التفاصيل الجزيئية توصل بيهي إلي أن ما جنته الأجيال الجديدة من البكتيريا من تكيف وزيادة في اللياقة لم يكن نتيجة إضافة معلومات جديدة أو اكتساب وظائف جديدة، بل علي العكس لقد كان هذا التكيف نتيجة إتلاف بعض الوظائف الموجودة سلفا وضياع المعلومات، نتيجة طفرات أفسدت عمل آليات، وكانت تلك التعديلات مفيدة من الناحية التطورية (القدرة على التكاثر السريع) فساعدت البكتيريا على التطور، ولكن في مقابل ضياع جزء من المعلومات.

“بفحص تسلسل الدنا الخاص بالبكتيريا الإشريكية حول متواليات الغرز Insertion Sequences، وجد الباحثون العديد من الجينات المسئولة عن الاستقلاب مُستأصلة، كذلك بعض جينات الجدار الخلوي وجينات أخرى. في عمل لاحق اكتشف كوبر أن كل السلالات الإثنى عشر تعرضت لطفرات حذف لمشغل operon الريبوز، المسؤول عن تصنيع سكر الريبوز. بناء علي ذلك فإن الطفرات التكيفية التي كشفنا عنها حتي الآن كلها من نوع فقدان الوظيفة”.(1)

عندما تجاوز عدد الأجيال 20 ألف، استخدم فريق عمل لينسكي تقنيات متطورة للكشف عن الأسس الجزيئية للتغيرات التكيفية. باستخدام تلك التقنيات استطاعوا تتبع ورصد نشاط 1300 جين Gene Expression، وتوصلوا إلي أن 59 جين منهم تغير نشاطهم عن أسلافهم، 47 من أصل تلك الجينات قل مستوى نشاطها أو تعبيرها. يتحكم في التعبير الجيني لتلك الجينات مواد كيميائية في الخلية منها الجوانوسين رباعي الفوسفات guanosine tetraphosphate، ويحدد تركيز تلك المادة مجموعة من الجينات علي رأسها جين spoT، وعندما فُحِص تسلل الجين وجوده طفرة نقطية لاترادفية Non-synonymous Point Mutation، وعند فصح عشر سلالات أخرى خضعت لنفس الظروف التطورية لـ20 الف جيل، وجد سبعة من السلالات لديها طفرة في نفس الجين ولكن كانت الطفرات مختلفة، مما يرجع أن تلك الطفرات كانت تقلل من نشاط البروتين.

لقد تعرضت نفس الجينات لطفرات مختلفة ولكن النتيجة واحدة؛ زيادة في اللياقة والقدرة علي التكيف. هذا دليل قوي علي أن تلك الطفرات قد أخلت بعمل الجين، فلا يمكن أن تكون الطفرات المختلفة لها وظيفة واحدة. لقد تسببت الطفرات في نقص المعلومات وليس زيادتها. تلك هي العملية السائدة علي طول الـ20 الف جيل التي تم فحصهم و توثيق التفاصيل الجزيئية الخاصة بها في الأوراق العلمية.

بماذا تخبرنا تجربة لينسكي؟ أليست مثالا عمليا واقعيا علي التطور؟

نعم هو تطور، ولكن تطور في الاتجاه الخاطئ، ليس نوع التطور المطلوب لتحول الخلية الأولي (الأصل المشترك) إلي ملايين الأنواع من الكائنات الحية.

تفترض نظرية التطور نشأة كل أنواع الكائنات الحية عن طريق الانحدار من سلف مشترك، ذلك السلف المشترك كان غاية في البساطة ولكن الأنواع الحية التي نراها علي الأرض الآن تبدو علي قدر عالي من التعقيد. من المفترض أن يكون التطور تاريخ طويل من اكتساب الوظائف وإضافة معلومات جديدة للأنواع الجديدة، ولكن تجربة لينسكي لا تخبرنا أي شيء عن مصدر تلك المعلومات وكيف تولدت.

لقد تطورت البكتيريا بمرور الزمن لتصبح أصلح للبقاء من أسلافها، ولكن حتي تحقق النصر في ذلك الصراع من أجل البقاء دفعت الثمن عن طريق التخلص من بعض وظائفها التي يبدو أن التخلص منها خدم قدرتها علي التكاثر؛ وهي الوظيفة الأساسية التي يراها الانتقاء الطبيعي ويعمل بمقتضاها، فكانت في سبيل أن تتكاثر أسرع من أسلافها وأن تحقق مزايا تزيد من تكيفها مع البيئة، تضحي ببعض الوظائف الأخرى. المظهر الخارجي يعطي انطباع أن الأجيال الجديدة اكتسبت ميزات خاصة تميزها عن أسلافها، ولكن في الحقيقة لقد فقدت بعض الخصائص التي سمحت لها بالتكيف مع البيئة، وتمت البرهنة على ذلك.

قد لا تكون كل الطفرات التكيفية بهذا السوء، من الممكن لبعض الطفرات أن تزيد من قدرة الأفراد علي التكيف عن طريق إكسابها وظائف جديدة كاستخدام حمض السيتريك تحت الظروف المؤكسدة، ولكن ما هو معدل ظهور تلك الطفرات مقارنة بتلك التي تعبث بوظائف الخلية وتفسدها، نسبة الطفرات التكيفية المفيدة إلي الضارة قد لا تتجاوز واحد إلي مائة كما يشير بيهي في ورقته، مما يعني أن معدل فقد وظائف البكتيريا أعلي بكثير من معدل اكتسابها وظائف جديدة.

الأمر ليس أن معدل حدوث الطفرات الضارة أعلي من معدل حدوث الطفرات النافعة، ولكن معدل حدوث الطفرات التي تزيد من تكيف البكتيريا مع البيئة المحيطة بها عن طريق استئصال معلومات الخلية أعلى من معدل حدوث الطفرات التي تزيد من تكيف البكتيريا مع البيئة المحيطة بها عن طريق إضافة معلومات ووظائف جديدة.

وإن كان بيهي محقًّا، فإن التطور الجزيئي يواجه مشكلات عديدة. لأن رجحان كفة خسارة (أو نقصان) الوظيفة يقتضي منطقيًا أن تنفد الوظائف الجزيئية لدى الجمهرة الحية الخاضعة للتطور نتيجة فقد الوظائف أو نقصانها.

كانت تلك التجربة –تجربة لينسكي– هي الأضخم من نوعها ولم أجد أفضل منها للبحث عن حدود قدرة الطفرات علي إضافة معلومات بيولوجية جديدة للكائنات الحية، ولكن يبدو أننا لم نجد ضالتنا هنا، فكل ما وجدناه هو تعطيل للجينات، وفقدان للوظائف، والحد من بعض الأنشطة في الخلية، تلك الآليات تعجز عن تفسير وجود آليات المقاومة للمضادات الحيوية في البكتيريا والتي هي علي قدر كبير من التعقيد والتخصص، ولكن ربما تفسر تلك الآليات بعض أنواع المقاومة المكتسبة كما سنرى في الجزء التالي.

(1) Michael J. Behe, “Experimental Evolution, Loss-of-Function Mutations, and ‘The First Rule of Adaptive Evolution’”, The Quarterly Review of Biology, Vol. 85(4):1-27 (December 2010).

المصدر

الداروينية وعصر المضادات الحيوية: ما هو ثمن البقاء؟ (6)

البكتيريا ليست مرنة بلا حدود، فلا يمكنها أن تتعرض لتلك الطفرات التي تؤثر سلبا علي وظائفها دون أن يكون لذلك التأثير انعكاس علي قدرتها علي التكاثر. نعم، في الغالب تضعف قدرة البكتيريا علي التكاثر جراء تلك الطفرات التي وقعت لها، بل لقد مرت البكتيريا أثناء تعرضها للمضادات الحيوية بضغط انتقائي قوي جدا، فلم يكن أمامها إلا أن تفني تماما أو تبقي حية مع دفع ثمن البقاء. يعرف ذلك الثمن بـ(تكلفة اللياقة Fitness cost)، وهو مفهوم حيوي جدا في مجال البيولوجيا الدقيقة والبيولوجيا التطورية، ربما هو الأمل المتبقي لنا في محاربة البكتيريا بالمضادات الحيوية .

يمكننا رصد تلك التكلفة البيولوجية في لياقة السلالات المقاومة عن طريق إرخاء الضغط الانتقائي عن البكتيريا؛ أى التخلص من المضاد الحيوي من البيئة المحيطة بالبكتيريا، في تلك الحالة نلاحظ انخفاض سرعة تكاثر السلالات المقاومة مقارنة بأسلافها غير المقاومة، وفي الصراع بين النوعين نجد أن النوع غير المقاوم ينتصر في النهاية ويطغى علي النوع المقاوم، تلك الملاحظة تفتح الباب أمام المختصين لتطوير استراتيجيات جديدة لمحاربة الأنواع التي اكتسبت المقاومة عن طريق استغلال ذلك النقص في اللياقة الحيوية .

يصر الجانب الدارويني أن تكلفة اللياقة ليست لها أهمية كبيرة، فليست كل الطفرات التي تتسبب في اكتساب البكتيريا مقاومة ضد المضادات الحيوية تتسبب أيضا في خفض لياقتها بشكل ملحوظ، ويرون أن هذا الإدعاء هو نوع من المبالغة. ويرون أن البكتيريا تستطيع عن طريق بعض الطفرات التعويضية Compensatory mutation أن تتجنب ذلك الثمن الذي تدفعه من لياقتها. ولكن على العكس من ذلك، تؤكد الأوراق العلمية علي أهميتها، وتمتلئ بالنقاشات حول طبيعة تكلفة اللياقة وطريق الاستفادة منها في المجالات العلاجية.

تتناول الكثير من الأوراق العلمية مفهوم تكلفة اللياقة علي محمل الجد، ذلك لأن الفهم الدقيق لطبيعة تلك التكلفة ضروري لمساعدة العلماء لمعرفة إذا كانت المقاومة ستستمر في الانتشار أم لا، وتؤكد علي ذلك ورقة أندرسون، حيث يقول: “قد تتنبأ التكلفة البيولوجية للمقاومة بخطر تطور المقاومة”(1)، بمعني أن التكلفة البيولوجية قد تكون مؤشر يرشدنا لاحتمالية ظهور المقاومة وانتشارها.

تؤكد علي أهمية مفهوم التكلفة البيولوجية ورقة مجموعة لينوس سانديرجين البحثية في مجلة (العلاج الكيميائي المضاد للميكروبات Antimicrobial Chemotherapy) بعنوان “آلية مقاومة النيتروفورانتوين، وتكلفة اللياقة في البكتيريا الإيشيريقة القولونية” حيث تشير الورقة إلي أن “التكلفة البيولوجية للمضادات الحيوية عامل حاسم في تحديد معدل ظهور وانتشار السلالات المقاومة”. وجدت تلك الدراسة أنه بسبب اللياقة التي تفقدها البكتيريا لتصبح مقاومة للنيتروفورانتوين “حتي عند ظهور السلالات المتطفرة المقاومة في المثانة، فإنها لن تكون قادرة علي التكاثر وإحداث عدوى بسبب نموها المتضرر تحت التركيزات العلاجية من المضاد الحيوي”، وتستنتج الدراسة أن “مقاومة المضادات الحيوية تكون مصحوبة غالبا بنقص في اللياقة، مما يعني نقص في معدل النمو أو الضراوة virulence”ـ(2)

يشير أندرسون إلي أهمية فهم تكلفة اللياقة لمعرفة ما إذا كانت السلالات المقاومة ستستمر بعد إرخاء الضغط :”إن تكلفة المقاومة للياقة الحيوية عامل أساسي يؤثر علي معدل ومسار تطور المقاومة للمضادات الحيوية. اثبتت دراسات حديثة أن مقاومة المضادات الحيوية، سواء كانت نتيجة حدوث تعديل في الهدف أو آليات أخرى، غالبا ما تتسبب في نقص في اللياقة يعبر عنه كانخفاض في معدل النمو، أو الضراوة، أو الانتقال. تشير تلك النتائج إلي أن المقاومة قد يمكن عكسها إذا قل استخدام المضاد الحيوي. بالرغم من ذلك، العديد من العمليات تعمل لكي تثبت المقاومة، مثل التطور التعويضي عندما يتم التخلص من التكلفة عن طريق طفرات إضافية مع الحفاظ علي المقاومة، والطفرات النادرة التي لا تؤثر علي اللياقة، والارتباط الجيني بين واسمات المقاومة و واسمات منتقاه أخرى. يمكننا إذن أن نستغل تلك المعرفة في اختيار وتصميم أهداف وأدوية تكون فيها التكلفة أعلى ما يمكن واحتمال التعويض أقل ما يمكن”.(1)

علي عكس ما تتنبأ به نظرية التطور، تنحدر البكتيريا إلي أشكال أقل تعقيدا بدلا من الارتقاء إلي أشكال أكثر تعقيدا تملك معلومات ووظائف أكثر، كما أن المقاومة التي تكتسبها بتلك الطريقة لا تستطيع الاحتفاظ بها إذا أرخي عنها الضغط الذي كاد يقضي عليها، مما يعني أنها ظاهرة عابرة، ولا تمت للتطور الدارويني بصلة.

(1) Dan I Andersson, “The biological cost of mutational antibiotic resistance: any practical conclusions?,” Current Opinion in Microbiology, Vol. 9:461–465 (2006).

(2) Linus Sandegren, Anton Lindqvist, Gunnar Kahlmeter, and Dan I. Andersson, “Nitrofurantoin resistance mechanism and fitness cost in Escherichia coli,” Journal of Antimicrobial Chemotherapy, Vol. 62, 495–503 (2008).

المصدر

لماذا يخشى الداروينيون قراءة التوقيع في الخلية؟

من المشجع أن نعرف أنه على الرغم من وجود طائفة من الملحدين الداروينيين الجهلة المغرورين في إنكلترا كالموجودين في الولايات المتحدة، إلا أنّ الجهل الحاد يجد من يرد عليه الرد المناسب من أصحاب التفكير السليم والعقلية المتفتحة هناك أيضًا. من ضمن هذه المجموعة الأخيرة ملحدون، ولكنهم وصلوا إلى عدم إيمانهم من خلال التفكير الصادق عوضًا عن تعطيل العقل بسبب الولاء للمعتقد الدارويني. مثل البروفيسور البارز في جامعة نيويورك توماس ناجل Thomas Nagel، الذي أشاد بكتاب ستيفن ماير توقيع في الخلية: الدنا وأدلة التصميم الذكي في ملحق التايمز الأدبي1 بوصفه إياه بـ “كتاب العام”، مختتمًا بهذا الإطراء الرائع:

إنه وصف مفصل لمشكلة كيفية ظهور الحياة من مادة غير حية، وهو شيء لا بد من حدوثه قبل إمكانية بدء عملية التطور البيولوجي … إنّ ماير مسيحي، ولكنّ الملحدين والمؤمنين الذين يعتقدون أن الله لا يتدخل في العالم الطبيعي، سيستفيدون من عرضه الدقيق لهذه المشكلة الصعبة اللعينة.

أثارت مراجعة ناجل صخب الداروينيين الذين لم يبذلوا جهدًا حتى بالتظاهر أنّهم حملوا بأيديهم هذا الكتاب ذي الـ 611 صفحة، ناهيك عن قراءة صفحة منه. اشتكى عالم البيولوجيا في جامعة شيكاغو جيري كوين في مدونته الإلكترونية “Why Evolution is True لماذا التطور حقيقة”2 أنه لم يكن ينبغي لهم أن يسمحوا حتى بظهور مثل هذا الرأي ضمن أعمدة شهر أغسطس في ملحق التايمز الأدبي، قائلًا:

“وصفٌ مفصل”؟؟ ماذا لو قلنا “تكنهات دينية”؟

إن ناجل فيلسوف محترم وقد قدّم مساهمات كبيرة لعدة مجالات في الفلسفة، وهذا لا يمكن تفسيره، على الأقل بالنسبة لي. لقد استدعيت انتباه ملحق التايمز الأدبي لهذا، فقط ليكونوا على علم بذلك.

لا شك أن المحررين قد قدّروا أنه أعلمهم بخطئهم لطباعتهم وجهة نظر لا تتفق مع التعليمات الرسمية. ثم طلب كوين المساعدة. ولأنه لم يقرأ الكتاب مع أنه اكتفى بتجاهله واعتباره “تكهنات دينية”، فها هو يطلب العون:

هل يعلم أي منكم انتقادات لكتاب ماير كتبها علماء؟ لم أستطع العثور على أي منها على الانترنت، وسأكون ممتنًا بإعطائي روابط إلكترونية.

جاءت النجدة لكوين لاحقًا عندما نشر الكيميائي البريطاني ستيفن فليتشر Stephen Fletcher رسالة انتقادية إلى محرر ملحق التايمز الأدبي3، ربط فيها حجة ماير بالإيمان بـ “الآلهة والشياطين والعفاريت والجنيّات”، وأوصى أن يتعلم القراء عن التطور الكيميائي عبر القراءة عنه من أماكن أخرى من مصدر علمي لا يعتريه الخطأ، بدلًا من كتاب ماير:

يُنصح القراء الراغبون بمعرفة المزيد عن هذا الموضوع بالمحافظة على أموالهم التي اكتسبوها بجد، وترك كتاب ماير، والاقتصار على قراءة مقالة “عالم الرنا” على ويكيبيديا.

رد ناجل بدوره برسالته الخاصة إلى المحرر4، وبدا أنه يُعبر عن شكوكه ما إذا كان الكيميائي قد قرأ فعلًا كتاب (توقيع في الخلية) قبل الاعتراض على إطراء ناجل:

إن قول فليتشر بأنّه “من الصعب أن نتصور كتابًا أسوأ” تدل على أنّه قد قرأ الكتاب، وإذا كان قد قرأه، فلا بد أن يعلم أنه يتضمن فصلًا عن “عالم الرنا” يصف تلك الفرضية عن أصل الدنا على الأقل بشمولية مقالة الويكيبيديا التي أوصى بها. ناقش ماير هذه الفرضية وغيرها من المقترحات حول الطلائع الكيميائية للدنا، وناقش فكرة كونها جميعها تطرح مشاكل متشابهة حول الكيفية التي يمكن أن تبدأ بها العملية.

ظهرت رسالة ناجل إلى جانب رسالة أخرى4 من كيميائي بريطاني آخر في جامعة سانت أندروز، وهو جون سي والتون John C. Walton الذي يبدو أنّه قد قرأ الكتاب نظرًا لوصفه إياه بنبذة على الغلاف الخلفي بأنه “ممتع”. يجيب والتون في رسالته:

من المفارقة الطريفة أنه على الرغم من أن فليتشر ينتقد بقسوة طلاب الدين لإيمانهم بالقوى الخارقة للطبيعة، نجده يقترح بدلًا من هذه قوى “عالم الرنا” التخيلي الذي لا تدعمه إلا التكهنات!

هل تلاحظ الشيء المشترك في كل هذا؟

يبدو أن كل من يكره كتاب ماير لم يقرأه. لدينا كذلك أيضًا شكوى داعية الإلحاد الدارويني بي زي مايرز P. Z. Myers -وهو بيولوجي ومدون معروف- الذي يوضح أنّه لم يتمكن من قراءة الكتاب، الذي ينعته بـ “الكريه” و “الهراء”، لعدم تلقيه النسخة المجانية التي وُعِد بها! ولكن اطمئن؛ كل ما في الأمر أن الكتاب تأخر في البريد: “أعتقد أنني سأضطر لقراءة كومة السخافة تلك ذات الـ 600 صفحة في وقت ما… ربما في يناير”.5

يُدرّس الدكتور مايرز في موريس بمينيسوتا في الحرم الجامعي التابع لجامعة مينيسوتا، وهي الكلية الشهيرة بهارفرد مدينة موريس Harvard of Morris، مينيسوتا. لهذا فعندما يقيّم كتابًا لم يلقِ نظرةً عليه، ويدعوه “سخافة”، فبالتأكيد هذا الرأي مهم جدًا!

ولكن دعونا نتحدث بجدية، ما خطب الأشخاص الذين يكونون وجهة نظر -مهما تكن- حول كتاب -اسمحوا لي أن أكرر- لم يقرؤوه! أو كالذين اعترفوا بعدم قراءة أكثر من مراجعة له (كما هو الحال مع جيري كوين)؟

حتى بالنسبة لكاتب أكثر ترويًا بكثير مثل جوناثان ديربيشاير Jonathan Derbyshire، الذي كتب في مجلة New Statesman حول شجار ناجل في ملحق التايمز الأدبي، معترفًا: “أنا لم أقرأ كتاب مير [كذا]، ولست مؤهلًا لتقييم ادعاء فليتشر بأن ناجل ببساطة قد أدرك الأمور العلمية بطريقة خطأ”.6 إننا نقدر الصدق، وإن كان على ديربيشاير أن يتحمل عناء لفظ اسم ستيف ماير بطريقة صحيحة. (ينبغي عدم الخلط بينه وبين جون ديربيشاير John Derbyshire الكاتب في مجلة ناشونال ريفيو National Review).

ولكن للأسف فإنَّ الإهمال والتضليل هما السمتان المميزتان لدعاة الداروينية. وبالمناسبة، حاول جحافل من هؤلاء إغراق صفحة كتاب توقيع في الخلية على موقع أمازون بكتابة “مراجعات” بذيئة محاولين مرةً أخرى التظاهر قليلًا بأنهم قرأوا صفحة واحدة، ثم يحاولون لاحقًا دعم تقييماتهم الزائفة عبر تجمعهم في مجموعات قوائم البريد الإلكتروني والضغط على زر “نعم” على السؤال “هل كانت هذه المراجعة مفيدة لك؟”. وفقاً للقواعد الداخلية سهلة الاستغلال لموقع أمازون، فإنّ هذا يجعل المراجعة تحتل مكانًا أبرز. إنّه نهج مخادع، وللأسف معتاد.

(1) The Times Literary Supplement, Books of the Year 2009, November 25, 2009,

https://web.archive.org/web/20100805005027/

http://entertainment.timesonline.co.uk/tol/arts_and_entertainment/the_tls/article6931364.ece, Last Accessed May 4, 2018.

(2) Jerry Coyne, Distinguished philosopher blurbs intelligent-design book, December 1, 2009, http://whyevolutionistrue.wordpress.com/2009/12/01/distinguished-philosopher-blurbs-intelligent-design-book/, Last Accessed May 4, 2018.

(3) Jerry Coyne, More on Nagel, Meyer, and the origin of life, December 2, 2009, https://whyevolutionistrue.wordpress.com/2009/12/02/more-on-nagel-and-meyer/, Last Accessed May 4, 2018.

(4) The Times Literary Supplement, TLS Letters 09/12/09: The ‘prebiotic soup’, Humanities funding, Immensely learned, etc, December 9, 2009, https://web.archive.org/web/20110809080332/http://entertainment.timesonline.co.uk/tol/arts_and_entertainment/

the_tls/article6950227.ece, Last Accessed May, 4, 2018.

(5) PZ Myers, You know it’s a stinker when they’re afraid of the reviewers, 11 December 2009, https://freethoughtblogs.com/pharyngula/2009/12/11/you-know-its-a-stinker-when-th/, Last Accessed May 4, 2018.

(6) Jonathan Derbyshire, A theory of everything? Why you don’t have to be a theist to think physics can’t explain it all, New Statesman, 16 Dec 2009

https://www.newstatesman.com/blogs/cultural-capital/2009/12/nagel-fletcher-everything, Last Accessed May 4, 2018.

المصدر

لغز نشأة الحياة: سؤال عابر للأجيال

بعد سبعة أعوام من البحث، قام كل من الكيميائي «تشارلز ثاكستون»، والعالم «والتر برادلي» –المختص في الخواص الميكيانيكية للمركبات البوليمرية– والجيوكيميائي «روجر أوسلن» بتقديم مفهوم «المسبب الذكي» كتفسير لأصل المعلومات البيولوجية في كتابهم «لغز نشأة الحياة»، وتم نشره في عام 1984 بواسطة دار «المكتبة الفلسفية The Philosophical Library»، وأعيد طباعته من قبل دار نشر علمية مرموقة أخرى في نيويورك، والتي كانت قد نشرت أكثر من عشرين بحثًا لعلماء حاصلين على جوائز نوبل.

تحدى هؤلاء العلماء التفسير السائد لعلم الكيمياء التطوري لنشأة الحياة، بالإضافة للبرادايم العلمي القديم، وسافر «ثاكستون» إلى «كاليفورنيا» للقاء واحد من أفضل منظري الكيمياء التطورية على مستوى العالم «دين كينيون Dean Kenyon» –بروفيسور الفيزياء الحيوية– وعلى علم منهم بمدى جدية المعارضة التي سوف يتلقونها بسبب نشر كتابهم، والذي شارك في تأليف الدراسة الرائدة حول هذا موضوع الحتمية البيوكيميائية (أو حتمية الكيمياء الحيوية).

أراد «ثاكستون» نقاش «كينيون» حول مدى نزاهة ودقة النقد الموجه لكتابه «لغز نشأة الحياة»، إلا أن «ثاكستون» كان لديه محفزًا آخر وهو رغبته بأن يكتب «كينيون» مقدمة لكتابه، على الرغم من أن كتابه يحوي نقدًا لأطروحة نشأة الحياة لـ«كينيون»، والتي جعلت منه شهيرًا في هذا الحقل.

وللمرء أن يتخيل كيف لهذا الاجتماع أن يجري بسبب الخلاف بين الرجلين حول أطروحتيهما؛ إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث، فقد سرى الاجتماع على خير ما يرام، وقبل أن يعرض «ثاكستون» على «كينيون» رغبته، تطوع «كينيون» بكتابة المقدمة؛ حيث حكى له عن كونه يراجع أفكاره منذ فترة، وأنه بدأ يميل لرؤية «ثاكستون».

وكان كتاب «كينيون» «الحتمية البيوكيميائية» قد حقق أفضل مبيعات في هذا الموضوع، وقد أوضح فيه ما يمكن اعتباره في ذلك الوقت أفضل نموذج تطوري ممكن لكيفية تكون الخلية الحية الأولى في «الحساء البدائي»، وكان «كينيون» قد بدأ في مراجعة فرضياته في سبعينيات القرن الماضي.

فقد أوضحت بعض التجارب –والتي أجرى بعضها «كينيون» بنفسه– باطراد بأن المواد الكيميائية البسيطة –الأحماض الأمينية والقواعد النيتروجينية– لا يمكن لها أن تنظم نفسها في جزيئات قادرة على تخزين المعلومات، كالبروتينات والدنا بدون توجيه مسبق من قبل مراقبين بشريين.

«ثاكستون» و«برادلي» و«أولسن» أخذوا في اعتبارهم هذه الحقيقة عندما اشتغلوا على صياغة حجتهم، وقد وجد «كينيون» أن حجتهم قوية وتم بحثها بشكل جيد، حيث أشار في المقدمة التي كتبها بأن كتاب «لغز نشأة الحياة: تحليل استثنائي جديد لسؤال قديم».

وقد أصبح أفضل الكتب مبيعًا بين الكتب ذات المحتوى العلمي الجامعي المتقدم، والتي تختص في موضوع الكيمياء التطورية، وقد أطرى عليه علماء رواد ولامعون أمثال: «كينيون»، و«روبرت شابيرو Robert Shapiro»، و«روبرت جاسترو Robert Jastrow»، بالإضافة لمراجعات جيدة في مجلات علمية مرموقة[1] مثل «مجلة جامعة ييل للبيولوجيا والطب Yale Journal of Biology and Medicine»، وقد رفض البعض الكتاب بدعوى أنه يذهب إلى ما وراء العلم.

ما أثار الاهتمام في الأوساط العلمية في كتاب «لغز نشأة الحياة»، هو نقده لكل التفسيرات القائمة على النظرة المادية الخالصة لنشأة الحياة؛ حيث أشاروا بأن تجربة «يوري–ميلر» لم تحاكي الشروط البدائية التي سبقت تكون أي نوع من أنواع الحياة على الأرض بشكل واقعي.

وأن وجود الحساء الـ«ما قبل حيوي» ليس إلا خرافة؛ فالتحولات الكيميائية المفصلية في الحكاية التطورية لنشوء الحياة على الأرض كانت تخضع لتدخل هدام يدعى بالتفاعلات المتداخلة الهدامة[2]، بالإضافة إلى أنه لا يمكن للصدفة أو كمية الطاقة المتدفقة أن تعطي تفسيرًا للمعلومات المختزنة في المبلمرات الحيوية؛ كالبروتين والدنا.

قدم العلماء الثلاثة فرضية جديدة تنظر لهذه المسألة بشكل مغاير جذريًّا؛ فقد اقترحوا بأن الخواص التي تسمح بتخزين المعلومات لدى الدنا قد تشير لمسبب ذكي، وقد قاموا ببناء حجتهم على أطروحات «بولاني» وغيره، فحاججوا بأن علمي الفيزياء والكيمياء لا يستطيعان وحدهما إنتاج أو توليد المعلومات، وشبهوا ذلك بعدم قدرة الحبر والورق على إنتاج –أو تفسير– المعلومات التي يحتويها كتابٌ ما، وطرحوا حجتهم القائلة بأن خبرتنا المطردة تشير بأن المعلومات هي نتاج فعل مسبب ذكي. وأشار كتاب «لغز نشأة الحياة» إلى أن كون الاعتماد على المسبب الذكي يمكن اعتباره فرضية علمية بين العلوم التاريخية، وهو نمط من الحجاج العلمي الذي يختص بعلم الأصول.

وقد نجح الكتاب في إثارة الاهتمام بنظرية التصميم الذكي، وألهم جيلًا جديدًا من العلماء الشباب (مثل: دنتون، وكينيون، وبيهي، وميلز، وديمبسكي، وموريس، لونيش، وشيدلر، نيلسون، وموريس، وماير، وبرادلي)، ليواصلوا البحث والتحقيق في القضية التي تتساءل عن كون المظاهر المتجلية في المخلوقات الحية دالة على التصميم، أم أنه كما يدعي علماء أحياء الداروينية الجديدة ومنظري الكيمياء التطورية بأنها مجرد تمظهرات للتصميم وليس هناك عند التحقيق أي شكل من أشكال التصميم أي تصميم فعلي في جوهر وعمق هذه التمظهرات.

في الوقت الذي ظهر فيه الكتاب، كنت أعمل في حقل فيزياء الأرض في شركة «ريتشفيلد اتلانتيك Atlantic Richfield» في «دالاس»، والتي كان يعيش فيها «تشارلز ثاكستون»، وقد التقيته لاحقًا وأصبحت مفتونًا بالفكرة المختلفة جذريًّا التي طورها عن الدنا. وقد بدأت بالتردد على مكتبه بعد الانتهاء من العمل لنقاش حججه التي طرحها في كتابه. ولم أكن قد اقتنعت بفكرته بشكل تام. ثم بعد عام من هذا تركت عملي في حقل الفيزياء الجيولوجية، وبدأت مسيرتي في الحصول على شهادة الدكتوراه من «جامعة كامبريدج» في حقل تاريخ وفلسفة العلوم، وأثناء بحثي، قمت بالتحقيق في عدة قضايا نشأت من خلال نقاشاتي مع «ثاكستون»؛ ما الوسائل والطرق التي يتبعها العلماء لدراسة الأصول البيولوجية؟ هل هناك طريقة أو منهجية مميزة للبحث والتحقيق في مسائل العلوم تاريخيًّا؟ بعدما أكملت مرحلة الدكتوراة، بدأت المحاولة للإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن صياغة حجة «دلالة الدنا على وجود مصمم» بشكل علمي تاريخي صارم ودقيق؟

بين الأدلة المعاصرة والمسببات

خلال عملي على بحث الدكتوراه في «جامعة كامبريدج»، وجدت أن العلوم التي تعتمد في بحوثها على القرائن التاريخية[3] –كعلم الأرض، وعلم الأحافير، وعلم الآثار– تستخدم منهجيات وطرائق مميزة في تحقيق وبحث مسائلها، في حين أن جميع حقول العلم تنطوي على محاولة الكشف عن قوانين كونية، فإن العلوم التي تعتمد على القرائن التاريخية تحاول استنطاق الآثار الحاضرة للوصول لتفسيرات مرضية للمسببات التي وقعت في الماضي، فتعتبر الحاضر مفتاحًا للماضي.

يقول «ستيفن جولد»: إن العلوم التاريخية تحاول أن «تفسر الماضي من خلال نتائجه وآثاره»، زُرْ على سبيل المثال «متحف تيريل الملكي Royal Tyrrell» في مدينة «ألبرتا» في «كندا»، ستجد أن العلماء قاموا بتخيل قاع المحيطات في العصر الكامبري والمجموعات الحيوانية التي كانت تعيش في ذلك الوقت، ومن ثم تمثيله وإعادة بنائه وتركيبه بشكل مذهل.

يمكنك أيضًا قراءة الفصل الرابع من كتاب «سيمون كونواي موريس» عن أحافير « بيرجس شيل»[4] وسترى رحلة سياحية حية لهذا المكان المغرق في القِدَم، إلا أن ما فعله موريس والعلماء العاملين في المتحف هو إعادة بناء تخيلية للمواقع العتيقة لهذه المخلوقات الكامبرية بناءً على ما يمتلكونه من الأحافير في وقتنا الحاضر، بمعنى آخر قام علماء الأحافير باستنتاج أو رسم صورة للوضع الذي كان قائمًا في الماضي من خلال ما يتوفر لديهم من معطيات في الحاضر.

ولفهم هذا الأسلوب الخاص في الاستدلال، علينا الرجوع لأحد العلماء المعاصرين لـ«داروين»، وهو الموسوعي «ويليام هيل William Whewel» –أستاذ كلية ترينتي في كامبريدج– والمعروف بتأليفه لكتابين حول طبيعة العلم؛ الأول: «تاريخ العلوم الاستقرائية» في عام 1837، والثاني: «فلسفة العلوم الاستقرائية» في عام 1840.

فرّق «هيل» بين نوعين من العلوم الاستقرائية كالميكانيكا –أو الفيزياء– وما أسماه بالبيانتولوجي «Palaetiology» –وهي فرع من العلوم يهتم بدراسة أحداث وقعت في الماضي عن طريق الأسباب العلمية الحاضرة– وتتميز العلوم التي تندرج تحت هذا التصنيف بثلاث خواص:

1) لديها غاية معينة وهي تقرير أو تَفّحُص الشروط التي كانت تسري وفقها الأمور في القدم –أو المسببات التي أحدثت الوقائع موضع البحث في الماضي–.

2) تشرح أحداثًا أو وقائع حاضرة وتفسرها من خلال مسببات حدثت في الماضي، بدلًا من شرحها وتفسيرها من خلال قوانين عامة، (على الرغم من كون هذه القوانين تلعب أدوارًا مساعدة في بعض الأحيان).

3) لديها نمط خاص في الاستدلال يقوم على تفسير شروط الماضي من خلال “أثارها الواضحة” باستخدام تعميمات تربط الأدلة التي بين يدينا بمسبباتها الماضية.

الاستدلال بأفضل تفسير ممكن

هذا النوع من الاستدلال يقوم على استخدام أساليب استنباطية ومنطقية تتمثل بالاستدلال بدلائل أو وقائع أو حقائق حاضرة لتفسير أحداث غير مرئية وقعت في الماضي، ويمكن تسميته بـ«الاستدلال الاحتمالي»، وأول من وصف هذا النمط من الاستدلال هو الفيلسوف الأمريكي والمنطقي «تشارلز پيرس C. S. Peirce»؛ فقد لاحظ الاختلاف الذي يميز هذا النمط من الاستدلال عن غيره من أنواع الاستدلال كالاستقرائي؛ حيث تكون فيه النظرية أو القانون العام هو أحد مخرجات ملاحظات متكررة لنفس الظاهرة؛ أيضًا يختلف عن الاستدلال الاستنباطي، الذي يتم فيه استخراج حقيقة معينة بواسطة تطبيق قانون عام أو اتباع حقيقة أو حجة معينة.

يمكن فهم إشكالية الاستدلال الاحتمالي من خلال ما عرضه «بيرس»، والمتمثل بالقياس التالي:

لو أمطرت، فستبتل الشوارع.

الشوارع مبتلة.

بالتالي، هذا يعني أنها قد أمطرت.

ويتضح لنا في القياس أعلاه استنتاج وضع كان قائمًا في الماضي –الشوارع مبتلة– من خلال معطيات في الحاضر، إلا أن هذا الاستنتاج يقع في مغالطة منطقية وهي المغالطة المعروفة باسم الاحتكام إلى النتائج؛ فكون الشارع مبتلًا بدون اعتبار أدلة أخرى تساعد في اتخاذ القرار حول هذه القضية، لا يكون في وسع المرء سوى أن يستنتج أن كونها أمطرت ليس سوى استنتاج محتمل؛ فيقول: من المحتمل أن تكون قد أمطرت، وذلك بسبب وجود عدة احتمالات أخرى من الممكن أن تكون قد تسببت في تبلل الشوارع.

فمن الممكن أن يكون السبب عائدًا للمطر، إلا أنه من الممكن أيضًا أن تتسبب آلة غسيل الشوارع بهذا البلل، أو انفتاح صنبور إطفاء الحريق مثلًا، ولهذا فإن إمكان الاستدلال بوقائع الحاضر ومعطياته على الماضي تتخللها بعض الصعوبة بسبب الاحتمالات الكثيرة التي قد تكون تسبب في إيصال الوضع إلى ما هو عليه.

وكان تساؤل «بيرس» الرئيسي عن استخدامنا المتكرر لهذا النوع من الاستدلال رغم كونه محفوفًا بمغالطة الاحتكام إلى النتائج؛ وضرب مثلًا بحقيقة وجود «نابليون» غير قابلة للجدال، ومع ذلك فنحن نستخدم الاستدلال الاحتمالي للاستدلال على وجوده، وبذلك لا بد لنا من الاستدلال على حقيقة وجوده في الماضي من خلال آثاره الماثلة في الحاضر.

ورغم استخدامنا للاستدلال الاحتمالي وما يعتريه من عدم موثوقية، فإنه لا يوجد عاقل يشكك في وجوده، وأوضح هذا «بيرس» بقوله: “على الرغم من عدم قدرتنا على رؤية نابليون، إلا أننا لا نستطيع تفسير ما شهدناه من آثاره بدون افتراض وجوده”.

وتوضح مقولة «بيرس» أن فرضية احتمالية معينة تزداد قوتها إذا كانت قادرة على شرح النتيجة بطريقة لا تمتلكها غيرها من الفرضيات المحتملة الأخرى، وبالممارسة يتكشف لنا أن هذا مُعَلل وقابل للتصديق إذا ما فسرت هذه الفرضية ما يقدر عليه غيرها، وبعبارة أخرى، يمكن تحسين «زيادة مقبوليته المنطقية» الاستدلال الاحتمالي لو أمكن تقديمه في صورة تجعل منه أفضل وأنسب تفسير ممكن للآثار الحاضرة. وكما أشار «بيرس»، فإن للإشكالية الكامنة في هذا النوع من الاستدلال هي أنه دائمًا هناك أكثر من طريقة يمكن من خلالها تفسير نفس الحدث؛ فقد قام «توماس تشمبرلين Thomas Chamberlain» بتطوير منهجية استدلالية تدعى «منهجية الفرضيات المتعددة المحتملة»، فعلماء الأرض وعلماء العلوم التاريخية الآخرون يستخدمون هذه المنهجية عندما يوجد أكثر من مسبب ممكن أو فرضية تُفسر نفس الحدث.

وما يفعله العلماء هنا هو وضع الأدلة في الميزان ومقارنتها بحذر لتحديد أفضل تفسير، ويسمى فلاسفة العلوم المعاصرين هذه الطريقة بـ«الاستدلال بأفضل تفسير ممكن»، وعليه فإنه عند محاولة تفسير أصل حادثة أو منظومة كانت قائمة في الماضي، فإن علماء العلوم التاريخية يقارنون الفرضيات المختلفة ليبحثوا عن أفضل تفسير ممكن لها لو كانت هذه الفرضية صحيحة.

ولذلك فإنهم يقومون بالتأكيد وبشكل مؤقت على أن هذه الفرضية هي أفضل تفسير ممكن للمعطيات المتاحة والأكثر رجوحًا.

الأسباب العاملة في الوقت الحاضر

ولكن مما يتشكل أفضل تفسير ممكن بالنسبة للعلوم التاريخية؟

أظهرت أبحاثي أن الرأي السائد بين علماء العلوم التاريخية أن «الأفضل» لا يعني «التفسير المرضي أيدولوجيًا» –أي الذي يتفق مع أيدولوجية الباحث– أو «التفسير الشائع»؛ بل هو أولًا وقبل كل شيء «التفسير ذو الكفاءة التعليلية»، ولذلك فإن علماء العلوم التاريخية يحاولون مع تحديد المسببات التي تنتج الأثر المطلوب الذي هم بصدد بحثه.

ووفقًا لذلك، فإن العلماء هنا يُقَيِّمون الفرضيات من خلال معرفتهم المسبقة بالأثر وسببه؛ فالمسببات التي تنتج الأثر المطلوب تعتبر أفضل تفسيريًّا من غيرها؛ فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار الثوران البركاني تفسيرًا أفضل لطبقات الرماد البركاني الموجودة في طبقات الأرض من الهزات الأرضية، وذلك لأننا نعلم مسبقًا أن الثوران البركاني ينتج طبقات رمادية، بينما الهزات الأرضية لا تفعل ذلك.

ومن هنا فإننا لابد لنا من الحديث عن الجيولوجي «تشارلز لايل»، والذي كان له أثر كبير على العلوم التاريخية في القرن التاسع عشر وعلى «داروين» خاصةً، فقد قرأ «داروين» أعظم ما كتبه «تشارلز»، كتاب «مبادئ علوم الأرض»، في رحلته المشهورة على سفينة «البيغل»، ومن ثم تبنى مبدأ النسقية[5] واستخدمه ليحاجج بأن عمليات التغير التي نلاحظها، والتي تحدث بواسطة التطور الصغير يمكنها أن تُفسِّر أشكالًا جديدة من الحياة.

وكلمة «المبادئ» في عنوان كتاب «تشارلز» تلخص الفكرة المنهجية الرئيسية عند هذا الجيولوجي: “محاولة تفسير التغيرات الماضية في سطح الأرض، من خلال الرجوع إلى المُعَلِلات أو الأسباب التي يُعمل بها الآن”، ومن هنا فقد حاجج «لايل» بأن علماء العلوم التاريخية في سعيهم لتفسير الأحداث في الماضي، لا ينبغي عليهم اتباع مُعَلِلات أو أسباب غريبة وشاذة، والآثار الناتجة عما لا نعلمه، ولكننا بدلًا من ذلك يجب علينا نستشهد بالأسباب المعلومة والتي اكتسبناها من خلال خبراتنا المطردة، والتي يمكن لها أن تنتج الأثر المطلوب –محل البحث–.

وقد شارك «داروين» «لايل» في هذه المنهجية، فالمصطلح الذي استخدمه للتعبير عن «السبب المؤثر حاليًا» كان «فيرا كوزا vera causa»، والذي يعني السبب الحقيقي والفعلي، ووفقًا لذلك، حاول «داروين» إثبات كون عملية التوارث مع وجود بعد التعديلات الوراثية في الأجيال اللاحقة كانت السبب الحقيقي لكثير من الأنماط المختلفة، وتم رصدها بشكل مؤكد بين المخلوقات الحية.

فقد لاحظ داروين أن هناك صفات مشتركة بين مختلف الكائنات الحية. وسمى هذا بـ«التماثلات»[6]، وأشار إلى أننا نعرف من خلال خبراتنا بأنه رغم اختلاف الأحفاد عن أجدادهم فإنهم يتشابهون في جوانب متعددة، وعادةً فإن هذا التشابه يكون أكثر تجليًا في الأحفاد الأقرب زمنيًّا لأجدادهم. وعليه فإنه قدم مفهوم وراثة الخصائص المكتسبة كسبب حقيقي فعلي لهذه التطابقات المتجلية في منظومات الكائنات الحية.

وبناءً عليه، حاجج «داروين» أن خبرتنا المطردة تثبت بأن عملية وراثة الخصائص المكتسبة من سلف مشترك تمتاز بـ«الكفاءة التفسيرية» وتمتلك القدرة على توليد هذه الصفات المتطابقة والمتماثلة بين المخلوقات الحية.

ثم كان هنالك شيء واحد

يتفق فلاسفة العلم المعاصرون على أن الكفاءة التفسيرية هي الوسيلة الأفضل في الفصل بين الفرضيات المتنافسة، إلا أنهم لاحظوا أن هذه المنهجية تؤدي إلى استنتاج موثوق وسليم في حالة واحدة فقط، وهي إذا أمكن عرض الاستنتاج على أنه التعليل الوحيد المعروف للمُعَلَّل، وأشار فيلسوفا العلم «مايكل سكريفين Michael Scriven» و«إليوت سوبر Elliot Sober»، أشاروا إلى أن علماء العلوم التاريخية يمكنهم الوصول إلى استنتاجات موثوقة عن الماضي عندما يكتشفون الأدلة أو الآثار التي لا يمكن إلا تكون نتيجة لمسبب معلوم واحد.

يؤدي هذا إلى أن عملية تحديد أفضل تفسير تتضمن توليد مجموعة من الفرضيات؛ ومن ثم المقارنة بينها، ولذلك فإن علماء العلوم التاريخية عندما يستدلون بأكثر الأسباب فرادةً ومعقولية بين قريناتها من الأسباب المفترضة، يتجنبون بذلك مغالطة الاحتكام إلى النتائج، وخطأ تجاهل الأسباب المحتملة الأخرى، والتي قد تؤدي إلى نفس الأثر.

وهذا يعني أن عملية تحديد التفسير الأفضل تتضمن عمل قائمة بالفرضيات المحتملة، ومن ثم مقارنة قوة أسبابها المعروفة أو المقترحة نظريًّا بالاستناد إلى البيانات ذات الصلة بموضوع البحث والتقييم، ويتبع هذا عملية حذف تدريجي للفرضيات الممكنة والمحتملة، ولكنها أقل كفاءة إلى أن يصل بنا المطاف إلى السبب الأكثر عِلِّيَة والذي يتم اعتباره على أنه التفسير الأفضل.

ويضيف «سكريفين»، بأن عملية الاستدلال الاحتمالي؛ أو كما يسميها «عملية التحليل وإعادة الانتقاء للأسباب الأكثر احتمالية»، إذا تمت بهذه الطريقة فإنها ستتفادى القيود أو الحدود المنطقية للاستدلال الاحتمالي.

وكما لاحظ «بيرس» فإن مغالطة الاحتكام إلى النتائج يمكن أن تصاغ على طريقة المنطق الصوري في شكل مقدمتين ونتيجة:

إذا كانت «س»، تؤدي إلى «ص».

«ص» وقعت.

بالتالي، «س» صادقة.

وقد لاحظ كل من «مايكل سكريفين»، و«إليوت سوبر»، و«وليام ألستون W. P. Alston»، و«والتر برايس جالي W. B. Gallie»؛ أنه يمكن إعادة صياغة هذا النوع من الاستدلالات بطريقة تجعل منه أكثر قبولًا منطقيًّا، بحيث نجعل من «ص» المسبب الوحيد المعروف لـ«س»، أو بجعل «س» شرط ضروري ولازم لوقوع «ص»، كما يلي:

«س» شرط ضروري سابق لوجود «ص».

«ص» وُجِدَت.

بالتالي، لابد من أن «س» موجودة أيضًا.

تحظى هذه الصياغة أعلاه لهذا النوع من الاستدلالات –الاستدلال الاحتمالي– بالصلاحية المنطقية عند الفلاسفة، والمقبولية عند علماء التاريخ وعلماء الطب الشرعي.

وقد أكد «سكريفين» بشكل خاص على هذه النقطة: إذا أتيح للعلماء اكتشاف أثر لا وجود إلا لمسبب وحيد ممكن له، فإن باستطاعتهم الاستدلال على حتمية وجوده أو فاعليته في الماضي بكل ثقة؛ على سبيل المثال، يعرف علماء الآثار أن القدرة البشرية على الكتابة هي السبب الوحيد المعلوم للنقوش اللغوية، وبالتالي فلا بد لهم من استنتاج وجود نشاط الكتابة عند اكتشافهم لألواح تحتوي على كتابات قديمة.

ومما لا شك فيه أن كثيرًا من الحالات تتطلب من الباحث أن يسعى بدقة وحذر شديدين لإيجاد العلة أو السبب الوحيد الممكن، مثلًا: فإن انكسار الرياح أو ما يسمى بالرياح القصية أو عطب حاصل في الشفرات الخاصة بكمبروسرات الطائرة قد تفسر حادثة تحطم طائرة، إلا أن المحققين سوف يبحثون في أيهما كان السبب الفعلي، أو أن السبب الحقيقي يتخفى في مكان آخر. في الوضع المثالي، سوف يكتشف المحقق دليلًا مفصليًّا واحدًا أو مجموعة من الأدلة تسمح له بالتمييز بينها واستبعاد التفسيرات غير المناسبة حتى يبقى تفسير واحد صحيح.

ومن خلال دراستي علماء العلوم التاريخية وجدت أنهم يتشابهون مع المحققين وعلماء الطب الشرعي، فهم يتبعون للوصول إلى التفسير الأفضل[7]، في الحقيقة، فإن «داروين» نفسه قد قام بتوظيف هذه المنهجية في كتابه «أصل الأنواع»، فها هو يحاجج عن نظريته في السلف المشترك ليس لكونها قادرة على التنبؤ بمخرجات.

وجدت من خلال دراستي للمناهج المتبعة في العلوم التاريخية أن علماء التاريخ يشبهون المحققين والجنائيين، فهم يستخدمون منهجية التعليل بالاحتمال والإقصاء ذاتها في محاولاتهم لحل القضية والوصول للتفسير الأفضل.

لقد وظف «داروين» هذه الطريقة في كتابه المعروف أصل الأنواع، فاستخدمها مدافعًا عن نظريته المعروفة حول السلف المشترك؛ ليس لقدرته على التنبؤ بأحداث أو مخرجات مستقبلية يتم إخضاعها للتجارب بشروط مضبوطة، ولكن لكونه قادرًا على تفسير حقائق معروفة بشكل أفضل من الفرضيات الأخرى المنافسة؛ يكتب داروين في رسالته لـ«آسا جراي»: “لقد أخضعت فرضيتي المتمثلة بالسلف المشترك للأحياء للاختبار بمقارنتها مع أفضل ما وجدته من الفرضيات الراسخة المقترحة –في التوزيع الجغرافي، والتاريخ الجيولوجي، والتشابهات… إلخ– فهب أن فرضيةً كهذه تقوم على شرح وإيضاح أطروحات عامة مماثلة، فإن العلم يُوجب علينا بأن نتبع ونقر بأفضليتها وتفوقها على غيرها من الفرضيات إلى حين إيجاد أخرى أفضل”.

تصميم الدنا: تطوير الحجة من خلال المعلومات

ما علاقة هذا البحث التاريخي في مناهج الاستدلال العلمي بالتصميم الذكي، والمعلومات البيولوجية، ولغز نشأة الحياة؟

بالنسبة لي، فإنه من المهم للغاية تحديد ما إذا كانت فرضية التصميم يمكن صياغتها بشكل علمي دقيق بدلًا من كونها مجرد حدس مثير للاهتمام، فأنا أعلم من دراستي لأبحاث نشأة الحياة أن أول سؤال مركزي يحاول العلماء تفسير أول شكل من أشكال الحياة هو سؤال مركزي يواجهه العلماء في تفسير نشأة الحياة الأولى؛ هو: كيف تم الترتيب أو التسلسل المحدد للمعلومات الرقمية المختزنة في كل من الدنا والرنا الضروريين لبناء أول خلية؟ وقد عبر عن هذا العالم «بيرند أولاف كوبَس Bernd–Olaf Küppers»: “إن إشكالية نشأة الحياة هي بشكل واضح وأساسي المكافئ لإشكالية أصل المعلومات الحيوية”.

وقد قادتني دراساتي لمناهج علماء العلوم التاريخية إلى السؤال التالي: ما السبب الحقيقي والفعلي لأصل المعلومات الرقمية في الدنا والرنا؟ أو ما «السبب الفاعل حاليًا» الذي يمكن له أن يُحدِث مثل هذا الأثر؟ وبناءً على خبرتي المطردة ومعرفتي بمحاولات مختلفة حاولت حل هذه الإشكالية عن طريق إجراء تجارب محاكاة حيوية غير موجهة أو باستخدام المحاكاة الحاسوبية، خَلُصت إلى أنه لا يوجد إلا سبب واحد كافٍ وفاعل حاليًا/ في الوقت الحاضر لمثل هذه المعلومات ذات الوظائف المتخصصة؛ وهو الذكاء.

وبعبارة أخرى، فقد توصلت من خلال فهمنا القائم على التجربة لبنية علاقة السبب والأثر –أو العلة والمعلول– في هذا العالم، إلى أن التصميم الذكي هو التفسير الأفضل للمعلومات الضرورية لبناء أول خلية. ومما يدعوا للسخرية، هو اكتشافي أن تطبيق مبدأ «لايل» في النسقية –وهو ما يعيبه ويدحضه الخلقيون القائلون بِقِصَرِ عمر الأرض– على مسألة أصل المعلومات الحيوية، فإن الأدلة من عِلْم الأحياء الجزيئي تدعم وتعضد نظرية الحجة العلمية شديدة الدقة الجديدة للتصميم.

 

[1] إضافةً إلى تلقيه جائزة من «مجلة تدريس العلوم الجامعية Journal of College Science Teaching»، واعتنى به «كلاوس دوس Klaus Dose» فكتب عنه مراجعة رئيسية في مجلة «مراجعات العلوم متعددة الاختصاصات Interdisciplinary Science Reviews» بعنوان: “نشأة الحياة: الأسئلة أكثر من الأجوبة”.

[2] وهي تفاعلات تحول دون اكتمال سلسلة التفاعلات العضوية الضرورية لتكوين الجزيئات الحيوية الأساسية للحياة، أي تحول دون عملية البلمرة وإطالة السلسلة الجزيئية.

[3] واصطلاحًا يمكن تسميتها بالعلوم التاريخية Historical Sciences في هذا البحث.

[4] وهي أحافير تحمل رواسب وآثار لأجسام متحللة لمخلوقات تعود للعصر الكامبري وتوجد في «كندا» و«بريطانيا».

[5] وهو مبدأ يرمي إلى اطراد النظام السببي والقوانين الطبيعية في الكون.

[6] والمعنى هو التشابه والتطابق الظاهر بين المخلوقات الحية.

[7] طور «جيان كابريتي Gian Capretti» استدلال «بيرسين» الاحتمالي، وعرض «جيان» وآخرون هذا النوع من الاستدلال من خلال سلسلة قصص «السير آرثر كونان دويل Arthur Conan Doyle»، عن المحقق «شارلوك هولمز». وعزى «كابريتي» نجاح أسلوب استدلال «هولمز» الاحتمالي لإجادة استخدام منهجية الحذف التدريجي للفرضيات الممكنة والأقل قدرة وكفاءة تفسيرية من غيرها.

المصدر

أسطورة عصافير داروين

عندما كان داروين في جزر جالاباغوس تمكن من جمع تسعة من الأنواع التي تحمل اسمه اليوم -من أصل ثلاثة عشر نوعا-، ثم صنَّف ستَّةً فقط منهم كعصافير Finches. فَشلَ داروين في ملاحظة أيِّ تغيُّر في نوع الطعام الذي تتناوله هذه العصافير باستثناء نوعين، وحتى في هذين النوعين فشلَ في أنْ يجدَ أيةَ علاقةٍ بين نوع الغذاء وشكل المنقار. لم يكنْ داروين مكترثًا بهذه العصافير لدرجة أنَّه لم يَبذُلْ أيَّ مجهودٍ خلال مكثه على الجزيرة ليقسمها حسب الجزر مثلًا.

بعد أنْ عادتْ رحلةُ بيجل إلى بريطانيا بدأَ عالم الطيور جون جولد في تصنيفها على حسب علاقتها الجغرافية، وبدا أنَّ معظم معلومات داروين حولها كانت خطأ، أو غيرَ دقيقة؛ فثمانيةٌ من أصل خمس عشرة عينة محلية من التي سجلها داروين كانت موضع شك إلى درجة كبيرة وكانت معظم هذه العينات بحاجة لتصحيح من خلال النظر في المجموعات المصنفة التي أعدها زملاء داروين في رحلته البحرية. بناءً على ما تقدم ومن وجهة نظر المؤرخ العلمي فرانك سولواي: “فإنَّ داروين امتلك تصوُّراتٍ محدودةً وخاطئة إلى حدٍّ كبيرٍ حول عادات تناول الطعام والتوزيع الجغرافي لهذه الطيور”. وبخصوص الادِّعاء بأنَّ عصافيرَ هذه الجزر استهوت داروين أو أثَّرتْ عليه ليعتبرَها دليلًا على التطور كتب: “إنَّ هذا بعيدٌ جدًّا عن الحقيقة”.

8 1

في الحقيقة لم يصبحْ داروين تطوريًّا إلَّا بعد أشهر من عودته إلى بريطانيا؛ حيث بدأ بعد سنوات عدة من عودته يَنظُرُ من جديد إلى تلك العصافير محاولًا فهمَها في ضوء نظريته الجديدة، وكتب في الطبعة الثانية عام 1845م من مجلته المسمَّاة (الباحثون): “إنَّ الحقيقة الأكثرَ إثارةً لفضولي هي التدرجُ التامُّ الدقيقُ في أحجام المناقير الخاصة بهذه الأنواع المختلفة من العصافير. فعند رؤية هذا التَّدَرُّج والتنوعِ في بنية مجموعة صغيرة مترابطة من الطيور أتَخَيَّلُ أنَّ هذه الأنواع المختلفة خرجت من مجموعةٍ أصلية صغيرة جدًّا من الطيور وصلت إلى هذا الأرخبيل؛ إنَّه نوعٌ واحد، انتقل وتَكيَّفَ حتى وصل بنا إلى نهاياتٍ مختلفة”.

لكنّ هذه لم تكنْ سوى أفكارٍ تالية لآماله، وليست شيئًا مستنتجًا من دليل قام بجمعه بالفعل. إنَّ الارتباك المحيط بالتصنيف الجغرافي للعينات التي جمعها داروين جعلت من المستحيل عليه أنْ يستخدمَها كدليل على نظريته، كما أنَّ داروين لم تكنْ لديه فكرةٌ واضحةٌ حولَ (كيف كان هذا الأصل؟)، ونحن اليوم نعرف أنَّ هذه الأنواعَ الثلاثة عشر تشبه بعضها جدًّا أكثرَ مما تشبه أيَّ طائرٍ آخرَ في أمريكا الوسطى أو الجنوبية، مما يجعلنا نقترح أنَّها انحدرت من أصلٍ مشتركٍ قد استعمر هذه الجزر في الماضي السحيق.

لكن داروين لم يَزُرْ الساحلَ الغربيَّ لأمريكا الجنوبية شمال مدينة ليما في البيرو؛ لذا فإنَّ كلَّ ما عرفه عن هذه لعصافير كان مطابقًا للأنواع التي كانت ما تَزالُ تعيش على اليابسة.

لم ترتقِ هذه العصافيرُ إلى هذه الشهرة الحالية إلَّا بعد ظهور الداروينية الحديثة في عقد الثلاثينيات 1930م، وأوَّلَ مرةٍ يُطلَقُ عليها اسم (عصافير داروين) كانت بواسطة بيرسي لوي عام 1936م، إلَّا أنَّ شهْرَةَ الاسم لم تنتشر إلا بعْد ذلك بعقد من الزمن على يد عالم الطيور (ديفيد لاك).

ففي كتابه الذي صدر عام 1947م صرَّح لاك بأنَّ عصافيرَ داروين تُوضِّحُ لنا الدليلَ الرابطَ بين تنوع شكل المناقير بتنوع مصادر الغذاء، ثم حاول أن يبرهنَ بأنَّ هذه المناقيرَ ما هي إلَّا تكيفات سببها الانتقاء الطبيعي. وبعبارة أخرى فقد كان لاك -وليس داروين- هو من أعطى لهذه العصافير تلك الشهرة الواسعة كدليل على نظرية التطور، كما أنَّ لاك -وأكثر من أي شخص آخر- هو من أذاع بأنَّ لهذه العصافير الفضلَ الأكبرَ في تشكيل أفكار داروين.

عصافير داروين كأيقونة من أيقونات التطور

عندما رفع لاك من درجة هذه العصافير بحيثُ أصبحت أيقونة للتطور، ازدادت مساهمة داروين الهزيلة في معرفتنا كلما أُعيدَت هذه القصة علينا، لدرجة أنَّنا تخيلنا أنَّها من إنتاج داروين. فوفقًا لما صرَّح به (سولواي): “فإنَّ داروين حَظِيَ بشهرة واسعةٍ بعد عام 1947م من أجل عصافيرَ لم يرَها ومن أجل ملاحظاتٍ لم يصنعْها أبدًا”. وبلغت الأسطورة أكبر حجم لها بادِّعاءُ أنَّ داروين قد جمع أنواعًا وراقب صفاتها السلوكية مثل عادة الحفر عند طائر نقار الخشب، والذي لم يَكُنْ أصلًا قد اُكْتُشِفَ أيام داروين، ومن ثم تحوَّلت الحجارة إلى مقدَّسات! وبالرغم من أنَّ سولواي قد دمَّرَ هذه الأسطورةَ منذُ عشرينَ سنة مضتْ فإنَّ الكثيرَ من كتب البيولوجيا الحديثة لاتزال تدَّعي أنَّ عصافير جزر الجالاباغوس قد ألهمت داروين بفكرة التطور مثل كتاب (العلم البيولوجي Biological Science) لصاحبيه (جولد وكيتون 1996م) الذي يُخبِرُ الطلابَ أنَّ العصافيرَ لعبت دورًا رئيسيًّا في توجيه داروين لصياغة نظريته حول التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي. وبناءً على كتاب البيولوجيا الذي كتبه (رافين وجونسون) عام 1999م “فإن التقارب بين مناقير هذه الأنواع الثلاثة عشر ومصادر الغذاء الخاصة بها اقترح فورًا على داروين أنَّ التطور وراء ذلك”.

وكذلك كتاب جورج جونسون عالم الأحياء (البيولوجيا: تصوير الحياة Biology: Visualizing Life) والصادر عام 1998م أصرَّ فيه على أنَّ داروين أرجع الاختلافات في حجم مناقير هذه العصافير وطريقة تناولها الطعام إلى التطور الذي حدثَ بعد هجرة أسلافها إلى جزر الجالاباغوس، وهذا الكتاب يخبر الطلابَ أنَّ يتخيلوا أنفسهم مكان داروين ويكتبوا صفحات مجلة علمية مثل التي كتبها داروين واصفًا ما رآه.

فوق أنّه من المستبعد جدًّا مشاركة داروين تلك، فإنَّ وجودَ كلمة داروين في اسم (عصافير داروين) هو أسطورةٌ لم تظهرْ إلَّا بعد قرن من موته؛ عندما بدأوا يفترضونها كأيقونة للتطور. على أيِّة حال إنْ كانت هذه العصافيرُ دليلًا جيّدًا على نظرية داروين لربما تستحق هذه المكانة الأيقونية حقًا.

دليل على التطور!

لو كانت نظريةُ داروين صحيحةً فإنَّ من المفترض أن تكون أصولُ هذه العصافير التي استعمرت جزر الجالاباغوس في الماضي البعيد قد تَوزَّعت على جزرٍ مختلفة حيث تعرَّضت لظروفٍ بيئية مختلفة، ومن المُحتَملِ أنَّ هذه الطيور في الجزر المختلفة قد واجهت تغيُّراتٍ في إمدادات ونوعية الطعام الذي تتغذي عليه مؤدية إلى انتقاء طبيعي في مناقيرها التي تتناول بها الطعام. نظريًّا فإنَّ هذه العمليةَ ربما سمحت عبر الزمن بحدوث اختلافات في مناقيرها تجعلنا الآن نستطيع تمييز ثلاثة عشر نوعًا منها.

هذا السيناريو معقول جدًّا، لكن الدليلَ الذي اعتمد عليه (لاك) من أجل هذا السيناريو غير مباشر، فالاختلافات في مناقير هذه العصافير مرتبطة باختلاف أنواع الطعام، وتَوزّع الطيور في جزر مختلفة –رغم أنَّه ليس صحيحًا أنَّ كل جزيرة كان لها النوعُ الخاص بها–. يبدو هذا النموذج لائقًا ومناسبًا لنظرية داروين، لكن ربما كان موقفه سيكون أكثرَ قوةً لو وجدت بعض الأدلة المباشرة على هذه العملية.

من هذه الأدلة المباشرة الدليلُ الجيني، ولكن بعيدًا عن معرفة أنَّ مناقيرَ هذه العصافير موروثة بقوة “مناقيرُ هذه العصافير تبدو شبيهة جدًّا بمناقير آبائها البيولوجيين”، فنحن لا نعرفُ شيئًا بخصوص وراثة هذه المناقير، كما لم تُظهرْ دراساتُ الصبْغِيَّات اختلافًا بين الأنواع المختلفة من تلك العصافير، وكذلك كانت الدراسات التي أجريت على الدنا لتحديد تطور السلالات الجزيئي Molecular Phylogeny فقد اعتمدت على جينات لا تَمُتُّ بصلة لأشكال المناقير.

هناك نوع آخر من الأدلة المباشرة هو ملاحظة الانتقاء الطبيعي في البراري، وقد زودنا بهذا الدليل الزوجان (بيتر وروزماري جرانت) والَّذين ذهبا إلى جزر الجالاباغوس في السبعينيات لملاحظة آلية عمل التطور.

مناقير العصافير

8 2

قام الزوجان العالمان بأول رحلة لهما في جزر الجالاباغوس عام 1973م، وبمساعدة بيولوجيين آخرين بدءا باصطياد وتجميع العصافير من سبعة من هذه الجزر، كلُّ عصفور يتمُّ قياسُ وزنه وطول جناحيه ورجليه وأصابعه وطول واتساع وعمق منقاره. كانت هناك تنوعات واختلافات بين هذه العصافير في كل هذه الصفات، وبصفةٍ خاصة المناقير.

في عام 1975م ركَّزَ هؤلاء العلماءُ انتباهَهُم على واحدة من الجزر الصغيرة هي جزيرة (دافني الكبرى). مساحتها الصغيرة جعلت منها مختبرًا طبيعيًّا نموذجيًّا، حيث يستطيعون اصطياد الطيور وربْطِها بأشرطةٍ وقياسِ أفراد نوعٍ معين فيها، وهو العصافير التي تعيش في الأراضي المتوسطة (شكل 8–1 K)، وكذلك سجَّلوا التزاوج، وربطوا وقاسوا الأجيال الجديدة –الذرية أو الأبناء–، وتتبعوا سقوط الأمطار وعدد البذور التي تنتجها الأنواع النباتية في الجزيرة.

في أوائل السبعينات تعرضت جزيرة دافني الكبرى لأمطار معتدلة أدَّتْ لزيادة الطعام –النباتات وغيرها– مما نجم عنه زيادة في أعداد هذه العصافير بشكلٍ كبير. في المواسم الطبيعية من الأمطار –كالذي كان عام 1976م– تتعرض الجزيرة لخمسة إنْشاتٍ من الأمطار، لكن في عام 1977م هَطَلَ إنشٌ واحدٌ من المطر فقط، مما نتج عنه جفاف سبب نقصًا حاد في وفرة البذور، وكذلك في أعداد العصافير، خاصة تلك التي تعيش في الأراضي متوسطة الارتفاع، حيث نقص العدد إلى حوالي 15% من عددها السابق.

ثم لاحظ العلماءُ أنَّ من نجا من تلك العصافير من الجفاف يَميلُ لامتلاك أجسام كبيرة نوعًا ما ومناقيرَ أكبر، كما لاحظوا أيضًا أنَّ الإمداد بالبذور الصغيرة قد نقص بشكل ملحوظ هذا العام، فاستنتجوا من ذلك أنَّ الانتقاء الطبيعيَّ تمكَّنَ وبقوة من تفضيل تلك الطيور التي تَقْدِرُ على كسر البذور الكبيرة القاسية التي تبقت.

نتيجة للجفاف ازداد متوسطُ عمق المناقير وخاصة للعصافير التي تعيش في الأراضي المتوسطة بحوالي 5% من عمقه السابق –عمق المنقار هو المسافة بين قمة وأسفل المنقار عند قاعدته–، وهذا يساوي زيادةً مقدارُها نصفُ مليمتر –يعني سُمْك ظفر الإبْهام عند البشر–، قد لا يبدو هذا كبيرًا بالنسبة لنا، لكن بالنسبة للعصافير التي على جزيرة دافني الكبرى عام 1977م كان هذا يعني مسألةَ حياةٍ أو موت. كان هذا مثالًا مثيرًا للانتقاء الطبيعي في البرية. وقد سردت قصة هذين الزوجين والعلماء الذين كانوا معهم في كتاب (مناقير العصافير) لصاحبه جوناثان فينير المنشور عام 1994م، والذي سَمَّى التغيُّر الملحوظ في عمق المنقار بأنه: “البرهانُ الأفضلُ والأكثرُ وضوحًا حتى هذه اللحظة على قوة العملية التي اكتشفها داروين” يَقْصِدُ الانتقاء الطبيعي والتطور. ولهذا السبب فإنَّ هذه المناقير بالنسبة لــ(فينير) تُعَدُّ أيقونةً من أيقونات التطور.

أدرك الزوجان أيضًا ومن معهم من العلماء في ذلك الوقت أنه ربما تذبذب الانتقاء الطبيعي بين سنين جافة وأخرى رطبة ممطرة، صانعًا مناقير أطول عامًا ومناقير أقصر في العام التالي، لكن ماذا لو كان عمقُ المناقير مستمرًا في الزيادة؟ لربما حدث أمرٌ ممتعٌ ومثيرٌ في نفس الوقت.

إنَّ الاختلافَ في المناقير هو العاملُ الأساسيُّ المميزُ بين الأنواع المختلفة من عصافير داروين، وبناءً عليه اَقتَرَحَ الزوجان التفسيرَ التالي: إنْ كان الانتقاء الطبيعي قادر على إنتاج تغيرات في المناقير فربما يُفَسِّرُ لنا أيضًا أصلَ هذه الأنواع من العصافير. قدَّم بيتر جرانت في مجلة (Scientific American) للعام 1991م الشرحَ اللازمَ لكيفية حدوث هذا الأمر ولو نظريًّا على الأقل وذلك من خلال تسمية الزيادة في عمق المنقار أثناء الجفاف الشديد بــ (حادثة الانتقاء)، أعطى جرانت تقديرًا لعدد الحوادث المطلوبة لتغيير فصيلة من النوع الذي يعيش في الأراضي المتوسطة إلى نوع آخر بأنَّه عددٌ صغيرٌ بشكلٍ يُثيرُ الدهشة؛ حوالي 20 حدث انتقائي فقط كافٍ لإحداث مثل هذا التغير. إنَّ الانتقاءات المتتالية الموجهة بهذا المعدل، مع الأخذ في الاعتبار عدم حدوث انتقاء في فترة أخرى بين مواسم الجفاف، ستستغرق –في المتوسط– حوالي 200 عام لتحويل نوع إلى نوع آخر، وحتى لو افترضْنا أنَّ هذا العدد عشرةُ أضعاف الرقم المطروح أي حوالي 2000 عام لتكوين أنواع جديدة، فإنَّ هذا الوقت يعد صغيرًا جدًّا عند مقارنته بمئات آلاف السنين التي مرَّتْ بعد وصول العصافير لجزر الغالاباغوس هذه.

من الجدير بالذكر أنَّ استقراء جرانت اعتمد على فرضية أنَّ الزيادةَ في عمق المناقير تراكميةٌ من جفاف لآخر، لكن جرانت وزملاءهم علموا أنَّ القضية ليست كذلك.

عندما تعود الأمطار

من المعروف عند الشعوب التي تعيشُ على الساحل الغربي لأمريكا الشمالية والجنوبية أنَّهم يتوقعون حصول ظاهرة إلنينو El NINO كلّ عدة سنوات، وهي تغيُّر في نمط طقس الشتاء يسببه هواء دافئ غيرُ معتادٍ يمُرُّ عبر المحيط الهادي. في شتاء عام 1982م – 1983م تسبب إلنينو بقدوم أمطار غزيرة إلى جزر الغالاباغوس عشر مراتٍ أكثرَ من المعدل الطبيعي، وخمسين مرةً أكثرَ مما سقط أوقات الجفاف، تدمرت حياة النباتات وكذلك قلَّتْ أعدادُ العصافير جدًّا، وبعد انقضاء إلنينو عام 1983م عاد الغذاء ليتوفر من جديد وعاد متوسط حجم المناقير للعصافير التي تَعيشُ في الأراضي المتوسطة إلى حجمه السابق قبل الجفاف.

في عام 1987م كتب بيتر جرانت وتلميذُه المتخرج من الجامعة (ليزلي جيبس) في مجلة Nature أنَّهما لاحظا انعكاس اتجاه الانتقاء الطبيعي بسبب التغير في المناخ، وقالا: “إنَّ البالغين أصحاب الحجوم الكبيرة مفضلة عندما يَقلُّ الغذاء لأنَّ الإمدادَ من البذور الصغيرة الناعمة يَنفَذُ سريعًا، وفقط تلك الطيور صاحبة المناقير الكبيرة هي التي تستطيع كسر وفتح البذور الكبيرة والقاسية، وعلى النقيض فأنَّ الطيورَ صاحبة المناقير الصغيرة مفضلة في الظروف الرطبة، ربما بسبب توفر الغذاء، فالرطوبة جعلت البذور الصغيرة الناعمة منتشرة بشكل أكثر من غيرها”.

8 3

لذا فإنَّ التغيُّرَ التطوريَّ الذي لاحظه الزوجان جرانت وزملاؤهما أثناء الجفاف عام 1977م قد انعكس من جديد بسبب الأمطار الغزيرة التي هبطت عام 1983م. وكما كتب فينير: “الانتقاء إذًا قد انقلب”، وكذلك كتب بيتر جرانت عام 1991م: “فالطيور اتخذت خطوةً عملاقةً للعودة للوراء، بعد خطوتها العملاقة للأمام، فالأعداد المعرضة للانتقاء الطبيعي تتذبذب ذهابًا وإيابًا مع كل تغيُّرٍ في المناخ”. لكن وعلى الرغم من ذلك فإنَّ الانتقاء المتذبذبَ لا يستطيع إنتاجَ أي تغيير صاف نقي في عصافير داروين مهما طالت مدته.

بعض أنواع النزعات طويلة الأمد يجب أن تتراكب فوق بعضها البعض مسببةً تذبذبًا يتقدم حينًا ويتأخر إلى أنْ يحصلَ التغيير الدائم، لكن ليس هذا ما شهد عليه الزوجان وزملاؤهما. من الممكن لهذه النزعة في الحقيقة أنْ تستغرقَ أكثرَ بكثير من عقد أو اثنين لقياسها لو كانت موجودة. سيتغير المناخ في جزر جالاباغوس بالتأكيد في المستقبل وسيغير هذه الأنماط التي تشكلت، لكن كل هذه –النزعات غير المرئية والتغيرات المستقبلية– ستبقى في إطار التوقعات، وتبقى احتمالية نظرية فقط؛ وهي أنَّ الأنواع المختلفة من عصافير جالاباغوس قد نشأت عن طريق الانتقاء الطبيعي.

لم تقدمْ ملاحظاتُ الزوجين جرانت وزملائهما دليلًا مباشرًا على ذلك، بل اكتشفوا في مسار عملهم أنَّ عدة أنواع من عصافير داروين تندمج مع بعضها أكثر من كونها تتفرع وتتنوع.

الانقسام أم الاندماج

إنَّ من متطلبات نظرية داروين انقسامَ النوع الواحد إلى نوعين؛ لذا فالنقيض لها هو اندماجُ نوعين مختلفين بالتهجين لينتجا نوعًا واحدا (الشكل 8–4). إنَّ هذا النقيض –الاندماج– يَحدثُ الآن لأنواع متعددة من عصافير داروين، حيث لوحظ أنَّ نصف أنواع عصافير داروين على الأقل، والموجودة في جزر جالاباغوس، تقوم بالتهجين رغم ندرة حصوله.

لاحظ الزوجان جرانت وزملاؤهما أيضًا في السنين التي تلت إلنينو عام 1983م أنَّ عدَّةّ أنواع من العصافير على جزيرة واحدة تتزاوج لتنتج هجائن تنجح في البقاء على قيد الحياة وتتكاثر وتنتج أجيالًا ناجحة. تُمارِسُ هذه الهجائن الحياة بصورةٍ أفضل من أبويها الذين أنْتجاها في الحقيقة، حيثُ لاحظَ الزوجان جرانت: “أنَّ هذه العمليةَ إنْ لم تُمنعْ قد تُؤدِّي لاندماج الأنواع لتصبح نوعًا واحدًا”، وهذا لا يحدث بين عشية وضحاها، فعند استقراء معدلات التهجين الملاحظة قدر الزوجان جرانت أنَّ ذلك قد يستغرقُ مئةً إلى مئتي عام لنوعين كي يندمجا تمامًا. وعلى هذا، فلو استدللنا من العمليات الملحوظة في الحاضر فإنَّنا سنحصل على تنبؤين متناقضين:

– الانتقاء الطبيعي غير المقيد للمناقير الكبيرة سينتج لنا أنواعًا جديدةً في مدة من 200 إلى 2000 عام.

– التهجين الطبيعي غير المقيد يمكن أنْ ينتجَ لنا اندماج هذه الأنواع ضمن مدة تتراوح من مئة إلى مئتي عام.

8 4

بوضوح الشمس نلاحظُ أنَّ النزعة للاندماج تعدل وتكافئ تأثيرَ النزعة للانفصال، وسوف يقوم المناخ المتذبذب لجزر الجالاباغوس بإبقاء هذا التوازن قائمًا إلى ما لا نهاية، ولذا استنتج جرانت أنَّه يجب أنْ يكون هناك توازنٌ بين الانتقاء والتهجين على المدى البعيد. ووفْقًا لـ(فينير): “فإنَّ بندولَ الساعة الخفي يتأرجح بشكلٍ كبير جيئة وذهابًا في جزر داروين متذبذبًا بين هاتين المرحلتين اللتين تُجْبَرُ العصافيرُ فيهما دومًا على السير للأمام قليلًا، ثم تنجرف معًا للخلف من جديد”. لذا لن تندمج عصافير داروين ولن تنفصل بل ستتذبذب ذهابًا وإيابًا. ونظرًا لنجاحها في عملية التهجين فلا بد لنا أن ْنطرح سؤالًا: هل هذه العصافير أنواعٌ مختلفة أم أنَّها نوعٌ واحد؟

أربعة عشر نوعًا.. أم ستة أنواع!

يبدو أنَّ معظمَ هذه الأنواع الأربعة عشر من عصافير داروين، أو على الأقل ثلاثة عشر منها والتي تعيش على جزر جالاباغوس، ما تَزالُ منفصلة بسبب سلوك التزاوج لديها بشكلٍ أساسي. ولكن الدليلَ يقترحُ أنَّ هذه الطيور تختار أزواجها بناء على شكل المنقار ونمط الأنغام. إنَّ شكلَ المنقار صفةٌ وراثيَّةٌ، بينما تتعلم الطيور الصغيرة نمط النغمات من آبائها. لكن ما هو متوقعٌ لحالة التنوع الصحيح يجب أنْ يكونَ أكثرَ انفصالًا وتميزًا من مجرد شكل منقار أو حتى نغمة صوت؛ حيث نلاحظ لدى البشر توارثَ الأعراق بينما تُنقل اللغات بالتعلم –تمامًا كالعصافير–، لكن لا ريب أنَّهم نوعٌ واحدٌ حتى لو كانت مثل هذه الاختلافات تجعل التزاوج بينهم أمرًا غير شائع.

مما كتبه الزوجان جرانت في مجلة (Science) عام 1992م: “إنَّ الهجائن بين العديد من أنواع داروين عالية اللياقة، وهذا ما يستدعي سؤالًا حول تصنيفها كأنواع منفصلة”. اعترف بيتر جرانت في السنة التالية بأنَّنا إنْ عرّفنا النوع بطريقة حاسمة على أنَّه عدم القدرة على التزاوج إلا مع أبناء النوع فإننا سنحصل على نوعين فقط من عصافير داروين على جزيرة دافني بدلًا من أربع. ويتابع غرانت قائلًا: “إن مجموعات عصافير داروين الأرضية الثلاثة على جزيرة جينوفيزا ستصبح نوعًا واحدًا بنفس الأسلوب. وفي المحصلة سيصبح لدينا ستة أنواعٍ فقط من عصافير داروين بدلًا من أربعة عشر نوعًا، كما تشير دراسات أخرى إلى إمكانية خفض هذا العدد إلى أكثر من ذلك”.

بعبارة أخرى فإنَّ عصافيرَ داروين قد لا تكون أربعةَ عشر نوعًا منفصلًا، وربما هم في طريقهم ليصبحوا كذلك، لكن عندها سندرك أنَّ ميلَهُم للانقسام عبر الانتقاء الطبيعي أقوى من قدرتهم على الاندماج عبر التهجين، وهذا ما لا يظهره الدليل. قد نكون اعتدنا على اعتبار عصافير جالاباغوس أنواعًا منفصلة، لكنها الآن في طريقها ليقل تنوعها، الأمر الذي سيكون مخالفًا للتطور الدارويني؛ والذي يتنبأ بانفصال النوع الواحد إلى أنواع.

إنَّ زيادةَ متوسط حجم المناقير في أنواع متعددة من عصافير جالاباغوس بعد الجفاف الحاد وعودتها إلى طبيعتها بعد انتهاء الجفاف يُعَدُّ دليلًا مباشرًا على الانتقاء الطبيعي في البرية. ضمن هذا الفهم المحدود فقط يمكن أنْ تقدمَ هذه العصافيرُ دليلًا على نظرية داروين، وعلى الرغم من افتقاد طيور داروين للكثير من الأسس المطلوبة لكي تكون مثالًا على التطور بواسطة الانتقاء الطبيعي إلَّا أنَّ هذا لم يمنعْ أيَّ شخص من مناصري التطور من توظيف هذا الدليل على أي حال. إنَّ هذا لن يتحققَ دون المبالغة في الدليل.

المبالغة في الدليل

يعود الفضل لسنين البحث التي قضاها الزوجان جرانت وزملاؤهما، والتي جعلتنا نعرف الكثير عن الانتقاء الطبيعي وعن طرق التزاوج بين عصافير داروين، والدليل المتاح واضح:

أولا: يتذبذبُ الانتقاء الطبيعيُّ بناءً على التذبذبات المناخية، ولا يؤدي لتغيرات تطورية بعيدة المدى.

ثانيا: الهجائن عالية الكفاءة تعني أنَّ الأنواعَ المختلفةَ من عصافير جالاباغوس ربما في طريقها للاندماج لا الانقسام.

إنَّ العملَ المتميزَ والذي قام به الزوج جرانت زوَّدنا بإثبات للانتقاء الطبيعي في البرية أفضل بكثير من عث كتلويل المنقط. ولو وقف عمل جرانت عند هذا الحدِّ لاعتبر مثالًا للعمل العلمي الحقيقي. إلا أنَّهما ومن خلال عملهما أرادا إعطاء الكثير من النتائج التي تتجاوز الدليل الذي حصلا عليه. ففي المقالات المنشورة عام 1996م و1998م أوضح الزوج جرانت أنَّ النظرية الداروينية تُناسِبُ الحقائق التي يظهرها تطور عصافير داروين في جزر جالاباغوس وأنَّ القوة المحركة كانت الانتقاء الطبيعي.

رَدَّدَ هذا الادِّعاء مارك ريدلي في كتابه الجامعي (التطور Evolution) الصادر عام 1996م، حيث استقرأ ريدلي –مثلما فعل الزوج جرانت، من خلال الزيادة في حجم المناقير بعد جفاف عام 1977م– بالوقت الذي يستغرقه إنتاج أنواع جديدة قائلًا: “إنَّ هذا يوضح لنا كيف يمكن أنْ نستنتج من عملية الانتقاء الطبيعي في النوع الواحد تفسير التنوع في العصافير من سلف مشترك واحد”. ثم لخص ريدلي قائلًا: “حجة من هذا النوع شائعة في نظرية التطور”.

لكن حجة من هذا النوع ناتجة عن تضخيم للحقائق، وهذه المبالغات تبدو صفةً أساسيةً في الكثير من الدعاوى حول نظرية التطور؛ فقد كان الادّعاء بأن التغير في العث المنقط دليلٌ على الانتقاء الطبيعي رغم أنَّ العاملَ الانتقائيَّ لم يكنْ ظاهرًا، وبالمثل كان الادِّعاءَ على تذبذب الانتقاء الطبيعي دليلًا بالنسبة للتطوريين على النشأة الأولى لهذه العصافير! وكما يبدو فإنَّ بعض الداروينيين عرضة لاستنتاج دعاوى ضخمة بناء على أدلة هزيلة.

فهل تؤيد الأكاديمية الوطنية للعلوم الاستنتاجات المبنية على تضخيم الأدلَّة بهذا الشكل؟ صدر كتيب الأكاديمية عام 1999م وفيه وصف عصافير داروين بأنها “المثال الحاسم بامتياز” على أصل الأنواع، ثم استمر الكتيب في شرحه بأنَّ الزوج جرانت وزملاءهما أظهروا أنَّ سنةً واحدةً من الجفاف في الجزر يمكن أنْ تؤدي إلى تغيرات تطورية في العصافير لدرجه أنه لو حدث الجفاف مرة كل عشر سنوات على الجزيرة سيظهر لنا نوع جديد خلال مئتي عام فقط.

أهذا كل شيء! بدلًا من إرباك القارئ بذكر انعكاس الانتقاء الطبيعي بعد انتهاء موسم الجفاف منتجًا تغيرات تطورية ليست بعيدة المدى، قرر الكتيب بكل بساطة إغفال الحقيقة المحرجة. مثل الذي يروج لبيع الأسهم في البورصة وينادي بأعلى صوته مُدَّعيًا أنَّ سهمًا معينًا سوف يتضاعف خلال عشرين عام لأنَّه ازداد 5% في عام 1998م، ولكنه لم يَذْكُرْ أنَّه نقص 5% في العام التالي 1999م؛ ومن ثم فهذا الكتاب يخدع الجمهور بإخفاء جزء هام وحاسم من الدليل. وليس هذا هو البحث عن الحقيقة، وهذا ما يجعلني أتساءل عن وجود أدلة حقيقة على نظرية داروين أصلًا بدلًا من ذلك الخداع، وكما قال أستاذ القانون في جامعة بركلي والناقد لنظرية داروين (فيليب جونسون) في مقال له في مجلة (وول ستريت) عام 1999م: “عندما يضطر علماؤنا الأجلاء إلى اللجوء لهذا النوع من التشويه والتحريف للأدلة، والذي لا يفضي بمروجي أسهم البورصة إلَّا في السجن، حينها تعرف كم هم في ورطة”.

 

المراجع:

Sulloway’s quotations ate from Frank J. Sulloway, “Darwin and His Finches: The Evolution of a Legend,” Journal of the History of Biology 15 (1982), pp. 1-53; Sulloway, “Darwin and the Galapagos,” Biological Journal of the Linnean Society 21 (1984), pp. 29-59. See also Sulloway, “Darwin’s Conversion: The Beagle Voyage and Its Aftermath,”Journal of the History of Biology 15 (1982), pp. 325-396; and Sulloway, “The legend of Darwin’s finches,” letter to Nature 303 (1983), p. 372.

The first edition of Darwin’s journal mentions that “in the thirteen species of ground-finches, a nearly perfect gradation may be traced, from a beak extraordinarily thick, to one so fine, that it may be compared to that of a warbler. I very much suspect, that certain members of the series are confined to different islands; therefore, if the collection had been made on any one island, it would not have presented so perfect a gradation.” Charles Darwin, Journal of Researches into the Geology and Natural History of the various countries visited by H. M. S. Beagle, (1839), Facsimile Reprint of the First Edition (New York: Hafner Publishing, 1952), p.475. The fact that Darwin referred to “thirteen” species, the number currently recognized, is mere coincidence; his thirteen “species” are not the modern thirteen. The expanded quotation from the second edition of the journal is from Charles Darwin, Journal of Researches into the Natural History and Geology of the Countries Visited during the Voyage of H. M. S. Beagle Round the World, under the Command of Capt. Fitz-Roy, R. N, Second Edition (London: John Murray, 1845), p.380.

The finches were first called “Darwin’s” in Percy Lowe, “The Finches of the Galapagos in relation to Darwin’s Conception of Species,” Ibis 6 (1936), pp. 310-321. The name was popularized by David Lack, Darwin’s Finches (Cambridge: Cambridge University Press, 1947).

عصافير داروين كأيقونة من أيقونات التطور

Sulloway’s quotations are from Frank J. Sulloway; “Darwin and His Finches: The Evolution of a Legend,” Journal of the History of Biology 15 (1982), pp. I-53.

Textbook selections are from James L. Gould and William T. Keeton, Biological Science, Sixth Edition (New York: W. W. Norton, 1996), p. 500; Peter H. Raven and George B. Johnson, Biology, Fifth Edition (Boston: WCB/McGraw-Hill, 1999), p. 410; George B. Johnson, Biology: Visualizing Life, Annotated Teacher’s Edition (Orlando, FL: Holt, Rinehart & Winston, 1998), p. 174.

دليل على التطور!

On the genetics of finch beaks: There have been several studies on the heritability of beaks, meaning the likelihood that offspring will closely resemble their parents in this trait. Heritability of beak depth in Geospiza firth, the species most intensely studied by the Grants, is about 80 percent. Although this may point to a strong genetic (Le., DNA-encoded) component, it does not identify which genes might be involved. See Peter T. Boag, “The Heritability of External Morphology in Darwin’s Ground Finches (Ceospiza) on Isla Daphne Major, Galipagos,” Evolution 37 (1983), pp. 877-894; Peter R. Grant, Ecology and Evolution of Darwin’s Finches (Princeton: Princeton University Press, 1986), pp. 180-182; Peter T. Boag and Arie J. van Noordwijk, “Quantitative Genetics,” pp. 45-78 in E Cooke and P. A. Buckley (editors), Avian Genetics: A Population and Ecological Approach (London: Academic Press, 1987).

A 1984 genetic study of Darwin’s finches found little or no genetic difference among several species; see James L. Patton, “Genetical processes in the Galapagos;’ Biological Journal of the Lin-near’ Society 21 (1984), pp. 91-111. A 1984 study which did not identify any genes involved in determining beak morphology was T. D. Price, P. R. Grant, and P. T. Boag, “Genetic Changes in the Morphological Differentiation of Darwin’s Ground Finches,” pp. 49-66 in K. Wolsrrnann and V. Loeschcke (editors), Population Biology and Evolution Springer-Verlag, 1984). See also Peter R. Grant, Ecology and Evolution of Darwin’s Finches, pp. 177, 198-199, 281-283, 395, 399, 405-406.

On the lack of observable chromosome differences among the finches, see Nancy Jo, “Karyotypic Analysis of Darwin’s Finches,” pp. 201-217 in Robert L Bowman, Margaret Berson, and Alan E. Leviton (editors), Patterns of Evolution in Galapagos Organisms (San Francisco, CA: Pacific Division, AAAS, 1983).

There have been a number of molecular phylogenetic studies of Darwin’s finches, but molecular phylogeny must, by its very nature, rely on genes that are not subject to natural selection—otherwise mutations would not accumulate merely as a function of time and DNA sequence differences would not reflect divergence times. For some recent studies, see Kenneth Petren, B. Rosemary Grant, and Peter R. Grant, “A phylogeny of Darwin’s finches based on micnDsatelte DNA length variation,” Proceedings of the Royal Society of London B 266 (1999), pp. 321-329; Aide Sato, Cohn O’hUigin, Felipe Figueroa, Peter R. Grant, B. Rosemary Grant, Herbert Tichy, and Jan Klein, “Phylogeny of Darwin’s finches as revealed by mtDNA sequences,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA 96 (1999), pp. 5101-5106.

Peter and Rosemary Grant concluded in 1997: “The knowledge base from which to generalize about the genetics of bird speciation is precariously thin.” Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Genetics and the origin of bird species,” Proceedings of the National Academy of Sciences USA 94 (1997), pp. 7768-7775.

مناقير العصافير

For the details of this famous story see Jonathan Weiner, The Beak of the Finch (New York: Vintage Books, 1994); the quotations are from pp. 9, 112. The Grant quotation is from Peter R. Grant, “Natural Selection and Darwin’s Finches,” Scientific American 265 (October 1991), pp. 82-87. See also Peter T. Boag and Peter R. Grant, “Intense Natural Selection in a Population of Darwin’s Finches (Geospizinae) in the Galapagos,” Science 214 (1981), pp. 82-85; Peter R. Grant, Ecology and Evolution of Darwin’s Finches (Princeton: Princeton University Press, 1986).

عندما تعود الأمطار

Quotations about the reversal of selection are from H. Lisle Gibbs and Peter R. Grant, “Oscillating selection on Darwin’s finches,” Nature 327 (1987), pp. 511-513; Weiner, The Beak of the Finch, pp. 104-105, 176; Peter R. Grant, “Natural Selection and Darwin’s Finches,” Scientific American 265 (October 1991), pp. 82-87. See also Peter R. Grant, Ecology and Evolution of Darwin’s Finches, pp. 184, 375, 395; Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Predicting Microeyolutonary Responses to Directional Selection on Heritable Variation” Evolution 49 (1995), pp, 241-251.

A reversal of drought-induced selection after the rains returned was also observed in the large cactus finch on Isla Genovesa; see B. Rosemary Grant and Peter R. Grant, Evolutionary Dynamics of a Natural Population (Chicago: The University of Chicago Press, 1989).

According to paleobiologist Robert Carroll, oscillating natural selection is the rule rather than the exception. See Robert L. Carroll, “Towards a new evolutionary synthesis,” Trends in Ecology and Evolution 15 (2000), pp. 27-32: “Over the duration of most species, the intensity and direction of selection change repeatedly, either in an oscillating manner or in what appears to be a random walk… for much of the duration of the majority of species there is relatively little net change, even over hundreds of thousands of years.”

الانقسام أم الاندماج

The Grant quotations are from B. Rosemary Grant and Peter R. Grant, “Evolution of Darwin’s finches caused by a rare climatic event,” Proceedings of the Royal Society of London B 251 (1993), pp. 111-117; Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Hybridization of Bird Species,” Science 256 (1992), pp. 193-197. Weiner’s quotations are from his The Beak of the Finch, pp. 197,176. See also B. Rosemary Grant and Peter R. Grant, “High Survival of Darwin’s Finch Hybrids: Effects of Beak Morphology and Diets,” Ecology 77 (1996), pp. 500-509; B. Rosemary Grant and Peter R. Grant, “Hybridization and Speciation in Darwin’s Finches,” pp. 404-422, in Daniel J. Howard and Stewart H. Berlocher (editors), Endless Forms: Species and Speciation (New York: Oxford University Press, 1998); Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Speciation and hybridization of birds on islands,” pp. 142-162, in Peter R. Grant (editor), Evolution on Islands (Oxford: Oxford University Press, 1998).

أربعة عشر نوعًا.. أم ستة أنواع!

The Grant quotations are from Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Hybridization of Bird Species,” Science 256 (1992), pp. 193-197; Peter R. Grant, “Hybridization of Darwin’s finches on Isla Daphne Major, Galapagos,” Philosophical Transactions of the Royal Society of London B 340 (1993), pp. 127-139. See also P. Grant, Ecology and Evolution of Darwin’s Pinches, p. 206; B. Rosemary Grant and Peter R. Grant, “Hybridization and Speciation in Darwin’s Finches,” pp. 404-422, in Daniel J. Howard and Stewart H. Berlocher (editors), Endless Forms: Species and Speciation (New York: Oxford University Peen, 1998).

المبالغة في الدليل

The Grant quotations are from Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Speciation and hybridization in island birds,” Philosoph-ical Transactions of the Royal Society of London B 351 (1996), pp. 765-772; Peter R. Grant and B. Rosemary Grant, “Speciation and hybridization of birds on islands,” pp. 142-162 in Peter P.. Grant (editor), Evolution on Islands (Oxford: Oxford University Press, 1998), p. 155. The Ridley quotation is from Mark Ridley, Evolution, Second Edition (Cambridge, MA: Blackwell Science, 1996), pp. 570-571. National Academy of Sciences, Science and Creationism: A View from the National Academy of Sciences, Second Edition (Washington, DC: National Academy of Sciences Press, 1999), Chapter on “Evidence Supporting Biological Evolution,” p. 2; except for the “compelling example of speciation” hyperbole, the same story was presented in the National Academy’s booklet, Teaching About Evolution and the Nature of Science (Washington, DC: National Academy Press, 1998), Chapter 2, p. 10. The Johnson quotation is from Phillip E. Johnson, “The Church of Darwin,” The Wall Street Journal (August 16, 1999), pp. A14.

المصدر

هل يمارس أنصار التصميم الذكي العلم؟

عندما بدأ بعضنا ضمن مجتمع بحوث التصميم الذكي بتطوير ما اعتبرناه فهمًا استنتاجيًّا جديدًا لأصل وطبيعة الحياة، تعرضنا مرارًا وتكرارًا لانتقادات على أنّنا “لا نمارس العلم”، وفي الوقت الذي واجه فيه البرنامج الذي أقوده في معهد ديسكفري عام (2004 – 2005) فجأة هيجان التغطية الإعلامية المعادية، ظل الصحفيون يكررون الانتقاد نفسه، ألا وهو: “إنّ دعاة التصميم الذكي ليسوا بعلماء حقيقيين، لأنهم لا يقومون بأية تجارب بأنفسهم”، ثم طالب الصحفيون برؤية مختبراتنا، كما لو أنّ القيام بالتجارب هو النوع الوحيد من النشاط الذي يقوم به العلماء.

في ذلك الوقت، كنت أعرف أن هناك علماء في مختبرات حول العالم يدعمون نظرية التصميم الذكي، وقد قام بعضهم بإجراء التجارب لاختبار جوانب مختلفة من النظرية، وكان هذا أحيانًا بدعمنا المالي، وبجانب ذلك كنا فعلًا قد أنشأنا مختبراتنا الخاصة، رغم أنّنا قررنا إبقاءها في البداية بعيدة عن الرأي العام لحماية بعض العلماء والمشاريع الحساسة من محاولات تشويه السمعة السابقة لأوانها، وفي وقت لاحق، عندما كشفنا عن المختبر1، الـمُسمى بمعهد بيولوجيك Biologic Institute، اعترف النقاد أنفسهم أنّ علماءنا يقومون بمعالجة مسائل علمية هامة، ولكن حتى مع هذا ظل الكثيرون يحاولون وصم البحوث التجريبية في معهد بيولوجيك بكونها تنطلق من “دوافع دينية”.2 على كل حال، ونظرًا لدوري في الإشراف على أبحاث الـتصميم الذكي في معهد ديسكفري، فقد كنتُ أعلم مباشرةً أنّ هذا النقد لنظرية التصميم الذكي غير دقيق، فهناك العديد من علماء التصميم الذكي في الحقيقة يعملون في المعامل ويجرون التجارب.

ولكن كما أظهر اكتشاف واطسون وكريك، حتى لو لم يقم دعاة التصميم الذكي بإجراء التجارب في المختبرات –وأنا شخصيًّا لم أكن أفعل ذلك– فإنّ هذا لا يعني بأنّنا لا “نمارس العلم”، والقول بذلك ينمُّ عن نظرة ضيقة الأفق للعمل العلمي، قام واطسون وكريك بإجراء العديد من التجارب خلال مسيرتهما الطويلة، ولكن جاء العمل الذي اشتهروا به نتيجة بناء نماذج على أساس البيانات التي حصلوا عليها كليًّا –تقريبًا– من مصادر أخرى، أي من المجلات العلمية والعلماء الآخرين في المختبرات الأخرى.

لم تتحقّق الاكتشافات العظيمة في العلم فقط على يد العلماء التجريبيين الذين قدموا معلومات وحقائق جديدة عن واقع الطبيعة، ولكن تحققت أيضًا على يد الباحثين النظريين الذين علمونا أن نفكر بأسلوب مختلف بالأشياء التي نعرفها مُسبقًا، ويقفز إلى الذهن من الأمثلة على هذا النوع من العمل العلمي: كتاب “عن دوران الأجرام السماوية De revolutionibus orbium coelestium” لكوبرنيكوس، وكتاب “القواعد الرياضية للفلسفة الطبيعية “Principia لنيوتن، وأبحاث “السنة المعجزة annus mirabilis” التي نشرها آينشتاين عام 1905 المليء بالأبحاث المهمة التي قام بها، إذ أنه وخلال عمله كموظف في مكتب تسجيل براءات الاختراع، ودون الحصول على أية أجهزة تجريبية، أعاد آينشتاين النظر في الإطار الكامل للفيزياء الحديثة، وأزال بهذا العديد من الإشكالات التي أربكت العلماء سابقًا.2

تشارلز داروين أيضًا لم يكن له نصيب من العلم التجريبي إلا القليل، لقد أجرى بالفعل العديد من الدراسات الوصفية للبرنقيل barnacles والديدان وبعض الدراسات التجريبية حول كيفية انتشار الأنواع من خلال نثر البذور والعمليات الأخرى، ولكن رائعته “عن نشأة الأنواع بالانتقاء الطبيعي” لا تحتوي على معادلة رياضية واحدة، ولا على أي تقرير لبحوث تجريبية أصلية، لكنّه مع ذلك صاغ نظرية علمية كبيرة، وقد قام بذلك عن طريق تجميع الخطوط المتباينة من الأدلة المُشاهدة، وعرض حجةً لصالح تفسير جديد لهذه الأدلة.

بالطبع قام داروين ببعض المُلاحظات التي تدعم نظريته بنفسه، ولكنّه حتى لو لم يقم بذلك، فهذا ليس من شأنه أن ينتقص من قدر نظريته، إذ تماثل طريقة داروين بالبحث طريقة العديد من علماء التاريخ الطبيعي الآخرين الذين كانوا أشبه بالمحقق الذي يحل اللغز بجمع الأدلة وصياغة حجة على متهم، أكثر من شبههم بالعلماء التجريبيين النمطيين الذين يقومون باختبار الفرضيات تحت شروط مخبرية مراقبة بعناية.

  1. أسسه دوجلاس أكس (الحاصل على الدكتوراه في الهندسة الكيميائية من كالتيك وباحث فيما بعد الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية في جامعة كيمبردج) وأصبح يعمل مع مجموعة من الباحثين على تطوير واختبار الأدلة العلمية حول التصميم الذكي واستكشاف المقتضيات العلمية لذلك، وكذلك للقيام بالتجارب والمحاكاة الحاسوبية لاختبار المعوقات الوظيفية والبنيوية أمام التطور. (المترجم)

هناك العديد من الأبحاث التي نشرها أعضاء المعهد سواء قبل نشر كتاب توقيع في الخلية أو بعده، نذكر منها:

Reeves MA, Gauger AK, Axe DD (2014) Enzyme families—Shared evolutionary history or shared design? A study of the GABA-aminotransferase family. BIO-Complexity 2014 (4):1−16. doi:10.5048/BIO-C.2014.4.

Wells J (2014). Membrane patterns carry ontogenetic information that is specified independently of DNA. BIO-Complexity 2014 (2):1–28. doi:10.5048/BIO-C.2014.2

Ewert W, Dembski WA, Marks II RJ (2013) Active Information in Metabiology. BIO-Complexity 2013 (4):1–10. doi:10.5048/BIO-C.2013.4

Ewert W, Dembski W, Marks II RJ (2012) Climbing the Steiner tree—Sources of active information in a genetic algorithm for solving the Euclidean Steiner tree problem. BIO-Complexity 2012(1):1-14. doi:10.5048/BIO-C.2012.1

Ewert W, Dembski WA, Gauger AK, Marks II RJ (2012) Time and information in evolution. BIO-Complexity 2012 (4):1–7. doi:10.5048/BIO-C.2012.4

Leisola M, Pastinen O, Axe DD (2012) Lignin—Designed Randomness. BIO-Complexity 2012 (3):1–11. doi:10.5048/BIO-C.2012.3

Axe DD, Lu P, Flatau S (2011) A Stylus-generated artificial genome with analogy to minimal bacterial genomes. BIO-Complexity 2011(3): 1-15. doi:10.5048/BIO-C.2011.3

Gauger AK, Axe DD (2011) The evolutionary accessibility of new enzyme functions: a case study from the biotin pathway. BIO-Complexity 2011(1):1-17. doi:10.5048/BIO-C.2011.1

Axe DD (2010) The case against a Darwinian origin of protein folds. BIO-Complexity 2010(1):1-12. doi:10.5048/BIO-C.2010.1

Axe DD (2010) The limits of complex adaptation: An analysis based on a simple model of structured bacterial populations. BIO-Complexity 2010(4):1-10. doi:10.5048/BIO-C.2010.4

Gauger AK, Ebnet S, Fahey PF, Seelke R (2010) Reductive evolution can prevent populations from taking simple adaptive paths to high fitness. BIO-Complexity 2010(2):1-9. doi:10.5048/BIO-C.2010.2

Montañez G, Ewert W, Dembski WA, Marks II RJ (2010) A vivisection of the ev computer organism: Identifying sources of active information. BIO-Complexity 2010(3):1-6. doi:10.5048/BIO-C.2010.3

  1. Biever, Celeste (2006). The God Lab, NewScientist, 192(2582), 8–11.
  2. أنا لا أستشهد، بالطبع، بمثل هذا العبقري للمطالبة بمكانة مماثلة، ولكن بدلاً من ذلك لتسليط الضوء على شرعية شكل معين من البحث العلمي؛ الشكل الذي ألهمت اتباعه من خلال إعجابي بهذه الأمثلة من الجرأة والاستعداد للتفكير “خارج الصندوق” وإدراك الاحتمالات التي لم يتم أخذها في الاعتبار من قبل، حتى من قبل الآخرين الذين لديهم إمكانية للوصول إلى نفس الحقائق.

المرصد

الوراثة فوق الجينية اللاماركية الجديدة Neo-Lamarckian

يُعنى العنصر الثالث من ثالوث الداروينية الجديدة بانتقال وتوريث المعلومات الجينية. ومن غير المفاجئ أن نجد نموذجًا جديدًا من نظرية التطور يشكك في فهم الداروينية الجديدة للوراثة أيضًا.

لم يجد داروين نفسه نظرية دقيقة تفسر انتقال الخصال بين الكائنات الحية من جيل لآخر، فاعتقد بانتقال التغيرات الحاصلة أثناء حياة الكائن الحي إلى الذرية كنتيجة لمبدأ (الاستخدام والإهمال) للأعضاء المختلفة والأنظمة التشريحية من خلال التكاثر.49 في هذا الصدد، شابهت نظريته للوراثة نظرية جان بابتيست لامارك -1744 إلى 1829، أحد البيولوجيين التطوريين الأوائل- الذي اعتقد أيضًا بتوريث الصفات المكتسبة.

افتقرت الآلية اللاماركية أيضًا للأدلة الداعمة في ذلك الوقت، لكنها لعبت دورًا متنامي الأهمية في طريقة تفكير داروين، إذ أودى الانتقاد المتزايد للانتقاء الطبيعي بداروين إلى أن يُضيف المزيد من الأهمية إلى التأثير المباشر للبيئة على التغيرات التطورية. وبالفعل أكَّد داروين عند إصداره للنسخة السادسة من كتابه (أصل الأنواع) -1872- على أهمية هذه النماذج في الوراثة.50

لكن مع اكتشاف قوانين ماندل في عام 1900 وتحديد الصبغيات على أنها الكينونات المادية المسؤولة عن انتقال الوراثة، فقدت النظريات اللاماركية الأفضلية التي امتلكتها. وبعد ظهور النظرية التركيبية الداروينية الجديدة جادل معظم علماء البيولوجيا التطورية بحقيقة كون الجينات هي موضع كل التغيرات الموروثة في المتعضية. بعد عام 1953 عرّف البيولوجيون الجينة بتسلسل من الأسس النكليوتيدية المرتبة بشكل خاص ضمن جزيئة DNA، مع ذلك أدرك البيولوجيون حديثًا وجود بعض المعلومات البيولوجية (المعلومات فوق الجينية) خارج بنية DNA، وتنامى الاهتمام باحتمال تأثير تلك المصادر المعلوماتية غير الجينية على مسار التطور. جذب اكتشاف قابلية المعلومات فوق الجينية للتَغيُّر والتوريث المباشر والمستقل عن DNA الكثير من الاهتمام اللاحق، وقاد هذا الاكتشاف بدوره إلى صياغة نظرية (اللاماركية الجديدة neo-Lamarckian) المعاصرة51، التي تصورت أن التغيرات في البنية فوق الجينية للمتعضية تؤثر على الأجيال اللاحقة.

نجد من أشهر المدافعين في يومنا هذا عن اللاماركية إيفا جابلونكا Eva Jablonka من جامعة تل أبيب، وماسّيمو بيليوتشي Massimo Pigliucci من جامعة مدينة نيويورك. لم يكن لامارك يعلم شيئًا بالطبع حول الدور المهم الذي تملكه الجينات، وقد آمن بأن توريث الخصال المكتسبة كان قوة قائدة مهمة في التطور، لكن اللاماركيين الجدد يعرفون حقيقة الوراثة الجينية حق المعرفة، إلا أنهم يعتقدون بأن المصدر اللاجيني للمعلومات والبُنى ربما يلعب دورًا في تطور الشكل البيولوجي، ووفقًا لجابلونكا فإن اللاماركية الجديدة “تفتح الباب أمام الإمكانيات التطورية التي حُرمت منها بسبب نمط نظرية التطور المسمى بـ(التركيب التطوري الحديث)، الذي ينص على أن التنوعات ذات صفة عشوائية، وأنها جينية (ذات أساس نكليوتيدي)، وأن الأحداث القفزية لا تساهم على نحو مهم في التغيرات التطورية.52

قامت جابلونكا بجمع الكثير من صنوف الأدلة لدعم ما تسميه (نظام الوراثة فوق الجينية):

ففي المقام الأول يمكن توريث التغيرات المحرضة بيئيًا في السبل الاستقلابية لبعض الكائنات وحيدة الخلية -كالخمائر وجرثومة coli- إلى الجيل التالي بشكل مستقل عن أي تغيرات تصيب الـDNA الخلوي.

ثانيًا، لاحظت بالفعل مرور المعلومات البنيوية التي تعطي شكل الكائن الحي ووظائفه من الآباء إلى الذرية بشكل مستقل عن DNA عبر الأغشية والأنماط الخلوية الأخرى ثلاثية الأبعاد.

ثالثًا، ناقشت جابلونكا عملية متيلة DNA -وهي عملية يضيف فيها أنزيم خاص المجموعات الميثيلية CH3 إلى الأساس النكليوتيدي ضمن الحلزون المضاعف، ويمكن لعملية كهذه أن تغير من التنظيم الجيني وبنية الكروماتين-، وقد ذكرت جابلونكا أن التغييرات المدخلة من خلال العمليات المعدلة للتنظيم الجيني غالبًا ما تنتقل إلى الأجيال التالية من الخلية دون أي تغيير في تسلسل أسس DNA.

أخيرًا، استشهدت جابلونكا بعملية تُدعى الوراثة فوق الجينية -بوساطة RNA- وهي ظاهرة مكتشفة حديثًا، هنا تعمل جزيئات RNA الصغيرة مجددًا في تناغم مع أنزيمات خاصة، لتؤثر على التعبير الجيني والبنية الكروماتينية، ويبدو أن تلك التعديلات تورَّث بشكل مستقل عن الجينات.

فهل يمكن لأي من تلك الآليات أن تساعد في شرح أصل الأشكال الحيوانية في الانفجار الكامبري؟ على ما يبدو: لا.

يتطلب التطور الكبروي في جوهره تغيرات ثابتة -أي موروثة دائمًا-، لكن ما تظهره أدلة جابلونكا أنه أينما حصلت الوراثة اللاجينية في الحيوانات فستشمل بُنى إما أنها:

غير متغيرة، كأنماط الغشاء والقوالب المستدامة من المعلومات البنيوية.

لا تستمر عبر العديد من الأجيال.

ولا يتولد في أي من الحالتين إبداع تطوري مهم في الأشكال الحيوانية، بل بدلًا من ذلك يجب لكي يحصل التغير التطوري باتجاه معين في جمهرات المتعضيات ألا تكون تلك التغيرات قابلة للتوريث وحسب، بل ودائمة، فالاستقرار -أي وراثة الخصال بشكل ثابت وغير معكوس- ضرورة حتمية لا مفر منها لأية نظرية تطورية. هذا بالضبط هو ما يعنيه (النشوء والارتقاء).

إن أدلة جابلونكا حول ثبات الوراثة اللاجينية هنا غامضة على أفضل تقدير، على حسب اعترافها المباشر، ولا تكشف مراجعة البيانات التي جمعتها جابلونكا من الحيوانات عن أي حالة تكون فيها التغيرات فوق الجينية ثابتة دومًا في أي جمهرة، فالانتقال الوراثي لتلك التغيرات عابر ويستمر فقط -بالاعتماد على النوع الذي نحقق فيه- من بضعة أجيال وحتى أربعين جيلًا. بصراحة تذكر جابلونكا هذا النقص في الأدلة حول الاستقرار قائلة: “نؤمن بإمكانية توريث الاختلافات فوق الجينية في كل موقع من جينومات حقيقيات النوى، لكننا لم نحدد بعد السبيل إلى ذلك، ولأي مدة وتحت أي ظروف”.53 بالتالي، بغض النظر عن النواحي الشاذة، تبقى الأهمية التطورية للوراثة فوق الجينية اللاماركية الجديدة موضع شك، أو وفقًا لكلمات جابلونكا “تخيلية بشكل لا مفر منه إلى حد ما”.54

(49) Darwin, On the Origin of Species, 134–38.

سميت نظرية داروين في الوراثة نظرية “شمولية التخلق pangenesis”، وقد افترضت هذه النظرية أن جمعًا من الجسيمات الوراثية الدقيقة (والتي سماها بريعمات gemmules) تتراكم في الأعضاء التناسلية للمتعضيات، حاملة المعلومات حول تاريخ حياة الأب وبيئته والظروف التي مر بها. ومن ثم ستنتقل تلك المعلومات عند التكاثر إلى الذرية، سامحة بتوريث الخصال المكتسبة.

(50) Darwin. The Illustrated Origin of Species (6th edition), 95.

كتب داروين يقول: أعتقد أنه لا مجال للشك بأن استخدام أجزاء محددة في الحيوانات المدجنة قد عززها وضخمها، وأن إهمالها يزيل بعضها، وتعديلات كتلك تكون موروثة”.

(51) يوجد بعض الأسئلة حول المضبوطية التاريخية لتسمية الأفكار الناشئة في القرن الواحد والعشرين بـ “اللاماركية الجديدة” في ضوء المضمون الحقيقي لرؤية Jean-Baptiste de Lamarck بالمقارنة مع النمو المعرفي الهائل في الوارثة على مر القرنين الماضيين. ونظرًا لتبني Jablonka لمصطلح “اللاماركية” لموقفها الحالي، فقد تبعتها في تلك الممارسة، مع ما تنضوي عليه من محاذير حول الاختلاف في المضمون المذكور.

(52) Jablonka and Raz, “Transgenerational Epigenetic Inheritance,” 168.

(53) Jablonka and Raz, “Transgenerational Epigenetic Inheritance,” 138, emphasis added

(54) Jablonka and Raz, “Transgenerational Epigenetic Inheritance,”162

المصدر

ما الفرق بين العلم والعلم الزومبي!

كيف يمكننا أن نعرف إذا كان أحد الأشياء التي نسمع فيها “العلم يقول” حقيقة أم لا؟ في النهاية، سيكون عليك أن تدرك الحقيقة بنفسك. هذا لا يعني أنه لا توجد حقيقة موضوعية وأن كل شيء ذاتي. ولكن الناس في بعض الأحيان –حتى اللطفاء منهم والأذكياء– يربطون أنفسهم بأفكار تبدو منطقية لكنها تشوه الحقيقة الموضوعية. حينما يأتي الأمر للعلم، سيقال لك شيئا واحدا من مؤسساتنا العلمية والتعليمية التي تتمتع بالثراء البالغ والسلطة الهائلة، وكذلك من وسائل الإعلام الرئيسية التي تعمل كأبواق لهم. ولكنك ربما تتعلم شيء آخر تماما إذا نظرت إلى الأدلة نفسها؛ تلك هي الحقيقة الموضوعية.

وقبل أن نمضي قدما، دعونا ننظر في بعض الطرق التي يستعمل الناس فيها كلمة “العلم”.

ما هو العلم؟

العديد من الناس يميلون لاحترام العلم والثقة في أحكامه. ولكن العلم قد يعني أشياء مختلفة. فمن ناحية، العلم هو عملية البحث عن الحقيقة من خلال صياغة فرضيات واختبارها بمقابلتها بالأدلة. إذا اختبرت الفرضية مرارا ووجدناها في توافق مع الأدلة، ربما نميل مؤقتا لاعتبارها حقيقة. وإذا وجدناها مرارا في عدم توافق مع الأدلة، فيجب أن نتراجع عنها أو نرفضها لكونها خاطئة. نسمي هذه العملية بالعلم التجريبي. عند مستوى معين جميعنا علماء بهذا المعنى، لأنه في حياتنا اليومية نحن نقارن بين أفكارنا وخبراتنا ونراجعها إن اقتضى الأمر، وغالبا بدون تردد.

ومن ناحية أخرى، يرى الناس العلم على أنه التطورات الحديثة في الطب والتكنولوجيا التي أثرت حياتنا. تلك التطورات نشأت من إبداع الإنسان وتصميمه، ولكن تطبيقاتها العملية تتضمن اختبارها من خلال مقابلتها بالأدلة لنرى إن كانت ستعمل. إذن، التطورات في الطب والتكنولوجيا لها جانب تجريبي كما لها جانب إبداعي. دعنا نسمى ذلك بالعلوم التكنولوجية.

 ومن ناحية ثالثة، يشير العلم إلى المؤسسة العلمية، والتي تتكون من أشخاص مدربين وموظفين لإجراء الأبحاث في المجالات المختلفة. دعنا نسمى ذلك بعلم المؤسسات، أو فقط العلم. غالبية آراء هذه المجموعة يشار إليها أحيانا بـ”الإجماع العلمي”، وهذا الذي يعبر عنه في بعض الأوقات بـ”كل العلماء يتفقون…” (بالرغم من أن بعضهم عادة لا يتفق)، أو بـ”العلم يقول…”.

على مدار التاريخ، غالبا ما تم إثبات أن الإجماع العلمي غير جدير بالثقة. في عام 1500، انعقد الإجماع العلمي على أن الشمس تدور حول الأرض، الرأي الذي هدمه نيكولاس كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي. وفي عام 1750، انعقد الإجماع على أن بعض الكائنات الحية (كالديدان) تنشأ من خلال التولد الذاتي، الرأي الذي هدمه فرانشيسكو ريدي ولويس باستور. وهناك العديد من هذه الأمثلة في تاريخ العلم.

ومن ناحية رابعة، يعرّف بعض الناس العلم على أنه عملية تقديم تفسيرات طبيعانية لكل شيء، أي؛ تفسير كل الظواهر من ناحية الأشياء المادية والقوى الفيزيائية الموجودة بينها. هذا يسمى أحيانا بـ”المنهجية الطبيعانية”، الفكرة التي ترى أن العلم محصور في التفسيرات المادية، لأن تكرار التجارب يمكن أن يجرى فقط على الأشياء المادية والقوى الفيزيائية.

من حيث المبدأ، المنهجية الطبيعانية ليست ادعاء حول الواقع، ولكن تقييد للمنهج. هي لا تلغي وجود المجالات غير المادية. ولكن عمليا، العديد من العلماء يفترضون أنهم إذا قاموا بالبحث لفترة كافية، سيجدون تفسيرًا ماديًا لأي شيء يفحصونه.

هذا الافتراض بأن هناك تفسيرات مادية لكل شيء ليس متعلق فقط بالمنهج، ولكنه معادل للفلسفة المادية التي تعتبر أن الأشياء المادية والقوى الفيزيائية هي الحقائق الوحيدة. أما العقل، والإرادة الحرة، والروح، والإله، فتعتبر أوهام. التصميم الذكي، الفكرة التي ترى أن بعض خصائص العالم هي نتاج سبب ذكي وليس عمليات طبيعية غير موجهة، هي أيضا تعتبر وهم.

ليس كل العلماء اليوم ماديين، والحق أن العلم الحديث بدأ أساسا على يد مسيحيين[*] أوروبيين مؤمنين بالإله. وبالرغم من ذلك، العلم اليوم يحكم بواسطة الفلسفة المادية. الأولوية تعطى لتقديم والدفاع عن التفسيرات المادية بدلا من اتباع الأدلة إلى حيث تقود. هذه الفلسفة المادية التي تتنكر في صورة العلم التجريبي، أنا أسميها العلم الزومبي.

أنا لا أسمي العلماء (أو أي أشخاص حقيقيين غيرهم) زومبي. ولكن حينما يصر الناس على الدفاع عن التفسيرات المادية بعدما يتم توضيح كونها غير متوافقة مع الأدلة، وهي بالتالي ميتة تجريبيا، فهم يمارسون العلم الزومبي.

ونحن نجد أكثر عروض العلم الزومبي الملفتة للنظر في البيولوجيا التطورية.

[*] يشير المؤلف بالطبع إلى فترة نيوتن وكيبلر وجاليليو وغيرهم، لكن لا شك أن في المسألة خلاف تاريخي بين المسلمين والمسيحيين حول متى ظهرت الممارسة العلمية. لكن سواء كانوا مسلمون أو مسيحيون، فهذا لا ينقض دعوى كونهم مؤمنين بالإله ورافضين للفلسفة المادية.

المصدر

لماذا لا تستطيع الحفريات التدليل على وجود علاقة أسلاف بأبناء؟

وفقا للبيولوجي البريطاني (رونالد جينر Ronald Jenner)، بدون سجل حفري جيد هناك “مجال ضئيل للاختيار للجوء إلى تخيلاتنا العلمية –بشكل أو بآخر– لإنتاج المرويات التاريخية والتي هي الهدف النهائي لدراساتنا لتطور الحيوانات”. في الواقع ” تخيلاتنا هي الوسيلة الوحيدة لإصلاح كسور الأدلة وتحويلها إلى مروية تاريخية سلسة توصل بين ماذا وكيف ولماذا” التطور.(17)

الموقف بالنسبة للتطوريين أسوء من ذلك فعلا. حتى لو كان لدينا سجل حفري جيد، فسيظل لزاما علينا استعمال خيالنا لإنتاج مرويات عن علاقات الأسلاف بالأبناء.

إليك السبب. إذا وجدت جمجمتين بشريتين مدفونتين في حقل، كيف يمكنك أن تعرف من منهما كان سلفا للآخر؟ بدون علامات محددة وسجلات مكتوبة، أو ربما في بعض الحالات حمض نووي DNA، سيكون من المستحيل التوصل لذلك. ربما تكون تتعامل مع جمجمتين من نفس النوع الحي الحديث. أو مع اثنين مختلفين لنوع منقرض قديم –غالبا ما تكون بعيدة كل البعد في الزمان والمكان–، قد لا تكون هناك وسيلة لإثبات علاقات الأسلاف بالأبناء.

كتب عالم الحفريات في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي (جاريث نيلسون Gareth Nelson) منذ عقود “فكرة أن الشخص بإمكانه أن يذهب إلى سجل الحفريات وأن يتوقع أن يستعيد تجريبيا تسلسل الانحدار من الأسلاف، سواء كانت أنواعا أو أجناسا أو عائلات أو أيا ما كان، كانت، وما زالت، وهمًا مهلكا”.(18) وفي عام 1999، كتب (هينري جي Henry Gee) محرر مجلة (نيتشر Nature) أن “من المستحيل عمليا أن نربط الحفريات بسلاسل من الأسباب والنتائج بأي طريقة صالحة”. وتوصل إلى: “أن تأخذ خطا من الحفريات وتدعي أنه يمثل سلالة، ليس فرضية علمية يمكن اختبارها، ولكن إقرار ينطوي على نفس صلاحية قصة ما قبل النوم؛ مسلٍ، بل ومفيد ربما، لكنه غير علمي”.(19) جي (مثل إروين وفالنتاين) يؤمن بالتطور، ولكن إيمانه (مثلهم) غير مبني على الأدلة الحفرية كما هو واضح.

أشجار تطور السلالات

بالرغم من حقيقة أن علاقات الأسلاف بالأبناء لا يمكن استعادتها تجريبيا من الحفريات، الأوراق العلمية في مجال البيولوجيا الحديثة مليئة بالأشجار التطورية –المسماة بأشجار “تطور السلالات”– التي من المفترض أنها تظهر مثل هذه العلاقات. الأشجار عادة ما تلازمها قصص عن كيف تطورت الكائنات السابقة إلى اللاحقة. لكن أشجار تطور السلالات لا تحتاج إلى الأسلاف. في الحقيقة، هي لا تحتاج حتى إلى الكائنات.

في عام 2013، أنتجت مجموعة تعليم علوم خطة لتعليم طلبة الكليات والمدارس الثانوية كيفية تشكيل شجرة تطور سلالات بالأربطة المعدنية أو المكرونة أو الكعك. وبالرغم من أن المواد غير طبيعية، لكن “المشاكل التي قابلوها والأسئلة التي طرحت مشابهة لتلك الموجهة من علماء الحفريات عند استعمال قطع الحفريات”.(20)

المبدأ الإرشادي الأول هو أن “الكائنات التي تشبه بعضها بطرق متعددة هم على الأرجح أكثر قرابة ببعضهم من الكائنات التي بينها القليل من الشبه. هذا هو، كلما كان التشابه أكبر في البنية (كلما كانت الخصائص شائعة)، كلما كانت العلاقة المحتملة بين شكلين أقرب”. تم إرشاد الطلاب إلى “اختيار الشكل الأصغر والأبسط كالسلف المشترك المحتمل للمجموعة، ومن ثم محاولة ترتيب الأشكال الأخرى كفروع للشجرة من منحدرة من السلف”.(21)

من الواضح طبعا أنه لا شيء من بين تلك الأشكال يتطلب أو يتضمن سلف مشترك. وفي الحقيقة، نحن جميعا نعلم أن الأربطة المعدنية أو المكرونة أو الكعك هي نتاج تصميم ذكي. إذن ما لدينا هو مجرد تدريب على اختيار الصفات لمقارنتها والتوصل إلى العلاقة بينها. ولكن “العلاقة” غامضة. فمن ناحية قد تشير إلى سلسلة النسب، كأن نقول إن “تشارلز داروين أقرب صلة لإرازموس داروين (جده) من قرابة أي منهما بجيرونيمو (محارب قبيلة أباتشي)”. ومن ناحية أخرى قد تشير إلى التشابه، كأن نقول “الحديد أقرب صلة للألمونيوم من صلة أي منهما بزهور النرجس البري”. في حالة حفريات الأنواع، العلاقات غير معروفة في المقام الأول، إذن أشجار تطور السلالات يتم تكوينها باستعمال العلاقات بالمعنى السابق. لكن العديد من التطوريين يراوغون بعد ذلك، مقترحين أنهم أثبتوا العلاقات بمعنى سلسلة النسب.

  1. Ronald A. Jenner, “Macroevolution of animal body plans: Is there science after the tree?” BioScience 64 (2014): 653–664. doi:10.1093/biosci/biu099.
  2. Gareth Nelson, “Presentation to the American Museum of Natural History” (1969), in David M. Williams and Malte C. Ebach, “The reform of palaeontology and the rise of biogeography,” Journal of Biogeography 31 (2004): 685–712. doi:10.1111/j.1365-2699.2004.01063.x.
  3. Henry Gee, In Search of Deep Time: Beyond the Fossil Record to a New History of Life (New York: The Free Press, 1999), 32, 113–117.
  4. John Barker and Judith Philip, “Phylogenetics of man-made objects: Simulating evolution in the classroom,” Science in School 27 (2013): 26–31. http://www.sciencein-school.org/2013/issue27/phylogenetics.
  5. Ibid.

المصدر

هل ظهر التصميم الذكي كبديل عن الخلقوية بعد قضية إدواردز؟

لا يمكن دحض حقيقة أن النقاشات الموضوعية حول قضية الذكاء في نشأة الحياة البيولوجية، قد شغلت مكانا لدى علماء على مستوى عال من الكفاءة خلال النصف الأول من الثمانينات، أي قبل الحكم في قضية إدواردز. والتأكد من هذا التاريخ، صار متاحا اليوم للجميع. العديد من البحوث العلمية المستمرة في العلم التاريخي خلال الثمانينات، كان ما يقلقها هو كيفية مواجهة التحديات الفريدة من نوعها لنظرية المعرفة من الناحية التجريبية بطريقة شرعية، وحتى تحظى بتأييد قوي بين صفوف المتخصصين في العلم التاريخي. منذ عام 1980 وحتى عام 1989، ظهر الحس القيادي والمعرفي لـثاكستون بشكل فريد في النقاشات الحادة التي تغذي هذه الأسئلة، وتبحث عن مصطلحات دقيقة للعلم الذي يتضمنه هذا المشروع (مستند 2).

مستند (2)

سجل الترتيب الزمني للاجتماعات والمنشورات الخاصة بالتصميم الذكي في الثمانينات

يشمل ذلك المحاضرات للمنظمات الاحترافية والمقابلات الجامعية مع العلماء والفلاسفة واللاهوتيين ومؤرخي العلوم ومتخصصي أبحاث نشأة الحياة.

Theism, Naturalism, and the Origin of Life

To Be Published. A paper delivered by Charles Thaxton at “Jesus Christ: God And Man,” an international Conference in Dallas, Texas, March 9, 1983, © 1983, Konos Connection.

“Summary and Conclusion” and “Epilogue” in The Mystery of Life’s Origin

(1984, NY: Philosophical Library) © 1984, Konos Connection.

DNA, Design, and the Origin of Life

To Be Published. An essay delivered by Charles Thaxton at an international Conference in Dallas, Texas, November 12-16, 1986. Konos Connection.

Origin Science: New Rules, New Tools for the Evolution Debate

To Be Published. a paper by Charles Thaxton first circulated at the annual meeting of the american Scientific affiliation, August 8-11, 1986, Houghton College. Konos Connection.

In Pursuit of Intelligent Causes: Some Historical Background

To Be Published. a paper delivered by Charles Thaxton at “Sources of information Content in DNA, an interdisciplinary Conference” in Tacoma, WA, June 23-26, 1988, Konos Connection.

لقد أثار من جديد، واحدا من المواضيع المركزية لكتاب اللغز؛ كيف يمكننا معرفة سبب حدث وقع في الماضي، إذا لم يتكرر في الحاضر ولم يتم رصده في الماضي؟ هذا هو الإشكال الذي واجهه المحققون في البحث عن إخضاع الأحداث الفريدة الماضية غير المتكررة –مثل التفاعلات الكيميائية في كوكب الأرض البدائي– للاختبار العلمي. هذا لا يعني أن تجارب المحاكاة قبل الأحيائية Prebiotic Simulation –كتجربة (يوري–ميلر) التي أجراها ستانلي ميلر في الخمسينات– لا قيمة لها. ولكن، كي نكون دقيقين، تلك التجارب لا يمكنها تخطئة النظريات غير الصحيحة.

هذا السؤال الحاسم؛ الدراسة العلمية لأحداث ماضية لم يتم رصدها، والاستنتاجات الحذرة التي يمكن استخلاصها، مع آثارها على تاريخ الحياة ككل، هو ما يلخص مهمة ثاكستون البحثية خلال الثمانينات. لقد بدأ باستعمال المصطلح –كحل مؤقت– الذي اقترحه في خاتمة كتاب اللغز كفرع علمي؛ علم النشأة Origin Science. ثم عاد في النهاية لاستعمال المصطلح الأقدم، والذي كان قيد الاستعمال بالفعل؛ العلم التاريخي، بما فيه من نقص، حيث لم يعد معيار التخطئة التجريبية لأحداث فريدة وغير مشاهدة حدثت في الماضي أداة من أدوات العلم. عوضا عن ذلك، أصبح على المحقق استخدام القياس، فإذا كان قياسا مقنعا موافقا للقناعات الراسخة، فيمكن وقتها استعمال القناعة الراسخة كبديل لمعيار التخطئة المطلق (تركيزنا على عمل ثاكستون هنا، لا نقصد به الحط من شأن العشرات من العقول المتميزة الأخرى، والتي قدمت مساهمات مهمة في هذا الإطار).

في عام 1986، قام ثاكستون بتطوير ورقة بحثية بعنوان (علم النشأة: قواعد جديدة، وأدوات جديدة لمناظرة التطور) للتداول خلال اللقاء السنوي لرابطة العلماء الأمريكيين American Scientific Affiliation في كلية هاوتن في نيويورك (انظر الجدول الزمني في مستند 3). وقد قدمت الورقة مقاربة دقيقة ومتزنة ومنضبطة لنشأة الحياة:

“مع البيانات الجديدة التي وفرتها البيولوجيا الجزيئية، يمكننا أن نجادل الآن لصالح وجود سبب ذكي وراء نشأة الحياة؛ عن طريق قياس شفرة الدنا DNA على اللغة مكتوبة. لاحظ أني لم أقل إنه يمكننا الاحتجاج على الخلق الإلهي للحياة. كثير من الخلقويين يرتكبون خطأ القفز من الحدث الواقع قيد الدراسة، إلى إله الكتاب المقدس مباشرة. انطلاقا من المعطيات العلمية وحدها، يمكننا فقط استنتاج أن التفسير المعقول للحدث هو وجود سبب جوهري. لا يمكننا تعريف ذلك السبب بأبلغ من هذا، لا يمكننا الحسم ما إذا كان؛ ساميا أو باطنيا، إله الكتاب المقدس أو كائن ذكي آخر. لا يمكنني النظر إلى جزيء الدنا والقول إن الإله هو من صنع هذا. ما يمكنني قوله فقط، أنه نظرا لبنية جزيء الدنا، فإنه من المعقول جدًا أن نستنتج أنه صنع من قبل عامل ذكي. ربما يمكننا تعريف ذلك العامل بشكل أكبر اعتمادا على حجج أخرى؛ فلسفية أو لاهوتية، ولكن بالمعطيات العلمية وحدها، لا يمكننا سوى استنتاج وجود السبب الجوهري فقط”.(17)

لاحظ أنه استعمل عددا من المصطلحات نحو؛ سبب ذكي، سبب جوهري، كائن ذكي، عامل ذكي. ودعنا نتذكر الترتيب الزمني في رواية القاضي چونز للأحداث، هذا الترتيب الزمني هو المحور الأساس الذي لا غنى عنه في تأكيده على أن مصطلح علم الخلق استبدل بمصطلح التصميم الذكي “بعد قرار المحكمة العليا الهام في قضية إدواردز”(18)، ولاحظ أن ورقة ثاكستون التي ظهرت فيها هذه الفقرة أُلقيت في عام 1986، أي ليس في العام التالي لمحاكمة إدواردز، بل في العام السابق لها. إذن، حوالي عشرين عام قبل دوڤر وعام قبل إدواردز، كان المحرر الأكاديمي لكتاب الباندا والشخصية التوجيهية في خطها الحجاجي، والتعبيري، والكتابي، يوضح تصوره حول أن التصميم في الطبيعة كان حقيقيا، لكن ذلك لم يستتبع بالضرورة القول بالخلقوية أو علم الخلق.

في تحليلهم لحكم القاضي، قام مؤلفو كتاب (التسكع داخل التطور Traipsing into Evolution) بالإخبار عن وثيقة مسجلة في المحكمة ولاحظوا “أن مسودة سابقة لقضية إدواردز ضد آجيولارد تعود لبداية عام 1987، تؤكد على أن (نماذج المعلومات القابلة للملاحظة، لا يمكننا القول من خلالها ما إذا كان الذكاء الذي وراءها طبيعيا أو خارقا للطبيعة، فذاك سؤال لا يستطع العلم الإجابة عليه)”.(19)

وبالتالي، فالمزاعم عن تغييرات متسرعة قيل إنها وقعت في مسودات الباندا في أعقاب قضية إدواردز تسقط بالكلية، ويتضح أنها لا تقوم على شيء، كما يؤكد الجدول الزمني (مستند 3).

RT JM 003

لنذهب لأبعد من ذلك مع ما وصفه القاضي بالدليل القاطع، ما الذي يمكن إنجازه عبر تغيير عبارة مركزية في الكتاب –مضمونها وكنهها– مع تركها في موضعها؟ ألن يأخذ تحويل سريع لكتاب يرتكز على علم الخلق أكثر من مجرد نثر لكلمات مثل التصميم الذكي أو العامل الذكي بوساطة معالج للنصوص؟ حاول أن تمرر عبارات مثل: (سمكة الدكتور سوس، سمكتيه، سمكته الحمراء، سمكته الزرقاء)، داخل كتاب مدرسي في حساب المثلثات، عن طريق أن تضيف لهم فقط: (جا sin، جتا cosine، ظا tangent). مهما كانت عدد المرات التي ستستخدمها فيها، النتيجة ستكون حتما انتشار تنافر لا يمكن التغلب عليه. بالطبع لا، شيئا آخر سيكون مطلوبا، شيئا جديدا بالكلية، وليس مجرد تغييرات دلالية (نعترف بأن التشبيه فيه مبالغة، ويتجاوز قصدنا ولكن قمنا بإدراجه لكي نلفت الأنظار إلى استحالة تحويل مفهوم ما إلى آخر يختلف عنه جذريا، وتحديدا في جوهره المعرِّف، بمجرد نثر بعض الكلمات).

خلافا لما قرره القاضي چونز من أن الباندا كان في الأصل يروج للخلقوية، تتفق المؤسسة في الواقع مع الأحكام القضائية السابقة التي ضد تدريس الخلقوية الفعلية في المدارس. مثلا؛ خلال فترة الاستئناف الثلاثين يوما، التي تلت حكم محكمة المقاطعة ضد تدريس الخلقوية في قضية (مَكلين ضد آركانساس McLean v. Arkansas)، قمت أنا وتشارلز ثاكستون بملاقاة المحامي العام لولاية آركانساس (ستيف كلارك Steve Clark ) في مكتبه في مدينة ليتل روك، لحثه على عدم استئناف الحكم. كان هذا ببساطة بسبب أن المؤسسة تقر بأن علم الخلق يعزز وجهة نظر دينية لا تلائم المدارس العامة، وأن قرارات المحاكم في المستقبل ستوافق بلا أدنى شك على أنه من غير القانوني الدفاع عنها في المدارس العامة.

(17) Charles B. Thaxton, Origin Science: New Rules, New Tools for the Origins Debate (a paper circulated at the annual meeting of the American Scientific affiliation, Houghton College, Houghton, NY, Aug. 8-11, 1986. To be published).

(18) Kitzmiller v. Dover, 400 f.Supp.2d 707, 722 (M.D. Pa. 2005).

(19) David DeWolf, John West, Casey Luskin, and Jonathan Witt, Traipsing Into Evolution (Seattle: Discovery Institute, 2006), 22-23.

المصدر

سلف الحوت البرمائي المتخيل يعود لساحة الأوراق العلمية مجددًا

منذ عدة أيام ظهرت ورقة لمجموعة من الباحثين في مجلة Current Biology بعنوان (حوت برمائي من العصر الأيوسيني الأوسط في بيرو يكشف عن انتشار مبكر في جنوب المحيط الهادئ للحوتيات الرباعية الأرجل).(1)

وكالعادة طبعا، تطاير بها أنصار التطور فرحا، مهللين قولتهم منثلمة الصيت؛ دليل جديد يثبت أن التطور حقيقة. ولكن عفوا؛ ما هو الجديد هنا؟ أليس سلف الحوت الخيالي الذي كان يمشي على أربع أرجل موجود في السجال التطوري منذ الثمانينات!

المهم، التطور حقيقة طبعا كما نعرف جميعا، والعظام التي في الصورة على اليسار -وهي ما تم اكتشافه بالفعل-، تثبت أن الكائن المتخيل في الصورة الملونة الجميلة هو أحد أسلاف الحوت الحالي (وطبعا ذلك على سبيل السخرية إن لم يكن واضحا).

ZS QCA

على أية حال، مضطرين أن نقطع فرحتهم تلك، وأن نشرح لهم أن الموضوع ليس بهذه البساطة إطلاقا. سنكمل مع عرض رائع للمتطلبات البيولوجية لانتقال من الحياة الكاملة على الأرض إلى الحياة الكاملة في الماء، من كتاب (العلم الزومبي) لدكتور جوناثان ويلز (أستاذ البيولوجيا الجزيئية والخلوية).

ما المطلوب لابتكار حوت؟

حفريات الحيتان المائية بالكامل مثل الدوردون والباسيلوسورس ظهرت في فترة جيولوجية معروفة بـ(الإيوسين Eocene)، في صخور حسب الجيولوجيون أن تاريخها يرجع إلى 40 مليون سنة. الماياسيتوس والكوتشسيتوس والرودهسيتوس وجدوا في صخور الإيوسين التي يعود تاريخها إلى ما بين 2 – 8 مليون سنة قبل ذلك. إذن بناء على الدليل الحفري، الانتقال من حيوان ثديي أرضي إلى حيوان ثديي مائي بالكامل في 8 مليون سنة أو أقل.

ما التغييرات التي يجب أن يمر بها حيوان ثديي في الثمانية ملايين عام لتنقله من ثديي أرضي أو برمائي إلى ذلك الذي يقضي حياته كلها في الماء؟ عدد غير قليل. العديد من صفات الحيتانيات تختلف بشكل بالغ عن صفات الثدييات الأرضية. ما يلي هو فقط عينة صغيرة منها.

الخصائص المطلوبة للسباحة:

الحوت يدفع نفسه عبر الماء أساسا عن طريق حركات النتوءات الكبيرة –المسماة بـ”المثقوبات flukes”– التي في نهاية ذيله لأعلى وأسفل. وباستثناء فقرات الزيل الممتدة حتى منتصفه، المثقوبات لا توجد بها عظام؛ هي تتكون من أنسجة ضامة ليفية fibrous connective tissue. مع ذلك مثقوبات الحيتان ليست زعانف سلبية مثل تلك التي يستعملها البشر في الغطس. ولكن حركاتها متناسقة بنظام معقد من الأوتار الطويلة القوية التي توصلهم بالعضلات المحددة في الذيل.

في الحوت الأزرق في الصورة 5-1، يبدأ الذيل بين الزعنفة الظهرية الصغيرة والمثقوبات. الذيل يمكن أن ينحني لأعلى وأسفل نسبيا مع الجسم، لكن المثقوبات يمكن أن تتحرك بشكل مستقل عن الذيل. وفقا لكتاب (إيفرهارد سليجبر Everhard Slijper) الكلاسيكي عن الحيتانيات، المثقوبات “يمكن أن يتم تحريكها إلى الأجزاء الأخرى، إذن حقيقة أن –أثناء الحركة– المثقوبات تصنع زاوية مع بقية الذيل ليست نتيجة للاستجابة السلبية لضغط الماء، كما هو الأمر في الأسماك، لكن نتيجة للجهد العضلي الإيجابي”. في العقد الثامن من القرن التاسع عشر (1880) كان علماء التشريح يعرفون بالفعل “مدى التعقيد ومدى الإبداع الموجود بالفعل في بنية تلك الأعضاء”.(2)

شكل المثقوبات شبيه بأجنحة الطائرات، بحافة أمامية دائرية تتناقص بشكل مطرد حتى تصل للحافة الأخرى. البيولوجيون الذين حللوا المثقوبات في 2007 أعلنوا أن “نصف قطر الحافة الأمامية الكبيرة نسبيا يسمح بتوليد قوة رفع أكبر وتؤخر التوقف”. في الحقيقة، أظهرت الحسابات أن “توليد قوة الرفع في المثقوبات يصلح مقارنتها بشكل عام بالأجنحة المصنعة، وربما تكون أفضل منها”.(3)

الحيتانات لديها أيضا زعانف ظهرية، والتي تقوم بحمايتها من الانزلاق. ومثل المثقوبات، الزعانف الظهرية هي من بين الخصائص التي تميز الحيتانيات عن الثدييات الأرضية والبرمائية.

الخصائص المطلوبة للتنفس:

يتنفس الحوت عن طريق الثقوب التي في أعلى رأسه، والتي تسمى “بالثقوب الانفجارية blowholes” لأنه حينما يظهر الحيوان على السطح يقوم بنفخ هواء مثقول بالرطوبة منهم. كل الحيتانيات الحية لديها ثقوب انفجارية في أعلى رؤوسها، لكن في حوت العنبر موقع الثقوب الانفجارية أبعد إلى الأمام مما في الحيتان الأخرى.

إذن بالنسبة لحيوان أرضي لكي يتطور إلى حوت، يجب أن يتغير مكان الثقوب فيه وتنتقل إلى أعلى الرأس.

الثقب الانفجاري محاط بـ”شفاه” سميكة مكونة من أنسجة مطاطة للغاية. وفقا لسليچبر، هذه الأنسجة “عادة تحتفظ بالثقف مغلقا بالمط حتى حينما يكون الحوت على السطح. لفتحها أثناء التنفس، لدى الحوت عضلات عديدة تمتد من الشفاه إلى أسفل الجمجمة. من الواضح أن طرقة غلق الثقب هذه هي أكثر فاعلية بكثير” في الحفاظ على الماء بالخارج، من الطريقة الموجودة في الفقمات وأسود البحر والثدييات الأرضية، والتي فتحة الأنف فيها عادة ما تكون مفتوحة ويجب أن تغلق تحت الماء بانكماش إيجابي للعضلات.(4)

الحيتان مشهورة بغوصها العميق، بالرغم من أنها تتنفس في السطح. (أسود البحر والفقمات، بالرغم من أنها ليست مائية بالكامل، لكنها أيضا مشهورة بغوصها العميق). الدلافين وخنازير البحر تستطيع الغوص حتى عمق 300 متر، وفقمات ويديل Weddell seals حتى 600 متر، وحيتان العنبر حتى 2.000 متر، والحوت المنقاري حتى 3.000 متر.(5)

الضغط على الحيوان في سطح الماء هو واحد جو (وحدة قياس الضغط)، والضغط على حيوان 10 متر أسفل سطح الماء هو 2 جو، ويزداد الضغط بمعدل جو واحد لكل عشرة أمتار إضافية. إذن حوت العنبر على عمق 2.000 متر يواجه ضغطا أكثر 200 ضعف من الضغط الذي يواجهه على سطح الماء. العظام ليست قوية بما فيه الكفاية لحماية الرئة من مثل هذا الضغط العالي، وبالتالي تحتوي الثدييات التي تغوص لتلك الأعماق على قفص صدري قابل للطي ورئات قابلة للطي.

القفص الصدري في الحيتانيات به العديد من “الأضلاع السائبة floating ribs”، أضلاع غير متصلة بعظم القفص الصدري. تلك الأضلاع السائبة تدعم بشكل كبير مرونة جدار الصدر.(6) الحيتانيات والثدييات الغواصة الأخرى لديها حجاب حاجز موجه لناحية موازية للعمود الفقري بدلا من التعامد عليه. شرح طبيب التخدير (ريتشارد براون Richard Brown) وعالم وظائف الأعضاء (چيمس باتلر James Butler) أن “المنطقة الكبرى للتوصيل بين الرئة والحجاب الحاجز في الحيتان تسمح للحجاب الحاجز بأن يطوي بسلاسة الرئة إلى جانب أقصر بعد للرئتين” (البطن للخلف).(7)

انغلاق الصدر تم رصده مباشرة في الدولفين على عمق 50 مترًا، ولوحظ بتلفزيونات تحت الماء على عمق 300 متر.(8) وأظهرت تحليلات الدم أن الرئة المغلقة تنطوي وقتما يصل الحيوان إلى عمق 50 متر.(9) تلك التحليلات نفسها، وتحليلات مشابهة في أسود البحر، تكشف سببا واحدا عن لماذا يعد طي الرئة ضرورة فسيولوجية: بطي الحويصلات الهوائية الصغيرة التي يتم فيها عادة تبادل الدماء، يـُحمى الغواص الثديي من آخذ كمية أكبر من المطلوب من النيتروجين. النيتروجين الممتص تحت الضغط يتسبب في اضطراب عقلي خطير يسمى “تخدير الأعماق narcosis”. والأسوء أن النيتروجين الممتص تحت الضغط يمكن أن ينتج فقاعات في الجسم حينما ينخفض الضغط، متسببا في الحالة المميتة التي تؤدي لها مرض تخفيف ضغط.(10) تتفادى الثدييات التي تغوص عميقا تلك المشكلات بقيامها بطي رئتيها.

يستغرق غطس حوت العنبر التقليدي حوالي ساعة. وأما الحوت المنقاري فربما يستمر لأكثر من ساعتين. كيف يمكن للحيتانيات أن تستمر تحت الماء كل هذا؟ الفضل يعود إلى أعجوبة هندسية أيضية أخرى.

الحيتان لديها ميوجلوبين (جزيء تخزين أكسجين) في عضلاتها أكثر بكثير من الموجود لدى الثدييات الأخرى.(11) مع ذلك، كما أشار سليچبر، “ولا حتى الكميات الكبيرة من الميوجلوبين يمكنها أن تقدم تفسيرا كافيا لاستمرارهم الطويل تحت الماء… أثناء الغوص، تغيرات أساسية في الأيض يجب أن تحدث”.(12) إمدادات الدماء أعيد توزيعها للمخ والقلب، القلب يبطئ، والعضلات تتحول للأيض اللاهوائي. كل الفقاريات تفعل ذلك على مستوى معين حينما تحرم من الهواء، لكن الثدييات عميقة الغوص تفعله بشكل أكمل وأكفء.(13)

الغطس العميق الطويل يمثل تحديا، لكن الخروج للسطح بعد ذلك يمثل تحديا هو الآخر. حينما يعود الحوت للسطح بعد الغطس، يجب عليه أن يعيد تضخيم الرئتين سريعا لكي يتنفس. الرئات تحتوي على سوائل تسمى “مؤثرات سطحية surfactants”، والتي تغلف بطانة الحويصلات الهوائية الصغيرة بتبادل الغاز بين الهواء والدماء. النتائج التجريبية المنشورة في 2004 أظهرت أن المؤثرات السطحية التي تخرج من الرئة في أسود البحر والفقمات لديها “مركب متمايز عن ذلك الموجود في الثدييات الأرضية وربما يكون مناسب بشكل فريد للطي والبسط المتكرر للرئة”.(14) الشيء نفسه تقريبا صحيح في كل الحيتان. أدلة أخرى نشرت في 2006 تظهر أن مؤثرات سطحية كهذه لديها “أساسا وظيفة مضادة للالتصاق لكي تقابل تحديات استمرارية طي الرئتين”.(15)

بعض خصائص التنفس المذكورة بالأعلى ليست فريدة في الحيتان. الثدييات التي تغوص للعمق لديهم نفس الخواص أيضا. لكن الثقوب الانفجارية موجودة فقط في الحيتانيات.

الخصائص المطلوبة للتكاثر:

في معظم الثدييات، إنتاج السائل المنوي يتطلب درجة حرارة أقل بدرجات عديدة من درجة الحرارة الطبيعية للجسم. ومن ثم معظم الخصيات في الثدييات الأرضية معلقة خارج الجسم، لكن ذكور الحيتان لديها خصيات داخلية، والتي يجب أن تظل حرارتها أقل من درجة حرارة الجسم بالرغم من حقيقة أنها محاطة بعضلات تنتج حرارة.

التبريد يتم تحقيقه بنظام تبادل الحرارة المعاكس للتيار. الدم الذي يتم تبريده في الزعانف الظهرية والمثقوبات يتم حمله إلى منطقة قريبة من الخصيات، حيث تتدفق عبر شبكة من الأوردة تمر بين الشرايين الحاملة للدم الدافئ في الاتجاه المعاكس. لذلك الدم الشرياني يتم تبريده بعد أن يصل إلى الخصيات (الشكل 5-2).(16)(17)

2 4

الشكل 5-2: رسم بياني مبسط لجريان الدماء حول خصية الدولفين: في رسمة الجسم في الأعلى، الخطوط البيضاء هي الأوردة. في الرسمة الموسعة بالأسفل الخطوط السوداء هي شرايين تحمل الحرارة والدماء من القلب. الخطوط الرمادية هي أوردة تحمل الدم البارد من الزعانف الظهرية ومثقوبات الذيل. بينما يتدفق الدم الشرياني الدافئ للأسفل إلى الخصية، دم الأوردة البارد يتدفق إلى الأعلى بين الشرايين.

إذا كانت تلك الترتيبات الهندسية نتيجة للتطور، ترحيل خصية الحيتانيات من مكانها إلى الداخل لا يمكن أن يكون قد سبق نظام تبادل الحرارة المعاكس للتيار. هذا وإلا سيصبح الحوت عقيما، وهي النهاية بالنسبة للطريق التطوري. لكن ليس هناك ميزة تكيفية لتطوير نظام تبادل حرارة معاكس للتيار حول الخصيات إلا إذا كانوا داخل الجسم. أحدها لن يأتي قبل الآخر، مع أن احتمالية أن يتطور كليهما في نفس الوقت هي عمليا صفر.

أيضا، بعد الولادة، صغار الحيتانيات يجب أن ترضع تحت الماء، لكن قدرتها على البقاء تحت الماء أقل من قدرة البالغين؛ يجب عليهم أن يخرجوا للسطح كثيرا للتنفس. إذن الرضاعة في الحيتانيات مختلفة تماما عن الرضاعة في الحيوانات الأرضية.

حلمات الأم في الحيتانيات منقسمة إلى شقين في كل جانب من الفتحة التناسلية. وفقا لسليچبر، “حينما ترضع صغارها، تتحرك الحيتانيات ببطئ شديد، ويتحرك الصغير وراءها ويتجه إلى الحلمة من الخلف. الأم الآن تتحول قليلا إلى الجانب، لكي يصبح أسهل على الصغير أن يصل إلى الحلمة، والتي في تلك الأثناء تخرج من الشق. وبما أن الصغير يفتقر إلى الشفتين المناسبتين، يجب عليه أن يحتجز الحلمة بين اللسان وسقف الحلق العلوي”.(18) (حتى حوت العنبر يرضع بهذه الطريقة، لكن بسبب التشريح غير المعتاد لرأسها، يجب على الصغار أن يضعوا أنفسهم من أسفل إلى أعلى تحت أمهاتهم(19)).

بعد ذلك تضخ الأم اللبن بقوة إلى رضيعها. حتى بعد أن يذهب الرضيع، يمكن أن يرى اللبن الذي يضخ من الحلمة. اللبن مركز ثلاثة أو أربعة أضعاف من لبن البقر والماعز؛ لديه قوام الحليب المكثف أو الزبادي السائلة. ومن ثم يحصل الصغير على تغذية أكثر بكثير في وقت أقل.(20)

وبالتالي، العديد من الخصائص يجب أن تنشأ في الثمانية ملايين أو أقل بين “الحيتان السائرة” المزعومة والحيتان التي تعيش بالكامل في الماء؛ بما فيها المثقوبات (مع أوتارها وعضلات الذيل المخصصة لها)، الثقوب الانفجارية (مع الأنسجة المرنة لتبقيهم قريبين والعضلات المحددة لفتحهم)، الخصيات الداخلية (مع نظام تبادل الحراراة المعاكس للتيار لتبريدها)، الخصائص المحددة للرضاعة (بالإضافة إلى الدفع القوي للبن المركز)، والعديد من الصفات الأخرى غير المذكورة هنا.

تلك سلسلة طويلة. في الحقيقة، هناك عدد متزايد من الأدلة يقترح أنه أنها سلسلة طويلة يستعصي على التطور الإتيان بها.

تفترض الداروينية الجديدة أن التغييرات التشريحية تنشأ من طفرات الدنا. وكما رأينا في الفصل الرابع، هذا الافتراض غير صحيح. عقود من التجارب أظهرت أن طفرات الدنا لا تنتج خصائص تشريحية جديدة نافعة. لكن تنزلا في الجدال، دعنا نتجاهل هذه الحقيقة ونسير كما لو أن النظرية التطورية من الممكن أن تكون صحيحة. دعنا أيضا نتجاهل، الآن فقط، النقد المذكور في الفصل الرابع للاستعمال الجديد لكلمة “جين”. تجاهل كل ذلك وستظل النظرية التطورية في مواجهة مشكلة.

 

(1) Lambert et al., An Amphibious Whale from the Middle Eocene of Peru Reveals Early South Pacific Dispersal of Quadrupedal Cetaceans, Current Biology (2019), https://doi.org/10.1016/j.cub.2019.02.050

(2) Everhard J. Slijper, Whales, trans. A. J. Pomerans, 2nd ed. (Ithaca, NY: Cornell University Press, 1962), 100–101, 108.

(3) Frank E. Fish, John T. Beneski, and Darlene R. Ketten, “Examination of the three-dimensional geometry of cetacean flukes using computed tomography scans: Hydrodynamic implications,” Anatomical Record 290 (2007): 614–623. doi:10.1002/ ar.20546. PMID:17516428.

(4) Slijper, Whales, 151.

(5) Gregory S. Schorr, Erin A. Falcone, David J. Moretti, and Russel D. Andrews, “First long-term behavioral records from Cuvier’s beaked whales (Ziphius cavirostris) reveal record-breaking dives,” PLoS One 9 (2014): e92633. doi:10.1371/journal.pone.0092633. PMID:24670984.

(6) Slijper, Whales, 139–140.

(7) Richard E. Brown and James P. Butler, “The absolute necessity of chest-wall collapse during diving in breath-hold diving mammals,” Aquatic Mammals 26 (2000): 26–32.

(8) Sam H. Ridgway, B. L. Scronce, and John Kanwisher, “Respiration and deep diving in the bottlenose porpoise,” Science 166 (1969): 1651–1654. doi:10.1126/science.166.3913.1651. PMID:5360592.

(9) Konrad J. Falke, Roger D. Hill, Jesper Qvist, Robert C. Schneider, Michael Guppy, Graham C. Liggins, Peter W. Hochachka, Richard E. Elliott, and Warren M. Zapol, “Seal lungs collapse during free diving: Evidence from arterial nitrogen tensions,” Science 229 (1985): 556–558. doi:10.1126/science.4023700. PMID:4023700.

(10) Birgitte I. McDonald and Paul J. Ponganis, “Lung collapse in the diving sea lion: Hold the nitrogen and save the oxygen,” Biology Letters 8 (2012): 1047–1049. doi:10.1098/ rsbl.2012.0743. PMID:22993241.

(11) Shawn R. Noren and Terrie M. Williams, “Body size and skeletal muscle myoglobin of cetaceans: Adaptations for maximizing dive duration,” Comparative Biochemistry and Physiology A 126 (2000): 181–191. doi:10.1016/S1095-6433(00)00182-3. PMID:10936758.

(12) Slijper, Whales, 133.

(13) Per F. Scholander, “The master switch of life,” Scientific American (December, 1963): 92–106.

(14) Roger G. Spragg, Paul J. Ponganis, James J. Marsh, Gunnar A. Rau, and Wolfgang Bernhard, “Surfactant from diving aquatic mammals,” Journal of Applied Physiology 96 (2004): 1626–1632. doi:10.1152/japplphysiol.00898.2003. PMID:14688033.

(15) Natalie J. Miller, Anthony D. Postle, Sandra Orgeig, Grielof Koster, and Christopher B. Daniels, “The composition of pulmonary surfactant from diving mammals,” Respiratory Physiology and Neurobiology 152 (2006): 152–168. doi:10.1016/j.resp.2005.08.001. PMID:16140043.

(16) Sentiel A. Rommel, D. Ann Pabst, William A. McLellan, James G. Mead, and Charles W. Potter, “Anatomical evidence for a countercurrent heat exchanger associated with dolphin testes,” Anatomical Record 232 (1992): 150–156. doi:10.1002/ar.1092320117. PMID:1536461.

(17) Sentiel A. Rommel, D. Ann Pabst, and William A. McLellan, “Reproductive thermoregulation in marine mammals,” American Scientist 86 (1998): 440–448. doi:10.1511/1998.5.440.

(18) Slijper, Whales, 381–382.

(19) Genevieve Johnson, Alexandros Frantzis, Chris Johnson, Voula Alexiadou, Sam H. Ridgway, and Peter T. Madsen, “Evidence that sperm whale (Physeter macrocephalus) calves suckle through their mouth,” Marine Mammal Science 26 (2010): 990–996. doi:10.1111/j.1748-7692.2010.00385.x.

(20) Slijper, Whales, 382–383, 386.

المصدر

يُحكَى أن مورثة…

ما إن سمعت بنجاح دوجلاس أكس في الوصول لتقدير دقيق جدًا لندرة البروتينات حتى تساءلت مباشرة عن ردة فعل أنصار الداروينية الجديدة، ماذا عساهم يقولون بعد هذا العمل الدقيق من الناحية الرياضية والتجريبية، والمنشور في مجلة البيولوجيا الجزيئية Journal of Molecular Biology عام 2004 -الذي استنتج فيه ضآلة احتمال أن تَصِلَ الطفرات والانتقاء لجين مبتكر أو بروتين وظيفي-؟ هل سيقولون إنَّ احتمالية البحث الناجح عن جينات وبروتينات جديدة أعلى ممّا أشارت إليه تجارب أ21111كس؟ أم سيقولون بوجود انحراف في طرائقه البحثية وحساباته، حيث لم يَصِل أحدٌ إلى نتائج مماثلة؟ لقد أكَّد بحث أكس تحاليل وتجارب أخرى، واستطاع هذا البحثُ تجاوز التَّدقيق الفاحص عند مراجعة الأقران، لذا لم تكن أيٌ من هذه الاحتمالات منطقية، إلا أنَّ المدافعين عن كفاية الآليات الداروينية الجديدة كانوا أبعد ما يكون عن إعلان استسلامهم كما سأُبين فيما يلي.

في نفس العام قُمتُ بنشر مقالة علمية ومحكّمة حول الانفجار الكامبري ومشكلة أصل المعلومات البيولوجية المطلوبة لتفسيره1، واستشهدت فيها بنتائج أكس وشَرحت لماذا تُشكّل ندرة البروتينات الوظيفية في فضاء التسلسلات تحديًا كبيرًا لكفاية الآليات الداروينية الجديدة. قد نُشرت الورقة البحثية في مجلة تَهتَمُ بالبيولوجيا، وهي وقائع الجمعية البيولوجية في واشنطن Proceedings of the Biological Society of Washington، التي يُصدرها معهد سميثسونيان، ويقوم عليها علماء يعملون في المتحف الوطني السميثسوني للتاريخ الطبيعي NMNH، حيث أثارت هذه المقالة عاصفة من الجدل لأنَّها تَضمَّنت ذكرًا لنظرية التصميم الذكي، وإمكانية إشراكها في تفسير أصل المعلومات البيولوجية (انظر الفصل 18).

كان علماءُ المتحف وخبراء البيولوجيا التطوُّرية في طول البلاد وعرضها غاضبين من المجلة ورئيس تحريرها ريتشارد ستيرنبرغ، لسماحه بتمرير هذه المقالة ليتمَّ تحكيمها من قبل الأقران ونشرها بعد ذلك. تَبِعَ ذلك اتهامات مضادة، حيث صادر مسؤولو المتحف مفاتيح ستيرنبرغ ومكتبه وحساب وصوله إلى النماذج العلمية scientific samples، وتمَّ نقله من مشرف صديق إلى مشرف عدو. بعد ذلك حقَّقت هيئة لأحد اللجان الفرعية في القضية، ووجدت أنَّ مسؤولي المتحف قد دشنوا حملة معلومات مضلِّلة مقصودة ضد ستيرنبرغ في محاولة لدفعه نحو الاستقالة، وقد روج منتقدوه إشاعات غير صحيحة مثل: (1) “ليس لستيرنبرغ أي درجة علمية في البيولوجيا” بينما هو في الحقيقة حائز على شهادتي دكتوراه PH.D إحداهما في البيولوجيا التطورية والأخرى في بيولوجيا الأنظمة، (2) “هو قسيس وليس عالمًا” بينما هو في الواقع عالم وباحث وليس رجل دين، (3) “إنَّه عضو فاعل في الحزب الجمهوري، ويعمل لصالح حملة جورج بوش” بينما هو في الحقيقة مشغول بالأبحاث العلمية وليس لديه ما يكفي من الوقت للانخراط في الحملات السياسية سواء كانت جمهورية أم غير ذلك، (4) “تلقّى رشوة لينشر هذه المقالة” وهذا غير صحيح، إلى غير ذلك من الإشاعات. في النهاية، ورغم البطلان المؤكد لهذه الاتهامات، تمَّ إنزال رتبته.2

ظهرت عناوين الأخبار التي تتكلَّمُ عن هذا الجدل في مجلات مثل العلم Science، والطبيعة Nature، والعالِم The Scientist، ومجلة وقائع التعليم العالي Chronicle of Higher Educationـ3 ثم ظهرت مقالات أخرى في الصحافة العامة مثل الـ(واشنطن بوست) و(وول ستريت جورنال)4، وأذيع موضوع أساسي منها في الراديو الوطني العمومي5، وظهر ستيرنبرغ بنفسه أيضًا في برنامج The O’Reilly Factor.

ورغم الصخب الشديد، إلا أنَّه لم يَكُن هناك ردٌّ علمي رسمي على المقالة بحد ذاتها يدحضها علميًّا لا في مجلة المحاضر ولا في أي مجلة علمية أخرى، وأصرَّ أعضاء مجلس الجمعية البيولوجية في واشنطن -الذين أشرفوا على نشر المجلة- أنَّهم لا يريدون الإجابة على المقالة؛ لئلا يقوموا بإضفاء طابع الشرعية عليها.

في النهاية، أخذ عالمان مدافعان عن سياسات التعليم العلمي وينتميان للمركز الوطني للتعليم العلمي -وهي مجموعة ضغط تسعى نحو تعليم التطور في المدارس العمومية- زمام المبادرة، وكتب المؤلفون الثلاثة –الجيولوجي Alan Gishlick، ومحامي سياسات التعليم Nicholas Matzke، وعالم بيولوجيا الحياة البرية Wesley R. Elsberry- ردًّا على مقالتي في موقع www.TalkReason.org وهو موقع إلحادي رائد6، رغم أنَّ إرشادات الموقع تَمنعُ المهاجمة الشخصية (مغالطة الشخصنة) إلا أنَّ هذا القانون لم يَكُن لينطبق في حالة الردِّ الذي كتبه هؤلاء، والذي كان بعنوان (وحش ماير الميؤوس منه).

حاول هؤلاء الثلاثة دحض حجتي الأساسية بالاستشهاد بورقة علمية يقولون أنَّها حلَّت مشكلة أصل المعلومات الجينية، وكانت الورقة عبارة عن مراجعة علمية بعنوان (أصل الجينات الجديدة: لمحات من الماضي والحاضر)، ظهرت هذه الورقة في المراجعات الوراثية ضمن مجلة الطبيعة Nature Reviews Genetics لعام 2003، وأكَّد الثلاثة أنَّ هذه الورقة -التي قام بتأليفها عالم البيولوجيا الجزيئية من جامعة شيكاغو Manyuan Long بالمشاركة مع العديد من زملائه- “ممثلة وشاملة للمنشورات العلمية الموثقة حول أصل الجينات الجديدة”.7

ردَّد علماءُ بيولوجيا آخرون ادِّعاءات (جيشليك) و(ماتزكي) و(إلسبيري) في سياق جدالات عامة أخرى. وأثناء محكمة كيتزميلر ف. دوفر عام 2005 حول المحاولة البائسة لإلزام المعلمين في مدارس ولاية بنسلفانيا بقراءة بيان حول التصميم الذكي، استشهد البيولوجي من جامعة براون كينيث ميلر بورقة لونغ البحثية هذه في أثناء شهادته، وقال إنَّها تُظهِرُ كيفية تطور المعلومات الجينية الجديدة، واستشهد بعدها القاضي John E. Jones بشهادة ميلر حول مقالة لونغ في حكمه، وجزم القاضي جونز بوجود “أكثر من ثلاثين منشورًا علميًّا محكّمًا يُظهر أصل المعلومات الجينية الجديدة من خلال العمليات التطورية”.8 في مكان آخر أعلن ماتزكي وعالم البيولوجيا باول جروس، أنَّ ورقة لونغ البحثية “انتقدت كل العمليات المعتمدة على الطفرات المشاركة في أصل الجينات الجديدة، ثم أدرجت عشرات من الأمثلة، التي قامت فيها المجموعات البحثية ببناء أصول لمثل هذه الجينات”9، وهما يريان أنَّ “العلماء المختصون يعلمون كيف نشأت المعلومات الوراثية الجديدة”.10

لكن هل يعلم حقًا خبراء البيولوجيا التطورية ذلك؟ تعالوا نأخذ نظرة أقرب على المقالة التي ادَّعت أنَّها تُظهر “طريقة نشوء المعلومات الجينية الجديدة”.11

يُحكى أنَّ مورثة..

تُشيرُ مقالة لونغ، التي غالبًا ما يُستشهد بها، إلى عدة دراسات تهدف إلى شرح تطور جينات متعددة، تبدأ هذه الدراسات في العادة بأخذ جين والبحث بعد ذلك عن جينات أخرى مشابهة أو مناظرة homolog له، ثم تَبحثُ عن تاريخ التغير الطفيف بين الجينتين المتناظرتين رجوعًا إلى الجين -أو الجينات- الموجودة في السلف المشترك المفترض، وللقيام بهذا تبحث الدراسة في قواعد بيانات التسلسلات الجينية؛ للوصول إلى التسلسلات الشبيهة في كائنات من مجموعات تصنيفية مختلفة –من أنواع متقاربة الصلة غالبًا-. تُحاولُ بعض الدراسات أيضًا إثبات وجود الجين السلف المشترك على أساس الجينات المتشابهة ضمن نفس الكائن الحي، وتفترض هذه الدراسات بعد ذلك سيناريوهات تطورية تبدأ بتضاعف الجين المطلوب12، من ثم تُتَابعُ كل نسخة منهما تطورها بشكلٍ مختلف عن الأخرى نتيجة للطفرات التي ستحدث في كل نسخة، وستتضمَّن هذه السيناريوهات فيما يلي أنواعًا متعددة من الطفرات –حوادث التضاعف، خلط الإكسونات، عمليات إعادة التموضع قهقريًا retropositioning، النقل الجانبي lateral للجينات والطفرات النقطية الموافقة- بالإضافة لفعالية الانتقاء الطبيعي. يَفترضُ علماءُ البيولوجيا التطوُّرية القائمون على هذه الدراسات أنَّ الجينات الحديثة تظهر نتيجة للطفرات المتعددة هذه، وهي العمليات التي يرون أنَّها شكَّلت الجينات خلال تاريخ تطوري طويل.

نظرًا لاختلاف المعلومات في الجينات الحديثة -فرضًا- عن المعلومات التي تَحملُها الجينات السلف المفترضة، فإنَّ هذه الدراسات تَعتَبِر آليات الطفرات -التي يُفترض أنَّها مسؤولة عن هذه الاختلافات- تفسيرًا لأصل المعلومات الوراثية.

لكن عند الفحص الدقيق لا نَجِدُ أيًّا من هذه الأوراق المنشورة تُبين كيف قامت الجينات والانتقاء الطبيعي بإيجاد جينات أو بروتينات جديدة بالكلية من فضاء التسلسلات بالمرتبة الأولى، ولا تبين أنّ من المقبول -أو المحتمل منطقيًّا- أن تقوم هذه الآليات بذلك في الوقت المتاح أمامها، كما تفترض هذه الأوراق المنشورة وجود كمية مهمة من المعلومات الجينية المسبقة -الحقيقة أنَّها تَفترض العديد من الجينات الكاملة والمتفردة-، من ثم تَقتَرِحُ آليات متنوعة ربما تكون قامت بالتغيير التدريجي، أو دمج هذه الجينات ببعضها في جينات اندماجية أكبر. تقتفي هذه السيناريوهات في أحسن أحوالها تاريخ الجينات الموجودة مسبقا بدلًا من شرح نشوء الجينات الأصلية نفسها.

يُمكن لهذا النوع من وضع السيناريوهات أن يُشيرَ إلى طرائق بحثية مثمرة إلى حدٍ كبير، إلا أننا سنقع في خطأ واضح لو اعتبرنا السيناريوهات الافتراضية كإثبات لحقيقة أو كتفسير كاف مكتمل. لا تثبت أي من السيناريوهات، التي استشهدت بها ورقة لونغ البحثية، الاحتمالية الرياضية أو التجريبية لآلية الطفرات التي يجزمون بأنها تفسر أصل الجينات، كما أنَّهم لم يلاحظوا بشكلٍ مباشر عمليات الطفرات المفترضة، وهي تَعملُ على التطور. إنما يُقدمون بدلًا عن ذلك –في أحسن الأحوال- بناءً افتراضيًّا مسبقًا لبضعة أحداث تنتج عن سلسلة من العديد من الأحداث المفترضة، بدءا من وجود الجين السلف المشترك المفترض. لكن هذا الجين ذاته لا يُمثلُ نقطة بيانية مؤكدة، بل يُشار له بأنَّه كان موجودًا على أساس التشابه بين جينين آخرين موجودين أو أكثر، وهي القطع الوحيدة الحقيقية للدليل المشاهد، الذي تُبنى عليه غالبًا هذه السيناريوهات الموضحة.

إنَّ اعتماد هذه السيناريوهات على استنتاجات وافتراضات لا يسقطها من الاعتبار بذاتها. مع ذلك، فإنَّ قدرة هذه السيناريوهات على تفسير أصل المعلومات الوراثية بشكلٍ كاف تَعتمدُ على وجود الدليل على الكينونات التي يلمحون إليها -الجينات السلفية-، ومعقولية آليات الطفرات التي يسلمون بها. ولنأخذ نظرة أعمق على كل من طرفي هذه السيناريوهات.

جينات أسلاف مشتركة؟

تبدأ كل السيناريوهات المقدمة في الأوراق التي استشهد بها لونغ بالإشارة إلى جين السلف المشترك الذي يَتشعب، ويتطور منه جينان حديثان أو أكثر، تبحث هذه السيناريوهات تشابه التسلسل (المعلومة) في جينين أو أكثر، كدليل لا لبس فيه على الجين السلف المشترك (الشكل 11-2). كما ذكرت في الفصلين الخامس والسادس، فإنَّ الطرائق النموذجية لإعادة بناء التاريخ التطوري تفترض مسبقًا –بدلاً من أن تُثبت- أنَّ هذا التشابه البيولوجي ناجم عن جينات سلفية مشتركة، مع ذلك -وكما رأينا في الفصل السادس- فإنَّ تشابه التسلسل وحده لا يُشيرُ دائما بشكلٍ قاطع للسلفية المشتركة، حيث تظهر التشابهات أحيانًا بين أنواع لا يُمكنُ تفسير التشابه بينها بالوراثة من سلف مشترك -مثل الأطراف الأمامية المتشابهة للخلد (آكل الحشرات) mole وحشرة الحراشة (صرصار الليل) mole cricket-، فهناك بكل تأكيد تفسيرات محتملة أخرى لهذا التشابه.

أوّلها، ربما تطورت الجينات المتشابهة بصورةٍ مستقلة في خطين سلاليين متوازيين بدءًا من جينين مختلفين، وهذا ما تجزم به فرضية التطور المتقارب convergent evolution. وهناك الكثير من الأمثلة على التطوُّر المتقارب للجينات في منشورات البيولوجيا التطورية والجزيئية13، فعلى سبيل المثال، اكتشف علماءُ البيولوجيا الجزيئية أنَّ كلا من الحيتان والخفافيش تستخدم أنظمة متشابهة لتحديد المواقع من خلال صدى الصوت، حيث تَشملُ جينات وبروتينات متشابهة، وقاد التشابه المذهل بين هذين النظامين المستخدمين في نوعين ثديين متفاوتين إلى اقتراح فكرة (التطور المتقارب) للنظامين من سلف مشترك لا يملك نظامًا مشابها، ويشمل هذا تسلسلات الجينات والبروتينات.14

أضف إلى ذلك، أنَّ من المحتمل أن تكون الجينات المتشابهة مصمَّمة بشكلٍ منفصل في كل كائن لتلبي حاجاته الوظيفية في كيانات حية مختلفة. بالنظر للقضية بهذه الطريقة، فإنَّ تشابه التسلسلات لا يعكس بالضرورة النشوء والارتقاء من سلف مشترك، إنما يعكس التصميمَ المتوافق مع الاعتبارات أو المحددات أو الأهداف الوظيفية المشتركة. أعرف بالتأكيد أنني حتى الآن لم أقدّم أيَّ أسباب مستقلة لأخذ فرضية التصميم بعين الاعتبار، كفرضية تفسر تشابه التسلسلات، لذا ربما تبدو نظرية التصميم الذكي غير مقنعة بعد (لمزيد من الأسباب المقنعة لأخذ نظرية التصميم الذكي بعين الاعتبار انظر الفصول من 17 حتى 19). وبغض النظر عما سبق فقد ذكرت هذه التفسيرات الممكنة الأخرى لتشابه تسلسل الجينات من أجل إيضاح أنَّ تشابه التسلسل لا يشير بالضرورة إلى الجين السلف المشترك.

الجينات ذات إطار القراءة المفتوح

بالتأكيد لن يُمكنَ تفسير بعض الجينات وما تحويه من تسلسلات غنية بالمعلومات، في ضوء تلك السيناريوهات التي ذكرها لونغ في مقالته؛ حيث تحاول كافة هذه السيناريوهات أن تَشرحَ أصل جينين متشابهين بالإشارة إلى النشوء والارتقاء -عبر الطفرات- من جينات سلف مشترك، إلا أن الدراسات الجينومية الأخيرة في العديد من الكائنات الحية المتنوعة تظهر مئات -أو حتى آلاف- الجينات التي لا تدل على أي تشابه جوهري في التسلسل مع أي جين معروف آخر15، وتملأ هذه الجينات المقيَّدة تصنيفيًّا أو ما يعرف بـ(ORFans) -أو الجينات ذات إطار القراءة المفتوح ORF مجهولة المصدر open reading frames of unknown origin- الآن مشهد التاريخ التطوري. تظهر جينات ORFans في كل مجموعة رئيسية من الكائنات الحية، بما في ذلك النباتات والحيوانات بالإضافة إلى الكائنات وحيدة الخلية حقيقية النوى أو بدائية النوى، وتبلغ في بعض الكائنات الحية ما يُقارب نصف الجينوم.16

بالتالي، فحتى إذا كان يمكن الافتراض أنَّ التسلسلات الجينية المتشابهة تُشير دومًا للجين السلف المشترك، فإنَّ جينات (ORFans) هذه لا يمكن تفسيرها باستخدام سيناريوهاتٍ كتلك التي ذكرها لونغ في مقالته، ونظرا لافتقار تسلسل كل جين ORFans للتشابه مع أي جين آخر معروف –أي ليس لأي منها نظير homolog حتى ولو في الأنواع البعيدة تطوريًّا- فإن من المستحيل معرفة الجين السلف المشترك الذي ربما يكون جين (ORFans) ونظيره (المفقود) قد تطور منه. تذكر أن جينات ORFans وفق تعريفها ليس لها نظائر homologs، وهذه الجينات متفردة –وحيدة من نوعها- وهو ما يعترف به ضمنيًّا أعداد متزايدة من علماء البيولوجيا التطورية، الذين حاولوا تفسير أصل مثل هذه الجينات بالنشوء من العدم de novo -من لا شيء-.

قد يجادل البعض بأنَّ علماء البيولوجيا يضعون خرائط التسلسلات لمزيد من الجينومات يومًا بعد يوم، ويضيفون المزيد من التسلسلات الجينية لقاعدة بيانات البروتينات، وسيتلاشى في النهاية الغموض المصاحب لظاهرة جينات ORFans، لكن مع ذلك، فحتى يومنا هذا تسير الأمور في الاتجاه المعاكس، إذ كلما استكشف العلماء مزيدًا من الجينومات ووضعوا خرائط لها اكتشفوا المزيد والمزيد من جينات ORFans دون أن يجدوا أعدادًا موافقة من الجينات المناظرة لها، بل تزداد أعداد جينات ORFans غير المقترنة بنظائرها، ولا إشارة لانعكاس هذه النزعة في النتائج.17

معقولية العمليات القائمة على الطفرات

حتى لو استطاع علماء البيولوجيا إثبات وجود جينات السلف المشتركة التي تبدأ منها السيناريوهات المتخيلة، فإنَّ هذا لا يعني أنهم قد أثبتوا معقولية إنتاج آليات الداروينية الجديدة للمعلومات الجينية من ذلك السلف. وأيضًا، لكلمة “معقولية” في هذا السياق معنى هام ومحدد من الناحية العلمية والمنهجية، حيث تُظهر الدراسات في فلسفة العلم أنَّ التفسير الناجح في العلوم التاريخية كالبيولوجيا التطورية يَتطلَّبُ توفير تفسيرات “كافية سببيًا” –أي تفسيرات تذكر سببًا أو آلية قادرة على إنتاج التأثير المدروس. يُحاولُ داروين في كتابه أصل الأنواع إظهار نظريته مستوفيةً لهذا الشرط، وهو المعيار الذي يُطلق عليه (السبب الحقيقي vera causa)، فقد سعى داروين في الفصل الثالث –على سبيل المثال- لإثبات الكفاية السببية للانتقاء الطبيعي باستنباط التشابهات بينه وبين عمليات تهجين الحيوانات، باستقراء الأمثلة المُشاهدة على التغيرات التطورية صغيرة النطاق في فترات زمنية قصيرة.

يقوم داروين في هذا المبدأ بإخضاع الاستدلال العلمي الذي استخدمه أحد المشاهير البارزين في علم الجيولوجيا (تشارلز ليل) للاستدلال على أحداث في الماضي السحيق، حيث أصرَّ ليل على أن التفسير الجيد لأصل السمات الجيولوجية يجب أن يذكر “الأسباب العاملة الآن” أي أسبابًا عُرف من التجربة المعاصرة قدرتها على إنتاج التأثيرات المدروسة.18

هل تلبي السيناريوهات التي اعتمدها علماء البيولوجيا التطورية وذكرتها مقالة لونغ هذا المعيار؟ يُشكِّلُ الانتقاء الطبيعي وطفرات التضاعف وغيرها من أنماط التغير العشوائي بالطفرات بكل وضوح “أسبابًا عاملة الآن”، ولا يماري أحد في ذلك. لكن هل ثَبتت قدرة هذه العمليات على إنتاج التأثيرات المطلوبة، أي المعلومات الوراثية الضرورية للابتكارات البنيوية في تاريخ الحياة؟ هناك الكثير من الأسباب الجيدة للتفكير بأنَّها عاجزة عن ذلك.

المصادرة على المطلوب

أولًا، تفترض معظم العمليات المعتمدة على الطفرات التي يتوسلها علماءُ البيولوجيا التطورية في السيناريوهات التي ذكرتها مقالة لونغ وجودًا مسبقًا لكميات مهمة من المعلومات الجينية في جينات أو مقاطع نموذجية من الحمض النووي (DNA) أو الحمض النووي الريبوزي (RNA)، وتُلقي مقالة لونغ الضوء على الآليات السبع للطفرات، والتي تعمل على تشكيل الحمض النووي (DNA) الجديد:

(1) خلط الإكسونات.

(2) تضاعف الجين.

(3) إعادة التموضع قهقريا retropositioning لنسخ من الحمض النووي الريبوزي (RNA) المرسال.

(4) النقل الجانبي للجينات.

(5) نقل الوحدات أو العناصر الجينية المتحركة.

(6) انصهار أو اندماج الجينات.

(7) النشوء من العدم de novo.

تبدأ كل واحدة من هذه الآليات –باستثناء النشوء من العدم- بجينات موجودة سلفًا أو مقاطع جاهزة مطولة من النص الجيني، تكون هذه المعلومات المحددة وظيفيًا -والموجودة سلفًا- كافية في بعض الأحيان لتشفير بناء بروتين كامل أو طيّة بروتينية متميزة. كما أنَّ هذه السيناريوهات لا تفترض مصادر موجودة سلفًا وغير مفسَّرة للمعلومات البيولوجية فقط، بل إنَّها تفترض ذلك دون شرح -أو حتى محاولة شرح- كيف حلَّت أي من هذه الآليات التي يتصورونها مشكلة البحث التوافقي combinatorial search في فضاء التسلسلات، والموصوف في الفصلين التاسع والعاشر. تُظهر لنا النظرة الأقرب لكل واحدة من هذه الآليات، كيف أنَّ السيناريوهات المعتمدة عليها تصادر على المطلوب في كثير من المناحي الهامة حول أصل المعلومات الجينية.

يرى أنصار خلط الإكسونات أنَّ المقاطع النموذجية من الجينوم مرتبة عشوائيًّا، وتُعيد ترتيب نفسها -عشوائيًا كذلك- لتوليد جينات جديدة، وليس هذا ببعيد عن إعادة ترتيب الفقرات ضمن مقالة لتوليد مقالة جديدة. يُشيرُ مصطلح إكسون إلى المناطق المشفرة للبروتينات من الجينوم –وذلك في الجينومات التي تَحوي مناطق مشفرة لبروتينات موزعة في مناطق غير مشفرة-، وتتخلل مناطق الجينوم المشفرة للبروتينات مقاطع أخرى غير مشفرة للبروتينات تُعرف غالبًا بـ(الإنترونات)، التي تقوم بوظائف أخرى؛ كتشفير جزيئات الحمض النووي الريبوزي (RNA) التنظيمية. على أيّة حال، تُخزِّن الإكسونات كميات مهمة من المعلومات المحددة وظيفيًّا والموجودة سلفًا.

رغم أنَّ معظم البروتينات مشفَّرة في العديد من الإكسونات، إلا أنَّ الإكسون الواحد ربما يقوم بتشفير وحدة جوهرية في بنية البروتين -مثل أحد طيات البروتين الوظيفية–، في الحقيقة، يَدَّعي أنصار فكرة خلط الجينات أنَّها تؤيدهم، لأنها تفسر برأيهم ظهور البروتينات الجديدة. ويفترض هؤلاء أن الإكسونات تخضع لخلط عشوائي أعمى لتشكيل جينات جديدة، إلا أنَّ هذه الآلية غير قادرة على إنتاج طيّات بروتينية جديدة، فإما أن يكون الإكسون كبيرًا لدرجةِ أنه يقوم بتشفير طيّة بروتينية موجودة بالفعل -في هذه الحالة ليس هناك خلق للطية الجديدة-، أو يكون صغيرًا جدًا بما يستدعي تشارك عدة إكسونات للوصول إلى طيّة بروتينية ثابتة، وفي هذه الحالة الثانية تظهر بعض العوائق التي تَمنعُ نجاح المهمة –تحديدًا ما يدعى بتنافرات السلاسل الجانبية- كما سنرى.

تفترض سلفًا السيناريوهات التطورية التي تعتمد آليات الطفرات الأخرى وجودَ مصادرَ مهمة للمعلومات الجينية الموجودة مسبقًا، ويشمل تضاعف الجينات –كما يوحي الاسم- إنتاج نسخة مضاعَفة من الجين الموجودة سلفًا تكون غنية بالمعلومات المحددة وظيفيّا. تحدث إعادة تموضع قهقريا Retropositioning للـRNA المرسال لينحشر الـDNA المعاد تشكيله منه في تسلسل DNA الجينوم مجددًا، ممَّا يؤدِّي لتضاعف الجزء المشفِّر من جين موجودة سلفًا، كما يتضمَّن نقل الجينات جانبيًّا نقل جين موجودة سلفًا من كائن حي -جرثوم عادة- إلى جينوم كائن حي آخر.

يَحدث نقل العناصر الجينية المتحركة بالمثل عندما يندرج جين موجودة مسبقًا في طاق حلقي (strand) من الحمض النووي (DNA) يعرف بالبلازميد، الذي يدخل إلى الكائن الحي الآخر ليندمج في الجينوم الجديد، تحدث هذه العملية بشكلٍ أساسي في الكائنات الحية وحيدة الخلية، يُمكن أن تَحدُثَ عملية مشابهة في حقيقيات النوى؛ حيث تقفز عناصر جينية متحركة تعرف بـ(ترانسبوزون transposons)19 -وتعرف أحيانًا بالجينات القافزة- من مكان إلى آخر في الجينوم. ويحدث الاندماج الجيني عندما ترتبط مورثتان موجودتان سلفًا -ويحوي كل منهما معلومات جينية محددة- بعد حادثة حذف للمادة الجينية التي كانت تفصل بينهما.20

تفترض آليات الطفرات الستّ وجودًا سابقًا لوحدات جينية تحوي معلومات جينية محددة، كما تَعتمدُ بعض هذه الآليات أيضًا على وجود سابق لآلات جزيئية معقدة مثل أنزيم الناسخة العكسية reverse transcriptase المستخدم في آلية إعادة التموضع قهقريا retropositioning أو الآلات الخلوية المعقدة الأخرى المشاركة في تضاعف الحمض النووي (DNA)، ولما كان بناء هذه الآلات يَتطلَّبُ مصادر أخرى للمادة الوراثية، فإنَّ السيناريوهات التي تفترض مسبقًا توافر مثل هذه الآلات الجزيئية لتساهم في قَطْع أجزاء وحدة المعلومات المورثية أو تضفيرها splicing أو تموضعها، فإن هذا الافتراض يصادر على المطلوب بكل وضوح.

بشكلٍ عام، ما يُفكر به علماءُ الأحياء التطورية، يشبه محاولة إنتاج كتاب جديد بنسخ صفحات كتاب سابق -تضاعف الجينات، والنقل الجانبي للجينات، وانتقال العناصر الجينية المتحركة-، وإعادة ترتيب مقاطع النص في كل صفحة -خلط الإكسونات وإعادة التموضع قهقريا واندماج الجينات-، وإدخال أخطاء عشوائية في الكلمات على مستوى الأحرف في كل جزء من النص -الطفرات النقطية-، من ثم إعادة الترتيب العشوائي للصفحات الجديدة. والواضح أنَّ التغيرات العشوائية وإعادة الترتيب العشوائي لا يملكان أي فرصة واقعية لتوليد رائعة أدبية متميزة، ولا حتى توليد نص مترابط، يعني هذا أنَّه من المستبعد أن تولد هذه العمليات ترتيبًا وتسلسلًا محددًا، ولن تُحَل مشكلة البحث المُركّب في فضاء التسلسلات. على أي حال، تصادر كل تلك السيناريوهات على المطلوب، إذ أنَّ هناك فرق كبير بين الخلط أو التغيير التدريجي لنماذج التسلسلات الوظيفية الموجودة سلفًا -والحاوية على معلومات محددة-، وبين تفسير كيفية ظهور هذه النماذج وامتلاكها لتسلسلات غنية بالمعلومات في المقام الأول.

أهو تطور من العدم؟

الحقيقة أنَّ لونغ ذكر نمطًا واحدًا على الأقل من الطفرات التي لا تفترض وجودًا مسبقًا للمعلومات الوراثية، إنَّه نشوء الجينات الجديدة من العدم. مثلًا، تطلَّعت إحدى الأوراق التي أدرجها لونغ في مقالته، لتفسير أصل منطقة المعزاز promoter لإحدى الجينات -وهو جزء من الجين يُساعد على بدء انتساخ تعليمات الجين إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)- وانتهت إلى أنَّ “هذا المكان التنظيمي غير الاعتيادي لم يتطور بما تعنيه كلمة تطور حرفيّا. بل ذكرت بدلًا من ذلك أنَّها: “تسلسلات بدائية ظهرت من العدم بالتموضع المتجاور للتسلسلات المناسبة بمحض الصدفة”.21

توظف أوراق بحثية أخرى فكرة نشوء الجينات من العدم، إذ يذكر لونغ مثلًا دراسة تَسعى لتفسير أصل البروتين المضاد للتجمد في أسماك قارة القطب الجنوبي (أنتاركتيكا)، فاقتطع عبارة تقول أنَّ ما حدث هو: “تضخيم تسلسل قصير من الحمض النووي (DNA) لإنتاج بروتين جديد ذي وظيفة جديدة”.22 كذلك استشهد لونغ بمقالة نشرت في مجلة Science ليفسر أصل مورثتين بشريتين مشاركتين في النمو العصبي عند الجنين، حيث عزت تلك المقالة أصلهما “لنشوء وحداتها البنائية من العدم، وهي جينات مفردة أو قطع مورثية تشفر ميادين domains البروتين”، حيث نشأ إكسون “تلقائيًّا من تسلسل فريد غير مشفر”23، وتلجأ أوراق بحثية أخرى لأحكام مماثلة، إذ ذكرت إحدى المنشورات العلمية عام 2009 “نشوءًا من العدم لثلاث جينات بشرية على الأقل مشفرة لبروتينات منذ أن انفصل البشر عن الشمبانزي”؛ حيث لم يكن أي منهما مالكًا لتسلسلات مناظرة مشفرة للبروتين في مناطق أخرى من الجينوم.24 أعلنت نشرة علمية أحدث في مجلة PLoS Genetics أنَّ: “60 جينًا مشفرًا لبروتينات جديدة نشأ من العدم في السلالة البشرية منذ أن انفصل البشر عن الشمبانزي”25 وهذا تقدير أعلى بكثير من التقديرات السابقة المتواضعة والمتحفظة باعتراف الجميع.26

كما نُشرت ورقة أخرى عام 2009 في مجلة أبحاث الجينوم Genome Research بعنوان ملائم (الخيمياء الداروينية: جينات البشر انطلاقًا من RNA غير مشفر)، وحقَّقت هذه الورقة في نشوء الجينات من العدم، جاء فيها: “إنَّ ظهور جينات وظيفية كاملة -تنتج بروتينات وظيفية ولها معززات promoters خاصة بها وإطار قراءة مفتوحة ORF لكل منها- من الحمض النووي (DNA) الخردة يبدو بعيد الاحتمال للغاية، يقارب احتمال تحول الرصاص إلى ذهب، وهو ما كان يبحث عنه خيميائيو القرون الوسطى”.27 إلا أنَّ المقالة ألمحت إلى أنَّ “التطور بالانتقاء الطبيعي سيقوم بتشكيل عناصر جديدة كليًا من الحمض النووي (DNA) غير الوظيفي ظاهريًا، وهي العملية التي يحوّل بها التطور الجزيئي الرصاص إلى ذهب”.28

أجبَر وجود تسلسلات جينية متفردة الباحثين على استدعاء فكرة نشوء الجينات من العدم أكثر من الحد الذي يرغبون به، فبعد أن ذكرت دراسة على ذباب الفاكهة أنَّ “قرابة 12% من الجينات الجديدة ربما تكون ظهرت في جماعات ذبابة الفاكهة سوداء البطن Drosophila melanogaster بالنشوء من العدم؛ من تسلسلات الحمض النووي (DNA) غير المشفر”29 يَمضي المؤلف أبعد من ذلك ليعترف بأنَّ استدعاء هذه الآلية يَنطوي على مشكلةٍ عويصة للنظرية التطورية، لأنَّها لا تَشرحُ حقًا أصل أي من المتطلبات الجذرية للوظيفة.30 يَقترحُ المؤلفُ أنَّ (التكيف المسبق preadaptation) ربما لعب دورًا ما في القضية، لكن هذا لا يضيف شيئا مهما للتفسير؛ لأنَّه يُحدد فقط الزمان -قبل أن يَلعبَ الانتقاء دورًا- والمكان -في الحمض النووي (DNA) غير المشفر-، ولا يُفسِّرُ كيف ظهرت هذه الجينات أول مرة. ليس هناك أي تفاصيل تَشرحُ كيفية ظهور الجينات “المتكيفة سلفًا” مع وظيفة مستقبلية، والواقع يقول إنَّ علماء البيولوجيا التطورية يستخدمون مصطلح النشوء من العدم لوصف الزيادة غير المفسرة في المعلومات الجينية، ولا يشيرون إلى أيّة عملية معروفة للطفرات.

نلخص هنا ما سبق: إنَّ العديد من العمليات المعتمدة على الطفرات، والتي ذكرها لونغ في مقالته إما أن تكون:

(1) تصادر على المطلوب بما يَخصُّ أصل المعلومات المحددة المتضمَّنة في الجينات أو أجزاء الجينات.

(2) تستدعي قفزات من العدم غير مفسرة بتاتًا؛ إذ هي بالأساس خلقٌ تطوري من العدم.

لذا نجد في النهاية أنَّ السيناريوهات المذكورة في مقالة لونغ لا تَشرحُ أصل المعلومات المحددة في الجينات أو أجزائها، بل قد يَتَطلَّبُ هذا مسببًا قادرًا على حل مشكلة التضخم التوافقي المذكورة في الفصول السابقة. لكن أيًّا من السيناريوهات التي ناقشتها مقالة لونغ لم تذكر هذه المشكلة، ناهيك عن إظهار المعقولية الرياضية للآليات المذكورة، مع ذلك نَجِدُ أنَّ كلًا من (غيشليك) و(ماتزكه) و(إلسبري) قد استشهدوا أصالة بمقالة لونغ كدحض حاسم لمقالتي -والتي جادلت فيها بأنَّ ندرة الجينات والبروتينات في فضاء الاحتمالات تُلقي شكوكًا على قدرة (الانتقاء) و(الطفرات) على توليد المعلومات الجينية الجديدة-. أدلى الأستاذ ميلر بشهادته في محكمة دوفر الشهيرة، وأقنع القاضي الفدرالي بالحكم بنجاح لونغ في إظهار كيفية نشوء المعلومات الجينية، وهو الحكم القضائي المشهور، لكن من الواضح أن أحدًا لا يَستطيعُ حلَّ معضلة أو تفنيد حجة بمجرد الفشل في تعريفها.31

الطيّات البروتينية: سيناريوهات معقولة لكنّها غير ذات صلة بالقضية

هنالك مشكلة أخرى ذات علاقة وثيقة بالسيناريوهات التي ذكرها لونغ في مقالته، إذ أن هذه السيناريوهات لا تُحاولُ تفسير أصل الطيَّات البروتينية الجديدة، وقليل منها من يقوم بتحليل جينات متباينة كثيرًا عن بعضها لدرجة أن تكون منتجاتها البروتينية –ربما- ممثلة لطيات مختلفة، إذ تحاول هذه السيناريوهات عادةً أن تَشرحَ أصل الجينات المتناظرة homologous، وهي الجينات التي تنتج بروتينات ذات طيَّات بنيوية متشابهة وتقوم بنفس الوظيفة، أو أنها قريبة جدًا من بعضها.

على سبيل المثال، يَذكر لونغ دراسة تقارن مورثتي RNASE1 وRNASE1B واللتين تشفران لأنزيمين هاضمين متناظرين.32 يَقوم البروتينان بنفس المهمة تقريبا: تحطيم جزيئات الحمض النووي الريبوزي (RNA) في السبيل الهضمي عند قرود colobine الآكلة لأوراق النباتات، لكنْ هناك فرق محسوس في درجة الحموضة المثلى التي يَعملُ فيها كل منهما، والأهم من ذلك أنَّ تسلسلات الحموض الأمينية لهذين البروتينين متطابقة بنسبة 93%، ويتوقَّعُ علماءُ البيولوجيا البنيوية أنَّ كلا الأنزيمين يَستخدمُ نفس الطيَّة البروتينية؛ لتحقيق المهام المنوطة بكل منهما.

كما أشار لونغ إلى دراسة مرجعية حول جين يشفر لأحد بروتينات الهيستونات Cid، في نوعين قريبين تطوريًا من ذبابات الفاكهة (ذبابة الفاكهة سوداء البطن Drosophila melanogaster) وقريبتها (Drosophila simulans). لا تحاول الدراسة تَفسير أصل الجين، بل إنَّها فقط قارنت الجين في كل من النوعين وسردت بعض الفروق الثانوية بينهما، ثم تساءلت عن كيفية ظهور هذه الفروق، وحددت قرابة دزينتين من الفروق في النكليوتيدات في جين Cid بين كلا النوعين، منها 17 فقط سبَّبت تغيرًا في حمض أميني في تسلسل من 226 حمض أميني في بروتين Cidـ33 لن يؤدي هذا الفرق الضئيل (7.5 %) غالبًا لظهور طيَّات بروتينية جديدة، ويقول الواقع أنَّ التسلسلات الطبيعية المعروفة بامتلاكها طيَّات مختلفة لا تكون متطابقة بنسبة 92.5% على الإطلاق، بل إنَّ التسلسلات الطبيعية المعروفة بهذه الدرجة العالية من التطابق تملك نفس الطيَّات.

ذكر لونغ أيضًا، دراستين أخريين حول جين FOXP2، الذي يَعملُ في تنظيم التعبير الجيني عند البشر والشمبانزي والرئيسيات الأخرى والثدييات. يلعب هذا الجين دورًا في نماء الدماغ عند البشر وبقية الثدييات34، مع ذلك تقول إحدى الدراسات أنَّ البروتين الذي يشفره هذا الجين عند البشر قد خضع لتغير حمضين أمينيين في السلالة البشرية35 خلال كامل عمره التطوري من السلف المشترك للشمبانزي والبشر. ونقول هنا مرة أخرى، أنَّ هذا العمر غير كاف لتوليد طيَّات بروتينية جديدة.

ذكرت مراجعة لونغ عددًا كبيرًا من سيناريوهات شبيهة –السيناريوهات التي تَسعى لتفسير تطوُّر التغايرات variants الجينية الطفيفة وبروتيناتها المتشابهة-، وليس نشوء الطيَّات البروتينية الجديدة. هذا فارق هام؛ لأن الطيَّات البروتينية الجديدة -كما رأينا في الفصل العاشر- تمثل الوحدة الانتقائية الأصغر للابتكارات البنيوية، وتَعتمِدُ عليها الابتكارات البنيوية الأكبر منها الموجودة في تاريخ الحياة. يتطلب تفسير أصل الابتكارات البنيوية أكثر من مجرد تفسير أصل الأشكال المتغايرة من نفس الجين والبروتين، أو حتى أصل الجينات الجديدة القادرة على تشفير الوظائف البروتينية الجديدة، إنه يتطلب إنتاج معلومات جينية كافية –جينات جديدة حقًا- لإنتاج طيَّات بروتينية جديدة.

لذا، حتى في الحالات التي تكون فيها هذه السيناريوهات معقولة، فإنها لا تكون ذات صلة بقضية نشوء المعلومات الوراثية الضرورية لإنتاج هذا النمط من الابتكارات البنيوية التي تحدث في الانفجار الكامبري -أو العديد من الأحداث الأخرى في تاريخ الحياة-.

الطيّات البروتينية: سيناريوهات ذات صلة بالقضية، لكنها غير معقولة

في بضعة حالات تبدو السيناريوهات التطوُّرية المذكورة في مقالة لونغ كأنها محاولات لتفسير الجينات المتباينة عن بعضها نوعًا ما، وأنَّها قادرة وبشكلٍ معقول على تشفير بروتينات تملك طيَّات متباينة. فعلى سبيل المثال، يُناقش لونغ الأوراق البحثية المتعددة، التي تساوي بين خلط الإكسونات وخلط الميادين البروتينية shuffling of protein domains. تذكّرْ أنَّ الميدان البروتيني هو بنية -أو طيَّة- بروتينية فراغية ثالثية مصنوعة من عدة بنى ثانوية أصغر كحلزّات ألفا أو صفائح بيتا (الشكل 10-2). تملك العديد من البروتينات ميادين كثيرة، لكل منها بنية ثالثية أو تطوي فريد. يفترض أحد أشكال فرضية خلط الإكسونات أنَّ كل إكسون يشفر لميدان بروتيني محدد، وترى أنَّ القص والتضفير splicing العشوائي -الاستئصال excising والخلط وإعادة التأشيب recombination- للإكسونات من الجينوم سيؤدِّي إلى إعادة ترتيب مقاطع المعلومات الجينية. يشفر الجين الناتج المركب لبنية بروتينية جديدة. وكما يفترض لونغ: “يعيد خلط الإكسونات -وهو ما يعرف أيضًا بخلط الميادين- تأشيب التسلسلات التي تشفر للعديد من الميادين البروتينية لإنتاج بروتينات فسيفسائية”.36

ربما توفِّرُ آلية خلط الإكسونات -والفكرة المشابهة التي تقول بالاندماج الجيني- من بين الآليات التي ناقشها لونغ في مقالته الطريقةَ الأكثر معقولية لتوليد بروتينات جديدة (مركبة composite).37 إلا أنَّ قدرة خلط الإكسونات على تفسير أصل المعلومات الوراثية الضرورية لإنتاج طيَّات بروتينية جديدة -أو بروتينات كاملة مركبة- تطرح إشكاليات لعدة أسباب.

أولًا، يبدو أنَّ فرضية خلط الإكسونات تفترض أن كل إكسون -متورط في العملية- يشفر لميدان بروتيني ينطوي في بنية فراغية ثالثية مميزة، ويرى علماءُ البروتينات أنَّ الميدان البروتيني مساو للطيّة البروتينية، رغم احتمالية أن تتكون البُنى البروتينية المتميزة –الطيات- من عدة ميادين -أو طيات- أصغر. لذا فإنَّ فرضية خلط الإكسونات تفترض سلفًا –على أقل تقدير- وجود معلومات كافية لبناء ميدان بروتيني -أو طية- مستقلة. لذلك فإنَّها تَفشلُ في تفسير أصل الطيَّات البروتينية والمعلومات الضرورية لإنتاجها.

لكن قد يستخدم بعض أنصار خلط الإكسونات مصطلح (الميدان البروتيني) بطريقة أكثر غموضا، إذ ربما يساوون بين الميادين والوحدات البنيوية الأصغر كشدف الطيَّات المصنوعة من وحدات متعددة من البنى الثانوية كحلزات ألفا alpha helices أو صفائح بيتا beta strands، وعند النظر من هذه الزاوية نجد أنَّ فرضية خلط الإكسونات تستلزم بناء بنية بروتينية جديدة بدمج هذه الشدف الأصغر.

لكن في معظم الأحيان، إن قُطّعت سلاسل الحموض الأمينية المشكلة للميدان إلى شدف، فإنها لن تعود للاجتماع كما كانت بشكلها الأصلي، لكن لماذا؟ لأنَّ الشكل ثلاثي الأبعاد لمقطع بروتيني صغير معتمد بشدة على البنية الكلية للبروتين وشكله الكامل. خذ قطعة أو شدفة من البروتين أو اصنع تلك الشدفة، فسوف ينتج لديك سلسلة أمينية مرنة –أي فقدت شكلها الأصلي أو قدرتها على تشكيل بنية ثابتة-. لذا فإنَّ هذا الشكل من فرضية (خلط الإكسونات) لا يَملكُ مصداقية؛ لأنَّه يَفترضُ خطأً أنَّ شدف البروتين فاقدة البنية الفراغية قادرة على الاختلاط بشكلٍ صحيح، وكأنَّها وحدات بناء لتشكيل طيات فراغية وظيفية جديدة وثابتة. أضف إلى ذلك، أنَّه حتى وإن كان هذا الخلط المادي معقولًا فإنَّ هذا الشكل من الفرضية سيواجه مشكلة أخرى، إذ إنَّه ما يزال يفترض سلفًا وجود معلومات وراثية غير مفسرة، وتحديدًا المعلومات الضرورية، التي لا تَصِفُ الشدف الصغيرة فقط، إنما أيضًا تلك المطلوبة لترتيب هذه الوحدات الصغيرة في طيَّات ثابتة، وصولًا إلى بروتينات وظيفية في النهاية.

ثانيًا، تَعْتبرُ فرضية خلط الإكسونات أنَّ أطراف الإكسون تتوافق مع حدود الميادين أو الطيَّات البروتينية، لأنها تفترض أنَّ كل إكسون يَخضعُ لعملية (الخلط) يشفرُ لميدان بروتيني محدد، ففي الجينات الموجودة لا تتوافق حدود الإكسون نمطيًّا مع حدود الميادين المنطوية في البروتينات الكبيرة.38 لو فسَّر خلط الإكسونات كيف ظهرت البروتينات الحقيقية إلى الوجود، عندها سيكون لزاما أيضا أن تتوافق حدود الإكسون ضمن الجينات مع الميادين البروتينية في البنى المركبة الكبيرة -البروتينات الكاملة-، ويقترح غياب هذا التوافق أن خلط الإكسونات لا يفسِّرُ أصل البنى البروتينية المركبة المعروفة.

ثالثًا، هناك سبب آخر للاعتقاد بأنَّه من غير المقبول عقليًّا الاعتماد على خلط الإكسونات لترقيع الطيَّات البروتينية في بروتين جديد من وحدات بنيوية بروتينية أصغر، ولنعرف ما هو هذا السبب، فإننا نحتاج لاختبار ماهية السلسلة الجانبية side chain. تملك الحموض الأمينية العشرون المشكِّلة للبروتينات عمودًا فقريًا مشتركًا مؤلفًا من الآزوت والكربون والأوكسجين، لكن كل واحدة منها تملك مجموعة كيميائية مختلفة تعرف بالسلسلة الجانبية والتي تشكل نتوءًا قائم الزاوية على ذلك العمود الفقري. تحدد التآثرات بين السلاسل الجانبية فيما إذا كانت وحدات البنية البروتينية الثانوية المصنوعة من سلاسل الحموض الأمينية ستندرج في طيات ثلاثية الأبعاد ثابتة وكبيرة.39 ورغم توليد العديد من التسلسلات المختلفة لِبنًى ثانوية -حلزات ألفا وصفائح بيتا- إلا أن توليد طيات ثابتة أصعب بكثير، ويتطلب الكثير من النوعية specificity في ترتيب الحموض الأمينية وسلاسلها الجانبية. تحديدًا، تكون العناصر في الوحدات البنيوية الثانوية الصغيرة في البروتين محاطة بالسلاسل الجانبية، لذا فإنَّها لا تتمكن من التراكب في طيات جديدة إلا في حال كانت لهذه العناصر سلاسل جانبية نوعية تكمل بعضها البعض40، يعني هذا أنَّ الوحدات البنيوية الثانوية الأصغر نادرًا ما تندمج مع بعضها لتشكيل طيَّات أو بنى ثلاثية ثابتة. كذلك فإنَّ محاولات تشكيل طيات جديدة من وحدات بنيوية أصغر، تواجه دومًا تآثرات متنافرة بين السلاسل الجانبية للحموض الأمينية، بين وحدات البنية الثانوية.

إنَّ الحاجة للنوعية الشديدة في الترتيب التسلسلي للحموض الأمينية -الذي ناقشناه في الفصل السابق- يعني أنَّ الغالبية الساحقة من حالات دمج تسلسلات الحموض الأمينية –على مستوى البنية الثانوية- لن تَصِلَ إلى طيَّات ثابتة. وكما ناقشنا في الفصل العاشر، فإنَّ الندرة الشديدة للبروتينات الوظيفية (ذات الطيَّات الثابتة) في فضاء التسلسلات يَضمَنُ أن تكون الاحتمالية ضئيلة للغاية لإيجاد تسلسل صحيح يَجعلُ من الطيَّة ثابتة. لهذا السبب يكافح أكثر علماء البروتينات مهارة من أجل تصميم تسلسلات تنتج طيات بروتينية ثابتة.42 تكاد تكون كل وحدات البنية الثانوية التي تحاول الانخراط مع غيرها في بنًى مركبة ثابتة غير قادرة على التطوي بسبب التآثرات بين السلاسل الجانبية للحموض الأمينية.43 وقد فسرت ذلك المختصة بالبيولوجيا الجزيئية آن غوجر بقولها: “لذا، فإنَّ حلزات ألفا وصفائح بيتا هي عناصر بنيوية معتمدة على تسلسلها ضمن الطيَّات البروتينية، فلا يمكن تبديل مواقعها كقطع لعبة تركيبية (ليغو)”.44

كما أنَّ من الصعب إيجاد تسلسلات مختلفة من الحموض الأمينية في الوحدات البنيوية الثانوية تقوم بتثبيت الطيات، يرجع ذلك للندرة الشديدة للتسلسلات الوظيفية –والمطوية- ضمن فضاء تسلسلات الحموض الأمينية. يتطلب توليد تسلسلات نوعية تنطوي في بنى ثابتة -سواء في المختبر أو في تاريخ الحياة- حلَّ مشكلة التضخم التوافقي، بل حتى الطيات الصغيرة تَتطلَّبُ خمس أو ست وحدات بنيوية ثانوية مؤلفة من 10 حموض أمينية أو قريبًا من ذلك -أي حوالي 60 أو أكثر من الحموض الأمينية المرتبة بدقَّة-. تحتاج الطيات صغيرة الحجم دزينة أو أكثر من الوحدات البنيوية الثانوية وقرابة 150 إلى 200 حمض أميني مرتبة لتثبيت الطية، وتحتاج الطيات الأكبر عددا أكبر من الوحدات البنيوية الثانوية والحموض الأمينية المرتبة بشكلٍ نوعي. على أية حال، تتطلب العديد من الوظائف التي لا غنى عنها لتقوم أبسط خلية بمهامها العديد من الطيَّات -150 حمض أميني على الأقل- تَعملُ مع بعضها بتناغم تام، لذلك لا يمكن تجنب الحاجة لإنتاج بروتينات بهذا الطول على الأقل مرات كثيرة عبر تاريخ الحياة.

يتطلب كل هذا بحثًا عن إبرة الوظيفة في كومة ضخمة من قش الاحتمالات التبادلية. تذكّرْ أنَّ (دوغلاس أكس) قيم نسبة إبر (التسلسلات الوظيفية) في عيدان القش في كومة (التسلسلات غير الوظيفية) بـ1 إلى 10 77 من التسلسلات القصيرة -150 حمض أميني-.

من المؤكَّد في التسلسلات التي تنشأ طبيعيًا أنَّ التآثرات بين السلاسل الجانبية في وحدات بنية الثانوية تحافظ حقًا على الطيات ثابتة، لكن هذه البروتينات ذات البنى المنطوية ثلاثية الأبعاد تعتمد على تسلسلات شديدة الندرة ودقيقة الترتيب من الحموض الأمينية. والسؤال هنا ليس فيما إن كانت مشكلة (البحث التبادلي) الضرورية لإنتاج طيَّات بروتينية ثابتة قد حلت أو لا، إنَّما فيما إن كانت آليات الداروينية الحديثة المعتمدة على الطفرات العشوائية -الخلط العشوائي للإكسونات في هذه الحالة- توفِّر تفسيرًا معقولًا لكيفية حل هذه المشكلة.

لا تُعطي الأوراق البحثية التي استشهد بها لونغ في مراجعته أي سبب للتفكير بأنَّ خلط الإكسونات -أو أيّة آلية أخرى معتمدة على الطفرات- قد حل هذه المشكلة. تتجاهل فرضية خلط الإكسونات الحاجة لنوعية السلاسل الجانبية، رغم أنَّ الحاجة لمثل هذه النوعية قد أفشل مرارًا المحاولات المختبرية لتصنيع بروتينات جديدة من وحدات البنى الثانوية بالطريقة المطلوبة.

لكنّ مناصري خلط الإكسونات لا يقومون بأية محاولة لإظهار كيف أن إعادة ترتيب الميادين البروتينية –سواء اعتبرنا الميادين أجزاء من الطيَّات أم طيات كاملة- سيحل المشكلة التبادلية، ولا يواجهون تقديرات (ساور) أو (أكس) التجريبية الكمية حول ندرة الجينات أو البروتينات الوظيفية، ولا يواجهون حسابات الاحتمالية المبنية على هذه التقديرات. كذلك لا يظهرون وجود آلية قادرة على البحث في فضاء تسلسلات الحموض الأمينية بفعالية وكفاءة أكبر من الطفرات العشوائية والانتقاء، ولا يثبتون فعالية خلط الإكسونات في نظام تجريبي في المختبر. بل على العكس تمامًا، تقتضي الاعتبارات الأساسية لبنية البروتين لامعقولية كون خلط الإكسونات هي طريقة توليد المعلومات الجينية الضرورية لإنتاج طيَّة بروتينية جديدة.45 لذا يصرُّ مناصرو خلط الإكسونات في النهاية بكلمات قليلة، وثقة ظاهرة –كما فعل لونغ في مراجعته- أنَّ خلط الإكسونات يُعيد غالبًا ترتيب التسلسلات التي تشفر للعديد من الميادين البروتينية لخلق بروتينات فسيفسائية.

سَلَطَة

يشوش تأكيد لونغ وزملائه على خلط الإكسونات -كالعديد من العبارات الأخرى حول الآليات المفترضة المعتمدة على الطفرات– التمييز بين النظرية والدليل. وبصرف النظر عن النبرة السلطوية في مثل هذه العبارات، إلا أنَّ علماءَ البيولوجيا التطورية نادرًا ما يلاحظون بشكلٍ مباشر العمليات المعتمدة على الطفرات التي يتخيلونها، لكنهم يَرون نماذج تشابُهٍ وتبايُنٍ في الجينات، من ثم يعزونها للعملية التي يفترضونها. إلا أنَّ الأوراق البحثية التي يَستشهدُ بها لونغ لا توفِّرُ إثباتًا رياضيّا، ولا دليلًا تجريبيًّا لقدرة هذه الآليات على إحداث زيادة مهمة في المعلومات الوراثية.

بغياب هذه الإثباتات يَستمرُ علماء البيولوجيا التطورية بعرض ما سماه أحد البيولوجيين الذين أعرفهم بـ”سَّلَطَة الكلمات”؛ وهو اصطلاح يعني أنَّهم يعرضون أوصافًا مبهمة لأحداث الماضي غير المنظور، ربما يكون بعضها ممكنًا، لكنّ أيًّا منها لا يَملكُ قدرة مثبتة على توليد المعلومات الضرورية لإنتاج أشكال جديدة من الحياة. يتخيل هذا الضرب من المنشورات التطورية الإكسونات وكأن:

  • جينات أخرى “تسخِّرها”46، و/أو “تتبرع بها”.47
  • تأتي من “مصادر مجهولة”.48
  • تلجأ لـ”إعادة بناء مكثفة”49 للجينات.
  • تعزو “التجاور التصادفي المناسب للتسلسلات”50 للطفرات أو لـ “الاستحواذ التصادفي”51 على عناصر المعزاز promoter.
  • تفترض أن “التغيرات الجذرية في بنية الجين راجعة للتطور السريع التكيفي”.52
  • تؤكد على أن “الانتقاء الإيجابي لعب دورًا مهمًا في تطور الجينات”53، حتى في الحالات التي تكون فيها وظيفة الجين المدروسة -وبالتالي الصفة التي يتم انتقاؤها- مجهولة كليًا.54
  • تتخيل الجينات نتيجة اجتماعها مع بعضها من قطع DNA ليس لها أي وظائف مترابطة -أو ليس لها أي وظيفة بتاتًا-.55
  • تفترض “خلق” إكسونات جديدة من تسلسلات جينومية متفردة غير مشفرة تطورت بالصدفة.56
  • تلجأ لفكرة “الاندماج الخيمري chimeric لمورثتين”.57
  • تفسر البروتينات “شبه المتطابقة”58 في سلالات تطورية متفاوتة بكونها “حالة صادمة من التطور المتقارب”.59
  • عند انعدام القدرة على تحديد أي مصدر مادي لتطور جين جديد فإنها تصرُّ على أنَّ “الجينات تظهر وتتطور بسرعة، بما يولد نسخًا تحمل تشابها قليلًا بأسلافها السابقة، لأنَّها قابلة للتطفر العالي hypermutable على ما يبدو”.60
  • وفي النهاية، عندما يَفشلُ كل شيء، تستدعي هذه السيناريوهات “النشوء من العدم” للجينات الجديدة، كما لو أن تلك العبارة تختلف عن أي شيء مما ذكره الآخرون، كأنها مبنية على إثباتات علمية لقوة الآليات المعتمدة على الطفرات في إنتاج كميات مهمة من المعلومات الجينية الجديدة.61

لا تشابه هذه الروايات الغامضة شيئا أكثر من مشابهتها لألعاب الفلاسفة اللاهوتيين في العصور الوسطى:

  • لمَ يَدفع الأفيون الناس للنوم؟ لاحتوائه على روح منومة.
  • ما الذي يُسبِّبُ تطور الجينات بسرعة كبيرة؟ قدرتها العالية على التطفر، أو ربما لخضوعها لتطور تكيفي سريع.
  • كيف نفسر أصل مورثتين متشابهتين في سلالتين منفصلتين متباينتين للغاية؟ إنه التطور المتقارب بالطبع.
  • ما هو التطور المتقارب؟ هو وجود مورثتين متشابهتين في سلالتين منفصلتين متباينتين للغاية.
  • كيف يحدث التطور المتقارب إن علمنا ضآلة احتمال وجود واحد من الجينات الوظيفية في فضاء التسلسلات الاحتمالي، ناهيك عن ظهور نفس الجين مرتين بشكلٍ مستقل؟ لا يعرف أحد ذلك على وجه الدقَّة، لكن ربما كان “التجاور التصادفي المناسب للتسلسلات” أو “الانتقاء الإيجابي” أو “النشوء من العدم”.
  • هل تريد تفسير وجود مورثتين متشابهتين في سلالتين قريبتين تطوريًّا؟ جرب “تضاعف الجين” أو “الاندماج المورثي الخيمري” أو “إعادة التموضع قهقريا” أو “إعادة الترتيب المكثفة للجينوم” أو.. أي تراكيب كلامية أخرى بظاهر علمي خادع.

تَطرحُ هذه السيناريوهات الغامضة أسئلة جدية حول قدرة العلماء على اعتبارها إثباتات أو نواقض حاسمة على أي شيء، ناهيك عن وجود دحض مبني على التجارب -ودقيق رياضيًّا- يتحدى الطفرات والانتقاء الطبيعي الموصوف في الفصل السابق.

لذا، رغم الإعلان الرسمي من المحكمة الاتحادية، وادِّعاءات “التوثيق المستفيض في المنشورات العلمية لأصل الجينات الجديدة”، إلا أنَّ علماءَ البيولوجيا التطورية لم يثبتوا كيفية ظهور المعلومات الوراثية الجديدة، على الأقل لم يفعلوا ذلك، بما يخصُّ الكميات الكافية منها لبناء الطيات البروتينية، التي هي الوحدات الرئيسية في الابتكار البيولوجي. لم يَصِل علماءُ البيولوجيا لحل مشكلة التضخم التبادلي أو لدحض الحجة الكمية الدقيقة، التي واجهت القوة الخلاقة لآليات الانتقاء والطفرات المذكورة في الفصل السابق -أو في مقالتي المنشورة عام 2004-. كما لم يُقدِّم أي منهم دحضًا مقنعًا لتقييم دوجلاس أكس لندرة الجينات والبروتينات التي اعتمدت عليها تلك الحجة.

للإنصاف، يَملكُ البيولوجيون أتباع الداروينية الحديثة نماذج رياضية من عمل أيديهم، وهي نماذج تُشيرُ إلى إمكانية حدوث تغيرات تطورية لا نهائية في الشروط الصحيحة. ولَّدَ افتراض دقَّة تمثيل هذه النماذج -والمبنية على معادلات علم الوراثة السكانية- لكمية التطور الممكنة ثقةً لدى علماء البيولوجيا التطورية بالقدرة الخلاقة للآليات المتنوعة المعتمدة على الطفرات. لكن هل تَحِقُّ لهم تلك الثقة؟ سأناقش في الفصل التالي هذا السؤال وسأشرح سبب اطمئنان علماء البيولوجيا التطورية حتى الآن رغم التحديات الرياضية القائمة ضد الداروينية الحديثة. سأُبين أيضًا، كيف بدأ ذلك بالتغير مع ما وفرته التطورات في علوم الوراثة الجزيئية من تحديات رياضية مرعبة تواجه القدرة الخلاقة لآليات الداروينية الحديثة، وهو تحدٍّ ينشأ من داخل إطار الداروينية الحديثة، ويَطرحُ أسئلةً جديدة حول الكفاية السببية لآليات الداروينية الحديثة.

 

(1) Stephen C. Meyer, “The Origin of Biological Information and the Higher Taxonomic Categories.”

(2) لنقاش مفصل حول حقائق قضية ستيرنبرج، راجع:

“Smithsonian Controversy” www.richardsternberg.com/smithsonian.php; U.S. Office of Special Counsel Letter (2005) at www.discovery.org/f/1488; United States House of Representatives Committee on Government Reform, Subcommittee Staff Report, “Intolerance and the Politicization of Science at the Smithsonian” (December 2006), at www.discovery.org/f/1489; Appendix, United States House of Representatives Committee on Government Reform, Subcommittee Staff Report (December 2006) at www.discovery.org/f/1490.

(3) Holden, “Defying Darwin”; Giles, “Peer-Reviewed Paper Defends Theory of Intelligent Design,” 114; Agres, “Smithsonian ‘Discriminated ’Against Scientist”; Stokes, ” . . . And Smithsonian Has ID Troubles”; Monastersky, “Society Disowns Paper Attacking Darwinism”.

(4) Powell, “Controversial Editor Backed”; Klinghoffer, “The Branding of a Heretic”.

(5) Hagerty, “Intelligent Design and Academic Freedom.

(6) See www.talkreason.org/AboutUs.cfm.

(7) Gishlick, Matzke, and Elsberry, “Meyer’s Hopeless Monster,” www.talkreason.org/AboutUs.cfm.

(8) Jones, Kitzmiller et al. v. Dover Area School District.

(9) Matzke and Gross, “Analyzing Critical Analysis,” 42.

(10) Matzke and Gross, “Analyzing Critical Analysis,” 42.

(11) Matzke and Gross, “Analyzing Critical Analysis,” 42.

(12) انظر في الفصل العاشر، الصفحة الخامسة عشر، الآليات الرئيسة الأربع التي يحدث فيها نسخة مزدوجة من DNA.

(13) لأمثلة، انظر:

Zhen et al., “Parallel Molecular Evolution in an Herbivore Community”; Liet al., “The Hearing Gene Prestin Unites Echolocating Bats and Whales”; Jones, “Molecular Evolution”; Christin, Weinreich, and Bresnard, “Causes and Evolutionary Significance of Genetic Convergence”; Rokas and Carroll, “Frequent and Widespread Parallel Evolution of Protein Sequences”.

وطبقًا ل Dávalos وزملائه فقد “أظهر التحليل المتعمق لجينات محددة، في سياق دراسات التأريخ التطوري السلالي بناء على مواضع جينية متعددة، أن التطور التكيفي الموصل إلى التقارب، والذي كان يعتقد فيما مضى أنه نادر جدًا، هو كذلك مصدر للتضارب بين الأشجار التطورية الجينية كما هو التضارب بين أشجار النسب المورفولوجية والجزيئية”.

(“Understanding Phylogenetic Incongruence,” 993).

(14) Shen et al., “Parallel Evolution of Auditory Genes for Echolocation in Bats and Toothed Whales”; Li et al., “The Hearing Gene Prestin Unites Echolocating Bats and Whales”; Jones, “Molecular Evolution”.

(15) Khalturin et al., “More Than Just Orphans”; Merhej and Raoult, “Rhizome of Life, Catastrophes, Sequence Exchanges, Gene Creations, and Giant Viruses”; Beiko, “Telling the Whole Story in a 10,000-Genome World”.

(16) Suen et al., “The Genome Sequence of the Leaf-Cutter Ant Atta cephalotes Reveals Insights into Its Obligate Symbiotic Lifestyle”.

(وجدنا أيضًا 9361 بروتينا فريدًا خاصًا ب A.cephalotes، وهو ما يمثل أكثر من نصف بروتيومها المتوقع”5). انظر أيضًا Smith et al., “Draft Genome of the Globally Widespread and Invasive Argentine Ant (Linepithema humile)”: (“كان هناك بالمجمل 7184 جينة فريدة (45%) في L. humile ذات القرابة بالأنواع الثلاثة الأخرى”، 2).

(17) Tautz and Domazet-Lošo, “The Evolutionary Origin of Orphan Genes”; Beiko, “Telling the Whole Story in a 10,000-Genome World”; Merhej and Raoult, “Rhizome of Life, Catastrophes, Sequence Exchanges, Gene Creations, and Giant Viruses.”

(18) Lyell, Principles of Geology.

(19) Pray and Zhaurova, “Barbara McClintock and the Discovery of Jumping Genes (Transposons).”

(20) Long et al., “The Origin of New Genes,” 867.

(21) Nurminsky et al., “Selective Sweep of a Newly Evolved Sperm-Specific Gene in Drosophila,” 574.

(22) Chen, DeVries, and Cheng, “Evolution of Antifreeze Glycoprotein Gene from a Trypsinogen Gene in Antarctic Notothenioid Fish,” 3816.

(23) Courseaux and Nahon, “Birth of Two Chimeric Genes in the Hominidae Lineage.”

(24) Knowles and McLysaght, “Recent de Novo Origin of Human Protein-Coding Genes.”

(25) Wu, Irwin, and Zhang, “De Novo Origin of Human Protein-Coding Genes.”

(26) Guerzoni and McLysaght, “De Novo Origins of Human Genes”; see also Wu, Irwin, and Zhang, “De Novo Origin of Human Protein-Coding Genes.”

(27) Siepel, “Darwinian Alchemy”.

(28) Siepel, “Darwinian Alchemy”.

(29) Siepel, “Darwinian Alchemy.”

(30) كما ذكر Siepel “يثير منشأ تلك الجينات الجديدة كليًا سؤالًا حول كيفية إنتاج التطور لتلك الجينات الوظيفية بدءًا من DNA غير مرمز عبر الانتقاء الطبيعي. ورغم أن كل واحدة من هذه الجينات ليست بتعقيد عضو كامل، كالعين أو حتى كالريشة، لكنها تظل محتاجة لسلسلة من المتطلبات غير البسيطة لتصبح وظيفية، مثل وجود الـ ORF (الإطار المفتوح للقراءة)، وأنها ترمز لبروتين يخدم بعض الأهداف المفيدة، ووجود بروموتر قادر على بدء عملية انتساخ RNA، وأنها توجد في المناطق الكروماتينية مفتوحة البنية والتي تسمح بحدوث الانتساخ. كيف يمكن لكل قطع الأحجية تلك أن تجتمع في موضع واحد بعمليات عشوائية أو طفرات وتأشيب وجنوح جيني محايد…؟ (“Darwinian Alchemy”).

(31) بالطبع يمكن للمرء أن يجادل بأن عمليات الطفرات التي يكثر ذكرها لشرح نشوء الجينات الجديدة من عليبات cassettes المعلومات الجينية الموجودة مسبقًا، هي نفسها تشرح منشأ المعلومات في تلك العليبات في المقام الأول. تقترح تلك النظرة أن السيناريوهات التي استشهد بها Long لا تصادر على المطلوب بقدر ما تولد إحجامًا عن الشرح ينتهي عند النشوء الأساسي للمعلومات البيولوجية، أي عند نقطة نشأة الحياة الأولى. تقتضي تلك النظرة أن العمليات التي استشهد بها Long تشرح كل تزايد لاحق في المعلومات خلال مسار التطور البيولوجي، رغم أنها تبقي النشوء الأول للمعلومات البيولوجية و(السؤال القريب منه عن) النشوء الأول للحياة لغزًا. لكن تبقى هذه النظرة عاجزة عن شرح كيفية توليد ترتيبات محددة للرموز التي تكوِّن عليبات الـDNA تلك من خلال خلط عليبات معلومات موجودة مسبقًا.

(32) Zhang, Zhang, and Rosenberg, “Adaptive Evolution of a Duplicated Pancreatic Ribonuclease Gene in a Leaf-Eating Monkey”.

تختلف الجينات التي ترمز لهذين البروتينين بـ12 نكليوتيد في تسلسلاتها المرمزة، وتُنتِج تلك الاختلافات بروتينين مختلفين عن بعضهما البعض في الكهرسلبية الكلية. وهذا الاختلاف يسمح بدوره للبروتين RNASE-1B بالعمل في درجة pH أقل من البروتين الآخر RNASE1 بقليل. ولأن الرئيسيات الأخرى تملك البروتين RNASE1 فقط، افترض كل من Zhang و Zhang و Rosenberg أن تطور الجينة الثانية (والبروتين) يمنح الأفراد ميزة انتقائية ضمن نوع السعادين. ولشرح منشأ الجينة الثانية، اقترحوا جينة كسلف مشترك، حدث عليها تضاعف جيني، وتراكم للطفرات المختلفة في النسخة المُضاعَفة (ال RNASE1B) بمرور الزمن.

(33) في هذه الدراسة (“Adaptive Evolution of Cid, a Centromere-Specific Histone in Drosophila”)، يستنتج Malik و Henikoff “حصول التطور التكيفي على سلالات كل من D.melanogaster و D.simulans منذ انفصالهما عن الأصل المشترك”، وقد استندا في هذا الاستنتاج على تحليل نسبة الطفرات “المترادفة synonymous” في جينوم هذين الكائنين. وجدت الدراسة أن العديد من الاختلافات/الطفرات في تسلسلات الأسس النكليوتيدية قد غيرت تسلسل حمض أميني (وتسمى بالتالي طفرات “غير ترادفية”)، بينما لم تقم البقية بذلك (والمسماة طفرات “صامتة أو ترادفية”). كانت نسبة هذه الاختلافات التي غيرت في تسلسل الحموض الأمينية أكثر من النسبة المتوقعة لو نشأت من التطور الحيادي لوحده، مما قاد المؤلفين لاستنتاج حصول التطور التكيفي على ذريات كل من D.melanogaster و D.simulans منذ افتراقهما عن الأصل المشترك”. وبما أن بعض هذه الاختلافات موجودة في المناطق الرابطة للبروتينات على الصبغي، فلربما أثرت في قدرة البروتين الارتباطية. لكن كاتبي الورقة البحثية لا يحددان أي تأثير وظيفي معين لتلك التبدلات في الحموض الأمينية، ويبنيان مزاعمهما عن وجود “دليل قوي على حصول التطور التكيفي في هيستون Cid” فقط عبر مقارنة الأعداد النسبية لحفنة من التباينات الترادفية وغير التردافية بين الجينات.

(34) Enard et al., “Molecular Evolution of FOXP2, a Gene Involved in Speech and Language”; Zhang, Webb, and Podlaha, “Accelerated Protein Evolution and Origins of Human-Specific Features.”

(35) Enard et al., “Molecular Evolution of FOXP2, a Gene Involved in Speech and Language.”

(36) Long et al., “The Origin of New Genes,” 866.

(37) Darnell and Doolittle, “Speculations on the Early Course of Evolution”; Hall, Liu, and Shub, “Exon Shuffling by Recombination Between Self-Splicing Introns of Bacteriophage T4”; Rogers, “Split-Gene Evolution”; Gilbert, “The Exon Theory of Genes”; Doolittle et al., “Relationships of Human Protein Sequences to Those of Other Organisms.”

(38) على سبيل المثال، ذكر Arli A. Parikesit وزملاؤه أنه “بالرغم من وجود علاقة ذات دلالة إحصائية بين حدود الميدان البروتيني و حدود الإكسون، فإن حوالي ثلثي الميادين البروتينية المدروسة يتخلل سلاسل الـDNA الخاص بها إنترون واحد على الأقل، وفي المتوسط، يحتوي الميدان على 3 أو 4 إنترونات” (“Quantitative Comparison of Genomic-Wide Protein Domain Distributions,” 96–97) بعد حذف الاستشهادات الداخلية.

(39) Gauger, “Why Proteins Aren’t Easily Recombined.”

(40) Axe, “The Limits of Complex Adaptation.” See also Voigt et al., “Protein Building Blocks Preserved by Recombination.”

(41) أثبت الخلط التجريبي للجينات فائدته فقط عندما يكون الجينان من الأبوين متشابهين إلى حد كبير. انظر:

Friedman, and Bailey-Kellogg, “Algorithms for Optimizing Cross-Overs in DNA Shuffling.”

(42) في العام 2012، أعلنت مجموعة بحثية من جامعة واشنطن عن نجاحها في تصميم عدة طيات بروتينية ثابتة باستخدام قواعد قليلة، والكثير من التحليل المحوسب، والتجربة والخطأ (حوالي 10% من البروتينات المصممة انطوت كما هو متوقع). وبالرغم من ثبات طيات هذه البروتينات، لكنها لم تؤد أي وظيفة بيولوجية. واعترف الباحثون أن هناك ما يشبه التقايض بين الاستقرار والوظيفية في البروتينات الطبيعية. وبقي علينا البحث فيما إن كانت طرائق هندسة التسلسلات قادرة على إنتاج طيات ثابتة وظيفية من لا شيء، حتى بالاستعانة بأفضل العقول والموارد الحاسوبية للعمل على هذه المعضلة. ولذا فهنالك سبب ضعيف يدعو للتفكير في أن خلط الإكسونات بعملية غير موجهة قادر على توليد بروتين وظيفي ومستقر. أنظر:

Nobuyasu et al., “Principles for Designing Ideal Protein Structures”; Marshall, “Proteins Made to Order.”

(43) Altamirano et al., “Directed Evolution of New Catalytic Activity Using the Alpha/Beta-Barrel Scaffold.” See also Altamirano et al., “Retraction: Directed Evolution of New Catalytic Activity Using the Alpha/Beta-Barrel Scaffold.”

(44) Gauger, “Why Proteins Aren’t Easily Recombined.”

(45) Axe, “The Case Against Darwinian Origin of Protein Folds.”

(46) كمثال انظر إلى:

Long and Langley, “Natural Selection and the Origin of Jingwei, a Chimeric Processed Functional Gene in Drosophila”; Wang et al., “Origin of Sphinx, a Young Chimeric RNA Gene in Drosophila melanogaster”; Begun, “Origin and Evolution of a New Gene Descended from Alcohol Dehydrogenase in Drosophila.”

(47) Long et al., “Exon Shuffling and the Origin of the Mitochondrial Targeting Function in Plant Cytochrome cl Precursor.”

(48) Long et al., “Exon Shuffling and the Origin of the Mitochondrial Targeting Function in Plant Cytochrome cl Precursor.”

(49) Nurminsky et al., “Selective Sweep of a Newly Evolved Sperm-Specific Gene in Drosophila.”

(50) Nurminsky et al., “Selective Sweep of a Newly Evolved Sperm-Specific Gene in Drosophila.”

(51) Brosius, “The Contribution of RNAs and Retroposition to Evolutionary Novelties.”

(52) Begun, “Origin and Evolution of a New Gene Descended from Alcohol Dehydrogenase in Drosophila.”

(53) Begun, “Origin and Evolution of a New Gene Descended from Alcohol Dehydrogenase in Drosophila.”

(54) من الأوراق البحثية التي استشهد بها لونغ والتي توظف الانتقاء الطبيعي رغم أن وظيفة الجينة مجهولة، وكذلك الوظيفة التي تخضع للانتقاء:

“Origin and Evolution of a New Gene Descended from Alcohol Dehydrogenase in Drosophila”; Long and Langley, “Natural Selection and the Origin of Jingwei, a Chimeric Processed Functional Gene in Drosophila”; Johnson et al., “Positive Selection of a Gene Family During the Emergence of Humans and African Apes.”

(55) Logsdon and Doolittle, “Origin of Antifreeze Protein Genes.”

(56) Courseaux and Nahon, “Birth of Two Chimeric Genes in the Hominidae Lineage.”

(57) Paulding, Ruvolo, and Haber, “The Tre2 (USP6) Oncogene Is a Hominoid-Specific Gene.”

(58) Chen, DeVries, and Cheng, “Convergent Evolution of Antifreeze Glycoproteins in Antarctic Notothenioid Fish and Arctic Cod.”

(59) Logsdon and Doolittle, “Origin of Antifreeze Protein Genes.”

(60) Johnson et al., “Positive Selection of a Gene Family During the Emergence of Humans and African Apes.”

(61) Nurminsky et al., “Selective Sweep of a Newly Evolved Sperm -Specific Gene in Drosophila”; Chen, DeVries, and Cheng, “Evolution of Antifreeze Glycoprotein Gene from a Trypsinogen Gene in Antarctic Notothenioid Fish”; Courseaux and Nahon, “Birth of Two Chimeric Genes in the Hominidae Lineage”; Knowles and McLysaght, “Recent de Novo Origin of Human Protein-Coding Genes”; Wu, Irwin, and Zhang, “De Novo Origin of Human Protein-Coding Genes”; Siepel, “Darwinian Alchemy”.

المصدر

إعادة المحاكمة: الداروينية في قفص الاتهام

يقول داروين في كتابه أصل الأنواع: “إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد، لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما”.(1)

يعتبر بعض المتحمسين لداروين مقولته السابقة دعوة للتحدي، في حين يرجعها المتابعون إلى الشك وعدم الثقة المتأصلان في نظريته التي تناقش أصل الأنواع. أيًّا كان المقصد، فأطروحتنا التي بين أيديكم اليوم هي استجابة لدعوة داروين للتحدي، أو تأكيدا لشكه.

  • ما هي الحياة، وكيف تفسر الداروينية تعقيدها؟
  • ما هي تلك النظم الحيوية غير القابلة للاختزال، وكيف تمعن في تحدي الداروينية؟
  • هل تفوز تلك النظم في التحدي الذي وضعه داروين وتحقق توقعه بانهيار نظريته، أم تؤكد أن الداروينية ما زالت ثابتة رغم التحديات؟
  • كيف تعاطى أنصار الداروينية مع تلك المعضلة، وهل استطاع كينيث ميلر تخطيها وتفنيدها كما ادعى خلال شهادته في محاكمة التصميم الذكي بمنطقة دوڤر؟
  • هل الصراع حول تفسير الحياة بشكل عام، تحسمه المحكمة؟ أم أن المحاكمة ستضطرنا لإعادة المحاكمة؟

هنا نحاول الإجابة على هذه الأسئلة، فتابعوا معنا إعادة المحاكمة.

– ما هي الحياة؟

هي الفرق بين الحي والميت، الحياة والجماد. هكذا ظل منتهى علمنا بالحياة حبيسًا داخل حدود هذا التوصيف، فالحياة هي اللغز الأعظم الذي حير الفلاسفة وأعجز البيولوجيون وأعيا أجيالا متعاقبة من الباحثين.

وحتى في الدين، فالروح هي الكينونة المبهمة بداخل كل مخلوق حي، تميزه عن الجماد، وتفارق بدنه عند الموت. سألت عنها اليهود رسول الله ﷺ، فأجاب إجابة واضحة مباشرة، بما أوحى إليه ربنا ‏سبحانه وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85].

منذ بدأ الثورة العلمية، كان هناك نزاع مستمر تدور رحاه في أوساط المعرفة البيولوجية حول توصيف الحياة ومصدريتها، انقسمت فيه الآراء إلى معسكرين: أحدهما يعلن أن الكائنات الحية ليست مختلفة إطلاقا عن المادة غير الحية، وكانوا يدعون أنفسهم أحيانا بالآليين Mechanists، أو الفيزيقيين Physicalists. وعلى الجانب المضاد يقف معسكر الحياتيين Vitalists، وكانوا ينادون برأي مفاده أن للكائنات الحية خصائص لا يمكن وجودها في المادة الخاملة، وأن المفاهيم البيولوجية لا يمكن أن تكون خاضعة لقوانين الفيزياء والكيمياء. أسست الحياتية منهجا راسخا بداية من القرن السابع عشر، وشكلت عقبة قوية في وجه الفلسفة الآلية المادية، التي ادعت أن الحيوان ما هو إلا آلة، وأن كل مظاهر الحياة هي عبارة عن مادة في حالة حركة. وتبنت الحياتية فكرة وجود مادة خاصة وقوة حيوية غير موجودة في الجمادات هي ما تميز الحياة، وكان كثير من أتباع تلك المدرسة من الغائيين Teleologists الذين يعتقدون أن الحياة وجدت لتحقيق غاية.

تسبب تشبث الحياتية بوجود تلك القوة الحيوية المبهمة في التعجيل بسقوطها؛ على اعتبار أنها فكرة ميتافيزيقية أكثر منها علمية، حتى انزوت تقريبا عن المشهد العلمي مع بدايات القرن العشرين وصعود الفلسفة المادية والنهج العلماني في تناول البيولوجيا.

001

في أواخر القرن التاسع عشر أتت الداروينية حاملة في كنفها نزعة مادية عاتية، كمخرج من سطوة الفكر الديني الأنجليكاني الذي تسيد المشهد البيولوجي آنذاك، فأنكرت وجود الغاية الكونية، واستبدلتها بمفهوم الانتخاب الطبيعي لقيادة التنوع الأحيائي، من خلال مبدأ الصراع من أجل البقاء، بالإضافة إلى نهج التبسيط والارتقاء، الذي يحاول تخطى معضلة تعقيد الحياة، في وقت كانت فيه دراسة الطبيعة طريقا إلى معرفة الله. فكان مشاهير علماء التاريخ الطبيعي يلتمسون التقوى من خلال ذلك، مثل جلبرت وايت Gilbert White الذي ألّف كتابا عن اكتساب المعرفة بالملاحظة عنوانه (التاريخ الطبيعي لسلبورن The Natural History of Selborne)، والباحث الموسوعي ويليام هيول William Whewell الذي ساهم بأطروحته (دراسة علم الفلك والفيزياء العامة في ضوء اللاهوت الطبيعي) ضمن (أطروحات بريدچووتر Bridgewater Treatises)، والعالم الشهير ويليام بالي الذي ألف الكتاب الشهير (اللاهوت الطبيعي Natural Theology)، والذي أسس فيه لفكرة التصميم، وطرح حجته الشهيرة عن صانع الساعات Watchmaker analogy. وملخصها أنه إن كانت الصخرة الملقاة لا تلفت الانتباه لوجود التعقيد، لكن الساعة الملقاة على الأرض تلفت الانتباه وتشير إلى وجود صانع لها، والشيء نفسه ينطبق على الكائنات الحية.

بيد أنه من المفارقات المتعلقة بهذا الشأن أن أحد أهم أسباب سقوط الحياتية هو ما ثبت صحته لاحقا مع سيرورة التقدم العلمي، فبالرغم من فشل الحياتيون في حل لغز تلك المادة المميزة للحياة، والتي أطلقوا عليها آنذاك البروتوبلازم، فإن المشتغلين بالبيولوجيا اليوم يعلمون أن الحياتية كانت على حق في احتجاجها بتميز الكائن الحي عن الجماد بميزات مذهلة، تم الكشف عنها تباعا مع تقدم العلم، وكان أهمها البرنامج المعلوماتي الجيني (الدي إن إيه DNA).

– ما هو النظام الحيوي؟

في عام 1931 أعلن عالم الوراثة والأحياء التطورية چون هالدِن J. S. Haldane أن علماء الأحياء لم يجدوا بدا من التخلي عن الحياتية بسبب كونها فكرة ميتافيزيقية في التوصيف المادي. لكنه في الوقت ذاته كان يقول إن أي تحليل آلي بحت لا يمكنه تفسير هذا التناسق المذهل للحياة. بذلك فإنه رغم انحسار فكرة الحياتية عن قيادة الوجهة البيولوجية، لم تتسيد فكرة الآلية الميكانزمية التسطيحية على المشهد، بقدر ما مهد لظهور مدرسة أخرى تسلمت الراية من سابقتها، ونحت وجهتها المادية بإتباع النهج الفيزيوكيمائى لتفسير النظام الحيوي، وسميت بالعضوانية. بالرغم من أن هذا النهج قد تأهل لتوصيف الكثير من العمليات الحيوية على مستوى الجزيئات، فإنه يفتقد صلاحيته تماما في تفسير علة ذلك التكامل التكويني المذهل للكائن الحي، وكيفية وسبب حدوثه. وكلما ارتفع المستوى الذي يجري فيه الاختبار على طريق تكامل تكوين الكائن الحي، ارتفع معدل الفشل وخابت الآمال المرجوة. فبعد النظر في المجهر، تبين للعلماء أن حياة الكائنات المتنوعة، من بشر وحيوانات ونباتات، هي محصلة لتعاون مئات المليارات من الخلايا المنفردة الدقيقة غير المرئية، التي تخصصت في وظائفها تخصصا عاليا، لدرجة أن أيًّا منها لم تعد قادرة على الحياة منفردة، من ثم أصبحت مهمة العلماء هي فهم وظائف الخلايا المنفردة وطريقة تعاونها؛ لأن المجال المرئي من العالم لم يقدم تفسيرا للحياة. وبدا لهم آنذاك، أن من يستطيع أن يعرف لماذا تمكنت هذه الملايين من الخلايا –التي توالدت جمعيها لدى كل حي من خلية بويضة ملقحة– من أن تتطور تطورا غائيًّا إلى العديد من الأنواع المختلفة من الخلايا عالية التخصص الوظيفي، فإنه بذلك قد ملك سر الحياة.

بيد أن هذا السر يأبى إلا أن يزداد غموضا فوق غموضه، فلا زالت مسألة التنوع الخلوي بدون حل حتى يومنا هذا، وما زاد الأمور تعقيدا، هو اكتشاف العلماء طبقة أعلى من التعقيد تحت المستوى الخلوي بداخل عمق الخلية ذاتها، وكان هذا المسار خطوة أولى فيما يسمى مجال البيولوجيا الجزيئية، التي أعطتنا الكثير من التساؤلات والألغاز المركبة، بدلا من أن تمنحنا الإجابات.

ظل التساؤل: كيف تنجز هذه الخلية مهامها؟ وما هي العوامل التي تنظم وظائفها المتعددة في كلٍّ واحدٍ منسجم؟

وصف العلماء الكائنات الحية كنظم غاية في التعقيد، على مستويات وطبقات متعددة؛ حيث تعتمد الخصائص المميزة لها على (تنظيم الكيان) أكثر من اعتمادها على (تركيب الكائن)، فارتباط الكل بأجزائه في عالم الحياة لا يقتصر على التكامل الكمي بينهما، بل يشمل أيضا ما ينتج عن ذلك من سيطرة الكل على أجزائه، وفهم الكائنات المتعضية الحية ينبغي أن يتم من منظور كلي. فالترابط بين أجزاء أي كائن حي متعض ينطوي على نوع من التفاعل النشط بينها، فهذه الجزيئات يمكن اعتبارها كليات صغرى، كما هو الحال في الخلايا التي يتألف منها جسم أي كائن حي. يشرح أليكس نوفيكوف Alex Novikoff: “إنّ الكلَّ والجزء كليهما كيانٌ مادي، والتكامل ينتج مما يتم بين الأجزاء من تفاعل مرتب على خصائصها”. فالكلية لا تنظر إلى الوحدات الفيزيوكيميائية التي يتكون منها الكائن الحي باعتبارها أجزاء في آلة يمكن فكها ووصفها من دون اعتبار للجهاز الذي انتُزِعت منه، وهو ما لخصه بيولوجيون آخرون في عبارة موجزة: الكل، شيء يختلف عن مجموع أجزائه.

من هنا فإن وصف الأجزاء المعزولة لا يمكن أن ينقل صورة عن خصائص الجهاز الحيوي ككل، ولا يمكنه أن يفسر وجوده، فالذي يتحكم في الجهاز كله هو ما يربط بين هذه الأجزاء من نظام يطلق عليه اسم المتعضي Organization.

وتكامل الأجزاء قائم على كل مستوى من مستويات التكوين؛ ففي الكائن المتعضي الواحد يتم التكامل في الخلايا، ثم بين تلك الخلايا، فالأنسجة، فالأعضاء، فالأجهزة العضوية التي بتكاملها يكتمل كيان الفرد.

كيف يعمل هذا النظام؟ وما هو سر وجوده؟ وهل نجحت الداروينية –حاملةُ راية التفسير المادي– في شرحه؟ أم أن هناك نظريات أخرى بديلة؟

هذا ما سنحاول استكشافه من خلال التسلسل التالي.(2)(3)

– التعقيد الحيوي في مواجهة الداروينية

عندما رأى داروين التشابه في العضلات وبنية الجسم عبر العديد من الأنواع، لم يكن لديه المعرفة الكافية بهذه التعقيدات الهائلة الكامنة داخل تلك الأجهزة في ذلك الوقت المبكر من تاريخ العلم، لكنه أدرك بالرغم من ذلك حجم الإشكالية التي تواجه فرضيته؛ بنية الأعضاء الحيوية المعقدة بداخل كيانات الأحياء، والتي أطلق عليها أجهزة “مفرطة الإتقان والتعقيد Extreme Perfection and Complication”.

أمام روعة هذه التصاميم الحيوية يقف داروين عاجزا، ويكتب عن تركيب العين في كتابه (أصل الأنواع):

“إن الافتراض بأن العين، بكل ما فيها من قدرات فذة لتعديل التركيز وفق مسافات متباينة، والسماح بكميات مختلفة من الضوء، وتصحيح الانحراف الكروي واللوني، قد صاغها الانتخاب الطبيعي، هو على ما يبدو افتراض سخيف غاية السخف، وأنا أعترف بذلك”.(4)

015

منذ الوهلة الأولى، أعلنت الأعضاء الحيوية مفرطة الإتقان عن تحدٍ واضح لفرضية التطور التدريجي البطيء التي تبنتها الداروينية كتفسير مادي طبيعي لحدوث الحياة بمعزل عن التصميم. تفترض الداروينية أن هذه العضيات الحيوية تمر أثناء رحلة تطورها المزعومة بسلسلة من المراحل الوسيطة الطفيفة والمتتالية، يقوم خلالها الانتخاب الطبيعي بصياغة تكيفها تدريجيّا، بالحفاظ على تغيرات المرحلة المفيدة والوظيفية، وتدمير ما هو غير صالح أو أقل تكيفا. وهنا تكمن المعضلة المحورية، فهذه الأعضاء لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها إلا بوجودها مكتملة، والكيانات الوسيطة المتتالية التي من المفترض أن يمر بها العضو أثناء رحلة تطوره ليس لها أي معنى وظيفي إلا بوصفها أجزاء من المنتج النهائي، لذلك فإن كافة المراحل الوسيطة ليس لها أي ميزة انتقائية، وينعدم الدور المخول للانتخاب الطبيعي في الحفاظ عليها وتثبيتها، لأنها لا تحمل له أيّة قيمة تكيفية أثناء تطور العضو، بل هي مجرد أعضاء مشوهة ناقصة تمثل عبئ يجب التخلص منه.

الانتخاب الطبيعي عملية لا غرض لها، عمياء عن رؤية المستقبل، ليس لها أهداف، ومعيارا التقييم الوحيدان لها هما النجاح في البقاء، والنجاح في التكاثر. وهذا ما يجب أن يتوافر في كل خطوة من خطوات التغيير في نشوء العضو الحيوي، لكن الطبيعة غير الاختزالية للعضيات الحيوية التي لا تقبل التدرج الوظيفي أو الإنقاص، تُفْشِل هذه العملية تماما، فهي إما تكون ككل أو أبدا لن تكون.

بالرغم من اعتراف داروين بحجم تلك الإشكالية، فقد تعاطا معها بمنهجية ملتوية، ونقل عبئ الإثبات لجهة المشككين؛ مطالبا إياهم بإثبات خطأ ادعائه الذي من المفترض أن يطالب هو بإثباته كأصل لقبول فرضيته، وذلك لإدراكه الراسخ بأنها جولة خاسرة، فقال في كتابه (أصل الأنواع):

“إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما”.(1)

علينا أن ندرك أن داروين كان حذقا في التعامل مع العقبات التي تعترض فرضيته، واستعمل المواربات الذكية، على أمل أن تحل تلك العقبات آجلا، وفي المقابل سلم بالانهيار التام لفرضيته إذا لم تتمكن من تخطيها.

مرت عقود عديدة على طرح داروين، وهو ما يمثل زمنا طويلا جدا بمقياس مسار العلم الحديث، ويبقى التساؤل البَدَهيّ الذي يفرض نفسه حتى الآن؛ هل نجح تلاميذه في تخطي تلك العقبات؟

– العقبة الكبرى

مع التقدم العلمي الهائل في رصد تعقيدات حيوية مذهلة، كان من المفترض أن تزيد صعوبات تفسير تلك التعقيدات بالارتقاء والتدرج في هذا العصر، مقارنة بعصر داروين. إلا أننا –على النقيض من ذلك– نلاحظ أن داروين كان أكثر معقولية واتساقا من أتباعه في مواجهة مشكلات التعقيد. ترفع داروين عما نراه حاليا من سلوكيات متعمدة من أتباعه تمارس التدليس الانتقائي بتسطيح التناول حول تطور هذه الأعضاء. ويمكننا القول، أن من السذاجة قبول أن مقارنة بسيطة لسلسلة من الكائنات الحية الأقل تعقيدا بأخرى أكثر تعقيدا –وفق معرفتنا الحالية بكم هذا التعقيد– ستقنعنا بأن نوعا من التطور التدريجي على مدى ملايين السنين هو المسؤول عن تفسير التعقيد الحادث. وهذا السبيل بعينه هو ما يجادل عنه أنصار التطور منذ عهد داروين وحتى يومنا هذا، لتفسير وجود تلك النظم الحيوية المعقدة، دون تقديم أيّة آلية فعلية لسيرورة هذا التحول المفترض. فعلى سبيل المثال، تعرض لنا الداروينية محاكاة لتطور العين، وتشرح كيفية تحول بقعة حساسة للضوء –كنظام رؤية بدائي– تدريجيا إلى تجويف منخسف شديد التقعر، ثم نصف كرة مملوءة بمادة شفافة، ثم بعد ذلك تحولت إلى ما هي عليه الآن في العيون الأكثر تعقيدا، معتمدا في ذلك على صنع اصطفاف لنماذج من العيون المختلفة في الكائنات الحية اليوم، من الأبسط إلى الأعقد.

002

تكمن الإشكالية هنا في خطأ منهجي، متمثل في صحة الاستدلال على التطور بالاستناد على خصائص بعض العيون الموجودة في الوقت الحاضر، فلا يمكن بأي حال من الأحوال، تمثيل العيون التاريخية التي من المفترض أن تمثل الأسلاف، من خلال سرد سلسلة من العيون الموجودة حاليا، والتي تمتلكها أنواع حية عصرية. لأن التطور يتطلب أن كل العيون الحالية لديها نفس القدر من التاريخ التطوري، فهي كأبناء عمومة لا يمكن اعتبارها أسلافا لبعضها البعض.

إن هذا النهج يتطلب اعتراف الداروينية بأن هذه العيون الحديثة –البسيطة– في أول السلسة التطورية هي نظائر للعيون المفترضة للأجداد، ومماثلة لها، وهذا يضعهم في حرج حقيقي؛ لأنه بالتبعية يؤكد أن تلك العيون لم تتطور أو يطرأ عليها أي تغيير منذ أزمان سحيقة، وهو ما يناقض الفرضية التطورية برمتها حول سيرورة التطور الدؤوبة. داروين نفسه كان يدرك جيدا عدم صلاحية هذا الاصطفاف للاستدلال، وعلى الرغم من ذلك وقع هو نفسه في ذلك الخطأ، وتفشى في نهج أتباعه.(5)

حين نحاول التعاطي مع حجة التطور السابقة حول اصطفاف تطور العين كمثال، فإننا بمجرد الخوض في أولى خطوات اختبارها، نصطدم مباشرة بالكثير من التناقضات، ونرصد خرقا جسيما لما تضعه الداروينية لنفسها من آليات وإلزامات وقواعد داخل إطار الاستدلال العام على التطور. وهذا ليس مستغربا، لكن على الرغم من ذلك لا ييأس أتباعها من البحث عن مبررات لتخطيها، وتقع أغلبها تحت إطار الحجج الدائرية، أو المسكنات الموضعية للإشكالية، أو ما يمكن تسميته بمبررات الاستهلاك المحلي، فحين ننظر في محاذاة عيون الأنواع الحية من البسيط إلى الأكثر تعقيدا لتبرير تطور العين، نجد أنها تناقض شجرة التطور الفيلوجينية التي تم رسمها.

على سبيل المثال: تخبر الداروينية أن أسلاف الرخويات قد انشقت عن الفقاريات خلال عصور سحيقة من تاريخ الحياة، في عصر ما قبل الكامبري Precambrian، مما يجعل البشر أكثر ارتباطا بنجم البحر وديدان الأرض، عن ارتباطهم بالأخطبوط (من الرأسقدميات)، بناء على ذلك فمن المفترض أن نرى العيون البسيطة البدائية في السلسلة متواجدة لدى الأخطبوط، لكن من الحقائق المثيرة للدهشة أن الأخطبوطات بالرغم من انحدارها في أسفل سلسلة التطور، إلا أنها تمتلك ذلك النوع من نظام الرؤية شديد التعقيد، والمعروف بعيون الكاميرا الذي يميزنا نحن البشر، والعجيب هنا أن التشابه بين عيون الإنسان والأخطبوط –رغم المسافة التطورية الشاسعة بين كلا النوعين– يبدو متطابقًا في التراكيب على نحو مذهل.

التطابق البنيوي بين عين الأخطبوط وعين الإنسان لغز يتحدى العشوائية

003

genome.cshlp.org/content/14/8/1555/F1.expansion.html

هذه القفزة الهائلة في تشكل العين عبر سلسلة المحاذاة، لا يمكن تفسيرها بالانحدار من أي سلف مشترك، وتقف مباشرة في وجه السيناريو التطوري الذي يستدل بتدرج نماذج العيون الحالية كتمثيل لأسلافها، وكالعادة، لا يمكن لأنصار التطور تحمل تبعات فرضياتهم، فنجدهم يتملصون منها بالمجادلة حول كون كل من الأخطبوط والإنسان أبناء عمومة من سلف قديم جدا، عاش في عصور ما قبل الكامبري، ولا يمثل أحدهما سلفا للآخر، وتلك البنية المعقدة والمتطابقة في نظام الرؤية بين كلا النوعين قد تطورت بمعزل عن بعضها البعض بطريق تطوري تقاربي Convergent Evolution.(6)

هذا الرد هو ما يعنينا الآن من طرح المثال السابق، وعليه نتساءل: إن كانت الكائنات الحية لا يمكنها أن تمثل الأسلاف ولا تعبر عنها، فلماذا يحتج أنصار التطور بمصفوفات كائنات حية حالية لتبرير تسلسل تطور العين؟!

المثال السابق ليس استثناءً، فقد رصدت التناقضات على نطاق كبير، حيث لاحظ العلماء أن العيون في ثلاثة فئات رئيسية من الأنواع (الفقاريات والمفصليات والرخويات) تنشأ من أنسجة مختلفة، ومنه افترض أنصار التطور أن لدى هذه الفئات الثلاثة تاريخا تطوريا منفصلا، ​​والعديد من أوجه التشابه بينها نتجت أيضا بسبب التطور التقاربي.(7)

مثل هذه التناقضات الشديدة في المسار التاريخي المقترح لتطور العين، دعت أنصار التطور إلى افتراض أنها قد تطورت ونشأت أكثر من أربعين مرة بشكل مستقل، وهو ما يفسد سيناريو الاصطفاف، ويؤكد عدم جدواه في الاستدلال.(8)(9)

بالإضافة إلى تناقض هذا النموذج مع السجلات الجيولوجية التي لا تدعم هذا التدرج المزعوم، وتستعرض ظهورا فجائيًّا للعيون المعقدة، بكامل تراكيبها المعروفة اليوم، منذ أكثر من 540 مليون سنة فيما عرف بالعصر الكامبريCambrian، ويشير إلى ثباتها منذ وجودها للوهلة الأولى، ولا زال أصلها التطوري يمثل لغزا حقيقيا.(10)(11)(12)

بتخطي هذا النهج المعيب، نتحول إلى محور تناولنا الذي يتعلق بتلك الإشكالية الكبرى التي تتعامى عنها الداروينية، وهي آلية هذا التحول المطلوب لإنتاج ذلك الجهاز المعقد العين.

فحدوث كل طفرة متتابعة في الحمض النووي داخل مقلة العين يتطلب تحولات جذرية ومتزامنة وشديدة التعقيد، والترابط داخل بنية العظام والأعصاب، ووظيفة الدماغ، ويجب سلوك مئات من المسارات التطورية في ذات الوقت عن طريق طفرات فاعلة في جميع الجوانب المتعلقة بالرؤية، مثل هذه التغييرات تتطلب أكثر بكثير مما يمكن توقعه من الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي.(13)

ولتقريب مدى صعوبة تلك العملية باتخاذ مقياس واحد فقط، هو عدد الجينات المسئولة عن إنتاج العين، نجد أنه قد تم التعرف حتى الآن على 501 جين مرتبط بالعين في الحشرة البدائية (ذبابة الفاكهة)، أي ما يعادل 3.5٪ من حجم جينومها بأكمله.

وفي الكائنات الأكثر تعقيدا مثل الفقاريات، نجد أن أكثر من 7500 جين يتداخل في تركيب وتنظيم شبكية العين، أي حوالي 30٪ من الجينات البشرية قاطبة، لذلك فحدوث طفرات متزامنة على هذا العدد الهائل من المسارات والجينات هو فرضية مريعة، تتخطى حدود المنطق، وتتزايد مع مستويات التكامل الأرقى بين أجزاء تشكل العين. حتى على المستويات التكوينية الأقل، تدرك الداروينية تلك المشاكل الخطيرة في وضع تفسير لتطور كل جزء من نظام الرؤية، بما في ذلك العدسة، ومقلة العين، وشبكية العين، والنظام البصري بأكمله، وفصوص القذالي في الدماغ.(14)

مثل هذا التكامل والتنظيم دفع عالم الفسيولوجيا سكوت تيرنر J. Scott Turner لتسمية عملية الرؤية بالمعجزة، ويقول إن معجزة الرؤية الحقيقية تكمن في تلك العملية الحسابية التي يمكن أن تنتجها.(15)

كل هذه الأنظمة المختلفة يجب أن تعمل معا كوحدة متكاملة لتحقيق الرؤية. في بحث خاص يدرس أعضاء أقل تعقيدا في تشريح أسد النمل، يتساءل بيريه جراسي Pierre P. Grassé حول إمكانية إنتاج مثل هذه النظم المعقدة بواسطة الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على الطفرات العشوائية، وحول فرص حدوث مثل هذه الطفرات المتزامنة التي يمكنها أن تفعل ذلك، وجدوى هذه الطفرات في إنتاج الهياكل التي تلائم بعضها البعض بدقة.(16)

من المؤكد أن مثل تساؤل جراسي سيلاقي طريقا مسدودا، فحتى أبسط نظم الرؤية وأكثرها بدائية (البقع الحساسة للضوء) –التي استغلت كحلقات أولية في سلسلة التطور– تتطلب وجود مجموعة كبيرة ومعقدة من النظم الإنزيمية في المكان والوقت المناسب لكي تعمل، وهي بحد ذاتها تعقيد لا يصدق، ونظام لا يمكن اختزاله، فعندما اتخذ دوكينز وغيره من أنصار التطور البقعة الحساسة للضوء كبداية للصعود نحو سفح الجبل، وقعوا في مغالطة منطقية بسبب تعقيدها الهائل، وبذلك فرحلته نحو القمة محكوم عليها بالفشل؛ لأنه ابتدأ من قمة أصلا، وهوى مباشرة نحو الهاوية.

004

في ورقة نشرت مؤخرا من المركز الطبي بجامعة بايلور بعنوان (تشريح الداروينية)، يشير الدكتور جوزيف كونJoseph A. Kuhn إلى أن الكثير من الأطباء خلال دراستهم للتعقيد الهائل للجسم البشري يمكنهم تقبل حدوث انتقاء لبعض الطفرات التي تعمل على مقاومة الملاريا، وخصائص الجلد، والعديد من التغييرات الطفيفة الأخرى التي لا يمكنها تحويل النوع. لكن مثل هذه الطفرات لا تقدم أي تفسير حقيقي حول منشأ وتشكيل الأجهزة والنظم المعقدة، فجميع عناصر النظم الحيوية تقريبا يجب أن تكون موجودة في وقت واحد بدلا من أن تتطور تدريجيا، فيما أسماه نظام (كل شيء أو لا شيءAll Or Nothing ).

أمثلة عديدة من داخل الجسم البشري للأنظمة المعقدة المتخصصة غير القابلة للاختزال، التي لا يمكن تشكلها من قبل الطفرات المتتابعة، حيث يتوجب على جميع المكونات أن تكون موجودة لتعمل تلك الأنظمة بشكل صحيح، وتشمل هذه النظم المعقدة (الرؤية، التوازن، الجهاز التنفسي، الجهاز الدوري، الجهاز المناعي، الجهاز الهضمي، الجلد، نظام الغدد الصماء، الذوق)، وغيرها من الأمثلة على المستويات البيوكيمائية والتشريحية ووظائف الأعضاء.

يشير كوِن إلى أن الداروينية لا يوجد لديها تفسيرات فعلية لأصل النظام المعقد الذي لا يمكن اختزاله، ناهيك عن شبكة مترابطة من الأنظمة غير القابلة للاختزال، التي تشكل جسم الإنسان ككل. بالتالي فجسم الإنسان يمثل نظامًا معقدًا لا يمكن اختزاله على النطاق الخلوي والأجهزة والنظم.(17)

– كل شيء.. أو لا شيء (التعقيد غير القابل للاختزال)

016

يستعرض مايكل بيهي أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة ليهاي بــبنسلفانيا، وأحد منظري التصميم الذكي، من خلال كتابه الشهير (صندوق داروين الأسود: تحدي الكيمياء الحيوية للتطور) طبقة أخرى من النظم غير القابلة للاختزال على المستوى البيوكيمائي الجزيئي في الحياة المجهرية الدقيقة.

ويعرّف بيهي النظام غير القابل للاختزال Irreducible complex بأنه نظام مركب من العديد من الأجزاء التي تتفاعل بتناسق شديد لإنتاج الوظيفة المخولة بالنظام، ويتبع ذلك أن إزالة جزء واحد من أجزائه يعطل هذا النظام ويوقفه عن العمل.

مما يعني أنه قد تم تصميم جميع أجزائه من البداية، بذلك لا يمكن أن يتكون نتاجا لطفرات طفيفة متدرجة يتم انتخابها، فالتطور لا يمكنه بناء عمليات بيوكيميائية معقدة خطوة بخطوة، لأن تلك الخطوات لا يمكنها توفير أيّة ميزة لحاملها، هذا يعني أن الانتخاب الطبيعي لن ينتقي هذا النمو التطوري، ولن يسمح لنظام غير كامل وغير فعال بالانتشار من جيل لآخر، فهو لا يثبت سوى التغيرات الوظيفية، وهو ما تفتقده تلك النظم، التي لا تعرف وظيفتها إلا بوجودها مكتملة.

يستخدم بيهي مصيدة الفئران كمثال تقريبي لشرح فكرته حول التعقيد غير القابل للاختزال، فهي لا يمكن أن تعمل إذا فقدت أيًّا من أجزائها المكونة من (القاعدة، الزنبرك، الماسك، المطرقة)، ولا يكفي وجود كل الأجزاء في الوقت والمكان المناسبين، بل يجب أن تكون متناسقة مع بعضها بدقة، حتى يمكنها القيام بوظيفتها، مما يجعل فرضية الفرص العشوائية محض جنون.

 005

ينتقل بيهي لشرح العديد من تلك النظم البيوكيميائية، منها آلية استشعار الضوء في نظام الرؤية، ونظام تخثر الدم البشري، والسوط البكتيري الذي تستخدمه الكثير من البكتيريا للحركة.

فالعين تحمل طبقة أخرى من التعقيد على المستوى البيوكيميائى الدقيق، وعندما يضرب الضوء الخلايا الحساسة في العين، تحدث سلسلة من التفاعلات الجزيئية المتعاقبة المذهلة تماما، التي يمكن تشبيهها بانهيار قطع الدومينو المتراصة حين نسقط أول قطعة، لتؤدي في النهاية إلى نقل النبض العصبي إلى الدماغ.

وإذا ما فُقِدَ أيُّ جزيء في هذه السلسلة من قطع الدومينو أو كان معيبا لن يمكن بث النبض العصبي، مما يعنى ببساطة انعدام الرؤية والعمى التام، لذلك فإن هذا النظام لا يمكنه العمل على الإطلاق ما لم تكن كل أجزائه حاضرة في ذات الوقت.

في مثاله الثاني شلال تجلط الدم في الإنسان، والمسئول عنه أكثر من عشرة جزيئات بروتين شديدة التناسق، يجب أن تتفاعل مع بعضها البعض بشكل متسلسل لإنتاج الجلطة في الوقت والمكان المناسبين لإيقاف نزيف محتمل، وفقد أحد هذه الجزيئات يعنى فشل نظام التخثر تماما –كما في حالة مرض الهيموفيليا–.

المثال الثالث هو السوط الباكتيري Bacterial Flagellum، الذي يبدو مثل خيوط خارجية طويلة تساعد على دفع البكتيريا، وتمكنها من السباحة والحركة خلال السائل المحيط بها. يتحرك السوط بآلية ميكانيكية تماما، فعند قاعدة كل سوط محرك دوار يحركها آلاف المرات في الدقيقة الواحدة.

يتكون السوط البكتيري من الخيط Filament الذي يرتبط مع الجسم القاعدي Basal body بواسطة قطعة وسطية تسمى الخطاف Hook.

006

يحاكي السوط البكتيري أنظمة الحركة الميكانيكية بوسائل النقل المائية بآلية الدفع اللولبي، بواسطة محركات دوارة لا يمكنها العمل مع فقد أحد أجزائها، ومثل هذا النظام لا يقبل التدرج في التكوين، فالتطور بطريق الانتخاب الطبيعي والطفرة يجب فيه المضي الحثيث نحو تحسين وظيفية واحدة في كل خطوة، فكيف يمكنه بناء جهاز لا يمكن اختزال خطواته مثل المحرك الدوار الذي لا يمكن أن يعمل على الإطلاق إلا إذا كانت جميع أجزائه في مكانها الصحيح؟!(18)

– حجج الداروينية المضادة

في عام 2005، أقامت منظمة الدفاع عن حريات المواطنين الأمريكية American Civil Liberties Union بالاتفاق مع إحدى عشرة أسرة ممن يتعلم أبناؤهم في مدارس منطقة دوڤر التابعة لولاية بنسلفانيا، دعوى قضائية ضد المجلس التعليمي للمنطقة.(19)

كان السبب وراء ذلك هو أن مجلس إدارة مدرسة منطقة دوڤر قد قرر دعوة الطلاب من خلال بيان مقتضب يتلى عليهم لدقيقة، يعرفهم على أن هناك نظرية أخرى بجوار نظرية التطور وهي نظرية التصميم الذكي. وكان الأساس الذي بنيت عليه الدعوى هو أن التصميم الذكي ينطلق من أسس دينية، وبالتالي فتدريسه في حصص العلوم يخالف التعديل الأول من الدستور الأمريكي، والذي نص على أن الكونجرس لن يصدر قوانين بناء على أية أسس دينية.

كينيث ميلرKenneth Miller هو أحد الشهود الخبراء، ممن استعان بهم الادعاء في القضية، وظهر مايكل بيهي Michael Behe الشاهد الخبير للدفاع، أثناء استجواب ودّي طرحه عليه الادعاء، أكد ميلر أن نظرية التصميم الذكي “ليست قابلة للاختبار”، لذلك فهي ليست من العلم في شيء، لكن في وقت لاحق أثناء شهادته ناقض ميلر ادعائه هذا، وأثبت أنها نظرية قابلة للاختبار، حين جادل أن العلم قد اختبر حجة النظام غير المختزل وأثبت زيفها.

بالتغاضي عن تناقض ميلر الذي لم ينتبه إليه القاضي أو المحلفين في حينه، لنرى كيف أثبت زيف حجة بيهي حول التعقيد الذي لا يمكن اختزاله: يمكن للمطلع بسهولة أن يدرك أن ميلر ارتكز خلال شهادته وفي كتاباته العديدة على تشويه الحجج وطرح تعريف مضلل للنظام غير القابل للاختزال، ومن ثم يقوم بدحض هذه الفكرة المضللة والمشوهة التي صنعها بنفسه، مرتكبا بذلك حيلة منطقية يجيدها؛ تعرف بمغالطة (رجل القش).(20)

دلس ميلر في تعريف النظام غير القابل للاختزال، بادعائه أن حجيته تكمن في كون الأجزاء المكونة له لا تحمل أي معنى وظيفي خارجه، فبذلك يمكن تفنيده إذا ما تم العثور على وظيفة ثانوية لهذه الأجزاء في نظم أخرى، ويستخدم مثال بيهي (مصيدة الفئران) للبرهنة على ذلك بنزع أحد أجزائها واستخدامها كدبوس لرابطة العنق، ومن ذلك يدعي أن مفهوم التعقيد غير القابل للاختزال في السوط البكتيري قد تم دحضه، لأن ما يقارب ¼ البروتينات المستخدمة في وظيفة سوط البكتيريا تقوم بوظائف في نظام آخر في أنواع بكتيرية مختلفة، هو آلة حقن السم، وتسمى (نظام إفرازي النمط–III،أو T3SS)، مما يدل على أن السوط البكتيري من الممكن أن يتطور تدريجيًّا من نظام آلة الحقن الأقل تعقيدا.(21)

007

للتعريف بخدعة ميلر وتدليسه في اختبار النظام غير المختزل نضرب لكم هذا المثال: بما أننا قد وجدنا أن كلا من جهاز الكمبيوتر والموقد الكهربائي لديهما سلك الطاقة المسئول عن توصيل التيار الكهربائي، إذن نستنتج من ذلك أن جهاز الكمبيوتر لم يعد تعقيدا غير قابل للاختزال، وذلك لأن الكمبيوتر يتطلب عددا من قطع الغيار اللازمة من أجل وظائف ثانوية في أجهزة أخرى.

نعلم جيدا أن توافر بعض قطع جهاز الكمبيوتر الذي نستعمله الآن أو كل أجزائه في أي مكان آخر لا يغني عن تلك الخطوات الذكية التي يجب أن تكون مسئولة عن تجميع كافة الأجزاء في الوقت والمكان المناسبين، وفق مخطط إنشائي مسبق وتعليمات موجهة، والطريقة الصحيحة لتفسير تعقيده هي تتبع كافة خطوات تركيبه.

يضع كيسى لسكين Casey Luskin مقاربة تصويرية رائعة لمنطق ميلر السابق، في مقالة نقدية نشرها حول مجريات وأحداث محاكمة دوڤر، ممثلا في تفسير التعقيد غير القابل للاختزال من خلال شكل القوس.(22)

008

الشكل A: باعتبار القوس وظيفة معقدة لا يمكن اختزالها، ومقسم إلى العديد من القطع، بما في ذلك القطع T وS.

009

الشكل B: برفع القطعة T من القوس ينهار القوس، لكن تبقى القطعة S شاخصة ليس لها أيّة قيمة.

من خلال الرسم السابق نطرح سؤالا: هل فسر أو دحض وجود الجزء القاعدي (S) من القوس التعقيدُ غيرُ القابل للاختزال للقوس؟ بالطبع لا. وإذا قمنا بتمثيل القطعة (S) بقاعدة إبرة الحقن T3SS، فكونها مشتركه مع السوط لم يدحض التعقيد غير القابل للاختزال في تركيب السوط، وفشل تماما في تفسيره، الاختبار الحقيقي الوحيد الذي يمكنه دحض هذا النظام هو إظهار قدرة الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي على بناء هذا النظام تدريجيا خطوة بخطوة، كما اشترط داروين، فبروتينات نظام حقن السم T3SS المشتركة مع السوط البكتيري لا تمثل أكثر من وظيفة المساهمة في تثبيت كلا منهما في غشاء الخلية، ولا تساهم في الوظيفة غير الاختزالية للسوط.

إذا ضربنا مثالا أكثر ملائمة، وقمنا بتشبيه السوط البكتيري بمحرك دفع خارجي لقارب، ونظام الحقن T3SS كرشاش مياه، فحتى نستطيع تثبيت كليهما على ظهر القارب –الذي يمثل بدوره جسم البكتيريا– يتوجب علينا استخدام قاعدة تثبيت (البروتينات القاعدية المشتركة)، ومنه يمكننا القول إنه من السذاجة استنتاج أن وجود جزء التثبيت القاعدي في رشاش الماء دليل على نفي التعقيد غير المختزل في تركيب المحرك الخارجي، مثل هذه الحجة –على حد تعبير ديمبيسكي– في أحسن الأحوال كمثل القول أن بإمكاننا السفر سيرا على الأقدام من لوس أنجلوس إلى طوكيو؛ لأننا اكتشفنا جزر هاواي.(23)

– ما هي متطلبات دحض نظام معقد غير اختزالي؟

لتتمكن الداروينية من وضع اختبار حقيقي لأصل آلة جزيئية متكاملة غير قابلة للاختزال وظيفيا، يتوجب عليها تتبع الخطوات والشروط الآتية، التي تم تلخيصها وفقا لمنيوجAngus Menuge:

أولا: توافر وإتاحة كل الأجزاء اللازمة لتشكيل النظام المطلوب.

ثانيا: تموقع الأجزاء بموقع البناء في الوقت الذي يتطلب وجودها فيه.

ثالثا: التنسيق والتوافق لتلك الأجزاء في الوضع الصحيح، وملائمة التركيب في النظام وفقا للتوقيت والمكان المناسبين، لتتفاعل بشكل صحيح داخل النظام.(24)

الإخلال بأحد هذه الشروط يفشل الاختبار، ويؤكد عدم صلاحيته، والحقيقة التي لاحظناها بوضوح أن ميلر في اختباره لم يفعل سوى توفير جزء صغير من الشرط الأول، متمثلا في إتاحة الجزء القاعدي لإبرة الحقن والسوط، الذي لا يمثل سوى 20% من مكونات السوط، ولم يفسر وجود أجزاء المحرك الدوار الأكثر تعقيدا في السوط، أو يجد لها مثيلا بأية وظيفة ثانوية أخرى في أي نظام آخر. بالتبعية، لم يقترب قط من الشرط الثاني أو الشرط الثالث للاختبار، ليشرح كيف تزامنت أجزاء النظام أو تواجدت في نفس مكان البناء، وكيف توافقت في تنسيق بعينه لإنتاج الوظيفة المخولة، فبدلا من ذلك بادرنا باستعراضه المسرحي الهزلي، باستخدامه لأحد أجزاء مصيدة الفئران كمشبك لرابطة العنق.

ادعى ميلر زورا –حانثا باليمين الذي أقسم به قبل الإدلاء بشهادته– أن بيهي قد افترض عدم وجود وظيفة ثانوية لأجزاء النظام في تراكيب أخرى، والتي يمكنها بحسب ادعائه أن تتكيف فيما بعد لإنتاج النظام الجديد، وأطلق عليها فرضية الخيار المشترك Co–option أو التكيف المسبق Exaptation، الذي تم اصطلاحه للتعبير عن الخصائص التي تظهر في سياق وظيفي ما، قبل أن يتم استغلالها في سياق آخر، حيث يمكن لسمة معينة كانت تخدم وظيفة بعينها أن تتحول في وقت لاحق لوظيفة أخرى.

ومن الأمثلة الشهيرة للتكيف المسبق “ريش الطيور”، الذي تفترض الداروينية وجوده لتدفئة الحيوانات قديما، قبل أن يتكيف كعامل رئيس في الطيران، ومثل هذه القصص من السذاجة بمكان، حيث يمكنها أن تصلح فقط كقصص ما قبل النوم التي كانت تحكيها لنا الجدات؛ فالريش بشكله الحالي وجد خصيصا بتركيب وتوزيع ليساعد على الطيران، وكونه يحمل وظيفة أخرى تفيد في العزل والتدفئة لا يعني بالمرة أنه تكيف من هذه الوظيفة تماما، كما لا يعني وجود جيوب بمعطف التدفئة نضع بها متعلقاتنا بأن المعطف الشتوي قد صنع في البداية للاحتفاظ بالمتعلقات، ومن السذاجة بمكان ربط تطور الطيران بوجود الريش، فالخفاش يمكنه الطيران بدون ريش، كما تفعل الفراشة ويفعل اليعسوب، وإن احتاج الحيوان ليصبح طائرا فلن ينفعه زغب التدفئة في تطوير تلك الخاصية، ومثل تلك الطرق الاستدلالية تقع تحت إطار مغالطة الهجوم على رجل القش.

من ذلك المنطلق، وضع القاضي جونز في حيثيات حكمه أن بيهي كان جاهلا بآلية التكيف المسبق لتفسير تحول الوظيفة، والحقيقة أن القاضي جونز هو من يجهل تماما مثل هذه القضايا المتخصصة، فبيهي تناول هذه الحجة تفصيليا من خلال كتابه (صندوق داروين الأسود) حين تكلم عن كيفية استخدام مجموعة من القطع التي تمتلك وظائف ثانوية في نظم أخرى، كما في تطور أهداب الحركة في البكتيريا، وشرح ذلك من خلال مثاله الشهير مصيدة الفأر، حين أشار إلى فرص تكوين تلك الآلة من مهملات المرآب التي كانت تستعمل لأغراض أخرى سابقة، فقطعة خشبية يمكن استخدامها كثقالة أو لأي غرض آخر، ونابض مستخدم في ساعة قديمة مهملة، وغيرها من أجزاء تشكيل المصيدة، يقول بيهي إن الإشكالية الحقيقية تكمن في إدخال مثل هذه الأجزاء في نظام وظيفي جديد، وحاجاتها إلى سلوك مجموعة من التعديلات الملتوية بالغة التعقيد، وفيها ينعدم الدور المخول للانتخاب الطبيعي تماما، هذا هو سر فعالية الحجة، فحتى مع توافر جميع الأجزاء الضرورية المطلوبة كـ(القاعدة، النابض، عصا توقيف)، فإنه يتوجب عليها أن تتواءم مع بعضها بدقة، وإلا فالمصيدة ستكون فاشلة ولن تعمل.

أنصار التطور يدركون جيدا حجم الإشكالية، ومن ثم يجادلون في استنادهم على حجة التكيف المسبق بأن النظم الحيوية المعقدة التي تبدو غير قابلة للاختزال يتم بناؤها بطرق غير مباشرة بعملية تشبه عملية التسقيل (دعم بسقالات)، والتي يمكنها المساعدة في رفع البناء، وإيصال المكونات إلى مكانها في النظام حتى يكتمل، ومن ثم يتم إزالة هذه الأجزاء (السقالات).

الإشكالية هنا تكمن في الإجابة عن هذا التساؤل المحوري:

أي قانون طبيعي بلا هدف يمكنه أن يوجه تلك الأجزاء (بعملية التسقيل المزعومة) إلى موقعها المطلوب، في الزمن المطلوب بالتناسق المطلوب، وما هي فرص حدوث مثل هذا الحدث؟ من ناحية أخرى فالاستناد إلى مثل هذا التشبيه مرتد على صاحبه؛ فعملية البناء بالتسقيل للأبنية المعقدة بالقياس هي عملية ذكية نتاج توجيه هندسي محكم، وليست عشوائية، حيث تتطلب دقة متناهية في توجيه السقالة في مكان محدد، ونزعها في توقيت دقيق.

دعونا لا نستبق في الحكم، ونتوجه مباشرة لاختبار هذه الفرضية، نضع نموذجا افتراضيا لآلة جزيئية تتألف من مكونات البروتين (A، B، C، D)، التي تتفاعل مع بعضها لتنتج الوظيفة البيولوجية المخولة بتلك الآلة البيولوجية.

010

الشكل (1): مكونات (A، B، C، D)، تتفاعل لإنتاج الوظيفة البيولوجية.

إذا كان لا يمكن لهذه الوظيفة البيولوجية أن تقوم إلا بواسطة التفاعل بين المكونات السابقة، يتوجب ساعتها على أنصار التطور استدعاء فرضية التكيف المسبق لتفسير حدوثها، وفيها يفترض أن كل جزء بروتيني من الأجزاءA) ، B، C، D) كان يحمل في الأصل وظائف ثانوية سابقة.

من ثم يتفاعل مع بروتينات أخرى على مر الزمن التطوري، ويخضع النظام ككل لعمليات متكررة من التحول الوظيفي، وهذا هو جوهر التكيف المسبق، كما هو موضح في الشكل (2).

 011

الشكل (2): المكونات تحمل وظائف ثانوية لا علاقة لها بالوظيفة الرئيسية للنظام الكلي، ويجب أن تنتج وظيفة جديدة مع كل خطوة تدريجية في سبيل تحولها إلى خطوة أخرى.

ندرك جيدا أن الآلات الجزيئية يتم بناؤها من أجزاء فردية من البروتينات، فالسوط البكتيري من السالمونيلا يتكون من 42 جزءًا من البروتين، منهاMotA وMotB (البروتينات الحركية)، FlgE (المحور).. إلخ. وتتفاعل هذه الأجزاء البروتينية مع بعضها بتكامل دقيق للغاية، يحدده أشكالها ثلاثية الأبعاد، التي يتم تعشيقها لتتآلف وتتعاون لإنتاج الوظيفة المخولة بالنظام النهائي، حيث يتوجب على بروتين يمتلك شكل به نتوءات معينة أن يقابله بروتين آخر يمتلك شقوقا متكاملة معها تماما.

012

الشكل (3): نرى آلة معقدة تتكون من خمسة عناصر (بروتينات)، هي A، B، C، D، E. وهذه البروتينات هي مكملة لبعضها البعض؛ فالعنصر A هو مكمل لـ(B، C، D)، والعنصر D يعتبر مكملا لـ(A، C، E).

سيناريو التكيف المسبق يحملنا على الاعتقاد بأن أجزاء الآلة من A إلى E كانت تعمل أصلا في سياقات مختلفة، وتشكلت كل واحدة منها بصورة مستقلة عن طريق الانتخاب الطبيعي.

من ثم اجتمعت هذه الأجزاء لتتكامل في الوظيفة الجديدة، لكن في خطوة التكامل هذه ينعدم تماما دور الانتخاب الطبيعي، ويبقى العامل الوحيد المتحكم في تكامل هذه الأجزاء داخل النظام الجديد هي الصدفة وحدها، فليس هناك شيء في الانتخاب الطبيعي من شأنه الدفع نحو موائمة أشكال البروتينات لبعضها البعض، ومن المهم أن نتذكر ما شرحناه مسبقا بأن التطور غير غائي، ولا يوجد لديه بعد نظر، على عكس المهندس الذي يتحرك وفق خطة إنشائية مسبقة، فيضع السقالات في المكان الملائم ليرفع أجزاء البناء، لتتكامل في نهاية المطاف، ومن غير المعقول تماما أن نتوقع أن تلك العمليات غير الغائية يمكنها خلق هذه البروتينات فقط في الطريق الصحيح لتتوائم بدقة متناهية في الشكل والتموضع، لأداء الوظيفة الكلية للنظام.

وكما يشير كل من سكوت مينيخ Scott Minnich وستيفن ماير Stephen Meyer أنه حتى مع توافر البروتينات اللازمة لتكوين السوط البكتيري الدوار، فإنها يجب أن تترتب وفقا لتسلسل زمنى صحيح تماما كما يتم تركيب السيارة أثناء خطوات تصنيعها، ومن أجل حدوث ذلك فإنها بحاجة إلى نظام إنشائي مسبق من الشفرات والتعليمات الجينية، وأدوات التجميع والتركيب المتمثلة في آلات جزيئية من البروتينات المتخصصة لمهمة ترجمة تلك التعليمات وتنفيذها.(25)

مما سبق يتضح أن حجة أنصار التطور المركزية حول التكيف المسبق عاجزة تماما في تفسير التعقيد الحيوي ونشأته، ويتضح أيضا أن ميلر لم يقترب بأي حال من الأحوال من تفنيد التعقيد غير القابل للاختزال، بل حوّل وجهة النقد إلى مهاجمة رجل القش الذي صنعه بتحريف حجة بيهي واختزالها، من ثم وضع الاختبار في المسار الخاطئ.

والحقيقة أن فرضية الخيار المشترك بتحول الوظائف وتكيفها إلى أخرى مجرد حيلة أخرى من حيل تمرير الداروينية الشهيرة، التي أجاد ستيفن جاي جولد اختلاق الكثير منها للهروب من الإشكاليات، لكنه لم يقدم للتطور سوى نوع من تكييف المشكلة وتحويل مسارها إلى طرق جانبية ملتوية، لا تقدم أيّ حلول.

– أيهما وجد أولا؛ السوط البكتيري، أم نظام الحقن T3SS؟

كل التصورات السابقة قائمة على نقد سيناريو تطور السوط البكتيري تدريجيًّا من نظام أبسط، هو إبرة الحقن T3SS كما تنبأت الداروينية. فماذا لو علمنا أن وجهات الفحص تصب في صالح تصور معاكس تماما؛ حيث تفترض الدراسات أن السوط البكتيري كان سابقا لظهور إبر الحقن، وأن البكتيريا لابد أنها احتاجت للدفع والحركة قبل أن تحتاج أدوات الافتراس التي تستخدم لمهاجمة خلايا حقيقات النواة Eukaryotes، والتي تطورت في وقت لاحق. ومن الأسباب الداعمة أيضا لتلك الفكرة هي أنه قد تم العثور على T3SS في نطاق ضيق من البكتيريا، في حين وجدت الأسواط البكتيرية على نطاق واسع في المجموعات البكتيرية المختلفة، وهو ما يعني أنها قد نشأت في وقت مبكر عن سابقتها.

هاورد أوكمانHoward Ochmanالمتخصص في الكيمياء الحيوية في جامعة أريزونا، يشير إلى تطور T3SSمن السوط وليس العكس، فكيف يمكن للداروينية تخطي ذلك الأمر؟(26)

– فجوة معرفية، أم دليلي إيجابي؟

مما لا شك فيه أن فكرة عداء العلم للدين في الغرب تعود بقسم كبير منها إلى ذلك الإرث الكنسي اللاهوتي القديم المغرق في السطحية، الذي وضع برهانا خاطئا على وجود الله ينحصر في نوع من المعجزات، مرتبط بما لا نستطيع تفسيره، وكان تبني تلك الفكرة المهينة بأن الله لا يتواجد إلا في الجزء غير المفسر من العالم بمثابة الحبل الذي لفه اللاهوتيون حول أعناقهم، ومن ثم كانت الفرصة الذهبية لتنهي العلمانية المهمة بسهولة، وتركل الكرسي من تحت أقدام اللاهوتيين.

وعليه، لا يمكننا تشديد اللوم على المادية في اصطلاحها المشهور (إله الفجوات المعرفية)، لكن في المقابل نجد أنه من الأهمية تصحيح المفاهيم، وإعادة توجيه التوصيف إلى مساره، فتغيير الفكرة السائدة حول مرض الصرع ومعرفة أسبابه، وتصحيح الفكرة التي سادت حوله باعتباره تلبس بروح شريرة، وأن علاجه يكمن في استجلاب معجزات إلهية بالصلوات، في الحقيقة لا يعتبر هدما للإله وانزواء لدوره في مقابل الحل المادي، بقدر ما يمكن اعتباره هدما للفكرة الخاطئة التي تبناها اللاهوتيون حول دور الله وتوظيفه بالخطأ، والذي اعتمد على الالتجاء إلى نوع من التواكل وعدم السعي لمعرفة الأسباب وتتبعها، لذا ظلت العلمانية تكسب جولات زائفة بتراجع دور الإله بذلك المفهوم، لكنها في الحقيقة لم تجابه إلا (رجل القش) الذي ساهم اللاهوتيون أنفسهم في خلقه هذه المرة. فنجاح المادية في تفسير كيفية عمل الآلة المعقدة التي كانت تبدو من قبل ذلك للبعض كالسحر والمعجزة، لا يمكنه أن ينفي وجود صانع لتلك الآلة ويرجع الأمر برمته إلى القوانين الطبيعية، مدعيا قدرة تلك القوانين على صنعها، بل على النقيض من ذلك يجب أن يزيد يقيننا في قدرة الصانع وبراعته، ويؤكد قناعتنا بحتمية التصميم الحكيم.

من جهة أخرى، فإن الفجوات المعرفية المحيطة بقضية ما –على فرض صحتها– يتوجب عليها أن تعطي لدى الباحث المحقق انطباعا من الحيادية أو اللاأدرية بخصوص تلك القضية، وعدم استباق الأحكام حولها، لكن في الوقت الذي يدعي فيه أنصار المادية استعانة المعارضين بإله الفجوات لسد تلك الثغرات المعرفية، فإنهم في المقابل يسدونها بإله آخر؛ هو (الصدفة العشوائية)، وينصبون التفسير المادي الطبيعي ليقعوا تحت نفس إطار الاتهام سد الثغرات بإله الفجوات.

حتى لا نتشعب كثيرا في تفاصيل فرعية، يمكن للإشارة السابقة أن تكون كافية لإلقاء الضوء على ذلك الادعاء الشائع، الذي يروج له أنصار المادية بأن التعقيد الحيوي غير الاختزالي لا يمكن اعتباره برهانا إيجابيا داعما للتصميم، بقدر ما هو برهان سلبي مبني على استغلال فجوات معرفية متعلقة بجهل آليات نشوء هذه الأعضاء الحيوية، التي يمكن سدها في المستقبل.

لكن الحقيقة غير ذلك، فهذه النظم تبدي علامات التصميم الحكيم التي يستحيل تفسيرها من خلال عمليات طبيعية عشوائية، ومن خلال قياس بسيط يمكننا إدراك تلك الحقيقة، فلو وجد شخص ما كهفًا حجريًّا مصقولا وسط الجبال، سيستنتج أنه تم صنعه بفعل مصمم، لكنه أيضا لن يبرر بنفس الادعاء إذا وجد قطعا صخرية عشوائية الشكل ومن نفس الحجم.

– التعقيد المتخصص

تتميز الحياة بتعقيد تفشل في مضاهاته أيّة معقدات غير حية، ذلك أنها لا تتعدى كونها معقدات عشوائية ترتبط خلالها الوحدات الصغيرة من خلال روابط كيميائية كأحجار الكريستال.

نرى في نماذج التتابع الجزيئي في الجزيئات البيولوجية الوظيفية –مثل النظام المعلوماتي للحياة المعروف بالحمض النووي DNA– والتي أسماها ويليام ديمبسكي التعقيد المتخصص Specified Complexity، ويعرفه كعلامة واضحة من علامات التصميم الذكي بقوله:

“عندما يبدي شيء ما تعقيدًا متخصصًا، أي عندما يكون معقدًا ومتخصصًا بنفس الوقت، فإننا نستطيع أن نقول أنه قد أُنتج من قبل مسبب ذكي، عوضًا عن القول بأنه كان نتيجة للعمليات الطبيعية”.(27)

فالتعقيد المتخصص نظام لا يكتفي بالتعقيد العشوائي، بل بتخصص التعقيد لأداء أدوار ومهام محددة، ويستخدم ديمبسكي المثال التالي:

  • الحرف الأبجدي هو متخصص دون كونه تعقيدا.
  • جملة طويلة من الأحرف العشوائية هي تعقيد دون كونه متخصصا.
  • قصيدة لشكسبير هي تعقيد متخصص.

ويطرح ديمبسكي نموذجا رياضيًّا لتقنين التعقيد المتخصص، في إطار ما قام بتعريفه بـ(حد الاحتمال الكوني)؛ فلو كان عدد الجسيمات الأولية داخل الكون هو 8010، وعدد العمليات الفيزيائية التي يمكن حدوثها في الثانية الواحدة هي 4510، وعمر الكون منذ الانفجار الكبير بالثواني هو 2510، فحاصل ضرب العوامل السابقة يمكن أن يعطينا الحد الأقصى للأحداث التي يمكن أن تكون قد حدثت للجسيمات الأولية، منذ الانفجار الكبير حتي وقتنا هذا، لذلك فإن أقل احتمالية حدوث حدث عشوائي خلال تاريخ الكون هو واحد من (15010). أما الأحداث التي تكون قيمة احتمالها أقل من هذه القيمة فمن غير الممكن حدوثها بكوننا بشكل عشوائي، ومنه يعرف ديمبسكي المعلومات المعقدة المتخصصة بأنها أي شيء احتمال حدوثه في الطبيعة أقل من 1 من 15010.(28)

بالعودة إلى السؤال الذي طرحناه في التمهيد حول سر وجود النظام الحيوي، يمكننا الآن أن نكوِّنَ تصورًا للإجابة عنه، في ظل التقدم العلمي في مجال (البيولوجيا الجزيئية)، الذي منحنا نظرة أكثر عمقا عن سيرورته، وكشف لنا –مع ذلك التقدم– أن الكثير من التفاعلات المهمة بين مكونات أي كائن متعض لا تتم على المستوى الفيزيوكيميائي، بل على مستوى تكاملي أرقى منه ومتسيد عليه، هو البرنامج المعلوماتى المتمثل في الحمض النووى DNA، الذي يتواجد داخل نواة كل خلية حية، وهو بمثابة أبجدية مكونة من أربعة أحرف، تحمل المعلومات ذات التعقيد المتخصص، تماما مثل الجمل العربية أو برامج الكمبيوتر، والتي لا يمكن تفسيرها بكيمياء الحبر أو فيزياء المغناطيسية، لكنها ترجع بالضرورة إلى التصميم الحكيم. هذا البرنامج يمكن اعتباره القاسم المشترك بين جميع الكائنات الحية من البكتيريا إلى الإنسان، وهو ما يقوم بوظيفة توجيه الأجزاء إلى الترابط في تلك النظم الحيوية على نحو دقيق وقيادتها، ويحمل مخططات بناء الكائن الحي ووظائفه بكل تفاصيله المدهشة.

يشير (پول ديڤيز Paul Davies) عالم الفيزياء النظرية والبيولوجيا الفلكية إلى تلك الحقيقة بقوله: “بإرجاء الحياة إلى قوانين الفيزياء أو الكيمياء نراها تبدو مثل السحر، إنها تتصرف بطرق غير عادية لا مثيل لها في أي نظام فيزيائي أو كيميائي آخر؛ فهي تحمل خصائص نابضة بالحياة تتميز بالاستقلالية والقدرة على التكيف، والسلوك الموجه نحو الأهداف، وتسخير التفاعلات الكيميائية لتمرير أجندة مبرمجة مسبقا، بدلا من أن تكون عبدا لتلك التفاعلات”.(29)

في نفس السياق يقول: “نعرف الآن أن سر الحياة لا يكمن في المكونات الكيميائية على هذا النحو، بل في البنية المنطقية والترتيب التنظيمي للجزيئات، فالحياة هي نظام معالجة المعلومات، وبرنامج الخلية الحية هو السر الحقيقي، وليست الأجهزة، لكن من أين أتى البرنامج؟ كيف لذرات غبية بشكل عفوي كتابة البرامج الخاصة بها؟ لا أحد يعرف”.(30)

هذه الفجوة المعرفية التي يدعيها أنصار المنهج المادي حول مصدر البرامج والمعلومات الحيوية هي في حقيقتها ليست إلا فجوة مصطنعة يتم الترويج لها، بغرض الهروب مما تؤول إليه التحليلات المنهجية من نتائج في هذا الصدد.

على النقيض، نجد أن الكثير من الأبحاث المعنية تؤكد حتمية تصدر التصميم لخلق مثل هذه البرامج المعلوماتية الحيوية، ففي بحث بعنوان (في البدء كانت المعلومات In the Beginning Was Information) لجيت فيرنر GittWerner ، أستاذ الفيزياء ومدير قسم معالجة المعلومات في معهد الفيزياء والتكنولوجيا براونشفايج، يخلص إلى هذه النتيجة بقوله: “نظام الترميز يستلزم دائما عملية عقلية. النهج الفيزيائي لا يمكنه أن ينتج رموز المعلومات. تُظهر جميع التجارب أن كل قطعة من المعلومات الإبداعية تمثل بعض الجهد العقلي”.(31)

في نفس السياق يعترف كل من ليستر L. Lester وبولين R. Bohlin بتلك الحقيقة: “الحمض النووي هو رمز المعلومات… الاستنتاج القطعي هو أن هذه المعلومات لا يمكن أن تنشأ تلقائيًّا من خلال عمليات آلية. الذكاء ضرورة في الأصل لأى رمز معلوماتي، بما في ذلك الشفرة الوراثية”.(32)

– خاتمة

من خلال التحليل التتابعي السابق، نخلص إلى النقاط الآتية:

  • الكائن الحي ليس تراكمات مجردة لمجموعة من المفردات، بل نظام دقيق متكامل لا يقبل الاختزال أو التطور التدريجي.
  • يتحكم في سيرورة هذا النظام (برنامج معلوماتي) إنشائي وتشغيلي مسبق، يمثل نوع من التعقيد المتخصص.
  • البرنامج المعلوماتي يستحيل تفسير وجوده بالنهج الفيزيوكيميائي والقوانين الطبيعية، فهو نتاج حتمي للتصميم، كما أثبتت التجارب والدراسات في هذا الشأن.

دمتم بود، وإلى لقاء آخر بإذن الله مع فصل جديد من فصول (إعادة المحاكمة).

المراجع:

(1) “If it could be demonstrated that any complex organ existed, which could not possibly have been formed by numerous, successive, slight modifications, my theory would absolutely break down.”

Charles Darwin, “The Origin of Species”, Harvard University Press, 1964, p. 189.

(2) Ernst Mayr, “This Is Biology: The Science of the Living World”, Harvard University Press, 1998.

(3) David Quammen, “The Reluctant Mr. Darwin: An Intimate Portrait of Charles Darwin and the Making of His Theory of Evolution (Great Discoveries)”, W. W. Norton 2006.

(4) Charles Darwin, “The Origin of Species”, Harvard University Press, 1964, p. 190.

(5) “the crucial importance of this requirement to the theory of evolution was fully understood by Darwin, who stated that, in searching for the gradations through which an organ in any species has been perfected, we ought to look at its lineal progenitors. Indeed we ought; though he himself could not do so. It is deceptive to the reader to create a seriation beginning with eye spots as seen in unicellular organisms and call them, as does Duke–Elder (1958), the earliest stage of evolution.”

Cousins, F.W., “The Anatomy of Evolution, Duffett Publications”, London, p. 125, 2003.

(6) Atsushi Ogura. et al, “Comparative Analysis of Gene Expression for Convergent Evolution of Camera Eye Between Octopus and Human”, Genome Res. 2004.

genome.cshlp.org/content/14/8/1555.short

(7) Fernald, R.D., “The evolution of eyes”, Brain, Behavior and Evolution 50 (4):253, 1997.

(8) Frank Salisbury, “Doubts About the Modern Synthetic Theory of Evolution”, American Biology Teacher, September 1971, p. 338

(9) Fernald, R.D., “Eyes: variety, development and evolution”, Brain, Behavior and Evolution 64(3):141–147, 2004; p. 1917.

(10) Croft, L.R., “The Last Dinosaurs”, Elmwood Books, Chorley, Lancashire, p. 57, 1982.

(11) Land, M.F. and Nilsson, D.–E., “Animal Eyes”, Oxford University Press, New York, p. 1, 2005.

(12) Duke–Elder, S.S., “System of Ophthalmology. Volume 1: The Eye in Evolution”, The C.V. Mosby Company, St. Louis, p. 237–238

(13) Breidach, O. and Kutsch, W., “The Nervous Systems of Invertebrates: An Evolutionary and Comparative Approach.” With a coda written by T.H. Bullock, 1995.

(14) Fernald, R.D., “Casting a genetic light on the evolution of eyes”, Science 313:1914–1918, 2006; p. 1914.

(15) Turner, J.S., “The Tinker’s Accomplice: How Design Emerges from Life Itself”, Harvard University Press, Cambridge, MA, p. 161, 2007.

(16) “Have you ever seen a mutation simultaneously affecting two separate components of the body and producing structures that fit one another precisely? … have you ever beheld three, four or five simultaneous mutations with matching structures producing coordinating effects? … These are vital questions that demand an answer. There is no way of getting around them, or evading the issue. Every biologist who wants to know the truth must answer them, or be considered a sectarian and not a scientist. In science there is no “cause” to be defended, only truth to be discovered. How many chance occurrences would it take to build this extraordinary creature [Myrmelion formicarius]’?”

Grassé, P.P., “Evolution of Living Organisms”, Academic Press, New York, NY, p. 163, 1977.

(17) Joseph A. Kuhn, “Dissecting Darwinism”, Proc (Bayl Univ Med Cent). Jan 2012; 25(1): 41–47.

(18) Michael Behe, “Darwin’s Black Box: The Biochemical Challengue to Evolution”, 10th ed. (2006) Free Press, New York.

(19) KITZMILLER, et al. v. DOVER AREA SCHOOL DISTRICT, et al. – Case No. 04cv2688 – Middle District of Pennsylvania Court.

(20) عادل مصطفى، المغالطات المنطقية، المجلس الأعلى للثقافة 2007، ص163.

(21) Dr. Kenneth Miller Testimony, Day 1, PM Session, page 16.

(22) Casey Luskin, “Do Car Engines Run on Lugnuts? A Response to Ken Miller & Judge Jones’s Straw Tests of Irreducible Complexity for the Bacterial Flagellum.”, CSC – Discovery Institute, April 19, 2006. discovery.org/a/3718

(23) Dembski, Rebuttal to Reports by Opposing Expert Witnesses , p 52.

www.designinference.com/documents/2005.09.Expert_Rebuttal_Dembski.pdf

(24) Angus Menuge, “Agents Under Fire: Materialism and the Rationality of Science”, p 104–105, Rowman & Littlefield, 2004.

(25) Scott A. Minnich y Stephen C. Meyer, “Genetic Analysis of coordinate flagellar and type III regulatory circuits in pathogenic bacteria”, Discovery Institute p 8.

www.discovery.org/scripts/viewDB/filesDB–download.php?id=389

(26) Dan Jones, “Uncovering the evolution of the bacterial flagellum,” New Scientist (Feb 16, 2008).

(27) Dembski. “Intelligent Design”, p. 47 www.designinference.com/documents/2003.08.Encyc_of_Relig.htm

(28) Dembski, (ed.) “Mere Creation: Science, Faith & Intelligent Design.”, Downers Grove, IL: InterVarsity Press, 1998, 209–213.

(29) “To a physicist or chemist life seems like ‘magic matter,'” Davies explained. “It behaves in extraordinary ways that are unmatched in any other complex physical or chemical system. Such lifelike properties include autonomy, adaptability and goal–oriented behavior –– the ability to harness chemical reactions to enact a pre–programmed agenda, rather than being a slave to those reactions.”

Skip Derra, “ASU researchers propose new way to look at the dawn of life”, asu news Posted: December 12, 2012.

www.asunews.asu.edu/20121212_dawnoflife

(30) (a) Paul Davies, “The Origin of Life: Fifth Miracle”, Penguin UK.

(b) New way to look at dawn of life, www.sciencedaily.com/releases/2012/12/121212205918.htm

(c) Origin of Life Needs a Rethink, Scientists Argue, www.livescience.com/25453–life–origin–reframed.html

(31) “A coding system always entails a nonmaterial intellectual process. A physical matter cannot produce an information code. All experiences show that every piece of creative information represents some mental effort and can be traced to a personal idea–giver who exercised his own free–will, and who is endowed with an intelligent mind.”

Werner Gitt, “In the Beginning Was Information”, CLV, Bielefeld, Germany, pp. 107, 141.

(32) “DNA is an information code. . . . The overwhelming conclusion is that information does not and cannot arise spontaneously by mechanistic processes. Intelligence is a necessity in the origin of any informational code, including the genetic code, no matter how much time is given.”

  1. Lester and R. Bohlin, “The Natural Limits to Biological Change”, (Dallas, TX: Probe Books, 1989), p. 157

المصدر

نظرية البانكيك

في هذا الموضوع:

  1. نرى كيف يتفنن “التطوريون” في إعطاء “الأسماء العلمية” للخرافات، والآثار النفسية الخطيرة لذلك.
  2. نرى كيف أن العالم “الكبير” فرانسيس كريك أحد مكتشفَي تركيب المادة الوراثية أدرك أن هذه المادة الوراثية يستحيل أن تكون أتت بالصدفة…فماذا اقترح؟
  3. عالم الفيزياء الكبير ستيفن هوكنج، يجد “مخرجاً” –غير الانتحار- لليائسين من الحياة على كوكب الأرض…بل من الحياة في هذا الكون كله!
  4. إلى أين يصل “العلماء” إذا اتخذوا القرار المسبق بعدم الإيمان بالخالق!
  5. اتِّباع دارون لعادة سنَّها جاهليو الأصنام، وتقليد أتباع دارون له في ذلك من بعده!
  6. قصة الكائنات الوسيطة بين الإنسان وأسلافه الحيوانية بزعمهم…إنسان نياندرتال مثالاً.
  7. “التأطير” – Framing- بتسميتك يا من تؤمن بالخلق الحكيم، تسميتك بالــ”خلقوي”، والأثر النفسي لذلك.

فوائد كثيرة، فتابعوا معنا.

أتذكرون -إخواني- قصَّة إنسان نبِراسكا الذي تخيَّلوه بِناءً على ضِرسٍ وجدوه، وقالوا أنَّه يعودُ لأحد الأسلاف شِبه الحيوانيَّة

للإنسان، عاش قبل (6) ملايين سنة، ورَسموا له الرُّسومات، ونَشرت عنه كُبريات المجلات آنذاك مثل ساينس”Science”؟

هل تعلمون أنَّه كان قد أُعْطِي اسمًا علميًّا؟ ممكن تقرأ معي هذا الاسم لو سمحت؟ ..

“Hesperopithecus haroldcookii”

لكن تبيَّن -كما ذكرنا- أنَّ هذا الضِّرس يعود لخنزير، فعادت (ساينس) ونشرت نفيًا لوجود شِبه الإنسان هذا.

ومثلها حفريَّة الدّيناصور ذي الريش المزعوم التي عُقد لها مؤتمر، ورَوَّجَت له مجلَّة ناشيونال جيوغرافيك

التَّسميات الخادعة يستخدمها كهنة الخُرافة كثيرًا، ولها أثرٌ كبيرٌ على السَّطحييِّن.

وحتى نُرتِّب الموضوع سنَذكر كيف يستخدمونها في ثلاث مجالاتٍ رئيسة:

أولًا: تسمية الخرافات السَّخيفة بأسماءٍ رنَّانة.

ثانيًا: تسمية الحقائق بأسماءٍ وهميَّة لخدمة خرافاتهم.

وثالثًا: الأسماء التَّأطيريَّة “framing”.

 نبدأ بموضوع (تسمية الخرافات بأسماءٍ رنانة),

كالعادة، شَقَّ داروين الطَّريق لأتباعه وسنَّ لهم هذه السُنَّة في إِعطاء الأسماءِ الفخمة للخرافات؛ فعندما أراد أن يبرِّر إحدى الرَّكائز الخرافيّةِ الأربعة لنظريّته، وهي خرافة توريث الصِّفات المكتسبة بالاستعمال والإهمال، اخترع داروين نظريَّة الجيميولز (gemmules) التي تُطْلِقُها كلُّ خلايا الجسم، وتتركَّز في الأعضاء التَّناسليَّة لتُؤَثِّر على الجنين، ماذا سَمَّى هذه النَّظريَّة؟

بانجنسس “Pangenesis” شموليَّةُ التَّكوين، أو التَّكوين الشَّامل.

فحتى المُشاهدةُ الحسيَّة تدلُّ على أنَّ الصِّفات المكتسبة بالاستعمال والإهمال، لا تُورَّث.

ومع ذلك، خَالف داروين ما هو معلومٌ حتّى لعامَّة النَّاس، وصاغ خرافته هذه في نظريَّة وأعطاها اسمًا: (بانجنسس).

ومع أنَّ عامة أتباع داروين يقرِّون بخطئه في هذه النَّظريَّة، إلَّا أنَّ نَغمة بان (Pan) هذه راقت لهم، فصاغوا على منوالها نظريَّة )دايركتد بانسبيرميا( “Directed Panspermia”؛ يعني بَذرُ أصل كلِّ شيءٍ بشكلٍ موجَّه.

========================================

بل ولدى هوكينغ بشارةٌ سارةٌ لليائسين من الحياة على كوكب الأرض، بل وفي هذا الكون كلِّه، لقد وجد لكم هوكينغ مَخرجًا!

فقد كان يُروِّج لفكرة أنَّك إذا امتصّك ثقبٌ كونيٌّ أسود فقد تنتقل من خلاله إلى كونٍ آخر!

فلا عجب بعد هذا أن يُبدِيَ مُحرِّرُ موقع (عَالَمِ الفيزياء) الدكتور (هامي جونستون) قَلَقَه مِن أنْ يَرفُض البريطانيُّون صَرفَ جُزءٍ من ضرائِبِهِم لأبحاث الفيزياء إذا ظنُّوا أنَّ أكثر الفيزيائيَّين يُمضون أوقاتهم في مناقشة نظريَّاتٍ كهذه!

ومع ذلك؛ ضَعْ قبل الهُراء كلمة “theory” (نظريَّة)؛ لمِّع قائلها كما لُمِّعَ هوكينغ، أَخْفِ انتقاد باقي الُخبراء له ولنظريَّاته من الإعلام؛ فيتحوَّل الهُراء بلمسةٍ سحريَّة إلى نظريَّة عِلميَّة، بل ونَظريَّة كلِّ شيء!

=========================================

المجال الثَّاني لتلاعب كهنة الخُرافة بالتَّسميات: هو تسمية الحقائق بأسماءٍ وهميَّةٍ لخدمة خرافاتهم.

أمراضٌ مثل الَّليبوما “Lipoma” والسباينابيفيدا “Spina bifida”، أعطاها كهنة الخرافة اِسمًا خادعًا: (ذيل إنساني) “Human Tail”، واعتبروها دليلًا على ظاهرةٍ مزعومة سمَّوْها: (التَّأَسُّل) “Atavism”، وقد أبطلنا علميًّا شيئًا من هذه المهازِل في حلقة: (ذيلُك الذي لا تَعرِفُ عنه الكثير).

=========================================

المجال الثالث لاستخدام كهنة الخرافة للتَّسميات: استخدام الأسماء التَّأطيريَّة، أو ما يُعرف بالـ”framing”.

يُطْلِقُ أتباع الخرافة مصطلح (الخَلْقَوِيِّين) “Creationist”، ويَقصدون به من يؤمنون بأنَّ الله خلق الكائنات عن قصدٍ وإرادةٍ، وأُعيد: عن قصدٍ وإرادة لا كما يُوْهِمُ البعض أنَّ الفرق بيننا وبينهم هو الخَلْقُ المُستقِلُّ، أو بالتَّطوُّر أو التَّطوير؟

فمسألة (القصد والإرادة) أهمُّ من ذلك كلِّه، وهو ما تريد خرافة التَّطور نفيَه أو التَّشكيك فيه.

يسمُّونك خَلْقويًّا؛ لِتَبدوَ وكأنَّك تؤمن بشيءٍ غير بَدهيٍّ ولا أصيل، بينما يُسمُّون رموز العِلم الزَّائف بـ”العُلماء”!

في هذا الموضوع نتحدث عن عشرة أساليب لترويج الخرافة:

1- الإبهار.

2- خلط المُشاهدات بالخرافة.

3- مخاطبة النَّاس كأطفال.

4- التَّهرُّب مما يترتَّب ضَرورةً على الخرافة.

5- تحويل عبء الإثبات.

6- الاستدلال بالجهل.

7- اجترار أكاذيب مفنَّدة منذ أكثر من (130) عامًا.

8- مغالطةُ الشَّبَه.

9- الاستدلال الدَّائري.

10- والتَّسميات المخادِعة.

المصدر

تفكيك نواة كرة القش
كُرةٌ كبيرةٌ بدأت بنَواةٍ صغيرةٍ، تدحرَجت في حقلِ قشٍّ حتى كَبُرتْ. النَّاظرُ إليها يظنُّها شيئًا كبيرًا، وهي في الحقيقةِ قشٌ، وغُثاءٌ، وورقٌ يابسٌ، وهباء.
هكذا هي خُرافة التَّطوُّر. هكذا هي خُرافة أنَّ الكائنات جاءت بمجموع الصُّدف، دون قصدٍ ولا تصميمٍ سابِق.
أركانٌ خُرافيةٌ تُناقض العقل والعِلْم تحالفت مع طُرُق استدلالٍ باطلةٍ، فتكوَّنت من هذا الثُّنائيّ نَواةٌ تدحرجت عبر قرنٍ ونصف في حقل المشاهدات الكونيَّة؛ فأنتجت كرةً كبيرةً.
عندما يتكلم أنصارُ الخُرافة عن حفريّة هنا، أو عضوٍ بلا وظيفةٍ هناك -حسب ما يزعمون- فهذا كله قشٌّ.
لن ننشغل بهذا القشِّ قبل أن نُفَكِّكَ النَّواة.
في حلقة (نظريَّة داروين بإنصاف)، ثم حلقة (عنزة ولو طارت)، فكَّكْنا الأركان الخُرافيَّة، وبيَّنَّا لماذا هي خُرافيَّة.
بقي علينا أن نفكِّك طُرُق الاستدلالِ الباطلة المُتحايِلة، التي جذبت المشاهدات الأحيائيّة والحفريَّة، وجمَّعتها على الأركانِ الخُرافيَّة.
بقي علينا أن نبيِّن كيف استطاع كهنة العلم الزَّائف أن يحوِّلوا حقائقَ الخَلْق -التي تَقصِمُ ظَهر خُرافتِهم- إلى أدلَّةٍ تدعمُ خُرافتَهم في عيونِ البعض.
سنضعُ عناوينَ مُرتَّبة، وقواعدَ للتَّفكير، أسسًا نبني عليها. من الممكن أن تستمع إليّ؛ فتقتنع، ثم تستمعَ لأحد أتباع الخُرافة، أو مُحاولي أَسْلَمَتِها؛ فتقتنعُ أيضًا، وتتضايق من نفسك، أنْ كلمةٌ تأخذك وكلمةٌ تردُّك، ولستَ قادرا على تمييز الحق من الباطل، ولا أن تبنيَ قناعةً راسخةً بشيء،
في حين أنّا عندما نتعلمُ معًا قواعدَ التفكيرِ السليم، فسوفَ تصبحُ عندك قدرةٌ على التَّمييز بين من يسير كلامُه بالاتِّجاه الصَّحيح، فتَتعزَّز قناعتُك -على نورٍ- كلما سمعت له أكثر، وتزدادُ هدًى وطمأنينةً -بإذن الله-،
وسترى في المقابل الكلام الذي يُضلِّلُ العقل و يُفسدهُ، ويتظاهرُ مع ذلك أنه يخاطبهُ ويحترمهُ، حتى تَعلمَ أنه ليس كلُ دليلٍ دليلًا حقًّا؛ ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِۚ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
——————
هناك كمِّيةٌ هائلةٌ من المناقشات والرُّدود موجودةٌ في الكتب وعلى الإنترنت، وهناك جهدٌ كبيٌر بذله المتكلمون في نقد خُرافة التَّطوُّر، لكن على بعضه مَآخِذ، والبعض الآخر نفيس، لكنه شذرات ذهب متفرِّقة.
في محورنا هذا- تفكيك نَواة كرة القش- نحاول أن نضع إطارًا نظريًّا، وترتيبًا منطقيًّا؛ لمناقشة الموضوع.
نريد أن نرى أباطيل الاستدلال، ونرتِّبَها تحت عناوين محصورة؛ فبعد ذلك عندما تسمع لأي شخصٍ، تسأل نفسك: هل هذا استدلالٌ صحيحٌ أم باطل؟ وإن كان باطلًا، فَتَحْتَ أيُّ عُنوانٍ من عناوين الاستدلال الباطل يقع؟
قد تستمع مُطوّلا لشخصٍ ما، يَحشُد لك الكثير من الأدلَّة المُفترضة على صَّحة الخُرافة، ثم بالتَّدقيق، تُفاجَأُ أنها كلَّها أمثلةٌ على نوعٍ واحدٍ من الاستدلال الباطل.
كان يُمكن للقرآن أن يُبيِّن أدِلَّة وجود الله وأدِلَّة صفاته ويكتفي؛ لكنَّه -مع ذلك- فصَّل في طُرُق أهل الباطل، وحِيَلِهم لترويج باطلهم. ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
الإنسان صاحب العقل السَّليم والقلب السَّليم سيكتفي بذلك دليلًا على حقيقة الخَلْق الإلهي عن قصدٍ وإرادةٍ.
هذه الحقيقة الكونيَّة العُظمى الواضحة البَدَهِيَّة، كيف أصبَحَتْ مَحلَّ شكّ؟! ما التَّضليل والتَّجهيل الذي مارسه أتباع الخُرافة -باسم العِلْم- حتى يُعَمُّوا العقل عنها؟
كيف استطاعوا أن يُقنعوا عددًا من الشَّباب بأسخف وأغبى فكرةٍ في التاريخ؟ أنَّ الكائنات جاءت بمجموع الصُّدف، دون قصدٍ، ولا علمٍ، ولا إرادة
كيف يُمارَس إعدام العقل باسم العقل، وتزييف العِلْم باسم العِلْم؟
كيف تُغْسَلُ الأدمغة عُمومًا؟
هذا ما سنراه في حلقاتنا القادمة بإذن الله،
سترى كيف أن الَّذي يريد إعطاء كورس “Course” أو دورة في المغالطات المنطقيَّة والألاعيب النَّفسية عمومًا، فما عليه إلا أن يختار خُرافةَ التَّطور وما فَعَله كَهنَتُها لترويجها، وسيجد كل المغالطات والألاعيب حاضرةً متوافرةً في هذا الموضوع.
وبهذه الحلقات يكتمل تفكيك نَواةِ كُرةِ القشِّ المنُفوشة، ويكتمل الإطار المنهجيُّ لحلقاتنا عن الخُرافة، لنتابع بعدها رحلتنا وقد أسَّسنا الميزان، فنعود ونُفَصِّل عناوين الأركان والأدلَّة واحدًا واحدًا:
نشأة الحياة
الطَّفرات
الانتخاب الطّبيعي
الأحافير
البيولوجيا الجزيئيَّة
وغيرِها…
لكن دون إِملالٍ، ولا تطويلٍ غير لازم، إنما بالقدْر الذي يَخدِم هدف تكوين القَناعة الحقَّة، ويُعَرِّفك بخبايا العِلْم الزَّائف. فتكتسبُ أنت -أخي- مهارة الفكر النّاقد، وتبدأ تُطبّقها على كل ما تتعرّض له بعد ذلك
وفي ثنايا هذا كله نجيب بإحكام -بإذن الله- عن الأسئلة الأكثر تداولًا:
لماذا إذن يُقِرُّ بالخُرافة مُعظمُ عُلماء الغرب؟ وهل يُقِرُّون بها عن قناعةٍ بالفعل؟
ماذا عن محاولات التَّوفيق بين التَّطور والإسلام؟
وغيرها من الأسئلة…
في رحلةٍ شيِّقةٍ ممتعةٍ مليئةٍ بالأمثلةِ والمفاجآت والعِبَر، رحلةٍ بانِيَةٍ للتَّفكير العميق النَّاقد، مُرسِّخةٍ للإيمان على علمٍ وبصيرةٍ -بإذن الله تعالى- فتابعوا معنا أيها الأحبَّة!
المصدر