الكتب
اختراق عقل
الأدلة المادية على وجود الله
الرجل ذو السروال الأحمر - حوار عقلاني من الإلحاد ولادينية إلى الإسلام
الفيزياء ووجود الخالق
الله يتحدى الملحدين
أين الله رحلة بحث في ما وراء الكون
دفاع عن القرآن الكريم في وجه الملاحدة والمغرضين
كيف تدعو ملحداً
مشكلة الشر ووجود الله
وهم الإلحاد
أخطاء قاتلة
البراهين العقلية على وحدانية الرب ووجوه كماله
دلائل التوحيد
للكون إله
عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين الجزء الاول
أقوى براهين د جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين
كيف أرى الله
ادلة وجود الله وبراهين حدوث العالم
دليل العناية في إثبات وجود الله
سفينة اليقين (ضد الإلحاد وشبهاته)
عقيدتنا في الخالق والنبوة والآخرة
العلم يدعو للإيمان
لا أملك الإيمان الكافي للإلحاد
الله يتجلى في عصر العلم
المعرفة في الإسلام
المنهج التجريبي بين الإلحاد وإثبات الخالق
يهدي الله لنوره من يشاء
الإله الخالق ما بين تعظيم المسلمين وافتراءات النصارى والكاذبين، وإنكار الملحدين
بصائر ¦ أكبر مشروع فكري في نقد الإلحاد
فمن خلق الله؟
الإلحاد للمبتدئين
الأدلة على وجود الخالق
العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية
الله يتجلى في عصر العلم
المعرفة في الإسلام مصادرها ومجالاتها
إنك على الحق المبين رؤى تأصيلية في تفكيك ظاهرة الإلحاد
حوار مع صديقي الملحد
شموع النهار
هناك إله
مناظرة أدلة الإسلام
أفي الله شك؟ بحث في علاقة العلم بالإيمان
الله - كتاب في نشأة العقيدة الإلهية
لست ملحدا لماذا
نهاية حلم وهم الإله
هناك أله،كيف غير أشهر ملحد رأيه ؟
قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن
موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين
أهمية الضمير في القرآن
العقيدة في الله
العلم في منظوره الجديد
الفجوة المفتعلة بين العلم والدِّين
الله والعلم
من الإلحاد إلى التوحيد
هل الله موجود؟
الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ
براهين وأدلة إيمانية
بين الإيمان والإلحاد رحلتي في البحث عن الله
الحقيقة الإلهية: الله والإسلام وسراب الإلحاد
المرئيات
حوارد.ذاكرنايك مع ملحد
الشيخ أحمد ديدات (وجود الله)
من خلق الله ؟
مفهوم الإله عبر التاريخ
ملحد يستشهد بآيات كإسناد لإلحاده
رحلة عالم من الالحاد الى الايمان!
سقطات ستيفن هوكنج !!
كيف نحصن مجتمعاتنا؟
مشروعية المناقشة العقلية لإثبات الوجود الإلهي
برهان الحدوث
إله الدولة الملحدة
كتاب تمنى الشيخ محمد العوضي لو كان هو مؤلفه
من خلق الله
كيف يدفع الإلحاد الجديد صاحبه للشك في وجود الله؟
هل هناك أدلة فعلية على وجود الله تعالى؟
الله بين تخيل الملحدين وتعقل المؤمنين
من خلق الله؟
لصوص الأجوبة الأنيقة
هل هناك إله؟
هل يمكن وجود قيم موضوعية دون وجود الله؟
هل يمكن وجود قيم مطلقة للحياة دون وجود الله؟
لماذا يكون علي أن أؤمن بالله دون أن أراه؟
دقة الكون و وجود الله العناية الإلهية في الكون
الحُبُك! الفيزياءُ ووجودِ الخالِق
الإله بين الوثنية والمسيحية والإسلام
مركزية الله هل يمكن للإنسان الفرار من الإله؟
الفطرة والدين لماذا يقودنا العالم نحو السماء؟!
من خلق الله؟!
السمات الفكرية للجيل المعاصر
سؤال الوجود: من خلقني؟
إذا كان الله خلق كلّ شيء، فمن خلق الله ؟
هل يمكن إثبات وجود الله علميًا؟
ما الدليل على وجود الخالق؟
من هو الخالق؟
مقدّمات في كيفية الاستدلال على وجود الله
الفطرة والاستدلال بدليل الخلق والإيجاد
البرهان الكوني ودليل التصميم وحجة التوافق الدقيق للكون
أربعة أدلة على وجود الله
كلّنا بحاجة إلى تعزيز اليقين
كيف تكون العين دليلاً على وجود الله؟
منع التسلسل في المؤثر
الموجود بذاته والموجود بغيره
دليل الأفعال ،هل الصدفة أوجدت الكون ؟
دليل الكمال
هل يمكن أن يوصف الخالق بالنقص
الغنى والوحدانية
الكون مخلوق 1
الكون مخلوق 2
قانون السببية
شبهة : من خلق الخالق
دقة الكون : دليل تصميم ؟ أم أكوان متعددة ؟
هل يوجد دليل علمي على وجود الخالق ؟
قضية وجود الخالق
خرافة التطور بوابة الإلحاد
فشل تجربة ميلر
دلالة حدوث الكون على وجود الخالق
دلالة الفيزياء على وجود الخالق
الآلات الحيوية داخل الخلية تدل على الخالق
دليل المعلومات الحيوية
ثلاث قواعد عقلية في الاستدلال على وجود الله
خلاصة حلقات الأدلة الفطرية على وجود الله ومناقشة الإعتراضات
الكون المضبوط بعناية يشهد بوجود الله
أدلة من الفيزياء على الخالق الحكيم
الأدلة على وجود الله – مقدمة
دلالة الفطرة الوجودية
دلالة الفطرة المعرفية
الدليل على صدق الفطرة
دلالة الخلق والاختراع
العلة الغائية
دلالة العلة الغائية٢
المرجحات الخارجية للإيمان على الإلحاد
الاستدلال بالمكتشفات العلمية على وجود الله
حين سأل الإله | الحلقة الأولى
حين سأل الإله| الحلقة الثانية
الأدلة العلمية على وجود الله
من خلق الله
للكون إله | 1- مقدمة
خلق الليل والنهار والنجوم
أولو الألباب
الذين يتفكرون
خلق السماوات والأرض
كيف كان الحوار بين جينز ومشرقي
الله والزمان ومن خلق الله ؟
ذكر بدء الخلق
ترتيب خلق السماوات والأرض
خلق الشمس
وجود الله حقيقة مطلقة لكل زمان ومكان. كيف؟
وجود الله ودقة قوانين الفيزياء والثوابت الكونية
قراءة في كتاب النبأ العظيم 1
قراءة في كتاب النبأ العظيم 2
الأدلة العقلية والنفسية على وجود الله وربوبيته من سورة النحل
دليل التسخير والتدبير على وجود الله وربوبيته
دلالة التعقيد الوظيفي
دلالة الوجود
من خلق الله ؟
دلالة القوانين على وجود الله
المقالات
لمن يتفكر إذا ما دخلنا جسم الإنسان لذُهِلنا من بديع صنع الإنسان ولنراه منذ أن كان جنينًا، فلقد كان هناك ذكر وأنثى؛ هذا الذكر ينتج حيوانات منوية وهذه الأنثى تنتج بويضات ونجد أن الحيوان المنوي يحمل صفات الرجل والبويضة تحمل صفات الأنثى، ولكن هل ستبقى بداخل أجسادهما وينقرض البشر؟! لا هناك عضوًا ذكريًا لخروج المني من الرجل وهناك عضوا أنثوياً لاستقباله والغريب أن العضوين مهيآن بالضبط لبعضهما والعجيب ان الحيوانات المنوية تعلم مكان البويضة فتذهب إليها مسرعة ثم تفرز إنزيم الهيالورونيديز لتفتيت جزء من غلاف البويضة ليدخل إليها فلماذا امتلك هذا الانزيم لماذا لديه القدرة على الاختراق.
وها قد دخل الحيوان المنوي داخل البويضة والسؤال هنا لماذا يجب أن يحدث تخصيب بعد دخوله لماذا لا يقفا ساكنين بدون تفاعل، والعجيب انه يحدث تفاعل وينشأ عنه الزيجوت ثم يكمل مراحل تكوينه .
وكان له مكان يأويه (الرحم) وكان وسط هذا الرحم مناسبًا من حيث الحموضة والقلوية ثم كان الرحم مجوفاً ليسكن فيه الجنين وكان موضع هذا الرحم مناسباً فهو قريب من فتحة الجهاز التناسلي للأم حتى يسهل عملية الولادة.
ولكن كيف سيتغذى في بطن أمه، هنا المشيمة التي تحيط به والذي يتدلى منها الحبل السري المجوف والذي يسمح بمرور الغذاء من الأم إلى جنينها ( فمن الذي رجح وجود الحبل السري على عدم وجوده) .
وتبدأ تتكون الرئتان اللتان تعملان بدون قوة من هذا الجنين لتحافظ على بقائه حياً ويبدأ هذا القلب في ضخ الدم إلى جميع أعضائه كي تحصل الأعضاء على الغذاء اللازم لاستمرارها حية بدون حول ولا قوة من هذا الجنين ( فمن الذي رجح وجود القلب والرئتين على عدم وجودهم إلا خالقاً واعياً قادراً مريداً حكيماً ! )
ولا ننسى تكون فم للجنين ليدخل منه الطعام بعد الولادة ويكون هناك فتحة شرج لإخراج فضلات الطعام .
لماذا هناك هاتان الفتحتان أصلًا، هل هناك إلزام بوجودها أم أن هناك من رجح وجودهما على عدم وجودهما لماذا يجب أن يأكل من فمه ليعيش ولماذا يجب أن يخرج فضلاته حتى لا يتسمم؟!!
بل وهناك ما يساعده على التخلص من الاملاح والمياه الزائدة ألا وهي الكلى، ففي كل كلية في جسده يوجد حوالي مليون مرشح (فلتر) وظيفتها تنقية حوالي نصف لتر من الدم كل دقيقة والتخلص من حوالي لتر ونصف بول يوميًا!
طريقة عمل الكلى في منتهى الدقة؛ ففي البداية يتدفق الدم إلى كليتك عن طريق الشريان الكلوي الذي تتفرع منه أوعية أصغر وأصغر وأصغر حتى يصل إلى المرشحات التي تقوم بتنقية الدم من الفضلات ثم تعيده مرة أخرى إلى الجسم، أما البول فيتم تخزينه في المثانة إلى أن يتم التخلص منه وإخراجه خارج الجسم تمامًا!
هل تعلم أن جلسة الغسيل الواحدة للشخص المريض بالفشل الكلوي تستغرق من ثلاث إلى خمس ساعات ثلاث مرات أسبوعيًا… في حين أن كليتك تقوم بهذه العملية 36 مرة يوميًا بشكل طبيعي!
لماذا هناك عين وأذن وعقل ..من هذا الذي يهتم لأمر سماع ورؤية وإدراك الطفل إلا خالقاً واعياً قادراً مريداً حكيماً !
لا نطيل أكثر من ذلك ودعونا نحضر ولادة هذا الجنين ، الآن فتحة الجهاز التناسلي ضيقة لا تسمح بخروج جنين منه ، ولكن هناك من يريد مصلحة الأم وجنينها فأفرز في جسمها هرمون الأوكسيتوسين الذي يعمل على ارتخاء عضلات الحوض لدى الأم ومن ثم توسيع مجرى خروج الجنين الى الحياة
وها قد خرج الجنين للحياة ووجد الأكسجين الذي تحتاجه رئتاه للتنفس ووجد ضغط الهواء الذي يتناسب مع ضغط دمه وعمل قلبه وتوازن سمعه
ولكن كيف سيأكل هذا المسكين الطعام الجامد وهو لا يملك أسنانا ، نجد أن هناك من وضع الترتيبات لذلك فهذا الهرمون ( البرولاكتين) يعمل على نزول حليب من ثديي الأم ونجد أيضاً أن هذا الحليب فيه كل العناصر التي يحتاج إليها جسد الجنين ليكبر وينمو ويبقى على قيد الحياة ، فمن الذي رجح وجود هذه الأشياء على عدم وجودها ..هل هي واجبة الوجود ؟! قطعا لا ، فليس هناك ما يوجب وجودها فلا يمكن وجودها إلا من إرادة وعلم بجسم الجنين وما يحتاج إليه والإرادة والعلم لا يمكن وجودهما إلا في خالق واعِ قادر
ولكن هل سيظل الجنين يتغذى طوال حياته من ثديي أمه ، هل ستتحمل الأم التقام ثديها طول العمر قطعا لا ، فهناك من أراد راحتها وراحة جنينها فقام بخلق أسنان في فم هذا الجنين وهذه الأسنان أقوى من أي نسيج في جسده لكي يقطع بها الطعام ويمضغه فمن هذا الذي يسخر للجنين كل هذه السبل إلا خالقاً واعياً قادراً مريداً حكيماً !
والله إننا نحتاج إلى مجلدات للحديث عن الدقة والإبداع في الإنسان وحده فقط، فهذا غيض من فيض
ثم بعد هذا يأتيك كسول لا يفكر يقول لا يمكننا إثبات وجود الخالق لأننا لا نراه وكل هذه الأشياء إنما نشأة صدفة!!… صدفة هذه تكون خالتك يا روح ماما!!
كم عدد الصدف التي يجب حدوثها حتى نصل إلى ما وصلنا إليه مثل هؤلاء يجب أن نحجز لهم عنبراً في مستشفى المجانين!
دعوى تعليق الإيمان على رؤية الله علانية
مضمون الشبهة:
ادعى بنو إسرائيل أن إيمانهم معلق على رؤيتهم الله – عز وجل – علانية، وسألوا موسى – عليه السلام – ذلك معلنين أنهم لن يؤمنوا إلا إذا تحقق لهم مرادهم قال تعالى: )وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)( (البقرة).
وجها إبطال الشبهة:
1) إن تعليق هؤلاء الإيمان بالله على رؤيته علانية محض تعنت؛ مرده عنادهم واستكبارهم؛ ذلك أن الناس لن ترى الله – عز وجل – في الدنيا، وعلى زعمهم هذا لن يؤمن الناس إلا بعد موتهم في الدار الآخرة، وهذا ما لم يقل به عاقل.
2) رد المولى – عز وجل – على تعنتهم في مطالبهم بأخذهم بالصاعقة وهم يشاهدونها بأعينهم.
التفصيل:
أولا. تعليق الإيمان على رؤية الله علانية، وذلك للاستكبار والعناد:
تدل مقولة بني إسرائيل هذه على عنادهم وتعنتهم، وهو من سماتهم الواضحة التي توضحها أحوالهم مع نبي الله موسى – عليه السلام – وهم هنا يقولون له: لن نصدق بما جئت به تصديق إذعان واتباع حتى نرى الله عيانا جهرة فيأمرنا بالإيمان لك، وهذا من ضعف إيمانهم ومن أدلة جهلهم وكفرهم بالله عز وجل؛ لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار وتحيط به أشعة الأحداق، فشبهوا ربهم بأنفسهم، ورفعوا أنفسهم إلى ما فوق مرتبتها وقدرها، ولم يقدروا الله حق قدره، وكان ينبغي عليهم أن يؤمنوا بما جاء به نبيهم لاسيما بعد الكثير من الآيات والمعجزات التي ظهرت على يديه.
والظاهر أن هذا القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات، روى ذلك البغوي عن السدي، وقيل: إن ذلك سألوه عند مناجاته، وأن السائلين هم السبعون الذين اختارهم موسى – عليه السلام – للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل، وقيل: سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة آلاف، وهذان القولان حكاهما في “الكشاف” وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين، ولا ما هو صريح في وقوع هذا السؤال، ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى؛ لأنها لما حكت تذكير موسى في مخاطبة بني إسرائيل ذكرت ما يغاير كيفية المناجاة الأولى، إذ قال: فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدم إلى جميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم وقلتم هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار… إننا عندما نسمع صوت الرب إلهنا أيضا نموت… تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلخ. فهذا يؤذن أن هنالك ترقبا كان منهم لرؤية الله تعالى وأنهم أصابهم ما بلغ بهم مبلغ الموت، وبعد فالقرآن حجة على غيره مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه. والظاهر أن ذلك كان في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر.
ثانيا. رد المولى – عز وجل – على تعنت اليهود في مطالبهم بإرسال الصاعقة عليهم وهم ينظرونها:
وقد رد الله عليهم ردا عمليا بأن أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ذلك بأعينهم، قال سبحانه وتعالى: )فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)( (البقرة). وقوله تعالى: )فأخذتكم الصاعقة( إشارة إلى أن العقوبة قد فاجأتهم بعد وقت قصير من مطالبهم المتعنتة، لأن الفاء تفيد التعقيب.
وجملة )وأنتم تنظرون(تفيد أن العقوبة نزلت عليهم وهم يشاهدونها، وفي مشاهدتها رعب وخوف أخذ بمجامع قلوبهم، قبل أن يأخذ العذاب أجسادهم، وأن أصابتهم بهذه العقوبة كان في حالة إساءتهم وتمردهم وطمعهم في أن ينالوا ما ليس من حقهم.
والآية الكريمة تفيد أن بني إسرائيل طلبوا من نبيهم رؤية الله جهرة في الدنيا، وأنهم علقوا إيمانهم عليها، ولم يأبهوا للآيات الدالة على صدق موسى – عليه السلام – فكان ذلك محض تعنت وعناد منهم، فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ذلك، وليس على مجرد سؤالهم رؤية الله عز وجل، ومن هنا يتبين أن الآية لا تدل على استحالة الرؤية كما يقول المعتزلة.
وجملة )ثم بعثناكم من بعد موتكم( (البقرة: ٥٦) هي محل النعمة والمنة، وهي معطوفة على قوله: )فأخذتكم الصاعقة( (البقرة: ٥5) ودل العطف بـ )ثم( على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا تتصور فيه المهلة والتأخير. والمراد ببعثهم: إحياؤهم من بعد موتهم، وهو معجزة لموسى – عليه السلام – استجابة لدعائه.
وقد اشتملت الآيتان الكريمتان على تحذير اليهود المعاصرين للعهد النبوي من محاربة الدعوة الإسلامية، حتى لا يصابوا بما أصيب به أسلافهم من الصواعق وغيرها؛ وفيهما أيضا تسلية للنبي – صلى الله عليه وسلم – عما لاقاه من اليهود، لأن ما فعلوه معه قد فعل ما يشبهه آباؤهم مع أنبيائهم، وفيها كذلك لون جديد من نعم الله عليهم ما أجدرهم بشكرها لو كانوا يعقلون[1].
هذا وقد اختلف العلماء في بيان السبب الحامل لهم على سؤالهم رؤية الله – عز وجل – فقد ذكر بعض العلماء أنهم أرادوا أن يتأكدوا أن الذي يكلمهم هو الله سبحانه وتعالى، لكن لا دليل من كتاب ولا سنة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوضح ذلك.
وهذا السؤال من بني إسرائيل أمر عظيم وشيء كبير، قال )فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة( (النساء: 153)، والله – عز وجل – لا تدركه الأبصار، قال سبحانه وتعالى: )لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)( (الأنعام).
ولن يرى الناس ربهم – عز وجل – في الدنيا، وقد قال الله – عز وجل – لنبيه موسى – عليه السلام – لما سأله الرؤية: )لن تراني( (الأعراف: 143)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لن يرى أحد منكم ربه – عز وجل – حتى يموت”[2].
وقد عد الله – عز وجل – من سأل رؤيته – عز وجل في الدنيا – عده مستكبرا عاتيا عتوا كبيرا، قال سبحانه وتعالى: )وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا (21)( (الفرقان).
الخلاصة:
تعنت بنو إسرائيل في طلبهم من نبيهم موسى عليه السلام؛ حيث قالوا له بجفاء وغلظة: لن نؤمن لك، ولن نقر بما جئتنا به حتى نرى الله عيانا وعلانية، فيأمرنا بالإيمان بك، وبما جئت به، فأخذتهم العقوبة التي صعقتهم – بسبب جهالتهم وتطاولهم – وهم يشاهدونها بعيونهم، ثم من الله – عز وجل – عليهم بلطفه ورحمته فأحياهم لعلهم يشكرونه على نعمه.
حذرت الآيات اليهود المعاصرين للعهد النبوي من محاربة الدعوة حتى لا يصابوا بما أصيب به أسلافهم من الصواعق وغيرها.
(*) الآيتان اللتان وردت فيهما الشبهة: (البقرة/ 55، النساء/ 153).
الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 55، الأنعام/ 103، الأعراف/ 143، 155، الفرقان/ 21).
[1]. التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي، مطبعة الرسالة، القاهرة، ط3، 1987م، ج1، ص174، 173.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد (7540).
الله أخبرنا بكنوز الأرض
وإذا كنا نريد أن نتحدث عن دليل غيبي آخر يزيد من الأدلة العقلية التي تثبت وجود الله تعالى، فلا بد أن نقرأ قوله عز وجل: ( له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى) طه 6
فلو قرأنا هذه الآية التي نزلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، لعلمنا أن أحدا لم يكن يدري شيئا ولفترة دويلة عن معنى قوله تعالى :(وما تحت الثرى) .
وكان كل ما تحت الثرى أو تحت التراب، أو في باطن الأرض غيبا عنا ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف لنا ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندري بوجوده، فكشف لنا ما تحت الثرى، فوجدنا أن ما تحت الأرض يحتوي على كنوز رهيبة, وجدنا البترول والذهب والمعادن والحديد وأشياء نفيسة، ووجدنا المياه الجوفية، ووجدنا عالما هائلا يحتوي على مواد لم نكن نعلم بوجودها ولا نعرف شيئا عنها.
وهكذا أعطانا الحق سبحانه وتعالى دليلا آخر على أن ما هو غيب عنا موجود، وان كنا لا ندرك وجوده، فلا أحد في هذه الدنيا يستطيع أن يدعي أنه هو الذي أوجد ما في باطن الأرض من كنوز، ولا أحد مهما بلغ علمه ولا علماء الأرض مجتمعين يستطيعون أن يدعو أنهم هم الذين أوجدوا هذه البحيرات الهائلة من البترول، أو هذه المعادن النفيسة كالذهب والفضة، أو الماس أو النحاس أو الحديد أو الألمنيوم أو, غيرها.
بل ان هناك كنوزا تحت الثرى مختفية عن أعيننا تفوق الكنوز التي ظاهرها لأعيننا فوق سطح الأرض، وهذه الكنوز لم تأت من عدم ولم توجد في السنوات الأخيرة، بل كانت موجودة في باطن الأرض منذ أن خلقها الله سبحانه وتعالى، ولكنها كانت غيبا عنا فلم نكن نعرف بوجودها.
حينئذ نكون قد وصلنا إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أعطانا من الأدلة المادية والعقلية ما يؤكد لنا أن ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندرك وجوده.
فإذا حدثنا الله سبحانه وتعالى عما هو غيب كالآخرة والحساب والجنة والنار، لا نقول ان الله يخاطبنا بما لا نستطيع أن تدركه عقولنا، وأننا لا نستطيع تصديق ذلك، بل نعود إلى واقع الكون، ونتأمل ما فيه من آيات، وما وضعه الله لنا فيه من دلائل، ولو أننا تدبرنا لقلنا يا رب لقد أعطيتنا مع الدليل الإيماني الدليل الفعلي الذي يقرب الصورة إلى أذهاننا حتى ندركها، وليس لنا عذر يارب يوم الحساب في أن نقول ان عقولنا لم تدرك، لأنك وضعت في كونك الأدلة المادية التي تثبت أن الغيب واقع موجود، وكان يجب أن تكون هذه الأدلة هي طريقنا إلى الإيمان، لا طريقنا إلى الكفر والإلحاد.
على أننا سننتقل بعد ذلك إلى الآيات الأرضية، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا بها، إلى أنه لا اله الا هو الخالق والموجد والقادر.
الآيات الكونية ودلالتها علي وجود الله تعالي
للداعية الشيخ محمد متولي الشعراوى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين , وبعد : الله سبحانه وتعالى وضع في كونه آيات تنطق بوجوده ,وتشهد بعظمته ,وتدل بأنه الإله الخالق ,ولقد خاطب الله تعالى كل العقول في كل الأزمان وحثها على التفكير والتعمق والتأمل في ملكوته سبحانه , فكل آيات الكون تنطق بوحدانيته تعالى , وما العلم إلا لكاشف لقدرة الله في الكون .
قال تعالى ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل ) الأنعام 102 .
في جولة تشبه مظاهر الحياة والكون ,في الأنفس والآفاق يستعرض الإمام الداعية محمد متولي الشعراوي أدلة وجود الله تعالى المادية عن طريق العقل فقط في قراءة هادئة هادفة,تخاطب العقول والقلوب وتدعوها للتفكر ثم الإيمان .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا , وأن يجزي مؤلفه الكريم خير الجزاء إنه سميع مجيب .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 1
الفصل الأول
لماذا الأدلة المادية والكون
الأدلة نوعان
الله سبحانه وتعالى وضع في الكون آيات تنطق بوجوده , وتنطق بعظمته ,وتنطق بأنه هو الخالق ,الجماد يشهد أن لا اله إلا الله و والنبات يشهد أن لا إله إلا الله والحيوان يشهد أن لا إله إلا الله والإنسان يشهد أن لا إله إلا الله, وكل هذا يشهد بأدلة ناطقة لا تحتاج حتى إلى مجرد البحث والتفكير والتعمق ,
ولقد خاطب الله سبحانه وتعالى كل العقول في كل الأزمان , فجعل هذه الأدلة التي تنطق بوجوده من أول الخلق . ثم كلما تقدم الإنسان , وارتقت الحضارة , وكشف الله من علمه ما يشاء لمن يشاء , ازدادت القضية رسوخا وازدادت الآيات وضوحا , ذلك إن الله تعالى شاء عدله أن يخاطب كل العقول , فجاءت آيات الله في الكون الناطقة بإلوهيته وحده ليفهمها العقل البسيط , والعقل المرتقي في الكون , ولا اعتقد أن أحدا يستطيع أن يجادل في هذه الأدلة ولا أن ينكر وجدها .
ولقد أوجد الله سبحانه وتعالى في الكون أدلة مادية , وأدلة عقلية , وأدلة نصل إليها بالحواس ,
كلها تنطق بوحدانية الله ووجوده . ولقد جعل الله الأداة الأولى للإدراك وجوده هي العقل , العقل هو الذي يدرك وجود الله تعالى بالدليل العقلي الذي وضعه الخالق في الكون ,و ولكن مهمة العقل بالنسبة لهذا الوجود محدودة , ذلك أننا بالعقل ندرك أن هنا خالق مبدعا قادرا , ولكننا بالعقل لا نستطيع أن ندرك ماذا يريد الخالق منا , وكيف نعبده , وكيف نشكره , وماذا أعد لنا من جزاء , يثيب به من أطاعه , ويعاقب به من عصاه فهذا كله فوق قدرة العقل .
ولذلك كان لابد أن يرسل الله الرسل ليبلغونا عن الله , لماذا خلق الله هذا الكون ؟ ولماذا خلقنا ؟ وما هو منهج الحياة الذي رسمه لنا لنتبعه ؟ وماذا أعد لنا من ثواب وعقاب ؟ فتلك مهمة فوق قدرات عقولنا , وتلك مهمة لو استخدمنا فيها العقل لما وصلنا إلى شيء . وجاء الرسل ومعهم المعجزات من الله بصدق رسالتهم ومعهم المنهج ,وقاموا بإبلاغ الناس , ولكننا نتحدث هنا عن معجزات الرسل و وعما جاؤوا به , ولن نتكلم عن أي شيء غيبي .
سنتحدث عن الماديات وحدها , ونتكلم عن الدليل المادي , بما في تلك الأدلة التي ترينا فتجعلنا نوقن أن الغيب موجود , وأن ما لا نراه يعيش حولنا , كل هذا بالعقل وليس بالإيمان .
فالله سبحانه وتعالى وضع الدليل الإيماني في الكون كما وضع الدليل العقلي , و سنحتكم للعقل ةحده , ليرى الناس جميعا أن الاحتكام للعقل يعطينا ألاف الأدلة .
هذه الأدلة هي من لآيات الله , و كلها تشهد أن لا إله إلا الله .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 2
وإذا أردنا أن نبدأ بالأدلة المادية فلابد أن نبدأ بالخلق , ذلك الدليل الذي نراه جميعا أمام أعيننا ليلا ونهارا , ونلمسه لأننا نعيشه , فالبداية هي أن هذا الكون بكل ما فيه قد وجد أو لا قبل أن يخلق الإنسان , وتلك قضية لا يستطيع أحد أن يجادل فيها , فلا أحد يستطيع أن يقول أن خلق السموات والأرض تم بعد خلق الإنسان , بمعنى أن الإنسان جاء ولم تكن هناك أرض يعيش عليها , ولا شمس تشرق , ولا ليل ولا نهار , ولا هواء يتنفسه, بل أن الإنسان جاء وكل شيء قد أعد له , بل أن هناك أشياء أكبر من قدرة الإنسان خلقت وسخرت للإنسان تعطيه كل متطلبات الحياة دون مقابل , وأشياء أخرى خلقت وسخرت للإنسان تعطيه ما يشاء ولكنها محتاجة إلى جهد الإنسان وعمله , وذلك حتى تتم عمارة الأرض .
إذن باستخدام العقل وحده لا أحد يستطيع أن يجادل في أن هذا الكون قد خلق وأعد للإنسان قبل أن يخلق الإنسان نفسه, فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وقال لنا : ( هوالذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى…عليم )البقرة 29.
لا يستطيع أحد أن يجادل عقليا في هذه القضية , لأن الكون تم خلقه قبل خلق الإنسان , فكيف يكون للإنسان عمل قبل أن يوجد ويخلق ؟ وتأتي ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) البقرة 30 .
نقول : أن هذا يؤكد الحقيقة بأن الكون أعد للإنسان قبل أن يخلق وهذه قضية يؤكدها العقل ولا يستطيع أن يجادل فيها .
وبذلك نكون قد وصلنا إلى النقطة الأولى , وهي أن الله سبحانه وتعالى بكمال صفاته وقدراته قد خلق هذا الكون وأوجده ونظمه غي مستعين ب|أحد من خلقه , ولا محتاج أحد من عباده , وأننا جميعا أي البشر قد جئنا إلى كون معد لنا إعداد كاملا .
ولكن قدرة هذا الكون لا تخضع لنا ولا لقدراتنا , بل هي أكبر من هذه القدرات بكثير . فالشمس مثلا أقوى من قدرة البشر جميعا , وكذلك الأرض والبحار والجبال , إذن فلابد أن تكون هذه الأشياء قد أخضعت لنا بقدرة من خلقها وليس بقدرتنا نحن ذلك أنها مسخرة لنا لا تستطيع أن تعصي أمرا , فلا الشمس تستطيع أن تشرق وتغيب يوما حسب هواها لتعطي الدفء ووسائل استمرار الحياة لمن تريد , وتمنعه عن من تشاء ولا الهواء يستطيع أن يهب يوما ويتوقف يوما , ولا المطر يستطيع أن يمتنع عن الأرض فتنعدم الحياة ويهلك الناس , ولا الأرض تستطيع أن تمتنع عن إنبات الزرع , لا شيء من هذا يمكن أن يحدث , ولا تستطيع البشرية كلها أن تدعي أن لها دخلا في مهمة هذا الكون , لأنه لا خلق هذه الأشياء ولا استمرارها في عطائها يخضع لإرادة البشر .
فإذا جئنا إلى الإنسان وجدناه هو الأخر لابد أن يشهد بأن له خالقا وموجودا , فلا يوجد من يستطيع أن يدعي أنه خلق إنسانا , ولا من يستطيع أن يدعي أنه خلق نفسه .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 3
دليل الخلق
إذن فقضية الخلق محسومة لله تعالى لا يقبل جدل عقلي , فإذا جاء بعض الناس وقالوا : ان هذا الكون خلق بالمصادفة , نقل : أن المصادفة لا تنشئ نظاما دقيقا كنظام الكون , لا يختل رغم مرور ملايين السنين .
وإذا جاء بعض العلماء ليدعي أنه كانت هناك ذرات ساكنة ثم تحركت وتكثفت واتحدت !! . نقول : من الذي أوجد هذه الذرات , ومن الذي حركها من السكون ؟ .
وإذا قيل أن الحياة بدأت بخلية واحدة من الماء نتيجة تفاعلات كيميائية , نقول : من الذي أوجد هذه التفاعلات لتصنع هذه الخلية ؟
ونحن لن ندخل مع هؤلاء في جدل عقيم , وإنما نقول لهم : أن من إعجاز الخالق , أنه أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا , وأنبأنا أكثر من ذلك أن هؤلاء يدلون , أي ليسوا على حق , ولكنهم على ضلال , وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : ……………..الكهف 51.
وهكذا نرى من يأتي ليدل الناس بنظريات كاذبة عن أصل خلق السموات والأرض , وأصل خلق الإنسان , ومن يدعي أن أصل الإنسان قرد , وهي نظرية يملؤها الغباء , فنحن لم نشهد قردا يتحول إنسان , وإذا كان أصل الإنسان قرد فلماذا بقيت القرود على حالها حتى الآن ولم تتحول إلى بشر ؟ ! ومن الذي منعها أن يحدث لها هذا التحول مادام قد حدث في الماضي ؟! ولقد نسي هؤلاء أن الوجود لابد أن يكون من ذكر وأنثى وإلا انقرض النوع , وهؤلاء يقولون لنا عندما ادعوا أن قردا تحول إنسانا , من أين جاء القرد الذي تحول امرأة ليتم التكاثر!!وبدون الدخول في جدل لا يفيد , نقول لهؤلاء جميعا : لقد جئتم مثبتين لكلام الله , فلو أنه لم يأت من يضل بنظريات كاذبة في خلق السموات والأرض وفي خلق الإنسان ,لقلنا أن الله تعالى قد أخبرنا في القرآن الكريم , أنه سيأتي من يضل في خلق السموات والأرض وفي خلق الإنسان , ولكن لم يأت أحد يفعل ذلك , ولكن كونهم جاءوا وكونهم أضلوا يجعلنا نقول : سبحانه ربنا :, لقد أخبرنا عن المضلين وجاءوا فعلا بعد قرون كثيرة من نزول القرآن , فكان هؤلاء الذين جاءوا ليحاربوا قضية الإيمان , قد أثبتوها وأقاموا الدليل عليها .
على أننا نقول لكل من جاء يتحدث عن خلق السموات والأرض و خلق الإنسان مدعيا أن الله ليس هو الخالق , نقول له : أشهدت الخلق ؟ فإذا قال لا , نسأله ففيما تجادل .
على أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى لأنه هو وحده سبحانه الذي قال انه خلق، ولم يأت أحد ولن يجروء أحد على أن يد عي أنه الخالق .
وإذا كان من يفعل شيئا يحرص على الإعلان عما فعل، فلا يوجد شيء صغير اخترعه البشر في الدنيا، إلا وحرص صاحبه على الإعلان عن نفسه.
فإذا كان الذي اخترع المصباح قد حرص أن يعرف العالم كله اسمه وتاريخه وقصة اختراعه،
أيكون الذي أوجد الشمس غافلا عن أن يخبرنا أنه هو الذي خلقها، وإذا كانت هناك قوة أخرى قد أوجدت أفلا تعلن عن نفسها؟.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 4
إذن فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه وحده الذي قال انه خلق، حتى يأتي
من يدعي الخلق، ولن يأتي، فان الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق بلا جدال، وحتى الكفار لم يستطيعوا أن يجادلوا في هذه القضية، ولذلك يأتي القرآن في سورة العنكبوت فيقول:
(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله، فأن ى يؤفكون) العنكبوت 61.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) العنكبوت 63.
وهذه الآيات نزلت في الكافرين والمشركين، وهم رغم كفرهم وإشراكهم لم يستطيعوا أن يجادلوا في خلق الكون والإنسان.
ولكن القضية لا تقف عند الكون وحده، بل تمتد إلى كل ما في الدنيا حتى تلك الأشياء التي يقدر
عليها الإنسان، فأصل الوجود بكل ما فيه من خلق الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: ( ذلكم الله ربكم، لا اله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل( الأنعام 102.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال أنه ( خالق كل شيئ ) فما من شيء في هذا الوجود الا هو خالقه.
ولنأخذ هذه القضية في كل ما حولنا، في كل هذا الكون، لنأخذ مثلا الخشب، شجرة الخشب التي تعطينا كل الأخشاب التي نستعملها في بيوتنا وأثاثنا إلى غير ذلك، هذه الشجرة من أين جاءت؟
تسأل تاجر الخشب من أين جاءت؟ يقول من السويد، وتسأل أهل السويد يقولون من الغابات،
وتذهب إلى الغابة فيقولون لك من شتلات نعدها، وتسال من أين جاءت هذه الشتلات؟ من جيل سابق من الأشجار، والجيل السابق من جيل سبقه،، وتظل تمضي حتى تصل إلى الشجرة الأولى التي أخذ منها كل هذا، من الذي أوجد الشجرة الأولى؟ انه الله، فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الشجرة الأولى أو أوجدها من العدم.
فإذا انتقلنا إلى باقي أنواع الزرع لنبحث عن التفاحة الأولى والبرتقالة الأولى، والتمرة الأولى،
وحبة القمح الأولى، وشجرة القطن الأولى، نجد أنها وغيرها من كل ما تنتجه الأرض، كلها من خلق الله خلقا مباشرا، ثم بعد ذلك استمر وجودها بالأسباب التي خلقها الله في الكون.
قد يقال: ان هناك تهجينا وتحسينا وخلطا بين الأنواع لتنتج نوعا أكثر جودة، نقول: ان هذا كله
لا ينفي أن الثمرة الأولى مخلوقا مباشرا من الله، وقد يدعي بعض العلماء أنهم حسنوا أو استنبطوا نوعا جديدا، نقول لهم: كل هذا لا ينفي أن الوجود الأول من الله، وأنهم استخدموا ما خلق الله بالعلم المتاح من الله في كلما فعلوه، ولكن أحدا لا يستطيع أن يد عي أنه أوجد أي شيء في الأرض من العدم، فكل هذه الاكتشافات العلمية هي من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من عدم. فكل هذه الاكتشافات العلمية من موجود، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من العدم.
وإذا انتقلنا من النبات إلى الحيوان، نجد أن كل الحيوانات والطيور والحشرات بدأت بخلق من الله سبحانه وتعالى، وبخلق من ذكر وأنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن خلق من عدم ذكر أو أنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعا، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 5
خلق من عدم ذكر أو أنثى من أي نوع من النبات أو الحيوان، والله سبحانه وتعالى يلفتنا في القرآن فيقول: ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) الداريات 49.
التحدي الإلهي في الخلق
إننا نريدهم، ونحن نتحدى علماء الدنيا كلها، أن يأتي عالم فيقول لنا انه أوجد من العدم، أو أنه خلق ذكرا أو أنثى من أي شيء موجود في هذا الكون، وما أكثر الموجودات في كون الله، وهنا تأتي الحقيقة القرآنية تتحدى في قوله تعالى:
( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب ) الحج 73.
هذا هو التحدي الإلهي الذي سيبقى قائما حتى يوم القيامة، فلن يستطيع علماء الدنيا ولو اجتمعوا أن يخلقوا ذبابة.
ولقد وصل الإنسان إلى القمر، وقد يصل إلى المريخ، وقد يتجاوز ذلك ولكنه سيظل عاجزا عن خلق ذباب مهما كشف الله له من العلم، فلن يعطيه القدرة على خلق ذبابة، وهذا من إعجاز الله،
لأنه وحده الذي خلق كل شيء، والعلم كاشف لقدرات الله في الأرض، ولكنه ليس موجدا لشيء،
ولذلك يقول القرآن الكريم: ( ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل ( الأنعام 102.
وبهذا نكون قد أثبتنا بالدليل العقلي أن الله خالق كل شيء في الدنيا، فإذا كان الله قد خلق من هم دون الإنسان من نبات وجماد وحيوان فكيف بالإنسان بما له من ادراكات وعقل وفكر وتمييز،
ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (الطور 35
وإذا كان كل شيء في هذا الكون من خلق الله سبحانه وتعالى، فان قوانين أكون أيضا، تلك هي القوانين التي يسير عليها الكون هي من وضع الله سبحانه وتعالى، الا ما شاء الله أن يجعل للإنسان فيه اختيار، فالقوانين التي يمضي عليها الكون هي من وضع الله، والأسباب التي تتم بها الأشياء هي من وضع الله، فالشمس والقمر والنجوم والأرض لا تتبع قوانين البشر، بل تتبع القانون الإلهي، والذي خلقها وضع لها القانون الأمثل لتؤدي مهمتها في الكون.
فالشمس لها حركة كونية، ولها تحر ك آخر في فلك خلقه الله لها، وكذلك القمر وكذلك الأرض، وكذلك الرياح، والنجوم، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان_ السماء رفعها ووضع الميزان) الرحمن 1إلى 7.
إذن فالشمس والقمر والنجوم تتحرك بحساب دقيق فلا تتأخر الشمس عن موعد شروقها ثانية ولا تتقدم ثانية منذ ملايين السنين، وكذلك القمر في دورته الشهرية، وكذلك النجوم في حركتها، يقول الله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) يس40.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 6
أي أن كل هذه الأجرام لها فلك أو مسار معين تمضي فيه بإذن الله. ولا تستطيع البشرية كلها أن تؤخر شروق الشمس ثانية، أو أن تقدمها ثانية، أو أن توقف دوران الأرض أو تسرع بها أو تبطئ إلى غير ذلك.
إذن فثبات قوانين الكون دليل على دقة الخالق وإبداعه وعظمته وقدرته، وهذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره.
دليل الثابت والمتحرك
يأتي الفلاسفة ليقولوا: ان الثبات وحده لا يعطي القدرة الكاملة للحق سبحانه وتعالى، ذلك أن الإله بقدرته لا بد أن يستطيع أن يخرج عن ميكانيكيته، فذلك هو دوام القدرة أو طلاقة القدرة، أما بقاء الثابت على ثباته، فان ذلك يعطي الدليل على دقة القدرة وإبداع الخالق، ولكنه لا يعطي الدليل على طلاقة القدرة؟!
نقول: ان الله قد أعطى في كونه الدليل على طلاقة القدرة، ولكنه لم يعطه في القوانين الكونية،
لأنه لو أعطاه في القوانين الكونية فأشرقت الشمس يوما، وغابت أياما، ودارت الأرض ساعات
وتوقفت ساعات، وتغير مسار النجوم لفسد الكون!! إذن فمن كمل الخلق أن تكون القوانين الكونية بالنسبة للنظام الأساسي للكون ثابتة لا تتغير وإلا ضاع النظام، وضاع معه الكون كله، فلا يقول أحد: ان ثبات النظام الكوني يحمل معه الدليل على عدم طلاقة القدرة، بل هو يحمل الدليل على طلاقة القدرة التي تبقي هذا النظام ليصلح الكون.
والله سبحانه وتعالى لا يريد كونا فاسدا في نظامه، ولكنه يريد كونا يتناسب مع عظمة الخالق وقدرته وإبداعه، فيبقي بطلاقة القدرة الثبات في قوانين هذا الكون، ويظهر بطلاقة القدرة أنه قادر أن يغير، ويخرق النواميس بما لا يفسد الحياة في الكون، ولكن بما يلفت خلقه إلى طلاقة قدرته.
ولنتحدث قليلا عن طلاقة قدرة الله تعالى في كونه، أول مظاهر طلاقة القدرة هي المعجزات التي أيد الله بها رسله وأنبياءه، ولكننا لن نتحدث عنها هنا، فنحن مع العقل وحده، لنؤكد بالدليل العقلي أن كل ما في الكون يؤكد أنه لا اله الا الله، وأنه هو الخالق والموجد، نأتي إلى الأشياء التي تنطق بطلاقة القدرة وهي في كل شيء، وإذا جاز لنا أن نبدأ بالإنسان فإننا نبدأ بميلاد الإنسان أولا، والإنسان ككل شيء في هذا الكون يوجد من ذكر وأنثى، فإذا اجتمع الذكر والأنثى جاء الولد، هذا هو قانون الأسباب، وقد يلتقي الذكر والأنثى ولا يأتي الولد، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: (لله ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما، انه عليم قدير) الشورى 42
إذن الله سبحانه وتعالى جعل في قوانين الأسباب نه متى تزوج الذكر والأنثى يأتي الولد، ولكنه أبقى لنفسه طلاقة القدرة فجعل هناك ذكرا وأنثى يتزوجان أعواما ويله لا يرزقان بالولد، فمع قوانين الأسباب كانت هناك طلاقة القدرة، ولم يجعلها الله سبحانه وتعالى عامة، بل جعلها في أمثلة قليلة لتلفتنا إلى طلاقة قدرته، حتى لا نحسب إننا نعيش بالأسباب وحدها .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 7
طلاقة القدرة في الكون
ولم تقف طلاقة قدرة الله في خلق الإنسان عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل كل أوجه الخلق،
فلأصل في الإيجاد هو من ذكر وأنثى، ولكن الله سبحانه وتعالى بطلاقة قدرته خلق إنسانا بدون ذكر أو أنثى وهو ” آدم” عليه السلام، وخلق من ذكر بدون أنثى وهي ” حواء”، خلقها من ضلع آدم عليه السلام، وخلق إنسانا من أنثى بدون ذكر وهو ” عيسى” عليه السلام، وهذه كلها حدثت مرة واحدة لإثبات طلاقة قدرته، وهي لا تتكرر، لأنها تلفتنا إلى طلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى،
وأنه ليس على قدرته قيود ولا حدود، فهو جل جلاله خالق الأسباب، وقدرته تبارك وتعالى فوق الأسباب، على أن هناك أشياء كثيرة عن طلاقة قدرة الله بالنسبة للإنسان سنتحدث عنها تفصيلا في فصل قادم.
نأتي إلى طلاقة قدرة الله تعالى في ظواهر الكون، لو أخذنا المطر مثلا، الله سبحانه وتعالى بأسباب الكون جعل مناطق ممطرة في الكون، ومناطق لا ينزل فيها المطر، والعلماء كشف الله لهم من علمه ما جعلهم يضعون خريطة للأسباب تحدد المناطق الممطرة وغير الممطرة.
يأتي الله سبحانه وتعالى في لفتة إلى طلاقة قدرته، فتجد المناطق الممطرة لا تنزل فيها قطرة ماء وتصاب بالجدب، ويهلك الزرع والحيوان، وقد يموت الإنسان عطشا، بالرغم من أن هذه المناطق كان المطر ينزل فيها وربما سار في أنهار ليروي غيرها من البلاد التي لا ينزل فيها المطر. فنجد مثلا منابع النيل التي هي مناطق غزيرة المطر، تأتي فيها سنوات جدب فلا يجد الناس الماء، ونجد بلادا كالولايات المتحدة وبلاد أوروبا يصيبها الجدب في سنوات، ولا يحدث هذا بشكل مستمر، بل في سنوات متباعدة، لو أن المطر ينزل بالأسباب وحدها ما وقع هذا الجدب في المناطق الغزيرة المطر، ولكن الله يريد أن يلفتنا إلى طلاقة قدرته والى أن الماء الذي ينزل من السماء ليس خاضعا للأسباب وحدها، ولكن إلي يحكمه هو طلاقة قدرة الله، حتى لا نعتقد أننا أخذنا الدنيا وملكناها بالأسباب، ولكي نعرف أن هناك طلاقة لقدرة الله سبحانه وتعالى هي التي تعطي وتمنع، وأنه جل جلاله فوق الأسباب وهو سبحانه المسبب يغير ويبد ل كما يشاء.
فإذا جئنا إلى الزرع، ذلك الذي فيه عمل للإنسان، نجد مظاهر طلاقة القدرة، فالإنسان يزرع الزرع والله يعطيه كل الأسباب، الماء موجود والكيماويات متوفرة، والأرض جيدة ، ثم بعد ذلك تأتي آفة لا يعرف أحد عنها شيئا، ولا يحسب حسابها فتقضي على هذا الزرع تماما، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقل ب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحد ) الكهف 42.
ونحن نعرف أن الآفات تصيب كل مكان في الأرض لا يعلو عليها علم مهما بلغ، وهكذا نعرف أن الأرض لا تعطينا الثمر بالأسباب وحدها، ولكن بقدرة الله سبحانه وتعالى التي هي فوق الأسباب، لكيلا نعبد الأسباب وننسى المسبب وهو الله تعالى.
فإذا انتقلنا إلى الحيوان نجد طلاقة القدرة واضحة، فهناك من الحيوان ما تزيد قوته على الإنسان مرات ومرات، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أخضعه وذلله للإنسان، فتجد الصبي الصغير يقود الجمل أو الحصان ويضربه، والجمل مثلا يستطيع أن يقضي عليه بضربة قدم واحدة ولكنه لا
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 8
بفعل شيئا ويمضي ذليلا مطيعا ولا يرد على الإيذاء رغم قدرته على ذلك، ونجد الكلب مثلا يحرس صاحبه ويدافع عنه لأن الله ذلله له.
فإذا جئنا إلى الذئب أو إلى الصعب من نفس فصيلة الكلب نجده يفترس الإنسان ويقتله، ولو أن هذا التذليل للحيوان بقدرة الإنسان لاستطاع كما ذلل الجمل والبقرة والكلب أن يذلل الذئب والثعلب وغيرهما من الحيوانات، ولكن الله يريد أن يلفتنا إلى أن هذا التذليل بقدرته سبحانه وتعالى، ان الثعبان الصغير وهو حشرة ضئيلة الحجم يقتل الإنسان، دون أن يستطيع أن يذلله، ليلفتنا الله سبحانه إلى أن كل شيء بقدرته وجعل موازين القوة والضخامة تختل، حتى لا يقال ان هذا الحيوان قوي بحجمه أو بالقوة التي خلقت له، بل جعل أضعف الأشياء يمكن أن يكون قاتلا للبشر.
ثم نأتي إلى الجماد، الأرض من طبيعتها ثبات قشرتها حتى يستطيع الناس أن يعيشوا عليها، ويبنوا مساكنهم، ويمارسوا حياتهم، ولو أن قشرة الأرض لم تكن ثابتة لاستحالة الحياة عليها، ولاستحالت عمارتها، والله سبحانه وتعالى يريد منا عمارة الأرض، ولذلك جعل قشرتها ثابتة صلبة، ولكن في بعض الأحيان تتحول إلى عدم ثبات، فتنفجر البراكين ملقية بالحمم، وتحدث الزلازل التي تدمر كل ما على المكان الذي تقع فيه.
ويتقدم العلم ويكشف الله بعضا من علمه لبعض خلقه ما يشاء، ولكن يبقى الإنسان عاجزا على أن يتنبأ بالزلازل، فيأتي الزلزال في أكثر بلاد الدنيا تقدما ليفاجئ أهلها دون أن يشعروا بقرب وقوعه، بل انه من طلاقة قدرة الله تعالى أنه أعطى بعض الحيوانات، التي ليس لها عقول تفكر، ولا علم ولا حضارة، أعطاها غريزة الإحساس بقرب وقوع الزلزال، ولذلك فهي تسارع بمغادرة المكان أو يحدث لها هياج، ان كانت محبوسة في لأقفاص أو حظائر مغلقة، وذلك ليلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى أن العلم يأتي منه سبحانه وتعالى ولا يحصل عليه الإنسان بقدرته، فيعطي سبحانه من لا قدرة له على الفكر والكشف العلمي ما لا يعطيه لذلك الذي ميزه بالعقل والعلم.
لماذا؟ لنعلم أن كل شيء من الله فلا نعبد قدراتنا، ولا نقول: انتهى عصر الدين والإيمان وبدأ عصر العلم، بل نلتفت إلى أن الله يعطي لمن هم دوننا في الخلق علما لا نصل نحن إليه، فنعرف أن كل شيء بقدرته وحده سبحانه وتعالى.
ومظاهر طلاقة قدرة الله في الكون كثيرة، فهو وحده الذي ينصر الضعيف على القوي، وينتقم للمظلوم من الظالم، وكل ما في الكون خاضع لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى، على أن طلاقة القدرة في تغيير ما هو ثابت من قوانين الكون كلها ويحدث الدمار وتنتهي الحياة.
وذلك مصداقا لقوله تعالى: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت) الانفطار1الى 5
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، تنبئنا بما سيحدث عندما تقوم القيامة.
إذن الذين يقولون: ان عظمة الله سبحانه وتعالى في خلقه هي الثبات والدقة التي لا تتأثر بالزمن، والتي تبقى ملايين السنين دون أن تختل ولو ثانية واحدة، نقول لهم: هذه موجودة وانظروا إلى القوانين الكونية ودقتها وكيف أنها لم تتأثر بالزمن. والحين يقولون: إن عظمة الحق سبحانه وتعالى في طلاقة قدرته في كونه، وألا تكون الأسباب مقيدة لقدرة الخالق والمسبب، نقول لهم: انظروا في الكون وحولكم مظاهر طلاقة القدرة، وليست
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 9
هذه المظاهر مختفية أو مستورة، بل هي ظاهرة أمامنا جميعا، وليست في أحداث بعيدة عن حياتنا، بل هي تحدث لنا كل يوم.
وإذا صاح إنسان من قلبه : ( ربنا كبير ) , أو (ربنا موجود ) , أو (ربك يمهل ولا يهمل ) و فمعنى ذلك أنه رأى طلاقة قدرة الله، تنصف مظلوما، أو تنتقم من ظالم، أو تنصر ضعيفا على قوي، أو تأخذ قويا وهو محاط بكل قوته الدنيوية.
فالإنسان لا يتذكر قدرة الله عندما يرى الكون أمامه يمضي بالأسباب، ذلك أن هذا شيء عادي لا يوجب التعجب، فانتصار القوي على الضعيف لا يثير في النفس اندهاشا، والأجر المعقول للعمل شيء عادي، والأحداث بالأسباب هو ما يعيشه الناس، ولكننا نتذكر قدرة الله تعالى إذا اختلت الأسباب أمامنا، وجاء المسبب ليعطينا ما لا يتفق مع الأسباب ولا مع قوانينها.
في هذا الفصل استعرضنا بعض أسباب الوجود التي تثبت قضية الإيمان بالدليل العقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول : وفي أنفسكم أفلا تبصرون} الداريات 21
على أن بعض الناس ينظر إلى نفسه فلا يرى شيئا، فما معنى هذه الآية الكريمة؟
هذا هو موضوع الفصل القادم.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 10
الفصل الثاني يقول الله سبحانه وتعالى “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”
آيات الله في خلق الإنسان
هذه الآية يمر عليها كثير من الناس دون ان يتنبهوا إلى الفيوضات والمعاني التي تحتويها. بل انك إذا سألت إنسانا غير مؤمن ماذا يعرف عن هذه الآية الكريمة؟ فيقول لك: لا شيء في نفسي!!
فأنا إنسان أولد وأكبر وأتزوج وأعمل وتنتهي حياتي وأموت. فماذا في نفسي؟ نقول له: لو أنك تدبرت لعلمت أن في نفسك آيات وآيات.. سنذكر في هذا الفصل بعض هذه الآيات، لأن آيات الله في الإنسان كثيرة ومتعددة. أول شيء هو قول الحق سبحانه وتعالى: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172
إذا قرأت هذه الآية يقول لك غير المؤمن: لم نشهد شيئا ولم نرى شيئا ولم نحس شيئا! ونقول: بل شهدت، وأنت شهيد على نفسك في ذلك، كيف؟ الله سبحانه وتعالى عرفنا بأنه موجود، وعرفنا بشهادة ربوبيته وليس بشهادة إلوهية، ومعنى ذلك أن المؤمن والكافر يعلم في نفسه وجود الله،ولكن الكافر يحاول أن يستر هذا الوجود ليحقق شهواته وما يريد ولو على حساب حقوق الآخرين، ولننظر إلى ما أحل الله وما حر م الله، ثم لننظر إلى النفس البشرية على عمومها لنرى ما تفعل، ولنعرف يقينا أن هذه النفس تعرف ما أحل الله وتستريح له وتنسجم معه، وتعرف ما حرم الله فيصيبها انزعاج واضطراب وذعر وهي ترتكبه، وأول هذه الأشياء هو العلاقة بين الرجل والمرأة.
إذا جاءك رجل وقال: أريد أن أختلي في حجرة ابنتك، ماذا تفعل به؟ قد تقتله، وان لم تقتله قد تضربه، ويعينك على ذلك كل الناس، وسيجد فعله هذا استنكارا عاما من المؤمن وغير المؤمن.
فإذا جاءك هذا الرجل وقال: أريد أن أتزوج ابنتك، فانك تستقبله بالترحاب وتدعو الناس للترحيب به، وتعلن النبأ على الجميع، وتعقد القران، وبعد عقد القران تتركه هو وابنتك في الحجرة، وتوافق على الخلوة بينهما.
ما الفرق بين الحالتين؟ بعض الناس يقول إنها وثيقة الزواج التي تحرر، فهل الفرق هو الورقة فعلا؟ لا، الفرق هو الحلال والحرام، ما أحله الله وما حرمه، ما أحله ينسجم مع النفس البشرية ويقبله كل الناس، وما حرمه الله تستنكره كل نفس بشرية وتفعل ضده.
كيف يحدث هذا؟ لأنك عرفت يقينا منهج الحق والباطل، وممن عرفته؟ من الذي وضعه، ليس هذا فقط، بل انظر إلى إنسان في شقة مع زوجته، يدخل مطمئن تماما يدخل أمام الناس إلى بيته، وإذا طرق الباب قام وفتح للطارق، وإذا جاء صديق استقبله باطمئنان، وإذا خرج إلى الشارع وأخذ زوجته معه أمام الناس جميعا، انظر إلى نفس الرجل مع زوجة غيره، يغلق الأبواب والنوافذ حتى لا يراه أحد، وإذا طرق الباب انزعج ولا يفتح، وإذا جاءه صديق أصيب بالذعر، وإذا خرج إلى الشارع مشي بعيدا عنها.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 11
ما الفارق بين الحالتين؟ الفارق هو الحلال والحرام اللذان تعرفهما كل نفس، حتى تلك التي لم تقرأ شيئا عن الدين، لأن الله تعالى قال: ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى).
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى أوجه الحياة، لص يريد أن يسرق، يتأكد أولا من أن الطريق خال، ولا يجرؤ أن يفعل ذلك الا في الظلام أو بعيدا عن الناس، وبمجرد أن يأخذ ما يريد ان يسرقه ينطلق بسرعة وهو يتلفت يمينا ويسارا خوفا من أن يراه أحد، ثم يبحث عن مكان يخفي فيه المسروقات، انفعالا رهيبة في داخله تؤكد أنه يعرف أن ما يفعله إثم وخطيئة، لكن الإنسان عندما يريد أن يدخل بيته ليأخذ شيئا دخل أمام الناس جميعا ومشى باطمئنان، وحمل الشيء الذي يريده وهو لا يخشى أن يراه أحد، ذلك أنه يحس في داخله بأنه يفعل شيئا لا يحرمه الله، الذي يأخذ رشوة مثلا، يتلفت حوله يمينا ويسارا ويسارع بإخفائها، والذي يقبض مرتبه يفعل ذلك أمام الدنيا كلها.
وهكذا كل مقاييس الخير والشر، مقاييس الخير تنسجم معها النفس البشرية، وتحس بطبيعتها وراحتها، ومقاييس الشر تضطرب معها النفس البشرية وتحس بالفزع والذعر وهي ترتكبها، من الذي وضع في النفس هذا، أنها تعرف يقينا هذه المقاييس التي وضعها الله لمنهجه في كونه، ومن الذي أعلم هذه النفس أن هناك مقاييس، وأن هناك إلها، الا أن تكون الآية الكريمة: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172
هي التفسير الوحيد لمقاييس الخير ومقاييس الشر التي وضعت فينا بالفطرة، وبما أن هذا عطاء ربوبية، فان الله سبحانه وتعالى رب الناس كل الناس، من آمن به ومن لم يؤمن، ولذلك وجدت في البشر كلهم.
نأتي بعد ذلك إلى نقطة ثانية، الله سبحانه وتعالى غيب، وغير المؤمن يقول أنا لا أؤمن الا بما أرى، أنا هو غيب عني فلا أؤمن به لأنني لم أشهده، والإيمان غير الرؤية، فأنت إذا رأيتني أمامك لا تقول: أنا أؤمن أني أراك، لأن الرؤية عين يقين ليس بعدها دلالة! ولا تقول أنا أؤمن أنني أجلس مع أصدقائي، ولا تقول إني أؤمن أني لست أرى الشمس مثلا!! ذلك هو عين اليقين، وهناك علم يقين , وعين يقين ، وحق يقين.
فعلم اليقين هو الذي يأتيك من إنسان تثق فه وفي أنه صادق في كلامه، فإذا قال لك إنسان مشهود له بالصدق أنا رأيت فلانا يفعل كذا، فأنت تصدق بوثوقك بمن قال، فإذا رأيت الشيء أمامك يكون ذلك ” عين اليقين”، فالذي يقول لك مثلا ان هناك مخلوقا نادرا في بلدة كذا فأنت تصدقه، لأنك تثق به، فإذا جاء معه بهذا المخلوق وأظهره أمامك أصبح علم اليقين عين اليقين، فإذا لمسته بيدك وتحسسته وتأكد من أوصافه يكون هذا ” حق اليقين”.
ولذلك فان الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب غير المؤمنين عن جهنم يقول: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) التكاثر 5
أي أن كلا منا سيرى جهنم بعينيه في الآخرة، ثم يقول سبحانه وتعالى: (وأما ان كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ان هذا لهو حق اليقين) الواقعة 92/95
أي أن الكفار حين يدخلون النار ويعذبون فيها سيكون ذلك حق اليقين، أي واقعا يعيشونه وليست مجرد رؤية.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 12
هذه هي الرؤية، أما الإيمان فهو تصديق بغيب، فأنت تقول: أنا أؤمن أن ذلك حدث كما أراك أمامي، أي أنك لم تشهد ما حدث، ولكنك وصلت بالدليل والاقتناع إلى أنه قد حدث، وأصبح في نفسك كيقين الرؤية تماما.
أين الروح في جسدك؟
غير المؤمنين يقول ان الله غيب وأنا لا أصدق الا ما أرى! نقول: قبل أن تعلن هذا الكلام تذكر الآية الكريمة:( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )
وأنت في جسدك الروح هي التي تهبك الحياة والحركة، فإذا خرجت الروح من جسدك سكنت الحركة وانتهت الحياة.
إذن كل منا يعرف أن هناك شيئا اسمه الروح، إذا دخل الجسد أعطاه الحياة، وإذا خرج كمه توقفت الحياة، فمن منا رأى الروح؟ بل من منا يعرف أين موقعها من الجسد؟ أهي في القلب الذي ينبض؟ أو في العقل الذي يفكر؟ أو في القدم التي تتحرك؟ أو في العين التي ترى؟ أو في الأذن التي تسمع؟ أين مكانها بالضبط؟ وما هي الروح؟
أكبر علماء الدنيا لا يعرف عنها شيئا، حتى ذلك العالم السويسري الذي جاء بالناس وهم يحتضرون ووضعهم على ميزان دقيق، وعندما أسلموا الروح وجد أن الجسد قد فقد بضع جرامات لحظة خروج الروح، فأعلن أن الروح لها وزن، أو أن لها كيانا ماديا وان كان لا يزيد على غرامات، نقول ان هذا غير صحيح، لأن هذه الجرامات قد تكون هي وزن الهواء الذي خرج من الرئتين، ولم يدخل غيره، أ, تكون بسبب توقف سريان الدم بالجسم.
إذن الروح، وهي موجودة في جسدك، غيب عنك، فأنت لا تعرف ما هي؟ ولا أين هي؟ وأنت لا تعرف كيفية سريانها في الجسم، وإلا قل لنا إذا أصيب الإنسان في حادث وبترت ساقاه، أين ذهبت الروح التي كانت في الساقين تعطيهما الحركة والحياة؟ ولكنك تستدل على وجود الروح مع أنها غيب عنك بآثارها في أنها تعطي الحياة والحركة لجسدك، ولكن هل وجود الروح في المخلوق الحي وجود يقيني؟ يقول أكبر علماء الدنيا الماديين: نعم، ولا يستطيع أحد أن ينكر ان الجسد الحي فيه الروح، وأن الجسد الميت قد خرجت الروح منه.
إذا فوجود الروح علم يقين مستدل عليها بآثارها، فهل إذا كان وجود الروح في جسدك يؤكد لك يقينا أنها موجودة مستدلا على ذلك بالحركة والحياة التي تعطيها في الجسد، ألا يدل هذا الكون كله بما فيه من إعجاز الخلق على وجود الله يقينا؟ ألا تنظر إلى جسدك والروح فيه ثم تنظر إلى الكون لتستخدم نفس القانون؟ أم أنك في جسدك لا تستطيع أن تجادل, وفي الكون بعظمته تجادل؟! أليس هذا كذبا على النفس واحتقارا لمهمة العقل!! ألا نتدبر في معنى الآية الكريمة: ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ؟!.
قدرات الإنسان
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 13
ثم نأتي بعد ذلك إلى النقطة الثالثة، غير المؤمن يقول أنا سيد نفسي، أنا حاكم نفسي أفعل بها ما أشاء، نقول: هذا افتراء على الله، فجسدك هو ملك لله، وهو يفعل فيه ما يشاء الا ما شاء أن يجعلك فيه مختارا، وإذا لم تصد ق ذلك فانظر إلى جسدك.
القلب ينبض، فهل أنت الذي تجعله ينبض؟ وهل تستطيع ان توقفه قليلا ليستريح؟ أو تجعله إذا توقف أن يعود إلى الحركة مرة أخرى؟ وكيف يمكن أن يتبع القلب لإرادتك، وهو ينبض وأنت نائم مسلوب الإرادة، ومن الذي يعطي الأمر للقلب لكي يقلل نبضاته وأنت نائم، لأنك متوقف عن الحركة، ويجعله يسرع في النبض وأنت تقوم بأي مجهود محتاج إلى سرعة حركة الدم في الجسم.
وحركة التنفس هل أنت إلي تقوم بها؟ وإذا قلت نعم فكيف تتنفس وأنت نائم؟ إنها حركة تتم بالقهر لا سلطان لك عليها، فإذا صدر لها الأمر الإلهي بأن تتوقف فلا احد يستطيع أن يعيدها.
ومعدتك وما يحدث فيها من تفاعلات لهضم الطعام وأنزيمات تفرز غدد متعددة، أيتم هذا بإرادتك؟
وأمعاؤك وحركة الطعام فيها وامتصاص ما يفيد الجسم وطرد ما لا يفيد. أيحدث هذا بإرادتك أم أنها تتم دون ان تدري؟
وكرات الدم البيضاء وهي تتصدى للميكروبات التي تدخل جسدك فترسل كرات معينة لتحدد ما يمكن أن يقضي على الميكروبات، ثم يقوم النخاع بتصنيع المواد المضادة فتقضي على الميكروب فعلا، أتدري أنت شيئا عن هذه العملية؟ ان كل هذا مقهور لله سبحانه وتعالى، يقوم بعمله دون أن يتوقف، ودون أن تدري أنت شيئا عنه.
ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه الأجهزة البشرية مقهورة له، وإلا لما استطاع الإنسان الحياة، ولا العمل، ولا أداء مهمته في عمارة الكون، وإلا فقل لي بالله عليك، لو أن قلبك يخضع لإرادتك كيف يمكن أن تنام؟ انك ستظل يقظا ليستمر القلب في النبض، لو أن معدتك تخضع لإرادتك لاحتجت إلى ساعات طويلة بعد كل وجبة لتتم عملية الهضم، لو أن الدورة الدموية تخضع لإرادتك، لما استطاع عقلك أن يستمر في الحياة وهو مشغول بمئات العمليات التي تتم كل دقيقة.
وهكذا شاءت رحمة الله أن يجعل كل هذا بالقهر حتى تستطيع الحياة والسعي في الأرض، وحتى يمكنك ان تتمتع بحياتك.
إذا لا تقل أنا حر في جسدي، أو جسدي خاضع لي، فهذا غير صحيح علميا وبالدليل المادي،
فأنت مقهور في كل أجهزة جسدك، حتى تلك التي أخضعها الله لإرادتك فهذا خضوع ظاهري وليس خضوعا حقيقيا، ولقد شاءت حكمة الله أن يرينا هذا في الدنيا أمامنا بالدليل المادي، فأنت تبصر بعينيك، وحتى لا تغتر وتعتقد أن هذا الابصار من ذاتك، وأنه خاضع لإرادتك، أوجد الله سبحانه وتعالى من له عينان مفتوحتان ولا يبصر، وأنت تشي بقدميك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتتحرك وتفعل بهما ما تشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له قدمان ولا يستطيع أن يمشي، وأنت تحرك يديك وتفعل بهما ما تشاء ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له يدان ولا تستطيعان الحركة، وأنت تتحدث بلسانك وتسمع بأذنيك، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد من له لسان ولا يقدر على الكلام، ومن له أذنان ولا يسمع، كل هذه أمثلة قليلة وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون، ليلفتنا إلى أنه ليس لنا ذاتية، وأن الأمر كله لله.
فإذا كنا نبصر بأعيننا فنحن نبصر بقدرة الله تعالى التي أعطت العين قوة الإبصار ونمشي بقدرة الله تعالى التي أعطت القدمين قوة الحركة، ونسمع ونتكلم بقدرة الله التي أعطت اللسان قدرة
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 14
الكلام، والأذن خاصية السمع، ولو كان هذا بذاتية منا، ما استطاع أحد أن يسلبنا النظر أ, السمع أو الحركة أو الكلام.
الاختيار والقدرة
بل ان الله سبحانه وتعالى أقام لنا الدليل على أنه حتى حركاتنا الاختيارية لا تتم الا بقدرته،
مثلا إذا أردت أن تقوم من مكانك، كم عضلة تنقبض، وكم عضلة تنبسط، حتى تتمكن من القيام؟
ولكي نقوم من أماكننا ونحن لا ندري أي العضلات تتحرك وأيها لا يتحرك، بمجر د أن يخطر على بالنا لنقوم، هذه العضلات تنبسط، وهذه تنقبض بقدرة الله وليس بإرادتنا، العملية التي تتم في عضلات الجسم ساعة القيام، ليس لنا في حركتها إرادة الا أننا أردنا أن نقوم، وكذلك في المشي والجري وكل حركة نقوم بها.
إذن حركات الجسد كلها خاضعة لنا بإرادة الله سبحانه وتعالى، الله هو الذي أخضعها لما نريد وجعلها تفعل ما نشاء، وهي تفعله دون علمنا بذلك، بل تفعله بشفرة إلهية وضعها الله في أجسادنا، فتنقبض وتنبسط العضلات فيتم كل شيء ونحن لا ندري.
ثم يقول الإنسان أنا مسيطر على جسدي أفعل ما أشاء، نقول لو كنت مسيطرا حقيقة لعلمت ما يجري فيه، ولكن هذا الجسد مسخر لك بقدرة الله تعالى، ولذلك فهو يفعل لك ما تريد دون ان تدري، أو تحس كيف يتم هذا الفعل.
دليل الضحك والبكاء
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 15
بل أكثر من ذلك تحديا من الله سبحانه وتعالى، يأتي الحق في كتابه الكريم ويقول: ( وأنه هو أضحك وأبكى)النجم 43
أكثرنا يمر على هذه الآية الكريمة ولا يلتفت إليها، ولكن هذه الآية فيها إعجاز من الله سبحانه وتعالى، يقول الحق سبحانه وتعالى:( وأنه هو أضحك وأبكى)
معناه أن الضحك والبكاء من الله، وكونه من الله سبحانه وتعالى يكون لجميع خلقه فالله حين يعطي، يعطي الخلق جميعا ذلك هو عدل الله، فإذا نظرت إلى الدنيا كلها تجد أن الضحك والبكاء موحدان بين البشر جميعا على اختلاف لغتهم وجنسياتهم، فلا توجد ضحكة انجليزية وضحكة أميركية وضحكة افريقية، بل هي ضحكة واحدة للبشر جميعا، ولا يوجد بكاء آسيوي أو بكاء استرالي، وإنما هو بكاء واحد، فلغة الضحك والبكاء موحدة بين البشر جميعا، وهي إذا اصطنعت تختلف.
وإذا جاءت طبيعية تكون موحدة، ولذلك لذا اصطنع أحدنا البكاء أو اصطنع الضحك فانك تستطيع أن تميزه بسهولة عن ذلك الانفعال الطبيعي الذي يأتي من الله. ومن العجب أنك ترى مثلا الفيلم الكوميدي الذي صنع في أميركا يضحك أهل أوروبا والذي صنع في آسيا مثلا يضحك أهل أستراليا، بل ان هناك من أعطاهم الله موهبة القدرة على إضحاك شعوب الدنيا كلها، ولعل هناك نجوما عالمية في فن الكوميديا تضحك العالم كله، فبعض الأفلام عاطفية تبكي العالم كله، فبعض الأفلام مثلا إذا قدمته بأي لغة أبكى الناس، وهكذا تنزل أحيانا الرحمات من الله فتفيض العيون بالدموع، وأحيانا يريد الله أن يرو ح عن النفوس فتتعالى الضحكات.
ولكن قد يقول بعض الناس: ان هناك ما يضحك واحدا ولا يضحك الآخر،وأن هناك مشهدا يبكي إنسانا، في حين تتحجر الدموع في العيون فلا يبكي إنسانا آخر في نفس الموقف!! نقول انك لم تفهم الآية، فقوله تعالى: ( وأنه هو أضحك وأبكى )
ليس معناه أن الناس تضحك معا وتبكي معا، ولكن معناه أن الإنسان لا يستطيع أن يضحك نفسه، ولا أن يبكي نفسه عن شعور صادق بلا اصطناع، ولكن ذلك من الله، ولذلك انعدمت فيه الإرادة البشرية، فليس لكل واحد منا ضحكة تميزه، بل نحن نضحك جميعا بلغة واحدة، وليس لكل واحد منا بكاء يميزه، بل نحن نبكي جميعا بلغة واحدة، وليس أي واحد منا قادرا على أن يضحك ضحكة طبيعية بإرادته كأن يقول لك إنني سأضحكك الآن فيضحكك، ولا يستطيع إنسان أن يبكي بكاء طبيعيا كأن يقول أنا سأبكي الآن فيبكي، الا أن يصطنع الضحك أو البكاء بشكل غير طبيعي.
ولكن يأتي الضحك والبكاء من الله حين يكون طبيعيا، ولأنه يأتي من الله فهو موحد بين البشر جميعا، فإذا كنت لا تستطيع أن تضحك نفسك أو تبكي نفسك، فكيف تدعي أنك سيد نفسك، ولماذا لا تسلم لخالقك؟.
فإذا كان هذا هو الشأن في الجسد البشري، فآمن بالله الذي هو يملك كل خيوطك فإذا كنت لا تؤمن بجنته ولا تريد ثوابه، فاخش عقابه، وإذا كنت لا تؤمن بالآخرة فاخش عقابه في الدنيا، فهو الذي يملك كل خيوط حياتك ويستطيع أن يفعل بك ما يشاء.
على أن الله سبحانه وتعالى له لفتات أخرى، يلفتان لقدرته وعظمته ووجوده، إذا كنت تتأبى قل لن على الإيمان بالله وتقول أنا سيد نفسي، فإذا جاءك قدر الله بالمرض فامنعه على نفسك، وقل لن
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 16
أمرض، وإذا جاءك قدر الله بالموت فامنعه عن نفسك، وقل لن أموت، وإذا جاءك قدر الله في مكروه كأن تصاب في حادث، أو تسقط من مكان فتتهشم عظامك فقل لن أسقط.
هذا هو قهر الذي لا تستطيع أن تقف أمامه، وتقول سأفعل ولا أفعل، لأن الله تعالى لم يعطك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل في الأقدار التي تقع عليك، فقدر اله عليك ينفذ رغم إرادتك، وأنت خاضع لقدر الله سواء رضيت أو لم ترض، ففي الكون أحداث تقع لا تملك فيها اختيارا.
بعض الناس يجادل في هذا ويقول: ان الإنسان القوي يستطيع أن يصنع قدره! نقول ان القرآن الكريم قد رد على هؤلاء في قول الحق سبحانه وتعالى: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير، انك على كل شيء قدير)آل عمران 26
ولا بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى 🙁 وتنزع الملك ممن تشاء).
أي أنه لا يوجد إنسان يتخلى عن المنصب والملك والجاه بإرادته بل لا بد أن ينزع منه انتزاعا ولذلك تأتي الثورات والانقلابات، لتنزع الملك من أولئك الذين اعتقدوا أنهم ملكوا الدنيا، وأنهم قادرون على أن يفعلوا ما يشاءون بمجرد كلمة أو أمر أو إشارة، فيأتي الله سبحانه وتعالى لينزع منهم هذا رغما عنهم، فتجد الواحد منهم الذي كان يحتمي به الناس عاجزا على أن يحمي نفسه، يهرب من مكان إلى آخر، وتجده وهو المعتز بالدنيا يتمنى لو أخذ الناس كل ما يملك، وأبقوا على حياته.
ان هذا يحدث ليلفتنا الحق جل جلاله إلى أنه لا أحد يأخذ الملك أو المركز العالي بإرادته وتخطيطه، وإنما هي أقدار الله يجريها الله على خلقه، فإذا أتى أمر الله نزع منه كل شيء، ولو كان الأمر بذاته لما استطاع أحد أن ينزعه منه، ولا يوجد إنسان في هذا الكون يستطيع أن يدعي أنه في منعة من قدر الله، فإذا كانت هذه هي الحقيقة فهي الدليل المادي على أن الإنسان تحكمه قدرة خالقه، وأنه لا يستطيع لنفسه نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله.
أفعال الإنسان
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 17
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى فعل الإنسان وعمله الدنيوي، تجد بعض الناس يقول: إنني سأفعل كذا وكذا، نقول له: انك أعجز من أن تفعل الا أن يشاء الله، فالفعل محتاج إلى زمان، ومحتاج إلى مكان، ومحتاج إلى مفعول به، وأنت لا تملك شيئا من هذا كله، فإذا جئنا إلى الفاعل فأنت لا تملك حتى اللحظة التي تعيش فيها، ولا تضمن أن يمتد بك العمر ثانية واحدة، حتى ولو كانت كل الشواهد الصحية تدل على ذلك، ألا يوجد من لا يشكو من شيء، ثم يسقط فجأة ميتا، ويقال جاءت جلطة في المخ، أو سكتة قلبية، أو أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية.
هذه كلها أسباب، ولكن السبب الحقيقي هو أن الأجل قد انتهى، مصداقا لقوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) الأعراف 34
إذن ساعة أن صدر الأمر من المسبب وهو الله جل جلاله انتهى العمر.
ومن العجيب أنك ترى أكبر أطباء القلب يموتون بأمراض القلب، وأكبر أطباء المخ تنتهي حياتهم بمرض في المخ، فإذا ملكت اللحظة التي تعيش فيها، وبقيت حتى ساعة إتمام الفعل، فانك قد تصاب بمرض يقعدك عن الحركة، فلا تستطيع إتمام الفعل، هذا بالنسبة للفاعل.
فإذا جئنا للزمن فأنت لا تملك الزمن، ولكنه هو الذي يملكك، ولذلك فانه قد يأتي زمن التنفيذ فتفاجأ بحدث يمنعك، كأن يصاب ابنك في حادث مثلا، أو يموت أحد أقربائك، أو تضطر اضطرارا إلى سفر عاجل لمهمة ضرورية، أو يقبض عليك في جريمة أو في اتهام. إذن فأنت لا تكلك الزمن ولا تستطيع أن تقول إنني في ساعة كذا سأفعل كذا.
وبالنسبة للمكان فقد تختار مكانا لتبني فيه عمارة مثلا، فتأتي لتجد أن هذا المكان قد استولت عليه الدولة للمنفعة العامة، أو قد ظهر له ورثة لم تكن تعرفهم فأوقفوا العمل، أو أن يقام في وسطه طريق، أو أن الأرض تحتها مياه جوفية تجعلها غير صالحة للبناء.
وإذا جئنا للمفعول به فقد يرفض الذي تطلب منه القيام بالعمل به، وقد لا تجد عمالا ليقوموا بالتنفيذ، وقد لا يأتي المقاول الذي اتفقت معه وقد لا يحضر الموظف الذي سيعطيك الرخصة لبدء العمل. إذن فأنت لا تملك شيئا من عناصر الفعل كلها، ولذلك طلب منك الله سبحانه وتعالى أن تتأدب وتعطي الشيء لأهله، وتنسبه إلى الفاعل الحقيقي، فقال سبحانه وتعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) الكهف 23٬24
إعجاز القرآن
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 18
تأتي بعد ذلك إلى معجزة أخرى في النفس البشرية، تلك هي معجزة القرآن الكريم والقرآن فيه إعجاز كثير. ولكننا نتحدث هنا عن الإعجاز القرآني في النفس البشرية كل إنسان منا له طاقة وقدرة عقلية، فالمتعلم طاقته العقلية أكبر ممن لم ينل حظا من العلم أو من الأمي، وهؤلاء جميعا لا يمكن أن يجتمعوا عقلا ليشهدوا شيئا واحدا، وكل واحد منهم ينسجم مع هذا الشيء نفس الانسجام، فإذا كانت مثلا هناك محاضرة في فرع من العلوم فلا يستطيع أن ينسجم معها الا ذلك الذي يفهم في هذا الفرع، أما إذا دخل إليها عدد من الذين لم يقرؤوا عن هذا العلم فان الانسجام يضيع، ذلك يحدث في كل فرع من فروع الدنيا.
ولكنك إذا جئت إلى القرآن الكريم، وهو كلام الله، تجد أن كل النفوس البشرية المؤمنة تنسجم معه، لا تجمعها رابطة الإيمان، انك تدخل إلى المسجد تجد فيه المتعلم ونصف المتعلم والعالم وقد جلسوا معا جميعا يستمعون إلى القرآن الكريم، وتجدهم جميعا منسجمين مع القرآن، تهتز نفوسهم له، وترتاح ملكاتهم إليه، لا فرق بينهم، حتى ذلك الذي لا يعرف معنى ألفاظ القرآن الكريم، تجده جالسا يستمع وهو منسجم ويهتز من داخله، وتقام الصلاة فيقف الجميع في انسجام وراء الإمام ، تختفي الفوارق الدنيوية بينهم، ولكن تجمعهم رابطة الإيمان، فيصلون جميعا بانسجام، لأن ملكاتهم التي خلقها الله فيهم منسجمة ومتفقة مع كلام الله، فلا تلحظ فرقا ولا ترى الا مساواة إيمانية.
بل انه من العجيب ان القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحفظه الإنسان بدون فهم، فتجد الطفل الصغير عمره سبع سنوات وربما أقل من ذلك ومع هذا يحفظ القرآن بكامله، أيمكن لهذا الطفل الصغير غير المكلف أن يستوعب معاني القرآن الكريم؟ بالطبع لا، ولكن الإيمان الفطري في داخله يجعله يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويتلوه، لأن هذا الإيمان من الخالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنسجم النفس البشرية وهي في أولى مراحلها مع كلام الخالق، أليس هذا إعجاز نقف عنده ايلفتنا إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وهو الموجد، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من مولود الا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” البخاري ومسلم.
قلنا صدقت يا رسول الله، وأكبر دليل على ذلك هو انسجام فطرة الإنسان مع كلام الله.
بل وأكثر من ذلك، يأتي الله سبحانه وتعالى ليرينا أن الإنسان هو هو وأنه سيأتي به يوم القيامة دون أن يختلط أحد مع أحد، ويتساءل الذين لا يؤمنون: كيف يمكن أن يأتي الإنسان بنفسه يوم القيامة دون ان يختلط أحد مع احد؟
نقول: ان الله سبحانه وتعالى رحمة بعقولنا قد أعطانا الدليل في الدنيا، ولن ندخل في تكوين الإنسان، ولا في أشياء غيبية، ولكننا نأخذ بالدليل المادي وحده، فالبشر وهم بلايين، كلهم مخلوقون على هيئة واحدة، ولكن كل واحد منهم مميز عن الآخر، فالأب يعرف ابنه من بين ملايين البشر، والابن يعرف أباه وأمه بين ملايين النساء والرجال بمجرد النظرة، بمجرد اللمحة تستطيع أن تخرج ابنك أو أباك أو أمك من بين الناس جميعا هذا تمييز للإنسان لا يشترك فيه بقية الخلق، فأنت لا تستطيع أن تميز بقرة عن بقرة أو جمل عن جمل، أو أي مخلوق آخر الا الإنسان.
ولذلك فان رعاة الغنم يرقمونها أو يضعون عليها علامات مميزة حتى يعرفوها، ولكنهم لا يضعون على أولادهم علامات حتى يميزوهم عن غيرهم من ملايين الصغار.
الإنسان والتميز
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 19
إننا نجد الإنسان مميزا ببصمة الأصابع، لا تتشابه بصمة إبهام إنسان مع إنسان آخر رغم وجود بلايين البشر، ليس هذا فقط ولكن لكل منا بصمة رائحة لا تتشابه مع إنسان آخر ونحن لا ندركها ، ولكن كلب الشرطة المدرب هو الذي أعطاه الله ملكة التميز فيشم رائحة الأثر، فيخرج هذا الإنسان من بين عشرات بل المئات.
وكلما أعيدت التجربة قام كلب الشرطة بإخراج نفس الشخص، بل انه مع تقدم العلم وجد أنه لكل إنسان بصمة صوت تميزه عن الآخر، وبصمة فك خاصة بأسنانه، كل هذا ليلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أنه ميز كل إنسان بميزات لا يشترك فيها أحد مع أحد حتى يأتي به يوم البعث هو هو نفسه.
بل ان الله سبحانه وتعالى وضع فينا العدل بالنسبة لأبنائنا رغما عنا فتجد الأب يحب أصغر أبنائه أكثر من الكبار، لماذا؟ لأن الابن الصغير مهما امتد العمر بالأب سيقضي في رعاية أبيه سنوات أقل من الكبار، ولذلك أعطاه حنانا أكبر ليعوضه عن هذه السنوات، حتى يكون خير الأب وعطفه قد وزعا على أبنائه بالعدل، فمنهم من أخذ عطفا أقل وسنوات أكثر، ومنهم من أخذ سنوات أقل وعطفا أكثر.
إلى هنا نكون قد وصلنا إلى بيان بعض الفيوضات التي شملتها الآية الكريمة: ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون) .
فالآية أعطتنا بوضوح الدليل المادي من النفس البشرية بأنها تعرف الله بالفطرة، وتعرف الخير والشر بالفطرة، مصداقا لقول الله تعالى: ( فألهمها فجورها وتقواها) الشمس 8
وأن هذه النفس بالدليل المادي لا تملك لذاتها نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله، وأنها منسجمة مع الإيمان بفطرة خلقها، ومنسجمة مع كلام الله بفطرتها الإيمانية.
على أن الدليل المادي لوجود الله لا يشمل النفس البشرية وحدها، بل يشمل كل شيء في الكون، فكل ما في الكون ينطق بأنه لا اله الا الله، وفي كل شيء دليل، وسنبدأ في الفصل القادم بالدليل الغيبي.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 20
الفصل الثالث الدليل الغيبي
الغيب نوعان
قد يكون عنوان هذا الفصل فيه تناقض ظاهري مع موضوع الكتاب، ذلك أننا لا نتحدث هنا عن الغيب، ولكننا نتحدث عن الأدلة المادية التي يتحكم فيها العقل وحده ويشهد بها، ولذلك قد يقال: ما دمتم تتحدثون عن الدليل العقلي على وجود الله، فلماذا لجأتم إلى الغيب؟
نقول: إننا لم نلجأ إلى ما هو غيب كالملائكة والجنة والنار وحياة البرزخ إلى غير ذلك مما يغيب عن عقولنا ولكننا نأخذ بالدليل المادي ما يؤكد لنا أن الغيب قائم وموجود، وأننا ان لم ندركه بعقولنا وأبصارنا، فليس معنى ذلك أنه غير موجود يؤدي مهمته في الحياة، ذلك أن وجود الشيء مختلف تماما عن إدراك هذا الوجود، فقد يوجد الشيء وأنت لا تدركه، ومع ذلك فهو يؤدي مهمته في الحياة، ثم تأتي نفحة من رحمة الله تجعلنا ندرك بعقولنا أن ما حسبنا أنه ليس موجودا إنما هو موجود وقائم ويؤدي مهمته.
وقبل أن نبدأ الحديث لا بد أن نعرف أن هناك نوعان من الغيب: غيبا نسبيا وغيبا مطلقا، الغيب النسبي لا يعتبر غيبا في علم الله وحده، بل يمكن أن يعرفه البشر، والغيب المطلق لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى.
ما هو الغيب النسبي؟ هو ما لا تعلمه أنت ولكن يعلمه غيرك، هب أن رئيس دولة ما اختار أحد الناس ليتولى منصب الوزارة، ولكن هذا الاختيار لم يبلغ صاحبه، إذن فهو غيب عن صاحبه،
ولكنه معلوم لرئيس الدولة وكتبه إلى آخره، ولنفرض أن لصا سرق من بيتك شيئا، أنت حين اكتشفت السرقة لا تعرف من الذي سرق؟ ولا أين المسروقات؟ ولكن الذي سرق يعرف نفسه ويعرف أين أخفى المسروقات, الخ..
إذن فهذا غيب نسبي، أي بالنسبة لك ولكنه معلوم بالنسبة لغيرك، هذا الغيب قد يعرفه بعض الناس، ولكن الغيب المطلق لا يعرفه أحد.
الله سبحانه وتعالى كشف لنا أنه يعلم الغيب النسبي والغيب المطلق، وأعطانا الدليل على ذلك حتى نعرف ان ما سيقع في هذا الكون موجود عند الله، ومعلوم ومعد، بحيث يخرج إلى الدنيا بكلمة كن، ولذلك فإننا لا بد أن نلتفت إلى آيتين كريمتين في القران الكريم، الآية الأولى قول الله تعالى: ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس 82
أي أن الله سبحانه وتعالى حين يريد أن يظهر لنا شيئا يمارس مهمته في الحياة فإنما يقول له “كن”، فيخرج بكلمة كن من علم الله سبحانه وتعالى إلى كون الله فنعرفه، في هذه الآية لا بد أن نلتفت إلى قول الله تعالى): يقول له ( ، وما دام الحق سبحانه وتعالى يقول ): يقول له (، فمعنى ذلك أن هذا الشيء موجود، وإلا لما قال الله:{ يقول له} لأن الخطاب هنا لشيء موجود فعلا.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 21
إذن فكل أحداث الكون وكل أحداث الدنيا والآخرة موجودة في علم الله سبحانه وتعالى، فإذا قال لها:( كن) خرجت إلى علم الناس، ولذلك فان يوم البعث مثلا موجود بكل تفاصيله وأحداثه في علم الله، والجنة موجودة، والنار أيضا موجودة، لذلك إذا قيل في الحديث الشريف:” هذا رمضان قد جاء تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغل فيه الشياطين” البخاري ومسلم.
قد يتساءل البعض كيف يحدث هذا والجنة لم تخلق بعد، والنار لم تخلق كذلك، لأن وقتها لم يأت؟!. نقول: لا انهاما مخلوقتان في علم الله بكل ما فيهما، فإذا جاء وقتهما أظهرهما الله، وفي هذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو) الأعراف .187
أي أن الساعة بكل أحداثها موجودة عند الحق سبحانه وتعالى، ولكنه لا يظهرها الا عندما يشاء، إذن فكل شيء موجود في علم الله وهو يظهره متى شاء وكيف شاء.
الآية الثانية قول الله تعالى: ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) النحل 1
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى:( أتى( أي حدث باستخدام الزمن الماضي، ثم يقول: لا تستعجلوه باستخدام الزمن المقبل، أليس هذا تناقضا؟
نقول: انه لا يوجد أي تناقض لأن هذا الأمر الذي تتحدث عنه الآية الكريمة أتى في علم الله أي تقرر، وما دام قد تقرر فانه حادث بلا شك لأنه لا توجد قوة ولا قدرة تستطيع أن تمنع ما يريده الله، والله سبحانه وتعالى دائم الوجود لا تأخذه سنة ولا نوم حتى تظن أنه قد يغفل عن شيء دائم القوة والقدرة، وكل من في الكون يستمد قوته قدرته من الله سبحانه وتعالى.
وذلك ما دام الله هو القاهر فوق عباده جميعا، فمتى قال:( أتى ) يكون قد حدث فعلا، أما قوله ( فلا تستعجلوه( أي لا تستعجلوا ظهوره وخروجه إلى دنياكم المادية، أو لا تستعجلوا ظهوره لكي يصبح مشهودا لديكم، وهكذا نرى أنه لا يوجد أي تناقض أو تضارب في قوله تعالى 🙁 أتى أمر الله فلا تستعجلوه )
نأتي بعد ذلك إلى الدليل الغيبي على وجود الله، ونبدأ بالحديث بالدليل من الإنسان أولا، ومن الأحداث ثانيا، ومن قضايا الكون ثالثا:
فتلك هي النقاط الثلاث التي سنتحدث عنها في هذا الفصل، وان كانت هناك نقاط كثيرة لا يتسع المجال لها، لأنها ستتناول الدليل الكوني، والدليل الإحصائي، والدليل العلمي وغيره من الأدلة،
ونحن هنا نعطي أمثلة يستطيع الناس أن يقيسوا عليها بعد ذلك، لأنه كما قلنا كل شيء في هذا الكون يشهد أنه لا اله الا الله، ويشهد بالدليل المادي.
إذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية، فان الله سبحانه وتعالى أعطانا الدليل على أنه يعلم غيب النفس البشرية وما تخفيه، وإذا أردنا أن نبدأ بالنفس البشرية فإننا نبدأ بأن الله يسيطر على غيب هذه النفس سيطرة كاملة، ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فان خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ان ا راد وه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص 7
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 22
إذن خواطر النفس البشرية هي في يد الله سبحانه وتعالى، والعقل البشري هو في يد الله سبحانه وتعالى يعطيه من الخواطر ما يشاء، ويمنع عنه ما يشاء ولكن الإنسان خلق حرا في الاختيار،
نقول: نعم حر فيما أراد الله له أن يكون حرا فيه وهو المنهج، ولكنه ليس حرا حرية مطلقة رغم أن الكثيرين ينكرون هذه الحقيقة، فالإنسان حر، نعم فيما قال الله له افعل ولا تفعل، هذا نطاق الحرية الأولى في تطبيق المنهج، وهو حر أن ينطق بالشهادة شهادة الإيمان أو شهادة الكفر والعياذ بالله، وهو حر في أن يفعل ما وضعه الله في منهجه وفي تطبيق هذا المنهج، ومنهج الله يشمل كل نشاطات الحياة.
فالإسلام ليس مجر د شهادة لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، تلك هي أركان الإسلام الأركان التي بني عليها هذا الدين.
الإسلام أشمل من ذلك بكثير، ولكن العقل البشري فيما لا يخص المنهج خاضع لقدرة الله.
أمثلة من القرآن
ولكن ما هو الدليل؟ نقول اقرأ قول الله سبحانه وتعالى: ( تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ) المسد1/5
هذه السورة الكريمة نزلت في أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كافرا رفض الإيمان، محاربا لدين الله ورسوله، نزلت هذه السورة وأبو لهب كافر، وكثير من صناديد قريش وزعماء مكة كانوا كفارا، ثم هداهم الله فأسلموا، مثل أبي سفيان وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، وكان من الممكن أن يكون أبو لهب من هؤلاء وأن يهتدي للإسلام، ولو حدث ذلك لانعدمت قضية الإيمان كلها، لأن القرآن قال ان أبا لهب سيموت كافرا، ولكن هناك شيئا آخر لابد أن ننتبه إليه وهو أن هذا الإخبار بالغيب، بأن أبا لهب سيموت كافرا جاء في أمر اختياري أي يخضع ظاهريا لإرادة أبي لهب.
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن أبا لهب ذهب إلى مكان يتجمع فيه أهل مكة أو دعا زعماء مكة إلى اجتماع وقال لهم: لقد قال عني محمد في القرآن ادعى أنه ينزل من السماء أنني سأموت كافرا وسأدخل النار ولكني أقول أمامكم أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله، لتعلموا أنه هذا الكلام غير صادق وأن محمدا لا يوحى إليه بشيء.
ماذا كان يمكن ان يحدث لو نطق أبو لهب بالشهادتين رياء أو نفاق ليهدم قضية الدين، ولكن حتى هذا التصرف الذي كان يمكن ان يخدم قضية الكفر التي كان أبو لهب أكبر أقطابها، حتى هذا الكلام لم يخطر على عقل أبي لهب ولم يقله، أليس هذا دليلا على أن ما يريده الله لا بد أن يحدث أيوجد تحد أكبر من أن يعطي الله أكبر أعداء الإسلام القضية التي يهدم بها هذا الدين، ثم لا يستطيع أن يستخدمها؟! أليس هذا دليلا على أن ما يقضي الله به غيبا لا بد أن ينفذ مهما بدا غير ذلك، وهل يوجد دليل أكبر من ذلك على أن الغيب عند الله لا بد أن يقع؟
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 23
ثم نأتي بعد ذلك إلى دليل آخر، عندما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفه ، نزل القرآن يقول: ( سيقول السفهاء من الناس ما ولأهم عن قبلتهم التي كانوا عليها( البقرة 142
واستخدام حرف السين هنا دليل على أن الأمر لم يحدث بعد، ولو أنه حدث لقال سبحانه وتعالى: قال السفهاء، ولكن قوله تعالى: يقول دليل على أن ذلك سيحدث مستقبلا، والآية نزلت في غير المؤمنين وتليت عليهم قبل ان يقولوا، ولو أنهم فكروا قليلا لسكتوا ولم يقولوا شيئا وحينئذ كان الناس سيتساءلون عن قول الله!
ويقولون لم يأت هؤلاء الذين وصفهم الله بالسفهاء الذين يقولون ما ولأهم عن قبلتهم، ولكنهم رغم أنهم يريدون هدم الدين، ورغم أن الدليل المادي لهدم قضية الإيمان وضع في أيديهم الا أنهم لم يخطر على بالهم أن يمتنعوا عن القول، بل جاءوا وقالوا، لنعلم أن أمر الله وغيب الله لا بد أن ينفذا مهما كانت هناك إرادة بشرية.
الحق سبحانه وتعالى أعطانا الدليل المادي على صدق قوله سبحانه وتعالى: ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) البقرة 235
فالذين لا يؤمنون لا يصدقون هذا الكلام، ويقولون أين الدليل العقلي على ذلك؟
نقول: ان الدليل العقلي موجود، فالله سبحانه وتعالى أنزل في القرآن الكريم أنه يعلم ما في النفس وما يدور فيها، اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله الله يشهد ان المنافقين لكاذبون ) المنافقون 1
هذه الآية الكريمة قد نزلت عندما جاء عدد من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليعلنوا إسلامهم، ماذا قال المنافقون؟ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه شهادة حق، لأن الله سبحانه وتعالى يقول والله يعلم انك لرسوله!
إذن شهادة المنافقين وافقت علم الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه يقول:
كيف يكون المنافقون كاذبين وهم قد شهدوا بما قاله الله سبحانه وتعالى؟
نقول: ان الله أراد أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ما تقوله ألسنة هؤلاء المنافقين لا يوافق ما في قلوبهم، فهم شهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولكن بألسنتهم فقط، أما قلوبهم فهي منكرة لهذه الرسالة مكذبة بها، وهكذا أعلن ما في صدور المنافقين وما يخفونه عن الناس، ولم يجرؤا أن يكذبوا ما أعلنه الله، والقرآن الكريم فيه آيات كثيرة تعطينا الدليل المادي على أن الله يعلم ما يخفيه الإنسان في صدره ولو لم ينطق به، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:( فانه يعلم السر وأخفى) طه 7
والسر هو ما يسر به الإنسان إلى غيره، والسر دائما يكون بين اثنين، وما هو أخفى من السر، أي ما لا ينطق به الإنسان لأحد بل يبقى في صدره لا يعلمه أحد غيره، والله سبحانه وتعالى يأتي ليفضح الكافرين والمنافقين يقول : (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله ) المجادلة 8
إذن هم لم يقولوا هذا الكلام لأحد، ولكن قالوه في أنفسهم فقط ولم تنطق به ألسنتهم، ولا تحركت به شفاههم.
ولكن الله فضحهم وأنبأ بما في صدورهم ولم يستطيعوا أن يكذبوه، ولو أن هذا كان صحيحا لقالوا لم نقل شيئا في أنفسنا، ولكنهم بهتوا بعلم الله سبحانه وتعالى فلم يستطيعوا الرد عليه ولو بالكذب
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 24
وهكذا يظهر الدليل المادي أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الصدور وما تخفي الأنفس ولا تعلنه، وان الله عليم بما يحرص الإنسان على إخفائه عن الدنيا كلها، فعلم الله يمتد إلى غيب النفس البشرية، وما تحاول أن تكتمه أو تعتقد أن أحدا لا يعلمه.
دليل آخر
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بدليل مادي آخر، على أنه هو عالم بالغيب، وأن ما يقوله حادث ونافذ، وأن الدنيا كلها لا تستطيع أن تغير قدرا من أقدار الله، ويعطينا الدليل المادي على ذلك فيقول تبارك وتعالى: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون( الروم 1/4.
وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن أن ينكرها حتى الملحدون، ولقد نزلت هذه الآية عندما قامت الحرب بين الروم والفرس، وكانت الدولتان تمثلان أكبر قوة في العالم في ذلك الوقت، مثل الاتحاد السوفيتي سابقا وأمريكا الآن، وقامت الحرب بينهما وهزمت الروم في هذه الحرب، عندئذ فرح الكفار لأن الفرس كانوا دولة كافرة تعبد النار، والروم كانت دولة مسيحية، أي أهل كتاب، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يطمئن المؤمنين، ويذهب عنهم الحزن، فنزلت الآيات الكريمة تبشر بأن الروم سينتصرون في بضع سنين، وفي وقتها راهن المؤمنون الكفار على أن انتصار الروم سيحدث، وكان من المراهنين سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي راهن بأربعة من الإبل على أن انتصار الروم سيحدث بعد سبع سنين، ولما مضت هذه المدة ولم يحدث شيء، فرح المشركون بذلك، وشق على المسلمين، فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ما بضع سنين عندكم؟ قالوا: دون العشر، فقال لبي بكر: اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل، فما مضت السنتان حتى انتصر الروم على الفرس، ففرح المسلمون بذلك، ثم نهى الرسول أبا بكر ونهى الصحابة عن المراهنة، وقال: ان الإسلام لا يقر ها ولا يسمح بها.
من الذي يستطيع أن يتنبأ بنتيجة معركة حربية ستحدث بعد تسع سنوات؟ وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الروم والفرس عقدا صلحا خلال هذه السنوات التسع، أو أن الفرس استعدوا قويا لهذه الحرب وهزموا الروم مرة أخرى، ومن الذي يستطيع أن يضمن نتيجة معركة حربية ستحدث بعد هذه الفترة الطويلة، بل ان أحدا لا يستطيع أن يضمن نتيجة معركة حربية ستحدث بعد لحظات، بل ان كل قائد لأي معركة حربية لا يكون واثقا من النصر قبل أن تبدأ لمعركة، أ, حتى عندما تبدأ، فلو علم أي قائد لمعركة حربية أنه سيهزم لما دخلها.
يأتي الله سبحانه وتعالى ليعطينا بالدليل المادي على أنه يعلم غيب السموات والأرض علم اليقين، فينبئنا بنتيجة معركة لا بين قوتين محدودتين، ولكن بين دولتين عظيمتين، وينبئنا عن هذه المعركة قبل أن تبدأ بتسع سنوات، ويخبرنا من الذي سينتصر ومن الذي سيهزم، وتأتي الأحداث وتقع الحرب، وينتصر الروم ويهزم الفرس كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى، وماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفرس انتصروا على الروم؟! والقرآن كلام الله المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة،
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 25
وكيف كان يمكن أن يقف المسلمون في المساجد ويقرؤون سورة الروم في الصلاة، مع أن نتيجة الحرب قد اختلفت عما في السورة.
وهكذا نرى مدى الإعجاز في أن الله سبحانه وتعالى، قد بين لنا بالدليل المادي على أنه يعلم الغيب، وأن علمه للغيب علم يقين لا بد أن يحدث وأن يتم، وأنه مسيطر على أمور الدنيا كلها،
حتى في تلك الأشياء التي لا يمكن أن يتنبأ بنتيجتها أحد قبل حدوثها بتسع سنوات، بل لا يمكن أن يتنبأ بنتيجتها أحد حتى ساعة حدوثها، أليس هذا دليلا ماديا على أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يسير الأمر في كونه، وهو الذي إذا قال ” كن” يكون ، أليس هذا دليلا على أن الله سبحانه وتعالى القائل: ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس 82
قول من اله الخلق ومسيطر وقادر على كل أحداث كونه، فإذا عرفنا ذلك بالدليل المادي، ألا نفهم معنى الآية الكريمة: ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه)
ونصدق يقينا بأن الله سبحانه وتعالى وحده هو رب واله هذا الكون.
الوجود وإدراك الوجود
على إننا لا بد أن ننتقل بعد ذلك إلى نقطة هامة جدا، وهي أن عدم إدراكنا لوجود الشيء، لا يعني أن هذا الشيء غير موجود، فإذا حدثنا الله سبحانه وتعالى عن الملائكة وعن الجنة والنار وعن الشياطين، فلا بد أن نصد ق، ليس بالدليل الإيماني فقط، لأن القائل هو الله، ولكنه سبحانه وتعالى في تحد أعطى الدليل المادي لغير المؤمن به على أن الغيب موجود وان لم ندرك وجوده، وأعطاه لنا من أحداث هذا الكون وما يقع فيه من ماديات.
فإذا أخذنا مثلا الجراثيم تلك المخلوقات الدقيقة التي تهاجم جسد الإنسان وتصيبه بالمرض، هذه الجراثيم عاشت مع الإنسان عمره كله، ولكننا في أول الحياة البشرية وحتى فترة قصيرة لم نكن نعرف عنها شيئا.
ثم تقدم العلم وتوصل العلماء إلى الميكروسكوبات الالكترونية التي تكبر حجم الشيء ملايين المرات، فماذا رأينا؟ رأينا عجبا، ميكروبات لها شكل ولها حركة، ولها حياة ولها تناسل وتكاثر، ولها طريقة لتخترق جسم الإنسان وتصل إلى الدم، ولها تفاعلات مع كرات الدم.
عالم كبير لم نكن نعرف عنه شيئا بل كان غيبا منذ مائة سنة، ومع ذلك، ومع كونه كان غيبا عنا فهل لم يكن موجودا؟ لا، بل كان موجودا يؤدي مهمته في الحياة.
وكان العلماء في الماضي يعتقدون أن المرض معناه أن الأرواح البشرية قد تلبست جسد الإنسان، وكانوا يضربون المرضى أو يكون أجزاء من أجسادهم حتى تخرج هذه الأرواح الشريرة، ثم تقدم العلم واستطعنا أن نرى رؤيا العين هذه الجراثيم، وهي تتحرك وتتناسل، وتخترق وتحارب، بل استطعنا في تجاربنا العلمية أن ندخل هذه الجراثيم إلى أجسدا الحيوانات، لندرس دورة حياتها وكيفية القضاء عليها.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 26
وهكذا أعطانا الله الدليل المادي على أن ما هو غيب عنا موجود ويؤدي مهمته في الحياة، وأن عدم إدراكنا لوجوده لا يعني هذا الوجود.
وإذا نظرنا إلى قطرة الماء الذي نشربه تحت الميكروسكوب لوجدنا فيها أشياء عجيبة، أشياء فيها حياة ولها حركة، ولها كيان ولها دور في الحياة، ولكننا لم نكن نعرف منذ فترة قصيرة أن هذه الأشياء موجودة فهل كان هذا شهادة بعدم وجودها، أم أنها كانت في الحقيقة موجودة، ولكننا لا ندرك هذا الموجود؟!
فإذا انتقلنا إلى الكون كله، وجدناه يشهد أن الوجود شيء وإدراك الوجود شيء آخر تماما، وأن ما لا ندرك وجوده يؤدي مهمته في الكون، فلننظر مثلا إلى الأقمار الصناعية والإرسال التلفزيوني، هل كان أحد يعرف أن ما يقع في مكان ما في العالم يستطيع كل العالم أن يشهده في لحظة واحدة وفي نفس لحظة حدوثه؟ طبعا لم يكن أحد يعرف ذلك.
ثم كشف الله سبحانه وتعالى لنا من علمه ما مكننا من أن نعرف أنه موجود في الكون من الخصائص ما يمكن أن يجعل الإنسان في كل الدنيا ليرى ويشهد ما يقع في مكان ما وقت حدوثه، ويرى الإنسان وهو ينزل على القمر وهو يمشي فوقه.
كيف توصل الإنسان إلى هذا التقدم العلمي؟ هل اخترع غلافا جويا يستطيع أن ينقل الصور؟
هل جاء بمواد من خارج الأرض، أم بمواد من خارج خلق الله تعالى ليصنع منها الأقمار الصناعية التي حققت هذه الاتصالات؟ طبعا: لا، ولا يستطيع أن يقول: حتى أكبر الماديين، أن هذه الخصائص التي استخدمت قد أوجدها الإنسان وخلقها، ولكن الغلاف الجوي والمواد في الأرض موجودة منذ خلق الله الأرض ومن عليها ولكن خصائصها كانت غيبا عنا.
وعندما جاءت مشيئة الله لتكشفها لنا وجدنا شيئا عجبا فاستخدمناه فأعطانا ما نحن فيه من تقدم علمي، أيستطيع أحد أن ينكر خصائص الكون وأنها كانت موجودة، قبل أن يعلمنا الله كيف نستخدمها وفيم نستخدمها، لا يستطيع أي مكابر أن يقول إنها لم تكن موجودة، بل كانت موجودة ولكنها كانت غيب عنا، فلما أرادنا الله أن نعلمها كشفها لنا لنعلم أن ما هو غيب موجود، رغم أننا لم نكن ندرك وجوده.
فإذا نظرنا إلى ما في السموات، نجد أننا كلما استطعنا أن نضع ميكروسكوبا أضخم وأقوى،
استطعنا أن نكشف أجراما سماوية جديدة ونراها لأول مرة، هل كانت هذه الأجرام التي لم نكن نعرف عنها شيئا غير موجودة؟ أو لم تكن تؤدي مهمتها في الكون؟.
كانت موجودة وكانت تؤدي مهمتها في الكون، ولكن الله سبحانه وتعالى أخفى وجودها عنا إلى أجل حدده، فلما كشف لنا هذا الوجود فعرفناه حتى نعلم أن ما هو غيب عنا موجود يؤدي مهمته في الكون ولو لم ندرك وجوده .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 27
الغيب حقيقة
بل ان الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون الحياة الإنسانية كلها شاهدة على أن الغيب موجود،
أرادنا ان نكون شهداء على أنفسنا حتى لا تأتي يوم القيامة، ونقول: يا رب لم تعطنا الدليل العقلي على أن ما هو غيب عنا موجود، فضل ت عقولنا، يا رب لو أعطيتنا الدليل لكنا أمنا، ولذلك جاءت حياة البشر كلها شاهدة على ذلك، فالله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان وحده القدرة على أن يرث الحضارة ويضيف عليها، في حين سلب ذلك من كل مخلوقاته، ولذلك ترى أن حياة الحيوان مثلا كما هي منذ بدء الخليقة لم تتقدم، فلم تسمع عن أن مجموعة من القرود مثلا قد عقدت اجتماعا لترتقي بوسائل حياتها، وتبني لنفسها أماكن مكيفة الهواء تقيها حرارة الجو في المناطق الاستوائية.
ان لم نسمع أن مجموعة من الحيوانات القطبية قد جلست معا لتخترع وسائل تدفئة تقيها برد الشتاء القارص الذي يبيدها ويفنيها ويجعلها تتضور جرعا، ولم نسمع عن مجموعة من الحيوانات جلست تتداول للوصول إلى دواء لمرض يفتك بها، أو للوصول إلى مبيد حشرات لحشرة تنقل لها الأمراض، بل الرقي في حياة الحيوان أو النبات الذي يضعه هو العقل البشري.
ولكن الإنسان مختلف عن ذلك تماما، فالعقل البشري قد أعطاه الله سبحانه وتعالى ميزة وراثة الحضارة البشرية، فكل جيل يبدأ حياته من حيث انتهى الجيل الذي قبله، ثم يضيف إليها، وقدرة العقل البشري على استيعاب التقدم العلمي لا حدود لها، ولذلك فان كل جيل من البشر يعرف شيئا كان غيبا عن الجيل الذي قبله، وكل جيل من البشر يتيح الله سبحانه وتعالى له من أسرار ما وضعه في كونه ومن قوانين هذا الكون ما لم يتح للجيل الذي قبله.
وإذا كان هذا الجيل هو جيل الكمبيوتر مثلا، فان الجيل القادم سيكشف الله له من أسرار هذا الكون ما يعطيه علما يجعل أجهزة الكمبيوتر الحالية شيئا من مخلفات الماضي، وهكذا ترتقي الحضارات.
وكلما تقدم الزمن كانت سرعة ارتقاء الحضارات البشرية أكبر، لأن إضافات مستمرة تحدث لهذه الحضارات، وكل إضافة تفتح الطريق أمام إضافة أكبر.
لماذا أعطى الله سبحانه وتعالى البشرية وحدها، هذه القدرة على الرقي الإنساني؟ لنعرف جميعا ونحن الذين أعطينا الاختيار في أن نؤمن أو لا نؤمن، لنعرف جميعا أن الجمود الفعلي في أن ما هو غيب عنا غير موجود هو خرافة، ونحس في حياتنا كل يوم ان هناك غيبا يصبح واقعا معلوما، ونرى المعجزة تحدث أمام أعيننا مرات ومرات، ونشهدها برؤية اليقين، علنا نتدبر ونفكر قليلا، فنعلم أن الله سبحانه وتعالى بحكمته ورحمته، قد أعطانا الدليل المادي على أن ما هو غيب عنا موجود.
فإذا اخبرنا بغيب لا ننكره، ولكننا نؤمن بوجوده، وبأن قدراتنا الحالية لا تصل إليه ولكنها قد تصل إليه في المستقبل.
وفي ذلك يلفتنا القرآن الكريم في قوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت 53
ونحن نعرف معنى قول الله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) يونس24
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 28
وهكذا ونحن نراقب مسيرة الحضارة البشرية نعلم أن الله تعالى قد أخبرنا أن هذه الحضارة سترتقي وترتقي بما يكشفه الله لنا من قوانين هذا الكون حتى نظن أنا قادرون على أن نفعل ما نشاء في الأرض، وهذا الظن ليس حقيقة ولكنه مجرد ظن، لأن الله الذي كشف لنا هذه القوانين لم يخضعها لإرادتنا، ولكنه سبحانه سخرها لنا فقط لنفعل بها ما نشاء.
فإذا اغتر الإنسان واعتقد أن هذه القوانين من صنعه، أو أنه أخضعها بذاتية علمه، وبدون أمر الله تبارك وتعالى، يأمر الله سبحانه وتعالى هذه القوانين أن تخرج عن أمر الإنسان فتدمره وتقوم الساعة.
الله أخبرنا بكنوز الأرض
وإذا كنا نريد أن نتحدث عن دليل غيبي آخر يزيد من الأدلة العقلية التي تثبت وجود الله تعالى،
فلا بد أن نقرأ قوله عز وجل: ( له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى) طه 6
فلو قرأنا هذه الآية التي نزلت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، لعلمنا أن أحدا لم يكن يدري شيئا ولفترة دويلة عن معنى قوله تعالى :(وما تحت الثرى) .
وكان كل ما تحت الثرى أو تحت التراب، أو في باطن الأرض غيبا عنا ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يكشف لنا ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندري بوجوده، فكشف لنا ما تحت الثرى، فوجدنا أن ما تحت الأرض يحتوي على كنوز رهيبة, وجدنا البترول والذهب والمعادن والحديد وأشياء نفيسة، ووجدنا المياه الجوفية، ووجدنا عالما هائلا يحتوي على مواد لم نكن نعلم بوجودها ولا نعرف شيئا عنها.
وهكذا أعطانا الحق سبحانه وتعالى دليلا آخر على أن ما هو غيب عنا موجود، وان كنا لا ندرك وجوده، فلا أحد في هذه الدنيا يستطيع أن يدعي أنه هو الذي أوجد ما في باطن الأرض من كنوز، ولا أحد مهما بلغ علمه ولا علماء الأرض مجتمعين يستطيعون أن يدعو أنهم هم الذين أوجدوا هذه البحيرات الهائلة من البترول، أو هذه المعادن النفيسة كالذهب والفضة، أو الماس أو النحاس أو الحديد أو الألمنيوم أو, غيرها.
بل ان هناك كنوزا تحت الثرى مختفية عن أعيننا تفوق الكنوز التي ظاهرها لأعيننا فوق سطح الأرض، وهذه الكنوز لم تأت من عدم ولم توجد في السنوات الأخيرة، بل كانت موجودة في باطن الأرض منذ أن خلقها الله سبحانه وتعالى، ولكنها كانت غيبا عنا فلم نكن نعرف بوجودها.
حينئذ نكون قد وصلنا إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أعطانا من الأدلة المادية والعقلية ما يؤكد لنا أن ما هو غيب عنا موجود وان لم نكن ندرك وجوده.
فإذا حدثنا الله سبحانه وتعالى عما هو غيب كالآخرة والحساب والجنة والنار، لا نقول ان الله يخاطبنا بما لا نستطيع أن تدركه عقولنا، وأننا لا نستطيع تصديق ذلك، بل نعود إلى واقع الكون، ونتأمل ما فيه من آيات، وما وضعه الله لنا فيه من دلائل، ولو أننا تدبرنا لقلنا يا رب لقد أعطيتنا مع الدليل الإيماني الدليل الفعلي الذي يقرب الصورة إلى أذهاننا حتى ندركها، وليس لنا عذر يارب يوم الحساب في أن نقول ان عقولنا لم تدرك، لأنك وضعت في كونك الأدلة المادية التي
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 29
تثبت أن الغيب واقع موجود، وكان يجب أن تكون هذه الأدلة هي طريقنا إلى الإيمان، لا طريقنا إلى الكفر والإلحاد.
على أننا سننتقل بعد ذلك إلى الآيات الأرضية، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا بها، إلى أنه لا اله الا هو الخالق والموجد والقادر.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 30
الفصل الرابع الآيات الأرضية ودلالتها
وفي الأرض آيات
الله سبحانه وتعالى له آيات تملأ الأرض والسماء ولكننا غافلون عنها، ومن الاعجاز الإلهي أن آيات الله لا تنتهي، فإذا مشيت في الطريق فهناك آيات، وإذا صعدت إلى الجبل فهناك آيات، وإذا نزلت قاع البحر وجدت آيات، وإذا صعدت إلى السماء كانت هناك أكثر من آية.
وإذا نزلت إلى باطن الأرض فهناك آيات وآيات، هناك آية في تلك الشجيرة الصغيرة التي تراها تنبت في سطح الجبل، ساقها هشة لينة ربما لا تحتمل قبضة يدك ومع هذا فقد فتت الصخر ونبتت فيه، واستطاعت الشجيرة الرقيقة الرفيعة أن تمتد وتضرب في باطن الجبل وتحصل على الغذاء.
وتتعجب أنت كيف يمكن أن يحدث ذلك، ومع أنك لو أردت أن تضع ثقبا في سطح الجبل لاحتجت إلى آلات حادة وقوى كثيرة، وتعرف أن الله سبحانه وتعالى الذي خلقها قد ألان لها الصخر فنبتت فيه، وألان جذورها صخور الجبل فامتدت حتى وصلت إلى المصدر الذي يعطيها الغذاء.
هذه الآيات لا تحتاج إلى بحث ولا إلى ميكروسكوب، ولكنها تحتاج لمجرد التأمل، وفي الأرض آيات كثيرة لا تحتاج منا أكثر من أن نتأملها لنعرف قدرة الله وعظمته ونؤمن به، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر 28
لماذا حض الله العلماء بالخشية؟ لأنهم وهم يبحثون في مخلوقات الله في الأرض، يرون أسرارا ودقة خلق وإبداع تكوين كان يجب أن يجعلهم أول الساجدين لله، أول العابدين لله. ولكن هؤلاء العلماء الماديين بدلا من أن يفعلوا ذلك، أخذوا يحاولون النيل من الدين ومن الإيمان، والإنسان يعتقد أنه وصل إلى أسرار الكون، ولكنه في الحقيقة لم يصل حتى إلى أسرار نفسه، بل انه ينتقل من قانون إلى قانون ولا يعرف كيف ينتقل، ولا ما هو سر هذا الانتقال.
فالإنسان وهو مستيقظ له قوانين ربما عرفنا بعضها، ولكنه إذا نام انتقل إلى قانون مختلف تماما مجهول له، فهو يخرج من الزمن، فالإنسان وهو نائم لا يحس بالزمن، فإذا استيقظ فهو لا يعرف كم ساعة نامها ولا بد أن ينظر إلى ساعته ليعرف كم ساعة قضاها وهو غائب عما حوله.
إذن قانون الزمن يسري على النائم فلا يحس بالوقت، لماذا؟ لأن الزمن هو قياس للأحداث،
فنحن نقيس الأحداث بالزمن، والنائم هو خارج عن هذه الأحداث.
والإنسان إذا نام رأى وعيناه مغمضتان، ومشى وجرى وقدماه لا تتحركان من فوق السرير،
وتحدث لسانه ولم يتحرك، ورأى وتكلم مع أناس انتقلوا إلى العالم الآخر منذ سنوات، ومع ذلك فهو يحدثهم ويسمعهم وهم يكلمونه ويسمعونه ويفهم ما يقولون، والعلم خارج هذه المنطقة تماما فلا يستطيع عالم أن يخبرنا كيف يرى الإنسان وهو نائم، أو يتحرك أو يلتقي مع أناس انتقلوا للعالم الآخر، وكل ما جاء عن هذه محاولات أطلق عليها اسم العلم، إنما هي تخمينات بلا دليل
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 31
ومعظمها من الخيال أكثر من الواقع، ومع أن كل هذا يحدث لكل منا ويحدث كل يوم، تجد هناك من يعلن بوقاحة، ويقول انتهى عصر الدين وجاء عصر العلم وهؤلاء إنما يقولون بهتانا، فالله هو الكاشف لعباده عن العلم، هو القائل في كتابه الكريم: ( اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم( العلق 3
ولكن الناس لا يؤمنون، رغم أن هناك من الأدلة المادية في الكون ما لا يعد ولا يحصى، تهدي الناس إلى طريق الإيمان والى وجود الله، وهؤلاء الذين لا يؤمنون بعضهم منكر للدين لأنه يريد أن يكون هو مصدر التشريع، لأن منهج الله سبحانه وتعالى قائم على العدل بين الناس، وأعطى كل ذي حق حقه، وهم يريدون أن يتميزوا وأن يأخذوا حقوق غيرهم ولا سبيل إلى ذلك الا أن يضعوا منهجا من صنعهم، يعطيهم كل شيء ويسلب غيرهم كل شيء، والطريقة الوحيدة لذلك هي أن ينكروا منهج السماء.
والقسم الثاني فضل أن يعيش مع النعمة بدلا من أن يعيش مع المنعم، وهؤلاء الناس الذين متعهم الله سبحانه وتعالى بنعمه في الدنيا لم يفكروا كيف جاءت هذه النعم ولكنهم أرادوا أن يأخذوا من النعم كل ما يستطيعون، وأعماهم الطمع الإنساني، فلم يفكروا الا في الحصول على نعمة المال أو نعمة السلطة أو غيرها من نعم الكون، وهؤلاء شغلوا أنفسهم بالمادة بدلا من أن يفكروا فيمن خلق المادة، وأخذوا النعم في أنها تحق لهم دون أن يبحثوا عمن أوجدها، فرغم أن قوانينهم المادية التي يؤمنون بها، تقول: انه لا شيء يحدث في الدنيا بدون فاعل، فلم نجد مثلا عمارة نشأت هكذا دون أن يكون لها مهندس وعمال وغير ذلك ممن أقاموها، ولم يجلسوا في بيوتهم مثلا ليجدوا كمية من المال ظهرت أمامهم فجأة، وكل مصالحهم لا بد أن يتحركوا لقضائها.
ومع أن قانون المادة يقول انه لا يوجد فعل دون فاعل، فإنهم لم يطبقوا هذا القانون على الكون كله، بل ادعوا أن الكون قد خلق بدون فاعل، بعضهم قال: حدث هذا بتفاعل المواد!! ولو أنصفوا لسألوا من الذي أوجد المادة أولا ومن الذي حركها ثانيا، ولكنهم تناسوا هذا السؤال.
وحتى إذا صدمتهم آية من آيات الله تكبروا عليها، ولعل هذا واضح في العالم الغربي الذي يحاول الفصل بين العلم والدين فصلا تاما، وربما كان السبب في ذلك هو المعركة الرهيبة التي قامت بين العلم والكنيسة واستمرت أكثر من قرنين، وقد كانت المنسية تنكر العلم تماما استنادا إلى التوراة وهو الكتاب المقدس لليهود، والذي تؤمن به الكنيسة، وما جاء في التوراة يقول انه شجرة التفاح التي أكل منها آدم هي شجرة المعرفة، انه حينما أكل آدم التفاحة، كشفت له علوم كثيرة فغضب الله عليه وطرده من الجنة، وكانت هذه هي المعصية الأولى التي ما زالت البشرية تعاني منها حتى الآن، والتي نكفر عنها بحياتنا في الأرض المليئة بالشقاء ولو لم يأكل آدم تفاحة المعرفة لكنا حتى الآن نعيش في الجنة.
هذه الخرافة المحرفة هي التي أدت إلى المعركة بين الكنيسة والعلم! تلك المعركة التي تعر ض فيها العالم الايطالي ” جاليليو جليلي” في القرن الخامس عشر إلى غضب الكنيسة عندما أثبت بالأدلة المادية كروية الأرض وأصدرت الكنيسة حكما بحرقه حيا لأنه كفر، واضطر العالم الايطالي أن ينكر ما اكتشفه.
ولكن موقف الإسلام مختلف، ذلك أن التفاحة التي أكلها آدم هي منهج الشيطان الذي أظهر عوراته وكشفها، كما يظهر تزيين الشيطان للناس في الدنيا عوراتهم فيكشفها فيصيبهم الخزي والعار
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 32
العلم كاشف قوانين الكون
أما العلم فالإسلام ينظر إليه على أنه من الله أولا، فالله يكشف آياته في الأرض للإنسان،
والإنسان يكتشف ولا يخلق أو يضع في الكون قوانين جديدة من صنعه، ولكن الله يكشف لمن يشاء قوانين كونه ولكل قانون وكشف ميلاد، فإذا جاء ميلاد لقانون كوني، كشفه الله لمن يبحث عنه من البشر فيعرفونه ويستخدمونه.
والله سبحانه وتعالى الذي قال (علم الإنسان ما لم يعلم )
يجب أن نعرف أن كل علم هو من الله، والله سبحانه وتعالى ميز الإنسان على الملائكة بالعلم،
فقال جل جلاله:
( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا لا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) 32 البقرة 31
هذا هو موقف الإسلام من العلم وان كان للكنيسة موقف آخر في معركة استمرت قرنين كاملين بين الكنيسة والعلماء، وعندما انتصر العلماء عملوا على تضييق نفوذ الكنيسة بحيث أصبحت لا دخل لها بالعلم، وفصلوا الدين عن الدولة إلى آخر ما يرويه التاريخ.
والعلماء في أبحاثهم يحاولون إنكار دور الدين إيمانا بذاتيتهم، فهم يريدون أن يقولوا نحن فعلنا ونحن اكتشفنا كما قال قارون:
( قال إنما أوتيته على علم عندي ) القصص 78
ولذلك ليس في بالهم الله وسيفاجئون بالله سبحانه وتعالى في الآخرة، مصداقا لقوله تعالى:
( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب ) النور 39
ولا يحسب أحد أن هؤلاء الذين كفروا فعلوا ذلك لأن آيات الله لم تصل إليهم، بل الآيات أمامهم ولكنهم هم الذين يتكبرون على الإيمان، ويقول الحق سبحانه وتعالى:
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين ) الأنعام 4
ولذلك فان إعراضهم ليس على أن الدليل المادي على وجود الله غائب عنهم ولكن لأنهم يرفضون الإيمان، إما ليحققوا مصالح ذاتية، وإما لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فيحاولون أن يأخذوا كل ما تعطيهم الدنيا على أن هذا هو كل شيء، وتكون النتيجة أنهم يستخدمون كل الوسائل حلالا أو حراما في الوصول إلى أهدافهم، عملا بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة.
ولو أنهم فكروا قليلا لوجدوا الآيات في القرآن الكريم معجزات، ولو أنهم كانوا علماء وباحثين فعلا، لقرئوا القرآن الذي سمعوا عنه، ودرسوا الإسلام دراسة غير مغرضة، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وإنهم مثلا لو التفتوا إلى الآية الكريمة:
( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة( الإسراء 2
لعرفوا الإعجاز في هذه الآية وحدها، ولكان الإعجاز فيها كافيا لأن يؤمنوا، الله سبحانه وتعالى يقول: ( وجعلنا آية النهار مبصرة ) .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 33
وهكذا وصف الله النهار بأنه هو المبصر، ولكن النهار هو الذي يبصر أم العين هي التي تبصر؟
الذي نفهمه من تلقائية الأبصار أن العين هي تبصر، ولكن الحقيقة العلمية تختلف، فلقد ثبت علميا أن ضوء الشمس ينعكس على الأشياء ثم تدخل أشعة النور إلى العين فتبصر.
إذن فالعين لا تبصر بذاتها ولا بذاتيتها، ولكنها تبصر بالضوء الذي ينعكس على الأشياء الموجودة أمامهما ويدخل إلى العين، فإذا ذهب هذا الضوء وجد الظلام فان العين لا تبصر ولا ترى شيئا في الظلام الدامس، الا أن تأتي بمصباح أو مصدر من نور يلقي الضوء على الأشياء فينعكس على العين فتبصر.
وهكذا نرى دقة التعبير في القرآن الكريم في قوله تعالى:
( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة )
فالأبصار نسبه الله سبحانه وتعالى لضوء النهار ولم ينسبه إلى العين ولقد نزلت هذه الآية والبشر كلهم لا يعلمون كيف يتم الإبصار؟ ماذا كان يحدث لو تقدم العلم وكشف أن العين تبصر بذاتها وليس بانعكاس الضوء على الأشياء، أكنا في هذه الحالة نستطيع أن نقرأ في الصلاة ( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) .
ألم يكن هذا كافيا لهدم قضية الدين من أساسه.
ولو أن هذا القرآن ليس من عند الله، وأنه من عند محمد عليه الصلاة والسلام، فما الذي كان يجعله يغامر بذكر قضية علمية كهذه القضية قد يثبت عدم صحتها فيضيع الدين كله، ومن أين له هذه المعلومات حتى يعرف أن الإبصار يحدث بضوء النهار؟ أليس هذا دليلا ماديا كافيا للإيمان بالله، وللإيمان بأن القرآن منزل من عند الله الخالق لهذا الكون والعالم بأسراره؟!
كمعنى كروية الأرض ان القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة، ومعنى ذلك أنه لا يجب أن يحدث تصادم بينه وبين الحقائق العلمية في الكون، لأن القرآن الكريم لا يتغير ولا بتبدل، ولو حدث مثل هذا التصادم لضاعت قضية الدين كلها، ولكن التصادم يحدث من شيئين: عدم فهم حقيقة قرآنية، أو عدم صحة حقيقة علمية، فإذا لم نفهم القرآن جيدا وفسرناه بغير ما فيه حدث التصادم، وإذا كانت الحقيقة العلمية كاذبة حدث التصادم، ولكن كيف لا تفهم الحقيقة القرآنية؟ سنضرب مثلا لذلك ليعلم الناس أن عدم فهم الحقيقة القرآنية قد يؤدي إلى تصادم مع حقائق الكون، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:
( والأرض مددناها ) الحجر 19
والمد معناه البسط ، ومعنى ذلك أن الأرض مبسوطة، ولو فهمنا الآية على هذا المعنى لاتهمنا كل من تحدث عن كروية الأرض بالكفر خصوصا أننا الآن بواسطة سفن الفضاء والأقمار الصناعية قد استطعنا أن نرى الأرض، على هيئة كرة تدور حول نفسها، نقول: ان كل من فهم الآية الكريمة) والأرض مددناها ) .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 34
بمعنى أن الأرض مبسوطة لم يفهم الحقيقة القرآنية التي ذكرتها هذه الآية الكريمة، ولكن المعنى يجمع الإعجاز اللغوي والإعجاز العلمي معا، ويعطي الحقيقة الظاهرة للعين والحقيقة العلمية المختفية عن العقول في وقت نزول القرآن.
عندما قال الحق سبحانه وتعالى ( والأرض مددناها ) .
أي بسطتاها، أقال أي أرض؟ لا، لم يحدد أرضا بعينها، بل قال الأرض على إطلاقها، ومعنى ذلك أنك إذا وصلت إلى أي مكان يسمى أرضا تراها أمامك ممدودة أي منبسطة، فإذا كنت في خط الاستواء فالأرض أمامك منبسطة، وكنت في القطب الجنوبي أو في القطب الشمالي، أو في أمريكا أو أوروبا أو في أفريقيا وآسيا، أو في أي بقعة من الأرض، فانك تراها أمامك منبسطة، ولا يمكن أن يحدث ذلك الا إذا كانت الأرض كروية، فلو كانت الأرض مربعة أو مثلثة أو مسدسة على شكل هندسي آخر، فانك تصل فيها إلى حافة، لا ترى أمامك الأرض منبسطة، ولكن ترى حافة الأرض ثم الفضاء.
ولكن الشكل الهندسي الوحيد الذي يمكن أن تكون فيه الأرض ممدودة في كل بقعة تصل إليها هي أن تكون الأرض كروية، حتى إذا بدأت من أي نقطة محددة على سطح الكرة الأرضية ثم ظللت تسير حتى عدت إلى نقطة البداية، فانك طوال مشوارك حول الأرض ستراها أمامك دائما منبسطة، وما دام الأمر كذلك فانك لا تسير في أي بقعة على الأرض إلا وأنت تراها منبسطة أمامك.
وهكذا كانت الآية الكريمة ( والأرض مددناها )
لقد فهمها بعض الناس على أن الأرض مبسوطة دليل على كروية الأرض، وهذا هو الإعجاز في القرآن الكريم، يأتي اللفظ الواحد ليناسب ظاهر الأشياء ويدل على حقيقتها الكونية.
ولذلك فان الذين أساؤوا فهم هذه الآية الكريمة وأخذوها على أن معناها أن الأرض منبسطة، قالوا هناك تصادم بين العلم والدين، والذين فهموا معنى الآية الكريمة فهما صحيحا قالوا ان القرآن الكريم هو أول كتاب في العالم ذكر أن الأرض كروية، وكانت هذه الحقيقة وحدها كافية بان يؤمنوا، ولكنهم لا يؤمنون.
الليل والنهار وجدا معا
فالقرآن الكريم لم يأت بالدلائل التي تؤكد لنا أن الأرض كروية في آية واحدة، بل جاء في آيات متعددة، لماذا؟ لأن هذه القضية كونية كبرى، ولأن الكتب القديمة التي أنزلها الله قبل القرآن الكريم قد حرفت بشريا، فأوجدت تصادما بين العلم والدين، ولذلك يأتي القرآن الكريم ليعطينا الدليل تلو الدليل على كروية الأرض.
يقول الله سبحانه وتعالى:
( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون ) يس 40
الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يرد على اعتقاد غير صحيح كان موجودا عند العرب وقت نزول القرآن، وهو أن الليل يأتي أولا ثم بعد ذلك يأتي النهار، أي أن النهار لا يسبق الليل،
ويجيء الحق ليصحح هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول:
( ولا الليل سابق النهار ) .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 35
أي أنكم تعتقدون أن النهار لا يسبق الليل، ولكن الله يقول لكم: ان الليل أيضا لا يسبق النهار، إنهما موجودان معا على سطح الكرة الأرضية، وحيث انه لم يحدث تغيير في خلق الكون أو في القوانين الكونية العليا بعد أن تم الخلق، بل بقيت ثابتة تسير على نظام دقيق حتى قيام الساعة، فلو كانت الأرض على شكل هندسي آخر مربع أو مثلث أو غير ذلك، لكان في ساعة الخلق وجد النهار أولا، ولكن لا يمكن أن يوجد الليل والنهار معا في وقت واحد على سطح الكرة الأرضية، الا إذا كانت الأرض كروية، فيكون نصف الكرة مضيئا والنصف الآخر مظلما.
ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤكد هذا المعنى، فذكر آية أخرى تحدد معنى كروية الأرض ودوراتها فقال جل جلاله:
( وهو الذي جعل الليل خلفة لمن أراد أن يذك ر أو أراد شكورا ) الفرقان 62
ما معنى خلفة؟ معناها أن الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر، فمثلا في الحراسات المستمرة،
تأتي نوبة حراسة لتخلف نوبة سبقتها ثم تأتي نوبة الثالث لتخلف الثانية وهكذا.
وإذا فرضنا أن مصنعا يعمل أربعا وعشرين ساعة متوالية، فانه يكون هناك أربع دوريات تخلف كل منهما الأخرى، ولكننا لا بد أن ننتبه إلى أنه في كل هذه النظم ، لا بد أن تكون هناك دورية هي التي بدأت ولم تخلف أحدا، فإذا قررنا وضع الحراسة على مكان فان الدورية الأولى تبدأ الحراسة لا نتخلف أحدا لأنها البداية، وإذا بدأنا العمل في المصنع فان الدورية الأولى التي أنتجت العمل لم تخلف أحدا لأنه لم يكن هناك في المصنع عمل قبلها.
وهكذا في كل شيء في الدنيا، يخلف بعضه بعضا، تكون البداية دائما وليس هناك شيء قبلها تخلفه، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة )
وما دام الله هو الذي جعل فلا بد أن يكون ذلك حدث ساعة الخلق، فأوجد الليل والنهار خلفة على الأرض، ولكننا كما أوضحنا، فان ساعة البداية في كل شيء لا يكون فيها خلفة، أي لا يخلف شيء شيئا قبله، فهذه هي البدايات، ولكن الله يقول لنا: انه في ساعة البداية كان الليل والنهار خلفة، إذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وجدا معا ساعة الخلق على الأرض، بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، فلم يأت النهار أولا ثم خلفه الليل، لأنه في هذه لحالة لا يكون النهار خلف بل بداية، ولم يأت الليل أولا ثم يخلفه النهار لأنه في هذه الحالة لن يكون الليل خلفة بل بداية، ولا يمكن أن يكون الليل والنهار كل منهما خلفة للآخر الا إذا وجدا معا.
ونحن نعلم أن الليل والنهار يتعاقبان علينا في أي بقعة من بقاع الأرض، فلا توجد بقعة هي نهار دائم بلا ليل، ولا توجد بقعة هي ليل دائم بلا نهار، بل كل بقاع الأرض فيها ليل وفيها نهار، ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها، ووجد الليل والنهار معا ساعة الخلق فلن يكونا خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر، بل يظل الوضع ثابتا كما حدث ساعة الخلق، وبذلك لا يكون النهار خلفة لليل ولا الليل خلفة للنهار.
ولكن لكي يأتي الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر فلا بد أن يكون هناك دوران الأرض لتحدث حركة تعاقب الليل والنهار، فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا يجعل الليل والنهار يتعاقبان، ولكن حركة دوران الأرض حول نفسها هي التي ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخلقة التي اخبرنا الله سبحانه وتعالى بها.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ( وجعلنا الليل والنهار خلفة )
يحمل معنيين:
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 36
المعنى الأول: أنهما خلقا معا، فلم يسبق أحدهما الآخر، وهذا إخبار لنا من الله سبحانه وتعالى بأن الأرض كروية. والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها، وبذلك بتعاقب الليل والنهار.
وهكذا نرى الإعجاز القرآني، فالقائل هو الله، والخالق هو الله، والمتكلم هو الله، فجاء في جزء من آية قرآنية ليخبرنا أن الأرض كروية وأنها تدور حول نفسها، ولا ينسجم معنى هذه الآية الكريمة إلا بهاتين الحقيقتين معا، هل يوجد أكثر من ذلك دليل مادي على أن الله هو خالق هذا الكون.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليؤكد المعنى في هذه الحقيقة الكونية لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يري خلقه آياته فيقول: ( خلق السموات والأرض بالحق، يكو ر الليل على النهار ويكو ر النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، ألا وهو العزيز الغفار) الزمر 5
وهكذا يصف لحق سبحانه وتعالى بان الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير، وبما أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض معا فلا يمكن أن يكونا على هيئة التكوير، إلا إذا كانت الأرض نفسها كروية، بحيث يكون نصف الكرة مظلما والآخر مضيئا وهذه حقيقة قرآنية أخرى تذكر لنا أن نصف الأرض يكون مضيئا والنصف الآخر يكون مظلما.
فلو أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض غير متساويين في المساحة، بحيث كان أحدهما يبدو شريطا رفيعا، في حين يغطي الآخر معظم المساحة، ما كان الاثنان معا على هيئة كرة، لأن الشريط الرفيع في هذه الحالة سيكون في شكل مستطيل أو مثلث أو مربع، أو أي شكل هندسي آخر حسب المساحة التي يحتلها فوق سطح الأرض، وكان من الممكن أن يكون الوضع كذلك باختلاف مساحة الليل والنهار، ولكن قوله تعالى : (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) .
دليل على أن نصف الكرة الأرضية يكون ليلا والنصف الآخر يكون نهارا، وعندما تقد م العلم وصعد الإنسان إلى الفضاء ورأى الأرض وصورها، وجدنا فعلا أن نصفها مضيء ونصفها مظلم، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
فإذا أردنا دليلا آخر على دوران الأرض حول نفسها لا بد أن نلتفت إلى الآية الكريمة في قوله تعالى: ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء) النمل 88.
عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجب لأن الله تعالى يقول (تحسبها جامدة) .
ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينية، ولكن هناك شيئا خلقه الله سبحانه وتعالى وخفي عن أبصارنا، فما دمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة، أي أن ما نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها ليس حقيقة كونية وإنما إتقان من الله سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة منه بأنه خلق شيئا جعلنا نراه على غير حقيقته وتلك طلاقة قدرة الخالق، لأن الجبل ضخم كبير بحيث لا يخفى عن
أي عين، فلو كان الحجم دقيقا لقلنا لم تدركه أبصارنا كما يجب، أو أننا لدقة حجمه لم نلتفت إليه هل هو متحرك أم ثابت، ولكن الله خلق الجبل ضخما يراه أقل الناس إبصارا حتى لا يتحجج أحد بأن بصره ضعيف لا يدرك الأشياء الدقيقة. وفي نفس الوقت قال لنا أن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مر السحاب.
ولماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحر ك الجبال؟ لأن السحب ليست لها ذاتية الحركة، فهي لا تتحرك من مكان إلى آخر بقدرتها الذاتية، بل لا بد أن تتحرك بقوة تحرك الرياح، ولو سمنت الرياح لبقيت السحب في مكانها بلا حركة وكذلك الجبال .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 37
الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليست لها حركة ذاتية، أي أنها لا تنتقل بذاتيتها من مكان إلى آخر، فلا يكون هناك جبل في أوروبا، ثم نجده بعد ذلك في أمريكا وآسيا، ولكن تحركها يتم بقوة خارجة عنها هي التي تحركها، وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض فلا توجد قوة تحرك الجبال الا إذا كانت الأرض ذاتها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها.
وهكذا تبدوا الجبال أمامنا ثابتة أنها لا تغير مكانها، ولكنها في نفس الوقت تتحرك لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض، فهي تدور معها تماما كما تحرك الريح السحاب، ونحن لا نحس بدوران الأرض حول نفسها، ولذلك لا نحس أيضا بحركة الجبال.
وقوله تعالى ( وهي تمر مر السحاب ).
معناها أن هناك فترة زمنية بين كل فترة تمر فيها، ذلك لأن السحاب لا يبقى دائما بل تأتي فترات ممطرة وفترات جافة وفترات تسطع فيها الشمس، وكذلك حركة الجبال تدور وتعود إلى نفس المكان كل فترة.
وإذا أردنا أن نمضي فالأرض مليئة بالآيات، ولكننا نحن الذين لا ننتبه، وإذا نبهنا أحد فان الكفار يعرضون عن آيات الله، تماما كما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قال له الكفار في قوله تعالى: ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجرالأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) الإسراء 90/92
وكان كل هذا معاندة منهم، لأن الآيات التي نزلت في القرآن الكريم فيها من المعجزات الكثير الذي يجعلهم يؤمنون.
السير في الأرض
والحقائق الكونية في القرآن تتوالى، والآيات تلو الآيات، ترينا إعجاز الخلق ودقته إخبار الخالق لنا عن أسرار السموات والأرض، الله سبحانه وتعالى بقول: ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين )الأنعام 11
عندما نزلت هذه الآية الكريمة أخذنا معناها على أننا نسير في أنحاء الأرض، ولم ننتبه إلى الحقيقة وهي أننا نسير على الأرض، أي فوق سطحها وليس في بطنها فكيف يقول لنا الحق ( سيروا في الأرض )
ولماذا لم يقل سيروا على الأرض؟! ثم تأتي الحقيقة العلمية وهي أننا فعلا نسير في الأرض، وليس على الأرض، لأن هناك غلافا جويا يحيط بالأرض وهو جزء منها، ونحن لا نخرج من الأرض إلا إذا خرجنا من هذا الغلاف الجوي.
فالطائرات التي تطير على ارتفاعات مختلفة تطير في الأرض وليس خارج الأرض، ولكن الذي يخرج من الأرض هي سفن الفضاء التي تتجاوز الغلاف الجوي للأرض، وبدون تجاوز هذا الغلاف لا تستطيع أن ترى صورة الأرض كاملة، لأنك ما دمت قد أصبحت خارج هذا الشيء تتضح أمامك الصورة، فأنت خارج العمار مثلا تستطيع أن تعرف شكل العمارة ولكنك من داخلها ومن أي مكان فيها لا تستطيع أن ترى الصورة كاملة.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 38
وعلى أية حال، فانه علميا أنت لا تكون خارج الأرض الا إذا خرجت من الغلاف الجوي المحيط بها، لأن الأرض والغلاف الجوي شيء واحد.
وقوله تعالى:(سيروا في الأرض) .
يجعلنا نتساءل أين نسير؟ نحن نسير حقيقة على سطح الأرض ولكننا نسير في الأرض، أي بين سطح الأرض والغلاف الجوي، فما تحتنا هو أرض وما فوقنا هو جزء مكمل للأرض، وهو الغلاف الجوي، وهكذا نرى دقة تعبير القرآن الكريم في وصفه لحركة الإنسان في الأرض.
وإذا كان هذا الوصف يعطينا معجزة فان الأرض نفسها تعطينا معجزة أخرى.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 39
معجزة الخلق في الشجر
نحن نرى ونمشي في مزارع الأرض وحدائقها، ونرى أمامنا الأشجار المختلفة والنباتات المختلفة، ولكن هل نعرف أن الباتات تحصل على غذائها بواسطة جذورها الشعرية الدقيقة، التي تضرب في الأرض، فتأخذ منها عناصر الغذاء التي تعطيها النمو والثمر، هذه الأشجار كيف تغذى؟!
يقول العلماء: ان الغذاء يصعد من جذور النباتات إلى الساق والأوراق والثمار ليغذيها، بواسطة ما يسمى بالضغط الاسموزي، أو نظرية الأنابيب الشعرية، ويدللون على صحة نظريتهم بأنهم يأتون بإناء واسع ويضعون فيه أنابيب شعرية، فنرى الماء يصعد فيها، وهكذا أراد العلم أن يفهمنا أن العملية فيها ميكانيكية الغذاء، دون أن يكون فيها آيات الخلق وإعجاز الخالق.
نقول: ان هذا التفسير العلمي قد أوضح شيئا و غابت عنه أشياء، فالماء يصعد فعلا في هذه الأنابيب الشعرية، ولكنه يصعد بكل محتوياته فأنابيب الشعرية لا تميز بين عناصر الماء، فتأخذ عنصر وتترك عنصرا، ولكن في النبات الأمر مختلف تماما.
فالغذاء في الأرض بعناصره كله واحد متجانس، ولكننا نرى كل شجرة تأخذ من هذا الغذاء ما يناسب ثمارها، أي أنها تختار العناصر اللازمة لها، وتترك الباقي ولا تأخذه، ولذلك نرى الزرع ينبت في مكان واحد ويسقى بماء واحد، ولكن كل ثمرة لها طعم وشكل ولون ورائحة وحجم يختلف عن الأخرى، فهذه حلوة، وهذه مرة، وهذه كبيرة، وهذه لونها أحمر وهذه لونها أصفر،
والثالثة لونها أبيض وهذه لها رائحة نفاذة وتلك ليس لها رائحة، أشكال وألوان مختلفة، وكل شجرة من هذه الأشجار تأخذ من الأرض ما يناسبها من عناصر التكوين الدقيق لها بكل تفاصيله وتترك الباقين ونرى شجرة التفاح ثمرها حلو ورائحتها نفاذة، وبجانبها الليمون طعمه حامض،
وبجانبها الحنظل طعمه مر، وثمرة نأكلها ونترك ما بداخلها مثل المشمش والخوخ والبلح، وثمرة ننزع غلافها لا نأكله ولكننا نرميه كالبرتقال والبطيخ، وثمرة لها غلاف هش كالبرقوق مثلا، وثمرة غلافها جامد قوي لا تستطيع أن تنزعه بيديك كالجور واللوز والبندق وجوز الهند، وثمرة صالحة للتخزين أياما أو أسابيع كأنواع من البطيخ، وثمرة صالحة للتخزين شهورا طويلة كالجور واللوز.
وأستطيع أن أمضي بلا نهاية في وصف أنواع الثمر المختلفة التي تنبتها الأشجار، ولكنني أفضل أن أذكر الآية الكريمة التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى.
( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) الرعد 4
ونحن نمر على الجنات الموجودة في كل أنحاء الأرض ونرى هذه الآيات، ثم بعد ذلك نتساءل:
أين الدليل المادي على أن الله هو الخالق؟!!
سبحانك يا ربي القائل:
( وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين ) الأنعام 4
وصدق الله لعظيم في قوله تعالى : ( قتل الإنسان ما أكفره )عبس 17
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 40
الفصل الخامس
الأدلة المادية في أصل الكون وأصل الإنسان
في الأنفس والآفاق
الكون مليء بآيات العلم التي تدل على وجود الله، وليس معنى ذلك أننا نستدل على صحة القرآن بالعلم، بل ان القرآن هو المهيمن والمسيطر وهو الحق، وما العلم الا كاشف لقدرة الله في الكون ، فما جاء به القرآن ونحن نؤمن به إيمانا غيبيا لا يرقى إليه أي شك ولا نريد عليه دليلا.
لأن دليلنا ويقيننا أن الله هو الذي قال، ولكننا نكتب هذا الكتاب لنرد على غير المؤمنين.
ولذلك فنحن نأتي بالحجة والدليل المادي ما لا يستطيعون أن يردوا عليه، ونحن لا نقدر أن نحيط بكل آيات الله في الكون، ذلك أن آيات الله أكبر من أن يحيط بها بشر مهما كانت قدرته وعلمه.
وفي جولة تشمل الكون المحيط بنا وحسب قدراتنا البشرية سنثبت أن لله آيات ومعجزات ذكرت في القرآن الكريم، واعترف غير المؤمنين أنه لا يمكن ان يكون منزل هذه الآيات الا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فانا سنجوب الكون لنعطي مثلا واحدا على عدة أماكن، ففي خلق الإنسان آيات،
وفي الجبال آيات، وإذا صعدنا إلى السماء وجدنا آيات، وإذا نزلنا إلى باطن الأرض كانت هناك آيات، وإذا غصنا في أعماق البحار كانت هناك آيات، كل هذا موجود، نحن سنعطي لمحات، لأننت إذا أردنا أن نحيط بكل شيء فنحن نحتاج إلى مجلدات كثيرة.
وكما قلت فان أي تصادم بين القرآن والعلم لا يمكن الا أن تكون النظرية العلمية خاطئة، أو يكون فهمنا للقرآن غير سليم، وقد تحدثنا عن ذلك في الفصل السابق.
الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )فصلت 53
ومعنى سنريهم، أي سيرون رؤية العين، ورؤية يقين، ومعنى قوله تعالى ( حتى يتبين لهم أنه الحق ) هو أن الذين سيرون غير المؤمنين، وإلا لو كانوا مؤمنين لعرفوا أنه الحق، ولما احتاجوا إلى هذا الدليل المادي، ولذلك فان عددا من غير المؤمنين سيكشف الله لهم عن آياته في الكون، فلا يستطيعون أن ينكروا أنها من عند الله، ولا يستطيعون أن يتكبروا ويقولون أن هذا من عند أي بشر، ولا يستطيعون أن يدعوا أنها المصادفة، ولا يمكنهم الا أن يعترفوا ولكنهم لا يؤمنون.
ولقد اخترنا في هذا الفل أقوال عدد من العلماء الغربيين، كلهم قبل أن يبدؤوا الحديث قالوا: إنا علماء لا نصدق إلا ما نرى، ولا نتعامل الا مع الأشياء المادية البحتة. ولقد تجنبت الحديث عما قاله علماء مسلمون ولهم كشوفهم العلمية. وبعضهم يعيش في الغرب وله مكانته العلمية، ذلك أن الإنسان المؤمن مندفع بحماس الإيمان إلى أن يصل إلى نتائج، لأنه يحب أن يظهر إعجاز القرآن وفيه حماس لأن يجعل غيره يؤمنون، ولذلك استبعدت كل ما قالوه، وأخذت من أقوال الذين بدءوا جدالهم بأنه لا علاقة بين العلم والدين، بل ادعوا لأنهما نقيضان لا يلتقيان .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 41
فالعلم يتحدث عن أشياء واقعية ترى وتشاهد، والدين يتحدث عن أشياء غيبية يؤمن بها الناس، وكان هذا في رأيهم هو نقطة عدم الالتقاء ولكننا نقول لهم: أنه لا إلزام عليكم فأنتم غير مؤمنين،
تستطيعون أن تقولوا ان ما جاء في القرآن يختلف مع العلم، ذلك انه لا حرج عليكم فيما تقولون،
وأنتم لن تخالفوا ضمائركم، ونحن على يقين من أن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون، وأن القرآن الكريم هو كلام الله، وإذا تكلم عن كونه فهو أعلم منا جميعا.
خلق الجنين في القرآن
إذا أردنا أن نبدأ بمعجزة الجنين وما يذكر عنها في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وما كشفه العلم يقينا وصوره وعرض علينا صوره، ان علم الأجنة لم يعرفه العالم بشكل واضح الا في القرن العشرين، ففي القرن السابع عشر كان العلم يقول: الإنسان خلق خلقا كاملا في الحيوان المنوي للرجل على صورته الإنسانية، أي أنك إذا أخذت الحيوان المنوي واستطعت أن تكبره وجدت فيه الإنسان بكامل تفاصيله مخلقا كاملا، أي أن الإنسان لا يخلق على أطوار في بطن أمه بل يخلق مرة واحدة.
ولكن في القرن الثامن عشر تغيرت الصورة عندما اكتشفوا بويضة المرأة وركز العلم على دور المرأة في الحمل وأهملوا دور الرجل، وقالوا: ان بويضة المرأة هي التي فيها الإنسان الكامل لأنها الأكبر، وأن نطفة الرجل هي مجرد عملية تلقيح فقط لا غير، وظل هذا الرأي سائدا حتى القرن العشرين، وجاء العلم الحديث ليغير الصورة تماما، ويعطينا صورة جديدة للجنين في بطن أمه، ويأتي بصور تثبت ذلك، حتى ان العملية أصبحت أمرا يقينيا لا يمكن تصوير الجنين وهو يتطور وينمو في بطن أمه.
وكان للقرآن الكريم في هذا كلمة، ذلك أن القرآن جاء بوصف دقيق لأطوار الجنين منذ أربعة عشر قرنا، يوم أن كانت الدنيا كلها بكل من فيها وما فيها لا تعرف شيئا عما في بطن الأم، وذكر القرآن الكريم لهذه الآيات لا يمكن أن يأتي الا إذا كان هذا القرآن منزلا من عند الله.
ومحمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك من العلم البشري شيئا، وحتى لو كان يملك فلم يكن علم البشر يعرف شيئا، وكما قلت فان المخاطرة بذكر شيء علمي في القرآن لا يمكن أن يقدم عليها بشر، لماذا؟ لأن القرآن هو كلام الله الذي لا يتغير ولا يتبدل والمتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة، فكيف يكون موقف الدين وموقف المسلمين إذا ذكر في القرآن شيء يمس العلم البشري، ثم جاءت الأبحاث وتقدمت العلوم واكتشفت أن هذا غير صحيح؟ كانت ستضيع قضية الدين كله، وما الذي يجعل محمد صلى الله عليه وسلم يخوض في هذه الأشياء التي كانت البشرية كلها تجهلها، فيتطوع بإعطاء أعداء الدين ما يهدمونه به.
ماذا قال القرآن الكريم عن أطوار الجنين؟
قال الله سبحانه وتعالى 🙁 ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأتاه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين( المؤمنون 12 /14
فإذا بدأنا بهذه الآية تفصيلا، فهي تذكر أولا ان خلق الإنسان من طين، ومعنى ذلك أنها حددت المادة التي خلق منها الإنسان وهي الطين، والطين موجود في كل مكان من الأرض، والعلماء
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 42
اخذوا الطين وحللوه، فوجدوه يتكون من ثمانية عشر عنصرا، منها الحديد والبوتاسيوم والمغنيسيوم وغير ذلك من المواد، ثم درسوا جسم الإنسان فوجدوه يتكون من نفس هذه المواد،
وهي الثمانية عشر عنصرا التي يتكون منها الطين، وهكذا جاءت الحقيقة الأولى، حقيقة مشاهدة معملية لا تخضع للجدل، ثم بدأ القرآن في وصف خلق الإنسان في بطن أمه فتقول الآية الكريمة:
( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة )والقرار المكين هو رحم الأم، ثم تأتي مسألة العلقة، ونترك الحديث للبروفيسور الكندي ” كيث ل.مور” وهو من أشهر علماء العالم في علم الأجنة ورئيس قسم التشريح والأجنة في بجامعة تورنتوبكندا، ورئيس الاتحاد الكندي الأمريكي لعلماء الأجنة، وله عدة كتب مترجمة إلى ثماني لغات، وهو الحائز على الجائزة الأولى في العالم عن كتابه ” علم الأجنة”، هذه الجائزة التي تعطى لحسن الكتاب تأليفا.
قال الدكتور كيثل. مور: ان الجنين عندما يبدأ في النمو في بطن أمه يكون شكله يشبه العلقة أو الدودة، وعرض الصورة بالأشعة لبداية خلق الجنين ومعها صورة للعلقة، فظهر التشابه واضحا بين الاثنين، ولما قيل له: ان العلقة عند العرب معناها الدم المتجمد، ذهل وقال ان ما ذكر في القرآن ليس وصفا دقيقا لشكل الجنين الخارجي، ولكنه وصف دقيق لتكوينه، ذلك أنه في مرحلة العلقة تكون الدماء محبوسة في العروق الدقيقة في شكل الدم المتجمد.
فإذا جئنا إلى المرحلة الثانية في قوله تعالى (فخلقنا العلقة مضغة ).
نعلم أن القرآن الكريم جاء بالوصف الدقيق، فعندما عرضت صورة الأشعة المأخوذة للجنين وهو في مرحلة المضغة، وصورة قطعة من الصلصال أو اللبان الممضوغ، وجد الشكل واحدا، ثم أظهرت صورة الأشعة التي التقطت للجنين في مرحلة المضغة وأن فيها تجويفات تشبه علامات الأسنان، بل ان الله سبحانه وتعالى قد تجاوز مرحلة الشكل الخارجي إلى التكوين الداخلي، فقال جل جلاله:( مضغة مخلقة وغير مخلقه ) الحج 5
وعندما جيء بالمضغة الآدمية من بطن الأم وطولها سنتمتر واحد، وتم تشريحها تحت الميكروسكوب الالكتروني، وجد أن بعض أجهزة الجنين بدأت تتخلق وبعضها لم يتخلق، ولو أن القرآن الكريم قال مضغة مخلقة، لكان ذلك لا ينطبق على حقيقة التكوين، لأن فيها أجزاء غير مخلقة.
ولو قال القرآن الكريم مضغة غير مخلقة لكان ذلك لا ينطبق على حقيقة التكوين لأن فيها أجزاء مخلقة، ولكن الوصف الدقيق الوحيد الذي ينطبق على المضغة هو قوله تعالى ) مضغة مخلقة وغير مخلقة
ولقد عرض العالم الكندي كل أطوار الجنين في بطن أمه، والتي التقطت بأحدث الأجهزة العلمية، فإذا هي تنطبق تماما على كل ما ذكر في القرآن الكريم. من مراحل تكوين العظام واللحم إلى غير ذلك.
ولما قيل للدكتور : هل كان من الممكن أن يعرف رسول الله صلى اله عليه وسلم كل هذه التفصيلات عن أطوار الجنين؟ قال: مستحيل ان العالم كله في ذلك الوقت لم يكن يعرف أن الجنين يخلق أطوارا، فما بالكم بتحديد هذه المراحل التي لم يستطع العلم حتى الآن تسمية أطوار الجنين، بل أعطاها أرقاما بشكل معقد غير مفهوم، في حين جاءت في القرآن بأسماء محددة وبسيطة وغاية في الدقة يتضح لي بأن هذه الأدلة حتما جاءت لمحمد من عند الله، وهذا يثبت لي
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 43
أن محمد رسول الله، فقبل له: بعد أن قلت ما قلت، أفلا تسلم؟ فقال: انه مستعد أن يضع في الطبعات القادمة من كتبه إشارة إلى ما علمت.
ولقد قرئ معنى الآيات التي جاءت في القرآن الكريم على أكبر علماء الأجنة في العالم، فلم يجرؤ أحد منهم من ان يدعي أن هناك تصادما بين ما جاء في القران الكريم وأحدث ما وصل إليه العلم.
النطفة والوراثة
ولكن احدهم أثار ان الوراثة أو البرنامج الوراثي للإنسان يوجد في نطفة الرجل، ويتحدد فيها تفاصيل الإنسان الذي سيولد أذكر أم أنثى، ما هو لون العينين ولون الجلد ولون الشعر إلى آخره، أي أن الإنسان تكون صفات خلقه موجودة في شفرة خاصة في نطفة الرجل، فلما قرئت عليه الآية الكريمة: ( قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره( عبس 17
قال: لا يمكن أن أن يكون هذا الا من عند الله.
هذه الأبحاث كلها التي ذكرتها وشهادات العلماء مدونة ومسجلة بالصوت والصورة في المؤتمرات المتعاقبة عن الإعجاز في القرآن الكريم، وهي مؤتمرات عقدت في الدول الإسلامية المختلفة، ويستطيع كل من يريد أن يرجع إلى هذه الأشرطة ويشاهد هؤلاء العلماء وهم يتحدثون ويتكلمون، بل ان عالما منهم شهر إسلامه، وشهد أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله أمام الحاضرين في أحد هذه المؤتمرات وهو البروفيسور التايلاندي ” تاجاثات تاجاسن” وهو من أكبر علماء العالم في علم التشريح، وذلك عندما كان يتحدث عن الأعصاب، وكيف أنها موجودة تحت الجلد مباشرة، بحيث إذا احترق الجلد انتهى الإحساس بالألم تماما، والله سبحانه وتعالى يقول عن أهل النار( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب )النساء 56
ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن عذاب النار، عذاب دائم مستمر لا يخفف ولا يتوقف، ولما كان في علمه سبحانه وتعالى وهو الخالق، لا يخفف ولا يتوقف، ولما كان من علمه سبحانه وتعالى وهو الخالق، أن الجلود إذا احترقت انتهى الإحساس بالألم، نبهنا أن جلود أهل النار كلما احترقت بدلهم الله جلودا غيرها ليستمر شعورهم بالعذاب.
وعندما عرض معنى هذه الآيات على البروفيسور تاجاثات جاسن، قال: أهذا الكلام قيل منذ أربعة عشر قرنا؟ قالوا: نعم قال: ان هذه الحقيقة لم يعرفها الا العلم الحديث، ولا يمكن أن يكون قائلها بشر، بل هي من الله سبحانه وتعالى، وحان الوقت لأن أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله.
ولنا أن نتأمل هذه الآية الكريمة ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب )
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الله سبحانه وتعالى لم يلفتنا إلى أنه كلما احترقت جلود أهل النار بدلهم غيرها، أكان من الممكن أن نعرف كيف سيستمر عذاب أهل النار بلا توقف وأن إحساسهم بالعذاب دائم؟
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 44
الحقيقة العلمية تقول: أن الأعصاب موجودة تحت الجلد، فإذا احترق الجلد فلت يحس الإنسان بالألم، وهذا ما بينه لنا القرآن الكريم عن كيفية استمرار العذاب، كان الكفار العاصون سيقولون ستعذب فترة قصيرة حتى تحترق جلودنا، ثم بعد ذلك لا نحس بأي عذاب أو ألم، ولكان هذا تشجيعا للإنسان على الاستهانة بعذاب الله في الآخرة، لأنه لن يستمر العذاب إلا لفترة قصيرة يحترق الجلد فيها وتموت تحته الأعصاب وينتهي العذاب، لوجد هناك تصادم بين القرآن الكريم والحقائق العلمية، في أن الكفار سيخلدون في عذاب جهنم، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) الزخرف 74 /75
ولا يفتر معناها، لا يخفف، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى إن أهل جهنم سيدخلون في العذاب، وأنه لن يخفف عنهم، مع أنهم إذا احترقت جلودهم فقدوا الإحساس بالألم، وهذا ما لم يعرفه البشر إلا حديثا؟! ألا يكفي هذا كدليل مادي على أن القرآن الكريم من عند الله؟ ألا يكفي هذا أيضا كدليل مادي، على أن الذي خلق هو الذي قال وإذا كان هذا قد دفع عالما من اكبر علماء علم التشريع وهو العارف بأسرار هذا العلم، أن يعلن إسلامه أمام الناس في مؤتمر عام، وقد بهره الإعجاز الإلهي ووجد بين يديه الدليل المادي على وجود الله فنطق بالشهادتين، ألا يكفي هذا ليؤمن العالم كله ويؤمن أهل الأرض جميعا؟
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 45
الأصل الواحد للكون
ونحن نكتفي بهذا الجزء بالنسبة للإنسان، ذلك أننا نريد أن نتحدث عن آيات أخرى في الكون بالنسبة لغير الإنسان، بالنسبة للكون نفسه، والأصل الواحد للكون.
يقول الله سبحانه وتعالى: ( أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقتاهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) الأنبياء 30
لقد عرض معنى هذه الآية في مؤتمر الإعجاز القرآني في السعودية على الدكتور ألفرد كرونر، وهو من أشهر علماء العالم في الجيولوجيا، وعندما قرأ المعنى أخذ يصيح: مستحيل، مستحيل أن تكون هذه الحقائق قد ذكرت في أي كتاب منذ أربعة عشر قرنا. إننا لم نصل إلى هذه الحقيقة العلمية إلا منذ سنوات، وباستخدام وسائل علمية متقدمة جدا وبعد دراسات معقدة طويلة خاصة بعلم الطبيعة النووية، والأصل الواحد للكون لا يمكن أن يكون قد توصل إليه بشر منذ ألف وأربعمائة سنة، ولكن الوسائل العلمية الحديثة الآن في وضع تستطيع أن تثبت ما قاله محمد منذ ألف وأربعمائة سنة.
ولعلنا جميعا نذكر تجربة صعود الإنسان إلى القمر، وكيف كان العلماء يحلمون قبل إتمام هذه التجربة بالعناصر النادرة التي سيجدونها على سطح القمر، وبالمواد التي سيحضرونها، وكيف أنه سيكون فيها مواد تشفي أمراضا لا يوجد لها دواء على الأرض ومواد إذا أضيفت لعناصر الأرض نتجت عنها عناصر جديدة لم تعرفها البشرية وأخذت أحلامهم تزداد عما سيضيفونه إلى الكرة الأرضية من عناصر غير موجودة، واشتد الخيال وامتلأت الرؤوس بالأحلام.
ثم ماذا حدث؟ صعد الإنسان إلى القمر ومشى فوق سطحه، وجاء بعينات من الصخور الموجودة تحت السطح وعادوا بها إلى الأرض. وإذا بهم يكتشفون أن سطح القمر مكون من نفس عناصر سطح الأرض، وأن صخور القمر في تركيباتها هي نفس صخور الأرض وأنهما من أصل واحد.
ألم يكن هذا كافيا كدليل مادي قوي لكي يؤمنوا؟ ألم يكن إثبات نظرية الأصل الواحد للسموات والأرض، الذي أخبرنا الله به سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة دليلا كافيا على وجود الله، وعلى أنه الخالق؟
إن العالم الذي قال: إن الوسائل العلمية الحديثة الآن في وضع تستطيع أن تثبت ما قاله محمد منذ ألف وأربعمائة سنة، وهو البروفيسور ألفريد كرونر، عالم مراوغ جدا، حتى انه كان يحاول أن يتهرب من الإجابة، لكيلا يشهد بان هذا العلم قد أنزل من الله سبحانه وتعالى، حتى انه في كل ما كان يقول: ( إن محمد قال) فقالوا له: سنثبت لك أن محمد لم ينطق إلا بوحي من الله، وأنه في عدد من الأحاديث النبوية إعجاز نرجو أن تفسره لنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو هريرة يقول في جزء منه: ( لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا)، أي مزارع وبساتين وأنهارا، ولما سئل الدكتور كرونر هل كانت ارض العرب بساتين وأنهار كما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، فقيل له متى كان ذلك؟ قال: في العصر الجليدي الأول الذي مر به العالم في عصوره الأولى.
وسئل كرونر: ومن الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة؟ قال: ربما علم ذلك من الرومان الذي كانوا متقدمين في هذه العلوم، فسألوه هل تعود بلاد العرب بساتين وأنهار مرة أخرى؟ قال: نعم هذه حقيقة علمية، قالوا: كيف تقول على شيء سيقع في المستقبل أنه حقيقة
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 46
علمية، قال: لأن العصر الجليدي الثاني بدأ، ومن مقدماته ذلك الشتاء القارص والعواصف الثلجية التي بدأت تزحف على أوروبا في السنوات الأخيرة وكل شتاء يأتي سيكون أقسى من الذي قبله، فكتلة الجليد في القطب الشمالي بدأت تزحف ببطء نحو الجنوب، وهي في كل عام تقترب، ولكن ببطء جدا من المنطقة التي فيها بلاد العرب، عندما يزداد هذا الاقتراب بعد فترة طويلة من منطقة بلاد العرب ستعود بساتين وأنهارا.
وعندما سئل الدكتور كرونر: هل الرومان هم الذين أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن بلاد العرب ستعود بساتين وأنهارا؟ قال: لا يمكن أن يحدث ذلك إلا بوحي من السماء.
إعجاز يتلوه إعجاز نعود إلى الآية الكريمة: ( أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الأنبياء 30
في هذه الآية أعطانا الله سرا من أسرار الحياة وهو الماء.
ولقد أصبح هذا حقيقة علمية يعترف بها العالم أجمع، فالصور الحديثة التي تلتقط بالأقمار الصناعية وسفن الفضاء والكواكب القريبة من الأرض، يستطيع العلماء أن يتنبئوا إذا كان في هذه الكواكب حياة أم لا؟ رغم أن هذه الصور لا تأتي بالتفاصيل الدقيقة التي تبين إذا كانت هناك مخلوقات موجودة على سطح هذه الكوكب أم لا؟
ولكن مجرد علمهم بأن الصور لا تدل على وجود الماء على سطح الكواكب فإنهم يؤكدون أنه لا حياة فيه، فإذا كان هناك ما يشير إلى أن الماء موجود تحدثوا عن احتمالات الحياة، وعملية وجود الماء هي من قدرة الله سبحانه وتعالى التي احتفظ بها لنفسه، وهي عندنا في الأرض تتم دون عمل من الإنسان، بل هي عطاء من الله، بخار الماء يتصاعد من البحار والمحيطات، ويتكثف في طبقات الجو العليا وينزل مطرا، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ) 70الواقعة 68
إذن الماء هو رزق من السماء بقدرة الله، وكل من يدعي غير ذلك نطالبه أن ينشئ لنا نخرا صغير وسط الصحراء، ويملأه بالماء إن كان يستطيع، ولن يستطيع، ولكن اعتراف العلم ويقينه من أن وجود الماء معناه وجود الحياة، لم يلفتهم إلى ما ذكره القرآن الكريم منذ أربع عشر قرنا، وكان يجب إن يلتفتوا إلى هذا الإعجاز، فيؤمنوا بالله خالقا وموجودا والها واحدا، ولذلك يقول الحق جل جلاله: ( أفلا يؤمنون).
السماء والدخان وأصل الخل
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمدمتولي الشعراوي 47
لقد قدم لهم الدليل المادي في الأصل الواحد للسموات والأرض، ومن إن الماء هو سر الحياة، فان لم يؤمنوا، حينئذ يكون عدم إيمانهم مكابرة وعنادا، ويكون عذابهم في جهنم عدلا من الله، الذي أعطاهم الدليل تلو الدليل، ومع ذلك لا يؤمنون.
وقبل أن نترك السماء وآياتها، لا بد أن نتحدث عن الإعجاز في خلق السموات والأرض، نحن ننظر إلى السماء ونرى أشياء وتغيب عنا أشياء مثلا عندما عرض معنى الآية الكريمة: ( ثم استوي إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) فصلت 11
قرأ البروفيسور يوشيدي كوزاي مدير مرصد طوكيو هذا الكلام وقال: إن العلم لم يصل إلا منذ فترة بسيطة جدا إلى أن السماء كانت دخانا وقد أصبح هذا شيئا مشهودا ومرئيا الآن. بعد إطلاق سفن الفضاء والأقمار الصناعية وعرض صور التقطت لنجم من السماء وهو يتكون، وقد بدا كتلة من الدخان وفي وسطها تكون الجزء المضيء من النجم وحوله الدخان وتحيط للدخان حافة حمراء دليل على ارتفاع درجة الحرارة.
وقال: لقد كنا نعتقد منذ سنوات فقط أن السماء كانت ضبابا ولكننا عرفنا الآن بعد التقدم العلمي بأنها ليست ضبابا ولكنها دخان، لأن الضباب خامد وبارد، والدخان حار وفيه حركة، هذا يدل على إن السماء كانت دخانا، وقال: إنني متأثر جدا باكتشاف هذه الحقيقة في القران.
وإذا كنا نريد أن نمضي في التفاصيل، ليقتنع من لن يقتنع، فإننا نستعرض بسرعة ما قاله أشهر العلماء في العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمي في القرآن، الدكتور أستروخ وهو من أشهر علماء وكالة ناسا ألأميركية للفضاء، قال: لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثا معملية، ولكن المعمل الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد لها تكوين مميز، أن الالكترونات والنيترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية، ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها، فلما ترجموا معنى الآية الكريمة: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) الحديد 25
قال: إن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من كلام بشر.
وفي البحار أيضا
فإذا تركنا السماء وأسرارها ونزلنا إلى أعماق البحار وجدنا شيئا عجيبا، إن الصور الحديثة التي التقطت للبحار قد أثبتت أن بحار الدنيا ليست موحدة التكوين، بل هي تختلف في الحرارة والملوحة والكثافة ونسبة الأكسيجين، وفي صورة التقطت بالأقمار الصناعية، ظهر كل بحر بلون مختلف عن البحر الآخر، فبعضها أزرق قاتم، وبعضها أسود وبعضها أصفر، وذلك بسبب اختلاف درجات الحرارة في كل بحر عن الآخر، وقد التقطت هذه الصورة بالخاصية الحرارية،
وبالأقمار الصناعية ومن سفن الفضاء، وظهر خط أبيض رفيع يفصل بين كل بحر وآخر، فإذا قرأت الآية الكريمة: ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) الرحمن 19 /20
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 48
نجد أن وسائل العلم الحديثة قد وصلت إلى تصوير البرزخ بين البحرين، وبينت معنى لا يبغيان، بأن مياه بحر حين تدخل إلى البحر الآخر عن طريق البرزخ، فإنها تأخذ وقت دخولها خصائص البحر الذي تدخل فيه، فلا تبغي مياه بحر على مياه بحر آخر فتغيرها.
ولقد تم الوصول إلى هذه الحقائق بعد إقامة مئات المحطات البحرية، والتقاط صور بالأقمار الصناعية، والذي قال هذا الكلام هو البروفيسور شرايدر، وهو من أكبر علماء البحر بألمانيا الغربية، كان يقول: إذا تقدم العلم فلا بد أن يتراجع الدين، لكنه عندما سمع معاني آيات القرآن الكريم بهت وقال: إن هذا لا يمكن أن يكون كلام بشر.
ويأتي البروفيسور دورجاروا أستاذ علم جيولوجيا البحار ليعطينا ما وصل إليه العلم في قوله تعالى: ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا اخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) النور 40
فيقول: لقد كان الإنسان في الماضي لا يستطيع أن يغوص بدون استخدام الآلات أكثر من عشرين مترا، ولكننا نغوص الآن في أعماق البحار بواسطة المعدات الحديثة فنجد ظلاما شديدا على عمق مائتي متر.
الآية الكريمة تقول( بحر لجي)، كما أعطتنا اكتشافات أعماق البحر صورة لمعنى قوله تعالى:(ظلمات بعضها فوق بعض) .
فالمعروف أن ألوان الطيف سبعة، منها الأحمر والأصفر والأزرق والبرتقالي إلى أخره، فإذا غصنا في أعماق البحر تختفي هذه الألوان واحدا بعد الآخر، واختفاء كل لون يعطي ظلمة.
فالأحمر يختفي أولا ثم البرتقالي ثم الأصفر، وآخر ألوان الاختفاء هو اللون الأزرق على عمق مائتي متر، كل لون يختفي يعطي جزءا من الظلمة حتى تصل إلى الظلمة الكاملة، أما قوله تعالى:
( موج من فوقه موج ) ، فقد ثبت علميا أن هناك فاصلا بين الجزء العميق من البحر والجزء العلوي، وأن هذا الفاصل مليء بالأمواج، فكأن هناك أمواجا على حافة الجزء العميق من البحر وهذه لا نراها، وهناك أمواج على سطح البحر وهذه نراها، فكأنها موج من فوقه موج وهذه حقيقة علمية مؤكدة.
ولذلك قال البروفيسور دورجاروا عن هذه الآيات القرآنية: إن هذا لا يمكن أن يكون علما بشريا
الجبال والأوتاد
وإذا كانت العلوم الحديثة أكدت أن للجبال جذورا عميقة في الأرض، وهو لم يكن معروفا، ففي كل الخرائط الجغرافية تظهر الجبال بلا جذور ممتدة داخل الأرض، ولكن الصور الأخيرة التي التقطت للجبال، ظهر فيها أن لكل جبل وتدا يقويه يسميه العلماء جذرا، وأن هذا الجذر يمتد إلى أعماق بعيدة، وهكذا ظهر إعجاز الآية الكريمة: ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ) النبأ 6
ثم جاءت حقيقة أخرى في قوله تعالى: ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض) الروم 1 /3
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 49
وقد فسرت أدنى الأرض على أساس أنها قريبة من أرض العرب، فقد حدثت المعركة قرب بيت المقدس، وجاءت الخرائط الجيولوجية التي صورت أخيرا بالأقمار الصناعية، لتثبت أن المنطقة التي دارت فيها المعركة هي أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض، لأن أدنى تعني المكان المنخفض.
لقد أوردنا عددا من الأبحاث التي تمت في مؤتمرات الإعجاز العملي للقرآن الكريم، والتي شارك فيها عدد من أكبر علماء العالم في مختلف فروع العلم من غير المؤمنين، والذين شهدوا جميعا أن الآيات القرآنية التي قرئت عليهم معانيها، لا يمكن أن تكون إلا من وحي الهي، ومن خالق لهذا الكون، نقول للناس جميعا: يكفي أن كل ما قلناه كأدلة على وجود الله، كلها جاءت من أفواه الذين لا يؤمنون، ورفضوا الإيمان حتى بعد أن سمعوا الإعجاز القرآني.
إن كل ما أوردناه ليس مجال بحث ولكنه قائم على المشاهدة والرؤية، وعلى صور عرضت وقدمت، ولم يكن الذين قدموا هذه الصور يهمهم إثبات معجزات وآيات القرآن الكريم، بل إن معظمهم كان يقول: إذا جاء العلم فليتراجع الدين، وبعضهم عارض في أول الأمر في الاشتراك في حوار يدخل فيه الدين.
وإذا كان الله تعالى قد استخدم غير المؤمنين في إثبات قضية الإيمان، فلا بد أن نعلم أن المؤمن والكافر كليهما يخدم قضية الإيمان في الكون .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 50
الفصل السادس وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
اعجازات القرآن
الله سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزة باقية إلى يوم القيامة، ولذلك وضع فيه الدليل تلو الدليل على ما يتحدى به غير المؤمنين ليرد على ادعاءاتهم، ولقد قيل إن عصر المعجزات انتهى، ولكن معجزات القرآن لا تنتهي حتى تقوم الساعة، ومعاني الآيات لا تتضح في عصر واحد.
بل كل عصر نصل إلي معنى لم نكن قد وصلنا إليه، والقرآن معجزة ومنهج، المنهج وهو ما رسمه الله لنا كطريق للعبادة والحياة ثم تفسيره وبيانه كاملا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبادات والمعاملات وغيرهما فيما يتصل ب ” افعل” و ” لا تفعل” بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصلوات المفروضة فيه مثلا خمس لا تزيد ولا تنقص إلى يوم القيامة، وكذلك الأحكام وكل ما يتعلق بمنهج السماء، كلها أشياء حسمت وبينت تماما، ولكن المعجزة في القرآن الكريم هي التي بقيت لتعطي كل جيل معنى اعجازيا لم يصل إليه الجيل الذي قبله.
ولو أن معجزة القرآن توقفت عند نزول القرآن لجمد القرآن فلم يعد يعطي شيئا جديدا، ولكن لأن هذا الكتاب معجزة باقية متجددة، فهو يعطي لكل جيل عطاء جديدا، وهكذا نجد في كل عصر عطاء للقرآن لم يكن موجودا في العصر الذي قبله.
فإذا قرأنا مثلا الآية الكريمة: ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) الروم 1 /3
وجدنا أن أدنى حين نزل القرآن كانت ” كما قلنا” بمعنى المكان القريب من أرض العرب، ولما تقدم العلم واستطاع الإنسان أن يصور سطح الأرض بالأقمار الصناعية، وجد أن مكان المعركة بين الروم والفرس هو أكثر الأماكن انخفاضا على سطح الأرض، وإذا قرأنا الآية الكريمة: ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم) الأنفال 42
نجد أن الله سبحانه وتعالى قد حدد ثلاثة مواقع: موقع المؤمنين وهم قريبون إلى المدينة المنورة، وموقع الكفار وهم بعيدون عن مكة المكرمة، أي أن المؤمنين أقرب إلى مدينتهم وأهلهم، والكفار بعيدون عن مدينتهم وأهلهم، ثم قال تعالى: ( والركب أسفل منكم ) .
والركب هو قافلة أبو سفيان التي أفلتت من المؤمنين. والمعروف إن أبا سفيان لكي يفلت من المؤمنين غي ر مساره واتخذ طريق الساحل وهنا يجب أن نلتفت إلى قول الله تعالى: ( أسفل منكم ) . أي موقع منخفض عنكم.
والمعروف أن ساحل البحر هو أكثر الأماكن انخفاضا في الأرض، ولذلك تقاس كل الارتفاعات بسطح البحر، فيقال: هذا المكان يعلو ألف متر مثلا عن سطح البحر أو مائة متر أو غير ذلك.
إذن فسطح البحر المقياس الذي اتخذه العالم كله بيساوي صفرا في الارتفاع، تقاس عليه كل الارتفاعات في الدنيا، ولذلك قوله تعالى:{ أسفل منكم} يلفتنا إلى هذه الحقيقة، ولكن القرآن الكريم لم يكتف بأن يبين هذا، بل بين لنا أن هناك بقعة على سطح الأرض هي أكثر انخفاضا على سطحها، وهي التي دارت عليها المعركة بين الفرس والروم.
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 51
وإذا قرانا القرآن الكريم، نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد لفتنا إلى مصدر العلم للبشرية كلها، فقال سبحانه وتعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة 31.
وهكذا حدد القرآن الكريم في إعجاز مذهل مدخل العلم للبشر، فأنت حين تريد أن تعلم طفلك عندما يبدأ يميز الأشياء، لا بد أن تعلمه الأسماء أولا، فتقول له: هذا كوب، وهذا قلم وهذا كرسي، وهذا طعام إلى غير ذلك.
ونحن نقول إذا لم نعلم الطفل هذا فانه لا يستطيع أنيفهم شيئا ولكنه إذا تعلم الأسماء أصبح بعد ذلك قادرا على استيعاب العلم، ولذلك ففي الدنيا كلها وبالنسبة للبشرية كلها، لا بد أن نبدأ بأن نعلم أطفالنا أسماء الأشياء، ثم بعد ذلك تختلف نظم التعليم من دولة إلى أخرى ومن طريقة إلى طريقة، ولكنها كلها لا بد أن تبدأ بتعليم الأسماء، وهكذا نعرف أن بداية العلم من الله سبحانه وتعالى.
فقد بدأ الحق جل جلاله بتعليم الإنسان الأسماء، وما زالت هذه البداية موجودة حتى الآن في كل نظم التعليم، الأسماء أولا، فإذا تعلم الطفل الأسماء بدأ يستوعب أي شيء آخر، ونحن لا نعلم الطفل الأسماء في المدرسة فقط.
ولكن هذا هو علم الفطرة، تبدأ الأم مع طفلها قبل أن يذهب إلى المدرسة، والأم المتعلمة وتلك التي لم تنل حظا من التعليم، كلتاهما تبدأ بتعليم ابنها الأسماء، لأن علم الفطرة تكون منه البداية دائما، ثم بعد ذلك يتطور ويتبدل، ولا يمكن أن يتم التفاهم بين الأم وطفلها ولا بين طفل وطفل آخر إلا إذا تعلما الأسماء أولا، والعلم في الدول المتقدمة والدولة المتخلفة أيضا لا بد أن يبدأ بالأسماء باعتبارها أساس التفاهم في الحياة، ولكن هناك إعجاز آخر بالعلم البشري لا بد أن نلتفت إليه، وهو يحمل ألينا الدليل اللغوي على وجود الله.
اللغة تدل على الوجود
فاللغة أساس التفاهم بين البشر، واللغة ليست بيئة ولا حضارة ولا جنسا ولا لونا، ولكنها تعتمد أساسا على السماع، فإذا سمع الإنسان تكلم، وإذا لم يسمع لا يتكلم، ولذلك تجد دائما أن الأصم إلي لا يسمع أبكم لا ينطق، فيقال دائما: الصم والبكم، لأن أساس الكلام هو السماع.
ولكي نفهم هذه الحقيقة جيدا وهي أن اللغة لا علاقة لها إلا بالسمع، نقول: إننا إذا أتينا بطفل عربي وأخذناه بعد ولادته إلى بريطانيا مثلا، بحيث لا يسمع إلا الانجليزية فإذا حاولت أن تتحدث معه باللغة العربية فانه لا يفهمك، مع أنه عربي الأصل، من أب وأم عربيين، ولكنه لا يستطيع أن ينطق حرفا واحدا من اللغة العربية لأنه لم يسمعها، فإذا جئنا بطفل انجليزي وأخذناه إلى بلاد العرب فانه سينشأ وهو يتكلم اللغة العربية، ولا يعرف حرفا من الانجليزية، مع أنه من أصل انجليزي، وإذا أتينا بطفل أفريقي وكررنا معه نفس المحاولة فسنحصل على نفس النتيجة، إذن فاللغة لا علاقة لها بالأصل ولا باللون ولا بأي شيء آخر غير السماع. وآدم حين خلقه الله وخلق حواء، لا بد أنه كان بينهما طريقة للتفاهم وإلا كيف تفاهما؟
لا بد أنه كان بينهما لغة ما تفاهما بها، ثم جاء أولاد آدم فكان بين آدم وحواء وأولادهما لغة للتفاهم سجلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في قوله تعالى:
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 52
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين )المائدة 27.
إذن فالثابت يقينا من القرآن الكريم أنه كانت هناك وسيلة للكلام بين آدم وأولاده، وإذا كنا قد أثبتنا بالدليل المادي أن الإنسان لا يمكن أن يتكلم إلا إذا كان قد سمع، وأن اللغة أساسها السماع، فلا بد أن آدم قد سمع حتى يستطيع أن يتكلم، فإذا قال لنا الله سبحانه وتعالى: ( وعلم آدم الأسماء كلها ) البقرة 31
إذن فلا بد أن يكون آدم قد سمع الأسماء من الله سبحانه وتعالى، وبما أن السمع هو وسيلة النطق بالكلام، فكأن سماع آدم للأسماء من الله هو الذي علمه الكلام بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) البقرة 31 /33 .
أي أن آدم تكلم وأنبأ الملائكة بالسماء التي علمها الله له، وإذا كان آدم نطق وتكلم فلا بد أنه سمع من الله سبحانه، وحواء سمعت من آدم فتكلمت، وأولاد أدم وحواء سمعوا منهما فتكلموا.
الكلام من السماع
هناك بعض الناس يقول: إن الإنسان الأول لم يكن يتكلم، وإنما كان يتفاهم بالإشارة ثم بعد ذلك تكلم، ونقول: إن هذا غير صحيح، لأن أي إنسان لكي يتكلم لا بد أن يسمع أولا، فممن سمع أول إنسان تكلم سواء كان آدم أو من بعده؟ إن الكلام لا يأتي إلا بالسماع، والذين يتفاهمون بنفس الأسلوب، إلا إذا سمعوا من غيرهم، حينئذ تبدأ عندهم ملكة الكلام، والصم والبكم الذين يعالجون من هذا الداء، إذا لم يسمعوا فلن يتكلموا.
فإذا قال أحدهم: إن البشر يتحدثون بلغات مختلفة ولهجات مختلفة، نقول: إن هذا دليل لنا وليس علينا أن اللغة مصدرها البيئة أو أي شيء آخر، وأن الكلام ليس صفة وراثية تولد مع الإنسان ولكنها صفة سمعية فلا بد من السمع أولا.
وهكذا تعطينا القرائن كلها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي علم البشرية الكلام بأن علم آدم الأسماء كلها، ولا يمكن أن تكون هناك بداية- علما ولا عقلا – إلا هذه البداية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم.
لفظ الجلالة وإعجاز التحدي
وإذا كنا نريد أن نمضي في هذا الإعجاز فأمامنا مجالات كثيرة، لفظ الجلالة، كلمة “الله” سبحانه وتعالى، من أين جاءت، إن الثابت لغويا أن المعنى لا بد أن يوجد أولا ثم يوجد اللفظ والاسم، فإذا لم يوجد المعنى فلا يوجد اللفظ في اللغة، وكل الاختراعات الحديثة التي لم تكن البشرية تعرف
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 53
عنها شيئا، لم توجد لها أسماء إلا بعد أن وجدت وعرفناها، والإنسان لا يستطيع أن يفهم الكلام إلا إذا كان المعنى موجودا في عقله، ولذلك فان المجامع اللغوية في العالم تضيف كل فترة ألفاظا لمعان لم تكن موجودة ثم وجدت، فكان لا بد أن توجد لها ألفاظ تعبر عنها.
وعلى أي حال فان العقل البشري يعجز عن فهم أي لفظ إذا لم يوجد في عقولنا المعنى أولا، حتى انك إذا حدثت أي إنسان بلفظ لا يفهمه، فلا بد أن يعرف المعنى أولا ثم بعد ذلك يفهم اللفظ، ولكن الله سبحانه وتعالى غيب عنا، لم يره أحد، ومع ذلك فان لفظ الجلالة موجود في كل لغات العالم، والعقول كلها تفهمه، فكيف يمكن أن يحدث هذا؟ إلا إذا كان في داخلنا الإيمان الفطري الذي يعرفنا معنى لفظ الجلالة.
وهنا تأتي الآية الكريمة لتبين لنا هذا الإعجاز فيقول الله سبحانه وتعالى: ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذري تهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) الأعراف 172
إذن فلا بد أن الله قد أشهدنا على نفسه، وعندما ذكر لفظ الجلالة فهمناه، ولا بد إن الله سبحانه وتعالى أشهد البشرية كلها، لأنه لا توجد لغة في العالم ليس فيها لفظ الجلالة، بل إن التحدي والإعجاز الإلهي يمضي أكثر من ذلك، فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ( رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته) مريم 65
وهكذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى إن لفظ الجلالة لن يطلق على أحد غير ذاته الكريمة، وهكذا تحدى الله البشرية كلها في أمر اختياري، فالاسم هو شيء من اختيار الإنسان، ويوجد في هذا الكون الكفرة والملحدون وشياطين الإنس وغيرهم، فهل سمعت عن واحد سمى نفسه الله، أو سمى ابنه الله؟ لم يحدث ولن يحدث، لأن الحق سبحانه وتعالى اختص بهذا الاسم ذاته الكريمة، فلا يمكن لبشر أن يتخطى مراد الله ليطلق لفظ الجلالة على نفسه أو أحد أولاده، بل إن الذين ادعوا الإلوهية مثل فرعون وغيره، ونصبوا أنفسهم آلهة يعبدون من دون الله، لم يجرؤ أحد منهم ولم يخطر على باله أن يسمي نفسه الله.
وهكذا جاء التحدي للبشر جميعا في أمر اختياري ليؤكد للدنيا كلها أن أحد لا يستطيع أن يخالف مراد الله في كونه، ولو كانت هذه المخالفة في منطقة الاختيار للإنسان، ولو كانت هذه المخالفة من ملحد محارب لدين الله يريد الإضلال في الأرض، أيوجد دليل مادي أكبر من هذا؟
التعداد دليل مع القرآن
فإذا تركنا الأدلة اللغوية فإننا سنجد هناك دليلا إحصائيا على وجود الحق سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول:
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 54
( يا أيها الناس إن ا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عندالله أتقاكم) الحجرات 13.
الحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن الخلق بدأ من ذكر وأنثى وهما آدم وحواء، ثم جاء منهما كل هذا الخلق الذي نراه، الدليل الإيماني على ذلك أن الله هو الذي قال، والدليل المادي على ذلك هو أن علم الإحصاء يقول ذلك، فإذا تتبعنا البشر في الكون نجد أن تعداد الناس في العالم اليوم يصل إلى كذا بليون نسمة.
فإذا فرضنا مثلا أن تعداد سكان العالم اليوم خمسة آلاف مليون، فكم كان عدد سكان العالم منذ قرن مضى، سنجد أن تعدادهم أقل، كان مثلا أربعة آلاف مليون ومنذ ثلاثة قرون مثلا كم كان عدد سكان العالم؟ طبعا كانوا أقل.
ومنذ عشرين قرنا من الزمان كم كان عدد سكان العالم؟ نقول إنهم كانوا بضعة ملايين، ومنذ ثلاثين قرنا من الزمان كم كان عدد سكان العالم؟ نقول كانوا مليونين أو ثلاثة، إذا كلما عدنا بالزمان إلى الوراء نجد أن عدد البشرية يتناقص، وكلما تقدمنا بالزمن نجد أن عدد البشرية يتزايد، أليس هذه حقيقة إحصائية.
أيستطيع أحد من الماديين أو غير المؤمنين أن ينكر أنه كلما عدنا بالزمن إلى الوراء، فان عدد البشر يتناقص؟ وإذا كانت هذه القاعدة المعترف بها، فمعنى ذلك أنه كلما عدنا إلى الماضي تناقص عدد البشر، ويظل عدد البشر يتناقص ويتناقص حتى نصل إلى نقطة البداية التي بدأت عندها حياة البشر، فتكون هذه النقطة من ذكر وأنثى.
إذن التناقص في الأعداد البشرية الذي عرفناه وسجلناه بالإحصاءات لا بد أن ينتهي إلى البداية التي بدأ منها تكاثر هذا الخلق وهما الذكر والأنثى، وكلما مر الزمن زادت أعداد البشر حتى وصلنا إلى تعداد العالم الآن.
فلو أن تعداد البشر كان يتناقص مع الزمن، أي أن الدنيا بدأت بألف مليون إنسان وانتهت في عصرنا بمائة مليون، لكان ذلك يؤكد لنا أنه من المستحيل أن تكون البشرية قد بدأت بذكر وأنثى، لأن الدليل العلمي سيكون في هذه الحالة شاهدا على أن ذلك لا يمكن أن يحدث.
ولكن كون البشر يتزايد عددهم مع مرور الزمن ويتناقص عددهم كلما عدنا إلى الوراء في الماضي، حتى أنه في العصور الأولى لم تكن إلا أجزاء صغيرة من الأرض يعيش فيها الناس،
والباقي لا يوجد فيه أحد فهذا يعطينا الدليل على أن البداية كانت من ذكر وأنثى.
فإذا ذهبنا إلى التاريخ فنحن نجد فيه الدليل المادي على وجود الله سبحانه وتعالى، وعلى علمه وعلى معجزاته، اقرأ قوله تعالى في هذه السورة الكريمة: ( ألم تر كيف ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميمهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول) الفيل
هذه معجزة لم يأت بها رسول الله، ولم تنزل لتثبيت الإيمان على قوم نبي كان يدعو قومه للإيمان وهم لا يؤمنون، ولكنها حدثت لإثبات القدسية والحماية لبيت الله الحرام.
ولقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، وكانت هذه المعجزة علامة على أن دين الله الذي سينزل على هذا الرسول إذا تخلى عنه البشر جميعا، فان الله جل جلاله سيحميه ويحفظه.
والقصة معروفة وبطلها ملك الحبشة في ذلك الوقت أبرهة، الذي بنى بيتا ليحج إليه الناس بدلا من الكعبة، وجاء بعض الأعراب وألقوا فيه القاذورات، فصمم أبرهة أن ينتقم بهدم الكعبة، وأخذ جيشا
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 55
ضخما وعددا من الأفيال وذهب إلى مكة، فلما رأى أهل مكة هذا الجيش هربوا وفروا، فجاء الطير وألقى عليهم بحجارة من جهنم قضت على أبلاهة وجيشه وأفياله في دقائق.
القصة يرفض تصديقها عقل غير المؤمن، إذ كيف يمكن لطائر صغير أن يقضي على جيش من الأفيال، بينما لو وقفت مئات من الطير على جسد فيل واحد لا يحس بها.
ولقد توقف بعض العلماء عند هذه السورة الكريمة فقالوا: إن الله أرسل جراثيم لتقضي على أبرهة وجيشه، وكأنهم يريدون أن يسهلوا الأمر على الله، مع أن الله على كل شيء قدير، نقول: لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل، وبعث في الأربعين، ونزلت هذه الصورة في مكة بداية الدعوة الإسلامية، وكان الكفار هم القوة والعزة، والمسلمون هم القلة والضعف، وكان الكفار يبحثون عن أي شيء للطعن في الدين الإسلامي.
نقول: إن هذه السورة نزلت في مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم كلفه الله بالرسالة وعمره أربعون سنة، أي أن هناك من أهل مكة من كان يبلغ الخامسة والخمسين والستين من عمره والسبعين وقد شهدوا هذه المعجزة، ورأوها رؤية العين، ولو أن الطير لم تأت وجيش أبرهة لم يتم إفناؤه في لحظات، لقال هؤلاء الناس: إن هذا الكلام غير صحيح، ولقد كنا موجودين في مكة في هذا الوقت ولم نر طيرا جاءت ولا جيشا أفنى، ولطعنوا بذلك في الإسلام وفي القرآن وفي أنه كلام الله ولكن كون الطير جاء، وكون المعجزة تمت، لم يجرؤ أحد من أعداء الإسلام أن يطعن فيه.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه وتعالى دليلا من التاريخ لمعجزة مشهودة حدثت، ويعطينا معها الدليل على صدق حدوثها، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكرناه سابقا عن قوله تعالى: ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) الروم 1 /5
لوجدنا دليلا تاريخيا آخر، ثم يأتي بعد ذلك دليل ثالث يضاف إلى هذه الأدلة التاريخية.
شهادة التاريخ
نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى عندما يذكر في القرآن الكريم شيئا عن حاكم مصر في عصر موسى عليه السلام، كان يسميه فرعون، أي أن الذين حكموا مصر أطلق عليهم القرآن اسم الفراعنة، فيقول تعالى:
( قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) الزخرف 51
وهذا يتفق مع التاريخ أن الذين حكموا مصر في العصور القديمة هم الفراعنة، إذن حكام مصر القدامى فراعنة، والقرآن سماهم فراعنة، فإذا أتينا إلى سورة يوسف عليه السلام وجدنا أن الله سبحانه وتعالى، وهو يروي لنا قصة يوسف في مصر، لم يلقب حاكم مصر بفرعون، بل لقبه بالملك فقال تعالى: ( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) يوسف 54.
وقوله تعالى: ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف) يوسف 43
إذن فثابت من القرآن الكريم أن يوسف عاش في مصر، وأنه خلال وجوده في صر اختلف في القرآن الكريم اسم حاكم مصر، فلم يكن يلقب بفرعون، بل لقب باسم الملك، ويمضي الزمن ويكتشف حجر رشيد ثم تحل رموز اللغة المصرية القديمة، ويثبت أن يوسف عليه السلام عاش في مصر في الفترة التي احتلها فيها الهكسوس، وأن هؤلاء لم يكونوا من الفراعنة، وأن حاكمهم
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 56
كان يطلق عليه الملك، ولم يكن يطلق عليه اسم فرعون، وأن المصريين طردوا الهكسوس، وعاد الفراعنة إلى الحكم مرة أخرى، من الذي أنبأ محمدا عليه الصلاة والسلام بهذه الحقائق التاريخية التي لم يعرفها العالم إلا في الفترة الأخيرة بعد اكتشاف حجر رشيد؟ وكيف علم أن يوسف كان في عهد الهكسوس وأن موسى كان في عهد الفراعنة.
وهكذا يأبى الله تعالى إلا أن يعطينا الدليل المادي التاريخي على إعجاز هذا القرآن، وعلى أن الله يعلم ما في الدنيا والآخرة، وأنه بكل شيء عليم، وحتى يظهر ذلك لعباده بالدليل المادي على إعجاز هذا القرآن، وعلى أن الله يعلم ما في الدنيا والآخرة، وأنه بكل شيء عليم، وحتى يظهر ذلك لعباده وبالدليل المادي جاء بحقيقة تاريخية لم سكن يعلمها أحد من البشر وقت نزول القرآن، وذكرها في كتابه العزيز، حتى إذا تقدم الزمن وكشف الله لخلقه ما شاء من علمه، وفي الوقت الذي تظهر فيه هذه الحقيقة وتخرج إلى علم البشر، حتى تكون معجزة من معجزات القرآن ويظهرها الله، بعد نزول القرآن الكريم بعدة قرون.
على أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى من أسرار ملكه ما شاء لمن يشاء، وكشف عما شاء من علمه لمن شاء، ولكنه احتفظ لنفسه بعلم بدء الحياة أو الخلق، وبعوامل استمرار الحياة، وبنهاية الحياة وهي الموت، فمهما تقدم العلم وازدهر، وكشف الله من أسرار كونه، فان الله هو الذي يحي ويميت، وسيظل يحيي ويميت إلى أن تأتي الآخرة ويتم الحساب، وتقبض روح ملك الموت فلا يصبح هناك موت ولكن خلود، إما في الجنة وإما في النار.
الحياة من الله
تأمل قول الله تعالى في سورة الشعراء: ( الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين ) الشعراء.
وإذا أردنا أن نتأمل ما جاء في هذه الآيات ونستعرض الإعجاز فيها بإيجاز نجد أن قضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، فهو وحده الخالق، والكل عاجز، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنه يقدر على خلق شيء ولكن قضية الموت فيها جدل فإذا قرأت قوله تعالى: ( إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت) البقرة 258
والآية تروي قصة الحوار بين من آتاه الله الملك وإبراهيم عليه السلام، فلما قال إبراهيم: ربي يحي ويميت، أخذت من أتاه الله الملك العزة فقال: أنا أحيي وأميت، وجاء يرجل من رعيته، فحكم عليه بالإعدام وقال: هو ميت، ثم عفا عنه وقال: أحييته!! .
نقول : إن الناس لا تنتبه للفرق بين القتل والموت، فالقتل هو إفساد لجسد الإنسان يجعل الجسد غير صالح لبقاء الروح فيه فتغادره، ولكن الموت هو إخراج الروح من الجسد دون هدم أو إفساد للجسد، ولذلك فر ق الله بين الاثنين في القرآن الكريم فقال: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم )آل عمران.144
وقال جل جلاله: ( ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) آل عمران 158.
إذن الموت لله وحده، وهو الذي يميت، ولكن القتل وهو غير الموت يمكن أن يتم على يد عباد
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 57
ولأن الله هو الذي يميت، فلا أحد ينجو من الموت أبدا، لأن أمر الله نافذ على خلقه، ولأن الإنسان يمكن أن يتم على يده القتل، فهناك من ينجو من القتل مرة ومرات لأن أمر الإنسان غير نافذ في الكون، ثم تقول الآية الكريمة: ( والذي هو يطعمني ويسقين) .
ويلاحظ في الآية الأولى أن الحق سبحانه وتعالى لم يستخدم أسلوب التأكيد فقال: ( الذي خلقني فهو يهدين) ولم يقل هو الذي خلقني لأنه لا احد ينازع الله في الخلق ولكن الطعام والشراب جعلهما الله أسبابا للإنسان، فجاء التأكيد هنا ليلفتنا إلى أن هذه الأسباب ليست هي الأصل، وإنما كل شيء من الله، فالحبة في أي نبات خلقها الله سبحانه وتعالى ووضع فيها خصائصها، وخزن فيها الغذاء الذي يلزمها حتى تستطيع جذورها أن تضرب في الأرض لتأخذ منها عناصر الحياة وهو الذي أعطاها خصائصها، وخلق لها الأرض التي تزرع فيها، وأنت تضع الحبة في الأرض فتظل تتغذى على المخزون فيها من الغذاء الذي وجد فيها بقدرة الله، ثم بعد ذلك تمتص من عناصر الأرض ما يلزمها فقط تترك الباقي ثم تظل تنمو وتنمو حتى تثمر بقدرة الله وليس بجهد البشر، فكأن الطعام كله من الله سبحانه وتعالى.
والشراب أيضا من الله
فإذا جئنا للشراب نجد أن كل ما يشربه الإنسان هو من الله سبحانه وتعالى، فالماء ينزل من السماء عذبا سائغا بقدرة الله، واللبن نأخذه من الحيوان وهو مخلوق بقدرة الله.
ولقد حاول العلم أن يصنع البن فجاء باللبن الطبيعي وحلله إلى عناصره، ثم جاء بهذه العناصر وخلطها مع بعضها البعض بنفس النسب الموجودة في اللبن الطبيعي، ثم جاء بعشرين فأرا سقى عشرة منها اللبن الطبيعي والعشرة الباقية سقاها اللبن المصنوع من نفس العناصر، فنمت الفئران التي سقيت اللبن الطبيعي وماتت الفئران التي سقيت اللبن الصناعي.
ومازال العلم حتى الآن عاجزا عن أن يصنع نقطة لبن واحدة، بل إن بعض دول العالم التي تعاني نقصا شديدا في اللبن لا تستطيع أن تحل الأزمة، فتحرم اللبن على الكبار ليكون متوفرا للصغار، ومنها الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا الجنوبية وغيرها من دول العالم، ومن الإعجاز الإلهي إن هذا اللبن تعطيه لنا حيوانات يجري في عروقها الدم، فلا يختلط الدم واللبن أبدا، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ( وان لكم في الأنعام لعبرة تسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) النحل 66.
على أن العلم البشري كله عاجز حتى الآن عن أن يسقي الناس الماء أو اللبن، فالإنسان الذي وصل إلى القمر عاجز عن أن يصنع ترعة صغيرة، أو كوبا من اللبن، أما باقي الأشياء التي يشربها الإنسان فهي ما أوجدها فيها من ثمر يضاف إليها الماء أو لا يضاف.
الشفاء والمرض من الله
فإذا جئنا إلى قوله تعالى: ( وإذا مرضت فهو يشفين) الشعراء80 .
الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى محمد متولي الشعراوي 58
نجد أن هناك جدلا كثيرا حول هذه الآية، فالناس تقول إن الطبيب هو الذي يشفي! ولكن الحقيقة هي أن الشفاء بيد الله وحده، وأن الطبيب يعالج فقط، وقد يأتي على يده الشفاء، وقد يخطئ في العلاج فيكون على يده الموت.
والله سبحانه وتعالى جعل لكل داء أجلا في الشفاء، ولذلك يحدث كثيرا أن طبيبا مبتدئا يكتب الدواء الصحيح لمريض عرض نفسه على أكبر الأطباء فلم يعرفوا لدائه دواء وفي هذه الحالة قد يتعجب الناس ويقولون إن حديث الطبيب الحديث التخرج أعلم من أساتذته!
نقول لهم: هذا تفسير خاطئ فالأستاذ قطعا أعلم من تلميذه، وهو الذي علمه، ولكن قدر الله سبحانه وتعالى بالشفاء جاء فكشف الله عن الداء لهذا الطبيب المبتدئ فكتب الدواء وتم الشفاء.
وليس معنى أن الله هو الشافي ألا نلتمس الوسيلة للعلاج، فنحن في هذه الدنيا أمرنا الحق سبحانه وتعالى أن نأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك نتوكل على الله في النتائج.
والآية الكريمة تقول بعد ذلك( والذي يميتني ثم يحيين( الشعراء 81.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يستخدم أسلوب التأكيد فيقول: وهو الذي يميتني ثم يحيني، لأنه لا أحد يستطيع أن ينازع الله في الموت أو البعث، فإذا جاء الموت فلا أحد يستطيع أن يتأبى عليه، أو يقول: لن أموت، وإذا جاء البعث، فالله وحده القادر على بعث الموتى، وبذلك نكون قد أثبتنا بالدليل المادي أن بداية الحياة واستمرار الحياة ونهاية الحياة، هي من قدرات الله سبحانه وتعالى وحده.
وإذا كنا قد جئنا إلى نهاية هذا الكتاب فنرجو من الله سبحانه وتعالى أن يكون هدانا إلى ما يثبت الإيمان في القلوب، وما يرد على أولئك الملحدين الذي يدعون أنه لا توجد أدلة مادية في الكون على وجود الله، ونرجو من الحق جل جلاله أن يتقبل منا، انه هو السميع العليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
انتهى النقل والحمد لله
بيروت 11 تموز 2002
الموفق في 1 جمادي الأولى 1423
الفوائد الستة من أدلة وجود الله للموقن أصلا بوجوده
إخواني في سلْسلتنا لبناء اليقين سنبدأ بإثبات وجود الله تعالى؛ فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه كلُّ شيءٍ
المتابع المسلم قد يقول: حسنًا أنا مؤمن بوجود الله؛ إذًا هذا الكلام ليس لي
في الحقيقة -إخواني- حتَّى المؤمن بوجود الله إيمانًا عميقًا يحتاج إلى هذه الحلقات
لماذا؟ سأذكر ستَّ فوائد مُهمَّة
يمكن أن نُعنونها بِـ:
تعميق الجذور
إحسان الظَّن بالله
تكوين الدَّافعية
الثَّبات والتَّثْبيت
إدراك النِّعمة
إحياء العزَّة
الفائدة الأُولى -إخواني- هي تعميق الجذور:
فاليقين على درجاتٍ وليس درجة واحدة.
كيف؟ أَليْس الإنسان إما مصدقًا أو شاكًّا أو مُكذِّبًا؟ ألَيْس اليقين تصديقًا جازمًا لا يخالطه شكٌّ؟
بلى ولكن هذا التصديق -بِدَوْره- على درجات؛ أنتَ حين تُصدِّق بوجود الله تصديقًا جازمًا حاسمًا لا يخالطه شكٌّ، فقد اجتزْت الخطَّ المطلوب أي أفْلَتَّ من جاذبيَّة الشُّكوك والتَّردُّد-، لكنَّ النَّاس بعدَ ذلك يتفاوتون في التَّحليق.
ومن أهمِّ سِقائها التَّفكُّر الذي حثَّ عليه ربُّنا بِقوْله: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ﴾
ومن أعظمِ التفكُّر تأمُّل أدلَّة وجود الله عزَّ وجلَّ ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾
أَدرَك إبراهيم الخليل -عليه السَّلام- تفاوت مراتب اليقين، وهو من هو في قوَّة يقينه ومع ذلك، أراد أعلى درجاته
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ﴾
أي: لديَّ إيمان ويقين سالم من الشكِّ ﴿وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ سلسلتنا هذه هي لتنعُم ببرْد اليقين وطُمأنينته
الفائدة الثَّانية: إحسان الظَّنِّ بالله
فطريقتنا في تناول أدلَّة وجود الله تعالى لن تكون جافَّة بل المقصود منها بالإضافة إلى تعميق اليقين بوجوده، هو أيضًا تعميق المحبَّة لله تعالى واليقين بعدْله وحِكْمته ورحمته كُلَّما نظرْتَ في أدلَّة وجود الله، ثُمَّ في أدلَّة صحَّة دينه، تزداد يقينًا برحمته سبحانه أن أقام كُلَّ هذه الشَّواهد، وتقول في نفسك: يا الله، كُلُّ هذه الشواهد! كُلُّ هذه الأدلَّة! ما أرحمك ربِّي بعِبادك!
ستزداد يقينًا بعدل الله تعالى، حين يعاقِب أناسًا كفروا به بعد هذا كلِّه، وتعلَم حقًّا أنَّه ليس للنَّاس على الله حُجَّة بعد هذا كلِّه ولا عُذْر.
الفائدة الثَّالثة: تكوين الدَّافعيَّة
فاليقين -بالمفهوم الذي شرَحناه- هو قوَّتك الدَّافعة لكُلِّ شيءٍ بعد ذلك، هو المحرِّك الذي بحسب قوَّته تنطلق وتستطيع تجاوُز العقبات، وصعود الجبال.
كُلَّما أحْكمْتَ مسألة اليقين، فإنَّه ليس أمامك إلَّا العمل، والانطلاق بهِمَّة وحيويَّة في طريق الجَنَّة، وتتفجَّر ينابيع طاقاتك المذخورة في خدمة دين الله، والاستقامة على أمره، والدَّعوة إليه بعزْمٍ وثباتٍ ومُثابرة.
كُلَّما سَقيْتَ اليقين تجدَّد النَّشاط وتلاشى الفُتور لذلك فأوَّل وصْفٍ وَصَف الله به المتَّقين في كِتابه الكريم في مَطْلع سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، الذين يؤمنون بالغيب هذا هو المحرِّك لكلِّ شيء، في حين إذا كان هناك خللٌ في الجذور، فسيسْري الأثَرُ في الثَّمرة.
الفائدة الرَّابعة: الثَّبات والتَّثبيت
فنحن في زمنٍ هو زمن فِتَن، وكم خَلعَتْ هذه الفِتَن أُناسًا من إيمانهم!
واجب المسلم أن يُحصِّن نفْسه، ويَضرِب جذور يقينه في الأرض ليثبُت أمام عواصف الفِتَن، ويُثبِّت مَن حوله.
تأمَّل معي قول ابن تيمية رحِمه الله: “فعامَّة النَّاس إذا أسلموا بعد كُفْرٍ أو وُلِدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهْلِ الطَّاعة لله ورسوله، فهم مسلِمون، ومعهم إيمان مُجْمَل، ولكنَّ دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنَّما يحْصُل شيئًا فشيئًا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثيرٌ من النَّاس لا يصِلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شُكِّكوا لَشكُّوا ولو أُمِروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كُفَّارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدْرأ الرَّيْب”.
إذًا، هؤلاء أُناسٌ عندهم إيمانٌ مُجْمَل، لكنَّه ليس عميقًا في نفوسهم، فهُم على خطر.
الفائدة الخامسة لك كمسلمٍ من مراجعة أدلَّة وجود الله -تعالى- هي:
إدراك نعمة الله عليك
وأنت ترى الفرق الكبير بين المؤْمِن بوجود الله، والمنكِر له، تستشعر كما لم تستشعر مِن قبْل معنى كثيرٍ من الآيات: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ولَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ولَا الظِّلُّ ولَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾
تُدرِك بعمقٍ معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ﴾
تدرِكُه وأنتَ ترى تبِعات إنكار الله، كيف يهوِي صاحبه في مكانٍ سحيقٍ؛ فيزيد ذلك تمسُّكَك بدينك، وانحيازًا له وإدراكًا لنعمة الله عليك.
الفائدة السَّادسة: هي إحياء العِزَّة
مع تأمُّل أدلَّة وجود الله تُحسُّ بالعزَّة والانسجام مع نفسك، وأنت تُظهِر شعائر دينك وتدعو إليه؛ لأنَّك تدرِك أنَّك على الحقِّ المبِين، وأنَّ هذا الذي تُظهرُه، وتدعو إليه، وضعُفَ فيه الآخرون من شعائر دينك، دعوتك، أمْرِك بالمعروف، نهْيِك عن المنكر، أنَّها كلَّها مستنِدَةٌ في الأساس إلى الحقيقة العظمى والعليا، التي لا تتردَّد في صحَّتها لحظة
لأجل هذه الأسباب كلِّها فإنَّ هذه الحلقات التي نتناول فيها أدلَّة وجود الله تعالى، لن تكون نافعةً ومهمَّةً للمتردِّد أو المنكر الباحث عن الحقيقة فحسْب، بل ولكلِّ مسلم، لتُعمِّق جذورك، وتُحسِن ظنَّك بربِّك، وتُقوِّي دافعِيَّتك وتَثْبُت، وتُثَبِّت، وتُدرِك نعمة الله عليك، وتُحِييَ العزَّة في نفسك بإذن الله تعالى.
الله غيب. هل معناه أن وجوده غير يقيني ؟
من المفاهيم الخاطئة والخطيرة أنَّ كون الإيمان غيبيًا يعني أنَّه شيءٌ غير يقينيٍّ، ليس أكيدًا، احتمالٌ كبيرٌ جدًا لكن لا تستطيع أن تقول: مائةً بالمائة.
يقولون لك: لا أحد يستطيع أن يجزم بصحَّة ما لديه وخطأ الطرف الآخر؛ لأنَّه غيبٌ في النهاية.
وترى مَن يطبِّق ذلك حتَّى على المسألة الكبرى؛ على وجود الله تعالى، ويقول: “الإيمان هو أن تؤمن بشيءٍ دون وجود كلِّ الأدلَّة الحاسمة والقاطعة عليه، الإيمان يحتاج إلى قفزة إيمان؛ أي إلى شيءٍ لا يمكن البرهنة عليه بشكلٍ قطعيٍّ، الإيمان يحتاج هذه القفزة الشجاعة في الفراغ”..
ومثل هذه العبارات التي تجعل الإيمان بوجود الله وبالغيب عمومًا أمرًا حَدْسِيًّا، تخمينيًّا، لا قطعيًّا يقينيًّا، تجعله أمرًا بغلبة الظنِّ، احتماله كبيرٌ لكنَّه دون المائةً بالمائة.
فهل الإيمان بوجود الله هو كذلك فعلًا في المنظومة الإسلاميَّة؟
يقينًا لا؛ بل الإيمان بوجود الله هو إيمانٌ بما تدلُّ الأدلة عليه بشكلٍ قطعيٍّ حاسمٍ لا يقبل الشكَّ ولا التردُّد، وكونه غيبًا لا يعني أبدًا أنَّه لا يمكن الجزم به؛ غيبٌ لا يساوي مبهمًا أو غامضًا، ولا يعني أنَّ الإيمان بالله هو موقفٌ عاطفيٌّ تسليميٌّ محضٌ؛ بل هو موقفٌ برهانيٌّ استدلاليٌّ فطريٌّ عقليٌّ.
الإيمان بوجود الله هو إيمانٌ يدلُّك عليه العقل والفطرة دون أنْ يمنعك مرض القلب أو اتِّباع الهوى.
والغريب أنَّ هذه المسألة -التي هي أَوْلى بدَهيِّات الإسلام- ليست واضحةً عند بعض مَن يتصدَّى لمحاربة الإلحاد، إنْ كان الإيمان بالله عند بعض أتباع الأديان الأخرى قد اختلط بصورة مشوَّهة عن الله تعالى وصفاته ممَّا جعل أتباع هذه الأديان يحتاجون القفزَ في الفراغ، والتسليمَ غير المستَنِد إلى العقل، فنحن لا نحتاجه في الإسلام -والحمد لله-.
هذه الحلقة للمسلمين، وهي أيضًا للمتشكِّكين الذين قد يظنُّون أنَّنا ندعوهم إلى الإيمان الحَدْسيِّ العاطفيِّ التسليميِّ؛ بل نحن ندعوهم إلى إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مُبرْهَنٍ.
كما أنَّ التسليم الذي ندعو الناس إليه ليس في مسألة وجود الله، التسليم ليس هنا؛ بل التسليم هو في أمورٍ في تفاصيل الإسلام المبنيَّة على إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مُبرْهَنٍ القرآن الذي ندعو إليه يقول: ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ﴾ [القرآن 15:49]؛ أي: آمنوا إيمانًا يشمل التصديق الجازم الذي لا يُخالطه شكٌّ، وليس غلبة ظنٍّ، ولا إيمانًا احتياطيًّا، ولا إيمانًا اعتباطيًّا، نؤمن هكذا مع أنَّنا نرى أنَّ الأدلة على وجود الله غير قطعَّيةٍ؛ بل المنظومة الإسلامية تنصُّ على أنَّ وجود الله -عزَّ وجلَّ- هو الحقيقة الكبرى بل الله نَفْسُه هو الحقُّ، ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل﴾ .
ولشدَّة بداهة وجود الله تعالى فإنَّ القرآن لا يجعل هذه القضية محور أدلَّته ومناقشاته؛ بل يدلِّل على شيءٍ زائدٍ عن مجرَّد الوجود كالتوحيد وصفات الله تعالى، أمَّا الوجود نفسُهُ فقضيَّةٌ محسومةٌ؛ ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
آيةٌ تتضمَّن الدليل الفِطريَّ والدليل العقليَّ:
أفي الله شكٌّ؟
أيْ هل في وجوده شكٌّ؟
أو هل في وحدانيَّته شكٌّ؟
فوجوده ووحدانيته أمرٌ فطريٌّ مغروسٌ في النفس لا يُشَكُّ فيه، والبرهانُ العقليُّ أنَّه فاطرُ السماوات والأرض؛ فكلُّ ما في الكون يدلُّ صحيحَ العقل سليمَ القلب على وجود الخالق.
في مُحاجَجَةِ موسى لفرعون: قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين﴾؛ أيْ: بالنظر إلى هذه الكائنات فإن ربّ العالمين أَعْرَفُ مِن أنْ يُنكَر، وأظهرُ مِن أنْ يُشكَّ فيه..
“إنْ كنتم موقنين”؛ أي: إنْ كنتم مِن أهل اليقين بأيِّ شيءٍ، فإنَّ اليقين بهذا الربِّ أَوْلى مِن كلِّ يقينٍ، وإنْ قلتم: “لا يقينَ لنا بشيءٍ”، فأنتم كاذبون؛ فكلُّ إنسانٍ لا بدَّ له مِن يقينٍ بأمورٍ بَدَهيَّة ضروريَّةٍ…
إلى أنْ قال فرعون: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾
فردَّ عليه موسى: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ؛ أي: إنْ أنكرتم اللهَ فأنتم أَوْلى بوصف الجنون؛ لأنَّكم سُلِبتُم العقلَ النافعَ..
فالعقل ما هو؟
هو في الأساس علومٌ ضروريَّةٌ مثل مبدأ السببيَّة، وهي تدلُّ على الخالق سبحانه، فإنْ كان لكم يقينٌ عَرَفتُم اللهَ، وإنْ كان لكم عقلٌ عرَفْتُم اللهَ.
بنفس المعنى أيضًا تأمَّل معي مَطلع سورة الجاثية: ﴿إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آياتٌ لقوم يوقنون * واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آياتٌ لقوم يعقلون * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}﴾
نفسُ المفاهيم التي في حوار موسى لفرعون:
(يوقنون)؛ فالذي عنده يقينٌ فأَوْلى اليقينِ اليقينُ بالله وبآياته الكونيَّة.
(يعقلون)؛ فمَن عنده عقلٌ فلن ينكر ربَّه، ولن تكون عنده مشكلة في أن يؤمن بالغيب وحينئذٍ.
﴿إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين ﴾ .
﴿فبأي حديث بعد الله وآياته تؤمنون﴾ .
فالذي لا يؤمن بالله وآياته الكونيَّة مع شدَّة ظهورها فأَوْلى به ألَّا يؤمن بشيءٍ؛ لأنَّ الله وآياته أَظْهَر ما يمكن أن يؤمن به إنسانٌ؛ ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾
﴿لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾؛ فالذي لا يؤمن بالله كأنَّه ما أبصَرَ ولا سَمِع ولا أحسَّ ولا عَقِل..
وقال تعالى: ﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين﴾ ؛ لله الحُجَّة الدَّالَّةُ على صِدق كلامه، (البالغة) أيْ: الواصِلة إلى ما قُصِدت لأجله، وهو أن يُغلَب الخصم وتَبْطُل حُجَّته.
هذا كلُّه في إثبات صفات الله تعالى ووحدانيَّته وتفاصيلَ مِن دِينِه..
هلْ هناكَ دليلٌ منَ العلمِ على وجودِ اللهِ؟
الجوابُ باختصارٍ وببساطةٍ: أكثرُ ما يدلُّ عليهِ العلمُ هوَ اللهُ.
قدْ تقولُ: أينَ؟ أرِني اللهَ.. أوْ أسمِعْني اللهَ..!
فنقولُ: أنتَ لمْ تسألْ: هلْ نرى أوْ نسمعُ اللهَ كما نرى أوْ نسمعُ المحسوساتِ؟
ولوْ كان هذا سؤالَكَ لقُلْنا لكَ: لا طبعًا!
لكنَّكَ سألْتَ: هلِ العلمُ يدلُّ على اللهِ؟
العلمُ مركَّبٌ منَ الحسِّ والعقلِ، فالإنسانُ ليسَ آلةً صماءَ أو آلة تصوير نلتقطُ بها صورًا ثمَّ ننظرُ في شاشتِها، هلْ نرى اللهَ فيها؟
بلِ الإنسانُ يحلِّلُ مدخلاتِ الحِسِّ بعقلِهِ، ويخرجُ بنتائجَ وهذهِ العمليَّةُ تبدأُ منَ اللَّحظاتِ الأولى مِن طفولتِهِ وتَترقّى معَ كِبَرهِ بلْ حتَّى الحيواناتُ تستنتجُ منَ المحسوساتِ وتربِطُ الأثرَ بالمؤثِّرِ فتعلمُ منْ رائحةِ الطَّعامِ أنَّ هناكَ طعامًا وراءَهُ؛ فتبحثُ عنهُ، ومنها ما يقصُّ الأثرَ كالكلبِ؛ فيبحثُ عنْ صاحبِ هذا الأثرِ.
إذا رأيتَ تفَّاحةً مَقضومةً عليها آثارُ أسنانِ إنسانٍ علمْتَ أنَّ هناكَ إنسانًا قضمَها، هذا علمٌ، معَ أنَّكَ لم ترَ هذا الإنسانَ.
إذا سمعْتَ أُنشودةً بصوتٍ جميلٍ علمْتَ أنَّ هناكَ منْ يُنشدُها، هذا علمٌ، معَ أنَّكَ لم ترَ الَّذي أنشدَها.
بلْ هذهِ علومٌ بديهيَّةٌ، ولشدَّةِ بَداهتِها لا يسمّيها النّاسُ علمًا؛ لأنَّ كلمةَ (عِلم) يتبادرُ منها إعمالُ التَّأمُّلِ والتَّحليلِ، وهوَ ما لا تحتاجُهُ في مثلِ هذهِ الأمورِ.
(لكلِّ حادثٍ سببٌ): هذا مبدأٌ عقليٌّ فِطريٌّ بَدهِيٌّ، لا يحتاجُ تعليمًا ولا ذكاءً، ونحنُ نعملُ بقانونِ السَّبَبيَّةِ في كلِّ حركاتِنا؛ فنأكلُ لأنَّ الطَّعامَ سببٌ في سدِّ الجوعِ، ونشربُ لأنَّ الماءَ سببٌ في سدِّ العطشِ، ونلجأُ للنَّومِ كسببٍ للرَّاحةِ، ونعملُ كسببٍ لتحصيلِ العَيشِ. بمبدأِ السَّببيَّةِ هذا تعلمُ أنَّ لنفسِكَ، وللكونِ منْ حولِكَ خالقًا مدبِّرًا، أوجدَ الكونَ، هيَّأهُ للحياةِ، أحكمَ تفاصيلَه، ضبطَ قوانينَه، تظهرُ آثارُ قدرتِه في نفسِك، وحركاتِ الموجوداتِ حولَكَ.
فسُؤالُ: (هلْ هناكَ دليلٌ على وجودِ اللهِ؟)
سؤالٌ غيرُ دقيقٍ؛ لأنَّه ليسَ هناكَ شيءٌ إلّا وهوَ دالٌّ على وجودِ اللهِ..
لوْ دخلْتَ بيتًا ليسَ لكَ، وجلسْتَ على كنبةٍ فيهِ، وأكلْتَ مِن طعامٍ مطبوخٍ على الطَّاولةِ أمامَكَ، فهلْ يصدرُ عنكَ حينئذٍ -إنْ كنتَ عاقلًا- سؤالُ:
هلْ هناكَ دليلٌ على أنَّ لهذا البيتِ بانيًا؟!
ولهذا الطَّعامِ طاهيًا؟
ولهذهِ الكنبةِ صانعًا؟
هلْ هناكَ دليلٌ على أنَّ أيًّا مِن هذهِ الأشياءِ حصلَ بفعلِ فاعلٍ؟!
ألنْ يكونَ سؤالُكَ حينئذٍ مُستفزًّا؟!
قالَ الله تعالى: “قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قومٍ لا يؤمنون”
وقال تعالى “أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء “”
فالسُّؤالُ الصَّحيحُ ليسَ: هلْ هناكَ دليلٌ على وجودِ خالقٍ؟
بلْ، هلْ هناكَ شيءٌ يستطيعُ أنْ يخرجَ وينسلخَ عنْ كونِهِ دليلًا على وجودِ الخالقِ؟
والجوابُ: لا..
وصدقَ ابنُ تيْميَةَ إذْ قالَ: “كلَّما كانَ النَّاسُ إلى الشَّيءِ أحوجَ كانَ الرَّبُّ بهِ أجودَ”، نعمْ؛ فحاجةُ النَّاسِ إلى معرفةِ ربِّهم أعظمُ الحاجاتِ، فترى أنَّ اللهَ يجودُ عليهِم بأدلَّةِ وُجودِه وطُرقِ معرفةِ صفاتِه.
بلْ ومِن أسماءِ اللهِ تعالى (الظَّاهرُ)، قالَ ابنُ الجَوزيِّ في (زادِ المسيرِ) في تفسيرِ قولِهِ تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [القرآن 57 :3] قالَ: “الظَّاهر بحُججِه الباهرةِ وبراهينِه النَّيِّرةِ، وشواهدِهِ الدّالَّةِ على صحَّةِ وَحدانيَّتِهِ”، فاللهُ ظاهرٌ، مُدرَكٌ بالعقولِ والدَّلائلِ، وهوَ في الوقتِ ذاتِه باطنٌ؛ لأنَّه غيرُ مُشاهَدٍ، كسائرِ الأشياءِ المُشاهَدةِ في الدُّنيا.
هذا هو الدَّليلُ بإحكامٍ وبساطةٍ ووُضوحٍ وعُمقٍ، كلُّ الكائِناتُ في الوجودِ تدلُّ على وجودِ اللهِ، فكلُّ ما تُشاهدُه ليسَ كائِناتٍ عَشوائيَّةً؛ بلْ بنيتُها، حركاتُها تدلُّ على أنَّها مخلوقةٌ، أي مصنوعةٌ بإرادةٍ وقدرةٍ، فلا يمكنُ لِـ(اللَّا شيءِ) أنْ يخلُقَها، ولا يمكنُ لها هيَ أنْ تخلُقَ نفْسَها وقدْ كانتْ عدمًا قبلَ أنْ توجدَ، فلا بدَّ من خالقٍ لها متَّصفٍ بالإرادةِ والقُدرةِ والعِلمِ والحكمةِ والعظَمةِ، وسائرِ ما تدلُّ عليهِ مخلوقاتُهُ.
لذلكَ كلِّه؛ فمِنَ الضَّروريِّ والمهمِّ الفصلُ بينَ أدلَّةِ وجودِ اللهِ، والرُّدودِ على منكري هذهِ الحقيقةِ البدهيَّةِ.
ثمَّ إنَّ كثرةَ ترديدِ الشُّبهاتِ المثارةِ ضدَّ شيءٍ لا تعني بالضَّرورةِ ضعفَهُ؛ بل في حالةِ وجودِ اللهِ فإنَّ كثرةَ ترديدِ الشُّبهاتِ تعبِّرُ عنْ حالةِ مُصارعةِ المنكرينَ لهذهِ الحقيقةِ الَّتي تهجُمُ عليهِم، وتفرضُ نفسَها عليهِم، فيدافعونَها بكلِّ شبهةٍ لتسكينِ نفوسِهمُ المضطَربةِ..
﴿أوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾
خلاصة حلقات الأدلة الفطرية على وجود الله ومناقشة الإعتراضات
إخوتي الكرامَ، في هذهِ الحلقةِ نلخِّصُ أهمَّ محاورِ الحلقاتِ التِّسعةِ عن الأدلَّةِ الفطريَّةِ على وجودِ اللهِ -تعالى- ضمنَ سلسلةِ (رحلةِ اليقينِ)، ونجيبُ عنْ بعضِ الاعتراضاتِ الَّتي وردَتْ على هذهِ الحلقاتِ.
بيَّنَّا أنَّ هناكَ فِطْرةً موجودةً في الإنسانِ، وشرحْنا بعضَ مُكوِّناتِ هذهِ الفطرةِ كنزعةِ التَّديُّنِ، والبدَهِيّاتِ العقليَّةِ، والنَّزعةِ الأخلاقيَّةِ، والشُّعورِ بوجودِ غايةٍ للحياةِ، والشُّعورِ بالإرادةِ الحرَّةِ. وبيَّنَّا دلالةَ كلٍّ منْ هذهِ المُكوِّناتِ على وجودِ اللهِ -تعالى-، وكيفَ أنَّ الموقفَ الإسلاميَّ منْ كلِّ مُكوِّنٍ فطريٍّ هو موقفٌ منسجمٌ وعقلي.
وبيَّنّا أنَّ الإلحادَ -في المقابلِ- يقعُ في مأزقٍ معَ كلِّ مُكوِّنٍ فِطريٍّ، وأنَّ أساسَ هذا المأزقِ هو إصرارُ الإلحادِ على تفسيرِ الوجودِ تفسيرًا مادِّيًّا يرفضُ فكرةَ وجودِ إلهٍ فَطَرَ الإنسانَ على هذهِ المكوِّناتِ الفطريَّةِ.
فرأينا كيفَ يتَّسِمُ الموقفُ الإلحاديُّ بما يلي:
إنكارِ الأشياءِ المسلَّمةِ والمعلومةِ منَ الواقعِ بالضَّرورةِ.
التَّناقُضِ وعدمِ الانسجامِ.
الخروجِ بنتائجَ تَنفِرُ منها النُّفوسُ بَداهةً.
تحقيرِ قيمةِ الإنسانِ وكرامتِهِ.
وإسقاطِ مِصداقِيَّةِ عقلِهِ ومشاعرِهِ.
وبيَّنَّا أنَّ الإلحادَ إذا حاولَ أنْ يَفِرَّ منْ مُشكلةٍ منْ هذهِ المشكلات، فإنَّهُ يقعُ -ولا بُدَّ- في مشكلةٍ أُخرى؛ فإذا حاولَ -مثلًا- أنْ يعترِفَ بالبدَهيَّاتِ العقليَّةِ، فإنَّهُ يقعُ في التَّناقضِ معَ رؤيتِهِ المادِّيَّةِ وإذا حاولَ الانسجامَ معَ رؤيتِهِ المادِّيَّةِ، فإنَّهُ يقعُ في إنكارِ البدَهيَّاتِ العقليَّةِ وإذا حاولَ الإلحادُ أنْ يفِرَّ منَ اللَّاأخلاقيَّةِ الَّتي يؤدِّي إليها، فإنَّهُ يقعُ في التَّناقضِ معَ رؤيتِهِ المادِّيَّةِ، وإذا أرادَ أنْ ينسجمَ معَ الرُّؤيةِ المادِّيَّةِ، فإنَّهُ يؤدِّي حتمًا إلى نتائجَ لاأخلاقيَّةٍ تَنفرُ منها النُّفوسَ بداهةً، لِذا فإنَّهُ لا ينفعُ الملحدَ أنْ يقولَ: “أنا أرفضُ المقولاتِ اللَّاأخلاقيَّةَ الَّتي يتكلَّمُ بها بعضُ الملحدينَ وأرفضُ إنكارَهُم لمبادِئَ عقليَّةٍ كالسَّببيَّةِ”؛ لأنَّ رفْضَهُ هذا يُوقِعُهُ في التَّناقُضِ معَ إلحادِهِ.
وبيَّنَّا في السِّلسلة ِأيضًا كيفَ أنَّ إنكارَ الإلحادِ للفطرةِ يوقِعُه في هدمِ الشِّعاراتِ الَّتي يرفعُها، فشِعاراتُ الملحدينَ: “أنا أحترمُ عقلي، أنا إنسانَيٌّ -أُومِنُ بالإنسانِ-، أنا أصدِّقُ العلمَ”.
وقدْ بيَّنَّا -في الحلقةِ الخامسةِ- إهانةَ الإلحادِ للعقلِ وإسقاطَه لهُ، وبيَّنَّا -في الحلقةِ السَّادسةِ والسَّابعةِ والثَّامنةِ- إهانةَ الإلحادِ للإنسانِ وأخلاقِهِ، وبيَّنَّا -في الحلقاتِ الخامسةِ والعاشرةِ والحادِيةَ عشرةَ- إهانةَ الإلحادِ للعِلْمِ التَّجريبيِّ؛ فهوَ هدمٌ للشِّعاراتِ.
وبيَّنَّا كذلكَ كيفَ أنَّ الملحدينَ يقعونَ في نفسِ ما يَعيبونَ المؤمنينَ بوجودِ اللهِ له؛ فَهُمْ يَعيبُونَ المؤمنينَ لإيمانهم بالغيبِ، معَ أنَّ المؤمنينَ لديهمْ أدلَّةٌ على هذا الغيبِ، في حين يقع الملحدونَ في الإيمانِ بغيبٍ لا دليلَ عليهِ كإيمانِهم بتفسيراتٍ مادِّيَّةٍ للمكوِّناتِ الفطريَّةِ معَ انعدامِ الأدلَّةِ عليها.
ويَعيبونَ على المؤمنينَ قولَ: “لا نعلمُ لماذا” جوابًا عنْ بعضِ الأسئلةِ، معَ أنَّهُ تسليمٌ مَبْنيٌّ على إيمانٍ عقليٍّ، في حين يقولُ الملحدون العبارةَ ذاتهَا: “لا نعلمُ لماذا” جوابًا عنْ بعضِ الأسئلةِ، مثلَ السُّؤالِ عنْ تفسيرِ وجودِ إرادةٍ حُرَّةٍ للإنسانِ بخلافِ ما تُحتِّمُهُ النَّظرةُ الإلحاديَّةُ المادِّيَّةُ، ويدَّعي الملحدونَ أنَّ المؤمنينَ بوجودِ اللهِ يخادِعونَ أنفُسَهم، في حين أن الملحدينَ هُمْ في الحقيقةِ- مَنْ يخادِعونَ أنفُسَهم، كما بيَّنَّا في حلقةِ: (لماذا نحنُ هنا في هذهِ الحياةِ؟).
في المُحَصِّلةِ، إنَّ بعضَ المسلمينَ لديهِم تساؤلاتٌ، وشكوكٌ، وشُبُهاتٌ لم يحصِّلْ إجاباتٍ شافيةً عليها؛ وذلكَ إمّا لتقصيرِهِ في البحثِ عنْ إجاباتٍ منَ المصادرِ المُناسبةِ، أو لأنَّهُ لم يَبْنِ إيمانَه على أُسُسٍ متينةٍ أصلًا، أوْ لِخَللٍ منهجيٍّ كبيرٍ لديهِ، وهو: أنَّه لا يرُدُّ المُتشابهاتِ إلى تلكَ الأسُسِ المُحْكماتِ، أي: لا يُفسِّرُ الجزئيَّاتِ الَّتي تخفى عليهِ في ضَوءِ الأُسسِ العَقَديَّةِ الكبرى الَّتي يمتلِكُ الدَّليلَ عليها؛ فيبقى في قلقٍ واضْطرابٍ.
فاعلمْ أيُّها الشّابُّ الَّذي تخلَّيْتَ عنْ دينِكَ وأعلنْتَ ذلكَ لأصحابِكَ محتفلًا بأنَّكَ قدْ تخلَّصْت منْ مجموعةِ التَّساؤلاتِ والشُّكوكِ الَّتي كانتْ تؤرِّقُكَ يومَ كُنْتَ مُسلمًا، اعلمْ أنَّكَ دخلْتَ محيطًا عميقًا متلاطمَ الأمواجِ منَ الشُّكوكِ والتَّساؤلاتِ والتَّناقضاتِ، وتركْتَ العُروةَ الوُثْقى لتَهوِيَ في وادٍ سحيقٍ، ولنْ تجدَ مَفَرًّا منْ هذهِ الحقيقةِ إلّا أنْ تتَعامى عنها.
هل يمكن إثبات وجود الله علمياً ؟
أم أن العلم محايد؟ لا يمكن من خلاله إثبات وجود الله ولا نفي وجود الله؟
وهي إحدى النقاط المركزية الواردة في مقابلة المهندس عبد الله العجيري مع عمر الغامدي.
المقالة فيها ترتيب للأفكار وتوضيح لمفاهيم في غاية الأهمية.
من ضمن ما نورده في هذه الحلقة أن Science ليس محصورا في المدخلات الحسية.
العقل والمُسلمات وأخبار الباحثين التي دلت الأدلة على صدقها جزء لا يتجزأ من تعريف العلم الرصدي التجريبي، بل يعتبر متابعة المعرفة والفهم للعالم الطبيعي والاجتماعي من خلال اتباع منهجية منتظمة مستندة إلى الدليل
سنعرف كيف أن العقل ينطلق من مُسلمات (ضرورات عقلية) كالسببية، ومن القناعة بوجود انتظام في الكون، فيبني على الأخبار العلمية للباحثين، ويحلل مدخلات الحس ويربط فيما بينها. ويوظف هذا كله لإنتاج السينس
وكيف أننا إذا استخدمنا العقل والعلم فإنه يدلنا على الخالق سبحانه بأسمائه وصفاته
وأنت لست مطالباً حتى تستدل على الله بمصدر إضافي للعلم لم تستخدمه في بناء السينس، بل هو ذاته: عقلك..كل المطلوب منك هو ألا تحجر عليه أن يسير خطوة إلى الأمام في استنتاج وجود الخالق وصفاتِه…ألا تكون منغلقاً ضيق الأفق.
السَّيَنْسْ “science” هُوَ العِلْمُ الرَصْدِيُّ التَّجْريبيُّ.
الرَّصْدُ يَشْتَمِلُ عَلَى دِراسَةِ الظَّواهِرِ، رَصْدِ آلِيَّاتِها، سَبْرِ عالَمِ الخَليَّةِ وَعالَمِ الذَّرَّةِ إلى الكَواكِبِ وَالمَجَرّاتِ، وَاستِكشافِ القَوانينِ.
وَالتَّجْرِيبُ يَشْتَمِلُ عَلَى صِياغَةِ الفَرَضِيَّاتِ، وَإِجْراءِ التَّجارِبِ وِفْقَ مَنْهَجيّاتٍ عِلْميَّةٍ.
لِذَلِكَ عِندَما نَقولُ: (سَيَنْسْ) في هذه الحلقةِ، فَنَحنُ نَعنِي النَّوعَينِ: التَّجْريبيَّ وَالرَّصْدِيَّ، مَعَ التَّرْكيزِ عَلَى الرَصْدي الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّجْرِيبِ؛ فَأَنْتَ تَرْصُدُ الظَّواهِرَ وَالعَلاقاتِ، فَتَصوغُ عَلَى أَسَاسِهَا الفَرَضِيَّاتِ، وَتُجَرِّبُ لِتَتَحَقَّقَ مِنْهَا.
إذن، هَلْ العِلْمُ الرَصْدِيُّ التَّجْريبيُّ بِهذا التَّعْريفِ يُثْبِتُ أَوْ يَنْفِي وُجودَ اللَّهِ؟
اسْمَحوا لِي هُنَا أَنْ أُعيدَ بِناءَ الرَّسْمِ، بِمَا يُبْرِزُ دَوْرَ العَقْلِ وَيُبَيِّنُ عَلاقَتَهُ بِمَصادِرِ العِلْمِ الأُخْرَى مِنْ جِهَةٍ وَبِالسَّيَنْسْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى:
العَقْلُ يَنْطَلِقُ مِنْ مُسَلَّماتٍ (ضَروراتٍ عَقْليَّةٍ كالسَبَبيَّةِ)، وَمِن القَناعَةِ بِوُجُودِ انْتِظامٍ في الكَوْنِ، فَيَبْني عَلَى الأَخْبارِ العِلْميَّةِ لِلْبَاحِثِينَ، وَيُحَلِّلُ مُدْخَلاتِ الحِسِّ وَيَرْبِطُ فِيمَا بَيْنَها، وَيوَظِّفُ هذا كُلَّهُ لِإِنْتَاجِ السَّيَنْسْ.
فَالْعَقْلُ لَهُ دَوْرٌ مَرْكَزيٌّ في هَذِهِ المَنْظومَةِ، وَالسَّيَنْسْ شَكْلٌ مِنْ أَشْكالِ العِلْمِ المُعْتَمِدَةِ عَلَى العَقْلِ.
العِلْمُ لَيْسَ سَيَنْسْ فَقَطْ، هُنَاكَ أُمورٌ أُخْرَى يَتَّفِقُ العُقَلاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ العِلْمِ، وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ داخِلَةً في تَعْريفِ السَّيَنْسْ؛ مِثْلَ: عِلْمِ الرِّيَاضِيَّاتِ، فَالرياضيّاتُ عِلْمٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى العَقْلِ، وَلَيْسَ تَجْريبيًّا وَلا رَصْدِيًّا، بَلْ تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ كَثيرٌ مِنَ العُلُومِ التَّجْريبيَّةِ الرَصْدِيَّةِ.
أَخْبارُ التّاريخِ المُتَضافِرَةُ مِنَ العِلْمِ، كَوُجودِ حَضارَةِ الفَراعِنَةِ وَالفُرْسِ وَالرّومِ الَّذِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِمْ آثارُهُمْ، وَتَضافُرُ أَخْبارِهِمْ وَمَلاحِمِهِم، وَاتِّفاقُ الكُتُبِ عَلَى جُزْئيّاتٍ مِنْ سيَرِهِمْ فَضْلًا عَنْ وُجودِهِمْ.
فَالقَوْلُ بِوُجُودِ هَذِهِ الحَضَارَاتِ في المَاضِي عِلْمٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ في تَعْريفِ السَّيَنْسْ.
بَلْ وَفي حَياتِكَ اليَوْميَّةِ تَعْلَمُ عِلْمًا يَقينيًّا بِوُجُودِ أَشْياءَ لَمْ تَرْصُدْها وَلَمْ تُجَرِّبْها، لَكِنْ تَضَافَرَتْ أَخْبارُ الآخَرِينَ عَنْهَا بِمَا لا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ في التَّزْويرِ أَوْ الخَطَأِ فِيهَا.
فَالعِلْمُ دائِرَةٌ أَوْسَعُ، وَالسَّيَنْسْ شَكْلٌ مِنْ أَشْكَالِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الأَشْكَالِ مِنَ العِلْمِ مَبْنيَّةٌ عَلَى عَمَليّاتٍ عَقْليَّةٍ؛ فَالرياضيّاتُ عَقْليَّةٌ، وَقَبولُ الأَخْبارِ بِناءً عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ أَدِلَّتِها عَمَليَّةٌ عَقْليَّةٌ، وَالسَّيَنْسْ مَبْنيٌّ عَلَى عَمَليّاتٍ عَقْليَّةٍ.
وَمَا خارِجَ دائِرَةِ العِلْمِ فَالجَهْلُ، وَالوَهْمُ، وَالظَّنُّ، وَالمَعْلومَةُ الخاطِئَةُ.
الأدلة العقلية على وجود الله
من المهم جدا لكل أحد معرفة أن الإيمان بوجود الله ليس مجرد قضية تسليمية عاطفية، وليس قائما على مجرد عجز المخالف عن إقامة الدليل على النقيض، وإنما هو قضية تصديقية استدلالية برهانية صادقة. ولذلك نجد أن من أقوى الأدلة العقلية الدالة على وجود الله سبحانه دليلين هما: دليل الخلق والإيجاد، ودليل الإحكام والإتقان.
أولا: دليل الخلق والإيجاد
المقصود به الاستدلال على ضرورة وجود الله بحدوث الكون بجميع مكوناته وأحداثه؛ فالكون حدث من الأحداث وفعل من الأفعال لا بد له من مُحدث وفاعل يقوم بإحداثه وفعله وإيجاده من العدم، فكل شيء يحدث بعد أن لم يكن فإنه يجب أن يكون له سبب وفاعل، وهذا الاستدلال (أن كل فعل لا بد له من فاعل) استدلال عقلي يقيني لا يختلف فيه أصحاب الفطرة الإنسانية السليمة. ويقوم دليل الخلق والإيجاد على مقدمتين أساسيتين هما: أن الكون حادث غير قديم وأن الحادث لا بد له من مُحدث. وفيما يلي شرح للمقدمتين..
المقدمة الأولى: الكون حادث غير قديم
المراد بها أن الكون الذي نشهده ونعلمه له بداية في وجوده، فقد كان معدوما ثم انتقل من العدم إلى الوجود. وهذا الدليل ثابت من جهتين، من جهة العقل ومن جهة العلم. أما من جهة العقل فيكفينا فيه أن نذكر في ذلك كلام ابن حزم رحمه الله حيث قال: “لو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن لها ثان، ولكننا نشهد في العالم حوادث متعددة ومتعاقبة، يحدث الثاني فيها بعد الأول، والثالث بعد الثاني، وهذا دليل ظاهر على أن العالم ليس قديما”. فالجزء دليل على الكل، وما كان في أجزائه له بداية ونهاية فإنه يدلنا ضرورة أن هذا الكل– الذي يحوي هذه الأجزاء التي هذه صفتها- له بداية وستكون له نهاية بالتأكيد.
بعد أن علمنا بدلالة العقل المبني على دلالة الحس الضرورية أن الكون حادث، نزيد هذا الدليل قوة بما يؤكد على هذه الدلالة من خلال العلم التجريبي في اكتشافاته المتأخرة. فمن العلماء المؤمنين الذين أكدوا على هذه الحقيقة العالم الفيزيائي المعاصر بول ديفيز حيث يقول: “أهم اكتشاف علمي في عصرنا هذا هو أن الكون المادي لم يكن موجودا أبدا”، وأما من العلماء الملحدين فنذكر قول العالم الفيزيائي المعاصر ستيفن هوكنج: “ومع تراكم الدليل التجريبي والنظري أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن الكون لا بد له من بداية في الزمان، حتى تمت البرهنة على ذلك نهائيا في 1970”.
ومن أهم الشواهد العلمية التي يعتمد عليها العلماء في إثبات حدوث الكون قانون الديناميك الثاني، الذي يعني أن الطاقة الحرارية تنتقل من الأجسام الحارة إلى الأجسام الأقل منها حرارة، ولا يمكن أن يحدث العكس. ومعنى هذا أن الكون سيصل إلى نقطة تتساوى فيها حرارة مكوناته، وما دامت الحرارة لم تتساو بين مكوناته بعد فهذا يدل على وجود البداية.
ومن الشواهد العلمية على حدوث الكون أيضا نظرية الانفجار العظيم وثبوت اتساع الكون، وهي تشير إلى أن العالم قد خرج إلى الوجود نتيجة انفجار كبير منذ ما يقارب 15 ألف مليون سنة. أي أنه كان عدما من قبل ثم ترجح وجوده على عدمه، ولا يترجح شيء على شيء بدون مرجح.
وقد أثبت هذان الدليلان بما لا يدع مجالا للشك عند أي عالم من العلماء – مؤمنا كان أم ملحدًا – بأن الكون حادث من العدم بعد أن لم يكن.
المقدمة الثانية: الحادث لا بد له من مُحدث
المراد بها أن أي فعل يحدث في الوجود لا بد له من فاعل يقوم به ويؤثر في وجوده، لأنه يستحيل في المعدوم أن يُحدث نفسه أو أن يقع بغير فاعل. ومبدأ السببية هذا مبدأ عقلي ضروري من أوضح القوانين العقلية البديهية التي يخضع لها البشر في تعاملاتهم الحياتية، كالعلم بأن الجزء أقل من الكل.
فإذا كان لابد أنه حادث بفعل فاعل، فمن هو هذا الفاعل؟ والجواب لا يخرج عن خيارين:
إما أن الكون قد أوجد نفسه بنفسه، وهذا مستحيل لثلاثة أمور:
يلزم من ذلك تقدم الكون على نفسه ومن المستحيل وجود الفعل قبل الفاعل.
فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه لنفسه ولا لغيره.
لأن الشيء الممكن (المخلوق) في حال عدمه يتساوى في حقه الوجود والعدم، وترجيح أحد الاحتمالين لا بد له من مرجح.
وإما أن يكون قد أوجد الكون فاعل غيره خارج عن ذاته، وهذا أيضا لا يمكن أن يخرج عن احتمالين:
أن يكون وجود ذلك الفاعل مسبوقا بالعدم، وهذا يُقال فيه ما قيل في الخيار الأول من الأمور الثلاثة السابقة ويُضاف إلى ذلك أنه يلزم منه التسلسل في الفاعلين المؤثرين وهذا أمر ممتنع في بداهة العقل، ويؤدي بالضرورة إلى عدم حدوث شيء في الواقع، وإذا وجدنا أحداثا في الوجود علمنا استحالة التسلسل في الفاعلين.
أن حدوث الكون وانتقاله من العدم إلى الوجود لا يمكن إلا أن يكون بفعل فاعل لا فاعل قبله.
والاحتمال الأخير هو الاحتمال الممكن الوحيد، فنصل من كل ما سبق أن المؤمن بوجود الخالق لا يتوسل بالمجهول على إثبات إيمانه، وإنما يعتمد على المبادئ العقلية الضرورية لإثبات ذلك.
ثانيا: دليل الإحكام والإتقان
يُستدل بهذا الدليل على ضرورة وجود الله سبحانه بما في العالم من الإتقان في الخلقة والإحكام في تفاصيله الدقيقة المذهلة، ولتحقق ذلك لا بد من فاعل يتصف بالقدرة والحكمة وسعة العلم. وهذا الدليل يسميه العلماء التجريبيون “دليل التصميم”، وهو ما تقوم عليه نظرية التصميم الذكي.
يقوم دليل الإحكام والإتقان على مقدمتين أساسيتين: أن الكون متقن ومحكم في خلقته، وأن الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل حكيم عليم. وفيما يلي الشرح.
المقدمة الأولى: الكون متقن ومحكم في خلقته
المراد بها أن الكون رُكّب بصورة معقدة جدا لا يمكن اختزالها إلى أسباب راجعة إلى الكون نفسه أو إلى الصدفة، وأن أحداثه وأجزاءه شُكلت في مسارات دقيقة بحيث أن كل جزء منه يؤدي وظيفة دقيقة خاصة به، وقُدرت مكوناته بمقادير دقيقة بحيث أن أي زيادة أو نقصان يؤدي إلى اختلافات كبيرة تؤول إلى فساد الكون كله.
والأدلة والشواهد الدالة على صحة هذه المقدمة تنقسم إلى نوعين أساسيين:
الدليل الحسي المباشر: فكل عاقل يشاهد أصنافا متنوعة من الإتقان في الوجود يعلم ويسلّم بالضرورة وجود متقن لها.
الدليل العلمي التجريبي: فإن الإقرار به ليس خاصا بالعلماء المؤمنين بل أقر به أيضا أكثر العلماء الملاحدة. فيقول (أنتوني فلو)، الذي كان من أعتى ملاحدة العصر الحديث: “لا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون، وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية، قد أمد هذا البرهان بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيرا في الوصول إلى هذا الاستنتاج” أي الإقرار بوجود إله. ويقول (إيريك هاودن): “عندما تنظر إلى مبنى لن تستغرب أن هناك من بناه، وعندما تنظر إلى لوحة لن تستغرب أن هناك من رسمها، فلماذا تسأل عن الخالق عندما تنظر حولك؟” أي لماذا تتساءل عن وجود الخالق وأنت ترى هذا الإبداع المصمم بدقة في كل شيء حولك في الكون؟
المقدمة الثانية: الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل
أي أن مشاهد الإتقان في الوجود يتعذر أن تقع بغير فاعل عالم مريد مختار حكيم قادر يقوم بتصميمها وتقديرها لاحتوائها على تفاصيل معقدة ومتداخلة ومذهلة. ويدل على صحة هذه المقدمة وضرورتها أمران:
الضرورة العقلية: فالعقل بفطرته السليمة يدل على أن الفعل لا بد له من فاعل، بل الإتقان ليس مجرد فعل بل هو فعل مخصوص بحالة تركيبية خاصة تتطلب أن يكون فاعله متصف بصفات كمالية عالية متناسبة مع حالة ذلك الفعل.
الضرورة الرياضية: وهي تدل على ذلك وتثبت بطلان الاحتمالات الأخرى كالحدوث بالصدفة المفاجئة أو التطور طويل الأمد، ومن أظهر الأمثلة على ذلك تكون البروتين، فقد أثبت العالم السويسري تشارلز يوجين من خلال حسابه للعوامل التي يمكن من خلالها تكوّن بروتين واحد بالصدفة أنه يتطلب نسبة 1 إلى 10 أُس 160، وهذا رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه، وهو عند علماء الرياضيات يساوي صفرا، لأن أعلى نسبة للاحتمال عندهم هو 1 إلى 10 أُس 150، واكتشف أن كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة أكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات ويتطلب بلايين السنين لتكونه.
إذن دليل الإتقان لا يتضمن فقط الإقرار بوجود خالق بل يتضمن كذلك اتصافه بصفات العلم والإرادة والحكمة.
د. سلطان العميري
لماذا يؤمن علماء الرياضيات بوجود الله أكثر من بقية العلماء؟
تكررت في القرآن إشارة مُحيّرة – إن صح فهمي لها – تنفي ما هو شائع من اعتبار الرياضيات آلة معرفية لا تخطئ: “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا” [النحل : ١٨]
لأول وهلة قد نفهم من الآية أن النعم أكثر من قدرتنا على العد، ولكن بالرغم من هذا فالآية لم تنف قدرتنا على العد أصلًا. على العكس، أقر الله لنا بالعد، ثم نفى الإحصاء.
عندما أراد القرآن نفي قدرات الإنسان فعل ذلك بشكلٍ مباشر، وقد نفت آيات أخرى العديد من القدرات، مثل نفي القدرة على الخلق، أو الإحاطة العلمية، أو النفاذ من أقطار الكون، ولكن هذه الآية لم تحاول أن تنفي قدرتنا على العد أصلًا. فكيف يقر القرآن القدرة على العد، ثم ينفي الإحصاء في جملة واحدة؟
الأمر ليس مجرد تعبير مجازي لتعظيم النعم؛ فالمقارنة بين العد والإحصاء تكررت خمس مرات في القرآن، ومع اختلاف المعدود ظلت الإشارة ثابتة: اختلاف وجاهة العد عن الإحصاء.
أي دارس للإحصاء يعرف تمامًا أن الإحصاء هو عبارة عن عد الأشياء، وتلخيصها حسابيًا، فكيف يعترف القرآن بوجاهة الإحصاء نفسه كمنتج معرفي في إحدى عشرة آية مختلفة، ثم لا يسبغ نفس الوجاهة على المنهج الرياضي العددي اللازم لإنتاجه؟
وإن لم يكن الإحصاء رقميًا بالضرورة، فما الذي يمكن اعتباره أكثر وجاهة من الأرقام؟
نحن نعلم أن أعلى يقين علمي هو اليقين الرياضي، و لكن ما هو مصدر هذا اليقين الرياضي؟
عندما تتساءل لماذا يثق العلماء في معظم التخصصات في تعميمات نتائج تجاربهم، بالرغم من أنهم أجروا التجربة على عينة قد تكون مختلفة تمامًا عن الواقع، يردون بشكل قاطع أن التعميم في جوهره عملية رياضية.
ولسبب ما اتفق العلماء أن ما أثبت رياضيًا فهو صحيح، بل إن هذا الإيمان شاع حتى صار مثلًا “إن لغة الأرقام لا تكذب”، ولكن لماذا؟
وهل علماء الرياضيات أنفسهم يشاركون بقية العلماء في هذا الإيمان الكامل في الرياضيات؟
هل الأرقام حقيقية فعلًا؟
يشرح دكتور جوناثان تالنت في حواره الرائع حول طبيعة الأرقام، أنه ليس هناك لغةٌ واحدة للأرقام، بل عدة لغات “عدة مدارس فلسفية”. وللأسف لا توجد لغة رياضية واحدة لا تكذب. فلو اعتبرنا الرياضيات لغة، فإن الأرقام هي أبجدياتها، فالاختلاف بين اللغات ليس اختلاف لهجات أو ألفاظ، بل اختلاف جذري على مستوى الأبجدية نفسها، وإلى الآن لم يتفق الرياضيون أصلًا على تعريف موضوعي لماهية الأرقام نفسها.
وهي بالفعل مهمة صعبة؛ فالأعداد نفسها ليس لها وجود فيزيائي في الطبيعة يمكن استخدامه كمرجع لتوحيد ما نقصده. فكيف ندعي أن الأعداد نفسها لها مصداقية؟ أو أنها تعبير موضوعي عن المعدود؟ وما الذي يجعلنا نعتقد أن الأعداد أكثر موضوعية من الأسماء مثلًا؟
فالألوان مثلًا لها وجود مستقل؛ حينما نقول إن هذه السيارة حمراء نستطيع أن نتحقق سويًا من لونها، ولكن عندما نقول نفس المعنى بالأرقام، وأنها تعكس ترددا موجيا ٧٠٠ فهذا أمر لا نراه، وتصديق معظمنا له هو إيمان محض، فأيهما أصدق لفظة: “أحمر” أم رقم “٧٠٠”؟
هل الرقم له معنى حقيقي؟
هل تحديد اللون في شكل رقمي أضاف لنا يقينًا ما أو معلومة جديدة؟
هناك ثلاث إجابات مختلفة على هذا السؤال: إما أن الأعداد لها وجود حقيقي ومستقل بالفعل ونحن ندرك وجودها، أو أنها مجرد وصف كمي للموجودات، وبالتالي لا تختلف في موضوعاتها عن الصفات والأسماء، أو أن الأرقام ليس لها وجود حقيقي أصلا خارج خيال الرياضيين، ويمكن أن نستخدمها بشكل إبداعي أو الاستغناء عنها تمامًا حسبما شئنا، ولكن إلى الآن لم تستطع أي من هذه الإجابات أن تحسم النقاش.
اعتقدت المدرسة الأفلاطونية أن الأرقام حقيقية، بمعنى أن لها وجودا مستقلا عن المعدود، ولكن بما أنها غير موجودة بشكل مادي، فهذا يعني أن الأرقام لها وجود “ميتافيزيقي”. فأنت مثلًا تستطيع التعامل مع الأرقام ٢*٥=١٠ بدون الحاجة لأن تتساءل ما الاثنان؟ أو عشرة من ماذا؟ بل تستطيع إدراك الأرقام واستخدامها بحالتها المجردة، وبشكل مستقل تمامًا عن الواقع المادي. كثير من كبار الرياضيين المعاصرين، مثل باول ايردوس وكور تغودل وروجربنروز يعتنقون هذا الفهم الأفلاطوني؛ لأنه ببساطة هو الفهم الوحيد الذي يدعي أن الأرقام حقيقية. ولكن كثيرين اختلفوا معهم ، فادعاء الطبيعة الميتافيزيقية للأرقام ليس مجرد كلام فلسفي نظري، بل له تكلفته العملية. فمعنى هذا أن الرياضيات نفسها عبارة عن علم حدسي، وليس منطقيًا، وبالتالي فقد يصح القبول بسلوك رياضي غير منطقي، وبهذا تبدأ الرياضيات في افتراش مساحة مائعة من التبريرات الحدسية، وتزيد مساحة تقاطعها مع الفلسفة.
مشكلة أخرى هي أنه لو كانت الأرقام لها وجود حقيقي، فهذا معناه أن دور الرياضيات لا يتعدى اكتشاف الواقع الرقمي، وليس ابتكاره. وبغض النظر عن الجدل الفلسفي، فهذا التصور يؤدي على أرض الواقع إلى إهدار جانب كبير من الرياضيات الحالية. فالإثباتات الرياضية يجب أن يقتصر اشتقاقها من أشياء لها وجود حقيقي، مثل الأشكال الهندسية. وبالتالي، فكثير من مفاهيم الرياضة البحتة(١) التي نستخدمها اليوم ستصبح غير صحيحة، بل كثيرًا ما يؤدي التداعي المنطقي بالرياضيين من هذه المدرسة أن يؤمنوا أن الوجود نفسه مبني من الأرقام (بالمعني الحرفي للبناء).
ولكن المشكلة الرئيسة في هذه المدرسة تظل في أننا إذا ادعينا إدراك الأرقام بشكل حقيقي وصحيح وموضوعي فمعناه أننا ندعي إدراك الوجود الميتافيزيقي بشكل حقيقي وصحيح وموضوعي. وهو أمر يتنافى مع التصور المادي التقليدي، ويتنافى أيضا مع الفهم السائد في الأديان، الذي ينفي قدرة الإنسان على إدراك الماهيات الميتافيزيقية أو كمال العلم بأي موجودات، بل إنه يتناقض مع مدرسة أفلاطون نفسها التي تستبعد قدرة الإنسان على بلوغ ما هو ميتافيزيقي بشكل موضوعي.
الأرقام كوصف مادي: ما هي القيمة التي يشير لها الرقم؟
لذا فقد بدأ الرياضيون المسلمون وتبعهم الغربيون في تطوير الرياضيات التقليدية (المدرسة الاسمية). وهو تصور مادي صرف على النقيض التام من التصور الميتافيزيقي، فاعتبروا أن الأرقام مجرد تعبير عن الأشياء المعدودة؛ فأنت تُعلم الأطفال الأرقام باستخدام الأشياء: “هذا قلم، وهذا قلم آخر، الآن معنا قلمان”، وبالتالي فنحن عندما نعد، فنحن نعد الأشياء لا الأفكار المجردة، وعليه فلا وجود حقيقيا للأرقام مستقلًا عن الأشياء، بل هي لا تتعدى خواص كمية للوجود. وهذا التصور، وإن كان يبدو منطقيًا لأول وهلة، إلا أن فيه العديد من المشاكل. فهناك أعداد غير مرتبطة بأي شيء فيزيائي مثل الأرقام المعقدة والأرقام التخيلية، وكذلك ستصبح الـ “pi” أو الـ “ط” (وهي مجرد تعبير رقمي عن استدارة الدائرة) غير صحيحة؛ إذ أنها لا ترتبط بوجود مادي.
مشكلة أخرى في ربط وجود الأرقام بالأشياء هي أن كثيرًا من الأرقام ليس لها قيم دقيقة، بل تقريبية، فالواقع أصلًا سائل متصل ومتواصل (Continuous)، بينما الأرقام نقاط جامدة منفصلة (Discrete). ولذا فهي ليست تعبيرًا دقيقًا عن الواقع المادي أصلًا. فإذا قلت لك إن درجة الحرارة اليوم في لندن 18، فهي تعبير غير صحيح عن درجة الحرارة؛ لأننا اعتبرنا أن اليوم هو وحدة متجانسة ومنفصلة عن اليوم الذي يليه. بينما الواقع المادي متدرج ومتصل؛ فاليوم قد تسود فيه درجة حرارة ٥ في أغلب أوقاته ودرجة 18 لن تكاد تراها في أغلب اليوم، وبالتالي فأنا أعطيتك معلومة غير صحيحة.
فشل الأرقام في وصف الواقع المادي يرجع في جوهره لسيولة الواقع وجمود الأرقام؛ فأنت تعتبر أن هناك نقطة اسمها 10 سنتيمتر، بينما في الواقع هي مساحة شاسعة من التغير لا تكاد توجد فيها نقطة واحدة يمكن تسميتها صدقًا بـ 10. ولهذا فإننا لكي نصمم نموذجًا هندسيًا دقيقًا يجب أن نستخدم أدوات رياضية سائلة(٢) تحاكي تراكم الواقع المادي فتعطينا نتائج أكثر دقة من استخدام النظم التقليدية الجامدة.(٣)
إن مساحة كبيرة من الأرقام ليس لها قيم محددة، بل قيم تقريبية. فمثلًا 22/7 تساوي 3.14 وإن أردت الاستزادة من الأرقام العشرية فقد تعني 3.1428571… إلى ما لا نهاية، فلا يمكنك تحديد الرقم، ولكن تقريبه. وبالتالي فحين يقوم جهاز بعملية حسابية ما، مثل القسمة أو الجذر أو “اللوغاريتم”…إلخ، فعليه أن يتخذ في كل مرة قرارًا: إلى أي مدى يجب أن يقرب بدون أن يضر بالمستخدم. بالإضافة إلى أن التعبيرات الرياضية نفسها ليس لها معنى واحد، فالجذر التربيعي لـ 2 لا يوجد له قيمة ثابتة، بل هناك عدد من الطرق لحسابه وكل طريقة لها ناتج مختلف عن الأخرى. وبالتالي قد تنتج قيمتين مختلفتين لجذر 2 على آلتين مختلفين.
لذلك، فعندما نصمم منتجًا هندسيًا نحصل على دقة عالية من التصميم المعتمد على تموج المكونات الهندسية أو الميكانيكية بشكل سائل باستخدام كتلتها وخواصها المادية التي لا تحتاج إلى تقريب، بينما لو أعدنا إنتاج نفس هذا التصميم بشكل “ديجيتال” ستقل دقته بمقدار تقريبه للأرقام. لهذا لا يزال بعض المصورين يفضلون استخدام الكاميرات ذات الأفلام على الكاميرات الديجيتال، وكذلك مازال الكثير من “استوديوهات” الصوتيات تستخدم الأجهزة “الأنالوج”؛ لأنها تتعامل مع الصوت الحقيقي، لا مع تقريب رقمي منه.
مرة أخرى، هذا الاختلاف ليس اختلافًا بسيطًا؛ لأن تعاقب العمليات الرياضية قد يؤدي إلى تراكم الأخطاء البسيطة وتضخيمها بشكل متسارع(٤). لهذا ففشل المصمم في التنبؤ بها قد يسبب فشلًا كاملًا للمنتج الهندسي. فمثلًا سنة 1996 تسبب تراكم أخطاء التقريب في تحطم صاروخ لوكالة الفضاء الأوروبية بعد 37 ثانية من انطلاقه.
كذلك، في حرب العراق تراكمت أخطاء التقريب في نظام الدفاع الجوي الأمريكي، وبعد 100 ساعة من التشغيل تضخم الخطأ حتى أصبح يحدد مواقع الصواريخ العراقية بخطأ مقداره ثلث ثانية، وهي مدة كانت كافية تمامًا للصواريخ العراقية أن تتفادى أسلحة الدفاع، وتصيب أهدافها، وتدمر ثكنات الجيش الأمريكي، فتقتل 28 أمريكيا راحوا ضحية للتقريب العددي.
بالمثل، ففي السيارات الحديثة التي تتحكم إلكترونيا في حقن الوقود إلى المحرك تقوم وحدة إلكترونية بأخذ القرار لضخ كمية معينة من البنزين؛ بحيث يتناسب مع كمية الهواء داخل المحرك. وهي تتخذ هذا القرار باستخدام معادلة رياضية. إلا أن صحة الرياضيات هنا تقتصر على التقريب، ومهما زادت الدقة فلا بد لاستخدام الأرقام من قدر ما من التقريب مما يجعل هناك دائمًا خطأ ما. ولو اعتبرنا الخطأ في حدود 1 على مليون من اللتر في كل دورة. فكل ما يتطلب الأمر هو عدة ساعات من استعمال السيارة؛ حتى يصل معدل الخطأ إلى إفشال المحرك تمامًا. لذا فإحدى أساسيات التصميم لوحدات التحكم الإلكتروني هو حساب خطأ التقريب وتعديل ناتج المعادلة بصفة مستمرة؛ حتى تتفادى تراكم الأخطاء الحسابية.
أحد المشاكل الكبيرة أيضًا هي أننا إذا اعتمدنا التفسير المادي للرياضيات التقليدية فيجب علينا أن نتخلى عن الأرقام المعقدة والتخيلية. وهي أرقام لا تصف أصلا أي موجودات حقيقية، ولا حتى منطقية. فبينما نعلم التلاميذ مثلًا أنه لا يوجد جذر تربيعي لأي رقم سالب (لأن الإشارة السالبة تختفي عندما نضرب رقمًا في نفسه) تقوم الأرقام التخيلية على افتراض قيمة ما لهذا الجذر. هذه الأرقام التخيلية ليست مجرد رياضة ذهنية للأذكياء، بل إن لها تطبيقات عملية مثلت فتوحات علمية في مجال معالجة الصور على الكومبيوتر، ومعالجة الصوت، وتطوير الاتصالات والنظم الديناميكية، بل وفي النسبية، وفي فيزياء الكم أيضًا.
لهذا فالمدرسة التقليدية في الرياضيات لا تستطيع أن تبرر لم علينا أن نثق في الأرقام أكثر مما نثق في الأوصاف الاسمية. فهي أيضًا تعبيرات تقريبية جامدة تحاول احتواء واقع سائل ليس بالضرورة ماديًا ولا منطقيًا، ولذلك فهي تنجح أحيانًا وتفشل أخرى. وأفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تفسح المجال للتعبيرات الرياضية الديناميكية. وهي بمثابة الأفعال في اللغة، بينما الأرقام بمثابة الأسماء الجامدة.
الأرقام كقصة مفيدة ولكن غير حقيقية
التطويرات الحديثة المتسارعة في استخدامات الأرقام المعقدة والتخيلية أعادت من جديد فتح ملف المدرسة الثالثة: مدرسة القصص. وهي تقول إن الأرقام غير حقيقية أصلا، بل هي مجرد حكايات خيالية مفيدة. فلكي تكون الأرقام حقيقية يجب أن يكون لها وجود مستقل عما تقيسه، وهذا يستلزم أن تكون الأرقام نفسها موجودة بشكل مستقل، إما ميتافيزيقي (وهو ما يرفضونه)، وإما لها وجود مادي وهو أمر غير واقع، فبالتالي لا يمكن أن يكون للأرقام وجود حقيقي. وهذه المدرسة لا تعترف بصحة الأرقام، بالرغم من النجاح التطبيقي للأرقام. فالنجاح التطبيقي ليس دليلًا كافيًا على الصحة، كمثال قصة الراعي الصغير الذي يستصرخ الناس لإنقاذ غنمه من الذئب، ثم يستهزئ بهم، وانتهى الأمر بأن هاجمه ذئب بالفعل، فلم ينجده أحد. هي قصة مفيدة تربويا، ومن أنجح القصص في تعليم فائدة الصدق؛ لذا نجدها في كل الثقافات الإنسانية، ولكن نجاحها هذا لا يعني أنها حقيقية.
لهذا ترى مدرسة القصص أنه يمكننا- متى شئنا- أن نطور رياضيات بقواعد جديدة تمامًا. فعلى سبيل المثال قام هارت ريفيلد سنة 1980 بضرب مثال على الرياضيات القصصية؛ فأعاد إنتاج قواعد “الميكانيكا الكلاسيكية” لنيوتن باستخدام رياضيات ليس بها أرقام أصلًا. فأعطى مثالًا أثار جدلًا علميًا كبيرًا على أن الرياضيات يمكنها حتى أن تستغني عن الأرقام نفسها. وبالرغم من أن هذه المدرسة واجهت كثيرًا من الرفض لأنها تنفي الواقع العددي، وهو ما لا يستسيغه عموم المجتمع العلمي، إلا أنه لم يستطع أحد إخراجها من النقاش؛ لأنها هي اللاعب الوحيد في مساحة الرياضيات المعقدة والتخيلية.
“إيمانًا كإيمان العجائز” وعلماء الرياضيات
لم تستطع أية مدرسة من الثلاثة أن تعطي تفسيرًا مقبولًا لماذا علينا أن نثق في الأرقام أكثر من الأسماء، ولا حتى استطاعت إحداها ادعاء يقين قاطع ودقيق في كل منتجاتها المعرفية، وجل ما تستطيع هو تحديد وتحييد معدل الخطأ. لهذا فاليقين لدى علماء الرياضيات يقين عملي، وليس يقينًا نظريًا مطلقًا.
يقين يتعامل مع الطبيعة غير الجازمة وغير الشاملة للأرقام، يقين يضع في الحسبان تفوق اليقين الفيزيائي على اليقين النظري. هذه النظرة المعترفة بالنطاق العملي للمعرفة، التي ترى أكثر من غيرها المعرفة البشرية بقصورها المادي والمنطقي والعملي تضع عالم الرياضيات- أكثر من غيره- في مواجهة الواقع الميتافيزيقي للوجود، وتضطره إلى أن يأخذ موقفًا حاسمًا وأكثر استقطابًا، إما بقبول الدين والوجود الميتافيزيقي بشكل قاطع كأمر منطقي مسلم به، أو برفضه بشكل قاطع، والمغالاة في تصور الحياة والإنسان والأخلاق كمنتج مادي بحت. فتقل مساحة غير الحاسمين لموقفهم أو ذوي الأيديولوجيات الوسطية فيهم.
ولعل هذا الاستقطاب هو ما يجعل علماء الرياضيات أكثر العلماء تدينًا، ووجود أقل نسبة ملحدين بينهم. فقد وجدت الأبحاث أنه- على عكس الشائع- خلال المائة سنة الماضية لم يحدث تغيير يذكر في نسبة العلماء الذين ألحدوا (42٪ مؤمنين 42٪ ملحدين 16٪ غير ملحدين ولكن لا ينتسبون لدين)، وبينما يبني معظم العلماء الملحدين وجهة نظرهم على الدليل الرياضي نجد أن علماء الرياضيات أنفسهم أقل العلماء ثقة عمياء بالرياضيات، وأكثر العلماء إيمانًا بوجود الله.
ونعود مرة أخرى للسؤال الذي بدأنا به:
كيف أقر الله لنا بالعد، ثم نفى الإحصاء؟
القرآن يشير في خمسة مواضع للإحصاء كمنتج معرفي غير رياضي. أي أن الإحصاء في التعبير القرآني يشمل المعرفة غير العددية! وهذا يتوافق تمامًا مع الرياضيات المعاصرة، ففي مختلف المدارس نجد أن اليقين الذي توفره الرياضيات هو يقين كيفي لا يعنى كثيرًا بالعدد نفسه، ولكن بالمعدود. فالإحصاء لا يوفر معرفة وجيهة إن كان يقتصر على حصر الأعداد وتلخيصها، بل وجاهته تأتي من قدرته على وصف المعدود. هذه القدرة قد تأتي من الوصف اللفظي أو الرقمي أو الإحاطة الحسية المباشرة إن كان هذا ممكنًا. فالإحصاء هو حزمة من الأوصاف التي تعبر عن الموصوف. وبالتالي فكلما زادت هذه الحزمة تفصيلًا وتنوعًا ودقة، زادت وجاهة الإحصاء، وزاد عمقه وزادت قدرته استدعاءً لحقيقة الموصوف.
عمرو فاروق
(مستشار في مجال ادارة الإبتكار والريادة التكنولوجية، وباحث في مجال ريادة الأعمال في جامعة ايندهوفن للتكنولوجيا في هولندا)
إلى كل ملحد ينكر وجود الله تعالى.. اقرأ
دل على وجوده تعالى: الفطرة، والعقل، والشرع، والحس.
1- أما الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» (رواه البخاري).
2- وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى: فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها، ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه، لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا؟!
ولا يمكن أن توجد صدفة، لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعًا باتًا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور، حيث قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35- 37]. وكان جبير يومئذٍ مشركًا قال: “كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي” (رواه البخاري).
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك: فإنه لو حدثك شخص عن قصرٍ مشيد، أحاطت به الحدائق وجرت بينها الأنهار، ومليء بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: “إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد” لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثه سفهًا من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد؟!
3- وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى: فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4- وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:
الوجه الأول: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين، وغوث المكروبين، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى، حيث قال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ..} [الأنبياء: 76].
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ..} [الأنفال: 9].
وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إلى يومنا هذا، لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشروط الإجابة.
الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى المعجزات ويشاهدها الناس، أو يسمعون بها، برهان قاطع على وجود مرسلهم وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر، يجريها الله تعالى تأييدًا لرسله ونصرًا لهم.
مثال ذلك: آية موسى عليه السلام حين أمره الله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه فانفلق اثنى عشر طريقًا يابسًا، والماء بينهما كالجبال، قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
ومثال ثاني: آية عيسى صلى الله عليه وسلم، حيث كان يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم بإذن الله، قال تعالى عنه: {..وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ..} [آل عمران: 49]. وقال تعالى: {..وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي..} [المائدة: 110].
ومثال ثالث: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حين طلبت منه قريش آية ومعجزة، فأشار إلى القمر فانقلق فرقتين فرآه الناس، وفي ذلك قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1- 2]. فبهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييدًا لرسله، ونصراً لهم، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.
فسبحانه وتعالى ما أعظمه وما أحلمه على عباده…
فلك الحمد يا ربنا على ما هديتنا فارضى عنا، وثبت قلوبنا على دينك وطاعتك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كتيب شرح أصول الإيمان للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-.
بالاستدلال المنطقي يمكن إثبات وجود خالق
.الاستدلال المنطقي هو الخروج من المقدمات المنطقية بنتائج حتمية وحيدة غير قابلة للاحتمالات
.سنطبق الاستدلال المنطقي هنا على مسألة الخلق ونرى إلى أي نتيجة يقودنا هذا الاستدلال
أولا هل وُجد الكون من العدم؟
مقدمة 1: كل شيء له بداية مطلقة فهو وجد من العدم
(مقدمة 2: الكون له بداية مطلقة (حقيقة علمية
نتيجة 1: الكون وجد من العدم
ثانيا هل أوجد الكون نفسه؟
مقدمة 1: القائم بالفعل يجب أن يكون موجودا قبل قيام الفعل
مقدمة 2: الكون لم يكن موجودا قبل فعل الوجود
نتيجة 3: الكون لم يوجد نفسه
ثالثا هل يوجد فاعل سابق لوجود الكون؟
(مقدمة 1: كل فعل يحتاج إلى فاعل (حقيقة علمية
مقدمة 2: وجود الكون من العدم فعل
نتيجة 3: يوجد فاعل سابق لوجود الكون
هذه النتائج الثلاث أثبتنا صحتها، فهي نتائج منطقية حتمية مثبتة واجبة وليس لها بدائل.. أي أنه لا يوجد فيها أي: طعن ولا يمكن استبعادها أبدا. وبما أنها ثبتت لدينا فسوف نعتبرها مقدمات لنخلص للنتيجة النهائية
رابعا هل يوجد خالق للكون؟
مقدمة 1: الكون وجد من العدم
مقدمة 2: الكون لم يوجد نفسه
مقدمة 3: يوجد فاعل سابق لوجود الكون
نتيجة 4: يوجد خالق للكون
وهذا هو المطلوب إثباته
وفي المنطق يجب إذا وصلنا إلى نتيجة مثبتة غير قابلة للنقاش أن نحترمها لأنه لا يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى تناقضها أبدا ما دمنا قد بنينا استدلالنا بناءً صحيحا. يبقى السؤال الذي يطرح أحيانا:
هل للخالق خالق؟
: وهذا سؤال خاطئ منطقيا للأسباب التالية
قبول هذا السؤال يوقعنا فيما يسمى بـ “الدور” أو “الاستدلال الدائري” (circular reasoning) وهو من المغالطات المنطقية المعروفة، حيث تكون النتيجة هي مقدمة لنفسها، ونحن لا نريد أن نقبل أي مغالطة منطقية في استدلالنا.
قبول هذا السؤال يناقض النتيجة التي توصلنا إليها وأثبتناها بالاستدلال المنطقي.. ونقض النتيجة المثبتة غير ممكن.
فيما يخص العدم والوجود، فإن التقسيم إلى خالق ومخلوق أمر حتمي كما ثبت، وتداخلهما خطأ منطقي، حيث أنه يلزم للاستدلال المنطقي أن لا تتداخل المفردات المستخدمة في الاستدلال من حيث الدلالة، فالخلط في الدلالة بين الخالق والمخلوق يعد خللا في التفكير المنطقي
فما المشكلة؟ وكيف يكون الخالق موجودا وليس له موجد؟
الإجابة هي أن الخالق إما أن يكون أزليا (ليس له بداية) أو أن يكون غير أزلي، فإن كان غير أزلي فإن استدلالاتنا المثبتة تسقط، وسقوطها غير ممكن منطقيا لأنها مثبتة، فلا يبقى إلا احتمال واحد وهو أن الخالق أزلي، أي أنه ليس له خالق. والخالق سبحانه ليس محسوسا نستدل عليه بالحس وإنما الطريق الوحيد للاستدلال عليه وعلى صفاته عند العقلاء هو استخدام العقل، فهو ليس كالمخلوق (الكون) الذي نشاهده وندرسه فيزيائيا ونثبت صفاته وبدايته بالأدلة العلمية كقوانين الديناميكا الحرارية والانفجار الكبير وغيرها. وعلى ذلك فإن الاستدلال على وجود الخالق يكون بالعقل، أما الاستدلال على العالم المشهود فيكون بالحس. وقد أشار القرآن إلى ذلك مرارا فوصف آيات إثبات وجود الله بأنها آيات “لقوم يعقلون”، ووصفهم أحيانا بأنهم “أولو الألباب”، بينما أمر بالنظر في الكون والمخلوقات
“بعبارات حسية مثل: “ألم تر..”، “أفلا تبصرون”، “قل انظروا
النتيجة النهائية: وجود خالق أزلي للكون
هل الله موجود ؟؟
ثمة كرة عملاقة نصف قطرها 12.756 كيلومتر
وهي تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء مقدارها 68 الف ميل في الساعة إنها تُدعى ” الأرض “
هذه الأرض محاطة بغلاف جوي من خمس طبقات مكون من : الهيدروجين والأكسجين وغازات خاملة وفي نفس الوقت تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة الواحدة
لا إنني لن أتكلم عن عظمة هذا الكون ولا عن المعجرات الرهيبة التي تعتبر الأرض بالنسبة لها مجرد ذرة تراب في سفح إيفرست وأرقام من السنوات الضوئية لا يمكن عد أصفارها
لقد سمعت كثيراً من كلام الملحدين في هذا العالم :
لكن الشيء الذي لم استطع حتى الآن استيعابه هو ..
” قولهم إنهم لا يؤمنون بالله “
” لأنهم لا يستطيعون رؤيته “
لا أعلم كيف لا يرونه ؟
بينما أنا طوال الوقت أستطيع أن أرى صنع الله
في كل بوصة من حولي
لماذا الماء استثناء في خواصه بين كل السوائل ؟
لماذا تدور الأرض بسرعة محددة وزاوية دقيقة = 23.5 درجة
لماذا الشمس لها هذا البعد الهائل ودرجة الحرارة الرهيبة ؟
لماذا هذه المكونات وليس غيرها في الغلاف الجوي ؟
عندما تتأمل في غجابات هذه الأسئلة ..
فسوف ترى الخالق العظيم يفصح بوضوح عن نفسه .
إن الأرض تدور حول محورها بسرعة أكثر من ألف ميل في الساعة
فإذا فرضنا أن هذه السرعة انخفضت إلى مائتي ميل مثلاً في الساعة
لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشرة أضعاف
ولاستمرت درجة حرارة النهار في الارتفاع حتى نشتعل
واستمرت ليلاً في الإنخفاض حتى نتجمد
ولما استطاع الإنسان تنظيم وقته .. ونومه .. وعمله
خلال الضوء والظلام الطويلين جداً
لماذا يتم ضبط كل مقاييس هذا الكوكب في كل جوانبه وكل تفاصيله لمصلحة كائن واحد ؟
الكائن الوحيد ذو العقل القادر على الإدراك
هل هناك رسالة يرسلها لنا من فعل كذل ذلك ؟
لماذا السائل الوحيد الضروري للحياة هو أيضاً ..
السائل الوحيد الذ تقل كثافته عند التجم فيطفوا ؟؟
ولو كان الماء مثل بقية السوائل .. لتجمدت البحار والأنهار والمحيطات، فتموت الأسماء والحيوانات المائية .
الشمس ، التي بدونها لما استطعنا الحياة على هذا الكوكب .
إنها مطهر ومضيء
تبلغ حرارة سطحها 12 ألف درجة فهرنهيت ،
والمسافة بينها وبين الأرض تبلغ ما يقرب من 93 مليون ميلاً
وهذا البون الهائل دائم .
ولا يتغير أبداً
لا بزيادة ولا نقصان
لأنه لو نقص واقتربت الشمس من الأرض بمقدار النصف مثلاً ،
فسوف يحترق الورق والخشب على الفور من حرارتها
ولو ازداد هذا الفاصل فصار الضعف ،
فإن البرودة الشديدة التي تنجم عن هذا البعد ..
سوف تقضي على الحياة على الأرض
إذا علمت ذلك ..
فسوف تعلم أن هناك إلها رحيماً قام بتنظيم تلك الفسيفساء الدقيقة على كوكبنا .
بما يناسبنا نحن تحديداً ولما يصلح لحياتنا
ويجعلها سهلة يسيرة .
ثم إن هذه الأرض دائرة حول الشمس بزاوية قدرها 23.5 درجة
الأمر الذي تنشأ عنه المواسم والفصول ،
ويترتب عليه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكن ،
فلو لم تكن الأرض على هذه الزاوية الدقيقة المحددة ..
سوف تصير المواسم ثابتة في كل جزء من أجزاء الأرض ،
ويخيم الظلام على القطبين ..
سوف يسير بخار البحار شمالاً وجنوباً
وسوف تنتشر جبال الثلج في أماكن ،
والصحاري القاحلة في منطاق أخرى
السبيل الوحيد لتفادي ذلك هو ، أن تدور الأرض في الفضاء بزاوية دقيقة … هي 23.5
إن الغلاف الجوي لو كان أقل سمكاً مما هو عليه الآن أو بمكونات مختلفة ..
لأخترقته النيازك التي نراها في الليل
تسير في الفضاء أسرع من الرصاصة 90 مرة
تخترق الغلاف الجوي وستحرق كل شيء على الأرض
والمدهش .. أن الغلاف الجوي لا يسمح إلا بمرور كميات محددة وضئيلة من الأشعة الشمسية
ذات الأهمية الكيماوية لنمو النباتات والقضاء على الجراثيم ،
وغيرها من احتياجات الأرض .
هل الطبيعة قادرة على تنظيم كل تلك المؤشرات المحددة والمواعيد الدقيقة لتناسبنا ؟؟
ان هذا التوازن للكميات المحتاج إليها عجيب جداً .
فالهواء يتكون من 6 غازات منها 78 % نيتروجين ، و 21 في المائة من الأوكسيجين ،
لماذا تجمعت هذه النسب المحددة تحديداً دقيقاً لكي تناسب حياتنا بالضبط ؟
إذا لم يكن هذا الوجود تحت سلطان وجود عظيم وحكيم ..
فلماذا توجد فيه هذه الروح المدهشة ؟
كأن كل الأشياء اتفقت مع بعضها لتعزف سيمفونية متناغمة ..
فقط من أجلنا ..
لكن الإجابة بسيطة :
هو ” الحكيم “
هو ” العظيم “
هو ” الكبير “
هو ” الرحيم “
هو ” القادر “
هو ” الكريم “
هو ” الودود “
هو ” المجيد “
هو ” مالك الملك “
ذو الجلال والإكرام
إنه ” الله “
قال الله تعالى :
قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( 84 ) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ( 85 ) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( 86 ) سيقولون لله قل أفلا تتقون ( 87 ) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ( 88 ) سيقولون لله قل فأنى تسحرون ( 89 )
إذا كانَ لكلِّ مخلوقٍ خالقٌ فمنْ خلقَ اللهَ؟
مِمَّا يفسدُ القلبَ الخواطرُ السيئةُ التي قد تصلُ إلى التفكيرِ في ذاتِ اللهِ لا في نِعَمِهِ وآياتِه، والاسترسالُ مع هذه الخواطرِ قد يؤدي إلى الهلاكِ.
ولا شكَّ أنَّ الشيطانَ هو أَعدى أعداءِ البشرِ؛ إذْ لاَ عملَ له إلاَّ غوايةُ الإنسانِ وإضلالِه حتّى يهلك، فيوسوسُ إليه ويأتيه من كلِّ طريقٍ، وهمُّه الأولُ أنْ يأتيَه من جهةِ العقيدةِ؛ لأنَّها أساس الدين والإيمانِ، وعليها تتوقفُ نجاةُ الإنسانِ وسعادتُه في الآخرةِ، فيثيرُ في نفسِه التساؤلات العديدة عن حدوثِ الأشياءِ، ومَنِ الذي أحدثَها؛ ليوقعَه في الغلطِ والكفرِ، ولكنَّ اللهَ برحمتِه يؤيد عباده المؤمنينَ ويثبتُهم على الحقِّ.
يعمدُ الشيطانُ إلى قلوبِ البشرِ فيوردُ التساؤلَ الباطلَ فيها؛ إمَّا بوسوسةٍ محضةٍ، أو بشبهةٍ على لسانِ شياطينَ الإنسِ وملاحدتِهم؛ لذا لزمَ
أولًا: تشخيصُ حالةِ السائلِ:
هل سبب سؤاله وسوسةٌ أم ناتجٌ عن ضعفٍ معرفيّ؟
هل هو لونٌ من الأسئلةِ الطبيعيةِ التي ترِدُ على كثيرٍ من الناسِ، ومجردُ نزغةٍ من نزغاتِ الشيطان يستطيعُ طردَها وعدمَ الاسترسالِ معها؟، أم صادفَه أنْ سُئِلَ عمَّنْ خلقَ اللهَ فبُهِتَ حين أدرك أنَّه لا يعرفُ الجوابَ؟
ولكلِّ حالةٍ من الحالاتِ السابقةِ طريقةُ علاجٍ تناسبُها، فأمَّا الوسوسةُ فقد عالجَها النبيُّ-ﷺ- ببراعةٍ كمَا سيرِدُ في الفقرةِ التاليةِ، وأمَّا الضعفُ المعرفيُّ والوصولُ لمستوى الشبهةِ التي تملّكت صاحبها وأوشكتْ أنْ توردَه المهالكَ؛ فيجبُ حينَها تفكيكُ السؤالِ وبيانِ ما فيه من مغالطات منطقية ؛ لإقامةِ الحجةِ وتثبيتِ الإيمانِ.
ثانيًا- موقفُ النبيِّ ﷺ من هذا السؤال
علَّمَ النبيُّ ﷺ أُمتَه كيفيةَ إزالةِ الشكوكِ والوساوسِ عن الصدورِ، حيثُ تناولَ هذا الأمرَ في عدةِ أحاديثٍ نبويةٍ، فكشفَ عن منشئِه في النفسِ، ومدى حضورِه في الواقعِ، وطبيعةِ التقنيات لمدافعتِه، وعلاجِ ما قد يخلفُه من آثارٍ.
ففي الحديثِ:
” يَأْتي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ كَذَا، مَن خَلَقَ كَذَا، حتَّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ”، وفي رواية: “يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربُّك؟ فإذا بلغه، فقولوا: اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، ثم لْيتفُلْ عن يسارِه ثلاثًا، ويستعذْ بالله من الشَّيطانِ”. أخرجه البخاري (٣٢٧٦)، ومسلم (١٣٤).
فنجدُ في هذا الحديثِ أنَّ النبيَّ ﷺ يبيِّنُ منشأَ السؤالِ بأنَّه وسوسةُ الشيطانِ الذي يوسوسُ بمثلِ هذه التساؤلاتِ عنْ حدوثِ الأشياءِ ومَن أحدَثَها، (فيقول: مَن خَلَقَ كذا؟ مَن خَلَقَ كذا؟)، أي: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ مَن خلَق الأرضَ؟ مَن خلَق الجبالَ؟ مَن خلَق الإِنسانَ؟ فيُجيبُه ابنُ آدمَ دِينًا وفِطرةً وعقلًا بقوله: اللهُ، وهذا جوابٌ بَدهيٌّ صحيحٌ وحقٌّ وإيمان، ولكنَّ الشَّيطانَ لا يقفُ عند هذا الحدِّ من الأسئلةِ والوساوسِ، بل ينتقلُ من سؤالٍ إلى سؤالٍ (حتَّى يقولَ: مَن خلَق ربَّك؟)، وهنا وضعَ النبيُّ الدواء النافعَ والجوابَ السريعَ لمثلِ ذلك، فقال: (فإذا بَلَغَه، فلْيَستعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ)، أي: فإذا وصل معه الشيطانُ إلى هذا الحدِّ فليستعذْ باللهِ منه، ولْيَكفَّ عن الاستجابةِ له، ولْيَنْتَهِ عن الاسترسال معه في ذلك، ويعلمُ أنَّه يُريدُ إفسادَ دينِه.
ولا يُعَدُّ هذا هروبًا من المواجهةِ، بل معناه العودةُ إلى المنطقِ، فالعلمُ باستغناءِ اللهِ تعالى عن كلِّ ما يوسوسُه الشيطانُ أمرٌ ضروريٌّ لا يحتاجُ للاحتجاجِ والمناظرةِ، فإنْ وقعَ شيءٌ من ذلك فهو من وسوسةِ الشيطانِ، وهي غيرُ متناهيةٍ؛ فمهما عُورضَ بحجةٍ سيجدُ مسلكًا آخرَ من المغالطةِ والاسترسال؛ لأنَّه كما قالَ ابن ُتيمية -رحمه الله- في درءِ تعارضِ العقلِ والنقل- ٢/١١٢: “النفس تطلب سبب َكلِّ حادثٍ وأوّلَ كلِّ شَيءٍ حتى تنتهي إلى الغايةِ والمنتهى، فإذا وصل َالعبد ُإلى غايةِ الغاياتِ، ونهايةِ النهاياتِ، وجبَ وقوفُه، فإذا طلبَ بعد ذلك شيئًا آخر َوجبَ أنْ ينتهي، فأمرَ النبيُّ ﷺ العبدَ أنْ ينتهي مع استجارتِه باللهِ من وسواسِ التسلسلِ”، وإلاَّ فإنَّه يضيِّعُ الوقتَ إنْ سلِمَ من فتنتِه، وفي الحديثِ إشارةٌ إلى ذمِ كثرةِ السؤالِ عن الغيبياتِ؛ لأنَّها تفضي إلى المحذورِ.
وفي الروايةِ الثانيةِ أرشدَ النبيُّ ﷺ إلى تذكيرِ أنفسنِا بصفاتِ اللهِ الواردةِ في سورةِ الإخلاصِ، جاءَ في تفسيرِ العلامة ِمحمد ٍبن ِصالح ٍالعثيمين –رحمه الله:
أحد: ٌواحدٌ، متوحِّدٌ بجلالِه وعظمتِه، ليسَ له مثيلٌ، ولا شريكٌ.
صمد: ٌالكاملُ في صفاتِه، الذي تصمدُ إليه الخلائقُ في حوائجِها، وهذا يعني أن ّجميع َالمخلوقاتِ مفتقرة ٌإليه.
لم يلد: ْأي يكون له ولدٌ، فالولد ُمشتقٌّ من والدِه وجزءٌ منه، والله – جل جلاله- لا مثيلَ له، إذ الولدُ أنّما يكونُ للحاجةِ، والله ُمستغنٍ عن كل ّأحد.ٍ
ولم ْيولدْ: لكونِه أوَّل ٌغير ُمسبوقٍ بشيءٍ، فكيف يكونُ مولوداً؟
ولم يكن له كفواً أحد: أي مساوٍ له في جميعِ صفاتِه.
وكشفَ النبيُّ ﷺ عن تمددِ هذا السؤالِ وانتشارِه في أمتِه بقولِه: “لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حتَّى يقولوا: هذا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيءٍ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ”.
أخرجه البخاري (٧٢٩٦) واللفظ له، ومسلم (١٣٦)، وفي روايةٍ أخرى في صحيحِ مسلمٍ عنْ أبي هريرة: ” لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءَلُونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فمَن وجَدَ مِن ذلكَ شيئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ. وفي رواية: يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ مَن خَلَقَ الأرْضَ؟ فيَقولُ: اللَّهُ…، ثُمَّ ذَكَرَ بمِثْلِهِ وزادَ: ورُسُلِهِ”.
فبيّنَ النبيُّ أنَّ الناسَ لا يتوقفونَ عنِ السؤالِ عن أشياءَ، حتى يبلغَ السؤالُ إلى القولِ: هذا خلقُ الله الخَلْقَ معلومٌ مشهورٌ، فمن خلقَ اللهَ، وأوجدَه؟، فأرشدَ النبيُّ ﷺ من صادفَ ذلك السؤالَ، أو وجدَ في خاطرِه شيئًا من جنسِه، “فَلْيَقُلْ: آمنتُ باللهِ ورُسُلِهِ”، أي: آمنتُ بالَّذي قاله اللهُ تعالى ورُسلُه عليهم السَّلامُ مِنْ وَصْفِهِ تعالى بالتَّوحيدِ والقِدَمِ. وقولُهُ سبحانه وإجماعُ الرُّسُلِ هو الصِّدقُ والحقُّ؛ فماذا بَعْدَ الحقِّ إلا الضَّلال؟!
وفي روايةٍ أخرى أوضحَ النبيُّ أنَّ هذا السؤالَ من مداخلِ الشيطانِ في الإضلالِ، حيث روى عنه أنسُ بن مالكٍ: “لا يزالُ النَّاسُ يسألون يقولون : ما كذا ما كذا حتَّى يقولوا : اللهُ خالقُ النَّاسِ فمن خلق اللهَ فعند ذلك يَضِلُّون”. المحدث : الألباني، المصدر : السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم ٩٦٦:، خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم.
ولقد شكا بعضُ الصحابةِ إلى النبيِّ ﷺ وقوعَ مثلِ هذه الخواطرِ والوساوسِ لهم، وعبَّروا عن مدى استنكارِهم لحدوثِها في نفوسِهم، ففي روايةٍ عن أمِّ المؤمنين عائشة –رضي الله عنها: “أنَّ الناسَ سألوا رسولَ اللهِ عن الوسوسةِ التي يجدُها أحدُهم ، لَأنْ يسقطوا من عندِ الثُّريَّا أحبُّ إليه من أنْ يتكلمَ به، قال : ذاك مَحضُ الإيمانِ”.المحدث : الشوكاني، المصدر : رفع البأس عن حديث النفس،الصفحة أو الرقم: ٣٧، خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ –رضي الله عنهما، قال: “جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّ أحدَنا يجدُ في نفسِه، يعرضُ بالشيء، لأن يكونُ حممةٌ أحبَّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال : اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ للهِ الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ”، أخرجه أبو داود (٥١١٢)واللفظ له، وأحمد (٢٠٩٧)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (١٠٥٠٣)، فَقام النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ بحمدِ اللهِ أنَّ الأَمرَ انتهى بأنَّه كانَ حديثَ نفسٍ ولم يزدْ على ذلك.
وعن أبي هريرة في صحيح مسلم: ” جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ ﷺفَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ.” وشرحُ هذا الحديثِ أنَّهم سألوا النبيَّ ﷺ أنَّا نجدُ من الوساوسِ ما لا نرضى أنْ نخرجَه من صدورِنا على ألسنتِنا مِمِّا يحويه من معانٍ شيطانيَّة، ويثقلُ علينا التحدثُ بذلك الشيءِ من غايةِ قبحِه وإنكارِنا له، فيسألُهم النبيُّ ﷺ: وقدْ وجدْتموهُ؟ أي: هل وجدتم ما يلقيه الشيطانُ في نفوسِكم، ثم دفعَكم إيمانُكم عن التحدثِ به؟، قالوا: نعم. قال: “ذاكَ صَريحُ الإيمانِ”.
والمقصودُ أنَّ إنكارَهم لتلك الأفكارِ السيئةِ التي يتسببُ فيها الشيطانُ دليلٌ على صدقِ إيمانِهم؛ فصريحُ الإيمانِ لا يُقصدُ به الوسوسةُ نفسُها؛ وذلك لأنَّها في الأصلِ من عملِ الشيطانِ، ولكنّ المقصود: أنَّ الإيمانَ الخالصَ والخوفَ من اللهِ في قلوبِهم هو الذي يمنعُهم من قبولِ ما يلقيه الشيطانُ في نفوسِهم والتَصديقِ به، حتى صارَ ما يلقيه إليهم مجردَ وسوسةٍ، لا تطمئنُ إليه نفوسُهم ولا يتأكدُ منها في قلوبِهم شيءٌ، وما فعلوه هو الإيمانُ الحقيقيُّ في عدمِ التفكرِ في ذاتِ الله وتركِ اللهثِ وراءَ الشيطانِ؛ فالمؤمنُ الحقُ يلقي هذه الشبهاتِ خلفَ ظهرِه وينشغلُ عنها.
ومن مجموعِ الأحاديثِ السابقةِ يمكنُ أنْ نتعرفَ على طبيعةِ المعالجةِ النبويةِ لهذا الإشكالِ، حيثُ حذَّر المؤمنَ من تربُّصِ الشيطانِ له وإلقاءِ الشبهاتِ في طريقِه حتى يخرجَه من الإيمانِ، وبيّن كيف يتخلَّصُ المؤمنُ من تلكَ الشبهاتِ بأنْ:
يستعيذَ باللهِ؛ ليطردَ عنه وساوسَ الشَيطانِ؛ فلا تدبيرَ في دفعِه أقوى من الالتجاءِ إلى اللهِ تعالى بالاستعاذة به، كما قالَ تعالى في سورةِ الأعرافِ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}
ينتهي ولا يتكلمَ بذلك، ويدفعَ تلك الخواطرَ غيرَ المستقرةِ بالإعراضِ عنها والردِّ لها من غيرِ استدلال ولا نظرٍ في إبطالِها، وهذا من أعظمِ أسبابِ السلامةِ.
يقولَ: آمنتُ باللهِ ورسلِه.
يقولَ: قل هواللهُ أحدٌ، اللهُ الصمدُ، لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكنْ له كفوًا أحد.
يتفلَ عن يساره.
وبالنظرِ في أحوالِ الناسِ في طروءِ الشبهةِ عليهم نجدُ أكثرَهم يدفعونَ السؤالَ بالانتهاءِ والتشاغلِ عنه، أمَّا من استرسلَ معه وتولدتْ عنده شبهةٌ، فيحتَجْ إلى حجةٍ وبرهنةٍ تزيلُها عنه، وتعيدُ لفطرتِه اتزانَها، كما قال المازَري -رحمه الله- : “الخواطر ُعلى قسمينِ: فالتي لا تستقرُ،ولا يجلبُها شبهةٌ، هي التي تندفعُ بالإعراضِ عنها، وعلى هذا ينزلُ الحديثُ، وعلى مثلِها ينطلق اسم وسوسةٍ، وأمَّا الخواطرُ المستقرةُ الناشئة ُعن الشبهةِ فهي التي لا تندفعُ إلا بالنظرِوالاستدلالِ”. ابن حجر، فتح الباري، ط. السلفية ، الطبعة الأولى، ٦/٣٤١.
ثالثًا- تفكيك السؤالِ وبيانِ ما تضمن من أخطاءٍ عقلية
بقليلٍ من التفكرِ سنكتشفُ أنَّ هذا التساؤلَ باطلٌ بالبداهةِ؛ لأنَّ كونَ اللهِ تعالى غيرِ مخلوقٍ أمر ضروريٌّ، فالسؤالُ عنه تعنتٌ ويتضمنُ تناقضًا داخليًا يجعله سؤالًا بلا معنى؛ وبالتالي فلن يكونَ له جوابٌ صحيحٌ، كحال بعضِ الأسئلةِ الطريفةِ التي يعجزُ الطرفُ الآخرُ عن تقديمِ جوابٍ عليها، ليسَ لعجزِه عن الجوابِ لكن لخللٍ في بنيةِ السؤالِ، مثلِ: ما طولُ الضلعِ الرابعِ في المثلثِ! فلا مجالَ هنا لتقديمِ جوابٍ؛ لأنَّ المثلثَ ليسَ له إلاَّ ثلاثةُ أضلعٍ، ومثلِ: هل تستطيعُ أنْ ترسمَ دائرةًلها زوايا؟، فهذا سؤالٌ باطلٌ لا يقبلُ الجوابَ؛ فحقيقةُ سؤالِ مَن خلقَ اللهَ، هو السؤالُ عمَّن خلق الذي لا خالقَ له؟ أو ما سببُ الذي لا سببَ له؟ أو ما الذي سبقَ من لا شيءَ قبلَه؟ كلُّها أسئلةٌ لا جوابَ لها لخللٍ بها تسببَ في عجزٍ عن تقديمِ الجوابِ.
المخلوقُ هو من يتمُّ خلقُه وصُنعُه، لكنَّ اللهَ الخالقَ ليسَ مخلوقًا حتى يصنعُه أحدٌ، وإذا كان له خالقٌ إذن هو مخلوقٌ، فهل يعقلُ أنْ يكونَ الإلهُ خالقًا ومخلوقًا في ذات الوقت؟، كي يتمَّ قبولِ السؤال والبحثُ عن جوابِه يجبُ ألاَّ يتنازلَ عن قانونِ عدمِ التناقضِ، وهو مبدأٌ عقليٌّ ضروريٌّ؛ لهذا فسؤالُ (مَنْ خلقَ اللهَ) سؤالٌ باطلٌ معرفيًا لجمعِه بين نقيضينِ؛ لأنَّ السؤالَ يسلِّمُ بكونه مخلوقًا ، وهو ما يستلزمُ أنْ يكونَ له بدايةٌ، مع كونِه سبحانَه لا بدايةَ له.
وقد يسألُ لماذا اللهُ لا بدايةَ له؟ ، نعلمُ أنَّ كلَّ حادثٍ لا بدَّ له من سببٍ، وقد يكونُ هذا السببُ هو الآخرُ حادثٌ فلا بدَّ له من سببٍ هو الآخرُ وهكذا، ولكنَّ اللهَ تعالى ليسَ أمرًا حادثًا ليصح جريان مثلِ هذا السؤالِ عليه، بل هو الأولُ فليسَ قبلَه شيءٌ، ولا شكَّ في أنَّ سلسلةَ الأسباب يجب أنْ تنتهي إلى سببٍ أولٍ يكونُ من طبيعتِه أنَّه غيرُ حادثٍ، إذ لو كانَ حادثًا للزِمَ أنْ يكونَ له هو الآخرُ سببٌ فيفضي ذلك إلى التسلسلِ، والتسلسلُ في العللِ ممتنعِ.
ولكي ندركَ وجهَ الاستحالةِ في التسلسلِ في العللِ هنا نذكرُ بعضَ الأمثلةِ، ومنْ أشهرِها مثال الجندي والأسيرِ، يقولُ المثلُ: لو كانَ هناك جنديًا وبيده سلاحٌ وأمامَه أسيرٌ وأرادَ أن ْيطلقَ النارَ عليه، لكنَّه ممنوعٌ منه حتى يأتي الإذنُ من الضابطِ الذي وراءَه، فلو افترضنا أنَّ هذا الضابطَ لن يعطيَ الإذنَ حتى يعطيَه الإذنَ الذي وراءه، والذي بدوره ينتظرُ إذنَ مَن خلفَه في سلسلةٍ لا تنتهي، فإنَّ الرصاصةَ لنْ تنطلقَ، إذِ الأمرُ لنْ يأتيَ، فلو الرصاصةُ انطلقتْ، فمعناها إذنْ أنَّ الأمرَقد جاءَ من عسكريٍّ انتهتْ إليه السلسلةُ وهو غيرُ محتاجٍ إلى إذنِ أحدٍ لإعطاءِ الأمرِ.
مثالٌ آخرٌ: لو تخيلْنَا لدينا ثريَّا معلقةٌ بسلسلةٍ فإنَّ الذي يشدُّ السلسلةَ إلى أعلى هي الحلقةُالأولى في السلسلةِ، والذي يشدُّ هذه الحلقةَ هي الحلقةُ التي فوقها…إلخ، ولكنْ هل يُعقلُ أن تكون السلسلةُ مستمرةً إلى ما لا نهايةَ، فتكونُ الثريَّا معلقةً في الهواءِ؟، فهذا مستحيلٌ لأنَّها ستحتاجُ إلى من يشدُّها، ولا بدَّ أنْ تكونَ هناك حلقةٌ أخيرةٌ معلقةٌ بسقفٍ، حتى لو عجزْنَا عن مشاهدةِ هذا السقفِ، لكنَّنا مقتنعونَ بأنَّ الحلقةَ الأخيرةَ مشدودةٌ إلى شيءٍ لا يستدعي ما يشده ضرورةً.
مثالٌ ثالثٌ: لعبةُ الدومينوز الشهيرةُ، فلو وُضعَ كلُّ حجرٍ منها خلفَ الآخرِ، ورغبنا في سقوط آخر حجرٍ منها فإنَّه لنْ يسقطَ حتى يسقطَ عليه الحجرُ الذي وراءه، والذي وراءه لن يسقطَ حتى يسقطَ عليه الذي وراءه، فلو قدّرنا أنَّ وراء كلِّ حجرٍ منها حجرًا إلى ما لا نهاية، وأنَّ واحدًا منها لنْ يسقطَ حتى يسقطَ عليه الذي وراءه، فمن المستحيلِ أنْ يسقطَ واحدٌ من تلك الأحجارِ لافتقارِ كلّ واحدٍ منها إلى تحريكِ الذي وراءه، فلو شاهدناها بدأتْ في التساقطِ؛ فسنجزمُ أنَّ ثمة حجرٍ أولٍ تم تحريكُه ليسقطَ على الذي أمامَه، وليستمرَ الأثرُ على من دونِه حتى يصلَ الأمرُ إلى الحجرِالأخيرِ.
بهذه الأمثلةِ يتضحُ مبدأُ استحالةِ التسلسلِ في العللِ والفاعلينِ، وبها نفهمُ أنَّ اللهَ تعالى لا بدايةَ له، وهو السببُ الموجِبُ لهذا الكونِ، فلو استرسلنا مع سؤالِ من خلقَ اللهَ؟، فيمكنُ أنْ نسأل فمن الذي خلقَ الذي خلقَ اللهَ؟، ثمَّ نسألُ فمنِ الذي خلقَ الذي خلقَ الذي خلقَ اللهَ في سلسلةٍ لا تنتهي.
فإذا علمنا أنَّنا والكونَ موجودون الآن، ونحن حوادثٌ مفتقرون في وجودِنا إلى سببٍ أحدثنا، فسنعلمُ يقينًا أنَّ سلسلةَ العللِ والأسبابِ يجبُ أنْ تنتهيَ إلى سببٍ أولٍ من طبيعتِه أنَّه لا بدايةَ له، وهو اللهُ، فالوجودُ صفةٌ ملازمةٌ لذاتِه يعني لا يحتاجُ لشيءٍ يوجِدُه.
يقولُ ابنُ تيمية: ” ومعلومٌ أنَّ المُحدَثَ الواحدَ لا يحدثُ إلا بمحدِثٍ، فإذا كثرتْ الحوادث وتسلسلت كان احتياجُها إلى المحدِثِ أولى، وكلُّها محدَثاتٌ فكلُّها محتاجةٌ إلى محدِثٍ، وذلك لا يزولُ إلا بمحدِثٍ لا يحتاجُ إلى غيرِه بل هو قديمٌ أزليٌّ بنفسِه سبحانه وتعالى”. مجموع الفتاوى ١٦/٤٤٤.
ثمَّ من إشكالياتِ هذا السؤالِ أنَّه ينطلقُ من فرضيةِ مماثَلةِ الخالقِ للمخلوقِ، فإذا كانَ المخلوق مخلوقًا فمن خلقَ اللهَ؟، هل يمكنُ أنْ نتصورَ اللهَ إنسانًا مثلنا؟، هل في مقدورِ أحدٍ منَّا أنْ يخلق إنسانًا مثلَه أو شجرةً أو نهرًا…؟، إذن لا يمكنُ أنْ يكونَ اللهُ إنسانًا مثلنا، وإلَّا لَمَرِضَ مثلنا ونامَ مثلنا، كما أنَّه ليسَ له أبٌ أو أمٌ ولا يتزوجُ وينجبُ أطفالًا، وأيُّ إنسانٍ مهما بلغتْ قوتُه قد يصيبُه ضعفٌ ومرضٌ ومصيرُه بالنهايةِ الموتُ كأيِّ مخلوقٍ.
فمِنَ الخطإِ محاولةُ العقلِ البشريِّ أنسنةَ الأشياءِ الغيبيةِ بإضفاءِ صفاتٍ بشريةٍ عليها، أو محاولةُ تصورِها في إطارِ العالمِ الماديِّ المحسوسِ، صحيحٌ أنَّه توجدُ صفاتٌ يتصفُ بها الخالق والمخلوق، لكنَّ الفرقَ يكمنُ في كيفيتِها، فالحقُّ أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى ليسَ كمثلِه شيءٌ، وإذا علمنا أنَّ الكونَ بكلِّ ما فيه حادثٌ، فالسببُ الموجبُ لوجودِه يجبُ أنْ يكونَ أمرًا خارجًا عن إطارِه غيرَ محكومٍ بإطارِ المادةِ، فلاَ وجهَ للمقايسةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
وحتى ندركَ عدمَ جريانِ أحكامِ المخلوقِ على الخالقِ، تخيلْ أنَّ لعبةً من لعبِ العرائسِ التي يتم تحريكها من خلالِ شدِّها بالخيوطِ نطقتْ وشاهدتْ من يحركُها، لَكانَ سؤالُها فمَنْ يشدُّ خيوطَه هو الآخر؟ وهذا خطأٌ، إذْ لا تلازمَ بين هذا وهذا، وفرقُ ما بين الربِ وسائرِ خلقِه أعظمُ وأجلُّ.
ولمزيدٍ من التوضيحِ فإنّ صفاتِ الخالقِ تختلفُ تمامًا عن صفاتِ المخلوقِ، إذا قامَ شخصٌ بطرقِ الباب، فالطارقُ- أي الفاعلُ- صفاتُه تختلفُ تمامًا عن المطروقِ، ومهما حاولنا التقريبَ بين الإنسانِ- أي الطارق- وبين المطروقِ- أي الباب- لنْ نستطيعَ؛ لأنَّ صفاتِ البابِ لا تمتُّ للإنسان بصلة أبدًا، وببساطةٍ أكثرَ: إذا سألتَ من خبزَ الخبزَ، ستجدُ الإجابةَ: الخبازُ، فهل يُعقلُ أنْ تسألَ فمن خبزَ الخبازَ!، ولو تخيلنا أنَّ جهازَ الحاسبِ الآليِّ عنده عقلٌ يفكرُ به، هل مِن المعقولِ أنْ يعتقدَ أنَّ الذى صنعَه- أي الإنسان- مكونٌ من نفسِ مكوناتِه؟، هذا التخيلُ غيرُ منطقيٍّ؛ لأنَّ الذى صنعَها مكونٌ من مكوناتٍ مختلفةٍ تمامًا؛ فالإنسانُ في هذه الحالةِ ليسَ كمثلِه شيءٌ بالنسبةِ لعالم إدراكِ هذه المكوناتِ الإلكترونيةِ؛ كذلك اللهُ خالقُ هذا الكونِ، من غيرِ المنطقيِّ أنْ نفكرَ فيه أنَّه يشبه أحدًا من مخلوقاتٍه.
هذا السؤالُ يوردُه كثيرٌ من الملاحدةِ، حيث يُعدُ من أشهرِ الاعتراضاتِ الإلحاديةِ على المؤمنينَ، بالرغمِ أنَّه عند التمحيصِ نجدُها مجردَ أداةٍ جداليةٍ للمناكفةِ لا أكثرَ؛ إذ لا ينطلقونَ من قبولٍ حقيقي بأنَّ اللهَ هو خالقُ الكونِ.
لا ننكرُ كونَ هذا السؤالِ واحدًا من أهمِّ الشبهاتِ التي أثارتْ نزعةَ الإلحادِ في كثيرٍ من النفوسِ، حيث ُشكَّل لديهم مأزقًا حتى دفعَ بعضَهم لتبني الرؤيةَ الإلحاديةَ، لكنَّ سؤالَهم يتضمنُ سوءَ فهمٍ لطبيعة الحجةِ الإيمانيةِ العقليةِ التي يوردُها المتدينون لإثباتِ وجودِ اللهِ تعالى، إذِ السؤالُ يستبطنُ التصورَ التالي لطبيعةِ دليلِ الخلقِ والإيجادِ على وجودِ اللهِ:
كلُّ موجودٍ فلا بدَّ له من سببٍ، الكونُ موجودٌ فلا بدَّ له من سببٍ، والسببُ لوجودِه هو اللهُ؛ فيأتي الاستشكالُ بعدَ ذلك بأنَّ اللهَ موجودٌ فمن أوجدَه؟
ووجهُ المغالطةِ أنَّ هذا العرضَ لدليلِ الخلقِ والإيجادِ مغايرٌ في طبيعتِه للدليلِ في صورتِه الحقيقيةِ التي يسوقُها المستدِلُّ به على وجودِ اللهِ، حيثُ لمْ يدّعِ أنَّ كلَّ موجودٍ فلا بدّ له من سببٍ، بل الدعوى هي أنَّ كلَّ حادثٍ لا بدَّ له من سببٍ؛ لأنَّ الموجودَ قد يكونُ وجودُه وجودًا واجبًا لا يتصور العقلُ إلا وجودَه، وهو بطبيعتِه غيرُ مفتقرٍ إلى سببٍ يتوجبُ وجودَه، وقد يكونُ وجودُه ممكنًا يفتقرُ في وجودِه إلى وجودٍ واجبٍ، وقد يكونُ وجودُه ممتنعًا لا يتصورُ العقلُ إمكانَ وجودِه.
وختامًا نسألُ اللهَ الثباتَ على الإيمانِ، وأن يعيذَنا من كيدِ كلِّ شيطانٍ.
لا يمكن إثبات وجود الله بالمنهج العلمي التجريبي!
يعترض الملاحدة على المؤمنين في مسألة الوجود الإلهي بدعوى: أنّه لا يمكن إثبات وجود الله بالمنهج العلمي التجريبي، وإذا كان ذلك -بزعمهم- فلا يمكن إثبات وجوده سبحانه؛ لأن “الذي يعجز العلم عن اكتشافه= لا يستطيع البشر معرفته” على حدّ تعبير برتراند رسل.
والجواب على اعتراضهم هذا من وجوه:
أولاً: أصل هذا الاعتراض يتضمن افتراضاً مسبقاً فحواه: أن المعارف والموجودات لا يمكن أن تتحصل المعرفة بها إثباتاً ونفياً إلا عن طريق المنهج العلمي التجريبي وما يخضع للتجربة والحس لا غير. وعليه، فيكون عدم إمكانية إثبات الوجود الإلهي بهذا المنهج قادحاً بمجرده في أصل الثبوت نفسه للوجود الإلهي؛ وفي هذا تجاهل وتنكُّر واضح لبقية مصادر المعرفة الثرية التي يمكن من خلالها تحصيل المعارف وإدراك وجود الأشياء، بل ولا يكاد يُستغنى عن جنس من أجناسها بإطلاق في الحياة العملية -بما في ذلك من يُنظِّرون لدعوى احتكار المنهج العلمي التجريبي لهذا الأمر-، كما سيأتي.
ثانياً: نقول: أن هذا الاعتراض لو سلّمنا به -جدلاً- لكان غاية ما فيه هو إثبات العجز عن إخضاع مسألة الوجود الإلهي لأدوات التحقق العلمية التجريبية، ولا يدل ذلك بحال على عدم الوجود الإلهي ذاته، فكما في القاعدة العقلية المعروفة: (عدم الدليل المعيّن ليس دليلاً على العدم، وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود).
ثالثاً: ومن هنا نتساءل: هل هذا المنهج العلمي قادر أصلاً على إدراك جميع الحقائق والظواهر واختبارها حتى يكون مجرد العجز عن إخضاع شيء ما لأدواته حجة على نفي ذلك الشيء؟
الواقع أن التأمل البسيط في الواقع يُفضي إلى خلاف ذلك -ومن المشتغلين بالمنهج العلمي من يُقرّ بهذا القصور فعلاً-، فنحن لا نجد مثلاً للمنهج العلمي التجريبي سُلطة على البديهيات والمبادئ العقلية الضرورية كمبدأ السببية بحيث يمكنه اختبارها والتحقق منها تجريبياً، بل على العكس من ذلك، نجد هذه المبادئ هي عِماد هذا المنهج وأسّ بناءه ولولاها لما وُجِد أصلاً! كما أننا نجد من مكونات هذا المنهج نفسه ما ليس داخلاً في إطار التجريب كتأثر الفروض العلمية بالحدس والخيال وما لهذين من أثر بالغ في تطور العلم، هذا علاوة على الأسس المتافيزيقية للعلم كالاستقراء وافتراض اطراد الحوادث في الماضي والحاضر.
وكذا الأمر أيضاً في المبادئ الأخلاقية سواء العامة التي يشترك فيها الناس جبلة وفطرة كحب العدل والصدق وبغض ما يضادهما من الجور والكذب، أو تفاصيل الأخلاق التي إما أن يأخذها الناس من الشرائع الدينية أو بعض المناهج العقلية أو النفعية الوضعية، بينما ليس شيء من ذلك يمكن إناطته بالعلم التجريبي. ووجه ذلك: أن المنهج التجريبي غاية ما يمكنه هو توصيف الظواهر، لكنه لا يملك القدرة على تعييرها وتقييمها والحكم عليها بالصواب أو الخطأ، فهو علم وصفي لا معياري.
رابعاً: لا يفوتنا هنا أن نشير لتناقض يقع فيه أصحاب هذا الاعتراض، فبينما هم ينكرون الوجود الإلهي بزعم عدم إمكانية إخضاعه للطريقة العلمية -ويعنون بذلك الحس والتجريب المباشر-، تجدهم أنفسهم لا يلتزمون بهذه الصرامة المزعومة إذ يصفون كثيراً من الأمور بأنها علمية ومثبتة عن طريق الاستدلال بآثارها المترتبة عليها فقط؛ كقانون الجاذبية، ونظرية التطور، ودراستهم للذرَّة وخواصها وتركيبها ووظائفها مع أنهم لم يكونوا يرونها، ودراسة تركيب الأجرام السماوية البعيدة، وكذا الحال في عدم تصورنا للكهرب مع أنه بآثاره أثبَتُ عندنا من الخشب كما يعبِّر الطبيب ليكونت دي ينوي! [عقائد المفكرين في القرن العشرين:٨٧]. وفي هذا السياق يقول العالم الطبيعي ميربت ستانلي كونجدن:
«إننا نستدل على هذه الظواهر جميعاً بآثارها، معتمدين في ذلك على الاستدلال المنطقي الصرف… وإننا لنستطيع أن نستخدم نفس المنطق الاستدلالي في إدراك وجود الله تعالى وصفاته» [الله يتجلى في عصر العلم: ٢٣].
خامساً: هل المنهج العلمي الصحيح يتعارض مع الوجود الإلهي؟ أم على العكس يوافقه ويؤكده؟
بناء على ما سبق بيانه من تسليمهم -ولو عملياً- بصحة الاستدلال على الحقائق والموجودات بآثارها المترتبة عليها -وهذا نوع من الاستدلال العقلي كما ترى-؛ نقول أن وجود الله تعالى يثبت بنظير هذه الاستدلالات كما قال كونجدن، ومن ذلك الأدلة العقلية التي نستدل بها على وجود الله كدليل الخلق والإيجاد في حدوث آحاد المخلوقات المشاهَدة، ودليل النظم والإحكام وما ينضوي تحته من مفاهيم بعضها تدخلها مادة من التجريب كالذي صاغه بعض المعاصرين للبرهنة على ما يسمى التصميم الذكي كمفهوم التعقيد غير القابل للتبسيط (irreducible complexity) للكيميائي مايكل بيهي، ويقاربه التعقيد المخصص (specified complexity) للرياضي وليم ديمسكي، إلى غير ذلك.
من خلق الله ؟!
هذا الاعتراض من أقدم الاعتراضات التي لا يملُّ الناقدون للأديان من تكرارها، ومن أكثرها انتشارا في خطاباتهم ومحاوراتهم، فإنه لا يكاد يُذكرُ دليل الخَلق والإيجاد الذي يستدل به المؤمنون على وجود الله حتى يبادر المعترضون دون تأمّل بسؤال: من خلق الله؟!
وهو سؤالٌ تقوم حقيقتُه على أنَّ الأخذ بدليل الخلق والإيجاد يلزم منه أن يكون لله خالق وسببٌ، إذ إنَّ هذا الدليل يربط بين الوجود والخالق والسَّبب، والله موجود، فرأى الناقدون للأديان -وفقا لذلك- لزوم أن يكون له سبب وخالق وموجد!
وقد كان هذا الاعتراض بارزًا عند فلاسفة كُثُر، من أقدمهم الإنجليزي الشهير ديفيد هيوم، فقد ذكر أنه إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه[1]
وهذا برتراند رسل يقول عن نفسه: “كنت أعتقد صحة حجة المسبب الأول، إلى أن قرأت في عمر الثامنة عشرة سيرة جون استوارت مل حيث وردت الجملة التالية: (علمني والدي أنه توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟!)، هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة، إذا كان لكل شيء سبب يجب أن يكون للرب سبب أيضا“[2]
ثم كان ذاتُ السؤال حاضرا عند سبنسر، فهو يقول سياق زعمه أنّ الدين لا يُوصل للمعرفة الحقّة:
“استمع إلى هذا الناسك المتديّن، ها هو ذا يقصّ عليك علّة الكون، وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفـسّر بهذا الرأي من المشـكلة شيئًا، ولم يزد على صاحبه (أي: المنكر للخالق) سوى أن أرجـعها خطوة إلى الوراء، وكأني بك تسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟“[3]
ونتيجة لجهل عدد من الواقفين على هذا السؤال وغفلتهم عن موضع الخلل فيه، كان سببا في تشكيكهم في وجود الله، بل في وصول بعضهم للإلحاد[4].
مجمَلُ الردِّ على الشُّبْهة:
قامت هذه الشبهة على أصول استدلالية متهافتة، وأغاليطَ عقليَّةٌ، وأهمها:
الأصل الأول: إمكانُ التَّسلسل والدَّوْر، ومنه نشأ السَّؤال، وهما ممتنعان عقلا.
الأصلُ الثاني: التَّسويةُ بين المختلفات، كالموجودات والحوادث، وهو تلبيس وخلط.
الأصل الثَّالث: التناقض الداخلي في بنية الشبهة، إذ السؤال مقدَّر على فرض الإقرار والتسليم بوجود الموجود الأزلي الذي لا أول له، ثم هو يسأل عن إمكانية أن يكون للسابق سابقٌ وللأولِ أوَّلٌ!
مفصَّل الردِّ على الشبهة:
بيان ما في هذا الاعتراض من الخلل والفساد المعرفي والاستنتاجي والبعد عن العقل يتحصَّل في ثلاثة أمور:
الأول: الفهم الخاطئ لدليل الخلق والإيجاد، فلقد خلط المعترضون بين الوجود والحدوث، فتوهَّموا أنَّ دليل الخلق يقصد إلى إثبات علّة لكل موجود، وهو تصوّر في غاية الانحراف والبُعد، لأن دليل الخلق لا يتحدّث إلا عن الموجودات الحادثة فقط، والمقصود الأساسي منها إثبات استحالة التسلسل في العلل وضرورة انتهائها إلى موجود لا موجد له، أي إثبات احتياج الموجود الحادث إلى موجود قديم أزلي لا أولية لوجوده، ولذلك كان من مقدمات دليل الخلق الأساسية: إثبات حدوث الكون.
ولكنَّ المعترضين يغفلون عن هذا أو يتغافلون، فهم يشبهون رجلا أقام الأدلة لصديقه الغبيّ على عدم وجود سيّارة خارج البيت، فإذا بالغبيّ يسأل: من أوجد السيَّارة التي بالخارج؟!
الثاني: الاعتقاد بأن القول بوجود موجود أزليّ هو مجرد اختيار فلسفي أو ضرب من الهوى، وهو خطأ شنيع، فإنه ضرورة عقلية يتعذّر قبول غيرها؛ لأن الضرورة الحسيّة تثبت وجود موجودات حادثة وأن وجودها لابدّ له من سبب، ولمّا كان الدور القبلي والتسلسل في الفاعلين ممتنعا، كان وجود الموجود الأزلي حقيقة يضطر العقل الإنساني إلى التسليم بها اضطرارا لا يجد عنه محيصا.
يقول مصطفى صبري: “فالعاقل مضطر إلى الاعتراف بموجود واحد بدون علة، كاضطراره إلى الاعتراف بعدم وجود ما عداه بدونها، فتستند عقيدة المؤمن إلى هذين الاعترافين المختلفين: إيجابا وسلبا، واللذَين لا تتم فلسفة الكون ولا تستقيم إلا بهما، أما التوقف دونهما: بتجويز وجود العالم بذاته من غير حاجة إلى من أوجده رغم كونه عرضة للتغير…أو بتجويز وجود العالم مستندا إلى موجد حادث مثله يتقدمه في الوجود، ويتقدم ذلك الموجد موجد حادث آخر، وهلم جرا إلى أن يلزم التسلسل في العلل الموجدة الحادثة المتقدم بعضها على بعض = فمحال، يخالف كل واحد من هذين الاحتمالين لأحد المبادئ المركوزة في فطرة الذهن البشري“[5]
الثالث: التناقض المنهجي مع طبيعة ما يتعلّق به الجدل؛ فإن دليل الخلق يُثبت أن هناك موجودا أزل