تعزيز اليقين وهداية الحيران

إبراهيم حافظ: هدتْني ملحدة!

بقلم: إبراهيم حافظ

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف تَهديني مُلحدة؟ تلك قصتي العجيبةُ التي أردتُ أن أحكيَها لكم.

نشأتُ نشأة دينية في طفولتي في بلد إسلامي ولدتُ فيه، ثم رُبّيتُ تربية مادية علمانية في بلد غربي انتقلتُ إليه مع والدَيّ؛ ولكني لم أتأثر كثيرا لاهتمام والدَيّ بي وإشرافهما عليّ في البيت، وواصلتُ دراساتي العليا وأنا في فُتُوَّة الشباب في تخصص علمي دقيق جذبني مع الأيام إلى القراءة بشغف في ميادين الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة.

ومن هنا بدأ اضطراب المفاهيم والقيم والموازين الدينية التي نشأتُ عليها في طفولتي، وتمسكتُ بها في مراهقتي، وثبتُّ عليها في يفاعتي.

في الظاهر كنت مسلما أصلي وأصوم ما دمتُ مع والديّ أو مع من له صلة بهما، لا أملك الشجاعة الكافية لأن أبدو أمامهما بغير ما يرضيهما مني في تَدَيُّني. وفي الباطن شخص مضطرب متشكك لا يجد للصلاة وللصيام معنى، لا يشعر بلذة للعبادة ولا يتحمس لها، يؤديها طقوسا آلية يرائي بها من يتَّقي غضبه أو لومَه من الأقارب والمعارف.

وظللتُ على هذه الحال فترة كادتْ تنهشني وتُرديني؛ حتى قابلتُ بالصدفة ذات يوم – وأنا في طريقي إلى الجامعة حيث أعمل – صديقة لي زاملتُها في الجامعة بضع سنين ثم افترقنا. كانت فتاة غربية بامتياز، نموذج مثالي صارخ للفتاة الغربية الحرة في أقوالها وأفعالها، الفتاة المتمردة في آرائها الفجّة وأفكارها الثورية إلى درجة الإلحاد؛ على عكس شخصيتي الهادئة المتردّدة. لأجل ذلك لم أكن أرتاح لها، ولم أكن أشجِّعُها على التقرب مني رغم محاولاتها العديدة؛ ولكنها الآن مسلمة محجبة!

– ماذا؟ كيف؟ متى؟ لماذا؟

قالتْ ضاحكة وهي تهتز بشدّة ولا تكاد تمسك نفسها:

– مازلتَ كما كنتَ، تلقي بأسئلتك دفعة واحدة! كيف يمكنني الإجابة عن كل هذه الأسئلة ونحن واقفان عجلان؟!

– لا بد من ذلك، اجعلي بيننا موعدا نلتقي فيه.

– عصر الجمعة في المركز الإسلامي.

ويقتلني انتظار الجمعة حتى يأتي، فتأتي في موعدها الذي حدَّدتْه وتحكي، تحكي عن رحلة الضياع التي عاشتْها في كل شيء، وكادتْ تنتهي بها إلى الجنون أو الانتحار، ثم قادها “عذاب الإلحاد” إلى “سكينة الإسلام” كما أسمتْهما، الإسلام المتشكك الذي قادني أنا المسلمَ العريقَ إلى ما يشبه الإلحاد أو قريبٍ منه. كيف انتهى بنا مفترق طرقنا إلى هذا المصير المتعارض؟ قالت:

– السرّ في القرآن!

لم أفهم ما تعنيه لأول وهلة، ثم انتبهت:

– هل تعنين أنكِ اقتربتِ من القرآن في الوقت الذي غرقتُ فيه أنا في كتب الفلسفة؟

هزّتْ رأسها موافِقةً وقامت! قالت: إنها على موعد مع جارات لها تعقد لهنَّ درسا في بيتها مغرب كل جمعة، ومضتْ على عجل؛ ولكنها بقيتْ تعيش وتقرأ القرآن في داخلي، أكاد أسمع تلاوتها الخاشعة بلكنة إفرنجية!

كانتْ ملحدة في السابق ولكنها تقرأ القرآن حاليًّا وتتحجّب، وكنتُ مسلمًا في السابق ولكني أقرأ الفلسفة حاليا وأضطرب. تتداخل في ذهني كل المسائل والمعاني، تختلط ببعضها، تتعارض، تتواجه، تتعارك، يُدمي بعضُها بعضا، ينوء رأسي بحِمله ويغلي، يتفجّر بركان الأسئلة الثائرة في داخلي دفعة واحدة.

لأول مرة منذ شهور تجرأتُ وانطلق بها لساني وأنا أصيح معترضا: لماذا نعبد الله وهو غني عن عبادتنا؟ لماذا جعل صلتنا به تقوم على الأوامر والنواهي، وليس على مطلق الاختيار وحرية التصرف؟

لماذا يفرض علينا أن نخالف أهواءنا ونغالب شهواتنا التي خلقنا بها وركَّبها فينا؟ هل يستفيد من تركنا للملذّات والشهوات؟ هل يحتاج منا أن نؤدّي هذه العبادات؟ لا ينبغي أن يكون الرب محتاجا لشيء وإلا لم يكن ربًّا؛ فلِمَ التعب والنصب، والعناء والشقاء، بتكاليف العبودية وأعبائها؟

هدأتُ وارتحتُ، شعرت كأني أخرجت ما بداخلي من حمم بركانية ظلت تغلي وتنصهر طيلة أشهر. وتولّت الأيام اللاحقة الإجابة على تساؤلاتي على ضوء القرآن، القرآن الذي عدتُ أمسحُ الغبار عن نسختي منه بعد أن هجرته دهرًا.

*  *  *

علمتْ إدارة قسمي في الجامعة أني اعتكفتُ مؤخرا على دراسة القرآن، فكلفتْني بإعداد بحث حول التصور القرآني للكون، وفرّغتني له مدة شهرين. طالبتُها بتوفير مساعد لي، فاستأجرتْ لي “روبوتا” قادرًا على أداء بعض المهام البحثية؛ لأنّ تكلفته – كما قالوا – أقلُّ من المساعد البشري. ذات مرة طلبت من “الروبوت” أن ينجز لي مهمة فردّ عليّ:

– ليست ضِمن حدود قدراتي.

– لماذا؟

– لأنَّ من صنعني وبرمجني لم يجهّزني لأداء هذه المهمة.

– ولكنك “روبوت” متطور، مزوّد بذكاء اصطناعي.

– مهما كنتُ متطورا وذكيا سأبقى خاضعا للبرمجة التي وضعها لي صانعي.

قلت في نفسي متأمّلا: ستبقى خاضعا للبرمجة التي وضعها لك صانعك، وكذلك أنا! سأبقى خاضعا للفطرة التي غرسها وركّبها الخالق في داخلي، فطرة العبودية التي لا فكاك لي منها: لله أو لأحد من ذوات الأرواح أو لشيء من الجمادات. فإن عبدته اتّسقتُ مع فطرتي الصحيحة؛ وإلا انحرفتُ بها عن مجالها، وأفسدتُ نفسي، وخرجتُ عن إنسانيتي، وشوّهتُ بشريتي، ودخلتُ في عراك مع طبيعتي:   وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الروم: 30].

– شكرا “روبوت”، علّمتَني شيئا، أنجزتَ لي مهمة أكبر!

– لا أعلم عمّ تتحدث!

*  *  *

أرهقت نفسي بالبحث ودفنتها فيه حتى أُصبتُ بوعكة صحية، زرتُ طبيبا، نصحني بممارسة التمارين الرياضية بانتظام؛ لأستعيد عافيتي، وأحافظ على صحتي، فلم أرَ بُدًّا من الاشتراك في نادٍ رياضي. سألت مدربي في النادي:

– كيف نجحت في بناء عضلاتك، وامتلكت جسما متناسقا؟

– حافظتُ على ثلاثة أمور بشكل حرفي: تجنبت كل ما يضرني من الأكل والشرب والعادات، التزمت بنظام صارم للأكل الصحي، ونظام صارم للتمارين الرياضية.

– ولكنها أمور شاقة ومتعبة.

– بل سارّة وممتعة؛ لأن غايتي من ذلك تقلب لي مشقّاتي لذات في نظري، فأنا أحب أن أحافظ على صحتي في مستوى مثالي!

قلت في نفسي متأمّلا: تحب أن تحافظ على صحتك في مستوى مثالي، فتبذل وتشقى؛ ولكنك تتلذّذ وتسعد، وكذلك أنا! يمكنني أن أحب عبادة الله، وأن أعشق الطاعات، ولا أستثقلها مهما بذلت في سبيلها؛ طالما أن غايتي هي نيل رضا الله:  (جَزَآؤُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ) [البينة: 8].

– شكرا مدربي، علمتني شيئا!

– عسى أن ينفعك في بناء جسمك.

– بل روحي!

*  *  *

بعد عودتي من غيابي المرضي افتقدتُ زميلا لي في الجامعة، سألتُ عنه فعلمتُ أنه يرقد في المستشفى، وأنه تبرع بكليته لزوجته، استغربتُ واندهشتُ. علاقتنا السطحية في الجامعة عبر عدة مواقف عابرة رسمتْ له في ذهني انطباعا غير جيد عن شخصيته: جافّ وأناني، لا معنى للعواطف ولا وجود للمشاعر في حياته القاحلة. سألته أثناء زيارته في المستشفى:

– كيف استطعتَ أن تتخلى عن كُلْيتك؟

– كليتي ليست بشيء في مقابل إحسانها إليّ، وفضلها عليّ، أغدقتْ عليّ حبا وحنانا وعطاء لا ينتهي، وبذلتْ لأجلي كل ما تستطيع من مال وعَرَق وعُمر؛ حتى أرغمتْني على حبها.

 – عطاؤها هو ما غيّرك إذاً؟

قلت في نفسي متأملا: أعطتْه ومنحتْه وبذلتْ له حتى جعلتْه يحبها، وكذلك أنا! أعطاني الله وأنعم عليّ نعمًا تتوالى وتتتابع رغم تقصيري وشكوكي، فكيف لا أحبه؟ وكيف أستثقل عبادته؟ (وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا ‌تُحۡصُوهَآۗ) [إبراهيم: 34].

– شكرا زميلي، علّمتَني شيئا!

– أن تتبرّع بكليتك؟

– بل أهَبُ حياتي كلَّها لمن يستحق!

*  *  *

قبل انتهاء العام الدراسي شاركتُ بورقة موجزة عن بحثي في مؤتمر علمي أقامتْه الجامعة، يناقش كل من تحدث فيه من العلماء المختصّين عن الدقة الهندسية المتناهية في بناء نظام الكون كله: من أصغر مخلوقاته كالذرة والخلية، إلى أكبر موجوداته كالمجرات الفلكية وما وراءها. وأكثرهم كان يختم حديثه بالتصريح بأنه يستحيل أن تتكون دِقّة كونية كهذه مصادفة بلا مهندس عبقري خلّاق! كنت أستمع إليهم وأستحضر في وجداني كل مرة معاني العظمة الربانية والجلال الإلهي والكمال القدسي التي تتضمَّنها أسماءُ الله الحسنى وصفاتُه العلى في القرآن الكريم.

أخيرا جاء دوري في المؤتمر، قلت لهم في كلمات منتقاة بعناية تعمَّدتُها أن تكون موجزة:

– بحثكم الدائب في الكون الواسع أوصلكم إلى استحالة وجوده بلا مهندس عبقري حكيم؛ ولكنكم استغرقتم في التعرف على الكون وأجزائه وذراته وزواياه عوضا عن التفكير في مهندسه العبقري الحكيم: لِمَ خلق ما خلق فأحكم خلقه؟ لِمَ سخّره لنا نحن البشر فجعلنا أقوى ما في الكون؟ ما الحكمة في تسخير الكون لنا؟ لماذا اختارنا نحن بالذات من بين كل مخلوقاته؟ ماذا يريد منا بالضبط؟

قلت ذلك وسكتّ. فبُهتوا جميعا يتفكّرون، ثم انتبهوا وقالوا:

– أين نجد إجابات كل هذه الأسئلة التي طرحتَها؟

قلت لهم ببطء شديد وأنا أضغط على كل حرف:

– في القرآن الكريم!

خرجتُ من المؤتمر وأنا أقول في نفسي متأملا: يستحيل أن تتكون دقة كونية كهذه مصادفة بلا مهندس، فإذا كان هذا عظيم خلقه وأثر كماله وبديع صنعه؛ فكيف بالعظيم الخالق الصانع البديع نفسه؟ سبحانك ربي! وكيف للقلب السليم أن يشهد هذه العظمة البالغة في خلقه وذاته، ويتقلب في جزيل عطائه ونعمته، ثم لا يشكره ولا يحبه ولا يندفع لعبادته؟ حتى وإن لم يأمر بذلك؛ فكيف وقد أمر وحضّ، ورتب الثواب والعقاب؟ أي قلب خبيث هذا الذي يجحد ويعمى عن كل ذلك فلا يعقل، ولا يهتدي إلى معرفة ربه وتعظيمه وعبادته؟ أفليست النار أولى به؟ (وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ ‌فَلَن ‌تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِ) [الإسراء: 97].

كيف تجرأتُ وسألتُ: لماذا نعبد الله وهو غني عن عبادتنا؟ وكان الأولى بي أن أسأل: كيف لا نعبده ونحن في أشد الحاجة لأن نعبده؟ ليس العجب أن يطلب العظيم منا أن نعبده؛ وإنما العجب كل العجب أن يقبل العظيم منا ضعيف أعمالنا وحقيرها مهما استكثرناه ويتفضل علينا بقبولها، أن يشرّفنا العظيم الكبير بالعبودية له، ويرضى أن ننشئ معه علاقة نكون نحن طرفها الثاني! من نحن بالنسبة إليه؟

وانفجر قلبي باكيا يتلوّى: اللهم إني تائب عائد إليك، أعبدك حبا وخوفا ورجاء، فاقبل مني وتقبلني يا رحيم.

*  *  *