ادعاء التباغض بين الصديق وعلي – رضي الله عنهما – بسبب الخلافة
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – قد ساءت عليا وطائفة من أهل البيت، وأنه – من أجل ذلك – تأخر عن بيعته، فمكث نحوا من ستة أشهر لا يأتيه، وقد ظل مدة خلافته مكرها على السكوت عن حقه في الإمامة، يسر لأبي بكر بغضا هو بغض الإنسان لمن غصبه ما يستحق.
وهو زعم يصور الإمرة غنما يتنازعه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، هادفين من وراء ذلك إلى الحط من شأن ذلك الرعيل الخير الذي احتمل عبء نقل الرسالة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) سيرة الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – تظهر ما كان بينهم من أواصر الود والإخاء.
2) سيرة أبي بكر وعلي – رضي الله عنهما – خاصة تجلي ما كان بينهما من تصاف ومصاهرات.
3) الروايات الصحيحة تثبت مبادرة علي مع الصحابة إلى مبايعة الصديق.
4) بلاء علي – رضي الله عنه – ونصحه في خلافة الصديق يبعد إبعادا تاما وهم الضغينة المدعاة التي كانت بينهما.
التفصيل:
أولا. فضل أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – ومنزلتهم:
لقد جاء القرآن الكريم مثنيا على الصحابة، وكذلك أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذر من سبهم وانتقاصهم، بل وشهد الواقع على حب بعضهم لبعض، وثناء بعضهم على بعض، فلا يغرنك اختلافهم الظاهري، فإنه تكاملي لا تضاد فيه ولا شقاق، بل هو رحمة للأمة كلها، وليس للمسلم إلا الاعتراف بفضلهم، والكف عما شجر بينهم.
يقول د. محمد أمحزون: “لقد دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتعظيمهم وتوقيرهم، والاحتجاج بإجماعهم والاستنان بآثارهم وحرمة سب أحد منهم؛ لما شرفهم الله به من صحبة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والجهاد معه، والصبر على أذى المشركين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وأولادهم، وتقديم حب الله ورسوله على ذلك كله، فاستحقوا بذلك الثناء عليهم، والتجاوز عمن فرط منهم، إذ نزل الوحي من الله بأنه رضي عنهم ووعدهم بالجنة، وبشرهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بها، ونادى بإجلالهم وتوقيرهم، وأخبر أنهم أمنة أمته ونجومها الذين يقتدى بهم.
ومن النصوص الدالة على تزكيتهم ما ورد في القرآن الكريم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: )كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( (آل عمران: ١١٠).
وذكرهم الله – عزوجل – بأنهم القائمون على رعاية الحق وحراسته والعمل بمقتضاه بموجب تكليف رباني، لذلك فهم العدول الذين يشهدون على الناس بما عملوا؛ لأن الشهادة لا يقوم بها إلا العدل، قال تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا( (البقرة: ١٤٣).
ووعدهم الله – عزوجل – حسن الثواب وحسن الخاتمة، قال تعالى: )وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)( (الحديد). وفي مقام آخر: )إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون (102)( (الأنبياء). وقال تعالى في مدحهم وذكر ما أعده لهم: )والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100)( (التوبة).
وقد أوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – الأمة بأصحابه وأبان فضلهم ومنزلتهم، ومن ذلك ما أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه «أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خطب بالجابية[1]، فقال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مقامي فيكم فقال: “استوصوا بأصحابي خيرا، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[2].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته»[3].
وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»[4].
جاء عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أنه قال: حدثنا أبو سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان فيغزو فئام[5] من الناس فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم»[6].
وفي تحريم سبهم قال صلى الله عليه وسلم:«لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»[7].
وهكذا يلاحظ أن الله تعالى جعل أمر عدالة الصحابة لنفسه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل ذلك لأحد من المسلمين غيرهما، فكل شاهد وكل ناقل يفتش عن عدالته إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أجمع عليه أهل السنة.
قال الخطيب البغدادي: “عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن”.
ثم حكى الإجماع على ذلك بقوله: “هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء”، وقال ابن الصلاح: “ثم إن الأمة المسلمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله – سبحانه وتعالى – أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم”.
وقال ابن حجر: “اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة”.
وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في هذه العدالة، وأن ينزه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الطمع والشح والغدر والخديعة والغفلة واللؤم والفسق والظلم والاستبداد وأكل الأموال بالباطل، وكل الأخلاق التي تطعن في العدالة وتعد من الفسق وخوارم المروءة، وأنهم وإن كانوا غير معصومين فهم عدول، وأن ما اجتهدوا فيه سواء تعلق بالدماء أم الأموال فهم فيه مأجورون، وأنهم وإن جازت عليهم المعاصي إلا أنهم يتوبون ويستغفرون، فيتوب الله عليهم ويغفر لهم، وأن لهم فضل الصحبة التي خصوا بها، وهو فضل ما لم يدركه أحد بعدهم.
موقف المسلم مما روي في قدح بعض الصحابة:
مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسط عدل بين طرفي الإفراط والتفريط، وسط بين الغلاة الذين يرفعون من يعظمونه من الصحابة إلى مصاف النبيين والمرسلين أو أكثر من ذلك، وبين الجفاة الذين ينتقصونهم ويسبونهم ولا يعرفون لهم قدرهم ومكانتهم. فأهل السنة وسط بين هؤلاء وأولئك يحبون أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جميعا، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالإنصاف والعدل، فيعرفون لكل فضله وقدره، فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون، ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون، إما مصيبون لهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون لهم أجر الاجتهاد، خطؤهم مغفور؛ لأنهم اجتهدوا عن حسن نية، وهم ليسوا معصومين، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، وقد وعدهم الله المغفرة والرضوان.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “ومن الحجة الواضحة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أو أحدا منهم أو تنقصه أو طعن عليهم أو عرض بعيبهم أو عاب أحدا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وأصحاب رسول الله هم خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: “ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ويتبرأون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم – إن صدر – حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم… ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير خلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله”.
وبناء عليه فيجب صيانة القلم واللسان عن ذكر ما نسب إليهم – رضي الله عنهم – من مساوئ، وإحسان الظن بهم، والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم، لأن القضايا كانت مشتبهة بسبب الفتنة، ولشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، والمجتهد منهم مغفور له خطؤه إن أخطأ.
ثم إن الأخبار المروية في ذلك لم توضع في سياقاتها الصحيحة، فمنها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرف عن أصله وتشوه مضمونه.
وعلى الباحث أن يعلم أن أهل السنة قد عارضوا هذه الأخطاء ونفوها، وأن لهم مصادرهم الموثوقة التي يعتمد عليها، يقول ابن تيمية: “ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها، ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على نفسها كالصحاح والسنن والمسانيد والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك، وكتب السير والمغازي وإن كانت دون ذلك، وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر النفسي صدق ما في النقل، وعلم أن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وأن أصل كل فتنة وبلية هم الشيعة ومن انضوى إليهم”[8].
لقد وصل الحب والتآخي بينهم إلى درجة التوارث بعد الموت دون ذوي الأرحام، إلى حين واقعة بدر، فلما أنزل عزوجل: )وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض( (الأنفال:75) رد التوارث، دون عقد الأخوة.
وحتى دعا بعضهم بعضا إلى اقتسام الأموال والزوجات، فقد جاء عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: «لما قدموا المدينة آخى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع – رضي الله عنهما -، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي، أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم»[9]؟
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: “لا”. فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا»[10] [11].
وهذه الرتبة من الإيثار مما لا يتصور لثقافة أخرى أن تعرفه أو تدانيه، وما كان ليعرف رأسا لولا أن الإسلام نقل المشاعر العربية نقلة بعيدة عن المستوى العام الذي كانت الإنسانية جميعها تألفه في تلك الأيام.
ثانيا. ما كان بين الصديق وعلي – رضي الله عنهما – من ود ومصاهرة ينفي هذا الزعم:
كان بين الصحابة – رضي الله عنهم – علاقات ومصاهرة، فضلا عن أخوة الإسلام، وكان هذا واضحا في علاقة أبي بكر الصديق بعلي – رضي الله عنهما -، فلقد كان بين الصحابة عامة علاقة حب وإيثار، وتضحية في سبيل الآخر، وقد وصفهم الله تعالى بهذا الوصف في قوله: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)( (الحشر).
“كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، كانت هذه المودة والثقة متبادلة، وكانت من المتانة بحيث لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل.
فالصديقة عائشة بنت الصديق – رضي الله عنهما – كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة، وهي طاهرة مطهرة بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون، ثم أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها وتزوجها الصديق وولدت له ولدا أسماه محمدا الذي ولاه على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له ولدا سماه يحيى.
وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر – الإمام الخامس عند الروافض وحفيد على – رضي الله عنه – وقد نقل الأستاذ إحسان إلهي ظهير من كتب الروافض ما يثبت التلاحم والمصاهرة بين بيت النبوة وبيت الصديق، فقد أثبت أن القاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حفيد علي كانا ابني خالة، فأم القاسم بن محمد وعلي بن الحسين هما بنتا يزدجرد بن شهريار بن كسرى، اللتان كانتا من سبايا الفرس في عهد عمر رضي الله عنه، وتوسع إحسان إلهي ظهير في إثبات المصاهرات وعلاقات المودة والتراحم والاحترام المتبادل بين أهل البيت وبيت الصديق، وكان من حب أهل البيت للصديق والتواد فيما بينهم أنهم سموا أبناءهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه، فأولهم علي بن أبي طالب حيث سمى أحد أبنائه أبا بكر، وهذا دليل على حب علي ومؤاخاته وتقديره للصديق رضي الله عنه.
والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة، وهل يوجد في الشيعة اليوم المتزعمين حب علي وأولاده رجل يسمي بهذا الاسم، وهل هم موالون له أو مخالفون؟ وعلي – رضي الله عنه – لم يسم بهذا الاسم ابنه إلا متيمنا بالصديق مظهرا المحبة له والوفاء حتى بعد وفاته، وإلا فلا يوجد في بني هاشم رجل قبل علي سمى ابنه بهذا الاسم، ثم لم يقتصر على هذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق، بل بعده بنوه أيضا مشوا مشيه ونهجوا منهجه، فالحسن والحسين، سمى كل واحد منهما أحد أولاده أبا بكر، فقد ذكر ذلك اليعقوبي والمسعودي.
واستمر أهل البيت يسمون من أسماء أولادهم بأبي بكر، فقد سمى ابن أخي علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب سمى أحد أبنائه باسم أبي بكر، وهذا من إحدى علائم الحب والود بين القوم، خلاف ما يزعمه الروافض اليوم من العداوة والبغضاء والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم.
وقد كان جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الذي يلقب بالصادق عند الشيعة الروافض يقول: ولدني أبو بكر مرتين، فأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، كان أحد فقهاء المدينة السبعة، تربى في حجر أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -، و أما أمه فهي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان جعفر يغضب من الرافضة ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر، فكيف يرضى من يدعي محبة جعفر وآل البيت أن يلعن جد جعفر؟
ومما يزيد الأمر وضوحا ما روي عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف؟ فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه قال: قلت: وتقول الصديق؟ قال: فوثب وثبة واستقبل القبلة، ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، من لم يقل له الصديق فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة[12].
ثالثا. ثبوت الروايات الصحيحة التي تثبت مبادرة علي إلى البيعة:
أثبت أهل الحديث والأثر صحة الروايات التي تنص على مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – في حين جاءت الروايات التي تنص على امتناع علي – رضي الله عنه – عن البيعة، أو تأخره طويلا ضعيفة باطلة، لا تثبت أمام النقد الحديثي الذي وضعه المحدثون لقبول الأخبار، يقول الدكتور محمد الصلابي.
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق – رضي الله عنهما – وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجل هذه الأخبار ليس بصحيح إلا ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “إن عليا والزبير، ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم “، فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من تغسيل وتكفين، ويبدو ذلك واضحا فيما رواه الصحابي سالم بن عبيد – رضي الله عنه – من أن أبا بكر قال لأهل بيت النبي وعلى رأسهم علي: عندكم صاحبكم، فأمرهم يغسلونه.
وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الثلاثاء، قال أبو سعيد الخدري: “لما صعد أبو بكر المنبر، نظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء، فقال له أبو بكر: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال الزبير: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله، فقام الزبير، فبايع أبا بكر!، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علي بن أبي طالب فدعا بعلي فجاء، فقال له أبو بكر: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي: لا تثريب عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي، فبايع أبا بكر”[13].
ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن الإمام (مسلم بن الحجاج) صاحب الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري ذهب إلى شيخه الإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة – صاحب صحيح ابن خزيمة – فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: “هذا الحديث يساوي بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوي بدنة[14] فقط، إنه يساوي بدرة[15] مال”، وعلق على هذا الحديث ابن كثير – رحمه الله – فقال: “هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي أن مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر كانت إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة، وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه”.
وفي رواية حبيب بن أبي ثابت قال: “كان علي بن أبي طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج علي إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه، فجاءوه به، فلبسه فوق قميصه”.
وقد سأل عمرو بن حريث سعيد بن زيد رضي الله عنه، فقال له: أشهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة. قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا، لم يخالفه إلا مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه. قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد: لا، لقد تتابع المهاجرون على بيعته!!
وأما علي – رضي الله عنه – فلم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين.
ويرى ابن كثير وكثير من أهل العلم أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة – رضي الله عنها – وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة.
وكان علي في خلافة أبي بكر عيبة (موضع) نصح له، مرجحا لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبي بكر – رضي الله عنه – بنفسه إلى ذي القصة (من المدينة على مراحل) وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي. فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: لما برز أبو بكر إلي ذي القصة، واستوي على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها، وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا فرجع.
فلو كان علي – رضي الله عنه – أعاذه الله من ذلك – لم ينشرح صدره لأبي بكر وقد بايعه علي رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك – حاشاه عنه – من كراهته له وحرصه علي التخلص منه، فما أسهل أن يغري به أحدا يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم[16].
إن اختلاف الروايات في قضية مبايعة علي للصديق – رضي الله عنهما – بين مثبت لبيعة فورية وبين مخبر عن بيعة متأخرة، في نظرنا لا تعويل عليه؛ لأننا لا نظن أن التوقيت – مع أهميته نظرا لمكانة علي – رضي الله عنه – مهم بقدر أهمية كونه قد بايع، والأهم من هذا كله طبيعة العلاقة بينهما، والتي كانت على صورة طيبة تليق بمنزلتهما وتقواهما، وهذا ما يعبر عنه د. عبد الفتاح فتحي بقوله: “تختلف الروايات التاريخية في قضية مبايعة علي بن أبي طالب للصديق، فتذكر بعض النصوص أن عليرضي الله عنه – يوم بويع الصديق بيعته الخاصة بالسقيفة – كان مشغولا بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه في اليوم التالي بايع بالمسجد مع عامة المسلمين، فيما عرف بـ “البيعة العامة”، وسواء أسرع علي بنفسه مبايعا أم أبطأ في ذلك حتى أحضره بعضهم إلى المسجد، فالمحصلة الأخيرة أنه بايع، ويعلق الإمام ابن كثير قائلا: وهذا حق، فإن عليا لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه، وخرج معه شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة”[17].
بل إن بعض الباحثين يرون الاختلاف في وجهات النظر والتنوع في الأفكار دليل صحة وعافية، يقول د. حمدي شاهين: “تختلف الروايات فيما بينها اختلافا عظيما بشأن جماعة من كبار الصحابة قيل إنهم تخلفوا – لأمور رأوها – عن بيعة أبي بكر، وقيل: بل سارعوا إليها بغير معارضة ولا تسويف، وأول هؤلاء سعد بن عبادة زعيم الخزرج، ومرشحهم للخلافة في مؤتمر السقيفة، ومنهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنه.
وقد حاول الرواة جاهدين أن يثبتوا أن هؤلاء النفر الثلاثة قد بايعوا أبا بكر مع أول المبايعين، ظانين بذلك أنهم يبرئون كبار الصحابة من شبهة الخلاف السياسي، وكأن الاختلاف بينهم تهمة ينبغي نفيها، أليس ذلك دليلا على نضج الوعي السياسي للأمة وقياداتها، وقبولها للمعارضة السياسية واختلاف الرأي”[18]؟
رابعا. ثناء علي على الصديق وبلاؤه في خلافته[19]:
من الثابت تاريخيا أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أثنى على أبي بكر في خطبته على منبر الكوفة، وسانده في حروب الردة، وقدم أبا بكر على نفسه يوم سئل: أي الناس خير؟ فشهد بتقدمه، إلى غير ذلك، مما ينفي شبهة الخلاف بينهما، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
يقول علي – رضي الله عنه – مثنيا على أبي بكر على منبر الكوفة: “فأعطى المسلمون البيعة طائعين، فكان أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب أنا”، وجاءت روايات أشارت إلى مبايعة علي لأبي بكر – رضي الله عنهما – في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ثم قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم وقال: “والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله – عزوجل – في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله عزوجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم”، فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به، قال علي – رضي الله عنه – والزبير: “ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة بالناس وهو حي”.
وعن قيس العبدي قال: شهدت خطبة علي يوم البصرة قال: “فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – وما عالج من الناس، ثم قبضه الله – عزوجل – إليه، ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكرـ رضي الله عنه – فبايعوا وعاهدوا وسلموا، وبايعت وعاهدت وسلمت، ورضوا ورضيت، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله – عزوجل – رحمة الله عليه”.
إن علياـ رضي الله عنه – لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين، ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة – رضي الله عنها – وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة، ولكن لما وقعت البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك والمثبت مقدم على النافي.
ويتجلى تقدير علي للصديق في مظاهر كثيرة؛ منها:
مساندته إياه مع جمهور المسلمين فيما عرف بـ “حروب الردة”، ولقد اجتمعت كلمة الصحابة ومشاعرهم في ذلك الظرف القلق، وكان علي خير ناصح لأبي بكر، لا يقدم على مصلحة الإسلام والمسلمين شيئا من مطامح شخصية مزعومة.
تقديمه أبا بكر على نفسه، فقد تواترت الأخبار عن علي – رضي الله عنه – في تفضيله لأبي بكر وتقديمه؛ ومن ذلك:
o عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت! قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
o عن علي رضي الله عنه، قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها! أبو بكر، ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر! عمر.
o عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟، قال: ما استخلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي علي خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
o وقال علي رضي الله عنه: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
o وقول علي لأبي سفيان: إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا.
وهناك آثار يستأنس بها في إيضاح العلاقة الطيبة بين علي وأبي بكر – رضي الله عنهما ـ؛ منها:
o عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، قال: خرجت مع أبي بكر الصديق من صلاة العصر بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم – بليال وعلي يمشى إلى جنبه، فمر بالحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله علي رقبته وهو يقول:
بأبي شبه النبي
ليس شــبــيــهـــا بـعـلي
قال: وعلي – رضي الله عنه – يضحك.
o وعن علي رضي الله عنه، قال: “من فارق الجماعة شبرا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه”، فهل كان علي يفعل ذلك؟ لقد كان – رضي الله عنه – يكره الاختلاف ويحرص علي الجماعة. قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الاتفاق عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانا، لكن الديانة ترد ذلك – والله الموفق – وأما ما قيل من تخلف الزبير بن العوام عن البيعة لأبي بكر، فإنه لم يرد من طريق صحيح، بل ورد ما ينفي هذا القول، ويثبت مبايعته في أول الأمر، وذلك في أثر أبي سعيد السابق الصحيح وغيره من الآثار.
o قال ابن تيمية: وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: “خير الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر”. وقد جاء هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا، وعنه أنه كان يقول: “لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.. وقال ابن تيمية أيضا: ولم يقل أحد قط إنه أحق بهذا – أي الخلافة – من أبي بكر، ولا قال أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر، وإنما قال من فيه أثر الجاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية؛ لأن العرب في جاهليتها كانت تقدم أهل الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا”.
ومنها ثناؤه على صفة الصديق وشهادته له بالسبق والشجاعة:
فعن يحيى بن حكيم بن سعد قال سمعت عليا – رضي الله عنه – يحلف: “أنه أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق”، وعن صلة بن زفر العبسي قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند علي قال: “السباق تذكرون، والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر”.
وعن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: خطبنا علي فقال: “أيها الناس، من أشجع الناس؟ قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال: ذاك أبو بكر الصديق، إنه لما كان في يوم بدر وضعنا لرسول الله العريش فقلنا: من يقيم عنده لا يدنو إليه أحد من المشركين؟ فما قام عليه إلا أبو بكر، وإنه كان شاهرا السيف على رأسه كلما دنا إليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف، ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش عند الكعبة، فجعلوا يتعتعونه ويترترونه[20]، ويقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ فوالله ما دنا إليه إلا أبو بكر، ولأبي بكر يومئذ ضفيرتان، فأقبل يجأ[21] هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! وقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر.
فقال علي لأصحابه: ناشدتكم الله أي الرجلين خير، مؤمن آل فرعون أو أبو بكر؟، فأمسك القوم، فقال علي: والله ليوم من أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه، وهذا أبو بكر بذل نفسه ودمه لله”.
ومنها تأسيه بصلاة الصديق، ومشاركته في معاملاته وقضاياه، وقبول هداياه:
فقد كان علي راضيا بخلافة الصديق – رضي الله عنه – ومشاركا له في معاملاته وقضاياه، قابلا منه الهدايا رافعا إليه الشكاوى، مصليا خلفه، محبا له، مبغضا من أبغضه، وشهد بذلك أكبر خصوم الخلفاء الراشدين وأصحاب النبي صلى الله عله وسلم، فهذا اليعقوبي في تاريخه يذكر أيام خلافة الصديق فيقول: وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا وأخروا فاستشار علي بن أبي طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيبا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، وفي رواية سأل الصديق عليا كيف ومن أين تبشر؟، قال: من النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن سرك الله.
ويقول اليعقوبي أيضا: وكان ممن يؤخذ عنه الفقه في أيام أبي بكر علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود. فقدم عليا على جميع أصحابه، وهذا دليل واضح على تعاملهم مع بعضهم وتقديمهم عليا في المشورة والقضاء، فعندما كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر بقوله له: إنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر لذلك أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منهم علي، فقال علي: إن هذا ذنب لم يعمل به إلا أمة واحدة[22]، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار[23].
وكان علي – رضي الله عنه – يمتثل أوامر الصديق فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفا وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين وأحس منهم الصديق خطرا على عاصمة الإسلام والمسلمين، فأمر بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر عليا والزبير وطلحة وابن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس وبقوا على ذلك حتى أمنوا منهم[24].
وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتواد والوئام الكامل كان علي وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول – صلى الله عليه وسلم – يتقبل الهدايا والتحف دأب الإخوة المتصافين فيما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية، وأيضا منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة، وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد بن الحنفية[25].
يقول الإمام الجويني عن بيعة الصحابة لأبي بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر – رضي الله عنه – وكان علي – رضي الله عنه – سامعا لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة.
ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس وأموال الفيء من الصديق – رضي الله عنهم – وكان علي هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفيء، وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن، ثم زيد بن الحسن، وكان علي – رضي الله عنه – يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضيا بإمامته، ومظهرا للناس اتفاقه ووئامه معه، وكان علي – رضي الله عنه – يروي عن أبي بكر بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أسماء بن الحكم الفزاري قال سمعت عليا رضي الله عنه، يقول: «كنت إذا سمعت من رسول الله علما نفعني الله به، وكان إذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر – وصدق أبو بكر – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»[26].
ولما قبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اختلف أصحابه فقالوا: ادفنوه في البقيع، وقال آخرون: ادفنوه في موضع الجنائز، وقال آخرون: ادفنوه في مقابل أصحابه، فقال أبو بكر: تأخروا فإنه لا ينبغي رفع الصوت عند النبي حيا ولا ميتا، فقال علي رضي الله عنه: أبو بكر مؤتمن على ما جاء به، قال أبو بكر: عهد إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه ليس من نبي يموت إلا دفن حيث يقبض.
وشهد علي للصديق – رضي الله عنهما – بعظيم أجره في المصاحف، فعن عبد خير قال سمعت عليا رضي الله عنه، يقول: أعظم الناس أجرا في المصاحف: أبو بكر الصديق، هو أول من جمع بين اللوحين[27] [28].
ومما سبق يتضح لكل ذي لب مدى المحبة والمودة المتبادلة التي كانت بين الصحابيين الجليلين أبي بكر وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – مما ينفي وجود أي تباغض أو عداوة بينهما – رضي الله عنهما -.
الخلاصة:
لقد علم الصحابة ثناء القرآن الكريم عليهم، وثناء النبي صلى الله عليه وسلم، بل علموا كذلك حرمة التعدي عليهم بالانتقاص، مما يمنع وقوع الشقاق والخلاف فيما بينهم، بل استحالته؛ لما علم عنهم من حب بعضهم بعضا وإيثار كل واحد منهم صاحبه على نفسه، حتى قال قائلهم: خذ نصف مالي وانظر إحدى زوجاتي أطلقها فتتزوجها.
وقد تأكدت الصلات بين أبي بكر وعلي – رضي الله عنهماـ خاصة بما كان بينهما من مصاهرات كثيرة، وبكثرة ما استعان أبو بكر بعلي في قضاياه ومعاملاته، وما كان يحتاج إليه فيما يجد من مشكلات ونوازل.
بايع علي أبا بكر بالخلافة فيما نقله الثقات من أهل الحديث والأثر بالأسانيد المتصلة الصحيحة، وكل ما روي في شأن تأخر علي عن البيعة فهو من الأخبار الضعيفة الباطلة، والتي لا تثبت صحتها أمام النقد العلمي الحديثي، اللهم إلا ما رواه بعض المؤرخين من أن عليا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي بعد ستة أشهر من البيعة الأولى، أي بعد وفاة فاطمة – رضي الله عنها – وواضح أن هذه البيعة لا تلغي ثبوت البيعة الأولى، ولا تتعارض معها.
كان ثناء علي – رضي الله عنه – على الصديق ثناء عظيما اتخذ مظاهر كثيرة، تجاوزت حد المعاونة في مسائل الفتيا والقضاء إلى إشادة بمناقبه وشمائله، بدءا من صفته الكريمة التي يحملها “الصديق”، إلى تذكير بسابقته في الدين والجهاد، وذوده عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعوته، وكذا جهده في جمع المصحف الشريف.