من ينكر وجود الله تعالى لم يُسلّم بالدلالة الضرورية لهذا الدليل، بل أورد جملة من الشبهات عليه وهذه الشبهات إما أن تتناول مقدمة الدليل الأولى أو الثانية أو النتيجة المترتبة عليها وسأورد هنا أهم هذه الشبه والاعتراضات التي قيلت مرتبة بحسب منطقة الاعتراض.
الاعتراضات على المقدمة الأولى: (كل ما له بداية فلا بد له من سبب):
الاعتراض المركزي الذي وُجه إلى هذه المقدمة هو بالتشكيك فيها، بادعاء أنه يمكن أن يحدث شيء لا عن سبب، وأن يترجح وجود الممكن على عدمه من غير مرجح وعليه فيمكن للكون أن يخرج للوجود هكذا من غير سبب، فلا يصير مفتقرا في وجوده إلى سبب رجح وجوده، ومن ثم يصير مستغنيا عن الاحتياج لخالق مفارق.
وأشهر الممارسات التشكيكية تسعى لإلغاء المعنى الضروري لمبدأ السببية والذي سبق التأكيد على أنه أحد المبادئ العقلية الضرورية المستغنية الاستدلال، وأشهر من نُسب إليه التشكيك في هذا المبدأ: الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم وهو أحد رواد المدرسة الحسية التي تجعل من الحس مصدرًا للمعرفة البشرية، والذي قال:
(عندما ننظر خارجنا نحو الأشياء الخارجية ونتأمل في عمل الأسباب لا نكون قادرين البتة على أن نكتشف من حالة واحدة قدرة أو اقترانا ضروريا؛ أي: خاصية تقرن الأثر إلى السبب، وتجعل من الواحد النتيجة المحتمة للآخر، وسنجد فقط أن الواحد يلي الآخر بالفعل في الواقع.
إن دفع كرة البليارد الأولى تصحبه حركة الكرة الثانية. وذاك كل ما يظهر للحواس الخارجية، ولا يشعر الذهن بأي شعور، ولا بأي انطباع باطن عن تتالي الأشياء. ليس هناك إذن – في أي حالة بعينها من حالات السببية – ما يمكن أن يوحي بفكرة القدرة أو الاقتران الضروري) (مبحث في الفاهمة البشرية 95).
وقال أيضًا: (لا يجد عموم الناس أي صعوبة في تفسير أكثر أعمال الطبيعة اعتيادًا، وألفة مثال سقوط الأجسام الثقيلة، ونمو النبات، وتكاثر الحيوان وتغذية الأجسام بالطعام، بل يفترضون في هذه الحالات كلها أنهم يدركون قوة السبب أو طاقته تلك التي تقرنه مع أثره، وأنها لا تخطئ أبدًا في عملها.
ويكتسبون بطول العادة لفتة في الذهن تجعلهم يتوقعون بثقة ومباشرة بعد ظهور السبب الحادث الذي يصاحب السبب عادة ويتصورون بصعوبة أن يكون بالإمكان حصول حادث آخر عنه) (مبحث في المفاهمة البشرية 102).
وقد صاغ هيوم احتجاجًا فلسفيًّا، يؤكد من خلاله رؤيته هذه حول مبدأ السببية وطبيعة العلاقة بين الأثر والسبب، وذلك في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية» (A Treatise of Human nature)، ويمكن أن نلخص أطروحته التشكيكية هذه في المعطيات التالية:
أنَّا نجد أن جميع الأفكار المتمايزة منفصلة عن بعضها، ومما يدخل في هذا الإطار: (فكرة السبب)، و(فكرة الأثر)؛ فكلاهما فكرتان متمایزتان، ومن ثُمّ منفصلتان؛ ولذا فمن السهل أن نستحضر في عقولنا أثرًا من غير أن نفكر في سببه، وبالتالي فمن الممكن أن نفكر في خروج شيء إلى الوجود دون أن نفكر في ذات الوقت بسببه؛ إذ التمييز بين (السبب) و(الأثر) ممكن على مستوى تفكيرنا، وخيالنا وإذا كان الأمر كذلك فإمكانية أن يكونا منفصلين متمايزين في الواقع الخارجي ممكن أيضًا؛ لعدم الاستحالة أو وجود تناقض يمنع منه، ومن ثَمّ فبالإمكان تعقل وجود أثر من غير سبب، فتسقط دعوى أنه لا بد لكل أثر من سبب، ويصبح مبدأ السببية غير مسلم (A Treatise of Human nature 79).
هذه ـ باختصار – الفكرة التي ولّدها ديفيد هيوم للتشكيك في مبدأ السببية العامة. ولا يخفى وجه الإشكال المركزي في هذه الأطروحة؛ حيث جعل ما يمكن للعقل أن يتصوره ويتعقله له وجود محقق في الخارج.
والحق أن دائرة ما يمكن للعقل أن يتصوره أوسع بكثير مما يمكن أن يتحقق في الواقع، ومن ثَمّ فليس كل ما سمح الخيال بتصوره وتعقله يمكن أن يكون له وجود خارجي. وإشكالية الخلط بين التصور الذهني، والوجود الخارجي هي التي جرَّت كثيرًا من الفلاسفة للوقوع في إشكاليات فلسفية متعددة؛ كاعتقاد وجود المطلقات الذهنية في الخارج، كالمثل الأفلاطونية، وهو ما أفرز عقيدة الوحدة عند طوائف، وغير ذلك مشكلات.
ومن التمثيلات الطريفة التي استعملها الفيلسوف بروس ريكنباك (Bruce Richenbach) للكشف عن خطأ هيوم، بأن مجرد إمكان التمييز بين فكرتين يلغي إمكانية التلازم الضروري بينهما: مثال صحن متساوي السماكة، لكنه مقعر من أحد جانبيه، ومحدّب من الجانب الآخر، فمع تمايز كل وجه ذهنيا ، لكن بينهما تلازم ضروري من جهة الواقع؛ فتحدب الصحن من هذه الجهة نتيجة تقعره من الجانب الآخر، وتحدبه من تلك الجهة نتيجة تقعره من هذه (The cosmological Argument 58). وبهذا لا تبدو فكرة هيوم بنفي التلازم بين فكرتين لمجرد إمكان تصور الانفصال بينهما متماسكة.
ويبدو أن الفخ الذي أوقع هيوم في هذا المأزق، هو انتماؤه في مجال فلسفة المعرفة إلى المدرسة الحسية كما سبق، والتي تحصر إمكانية تحصيل المعرفة في المحسوس وحده وما من شك أن هذا التضييق الشديد لمصدر المعرفة لا يساعد أبدًا على تأسيس قاعدة فلسفية يمكن أن تتأسس عليها فكرة (السببية العامة = أن كل أمر حادث يقف خلفه سبب) أو (السببية النسبية = أن هذا الحادث المعين المخصوص له هذا السبب المعين)؛ إذ البرهنة على مثل هذه المعطيات تفتقر إلى معارف قبلية ليمكن طردها، وبدونها فقصارى ما يمكن بذله في هذا السياق هو ادعاء أنها معرفة متحصلة عن طريق الاستقراء الحسي، وهو ما صرح به هيوم رافضًا أن تكون السببية مؤسسة على معرفة قبلية (مبحث في الفاهمة البشرية ٢٤).
لكن الإشكالية التي ستورد أن ادعاء تحصيل الاستقراء التام غير ممكن، ومن ثَمّ فبالإمكان التشكيك بالاطراد الضروري للسببية؛ فإذا كان تحصيلنا لمبدأ أن (كل حادث لا بد له من سبب) مبنيا على الملاحظة وحدها فبالإمكان أن يدعي شخص إمكانية وجود حادث لا سبب له، تحت ذريعة عدم تحقيق الاستقراء التام الذي يرفع مثل هذا الإيراد ولذا فلا سبيل إلى تحقيق مثل هذه المعرفة واطرادها إلا بمعارف قبلية حاصلة في النفس قبل وقوع الملاحظة بالحس، وهو ما تم التأكيد عليه مرارًا بأن مبدأ السببية العام هو مبدأ فطري ضروري.
طبعًا تتعاظم المشكلة حين يرفض هيوم إعمال الاستقراء هنا، تحت ذريعة أننا إنما نشاهد اقتران حادثين يجري أحدهما عقب الآخر، دون أن نعلم شيئًا عن القوة السببية المودعة في الحادث الأول لإحداث هذا الأثر في الحادث الثاني، وعليه فليس لنا أن ندعي أن هذا سبب في ذاك.
وأصدُق القاري: إنني غير متحمس كثيرًا للدخول في تفاصيل الجدل الفلسفي في هذه المسألة، ورصد ما أحدثته أطروحة هيوم التشكيكية من سجال حيال مبدأ السببية العامة؛ إذ إننا أمام مبدأ فطري ضروري والتشكيك فيه تشكيك يفضي إلى لون من السفسطة والتي يصعب معالجتها بمجرد الأدوات العقلية والبرهنة والتدليل، بل عملية البرهنة والتدليل ذاتها محكومة بمبدأ السببية كما سبق. فضريبة التنكر لهذه المسألة ضربية باهظة جدا، بإلغاء إمكانية تحصيل المعارف والعلوم جملة.
يقول ابن رشد كاشفًا عن تكلفة الضريبة المدفوعة هنا: (أما إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلم بذلك إما جاحد بلسانه لما في جنانه، وإما منقاد لشبهة سفسطائية عرضت له في ذلك) (تهافت التهافت 505).
ويقول بعدها موضحًا: (والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل وصناعة المنطق تضع وضعًا أن هاهنا أسبابًا ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها ؛ فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورافع له، فإنه يلزم ألا يكون هاهنا شيء معلوم أصلا علما حقيقيًّا، بل إن كان فمظنون! ولا يكون هاهنا برهان ولا حد أصلا، وترتفع المحمولات الذاتية التي منها تأتلف البراهين، ومن يضع أنه ولا علم واحد ضروري، يلزمه ألا يكون قوله هذا ضروريًا!) (تهافت التهافت 507).
بل يمكننا القول: إن ضريبة التنكر لهذا المبدأ أشد خطورة؛ فإنه إذا أمكن التشكيك بمبدأ السببية وهو فطري ضروري فبالإمكان التشكيك في بقية المبادئ العقلية الضرورية؛ كقانون الهوية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع وغيرها، فإذا كان العقل مقتنعًا بضرورية هذا المبدأ وقد سرى عليه التشكيك؛ فما الذي يضمن أن بقية المبادئ الفطرية سليمة من المعارضة والتشكيك؟ وإذا شككنا في بقية المبادئ العقلية فقد انسد في وجهنا إمكانية تحصيل المعرفة جملة؛ إذ العلوم النظرية إنما تتحصل من خلال ردها إلى علوم تنتهي إلى تلك المبادئ العقلية الضرورية، وبغيرها لا يمكن أن نتحصل على معرفة.
الغريب أن كثيرًا من الملاحدة الجدد يصرحون بمثل هذه اللوازم دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الالتزام بمثل هذه الآثار حقيقية؛ فيظلون في دراساتهم وأبحاثهم مشتغلين بتلمس سنن وقوانين هذا الكون مع تصريحهم برفض المبادئ العقلية، بل وقانون السببية!
وهو تناقض شديد بين التصور النظري والممارسة الفعلية العملية؛ باعثه عدم إمكانية طرد حالة الرفض، وتفعيل مثل هذا التنكر في واقع الحياة، لا على المستوى الشخصي للإنسان في شأنه الخاص، ولا في مجال صلته وعلاقته بالآخرين أو بالكون أو برغبته في التعلم أو غير ذلك؛ فالتنكر هنا لمبدأ السببية إنما هو مجرد أداة سجالية جدلية تُستجلب في مثل هذه المقامات دون أن يكون لها رصيد حقيقي في ممارسات الإنسان الفعلية في حياته، ولا تصوراته وأفكاره خارج هذا الإطار الجدلي.
بل إن قراءة موقف هيوم التشكيكي هذا، هو في ذاته محل جدل فلسفي، بين من يطلق صحة نسبة ذاك الموقف التشكيكي إليه، وترى فيه شخصا متنكرا لمبدأ السببية وبين متشكك في نسبة هذا الموقف التشكيكي إليه، وترى فيه رجلا يريد التعليق على طبيعة الأسباب الحقيقية لما يحدث من آثار في العالم.
وبغض النظر عن حسم جدل النسبة هذا، فإن الرجل صرّح في رسالة بعث بها إلى جون ستيورات، وهي رسالة كتبها سنة ١٧٥٤م؛ أي: بعد بحثه لقضية العلاقة الاقترانية بين الأشياء، يقول فيها: لم أدَّع يومًا مثل هذا الادعاء السخيف، أن شيئًا يمكن أن ينشأ من دون سبب. الذي قررته فقط أن جزمنا بخطأ تلك الدعوى لم يكن ناشئا لا من حدس ولا من برهان، وإنما هو من مصدر آخر) (The Letters of David Hume 1/187).