كما اجتهد الناقدون للنبوة في إثارة الاعتراضات والشكوك على أصل النبوة وكمالها، فإنهم بذلوا الجهد نفسه في إثارة الاعتراضات والشكوك على الأدلة التي يستدل بها المؤمنون على صدق النبوة.
وقد اهتم الناقدون للنبوة بهذا الأمر اهتمامًا كبيرّا، وخصوه بكلام طويل مفصل، سعوا فيه إلى محاولة القدح في جميع أدلة النبوة بكل الطرق، وشارك في إثارة تلك الشكوك عدد كبير من كبار الفلاسفة المؤثرين في الفكر الغربي الحديث، فمن أول من قام بالتشكيك في النبوة وأدلتها: اسبينوزا، ثم جاء بعده ديفيد هيوم، وكتب كلامًا طويلا يستدل فيه على إنكار النبوة، ويقدح في دلالاتها، ثم جاء بعده الفيلسوف الألماني الشهير: كانت، وشكك في النبوة بناء على أصوله الفلسفية التي انطلق منها، ثم أعقبه هيجل، فلم يتوان في بذل كل الجهد للتشكيك في المعجزات، ومحاولة إبطال ثبوتها ودلالاتها.
ونتج مما قدم أولعنك الناقدون، ومن جاء بعدهم حزمة كبيرة من الاعتراضات التي يرون فيها قدحًا في أدلة النبوة وبراهينها، وحين ظهر الإسلام طفق الناقدون للأديان في نقد معجزته الكبرى القرآن الكريم فساقوا من الاعتراضات عددًا كبيرًا سعيًا منهم للتشكيك في دلالته على صدق نبوة النبي ﷺ.
ولأجل أن يكون الحديث في هذا المقام متسقًا في مكوناته، ولأجل خصوصية القران في مكانته ودلالته وطبيعة الاعتراضات التي وجهت إليه؛ فإننا سنقوم بتقسيم هذا المقام إلى قسمين:
القسم الأول: الاعتراضات على جملة المعجزات.
القسم الثاني: الاعتراضات على دلالة القرآن الكريم. (تجدونه في قسم القرآن الكريم في مواجهة الشبهات).
القسم الأول
الاعتراضات على جملة المعجزات
تناول الناقدون للنبوة الأدلة والمعجزات التي يستدل بها المؤمنون من عدة جهات: من جهة إمكان وقوعها، ومن جهة إمكان إثباتها، ومن جهة انضباط دلالتها، وأثاروا على كل جهة من هذه الجهات اعتراضات، وشكوكا عديدة، وسنقوم باستعراض أصول تلك الاعتراضات في هذا القسم من غير تفصيل بين جهاتها.
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن الوجود منضبط بنظام كوني صارم لا يقبل الانخرام، فالكون يسير في حتمية صارمة، كل حدث فيه مرتبط بما قبله، فلا يمكن تصور وقوع المعجزة التي تقوم حقيقتها على دعوى انخرام ذلك النظام وتلك الحتمية.
وقد تبنى هذا الاعتراض دعاة الدين الربوبي في القرن الثامن عشر وما بعده، واشتدت فوة هذا الاعتراض وقوي تمسكهم به مع ظهور الحتمية الفيزيائية بسبب نظريات نيوتن وغيره، فأضحى القول بوقوع المعجزات من أشد الأمور استبعادًا عند كثير من المفكرين.
وكان لهذا الاعتراض وجود في الفكر الإسلامي قبل أكثر من سبعة قرون» فقد ذكره أبو عبد الله الرازي في بعض كتبه.
والمعترضون بهذا الاعتراض وقعوا في خلل تصوري واستدلالي فظيع، وهو ما يمكن أن نسميه مغالطة «الانقلاب الإقراري»، ومعنى هذه المغالطة: أن ينكر المرء إمكان حدوث شيء، مع إقراره بإمكان حدوث ما هو أعظم منه في الوجود والحقيقة.
فحدوث المعجزات التي ترجع حقيقتها إلى انخرام بعض قوانين الكون في بعض الأوقات، ليس أعظم من إحداث الكون نفسه، ولا أشد من وضع القوانين ذاتها، فمن أقر بذلك يلزمه بضرورة العقل أن يقر بإمكان حدوث المعجزات وعدم استحالتها.
فالإقرار بالمعجزات تابع للإقرار بخلق الله للكون، والإقرار بخلق الله للكون يلزم منه بالضرورة الإقرار بإمكان المعجزات.
ومن هنا قال شيله ماخر: (إن الإيمان بالمعجزات لا ينفك عن الإيمان بالله»، ومعناه: أن من يؤمن بالله فلا بد أن يؤمن بالمعجزات أيضًا، ويقول استوارت مل في معرض انتقاده لموقف هيوم من المعجزات: (إن من لا يؤمن بموجود فوق الطبيعة، ولا يتدخل في شئون العالم لا يقبل فعل إنسان خارق للعادة على أنه معجزة، ويؤوله مطلقًا عما يخرجه عن كونه معجزة، لكن إذا أومن بالله فلا يكون تأثيره في العالم وسلطته عليه فرضية محضة، بل احتمالا جديّا، والحكم بعدم تدخل الله في شئون العالم إنما يمكن بمعرفة السّنّةَ الإلهية في الماضي، أو بمعرفة ما يلزم منطقيًا أن تكون السّنَّ الإلهية كذلك).
ويعلق مصطفى صبري على الكلام السابق كاشفًا عن الأصول العقلية التي يستند إليها الإيمان بإمكان المعجزات، وعن أساس الغلط عند من ينكر ذلك، فيقول: «نعم، معنى عموم قدرة الله على كل شي، أنه قادر على كل شي، ممكن إمكانًا عقليّا، لكن نظام هذا الإمكان أوسع بكثير مما يظنه منكرو المعجزات، فيدخل في الممكن كل ما ليس بمحال عقلي، وما هو مستلزم للمحال، كالجمع بين النقيضين، ورفعهما، والدور، والتسلسل.
ومن العجب أن منكري المعجزات فقط، أو منكري المعجزات والنبوة معَا، ينكرونها على ظن أنها غير ممكنة، وهم في غفلتهم يقيسون الإمكان والاستحالة بمقياس قدرة الإنسان، وينسون قدرة الله التي ليس ببعيد عنها أن تهدم السماوات والأرض وتنشئها من جديد، ونحن لا نتكلم إلا مع المعترفين بوجود الله، فارضين أننا قد فرغنا من إثباته نهائيًا.
ولا شك أن الله الذي فطر السماوات والأرض لا يصعب عليه أن يرسل إلى بني آدم الذي هو خالقهم أيضًا رسولا منهم فيوحي إليه ما يشاء، وأن يظهر على يديه خارقة من خوارق العادات، كخلق ثعبان من العصا - وهو خالق العصا والثعبان وجميع العالم من عدم – من غير أن يُعد خلقه أو خلقها معجزة، ولا يصادف منكرًا، وما أبدع ما قال «ويليام استابلي جون» – من كبار المنطقيين الإنكليز _: «القدرة التي خلقت العالم لا تعجز عن حذف شي، منه، أو إضافة شيء إليه، ومن السهل أن يقال عنه: إنه غير متصور عند العقل، لكن الذي يقال عنه: إنه غير متصور، ليس غير متصور إلى درجة وجود العالم»؛ يعني: لو لم يكن هذا العالم موجودًا، وقيل لمن ينكر المعجزات ولا يتصور وجودها: سيوجد عالم كذا، كان جوابه إن هذا غير متصور، وكان نفي تصوره أشد من نفي تصور المعجزات».
ويزيد الأستاذ عباس محمود العقاد من شرح هذه القضية مبينًا الأصل الذي ينطلق منه المؤمنون بالمعجزات، وكاشفًا عن اتساقهم مع الأصول العقلية، فيقول: «يؤمن المسلم بالنواميس الكونية أشد من إيمان الدعاة إلى تقرير تلك النواميس باسم العلم العصري، أو العلوم التجريبية؛ لأنه يؤمن بأن النواميس سنة الله في خلقه: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[فاطر:43]، ولكنه يؤمن كذلك بإمكان المعجزات؛ لأنها ليست أعجب مما هو حادث مشاهد أمام الأبصار والبصائر، وليست هي بمحتاجة إلى القدرة التي نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم، وكل ساعة… فلا يجوز لأحد أن ينكرها لأننا تعودنا فيما علمناه في العصر على الأقل أمورًا كثيرة كانت في تقدير الأقدمين من خوارق العادات، وهي اليوم من الممكنات المتواترات، وما جاز فيما نعلمه يجوز فيما نجهله، وهو أكثر من المعلوم لنا الآن بكثير».
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن المعجزة ترجع إلى دعوى أن القانون الكوني انخرم عن اطراده، ولكن علمنا باطراد القانون الكوني يعتمد اعتمادًا أساسيًا على الدليل الحسي، وهو دليل ظني احتمالي غير معصوم من الوقوع في الخطإ، فلا يمكن لنا أن نقطع بأن مجريات الأحداث لا بد أن تقع باطراد في صورة واحدة في كل الأزمان والأماكن.
وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع أن تكون الحالة التي يدعي فيها المؤمنون بأنها انخرم فيها القانون الكوني وعدم الاطراد فيها من قبيل الحالات المحتملة للأحداث، ويكون لها وجود على طبيعة نحن لا نعلمها، وليس أمرًا معجرًا في نفسه.
فغاية ما يدعيه المؤمنون بالنبوة أحداث وقعت على خلاف ما هو معلوم لنا بالاطراد، ولكن ذلك لا يدل على حقيقة المعجزة؛ لكون الاطراد ليس أمرًا يقيًا يمكن التحقق منه، وليس لدينا يقين ينفي بأن تلك الحادثة قد يكون لها سبب طبيعي عادي نحن لا نعلمه.
وأول من أحدث هذا الاعتراض الفيلسوف الإنجليزي المشهور ديفيد هيوم، ثم تتابع الناقدون للأديان على إثارته والأخذ به، ولقي رواجًا كبيرًا وانتشارًا واسعًا نتيجة لقوة شكوك هيوم، وضعف ردود المؤمنين بالنصرانية عليها.
وقريب منه من يقول: إن المعجزات مع غرابتها قد تكون واقعة بمحض الصدفة، فقد ذكر ريتشارد دوكنز: أنه تحرك يد التمثال أمر غريب، ولكنه ليس مستحيل الوقوع بمحض الصدفة.
وهذا الاعتراض لا يقدح في المعجزات، ولا في البراهين التي أتى بها الأنبياء، ولا يصح الاعتماد عليه في إبطال تحققها في الوجود، وتبيين ما فيه من الغلط والبطلان بالأمرين التاليين:
- الأمر الأول: أن هيوم أقام اعتراضه ذلك على أصله التجريبي، وهو دعوى انحصار مصادر المعرفة الإنسانية في المعطيات الحسية فقط، وما تركب على ذلك الأصل من إنكار ما يخالف الاطراد في الوجود، وقد سبق في أثناء البحث إثبات بطلان هذا الأصل، وإقامة الأدلة والبراهين على فساده، وإذا بطل الأصل بطل ما بني عليه من الفروع؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل بالضرورة.
- الأمر الثاني: أن هيوم يتعامل مع معجزات الأنبياء على أنها مجرد حدث طبيعي صغير خالٍ من كل الملابسات والقرائن، يقع في الوجود من غير ارتباط بأي أحداث تحيط به، وهذا تعامل خاطئ جذا مخالف للحقيقة والتاريخ، وتصوير محرف لحقيقة حال ما يقع من آيات الأنبياء ومعجزاتهم، فإن الأنبياء يدعون أنهم مرسلون من عند الله، ثم يجري الله على أيديهم آيات وبراهين تكون خارقة للقوانين الكونية تناسب ما يدعون إليه؛ وتتناسب مع حال أقوامهم وما يختصون به.
فدلالة الآيات التي يأتي بها الأنبياء مركبة من أمور متعددة: من ادعاء النبوة، وخرق القوانين الكونية، وتناسبها مع حال النبي وحال المدعوين، وكل ذلك يجعل من المستبعد جدًا أن يكون ما يحدث على أيدي الأنبياء مجرد حدث احتمالي يمكن أن يقع نتيجة سبب طبيعي نحن لا نعلمه.
وفي خصوص دعوة النبي ﷺ يزداد الأمر وضوحًا وجلا، فإن ما نقل عنه من المعجزات والآيات يستحيل ألبتة أن يفسر على أنه مجرد حدث عادي يحتمل وقوعه بسبب طبيعي ناتج عن طبيعة التتابع في أحداث الطبيعة، فإنه ﷺ كان يدعو الشجرة فتتحرك في حينها من مكانها، ثم يأمرها بالرجوع فترجع إلى حيث كانت، ويضع يده في الإناء فيتفجر الما، من بين أصابعه، وينفث في الطعام القليل فيكثر حتى يشبع الأعداد الكبيرة من الناس، ويمسك العين الساقطة ويرجعها إلى محلها فترجع كأن لم يكن بها أذى من قبل.
واجتماع هذه الخوارق في حالة النبي ﷺ يدل دلالة قطعية ظاهرة على أنها ليست من فعله، ولا يحتمل أنها من احتمالات الطبيعة التي قد تقع بالصدفة، وإنما هي من تقدير الله – تعالى – ومشيئته وفعله، فهي أمور موجهة، ومرتبطة بملابسات محددة.
ويزداد الأمر وضوحًا في حالة القرآن، فإن النبي ﷺ تحدى به العالمين، واستحثهم على الإتيان بمثله، ومع ذلك عجز الناس جميعهم عن الإتيان بمثله، فذلك العجز ليس مجرد حدث عادي يقع في لحظة معينة ثم يختفي، وإنما هو حدث باق إلى قيام الساعة.
ولكن هيوم ومن تبعه غفلوا عن كل تلك الدلالات والأحوال والقرائن المحتفة بمعجزات الأنبياء، وطفقوا ينظرون إليها على أنها مجرد أحداث طبيعية تقع في لحظة من اللحظات، وأخذوا يفسرونها على ذلك النحو.
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن الإيمان بالمعجزات يؤدي إلى تحطيم العقل والمنطق، وينتهي إلى تدمير الإنسانية، فهو يذهب بالبدهيات وبالانضباط والاتساق، ويخرج الإنسان من طور المعقول إلى طور السفه والجنون - كذا يقولون – فإذا كانت قوانين الكون يمكن أن تنخرم، وتفقد اتساقها من أجل دعوة إنسان واحد، فإن ذلك يعني أن كل شي، يحتمل أن يقع مهما كان بعيدًا عن العقل والمنطق.
فإن تجويز وجود شاب من غير أن يكون طفلا في أول أمره يقدح في البدهيات والضروريات، ويلزم منه تجويز انقلاب الجبل إلى ذهب، وانقلاب ما في المنزل من الأواني إلى رجال عقلاء، وكل ذلك قدح في طرق المعرفة، وإفساد للمعرفة، وإخلال بالقواعد والقوانين التي تقوم عليها المعرفة الإنسانية.
فحقيقة ما يؤول إليه الإقرار بالمعجزات أنه يصح القدح في العلوم البدهية بالأمور الكسبية، «وكل ما كان كذلك فإنه باطل، فوجب أن يكون الحكم بهذا التجويز باطلا، فثبت بهذا الطريق أن القول بانخراق العادات عن مجاريها قول باطل».
وهذا الاعتراض غير صحيح، ولا يصح الاستناد إليه في القدح في المعجزات؛ لكونه قائمًا على مغالطات منطقية وتصورات خاطئة عن حقيقة قول المؤمنين بالنبوة، وبيان ما فيه من خلل وفساد يتبين بالأمور التالية:
- الأمر الأول: أن المؤمنين بالنبوة لا يقولون بأن انحراف السنن يتحقق بلا قيد ولا شرط ولا ضابط، بل إنهم من أشد الناس إيمانًا بالنظام الكوني، وانضباطه وصرامته، فقد اعتمدوا عليه في إثبات وجود الله وخلقه للكون، وجعلوه أحد أهم أدلتهم على ذلك، ولكنهم مع ذلك يقولون: إن الله الخالق للكون والواضع لقوانينه لا يعجزه أن يخرق بعضها إذا شاء بحكمته وإرادته، فهو أعلم بها، وأقدر عليها.
فتجويز انخرام قوانين الكون عند المؤمنين بالنبوة ليس أمرًا عبثيًا ولا فوضويّا، وإنما هو محكوم بإرادة الله وحكمته، وعلمه، ورحمته، وهو محكوم أيضًا بالبقاء على الأصل، وليس هو الغالب ولا الأكثر، فحقيقة ما يقوله المؤمنون بالنبوة: أن الكون محكوم بقوانين تضبط أحداثه وتحكم مشاهده، وأن ذلك هو الأصل المطرد فيه، ولكن الله قد يحدث انخرامًا في بعض تلك القوانين إذا اقتضت حكمته وإرادته ذلك.
وثبوت هذا المعنى يبطل دعوى من يدعي أن إثبات إمكان المعجزات يؤدي إلى فساد المعرفة الإنسانية واضطرابها.
- الأمر الثاني: أما قول الرازي بأن التسليم بالمعجزات يؤدي إلى القدح في البدهيات بحجة أن حدوثها أمور كسبية، لا يصح القدح بها في الأمور البدهية التي هي قوانين الكون، فهو قول غير صحيح؛ لأن حدوث الأمور المعجزة التي تقع على أيدي الأنبياء ليست من قبيل الأمور الظنية الاحتمالية، وإنما هي من قبيل الأمور القطعية الظاهرة المدركة بالضرورة الحسية، فخروج الما، من بين أصابع النبي ﷺ أمر ظاهر مدرك بالضرورة الحسية التي تفيد اليقين والقطع، وكذلك الحال في تكثير الطعام، وتحريك الأشجار، وشفاء المريض، وحنين الجذع، فكل هذه الأمور كانت مدركة بالضرورة الحسية، وليست أمورًا نظرية استدلالية.
وقد سبق في أثناء البحث إقامة الأدلة على أن آيات الأنبياء تتصف بالظهور والقطعية والجلاء، وأن المؤمنين لا يقبلون كل دعوى في انخرام السنن الكونية، ولا يدخلون ضمن أدلتهم على النبوة إلا ما كان ظاهرًا في حقيقته، قطعيًا في تحقق انخرام السنن فيه.
فحقيقة الأمر عند المؤمنين بالنبوة أن المعجزة حدث قطعي ظاهر، ثبت به انخرام بعض السنن الكونية الخاضعة لقدرة الله وحكمته، وإرادته؛ فكيف يصح أن يقال مع ذلك بأن المعجزات مجرد أمور كسبية ظنية تعارض أمورًا قطعية؟!
- الأمر الثالث: أن دعوى إفساد العقل الإنساني والمعرفة الإنسانية منقلبة على الناقدين للنبوة، فإن كثيرًا منهم تبنى آرا، ومواقف تؤدي بالضرورة إلى إحداث أضرار بالغة بالمنظومة المعرفية، وتدخل العقل الإنسانى فى متاهات من الشكوك، وأصناف من الاضطرابات المعرفية، وتتسبب فى دخول ألوان من الغموض والقلق إلى ساحات المعرفة.
فكثير من أتباع التيار الإلحادي صرح بإنكار المبادئ الفطرية البدهية، وانتهى إلى أن المعرفة الإنسانية نسبية في كل مجالاتها، وقرر بأنها لا تقوم على أصول كلية مطلقة، وهذه الرؤية تؤدي بالضرورة بالمعرفة الإنسانية إلى الوقوع في متاهات السفسطة القاتلة، وتدخل العقل الإنساني في أمواج الشكوك العاتية.
بل إنها – فضلًا عن ذلك – تغلق الباب، أمام نقد موقف المؤمنين من المعجزات، وتوقع أتباعها في التناقض المنهجي الصارخ؛ إذ كيف يمكن لمن يؤمن بنسبية الحقيقة أن يدعي أن قول المخالفين له باطل مخالف للعقل؟!
وقد سبق في أثناء البحث إثبات أن إذكار وجود الله يلزم منه بالضرورة إحداث الاضطراب العميق في بنية المعرفة الإنسانية.
وأما أتباع التيار الربوبي، فحالهم لا يختلف كثيرًا عن حال أتباع التيار الإلحادي، فإنهم وقعوا في أصناف من المغالطات المنطقية، فإنهم في إنكارهم للمعجزات وقعوا في مغالطة «الانقلاب الإقراري»، حيث إنهم سلموا بخلق الله للكون وقدرته على إحداثه من العدم، ثم اعتقدوا أنه لا يمكن إحداث انخرام جزئي في بعض قوانين الكون التي وضعها الله ابتداء!! وسلموا بخلق الله للكون، ثم طفقوا يتشككون في كمال حكمته وقدرته وعلمه!! وكل ذلك اضطراب يوقع العقل الإنساني في صنوف من الاضطراب والقلق والغموض.
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بوجود المعجزات، وإمكان انخرام القوانين الكونية، ولكن ذلك لا يعنى أن الفاعل لها هو الله تعالى فقد تكون تلك المعجزات حادثة بسبب ما يميز المدعي للنبوة من خواص نفسية ومزاجية مختلفة عن غيره من البشر، وقد يكون ساحرًا لديه قدرة في التأثير في خواص الأشياء، أو تكون واقعة بسبب الجن والشياطين، أو بسبب الملائكة، أو بسبب تأثير الأفلاك والنجوم، وكل هذه المؤثرات احتمالات قائمة، ولا دليل على بطلان واحد منها، فبطل حينئذ الاعتقاد بأنه لا فاعل لتلك المعجزات إلا الله.
وهذا الاعتراض باطل؛ لكونه مبنيًا على اختزال شديد لحقيقة المعجزة، وتحريف ظاهر لما يقرره المؤمنون بالنبوة من خواص معجزات الأنبياء، بنا، على ما علموه من حقيقتها.
فإن المعجزة التي تكون دليلا للنبي لا بد أن تكون خارجة عن مقدور المخلوقين، ولا تدخل ضمن دائرة ما يقدرون عليه، فهي من الأحداث التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى فالإخبار بالمغيبات المستقبلية مثلّا لا يمكن لإنس، ولا جن، ولا ملائكة مهما كانت عظمة القوة التي لديهم أن يأتوا بمثلها؛ لكون ذلك من خصائص الخالق، ومن مقتضيات ربوبيته للكون.
وكذلك الحال في انقلاب العصا إلى حية تسعى، وانفلاق البحر إلى طرق متعددة يابسة، وإحياء الموتى، وانشقاق القمر، وخروج الما، الغزير جدًّا من بين الأصابع، وغيرها من المعجزات الكبرى التي تقع على أيدي الأنبياء، ليست مما يمكن أن يقع بغير قدرة الله وحكمته وتدبيره، ولهذا لم تكن معهودة في التاريخ الإنساني، ولا يعرف الناس وقوعها لغير الأنبياء، ولو كانت مما يمكن أن يقع بغير قدرة الله، كتأثير الأفلاك، أو قوة الجن، أو الملائكة، أو بتأثير السحر، أو غير ذلك؛ لأمكن للناس مشاهدة وقوع أمثالها في الواقع، ولكن ذلك لم يحصل.
ثم إن معجزة النبي ﷺ الكبرى وهي القرآن الكريم التي ما زالت باقية منذ صدع بدعوته قبل أربعة عشر قرنا، لم يأت أحد بمثلها، مع تحدي النبي الناس بها، وتحفيزهم على معارضتها، وتهديدهم ووعيدهم، ولم يأت أحد بمثلها حتى الآن، فهل خلا العالم من الجن والشياطين، ومن الملائكة والسحرة، ومن الأفلاك؟! فلماذا لم يأت أحد بمثل القرآن؟!
وكل ذلك يدل على أن المعجزات الكبرى التي تمثل أسس الأدلة والآيات الدالة على صدق نبوة الأنبياء ليست مما يمكن أن يدخل ضمن مقدورات المخلوقات، وإنما هي من خصائص قدرة الخالق.
وقد سبق في أول الحديث عن النبوة ذكر الخواص التي تتميز بها آيات الأنبياء في ذاتها وفي مضمونها، وبيّنًا أنها خارقة للسنن الكونية التي لا يقدر عليها إلا الله، وأن الأنبياء يختلفون عن السحرة والكهنة من جهات عديدة ظاهرة للعيان، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن تيمية: «لا بُدَ في آيات الأنبياء من أن تكون مع كونها خارقة للعادة أمرًا غير معتاد لغير الأنبياء، بحيث لا يقدر عليه إلا الله الذي أرسل الأنبياء، ليس مما يقدر عليه غير الأنبياء، لا بحيلة، ولا عزيمة، ولا استعانة بشياطين، ولا غير ذلك.
ومن خصائص معجزات الأنبياء: أنه لا يُمكن معارضتها، فإذا عجز النوع البشري غير الأنبياء عن معارضتها، كان ذلك أعظم دليل على اختصاصها بالأنبياء.
ويقول في تأكيد هذا المعنى: «ما تأتي به السحرة، والكهان، والمشركون، وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدورًا للإنس والجن، وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها؛ لا الإنس ولا الجن».
ومما يوضح الخلل المنهجي في هذا الاعتراض أنه في الحقيقة قائم على القدح في الأمور الوجودية بمجرد الاحتمالات العقلية، وهذه طريقة باطلة في بنا، المعرفة ومسالك الاستدلال، فالبحث ليس في مجرد الإمكان العقلي، وإنما في التحقق الخارجي؛ لأن الإمكان العقلي لا يكفي في إثبات وجود شيء في الخارج، فكثير من الممكنات في العقل يمتنع أن توجد في الخارج لموانع وجودية، وبناء عليه فالتشكيك في الأمور الوجودية لا بد فيه من إثبات الإمكان الخارجي، وهذا ما لم يقم به صاحب ذلك الاعتراض.
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بأن الله – تعالى - هو المحدث للمعجزة، ولكن ذلك لا يعني أنه إنما أحدثها تصديقًا للنبي، فلا دليل على كون الله إنمًا فعل ذلك الفعل لأجل إثبات صدق النبي وتدعيم دعواه.
وهذا الاعتراض باطل؛ لأنه مبني على انحراف شديد في فهم كمال الله في حكمته، ورحمته، وعدله، حيث توهم المعترض أن الله يمكن أن يؤيد الفاجر الكاذب الذي يكذب عليه، ويسعى إلى إفساد الناس وإضلالهم تأييدًا مستمرًا، وأن ذلك لا ينافي الكمال في الحكمة والعدل، وهذا توهم باطل.
فإن المدعي للنبوة يعلن للناس بأنه مرسل من الله – تعالى - وأنه مبلغ عنه أمره ونهيه، وأنه يبين للناس ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويبغضه، وأن من يتبع ما جاء به يفوز بنعيم الله وثوابه، ومن لم يتبع ما جاء به يبوء بعذاب الله وعقابه، ثم يدعي بأن الله أيده بالآيات وآتاه البراهين التي تدل على أنه صادق، فيستحيل في قوانين الحكمة والعدل الكاملة أن يتحقق ذلك له إذا كان كاذبّا، فإن ذلك من أظهر ما ينافي الكمال، والله - تعالى - منزه عن ذلك غاية التنزه، ونسبة إمكان ذلك إلى الله من أقبح صور النقص التي يمكن أن تنسب إلى الله – تعالى -.
فالإيمان بكمال الله في حكمته وعدله ورحمته يوجب القطع بأن تأييد النبي الذي يذكر للناس أنه مرسل من الله بالآيات والمعجزات دليل على صدقه، فالإيمان بالنبوة مبني على الإيمان بكمال الله ولا يمكن الفصل بينهما ألبتة، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن تيمية: «الكلام في النبوة فرع على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة، وتمتنع فعل ما تنفيه، فنقول: هو I حكيم يضع كل شيء في موضعه المناسب له، فلا يجوز عليه أن يُسوّي بين جنس الصادق والكاذب).
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التشكيك في نقل المعجزات، وإحداث الريب وعدم الثقة في طرق نقل المعجزات، فالتصديق القاطع بوقوع المعجزات لا يمكن لمن لم يشاهدها إلا بالتواتر، ولكن كثيرًا من الأحداث التي يدعي فيها المؤمنون بالنبوة أنها من معجزات النبوة لم تنقل إلينا بالتواتر، ثم إن التواتر ذاته لا يدل على القطع؛ لأن أهل التواتر يجوز عليهم الكذب، ولا يوجد دليل يمنع احتمال وقوع الكذب بالتواتر، وأهل الأديان يقرون بذلك، فإن المسلمين منهم يذكرون أن كثيرًا مما تواتر عند اليهود والنصارى من العقائد كذب مفترى، فلو كان التواتر يدل على القطع بالضرورة لما أمكن تحققه في تلك العقائد.
ومحصل هذا الاعتراض أن التصديق بالمعجزات لا يكون إلا لمن رآها فقط، ولذلك فإن كل من لم يعاصر النبي، ولم ير معجزاته غير ملزم بها.
ويعد هذا الاعتراض من أكثر الاعتراضات انتشارًا عند المعترضين على النبوة، وقد تكرر على ألسنة كثير منهم عبر القرون، فقد أثاره قديمًا في الفكر الإسلامي ابن الراوندي، وأبو حاتم الرازي الطبيب، وذكرا أن المسلمين لا يمكنهم إثبات حدوث دلائل النبوة، وشككا في صدق النقلة وضبطهم.
وكذلك اعتمد عليه ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث ذكر أنه لا توجد معجزة واحدة نقلها عدد كافي في النقل يستلزم نقلهم القطع بحدوثها، وإنما هم رجال قليلون يحتمل وقوع الخطأ منهم في النقل أو الإدراك والتصور، وذكر أنه إذا أخبره أحد بوقوع معجزة ما، فإنه سيوازن بين احتمال ما يدركه بحسه ويعرفه من طبيعة الوجود من عدم وقوع ذلك، وبين احتمال أن يكون من نقل إليه خبر المعجزة خادعًا أو مخدوعًا، وانتهى إلى أنه سيقدم احتمال ما يعرفه بحسه من عدم وقوع ذلك.
وكذلك اعتمد عليه جان جاك روسو، فإنه في سياق اعتراضه على الأديان طفق يشكك في حدوث المعجزات ونقلها، وذكر أنه لا يوجد دليل قطعي يدل على صدق حدوثها، وأن شهادة البشر ونقلهم للأحداث غير معصومة، وذكر أنه يجب أن يكون شاهدًا على النبوة بنفسه.
وحاول بعض الحداثيين العرب أن يشكك في نقل معجزات النبي ﷺ وحدوثها من جهة أخرى، وهي إثبات التشابه بين ما نقل عن النبي ﷺ من معجزات، وبين ما نقل عمن سبق من الأنبياء، فادعى أن المسلمين حين رأوا ما نقل عن الأنبياء السابقين من معجزات عز عليهم ألا يوجد لنبيهم مثلها، فاخترعوا ما يماثلها لنبيهم، وضرب على ذلك أمثلة متعددة، ومنها: معجزة تفجر الما، من بين أصابع النبي ﷺ فإن المسلمين اخترعوها على غرار تفجر الماء لموسى u من الحجارة.
وما ذُكر في هذا الاعتراض من التشكيك في نقل معجزات الأنبياء غير صحيح، وهو قائم على مسلمات باطلة، ومنطلقات خاطئة، تسببت في إحداث الخلل والفساد في بنيته، وبيان ما فيه من خلل يتبين بالأمور التالية:
- الأمر الأول: أنه لا يشترط في إثبات صدق الأمور وتحققها النقل بالتواتر، بل يكفي في ذلك الاستفاضة بنقل الثقات، فالعبرة في قبول الأخبار، والعمل بها، واليقين بحدوثها، والتحقق من عدم كذبها، ليس مرتبطا في كل الأحوال بكثرة العدد، بل يكفي في ذلك التحقق من أمانة نقلة الأخبار، وضبطهم، ونزاهتهم، وصدقهم.
- الأمر الثاني: أنه لم يقل أحد: إن كل تواتر يدل على القطع، وإن كل خبر نقله عدد كبير من الناس لا بد أن يكون صدقا، وإنما ذكروا شروطًا وقيودًا لدلالة التواتر على القطع، ومن تلك الشروط: أن يكون العدد الناقل للخبر كثيرًا، وألا يكون من الممكن تواطؤهم على الكذب، وأن يكون مستند نقلهم للخبر الضرورة؛ إما الحس، أو السماع، أو المشاهدة، وليس النظر والاجتهاد، وأن تكون مشاهدة الشاهدين للمخبر به عن طريق مشاهدة حقيقية صحيحة، وليس عن طريق التأمل والنظر أو خطأ الحس.
فإذا توفرت في الخبر المنقول هذه الشروط؛ فإنه يكون صدقًا لا محالة، ويكون في حكم إدراك الخبر بالحس أو المشاهدة»، وقد نص عدد من العلماء على ذلك، وأكدوا على أن التشكيك في الأخبار التي نقلت بهذه الصفة يؤدي إلى السفسطة,، وفساد المعارف الإنسانية، فإن كثيرًا من الأحداث والبلدان والأشخاص من الملوك والعلماء وغيرهم إنما يثبتها الناس بطريق التواتر، فلو بطل هذا الدليل لبطل عدد كبير من العلوم والمعارف التي لا يشك العقلاء في ثم إنك لا تكاد تجد مشككا في التواتر إلا وهو يعتمد عليه في إثبات كثير من المعارف التي يؤمن بها ويسلم بوجودها، فالمعترض على الأديان والنبوة والمعجزات تراه لا يشك في حدوث الثورة الفرنسية، ولا في وجود العالم البيولوجي دارون، ولا في وجود نيوتن»: ولا غير ذلك»، وكل تلك الأخبار إنما أثبتها بالتواتر والاستفاضة،
فكل الطرق التي أثبت بها تلك الأخبار وغيرها لا تختلف في الحقيقة عن الطرق التي يثبت بها المؤمنون بالنبوات معجزات الأنبياء وغيرهم.
- الأمر الثالث: أن نقل المسلمين لمعجزات النبي مله تتوفر في مجموعه كل شروط التواتر، فهي متواترة تواترًا معنويّا، وفي هذا يقول البيهقي: «وأما في المعجزات، وفي فضائل واحد من الصحابة، فقد رويت فيهما أخبار أحاد في ذكر أسبابها، إلا أنها مجتمعة في إثبات معنى واحد، وهو ظهور المعجزات على شخص واحد، وإثبات فضيلة شخص واحد، فيحصل بمجموعها العلم المكتسب، بل إذا جمع بينها وبين الأخبار المستفيضة في المعجزات والآيات التي ظهرت على سيدنا المصطفى، دخلت في حد التواتر الذي يوجب العلم الضروري، وفي تأكيد المعنى نفسه يقول سعد الدين التفتازاني: «نقل عنه من الأمور الخارقة للعادة ما بلغ القدر المشترك منه - أعني ظهور المعجزة التواتر وإن كانت تفاصيلها احادّا، كشجاعة عليّ، وجودٍ حاتم، فإن كلا منهما ثبت بالتواتر، وإن كان تفاصيلها آحادّا، وهي مذكورةٌ في كتب السير»، ويقول ابن القيم: «ومعجزاته وآياته تزيد على الألف، والعهد بها قريب، وناقلوها أصدقٌ الخلق وأبرُهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنًا بعد قرن.
ويكشف الماوردي عن التميزات التي امتاز بها نقل معجزات النبي ﷺ والقرائن التي تدل على صحتها، فيقول: «فإن قيل: لا يثبت إعجاز النبوّات بمثل هذا من أخبار الآحاد، فعنه جوابان:
أحدهما: أن رواة الآحاد قد أضافوه إليه في جمع كثير قد شاهدوه، وسمعوا راويه فصدقوه، ولم يكذبوه، وفي الممتنع إمساك العدد الكثير عن رد الكذب، كما يمتنع افتعالهم للكذب، ولئن جاز اتفاقهم على الصدق مع الكثرة والافتراق، وامتنع اتفاقهم على الكذب، فلأن دواعي الصدق عامة متناصرة، ودواعي الكذب خاصة متنافرة، ولذلك كان صدق أكذب الناس أكثر من كذبه؛ لأنه لا يجد من الصدق بدَّا، ويجد من الكذب بدًا.
والثاني: أنها أخبار وردت من طرق شتى، وأمور متغايرة، فامتنع أن يكون جميعها كذبّا، وإن كان في آحادها مجوز، فصار مجموعها من التواتر، ومفترقها من الآحاد، فصار متواتر مجموعها حجة، وإن قصر مفترق آحادها عن الحجة).
ثم إن معجزة النبي ﷺ الكبرى وآيته العظمى القرآن الكريم منقول إلينا بطريق التواتر القطعي المستفيض، الذي لا يمكن التشكيك فيه، ولا القدح في وثاقته.
وهذه الأوجه تدل على أن نقل معجزات النبي ﷺ موثوق لا شك فيه، وأن دعوى عدم صحة نقلها، أو دعوى العجز عن إثباتها، لا ترد عليها، ولا يصح الاعتماد عليها في التشكيك فيما نقل عنه ﷺ.
ومع ذلك كله، فنحن لا ننكر أن بعض الآيات التي تنقل عن الأنبياء السابقين من قِبّل أتباعهم لا تتوفر فيها شروط التواتر، ولا يمكن التحقق من صدقها، نتيجة لفقدان المصادر المعتمدة في التوثيق، ولكن ذلك لا يعنى أن كل معجزات الأنبياء كذلك، ولا يعني أن تتساوى كل الأديان في هذا الحكم، ودعوى التساوي بين كل الأديان باطلة، لا تقوم على أساس صحيح، ولا برهان صادق، فأهل الإسلام لهم اختصاص بَيّن في نقل الأخبار، وتوثيق مصادر دينهم، كما لا يخفى على أحد من المنصفين.
- الأمر الرابع: أما ما أشار إليه ديفيد هيوم من مقارنته بين الاحتمالات فهو مسلك خارج عن مسارات الاستدلال الصحيحة، فإن المعتبر في التقديم والترجيح قوة الدليل ورجحانه، وليس مجرد البقاء على الأصل، فكان الواجب عليه أن يبحث أولا في صفة ناقل الخبر ومدى وثاقته، واتصافه بشروط الضبط والأمانة، فإن تحقق من ذلك؛ فإن خبره سيكون صحيحًا.
ثم إن ديفيد هيوم وقع في تناقض منهجي صارخ في هذا التقرير، فإنه انتهى في منهجه الحسي إلى الشك المطلق، وأنكر دلالة الحس حتى على الاحتمال، وجعل دلالته على الاحتمال داخلة فى الدور المبطل للاستدلال»، فكيف يقول هنا بأنه سيقدم الاحتمال الذي يعرفه بحسه، ويشهده في أحداث الطبيعة؟!!
- الأمر الخامس: أما ما ادعاه بعض الحداثيين العرب من أن المسلمين اخترعوا معجزات للنبي من باب مشابهة معجزات الأنبياء السابقين، فإن ذلك لا يعدو أن يكون فرضًا عقليًا مجردًا ليس عليه أية بينة أو برهان، ومدعيه لم يقدم عليه أي دليل إلا مجرد المشابهة بين المعجزات السابقة والمعجزات اللاحقة، وإثبات التأثر بمجرد المشابهة بين السابق واللاحق خطأ منهجي ظاهر، وهو مبني على مغالطة منطقية، يمكن أن تسمى «مغالطة الترابط الزائف»، ويقصد بها: الادعاء بأن هناك ترابطا بين شيئين بلا دليل صحيح، ولا منهج علمي مستقيم، ومن أشهر الأمثلة على هذه المغالطة: الاعتماد على مجرد التشابه بين الشيئين في إثبات التأثر، فإن التشابه بين أمرين مصدرهما واحد لا يدل على أن الثاني متأثر بالأول، فالمعجزات مصدرها واحد، وهو الله – تعالى - فليس غريبًا أن يتشابه ما يقع للأنبياء منها.
ثم إن هناك كثيرًا من المعجزات العظيمة التي وقعت للأنبياء السابقين، كشق البحر لموسى، وجعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، ولم يذكر شي، مثلها في معجزات النبي ﷺ ولو كان المسلمون متأثرين في ذكر معجزات نبيهم بالأنبياء السابقين لذكروا له مثل تلك المعجزات؛ لأنها دلائل عظيمة قوية.