تعزيز اليقين وهداية الحيران

الاعتراض على النبوة وكمالها

    اجتهد الناقدون للأديان كل الاجتهاد في حشد كل ما يرون فيه قدحًا في أصل النبوة، أو تشكيكًا في كمالها واتساقها، فتراهم في أحوال كثيرة يحاولون إثبات أن النبوة مناقضة للحكمة، وتارة أخرى تراهم يصرحون بأن الإنسان لا حاجة له إلى أن ينزل إليه وحي من السماء؛ لأن ما لديه من العقل يكفيه ويرشده، ومرة أخرى يسعون إلى التشكيك في إمكان النبوة، ونزول الوحي من السماء إلى الأرض.

وسوف نجمل أصول الاعتراضات التي أقامها المعترضون على أصل النبوة في هذا المقام، ولن نقتصر على الاعتراضات التي أثيرت مع تشكل ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، وإنما سنذكر معها قدرًا من الاعتراضات التي أثيرت في الأزمان المتقدمة؛ لكون تلك الاعتراضات ما زالت حاضرة، ويعول عليها عدد من الناقدين للأديان، وليكون البحث في شأن النبوة أشمل وأكمل، ولكون تلك الاعتراضات لم أقف على من توسع في نقضها.

طرح هذا الاعتراض في زمن مبكر من التاريخ الإسلامي، فقد نقله أبوعبد الله الرازي عن بعض المعترضين على النبوة، وتقوم حقيقته على أنه لا يستطيع أحد التحقق من إثبات صدق النبوة بحال، ولا يمكن إقامة الدليل على امتناع أن يكون المخاطب للنبي أحدًا غير الله.

فالمدعي للنبوة لا بد أن يعلم علمًا يقينيًا أن الذي يخاطبه وينزل إليه الوحي هو الله – تعالى – ولا بد أن يثبت ذلك لدى المؤمنين به، ولكن من ذا الذي يستطيع إثبات هذا القدر؟! فما الذي يمنع أن الذي كان يخاطب النبي شيطان من الشياطين أراد أن يضل الناس، وأهل الأديان يؤمنون بأن لهم قدرة فائقة جدًا؟! وما الذي يمنع أن الذي كان يخاطب الرسول ملك من الملائكة؟! وما الذي يمنع أن يكون الوحي الذي وصل إلى الرسول كان من تأثير الكواكب والنجوم العلوية، فقد كان المنجمون يرون لنا تأثيرًا قويًا على الأجسام الأرضية؟! وما الذي يمنع أن النبي وجد بعض الأدوية واستعملها فأدت به إلى مرحلة يظن فيها أن الله يخاطبه، وجعلت لديه قدرة في التأثير على خواص الأشياء؟!.

وهذا الاعتراض غير صحيح، فالمؤمنون بالنبوة لا يقولون: إن دعوى النبوة تقبل من أي رجل، حتى ولو كان غير معروف في سيرته وحياته، أو كان معروقًا بالكذب وفساد الأخلاق، أو معروفًا بضعف العقل والعلم، ولا يقولون: إن النبوة تصدق بأي دليل، حتى ولو كان ضعيفًا، أو ممكن الحصول من الخلق لغير الأنبياء، ولا يقولون: إن على الناس أن يتبعوا أي مدع للنبوة، حتى ولو كان ما أتى به من أدلة غير يقيني في دلالته وثبوته.

وإنما هم على النقيض من ذلك، فهم يؤكدون دائمًا على أن النبوة لا تكون إلا في رجل معروف بالصدق والأمانة وقوة العقل، وكمال النسب وشرف المكانة، ويؤكدون دائما أن النبي لا بد أن يأتي بدليل خارق للسنن الكونية بحيث نعلم أنه لا يقدر أحد على إحداثه إلا الله تعالى، ويقيمون الأدلة على ذلك، ويؤكدون دائمًا أن دلائل النبوة قاطعة يقينية لا تقبل التشكيك ولا اللبس.

 ولكن المعترض بذلك الاعتراض قفز على ذلك كله، وأخذ يصور لنفسه ولغيره بأن المؤمنين بالنبوة لا يملكون أدلة على صحة مواقفهم، وأنه ليس لديهم إلا افتراضات لا برهان عليها، وطفق يعتمد على الاحتمالات العقلية المجردة الخالية من أي شي، يدعمها.

أما احتمال أن يكون أحد من الجن هو الذي أوحى إلى النبي، فهو لا قيمة له؛ لكونه مجرد افتراض عقلي في مقابل براهين عقلية وجودية ظاهرة؛ ولكون الأنبياء أتوا بأفعال خارقة للسنن الكونية لا يستطيع الجن والإنس فعلها، فهذه البراهين لا يصح في مناهج الاستدلال المعتبرة أن يقدح فيها بمجرد فرض عقلي، فإنه لو صح ذلك لأمكن القدح في كل الضروريات، بل لأمكن القدح في ذلك الفرض نفسه، بأن يقال: لو كان الوحي من الشياطين فما الذي يمنع الشياطين الأخرى أن تقوم بالعمل نفسه مع عدد آخر من الناس؟! وما الذي يمنع الشياطين من الوحي للناس في كل زمان ومكان؟! وما الذي يمنع الشياطين أن تختلف فيما بينها فيقع التناقض بين من أوحت إليهم.

وكل هذه افتراضات عقلية لا يصح الاعتماد عليها في بنا، التصورات والمواقف، وهي مناقضة لمناهج العلم المستقيم: ومسالك الاستدلال القويمة عند العقلاء.

إن العاقل إذا وازن بين هذه الافتراضات وبين ما يجده عند المسلمين من آيات وبراهين على صدق نبوة النبي ﷺ واستحالة أن يكون ما جاء به من عند أحد من الخلق يُدرك مقدار الفرق بينها، وينكشف له حجم السخافة في ذلك الاعتراض.

ثم إن الجن عالم غيبي لا يمكن أن نعلم بكثير من تفاصيله إلا عن طريق أخبار الأنبياء، وإذا كنا نعتمد على النبوة في تحديد صفات الجن، فإنه قد جاءنا الخبر بأنهم لا يستطيعون أن يعارضوا القرآن، ولا أن يحيوا الموتى، ولا أن يفجروا الما، الكثير الذي يكفي العشرات من الناس من بين الأصابع، ولا يستطيعون أن يخبروا بالغيوب الكثيرة الصادقة، فإذا كان الأمر كذلك، فإن من يعتمد على القدح في النبوة بذلك الاحتمال متناقض مع نفسه؛ لكونه لم يطرد في الدليل الذي اعتمد عليه في معرفة صفات الجن وحالهم.

وأما احتمال أن يكون الموحي إلى النبي أحد الملائكة، فهو من أسقط الاحتمالات وأبطلها؛ لكون الملائكة عالمًا غيبيًا لم نعلم عنه إلا بخبر الرسول، والرسول ﷺ أخبرنا أنهم مجبولون على طاعة الله، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فإذا كنا نعتمد في أصل إثبات وجودهم على الوحي، فإنه يلزمنا بلا شك أن نعتمد عليه في إثبات ما نضيفه إليهم من الصفات، ولكن المعترض بذلك الاحتمال لم يراع الاطراد في مواقفه، فإنه ليس له دليل على إثبات الملائكة إلا خبر الرسول، ثم طفق يحدد للملائكة من الصفات ما يشاء ويقدح بها في النبوة!!

وأما احتمال أن يكون الرسول وجد بعض الأدوية والعقاقير التي تؤثر في المزاج وفي طبائع الأشياء، فهو احتمال لا يقل سقوطًا عما قبله؛ لكونه يقفز على كل الدلائل والبراهين الدالة على صدق النبي، وأمانته، وكماله، ونزاهته، وكأنه يتعامل مع رجل لا يعرف الناس عن حياته وأخلاقه شيئًا.

ثم إن العقاقير لا يمكنها أن تؤدي إلى معرفة الغيوب المستقبلية المحضة، والصدق فيها جميعًا، ولا يمكنها أن تؤدي إلى معرفة تاريخ الأمم السابقة وقصصها، ولا يمكنها تغيير السنن الكونية، بحيث إنها تحدث أفعالا خارجة عن مقدور الجن والإنس معّا، والعقاقير لا يمكنها أن تؤدي إلى إحياء الموتى، وإلى انفلاق البحر وانقسامه إلى طرق معبدة صالحة للسير، ولا إلى تفجر الما، من بين الأصابع بقدر يكفي عشرات الناس بدوابهم.

وأما احتمال أن ما يأتي به النبي كان من تأثير النجوم والأفلاك، فهو احتمال ساقط؛ لأنه مبني على تخرصات وظنون، فعلى التسليم بأن الأحوال الفلكية قد تؤثر في بعض الأحداث الأرضية، إلا أن ذلك لا يعني أنها تؤدي إلى

الإيحاء بشريعة كاملة مشتملة على عبادات تتوجه إلى الله – تعالى -‏ وإلى معاملات تستوعب تصرفات الإنسان كلها، ولا يعني أنها تؤدي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم إن التأثيرات التي تنسب إلى الكواكب والأفلاك لا تصل إلى خرق السنن الكونية التي تخرج عن مقدور الجن والإنس، بحيث إنها تؤدي إلى إحياء الموتى، وانقلاب العصا إلى حية تسعى، وخروج الما، الكثير من بين الأصابع، وحنين الجمادات وتكلمها.

فثبت بما سبق أن الناقدين للنبوة بذلك الاعتراض ليس لهم علم محقق، وإنما هي ظنون وتخرصات لا أساس لها ولا قرار لحقيقتها، ويقابلهم المؤمنون بالنبوة بأدلتهم وبراهينهم الوجودية العقلية، والعاقل إذا وازن بين الحالين يعلم الفرق بينهما، ويدرك حقيقة كل حال منهما.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على الادعاء بأن البشر ليسوا في حاجة إلى النبوة في إصلاح حالهم وعلاقتهم مع الله، وأنه يمكنهم تحقيق أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أن ينزل إليهم وحي من الله لتوجيههم وإرشادهم، فالبشر لديهم من البدائل العادلة الصالحة ما يمكن أن يحققوا به المصالح التي يدعي المؤمنون بالنبوة بأنها لا تتحقق إلا بها.

وقد اختلف الناقدون للنبوة في تحديد جنس تلك البدائل، وتنوعت مسالكهم في ضبطها، ومن أهم ما ذكروه:

‎1- الزعم بأن العمل الإنساني كاف في إصلاح جميع شئون الحياة الإنسانية، وهذه الدعوى قديمة جدَّا، ومن أقدم من ادعاها بعض البراهمة، فقد نقل عنهم عدد من المؤرخين بأنهم اعترضوا على النبوة وقالوا: إن الأفعال ثلاثة أقسام، قسم يقضي العقل فيه بالحسن، فالعقل كاف في الأخذ به، وقسم يقضي العقل فيه بالقبح، فهو كاف في وجوب الابتعاد عنه، وقسم يتوقف العقل فيه فلا يحكم فيه بحسن ولا قبح، وحكم العقل يقتضي أن يعمل به عند الحاجة، ويتركه عند عدم الحاجة إليه، فالعقل إذن كاف عن النبوة في التعامل مع كل الأفعال.

‏ثم تكررت هذه الدعوى بصورة أخرى مع عصر التنوير الأوروبي، فإن حركة التنوير كلها تقوم على تأليه عقل الإنسان، وجعلوه الحكم الذي لا معقب لحكمه، والقاضي الذي لا نقض لقضائه، والميزان الذي لا جور ولا انحراف في موازينه كما سبق النقل عنهم في الثاني من الباب الأول.

2- الزعم بأن الضمير الإنساني كاف في إصلاح الإنسان في جميع شئونه، وفي ضبط علاقته مع الله، ومن أول من ادعى ذلك الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، فإنه بعد أن أوضح مفاسد الفلسفة والأديان قال: «لن أستنبط تلك الضوابط من فلسفة متعالية، بل سأكتشفها في سر قلبي كما كتبتها الطبيعة بحروف راسخة، أستشير قلبي في كل نازلة: ما استشعرته خيرًا هو خير، وما بدا لي شرًا فهو شر، أصدق دليل هو الضمير».

ويعيد النصيحة لابنه فيقول: «يوجد إذن في سر النفوس مبدأ يولد مع الإنسان، على ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ذلك ميوله الشخصية، على تصرفاته وتصرفات غيره، فينعتها بالصالحة أو بالفاسدة، وهذا المبدأ هو الذي أسميه الضمير».

3- الزعم بأن العلم التجريبي الحديث يكفي عن النبوة في إصلاح حياة الإنسان، فقد تشكلت في الفكر الغربي الحديث نزعة تذهب إلى الاعتقاد بأن العلم التجريبي قادر على الإحاطة بكل الحقائق الكونية، وأنه يستطيع أن يكفي الإنسان في تأسيس كل الأنظمة الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والأخلاقية التي تسيّر حياته، وأن البشر لم يعودوا في حاجة إلى أي مصدر آخر للمعرفة، أو الأنظمة مع وجود العلم، فقد أغناهم العلم التجريبي عن كل المصادر الفلسفية والدينية وغيرها التي كانوا يعتمدون عليها، كما سبق بيانه في الفصل الثاني من الباب الثاني.

وهذا الاعتراض لا يعدو أن يكون مشاغبة كلامية، تسعى إلى الانتصار للموقف بأي تركيبة من الكلام يُدّعى فيها أنها متضمنة لحجة ملزمة، فإنه مبني على سو، فهم لطبيعة النبوة، ولوظيفتها الأساسية، فقد انطلق المعتمدون عليها من أن الغرض الأساسي للنبوة إرشاد الناس إلى ما يمكنهم إدراكه بعقولهم، أو جهدهم الإنساني مهما كان نوعه، وهذا تصور غير صحيح، فإن الأنبياء لم يأتوا ليدلوهم على ما يمكنهم معرفته، وإنما أتوا ليرشدوهم إلى أمور جليلة عظيمة لا يمكنهم البلوغ إليها إلا عن طريق الخبر من الله تعالى.

فإن من أعظم وظائف الأنبياء تعريف الناس بصفات خالقهم، وكماله، وأسمائه، وتعريفهم بالأعمال التي تضبط علاقتهم مع الله، وتجعلها في أحسن حال، وأكمل صورة، فيبينون للناس ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه منها.

فالنبوة إذن تتعلق من حيث الأساس بمجالات لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق النبوة فقط، وتلج في قضايا مغلقة أمام كل الطرق إلا طريقها، فلا غنى للبشر عنها بحال، ولا يمكنهم الاكتفاء بما لديهم من قدرات ألبتة، يقول ابن تيمية في بيان هذا المعنى: «ليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده كنفع الإيمان، والتوحيد، والعدل، والبر، والتصدق، والإحسان، والأمانة، والعفة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأدا، الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفى ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته».

أما البدائل التي ادعى المعترضون بأنها تقوم مقام النبوة، وأن الإنسان يمكن أن يستغني بها عنها، فهي بدائل قاصرة ناقصة، لا يمكنها بحال أن تلغي الاحتياج إلى النبوة، ولا أن تجعل الإنسان مستغنيًا عن الافتقار إلى إرشاد الله وتوجيهه.

أما القول بأن العقل الإنساني يكفي عن النبوة، فهو قول ساقط، فمع تسليمنا بأن النبوة لا تخالف ما تقرره العقول السليمة، إلا أن مجالها يتجاوز القدر الذي يمكن للعقل الإنساني البلوغ إليه بنفسه، فهي تخبر عن الغيوب المتعلقة بإرادة الله ومحبته، ومشيئته، وأفعاله، وما يعد الله – سبحانه -‏ من الثواب للطائعين، والعقاب للعاصين، وهذه الغيوب لا يمكن للعقل الإنساني الوصول إليها بنفسه أبدًا.

فمن أين للعقل معرفة الله – تعالى -‏ بأسمائه وصفاته؟! ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟! ومن أين له تفاصيل مواقع محبته ورضاه وسخطه وكراهته؟! ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟! ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يُظهر الله عليه أحدًا من خلقه إلا مَن ارتضاه من رسله؟! إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته.

ثم إن العقل يدرك الأمور إدراكًا إجماليّا، ولا يبلغ إلى معرفة التفاصيل، ويبقى الإنسان في حاجة إلى معرفتها وضوابط تطبيقها في الواقع، فيأتي الوحي بتوضيح تلك التفاصيل من عند الخالق الحكيم، فيكون تفصيله الأكمل لجنس الإنسان والأفضل لحاله، «فالعقل يدرك حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلًا أو ظلما، فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد، وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبحه، إلى أن تأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبيينه، وما أدركه العقل الصريح من ذلك أتت الشرائع بتقريره، وما كان حسنًا في وقت، وقبيحًا في وقت، ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه وبالنهي عنه في وقت قبحه».

ولا يعني هذا الأمر القدح في دلالة العقل وقدراته، ولكن غاية ما يعني أن العقل له حدود لا يمكن أن يتجاوزها، وفي بيان هذا المعنى يقول ابن خلدون: «العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال».

ثم مع تسليمنا بأن العقل الإنساني يمكن أن يدرك حسن أمور كثيرة، إلا أن الالتزام بما تقتضيه العقول يحتاج إلى سلطة عليا توجب على الناس الخضوع لها، ولما تقرره من الحق، «العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء ومتابعة النظراء، فلم يجمعهم عليه إِلّا طاعة المعبود فيما أداه رسله، فصارت المصالح بهم أعم، والإتقان بهم أتم، والشمل بهم أجمع، والتنازع بهم أمنع».

ومن أظهر الشواهد التاريخية على ذلك أن أتباع نزعة التنوير في الفكر الغربي طفقوا يبشرون الناس بأنهم إذا تخلوا عن الأديان المنزلة، واعتمدوا على عقولهم في بنا، حياتهم وتشييد أنظمتهم سيصلون حتمًا إلى النعيم المقيم والحياة الفاضلة التي لا كدر فيها ولا نصب، ولكنها أدخلت العقل الغربي في فوضى عارمة من الانقسامات الفكرية؛ والتشظي المعرفي، ولم تحقق للإنسانية الحياة الرغيدة التي وعدوا بها، بل ازدادت المشاكل المحيطة بالإنسان، وتعقدت الأمور فيها، وانتهى الأمر بكثير من التيارات المؤثرة إلى اتخاذ مواقف تؤدي بالحياة الإنسانية إلى الفساد والدمار.

وحين رأى بعض المتابعين الآثار المدمرة التي نتجت عن الاعتماد الخالص على العقل الإنساني في عصر التنوير، اتجه إلى الطرف المناقض، فأخذ يدعو إلى اللاعقلانية لكونها اتجاها فكريًا يدعو إلى محاربة الاعتماد على العقل، ويرى التأثير الأكبر في حياة الإنسان للعاطفة، والسلوك، والعادات الاجتماعية، وليس للعقل.

    وأما الزعم بأن الضمير يكفي عن النبوة، ويمكن للإنسان أن يستغني به في بناء علاقته مع الله، فهو في الحقيقة لا يختلف عن الزعم السابق، فإن جان جاك روسو حين رأى الآثار المدمرة التي يمكن أن تترتب على الدعوة إلى الاعتماد الخالص على العقل، حاول أن يأتي بمصدر جديد يتخلص به من تلك الآثار فابتكر مفهوم الضمير، ولكن روسو لم يبين لنا حقيقة مقصوده بالضمير، ولم يحدد معالمه وقوانينه، ولم يكشف عن منطلقاته ومستنداته، فهو في الحقيقة لم يأت ببديل جديد مختلف في قدراته ومصادره وطبيعته عن العقل، فحكم البديل الذي أتى به حكم العقل ولا فرق.

وأما الزعم بأن العلم التجريبي الحديث يكفي الإنسان في إنشاء حياته، وبناء قوانينه الصالحة التي تغنيه عن كل مصدر آخر، حتى ولو كان نازلا من عند الله فقد سبقت مناقشة هذا الزعم بشكل مطول، وأثبتنا هناك أن العلم التجريبي قاصر عن إدراك القيم العليا التي تضبط حياة الإنسان، وأن حياة الإنسان أوسع من أن يستوعبها منهج تجريبي لا يمكنه إدراك ما خرج عن الأمور الحسية، وأن العلم الحديث قاصر عن إدراك الكون الحسي، فكيف يمكنه أن يدرك ما هو أعلى منه وأجل؟! وأثبتنا أيضًا أن الاقتصار على العلم التجريبي في بنا، حياة الإنسان له آثار بالغة تؤدي حتمًا إلى القضاء على الإنسان ذاته.

ثم إن هذا الزعم قائم على مقدمة باطلة، وهي أن الإنسان ليس في حاجة إلى عبادة الله، ولا إلى معرفة ما يقرب منه، وإنما حاجاته كلها تقتصر على ما يتعلق بعيشه وحياته في الأرض، ولذلك فإن العلم يكفي في تحقيق ذلك، وهذه المقدمة غير مسلمة، بل هي باطلة في نفسها، فإن عبودية الإنسان لله مكوّن أساس من مكوناته التي لا يمكن أن ينفك عنها، وهي ضرورة من ضرورات حياته الأساسية، ولذلك فإن الاقتصار على العلم في بنا، حياة الإنسان خلل كبير، وانحراف ضخم في التعامل مع الإنسان.

ثم إنه يمكن أن تقلب الدعوى على أتباع هذا الزعم، فيقال: إن قولكم ذلك فيه إقرار بأهمية النبوة، وضرورة الحاجة إليها، فإن معنى قولكم أن الناس كانوا في حاجة ملحة إلى النبوة قبل العلم، وهذا يعني أن النبوة ستكون أمرًا ضروريًا لحياة الإنسان إذا تغير الحال مع العلم وتبدلت الأمور، فزعمكم ذلك ليس فيه قدح في أصل أهمية النبوة وإنما غاية ما فيه أنكم ترون أن ثمة بديلا يغني عنها، ولكن ليس لديكم ضمانات كافية في بقاء هذا البديل على حاله.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن التسليم بالنبوة يستلزم نسبة النقص إلى الله؛؟ لأن ذلك يعني أن الله خلق الناس وفيهم نقص وخلل لا بد من تكميله بالنبوة، ويعني أن الله ترك الناس في نقصهم حتى أرسل إليهم الرسل، وقد ذكر الفيلسوف المادي دولباخ: أن الوحي لا يمكن أن يكون دليلا على إرادة الله للخير، بل يدل على نقيض ذلك، فالتسليم للنبوة في نظره يفترض أن الله ترك البشر مدة طويلة محرومين من معرفة الحقائق التي توصلهم إلى السعادة.

ولكن هذا الاعتراض باطل؛ لكونه مبنيًا على تصورات خاطئة ومفاهيم منحرفة، فإن المؤمنين يعتقدون أن النبوة لم تنقطع عن جنس بني الإنسان، فقد أخبرنا الله U في القرآن بأنه ما من أمة إلا بعث فيها رسولا، كما قال – تعالى –:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير}[فاطر:24]، وأخبرنا أن بعض الأنبياء والرسل لم يقصص علينا أخبارهم، كما قال – تعالى -:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُون}[غافر:78]، وأخبرنا النبي ﷺ أن آدم هو أول الأنبياء، فقد سأله رجل فقال: يا رسول الله أنبيًا كان آدم؟ قال: «نعم، معلّم مكلم).

فالنبوة لم تنقطع عن بني آدم، والتاريخ الإنساني كله إما أن يكون فيه نبي، أو شيء من آثار دعوته ودلائل صدقه،

فإن قيل: ما القول ف فى أهل الفترات؟ كما في قوله – تعالى – :{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[المائدة:19]، وغيرها من الآيات، فهذا يعنى أن النبوة قد انقطعت عن الناس في بعض الأزمان.

قيل: إن ذلك لا ينافي عموم النبوة لكل الأمم؛ لأن المقصود بالفترة عدم وجود رسول معين يدعو الناس، وليس فبها نفي لوجود اثار النبوة في الناس، فلا يشترط في النبوة وجود شخص النبي أو بقاؤه، وقد ناقش علماء الإسلام كثيرًا هذه القضية، وبينوا وجه الحق فيها، وفى بيانه يقول ابن عطية: «وقوله ‏ تعالى -:{وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير} معناه: أن دعوة الله تعالى ‏ قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته؛ لأن آدم بعث إلى بنيه، ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد ﷺ والآيات التي تتضمن أن قريشًا لم يأتهم نذير، معناه نذير مباشر، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله.

ويقول ابن تيمية «أخبر – سبحانه – أن الرسالة عمت الأمم كلها بقولهI:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين}، وقال ‏ سبحانه -:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير} وكما أخبر – سبحانه – أنه لم يكن معذبا أحدا في الدنيا، ولا في الآخرة حتى يبعث رسولا، أخبر -‏ سبحانه -‏ أنه بعث في كل أمة رسولا، لكن قد كان يحصل في بعض الأوقات فترات من الرسل، كالفترة التي بين عيسى ومحمد ‏ صلى الله عليهما وسلم -‏ كما قال I: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[المائدة:19].

وزمان لفترة زمان درست فيه شريعة الرسول، وأكثر الدعاة إليها إلا القليل، ولم يدرس فيها علم أصول دين المرسلين، بل يبقى في الفترة من الدعاة من تقوم به الحجة».

وأما القول بأن ذلك يقتضي أن يكون خلق الله للإنسان ناقصّا، فهو اعتراض غير صحيح؛ لأن فيه خلطًا بين مقام النظر في فعل الله، ومقام النظر في مفعولات الله، ففعل الله كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لكونه متسقًا مع الحكمة والعدل في كل الأحوال، وأما مفعولات الله فيمكن أن يكون فيها نقص، ولكنه نقص نسبي اعتباري، لا تقوم الحياة إلا به، فهو لا يختلف عن نقص قدرة الإنسان عن الطيران مثل جنس الطيور، ولا عن نقص قدرة الإنسان على الغوص في الما، والعيش فيه كما هو الحال في جنس الأسماك.

ثم إن ذلك النقص في حق الإنسان لا يوجب التعذيب والعقاب، فلا يلام الإنسان على ما فيه من جهل ونقص إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن تخصيص النبوة بأشخاص معينين ينافي العدل؛ لأن ذلك يدل على انحياز الإله لأولئك الأشخاص دون غيرهم، فخصهم بإعطاء الحقيقة وتجليتها لهم من دون الآخرين، وكان الأولى بالإله ألا يقع في

مثل هذا الانحياز، ويعطي الناس كلهم العلم بالحقائق، ويلهمهم المعاني التي يريدها منهم، من غير أن يخص بعضهم بالنبوة.

وقد طرح هذا الاعتراض في الفكر الإسلامي منذ القرن الرابع الهجري، فإن الرازي الطبيب قال في اعتراضه على النبوات: «من أين أوجبتم أن الله اختص قومًا بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس وجعلهم أدلة عليه، وأحوج

الناس إليهم؟! ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار ذلك، ويشلي بعضهم على بعض ويؤكد بينهم العداوات؟!).

ثم ذكر أنه كان الأولى بالإله أن يلهم الناس جميعًا «معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وآجلهم، فلا يفضل بعضهم على بعض، ولا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض، فتصدق كل أمة إمامها، وتكذب غيره، ويضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف ويعم البلاء).

وهذا الاعتراض قائم على توهمات عقلية محضة، منطلقة من تخرصات العقل الإنساني القاصر، ذلكم العقل الذي يريد أن يحاكم أفعال الله وتدبيره للكون إلى قوانينه الضيقة، وبيان ما في هذا الاعتراض من انحراف واضطراب

يتبين بالأمور التالية:

  • الأمر الأول: أن التكليف بالعبادات قائم على الامتحان والاختبار، وهذا يستلزم بالضرورة أن يكون الإنسان حرًا في أفعاله واختياراته، فلولا وجود الاختيار وحرية القصد والإرادة عند الإنسان لما صح أن يكون محلا للتكليف، ولأضحى الإنسان كغيره من أجناس الحيوانات التي جبلت على الخضوع والاستسلام لله، ولكانت نهايته مساوية لنهايتها، ومصيره لا يختلف عن مصيرها.

وإذا كان التكليف قائمًا على الابتلاء والامتحان، فإن ذلك ينافي تمام المنافاة ما يفترضه المعترضون من أن الله يلهم الناس الأمور العبادية دون أن ينزل إليهم وحيًا؛ لكون الإلهام يجعل عبادة الإنسان خارجة عن اختياره، وهذا ينافي تميز الإنسان عن باقي أجناس الحيوان التي لا تملك حرية القصد والإرادة، فحقيقة ذلك الاعتراض تنتهي إلى الدعوة إلى المساواة بين الإنسان والحيوان وإنكار تميز الإنسان عنها.

  • الأمر الثاني: أن تخصيص صنف من الناس بشي، معين ليس خارجًا عن طبيعة النظام الكوني، فالنظام الكوني جميعه قائم على التخصيص والتفاضل، فكل مجال من مجالات الحياة لا بد فيه من أناس مختصين به، يفوقون غيرهم في العلم بتفاصيله، فكذلك الحال في التخصيص بالنبوة.

ثم إن ذلك التفاضل والتخصيص لا يترتب عليه شي، منافي للعدل، فإن الأشخاص الذين لم يعطوا النبوة لا يعذبون على ذلك، ولا يلامون لأجل كونهم ليسوا أنبياء، وإنما يحاسب الإنسان على أفعاله التي صدرت منه باختياره وقصده وإرادته.

فالله ‏- تعالى -‏ لم يجعل من موجبات العذاب كون الإنسان ليس نبيّا، وإنما جميع موجبات العذاب والعقاب راجعة إلى ما يصدر من الإنسان من أفعال، فالقول بأن إعطاء النبوة لأشخاص دون غيرهم يلزم منه الظلم والجور قول باطل، متضمن للخلط بين الأفعال الجبلية والأفعال الاختيارية، وقائم على تصور خاطئ لطبيعة الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان عند الله – تعالى -.

فإن قيل: هذا خروج عن محل الاعتراض؛ إذ محله أن من أوجي إليه من الأنبياء لا يتعرضون لفتنة الإيمان بالغيب ولا لفتنة محارات العقول، فقد أيدهم الله بالوحي، واختصهم به دون سائر المؤمنين، بينما من سواهم من الناس يتعرضون للفتنة وقد يدخلون النار بسببها؟

قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الأنبياء لا يرفع عنهم التكليف، ولا الامتحان والابتلاء، بل يتعرضون لأشد أنواعه، ولهذا كان النبي ﷺ يخشى أن يكون مقصرًا في تبليغ الدعوة، ويخاف أشد الخشوف الله ولا يدري ما يفعل به، بل جزم بأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، كما قال ﷺ: «سدّدوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لا يُدخِل أحدًا الجنةَ عملّه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يَتغمدني اللهُ بمغفرة ورحمة».

ثم على التسليم بأن الأنبياء لا يتعرضون لفتنة الابتلاء والامتحان في التكليف، فإن ذلك ليس مسوغًا في القدح في النبوة ولا في عدل الله؛ لأن المر، مطالب بفعل ما يملك، والله ‏ تعالى ‏ لم يحرم الإنسان من القدرة والاستطاعة على الفعل.

إن مثل المعترض بهذا الاعتراض مثل أخوين مات أحدهما صغيرًا قبل البلوغ، وبقى الآخر إلى البلوغ، فكفر بالله، فأدخله الله النار، وأدخل أخاه الصغير الجنة، فقال الكبير: يا رب، لم لمْ تمتني مثل أخي صغيرًا حتى لا أتعرض للفتنة؟! فإنه لا يحق للأخ الكبير أن يقول ذلك؛ لأن الله حين أبقاه إلى سن البلوغ لم يحرمه من سبل النجاة، وكان يمكنه أن يبلغ أعلى الدرجات في الجنة، ويكون أعلى من أخيه الصغير، ولكنه فرط وتساهل، فلم يظلمه الله – تعالى -.

  • الأمر الثالث: أن تفضل الله – تعالى ‏- على الناس لا يجب فيه التساوي ومعنى ذلك أن فضل الله وعطاءه الزائد على مرتبة العدل لا يشترط فيه التساوي بين الناس، فقد يعطى الله بعض الناس شيئًا من فضله وكرمه ولا يعطيه آخرين، ولا يعد ذلك منافيًا للعدل؛ لأن العدل معنى مختلف عن معنى المساواة، فهو الأفراد.

بل إن النظام الكوني كله قائم على التفاضل، فلو كان تفضل الله يجب فيه التساوي لما وجد فقير وغني، وقوي وضعيف، وملك ومملوك، وصحيح وسقيم، وعالم وجاهل، وجميل وقبيح، فكل هذه الأوصاف قائمة على أن تفضل الله لا يلزم فيه التساوي.

وإعطاء النبوة لا يخرج عن هذا القانون، فالنبوة بلا شك فضل واصطفاء من الله – تعالى -‏ لمن يشاء من عباده، كما في قوله ‏ تعالى -: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير}[الحج:75].

ولكن المعترضين على النبوة يغفلون عن هذا المعنى الكوني، ويتعامون عن ذلك القانون الوجودي، ويدعون أن إعطاء النبوة لأناس دون آخرين ينافي العدل، ويستلزم الظلم والجور، وهذا التصور قائم عل الخلط بين معنى العدل، ومعنى الفضل والكرم والجود، فتوهم أولئك أن العدل لا بد فيه من المساواة، وانتهوا إلى أن التفاضل يستلزم الظلم بالضرورة.

ولو كان منطلقهم صحيحًا، لصح أن يدعي مدع بأن وجود الأغنياء في الناس يستلزم الظلم للفقراء والتحيز ضدهم، ووجود الأقوياء يستلزم الظلم للضعفاء والتحيز ضدهم.

وكل هذه المعاني منافية لسنة من أعظم السنن الكونية، ومتنافية مع نظام وجودي من أعمق الأنظمة تأثيرًا في طبيعة أحداث الكون.

وبهذا ينكشف لنا بأن ذلك الاعتراض – على التسليم بصحته -‏ لا يؤدي إلى التشكيك في النبوة فقط وإنما يؤدي إلى التشكيك في نظام الكون كله ويستلزم أن يكون الإنسان معارضًا لسئن الكون، ومناقضًا لطبيعة الوجود.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن النبوة تعني أن هناك واسطة بين الله وبين الناس، وهذا أمر منافٍ للحكمة والاستقامة في التدبير، فإن الاستقامة ‏- كما يقولون – تقتضي أن يوصل الله ما يريده إلى الناس بنفسه من غير أن يجعل بينه وبينهم واسطة.

فلماذا لا يظهر الله للناس في أزمان متعددة، ويبلغهم ما يريد؟! ولماذا لا ينزل الله إلى الناس في فترات متعاقبة كتبًا يشرح فيها ما يريده من الناس؟!

فإن الملك من ملوك الدنيا إذا كانت لديه رسالة مهمة إلى شعبه، فإنه يوصلها بنفسه، ولا يرسل غيره بها، إلا إذا كان عاجرًا أو مشغولا، والله ليس كذلك.

وهذا الاعتراض قريب في معناه من الاعتراض السابق، وهو لا يختلف عنه في التلبس بالأغلاط التصورية والاستنتاجية، وبيان ما فيه من غلط واضطراب يتبين بالأمور التالية:

  • الأمر الأول: أن ذلك الاعتراض فيه غفلة عن طبيعة التكليف بالعبادات وكونها قائمة على الابتلاء والامتحان، فلو أن الله نزل بنفسه ‏- كما يقولون -‏ أو أنزل بنفسه كتابًا لزال معنى الابتلاء والامتحان، وأضحى الناس كالمجبولين على التعبد، فلا يقع بينهم التفاضل، ولا يتحقق منهم التميز في أفعالهم القائمة على حرية القصد والإرادة، وهذا يتنافى مع تكريم الله لجنس الإنسان بالتكليف، وإعلاء مكانته في الآخرة بالثواب الجزيل على الطاعة.
  • الأمر الثاني: أن إقناع الناس بالعبادات والالتزام بالأخلاق والقيم يتطلب جهدًا كبيرًا وتعليمًا مضنيّا، فلا بد للناس من معلم يشرح لهم ما يطلب منهم، ويبين لهم ما يشكل عليهم، ويجيب على ما يطرأ عليهم من أسئلة ونوازل، ولا بد من قدوة عملية تتمثل أحكام الدين وتحوله إلى واقع عملي يرونه بأعينهم، ويعيشونه بمشاعرهم، وهذه المعاني لا تتحقق إلا بوجود النبي بين الناس.
  • الأمر الثالث: أن نظام الكون كله قائم على الأسباب، فكل أحداث الكون كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها مرتبطة بالأسباب، ومتعلقة بها، وجعل الله لتلك الأسباب لا يعنى أنه عاجز عن تدبير الكون بنفسه، ولكن الحكمة البالغة تقتضي ذلك.

والنبوة لا تختلف عن أحداث الكون من جهة ارتباطها بالأسباب، فالله ‏- تعالى -‏ جعل النبي سببًا في إيصال ما يريده إلى الناس، كما أنه جعل حرارة الشمس سببًا في إحداث السحاب ونزول المطر، والجاذبية سببًا في حفظ نظام الأرض.

  • الأمر الرابع: أن هذا الاعتراض قائم في الحقيقة على مغالطة منطقية تسمى «معيارية الذات»، وهي في الحقيقة نابعة من تكبر واعتداد بالنفس وتضخيم لها أكثر مما يمكن أن تصل إليه، فإن المعترض حدد في ذهنه طريقة معينة لمنهجية إيصال الله ما يريده إلى الناس، ثم طفق يحاكم أفعال الله إليها، فلما وجدها غير منسجمة معها أخذ يحكم على أفعال الله وتدبيره للكون بأنها خارجة عن الحكمة والعقل.

والبحث في الحكمة الإلهية وأسرار أفعاله من أصعب الأمور وأعقدها على العقل الإنساني، فإنه عاجز قاصر لا يمكنه أبدًا أن يحيط بأسرار الكون الذي يعيش فيه، فكيف يمكنه أن يحيط بحكم الله في خلقه وأسرار تدبيره؟!!

ولكن المعترض يتعامى عن هذا المعنى، وتراه يحدد أولا معنى للحكمة في ذهنه بناء على ما لديه من تصورات وإدراكات، ثم يحاكم أفعال الله إليها.

  • الأمر الخامس: أن المعترض على النبوة ينطلق من النظر في أفعال الله وتدبيره للكون من منظور القياس على أفعال ملوك الدنيا، ومع ذلك فنحن لا نسلم بأن الملك إذا كانت لديه رسالة مهمة إلى شعبه لا يوصلها إلا بنفسه في كل الأحوال، فهذا تعميم متعسف لا يسنده دليل، ولا يقوم على استقراء تام، ولا تقتضيه الضرورة العقلية، فإنه يمكن أن يعطيها لأحد المقربين منه إذا كان يثق فيه، وفي قوة عقله، ورجاحة بصيرته، ولا يعمد الملك إلى تبليغ الرسالة بنفسه إلا إذا كان لا يثق فيمن حوله من الوزراء والحاشية، ولو قمنا باستقراء التاريخ الإنساني ربما نجد أمثلة عديدة تدل على ذلك.

والمقصود أن قول المعترض: إن كل رسالة مهمة عند الملك لا يوصلها إلا بنفسه، قول غير صحيح، وليس عليه دليل ألبتة.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن إيصال الله للوحي لا يكون في العادة بطريقة واضحة للناس، وإنما يكون بطريقة خفية سريعة، فالوحي عند علماء الإسلام هو الإخبار في سرعة وخفاء، فلماذا لا يجعل الله إيصال ما يريده إلى النبي بطريقة واضحة وظاهرة للناس، كأن يرسل جبريل في صورته الحقيقية، ويبلغ الرسول بصوت واضح ما يريده الله؟!

ونحن لا ننكر أن نزول الوحي على قلب النبي ﷺ ليس مشاهدًا في ذاته، وإنما الذي كان يشاهده الصحابة آثار ذلك النزول على جسده الشريف، ولكن ذلك ليس قادحًا في النبوة ألبتة؛ لأن هناك فرقًا بين طريق وصول الوحي إلى النبي، وبين دليلنا على صحة ذاك الوحي وصدقه.

فطريقة وصول الوحي إلى النبي غيب بالنسبة لنا، وهذا الغيب لا يختلف في طبيعته عن أنواع الغيوب الأخرى التي نؤمن بها، فإن المؤمنين وغيرهم من أتباع المذاهب المادية يؤمنون بغيوب كثيرة لا يعرفون حقيقتها، ولا طريقة حصولها في الواقع، وبعضها بعيد كل البعد عن الإدراك الحسي المباشر، وهي أبعد عن التصور من حادثة الوحي ذاته.

وأما برهان النبوة فهو يقوم على المعطيات الوجودية العقلية التي يمكن الاعتماد عليها في التحقق من صدق النبي كما سبق بيانه في أدلة نبوة النبي ﷺ فهي لم تكن خفية، بل كانت ظاهرة ومتنوعة بشكل كبير جدًا.

والمطلوب في الإيمان بالأمور الغيبية التصديق بصحتها، ولا يتوقف ذلك على العلم بحقيقتها، أو بطريق حصولها، ولكن الناقدين للنبوة وقعوا في خلط فظيع بين طريقة حصول النبوة للنبي، وبين برهانها الذي يوجب التصديق بها، فتوهموا أن الإيمان بالنبوة لا يمكن إلا مع العلم الحسي المباشر بطريقة حصولها، وهذا توهم منافٍ للمنهجية العلمية العقلية، فإن عدم العلم بطريق حصول الشي، لا يستلزم بالضرورة الحكم عليه بعدم الصحة، فهناك أمور وجودية كثيرة يؤمن العقلاء بصحتها، وتحققها؛ لثبوت الأدلة والبراهين الدالة على ذلك، مع أنهم لا يعلمون شيئًا عن طريقة حصولها في الواقع.

فالقول: بأن عدم علمنا الحسي بطريقة وصول الوحي إلى النبي يقدح في النبوة، قول باطل خارج عن النسق العلمي القائم على الاستدلال العقلي.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أنه إذا كانت النبوة أمرًا عظيمًا وخطيرّا، فإن العقل يقتضي أن تكون مشتركة بين عدد من الرجال، والحكمة تقتضي أن يكلف عدد من الرجال بإيصالها؛ لأنه أدعى إلى حفظها وقبولها عند الناس.

وهذا الاعتراض مبني على مقدمات باطلة لا تؤدي إلا إلى الضعف والبطلان، فإن المعترض به ينطلق من أن القوة في بيان الحقائق مبنية على كثرة العدد في الأشخاص، وهذه مقدمة باطلة لا برهان عليها، فالقوة في بيان الحق ترتكز بشكل أساس على قوة البرهان والدليل، فمتى ما كان البرهان على الحق قويّا، فإن دلالته هي المقدمة، حتى ولو كان ذلك مع قلة عدد الداعين إليه.

فلو تعارض قولان أحدهما يقول به رجال كثيرون بغير حجة، أو بحجة ضعيفة، والآخر يقول به رجل واحد، ومعه الحجة الأقوى، فإن القول الثاني هو المقدم حتمًا بلا تردد.

ومخاطبة الله لعباده فى النبوة قائمة على قوة البرهان ويقينية الحجة، وليست قائمة على كثرة العدد، ولذلك فإن تعدد الأشخاص الذين يحملون النبوة في آن واحد ليس لازمًا في قوانين العقل والحكمة.

فإن قيل: يشكل على ذلك قوله – تعالى -:{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُون * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُون}[يس:13-14].

قيل: إن ذلك ليس مشكلا، لأمور:

  • الأمر الأول: فلأننا لم نقل إنه يمتنع التعدد في إرسال الرسل، وإنما قلنا: إن ذلك ليس لازمّا، وعدم اللزوم لا يقتضي الحكم بالامتناع، فقد يقع التعدد لاعتبارات ظرفية تقتضيها أحوال خاصة، ولكن ذلك لا يعني أن النبوة لا تثبت إلا بالعدد من الرجال.

ومع أن هذا الأمر كاف في الجواب على ذلك الاشكال، إلا أننا سنزيد أمورًا أخرى زيادة في الإيضاح.

  • الأمر الثاني: أنه قيل في تفسير تلك الآية: أن أولئك الرسل كانوا رسل عيسى u إلى مدينة أنطاكية، وليسوا رسلا من عند الله، وهذا قول قتادة السدوسي وغيره.
  • الأمر الثالث: أنه ليس في الآية أنهم أرسلوا في وقت واحد، فقد يكون إرسالهم في أوقات متعاقبة، فالآية تدل على تعاقب الرسل، وليس على تشارك الرسل في آن واحد.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أنه إذا كانت النبوة مهمة بدرجة عالية، والناس في غاية الاحتياج إليها، بل لا صلاح لهم ولا سعادة ولا استقامة إلا بها، فلماذا توقفت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟! فهل يليق في الحكمة الإلهية أن يعطي الله الحقيقة العظمى لرجل في الصحراء قبل زمن طويل جدَّا، ثم يكلف الناس كلهم في كل الأماكن والأوقات إلى يوم القيامة باتباعه؟!!

وهذا الاعتراض غير صحيح، والكشف عما فيه من غلط يتحصل بالأمور التالية:

  • الأمر الأول: أن العبرة في التصديق بالنبوة والتسليم بها ليس في وقتها، ولا في مكانها، ولا في شخص النبي الذي يحملها، وإنما العبرة في ذلك كله بالبرهان الدال على صدقها، فمتى ما وجد البرهان الصادق اليقيني الدال على صدق النبوة؛ فإنه يجب الأخذ به من غير التفات إلى زمنه ومكانه وحال الشخص الذي يحمله.

فالبراهين العقلية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإنما تبقى دائمًا وأبدّا، فليس للبراهين العقلية وقت تشيخ فيه، وتنتهي به دلالتها، وليس لها مكان تتحقق فيه دلالتها ومكان آخر تفقدها فيه؛ وإنما هي مطردة مستقيمة في دلالتها في كل زمان ومكان.

ولكن المعترض غفل عن هذه الحقيقة الوجودية الاستدلالية، فبنى اعتراضه على أن الأدلة العقلية ليست متصفة بصفة الاطراد، وأنه يمكن أن يكون هناك دليل عقلي قطعي في ثبوته ودلالته في زمان ومكان، ولا يكون كذلك في زمان ومكان آخر.

وهذا التصور لا دليل عليه، بل هو منافٍ لما هو معروف من قوانين العقل الأولى، وما هو مشهود من القوانين الكونية.

فإن قيل: إذا كانت أدلة النبوة متصفة بالاطراد وتجاوز الزمن، فلماذا لم يكتفٍ بأول نبي فقط؟ ولمّ تكرر إرسال الرسل إذن، أليست أدلة أول نبي كافية في إقامة الحجة؟!

قيل: هذا الاعتراض غير صحيح؛ لأن انحرافات الناس ليست على نوع واحد، وما يحتاجون من التشريعات التفصيلية ليست متفقة على نسق، ولهذا تنوعت الشرائع والعبادات بين الرسل، فلم يكن ما جاءوا به من العبادات العملية متحدا.

ثم إن طبائع الناس مختلفة، يحتاجون من يعايشهم، ويؤثر فيهم بتعاملاته وأخلاقه، فلا يكفي أن يُقتصر على نبي واحد فقط.

وأما توقف النبوة بعد نبوة النبي ﷺ فله ميزة ليست موجودة في النبوات السابقة، وهو ما سيذكر في الأمور التالية.

  • الأمر الثاني: أن أدلة نبوة النبي ﷺ لم تكن ذات طبيعة زمنية خاصة، بحيث إن دلالتها تنتهي أو تضعف بعد زمن حصولها، وإنما كانت ذات طبيعة شمولية عابرة للأزمان والأماكن، وباقية ما بقي البشر، فإن برهان صدق النبي الأعظم وآيته الكبرى القرآن الكريم، وهو عبارة عن كلام معجز خارج عن مقدور الإنس والجن، وكل الناس يتكلمون، وسيبقون كذلك إلى قيام الساعة.

وقد أشار النبي ﷺ إلى هذه القضية المنهجية في الدلالة على نبوته، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة». فأدلة نبوة النبي ﷺ باقية، وبقاؤها يستلزم بقاء نبوته بالضرورة.

  • الأمر الثالث: فضلًا عن أن طبيعة أدلة نبوة النبي ﷺ باقية عابرة للأزمان والأماكن، فإن الله – تعالى -‏ حفظ وحيه الذي أنزله على نبيه بأنواع متعددة من الحفظ: فقد حفظ القرآن الكريم من الضياع، والتحريف، والتبديل، والتغيير، والزيادة، والنقص، بل أضحى لفظه منقولا إلى الأمة بالتواتر اللفظي القطعي الذي لا يقبل التشكيك ولا الارتياب؟

وحفظ سيرة النبي ﷺ فنقلت إلينا أخلاقه، وأفعاله، وتصرفاته، ونعوته، ومجمل سيرته، حتى كأنه يعيش بيننا، ونراه يسير في طرقاتنا، وحفظ شرائع دين الإسلام، وقيض لحفظ نصوصه وبحث مسائله علما، أفذاذا، فقاموا بجمعها، وتنسيقها، وترتيبها، ورصد أدلتها وبراهينها.

فهذه الأنواع من الحفظ وغيرها جعلت آثار نبوة النبي ﷺ ومعالمها وبراهينها باقية إلى وقتنا هذا، وستبقى إلى أوقات متطاولة، فكأن النبي ﷺ بأخلاقه، وسيرته، ودعوته، وبراهين صدقه يعيش معنا.

فالقول: بأن ختم النبوة قبل أربعة عشر قرنًا يقدح في ثبوتها وكمالها، قول خارج عن مناهج الاستدلال الصحيحة؛ ومنحرف عن مسالك التفكير المستقيم.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أنه إذا كانت النبوة أمرًا ضروريًا لحياة الناس لا يمكنهم الاستغناء عنه، وأنه لا صلاح للناس، ولا فلاح إلا بوجودها، وأن وجودها هو مقتضى رحمة الله وكرمه؛ فإن ذلك يلزم منه أن تكون النبوة عامة لكل الناس، وشاملة لكل الأمم، ولكن حال النبوة ليس كذلك»، فهي متركزة بشكل أساسي في منطقة حوض البحر المتوسط، ولم نسمع بالنبوة في بلاد الصين والهند وغيرها من البلدان الخارجة عن تلك البقعة، فالمؤرخون الصينيون وغيرهم كتبوا عن كل ما يتعلق ببلدانهم، ولم يذكر أحد منهم خبرًا عن وجود الأنبياء فيهم.

وهذا يدل على خطإ ما جاء في القرآن من أن كل أمة جاءها نذير، وأن كل أمة بعث الله إليها رسولا، فالتاريخ القديم يثبت خطأ هذا التعميم الوارد في القرآن.

وانحصار النبوة في منطقة حوض المتوسط يدل على أن النبوة من صنع الإنسان، وأنها من اختراع البشر في الزمن القديم، ثم انتشرت فيما بينهم في بقعة ضيقة عن طريق التقليد والمحاكاة.

وهذا الاعتراض غير صحيح، وهو مبني على مقدمات خاطئة لا يسندها دليل، وبيان ما فيه من غلط يتبين بالأمرين التاليين:

  • الأمر الأول: أن هذا الاعتراض مبني على الخلط بين العلم بالعدم وبين عدم العلم، فحين وجد بعض الناقدين أن التاريخ القديم لا يتضمن معلومات عن النبوة والأنبياء في بعض البلدان، جعل ذلك دليلًا على عدم وجود النبوة من حيث الأصل، وهذا مسلك استدلالي خاطئ؛ متناف مع طريق الاستدلال الصحيح، فإن غاية ما يدل عليه ذلك الدليل هو عدم العلم بوجود النبوة، ولكن عدم العلم ليس دليلًا على العدم، فمن لم يكن يعلم بوجود الأنبياء في الأمم القديمة، فهذا ليس علمًا منه بعدم وجودهم.

ومما يزيد من وضوح هذا المعنى وقوته أن التاريخ القديم للأمم لم يحفظ كله، ووسائل التوثيق المتعلقة به ضعيفة جدَّا، فجميع تاريخ الأمم السابقة يتصف بالفقر الشديد في المعلومات التاريخية المتعلقة به.

ثم إن المؤرخين إنما يتركز نظرهم على الأحداث العظيمة، والشخصيات الشهيرة التي كان لها تأثير ظاهر في الشعوب، كالملوك والأمراء والعظماء، والأنبياء قد لا يكونون كذلك، فقد لا يتبع النبي إلا رجل أو رجلان، وقد لا يتبعه أحد، وقد يكونون مضطهدين من الملوك وغيرهم؛ فلا يكون لهم شأن كبير مؤثر في مجتمعاتهم.

  • الأمر الثاني: أنا لا نسلم بأن النبوة لم يكن لها وجود عند الأمم السابقة، فنحن المسلمين لدينا مصدر موثوق لا شك فيه، وهو خبر الله – تعالى – فى القرآن، وخبر نبيه ﷺ في السَّنَةَ، فقد قامت الأدلة والبراهين الكثيرة على صدق ذلك الخبر، وقد أخبرنا الله أنه ما من أمة إلا وقد جاءها نذير كما في قوله ‏ تعالى -:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِير}[فاطر:24]، وقوله – تعالى -:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}[ النحل: 36].

وإذا اعتبرنا قوانين الاستدلال الصحيحة، فإنه لا يصح ألبتة ترك الخبر الصحيح، أو التشكيك فيه لمجرد عدم ذكر المؤرخين القدماء للنبوة في أقوامهم، فالمسلم لديه علم يقيني بصحة الخبر الذي جاء في النصوص الشرعية، وعنده أدلة عقلية يقينية متضافرة على صدقه، وليس لديه في المقابل إلا أبحاث قائمة على معلومات ناقصة لم تصل إلى إثبات عدم وجود النبوة، وإنما غاية ما وصلت إليه عدم العلم بالوجود، فتعارض عنده علم إثباتي يقيني، وعلم لم يثبت إلا الجهل بالوقوع، فالعقل يوجب عليه تقديم العلم الإثباتي بلا تردد ولا تشكك.

ثم إن الباحث إذا قام بالتنقيب في تاريخ الأمم القديمة فإنه لا يعدم أن يجد إشارات تدل دلالة لا بأس بها على وجود أصل النبوة وفكرتها الأساسية، وهي الاتصال بين السماء والأرض، أو مخاطبة الله لمن في الأرض.

فمع أن عددًا من الدارسين ذهب إلى أن كونفوشيوس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد الصين لم يكن نبيّا، إلا أنهم ذكروا إشارات من كلامه تدل على وجود خبر النبوة في زمانه، فقد ذكر بعض الدارسين أن استقرا، كتبه يدل على أنه كان يحس بأن السماء قد استودعته رسالة إبرا، العالم الصيني من أوجاعه، وأن من في السماء، لن يخذله، وأنه يأمل بمن في السماء، أن يعينه ويساعده.

والمقصود بالسماء لدى كونفوشيوس قوة كونية معنوية مبهمة، ولاحظ بعض الدارسين أن الفكر الصيني كانت تشيع فيه فطرة أن الملك ابن السماء، وأن حكم الإقطاعيين مستمد من السماء.

وهذه الإشارات ليست صريحة في إثبات النبوة كما عند أتباع الأديان المنزلة الكبرى، ولكنها تتضمن إشارات لا بأس بها في الدلالة على وجودها، أو وجود خبرها عندهم.

وكذلك نجد في الفكر اليوناني إشارات متعددة يمكن أن تكون دالة على وجود معنى النبوة وخبرها عندهم، فقد كان رواد الفكر الإغريقي قبل الميلاد يعتقدون أن الكهنة في المعابد وزرا، الإله الذي يخدمونه، وأنه يحميهم ويعينهم.

ونقل عدد من الباحثين عن سقراط أنه كان يدعى النبوة، وأن الإله قد أرسله لهداية أبنا، مدينته وإنقاذهم، والكشف لهم عن الفضيلة الكامنة في نفوسهم، وتوصل بعض الدارسين إلى أن اليونان كانوا يقرون بفكرة الوحي والإلهام اللذين تفيض بهما الآلهة على بعض المصطفين من البشر، وبعد أن درس بعض الباحثين الإلياذة توصل إلى أنها تدل على : «أن هناك أناسًا تصطفيهم بعض الآلهة وتحادثهم وترعاهم مما يحدث».

فهذه الأخبار المنقولة عن الفكر الإغريقي ليست صريحة في الدلالة على وجود النبوة بالمعنى المعروف عند أهل الأديان المنزلة، ولكنها تتضمن إشارات لا بأس بها في الدلالة على وجود فكرة النبوة عندهم أو خبرها،

وأما بلاد الهند، فإن النبوة فيهم أظهر من بلاد الصين والإغريق، فكتب الهندوس المقدسة تنص على بعثة أربعة وعشرين نبيّا، ظهر منهم الجميع إلا الرابع والعشرين، وهم ينتظرون ظهوره، وقد سموا أولئك الأنبياء وحددوا وظيفة كل نبي.

وهذه الإشارات لا تقل أهمية في دلالتها على إثبات النبوة، وانتشار خبرها عن دلالة عدم ذكر المؤرخين للنبوة بالمعنى المعروف عن أهل الأديان، فلماذا يعتمد على تلك الدلالات ولا يعتبر ما هو مثلها؟!!

إننا إذا تأملنا ما يعتمد عليه المعترضون لا نجده علمًا حقيقيًا مبنيًا على معلومات متوافرة، وإنما غاية ما لديهم معلومات ناقصة تفيد عدم العلم بوجود النبوة، وهذا القدر ليس بأعلى من تلك الإشارات الدالة على وجود خبر النبوة عند تلك الأمم.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على الادعاء بأن مصدر النبوة راجع إلى الإنسان ذاته، وإنكار أن تكون نازلة من عند الله تعالى ‏ فالنبوة في زعمهم ليست إعلامًا من الله – تعالى – لمن يختاره ويصطفيه من خلقه، وإنما هي معانٍ وأفكار ناشئة من داخل النبي ذاته، ونابعة من كيانه الخاص، وتجربته النفسية الخاصة.

فالنبوة ليست حقيقة خارجية ينزلها الله إلى الأرض على أحد من رسله، وإنما هي حقيقة أرضية نابعة من الأرض، وخاضعة للمتغيرات الأرضية.

وقد تبنى هذه الرؤية أطياف مختلفة، ويكاد يجمع الناقدون للأديان من أتباع التيار الإلحادي، والتيار الربوبي على تفسير ظاهرة الوحي بها.

فقد أرجع اسبينوزا النبوة إلى الخيال الإنساني، وصرح بأنها معتمدة اعتمادًا كليًا عليه، بل هو العامل الأكثر تأثيرًا فيها، ويقرر بأن النبي لا يتلقى شيئًا محدد المعنى والمعالم من الله، ويفسر الوحي بأنه عبارة عما يفيض به خيال النبي، وهو عنده يختلف باختلاف مزاج كل نبي وخياله وآرائه التي اعتنقها من قبل.

وفسر عدد من علماء مدرسة تحليل اللاشعور النفسية النبوة والوحي: بأنهما عبارة عن حالة نفسية مرضية تمر بالنبي، ‎فينتج عنها المضامين التي يدعي فيها أنها وحي منزل عليه من الله.

وفسر الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام النبوة بتفسيرات مقاربة للتفسيرات السابقة، فجعلوا النبوة راجعة إلى تميز النبي في عدد من القوى: القوة القدسية، والقوة النفسية، والقوة التخيلية، فما يأتي به النبي من الوحي هو في الحقيقة صادر عن تلك القوى، وعلى ذلك فإن النبوة ليست اصطفاء من الله، وإنما يمكن أن تكون مكتسبة، والقرآن عندهم ليس كلامًا نازلا من الله، وإنما هو معان تفيض من داخل كيان النبي.

ومع إقرار عدد من الباحثين النصارى من المستشرقين وغيرهم بجنس النبوة والوحي إلا أنهم تتابعوا على تفسير نبوة النبي ﷺ بأنها مجرد أوهام نفسية، وأمراض عصبية كان النبي ﷺ مصابًا بها، فقد زعم المفكر الفرنسي جوستاف لوبون أن التصرفات التي تعتري الرسول أثناء نزول الوحي عليه ما هي إلا أعراض لإصابته بالصرع الذي كان ينتابه في تلك اللحظات، ويقول: «لم يكن ذوو المزاج البارد من المفكرين هم الذين ينشئون الديانات، ويقودون الناس، وإنما أولو الهوس هم الذين مثلوا هذا الدور، وهم الذين أقاموا الأديان».

وادعى بعضهم أن النبي ﷺ كان يتصف بخيال خلاق استطاع من خلاله أن يأتي بالقرآن، وبالشرائع الإسلامية، ويقنع الناس بها.

وقد تلقف الحداثيون العرب هذه الفكرة، فطفقوا يفسرون النبوة والوحي بأنهما مجرد نتاج إنساني نابع من داخل كيان النبي، وسعوا إلى إنكار أن تكون النبوة حقيقة نازلة من الله إلى الرسول، فمنهم من يجعل الوحي عبارة عن حالة يعيشها النبي تفيض عليه من خلالها المعاني الدفينة التي كان يعيشها في حياته، فالوحي عند عبد المجيد الشرفي «حالة استثنائية يغيب فيها الوعي، وتتعطل الملكات ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللاوعي بقوة خارقة لا يقدر النبي على دفعها، ولا تتحكم فيها إرادته!».

وأما محمد أركون فإنه لا يفتأ يكرر بأن هناك مفهومًا تبسيطيًا للوحي، شائعًا ومنتشرًا في السياقات الإسلامية، ثم يظهر الحسرة والتألم على شيوع هذا المفهوم التقليدي، ويذكر أنه يهدف من خلال دراساته إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه، أقصد: زحزحة وتجاوز التصور الساذج التقليدي الذي قذفته الأنظمة اللاهوتية».

ويؤكد على أن من أهدافه المحورية إضفاء الأشكلة على مفهوم الوحي؛ أي: جعل الوحي إشكالية معرفية بعد أن كان يبدو بدهيًّا في السياقات الإسلامية، ويؤكد على أن هذه الأشكلة هي الخطوة الأولى إلى تأسيس معنى جديد للوحي.

ويتألم على أن الفكر الغربي توصل إلى مفهوم تاريخي للوحي أزاح به المفهوم التقليدي السطحي للوحي، وحوله إلى تربة إنسانية متأثرة بالظروف الاجتماعية المحيطة بالنبي، بينما الفكر العربي لم يتوصل إلى تلك النتيجة حتى الآن، ويذكر عن نفسه بأنه يسعى إلى أن يفسر الوحي بأنه «حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان».

والوحي عند أركون لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية «تظهر فيها لغة جديدة لكي تعدل جذريًا من نظرة الإنسان عن وضعه، وعن كينونته في العالم، وعن علاقته بالتاريخ، وعن فعاليته في إنتاج المعنى».

وإذا كان الأمر كذلك، فلا فرق إذن بين الإسلام وغيره من الأديان الوضعية، وفي التصريح بذلك يقول أركون: «تحديدنا الخاص عن الوحي يمتاز بخصيصة، وهو أنه يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة، وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما، من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد».

وأما نصر حامد أبو زيد فإنه يذهب إلى أن للخيال الإنساني أثرًا بارزًا في النبوة والوحي، ويقول: (إن تفسير النبوة اعتمادًا على مفهوم الخيال معناه : أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية المخيلة الإنسانية التي تكون في الأنبياء – بحكم الاصطفاء والفطرة ‏- أقوى منها عند من سواهم من البشر، فإذا كانت فاعلية الخيال عند البشر العاديين لا تتبدى إلا في حالة النوم، وسكون الحواس عن الاشتغال بنقل الانطباعات من العالم الخارجي إلى الداخلي، فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على السواء، وليس معنى ذلك – بأي معنى من المعاني ‏- التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يليه الصوفي، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب).

وإثباته لذلك الأثر الخيالي يعد أحد المسوغات التي زعم من خلالها بأن القرآن يجب أن يكون منتجًا ثقافيا، وليس نضًا متعاليًا على الواقع، وسالمًا من الامتزاج بتغيراتها الاجتماعية والثقافية.

والقدر الجامع بين كل التفسيرات السابقة إنكار المصدر الإلهي للوحي، والادعاء بأن النبوة عند كل الأنبياء أو بعضهم ما هي إلا منتج إنساني أرضي لا علاقة له بالله ‏- تعالى -.

وهذا التصور للنبوة والوحي منافٍ للحقيقة القطعية، ومتناقض مع البراهين الظاهرة البيّنة، ومتضمن لانحرافات استدلالية ومنهجية عميقة.

فالنبوة في التصور الديني/ الإسلامي تقوم حقيقتها على أنها إعلام وإخبار من الله – تعالى ‏- لأحد من خلقه عبر واسطة الملك بمعاني التشريع والدين الذي يريد الله من عباده في الأرض العمل به، والأخذ بقوانينه.

    وهذا يدل على أن ظاهرة الوحي مكونة من أربعة أمور أساسية: المرسل، وهو الله – تعالى -، والواسطة في إيصال الرسالة، وهو في الأصل جبريل، ومستقبل الرسالة، وهو النبي في الأرض، ومضمون الرسالة، وهو الدين المنزل بشرائعه وأحكامه المختلفة.

فمصدر الوحي في التصور الإسلامي ومنبعه الوحيد ومنطلقه وابتداؤه من الله – تعالى – لا من أحد سواه.

وهذا المعنى صريح جدًا في القرآن الكريم، وهو من أقوى المعاني ظهورًا في آياته، ومن أصرح النصوص القرآنية المؤكدة لهذا المعنى قوله ‏ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيم}[الشورى:51].

فهذه الآية صريحة غاية الصراحة في الدلالة على أن الله هو مصدر الوحي، وأنه هو الذي يحدد طريقته وطبيعته، وأن الأنبياء من البشر ليسوا إلا متلقين للوحي فقط.

وإذا كانت حقيقة الأمر كذلك، فإن الوحي في التصور الإسلامي واقعة مستقلة عن داخل النبي، وعن مشاعره وعواطفه، والنبي ليس هو المنتج للوحي، وليس له أي أثر في إحداثه وتحديد طبيعته، وإنما هو مستقبل له من عند الله – تعالى -‏ فقط، وتنحصر وظيفته في حفظ الوحي وفي تبليغه إلى الناس كما أمره الله على أكمل وجه وأتمّه.

وهذا يعنى بالضرورة أن النبوة ليست صفة مكتسبة يمكن للنبي أن يكتسبها باجتهاده أو ذكائه أو ببلاغته، وإنما هي اختيار واصطفاء من الله – تعالى – لواحد من خلقه.

وهذه الحقائق المتعلقة بالوحي لم تكن خافية على علماء الإسلام المتقدمين، فقد تحدثوا عن حقيقة الوحي، وتناولوها بالبحث والنقاش من جهات عديدة، وأقاموا البراهين العقلية والوجودية على أن الوحي ليس ناشئًا من داخل النبي، وليس نابعًا من كيانه الخاص به، وليس تابعًا لرغباته وميوله، وإنما هو حقيقة نازلة إليه من الله – تعالى -.

ومن أهم الأدلة الدالة على ذلك:

  • الدليل الأول: أن القرآن تضمن معارف وعلومًا يستحيل أن يتحصل عليها أي شخص بقوة عقله، أو حدة ذكائه، ويستحيل أن يتكوّن نتيجة حالة نفسية يعيشها النبي، فقد اشتمل القرآن على أخبار تفصيلية عن الأمم، والجماعات، والأنبياء، والأحداث التاريخية السابقة على زمانه بمدة زمنية بعيدة في أغوار التاريخ، ولم يعاصر النبي ﷺ تلك الأحداث، ولم يتعلمها في حياته.

ومن تلك المعارف: بعض الأرقام الحسابية، وبعض الأعداد الدقيقة، كما جاء في قصة نوح:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُون}[العنكبوت:14]، وجاء في قصة أصحاب الكهف:{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}[الكهف:25]، وكذلك تضمن القرآن أسماء تفصيلية للرجال، والأمم، والقرى والقبائل.

وكل هذه الأمور لا يمكن الوصول إليها عن طريق قوة الذكاء، ولا سعة المخيلة، ولا عن طريق التجربة الحياتية اليومية.

وقد أحسن محمد عبد الله دراز في تعليقه على الموقف الذي يفسر الوحي بالمصدر النفسي، حيث يقول: «وهذا الرأي هو الذي يروجه الملحدون اليوم باسم «الوحي النفسي»، زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءوا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا تفصيله، فقد صوروا النبي ﷺ رجلا ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذا شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يخيّل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذا مجنون، أو أضغاث أحلام، على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة الوحي النفسي حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية!).

  • الدليل الثاني: من الأمور الظاهرة في القرآن اختفاء شخصية النبي ﷺ فيه، ففي أكثر الأوقات لا يذكر شيئًا عن نفسه، ويتجرد تمامًا من الإشارة إليها، وعندما يورد شيئًا عن ذاته، فإنما يذكره لكي يحكم على نفسه، أو يضبط سلوكه؛ أو يسيطر عليه، وفيما يتعلق بأفراحه وأحزانه، فإننا نعلم كم كان حزنه لوفاة أبنائه، وأصدقائه، وأصحابه، حتى أَطَلِق عام الحزن على السنة التي مات فيها عمه وزوجته، وفقد بفقدهما العون المعنوي الذي كان يسانده، ومع ذلك كله لا نجد في القرآن أي صدى لهذه الأحداث الأليمة،، وهي من أشد ما يؤثر في النفوس البشرية.

فلو كان القرآن/ الوحي يتأثر بحالة النبي ﷺ النفسية أو العقلية، أو كان لحدة ذكائه، أو لطبيعة حياته اليومية، أو لقوة مخيلته أثر فيما جاء به من الوحي؛ لظهر ذلك جليًا في القرآن،، وخاصة في مثل تلك الأحوال الاستثنائية، فعدم وجود مثل تلك الآثار دليل على أن مشاعر النبي يَلِِ ودواخله ليست مصدرًا للوحي، وليس لها أثر فيه، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من الله في السماء.

  • الدليل الثالث: أن نبوة النبي ﷺ ليست منحصرة في القرآن فقط، وإنما هي حالة مركبة من تشريعات، ومعجزات كونية وحسية، وأحوال أخلاقية ونفسية مختلفة، واجتماع كل هذه الأمور يستحيل أن يكون حاصلًا بسبب قوة المخيلة، أو حدة الذكاء، أو عن طريق التجربة الإنسانية.

فمن المعلوم أن النبي يق في أثناء نبوته جاء بمعجزات كونية كثيرة، كانشقاق القمر، وخروج الما، من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وشفاء بعض الأمراض، وغيرها من الأحوال الخارجة عن المعهود البشري.

والإتيان بمثل هذه الأمور يستحيل أن يكون ناتجًا عن التجربة الحياتية، أو عن قوة المخيلة، أو حدة الذكاء، وفى الكشف عن هذا المعنى يقول ابن تيمية في معرض نقده لموقف الفلاسفة الذين أرجعوا النبوة إلى قوى النفس: «إثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار ‏ المعجزات الحسية ‏ ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها، والفلاسفة يسلمون ذلك).

  • الدليل الرابع: أن الدارس لنبوة النبي يل يجد أنها أحيطت بأمور وأحداث قبل النبوة وأثناءها تدل دلالة ظاهرة على أن الوحي الذي نزل إليه لم يكن مصدره نفس النبي كَليْةِ ولا مشاعره، ولا عقله، ولا تجربته، وإنما هو حقيقة مستقلة عن ذاته، نازلة إليه من الله في السماء.

فقبل مولده ﷺ حدثت واقعة الفيل، التي حمى الله بها الكعبة، وأظهر بها شرف بيته المعظم، وحديث أهل الكتاب المكثف عن خروج نبي في ذلك الزمان، «وكذلك ما حصل من الحوادث حين مولده ﷺ وكذلك إخبار الكهان بأموره، وما صارت الجن تخبرهم به من نبوته، أمور خارجة عن قدرته، وعلمه، وإرادته، وكذلك ما أخبر به أهل الكتاب، وما وجد مكتوبًا عند أهل الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته ورسالته، وأمر الناس باتباعه، أمور خارجة عن قدرته، وعلمه، وإرادته).

فهذه الحوادث تدل على أن النبوة التي نزلت على النبي ﷺ لم تكن راجعة إلى تجربته الحياتية، ولا إلى قوة مخيلته، وإنما هي اصطفاء، واختيار إلهي، وإعداد وترتيب رباني، ولهذا تهيأت لها كل الظروف والأحوال المناسبة.

  • الدليل الخامس: أن الوحي الذي كان ينزل على النبي ﷺ لم يكن خاضعًا لإرادته، ولا لاختياره، ولا لرغبته، فلم يكن توقيت نزول الوحي، أو تحديد مكانه وحالته خاضعًا لإرادة النبي ﷺ ولم يكن ملبيًا لمطالبه وحاجاته في وقت الاحتياج، فقد ابتلى في عرض زوجته، وهو من أعظم البلاء الذي يمكن أن يصاب به الإنسان، وكذلك سئل أسئلة فلم يعرف جوابها، وكذلك مرت به وقائع لم يعرف فيها الحكم، ومع ذلك لم ينزل عليه الوحي إلا متأخرّا، فلو كان الوحي خاضعًا لقوة مخيلة النبي، أو لتجربته الشخصية، أو لحدة ذكائه، أو لرغبته؛ لبادر النبي ﷺ إلى الدفاع عن زوجته مباشرة، أو لأجاب على تلك الأسئلة مباشرة دفعًا للحرج عن نفسه.

وفي بعض الأحوال يأتي الوحي في لحظات تدل حاله على أنه لم يكن مستعدًا له ولا منتظرًا له، ولا طالبًا له.

وكل هذه الشواهد تدل على أن النبي ﷺ ليس له تأثير في الوحى، لا من جهة مشاعره ولا عواطفه، وإنما هو متلق له، ومبلغ له عن الله فقط.

  • الدليل السادس: أنه لو كان الذي جاء به النبي ﷺ نتيجة مرض نفسي أو عصبي، أو كان نابعًا من عواطفه الخاصة به فلماذا أقر أعداؤه له في آخر الأمر؟! ولماذا اتبعوه وهم يعلمون بحاله وبكل تفاصيل حياته؟!! ْ

ولا يصح أن يقال: إن اتباعهم له كان خوفًا من السيف والقتل، فإن كثيرًا منهم أسلم قبل انتصار النبي مَك على أهل مكة، وكان كثير منهم يمكنه الهرب إلى بلدان أخرى، أو يمكنه الرجوع عن الإسلام بعد موت النبي ﷺ ولكن أهل مكة والطائف، وهم أعلم الناس بحال النبي ﷺلم يقع ذلك منهم، ومن ارتد من العرب لم يرتد لأنه يتهم النبي فيما جاء به ويكذبه، وإنما ارتدوا عصبية وقبلية كما هو معلوم، فهذه البراهين وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن النبوة التي جاء بها النبي ملل والوحى الذي نزل عليه لا يمكن أن يكون نابعًا من داخله، أو ناشئًا من تجربته الخاصة، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من عند الله – تعالى -.

وبهذه البراهين تبطل الدعوى التي تضمنها ذلك الاعتراض، وينكشف ما فيه من خلل، واضطراب، وفساد معرفي واستدلالي.