تعزيز اليقين وهداية الحيران

الاعتراض على دلالة القرآن وإعجازه على صدق النبوة

يثير الناقدون للأديان في عصرنا الحاضر اعتراضات كثيرة تتعلق بدلالة القرآن على صدق النبوة، وأكثر ما أثاروه ليس جديدّا، وإنما هو مأخوذ مما أثاره النصارى وغيرهم من أهل الأديان على القرآن، ومما أثاره المنكرون لجنس النبوات في التاريخ الإسلامي، وكثير مما أثاروا متعلق بالأمور التفصيلية الخارجة عن أصل الإعجاز، كالقول: بأن القرآن فيه أخطا، لغوية ونحوية وتاريخية والقول: بأن فيه تناقضًا وتضاربًا، ونحو ذلك من الاعتراضات.

ومع أهمية الجواب على هذا النوع من الاعتراضات، إلا أننا سنقتصر في هذا البحث على مناقشة الاعتراضات التي تتعلق بأدلة دلالة القرآن الاعجازية من غير دخول في الاعتراضات التفصيلية: وذلك طلا للاختصار، ولأن العلماء والباحثين في القديم والحديث توسعوا كثيرًا في نقض تلك الاعتراضات، وبينوا ما فيها من خلل وفساد.

    تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن دلالة القرآن على النبوة قائمة على الإعجاز البلاغي والفني والتحدي بذلك»، ولكن هذا الإعجاز لا يستند إلى معيار موضوعي حقيقي يمكن التحقق منه، فإن الكلام البلاغي ليس قضية موضوعية وجودية، وليس له معيار كمي يمكن الاعتماد عليه وإنما هو ذوق ذاتي، وإحساس نفسي، يختلف باختلاف الأشخاص وأحوالهم.

    فإدراك جماليات النص الكلامي، وتفوقه في البلاغة والبيان راجع بشكل كبير إلى ما يجده المرء في نفسه من الاستمتاع بذلك النص والارتياح إليه، فهو مجرد أمور انطباعية، لا يقوم على معيار موضوعي حقيقي بحيث يميز فيه بين أنواع الكلام.

وهذا الاعتراض قائم على مجازفة معرفية ظاهرة، وعلى أحكام تعسفية، فإن المعترض حكم بغير دليل ولا برهان على علم كامل، وهو علم البلاغة والبيان بأنه مجرد انطباعات ذوقية لا يقوم على أسس علمية موضوعية، ومثل هذه الأحكام التعميمية الشاملة تتطلب علمًا واسعًا جدًا بمفردات العلوم وطبائعها، والغريب أن أكثر من يطلق هذه الأحكام لا يعرف من علم البلاغة شيئّا، وإن عرف فلا يعرف إلا القليل.

والدارس لعلم البلاغة، والقارئ للضوابط والقوانين التي يذكرها العلماء فيه بناء على استقرائهم لطبيعة الكلام وأقسامه ‏ والمتأمل في تطبيقاتهم العملية يدرك بوضوح أنه علم موضوعي، يقوم على أسس علمية موضوعية يمكن من خلالها التمييز بين الكلام البليغ وغيره، وبين التراكيب العالية في البيان، وبين التراكيب الهزيلة، وإدراك تميزات أنواع الكلام بعضها عن بعض.

فإن علما، البلاغة يذكرون أن تمييز بلاغة الكلام وبيانه وفصاحته تتأثر بالتقديم والتأخير، والتفصيل والاختصار، والفصل والوصل، والحذف والإضافة، والتعريف والتنكير، والتذكير والتأنيث، والجمع والإفراد، وأنواع الاستعارات والمجازات وغيرها، وذكروا المقاييس الحاكمة لهذه الأساليب، والوازنة لاستعمالاتها، ولكل هذه الأمور شواهد موضوعية يمكن التحقق من، وجودها في الكلام وقياسها.

ولو كانت بلاغة الكلام وفصاحته مبنية على مجرد أمور انطباعية لما أمكن للناس أن يتحاوروا في جماليات النصوص، ويتنافسوا في بلاغتها وفصاحتها؛ لأن الأمور الانطباعية أمور ذاتية محضة، والأمور الذاتية لا تقبل الصواب والخطأ، ولا تقبل التفاضل، ولكن العقلاء جميعهم يسلمون بأن الكلام متفاضل في بلاغته وفصاحته، ومتمايز في بيانه وجزالته، وحال العرب في الجاهلية أكبر دليل على ذلك، فإن سوق البلاغة كانت قائمة، وميادين التنافس في البيانو الفصاحة عامرة في  حياتهم، وكانوا يحاكمون بين النصوص، ويفضلون بعضها على بعض، ولو كانت بلاغة الكلام وفصاحته مجرد أمور انطباعية ذاتية لما أمكن قيام تلك الأمور.

لا جرم أنْ جعلَ فصاحة الكلام وبلاغته أمورًا انطباعية لا يختلف عن جعل القيم الجمالية في الكون أمورًا انطباعية ذاتية، كما يذهب إلى ذلك أتباع الفلسفة الوضعية وغيرهم، وفي هذا كله قضاء على هذه العلوم، وإدخال لحياة الناس في العبثية والفوضى، وغلق لكل أبواب الإصلاح والتطوير والتقدم في هذه المجالات المهمة في حياة الإنسان.

ونحن لا ننكر أن البحث البلاغي، والنظر في بيان الكلام وفصاحته قد يتأثر بالأذواق والانطباعات، ولكننا ننكر أن يكون العلم كله كذلك، وننفي أن تكون الأحكام المتعلقة بفصاحة الكلام وبلاغته جميعها قائمة على الذوق، كما يدعي ذلك المعترض.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن عدم المجيء بالمماثل لا يدل على أن الكلام خارج عن القوانين الحاكمة لكلام الناس، ولا يدل على أنه نازل من عند الله؛ لأن هذا الضابط ‏- عدم المجيء بالمماثل -‏ يمكن أن ينطبق على كل الكلام أو أكثره،، فإن كان معيار بلاغة الكلام وفصاحته وبيانه عدم معارضته، ودليل كون الكلام نازلا من عند الله عدم المجيء، بمثله، فإن ديوان المتنبي سيكون مثل القرآن، وستكون كتب الهندسة ومؤلفات العروض كلها مثل القرآن في الإعجاز، فإنه لم يأت أحد بمثلها، وإذ ثبت بطلان هذه الأحكام ثبت بطلان معيار عدم المماثلة الذي تقوم عليه دلالة القرآن.

وهذا اعتراض من لا يعرف للكلام معنى، ولا يدرك لمسالك الاستدلال مغزى، فنحن ‏- المسلمين – لا نقول: إن القرآن معجزة، وإنه كلام الله، لمجرد عدم المجيء بمثله فقط، وإنما نقول بذلك بناء على دلالات مركبة، فالنبي ﷺ أتى إلى العرب بكلام من جنس كلامهم، مع أنه لا يعرف باشتغاله بهذا الشأن، ثم تحداهم على الإتيان بمثله، واستحثهم ووبخهم، وجعل ذلك دليله الأقوى على أنه مرسل من عند الله، ثم إن العرب تركوا ذلك كله، وأخذوا في مقاتلة النبي ومحاربته، فهذه الدلالات جميعها تشترك في تحديد ضابط معيار الدلالة الإعجازية للقرآن.

وجميع الكتب الأخرى التي ذكرت في الاعتراض لم يتحقق فيها ذلك، فلم يتحد أحد بكتب الهندسة والعروض، ولم يتحد المتنبي بديوان شعره، فعدم تشوف الناس إلى الإتيان بمثله ومعارضته أمر طبيعي لا إشكال فيه، ولكن حال القرآن مختلف عن ذلك تمام الاختلاف.

ولو وُجد كتاب زعم صاحبه أنه منزل من عند الله ثم تحدى الناس على الإتيان بمثله، واستحثهم على ذلك، وجعل عدم فعلهم لما طلبه منهم دليلا على أنه صادق، ثم عجز كل الناس عن تحقيق طلبه، لكان ذلك دليلا على صدقه، ولكن ذلك لم يقع في الوجود، ولا يعرف عن أحد من الناس أنه قام بذلك.

ثم إن المطالبة بالإتيان بالمثل ليس المراد بها أن يؤتى بمثل تراكيب القرآن وألفاظه وجمله على الترتيب الموجود في القرآن، فإنه لو كان هذا هو المعيار، لكانت كل الكتب أو أكثرها معجزة؛ لأنه لا أحد يعجز أن يفعل ذلك، وإنما المراد بالمثلية التماثل في الفصاحة، والبلاغة، والبيان، وقوة السبك، وجمال التركيب، وثراء المواد، وعلو التشريعات والأحكام، وغزارة الأخبار الغيبية الصادقة، ونحوها من أوجه الإعجاز التي ذكرها العلماء.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أنه لا يوجد دليل يثبت أن النبي ﷺ تحدى العرب بالقرآن بالفعل، أو أنه أظهر ذلك لهم، فما الذي يمنع أن آيات التحدي أضيفت إلى القرآن بعد أن انتصر محمد وأتباعه على العرب؟! وما الذي يمنع أن يكون النبي أخفى آيات التحدي عن العرب حتى قويت دولته، وكثر أتباعه؟!! فلا يوجد لدينا ما يمنع وقوع هذا الاحتمال.

وهذا الاعتراض لا يعدو أن يكون تشغيبًا عقليًا محضًا، وهو لا يأتي إلا ممن لا يعرف طبيعة الصراعات الاجتماعية، ولا ماهية الظروف التي كانت محيطة بالإسلام، ولا طبيعة نقل النص القرآني وطريقة توثيقه،

فإن دعوة الإسلام كان لها ولا يزال ‏ أعداء متربصون، وكان يعيش في زمن النبي ﷺ في المدينة منافقون، وكان لكثير من المناوئين لدعوة الإسلام علاقة واسعة مع اليهود والنصارى خارج بلاد الإسلام، فالقيام بإضافة شيء إلى القرآن لم يكن منه، أو إخفاء شيء آخر، ثم إظهاره في الوقت المناسب عمل عظيم جدَّا، سيؤدي بالضرورة إلى التفات الأنظار إليه وشيوعه في العالمين.

فإن الادعاء بأن النبي ﷺ تحدى العرب في مواطن كثيرة من القرآن، واستحثهم على ذلك ووبخهم، ثم إن نسبة العجز إلى جميعهم، بل إلى جميع الجن والإنس يعد عملا عظيمًا جدَّا، فلو كان كذبًا لا حقيقة له لما أمكن للأعداد الكبيرة من الناس أن تسلم به وتسكت عن بيان خطته، فإن الطبائع مجبولة على نشر الأخبار إذا عرفتها الجماعة الكبيرة، ضرتهم أو نفعتهم؛ لأن الدواعي إلى النشر كثيرة مختلفة، ولا يمكن ضبطها، فيخرج المكتوم لأغراض مختلفة.

فلو كان الأمر على ما ذكر في الاعتراض؛ لظهر ذلك للناس لا محالة، وكان من المتعذر إخفاؤه وكتمانه؛ لأن المجتمع كثير العدد لا يعدم أن يوجد فيه أحد يذكر ذلك الفعل لظنه أنه أمر حسن جميل، أو يوجد فيه أحد يذكره لفساد دينه ونفاقه، أو يوجد فيه أحد يذكره تقربًا إلى الأعداء، أو لغرض من الدنيا، أو يوجد فيها أحد يذكره تعجبًا واستغرابّا، أو يذكره حاكيًا لأولاده وخلانه.

والمقصود أن مثل ذلك الفعل الذي يتعلق بجماعات كبيرة من الناس، وفيه حكم عليهم جميعًا يستحيل أن يبقى سرّا، وأن يمر الكذب فيه، ويروج على كل الناس، فلو كان الأمر كما ذكر في الاعتراض لظهر ذلك وأقيمت الأدلة والشواهد على كذبه لا محالة.

ثم إن هذا الاعتراض لا يختلف في حقيقته عن قول من يقول: بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو القرآن الذي أنزل على النبي، أو أن القرآن كان أضعاف أضعاف ما هو عليه، وكل هذه الدعاوى باطلة، أثبت العلماء بطلانها بأدلة علمية ظاهرة القوة والصحة.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بأن النبي ﷺ قد تحدى بالفعل العرب بالقرآن، ولكن لا يوجد دليل على أن ذلك التحدي بلغ كل العرب، فما الذي يمنع أن يكون في العرب أناس بلغاء يمكنهم معارضة القرآن لم يبلغهم التحدي به؟!.

وهذا الاعتراض لا يختلف عن الاعتراض السابق في البطلان والفساد، فإن النبي ﷺ كان يقرأ القرآن على أصحابه، وعلى كفار قريش، وآيات التحدي بالقرآن أكثرها كان في السور المكية، وانتشر خبر الإسلام وحال النبي ﷺ مع قومه وحربه معهم، وطالت مدة دعوته يلِ وبلغت أكثر من عقدين من الزمان، ثم توسعت دولة الإسلام في زمن النبي ﷺ إلى اليمن جنوبّا، وإلى البحرين شرقًا، وإلى حدود الشام شمالا، وكانت للعرب في زمن دعوة النبي ﷺ نوادٍ وأسواق يتجمع فيها أعداد منهم من جميع أقطار الجزيرة العربية، ويتناقلون فيها الأخبار والأنباء، ويتفاخرون فيها بالأشعار والفصاحة والكلام البليغ.

فمن المستبعد عقلًا مع كل هذه القرائن والأحوال أن يسمع العرب بالقرآن وبخبر الإسلام، ثم لا يسمعون بأمر هو من أعظم الأمور فيه، وهو أن النبي تحدى قومه بالإتيان بمثل القرآن، أو لا يسمعون بأمر هو من أهم الأمور التي تتعلق بما يمتازون به، ويشتغلون به في أسواقهم ونواديهم، فإن عدم سماعهم بذلك من أبعد ما يكون.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم ببلوغ التحدي بالقرآن إلى جميع العرب، ولكن عدم إتيانهم بمثل القرآن ليس لكونهم كانوا عاجزين عن ذلك، وإنما يمكن أن يكون لاعتبارات أخرى متعددة، فقد يكون لأجل أنهم لم يهتموا في إثبات العجز على مجرد عدم الإتيان بالمثل غير صحيح، ولا دليل عليه.

وهذا الاعتراض باطل؛ لكونه مخالفًا للحال الذي كان عليه قوم النبي ﷺ فإن النبي تحداهم والعرب جميعًا بالقرآن، وفتح الطريق لمن أراد أن ينقض دعوته، ويبطل ما يدعيه من الوحي الإلهي بأن يأتي بمثل ما أتى به من القرآن، وتحداهم على ذلك واستحثهم ووبخهم، وفرق بين جماعتهم، وسفه أحلامهم، وقبح آلهتهم، واتبعه كثير من شباب العرب ووجهائهم، ثم إن قريشًا وحلفاءها من العرب لم يتركوا النبي ﷺ وشأنه، وإنما قاموا بالتصدي لدعوته، وسعوا إلى تشويه صورته، وتعذيب أتباعه، وقتل بعضهم، بل أرسلوا إلى الحبشة بعضًا منهم في شأن أصحاب النبي ﷺ ولما انتقل النبي ﷺ إلى المدينة قامت بينهم ومن معهم من الحلفاء وبين المسلمين معارك قتل فيها كثير منهم ومن رؤسائهم، وخسروا فيها كثيرًا من الأموال والأنفس، وطار خبر ذلك كله في جميع الأمصار.

فلو كان يمكنهم معارضة القرآن لفعلوا ذلك، واستراحوا من كل هذا العناء، ولو كان عدم معارضتهم القرآن ليس عن عجز، وإنما عن عدم مبالاة، وانشغال لبادروا إلى إظهار المعارضة بدل أن يقوموا بتلك المشاق كلها، التي خسروا فيها كثيرًا، وساءت سمعتهم بسببها بين العرب، ولقام بعض العرب بالتبرع بالمعارضة لأجل أن يحل ذلك الاشتباك الكبير الذي تسبب في حصول أضرار عديدة بالناس.

ولكن ذلك كله لم يقع، ولم يتبرع أحد من العرب بمعارضة القرآن، وذلك يدل على أن عدم مجيئهم بمثل القرآن لم يكن إلا لأنهم كانوا عاجزين عن المعارضة.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بأن التحدي بالقرآن قد بلغ كل العرب، وأنهم استجابوا لذلك التحدي، وأتوا بمثل القرآن، ولكن المسلمين أخفوا ذلك، فمن المعلوم أن الذي كتب تاريخ دعوة الإسلام وأحداثها هم العلماء المسلمون، فما الذي يمنع أن يكونوا أخفوا معارضات العرب للقرآن حتى لا يبطل عليهم دينهم؟!.

وهذا الاعتراض غير صحيح، فإنه قائم على مجرد احتمالات عقلية لا يوجد ما بسندها في التاريخ، بل أحداث التاريخ تناقضه وتنافره.

فإنه لو أتى العرب بمثل القرآن؛ لجاءت معارضتهم مجيء القرآن، ولحصل لها الانتشار مثل ما حصل للقرآن، ولكان العلم بها مثل العلم بالقرآن بل أشد؛ لأنها تتعلق بأمر عظيم جدَّا، فهو متعلق بأفضل ما تميزت به العرب عن غيرها من الأمم، وبأمر تشتغل به العرب كثيرًا وتتفاخر به، وقد تحداهم النبي به، ونشر ذلك في العالمين، وكرره على أسماعهم ووبخهم عليه وقرعهم، ثم إنه تفرقت بسببه جماعات العرب، وقامت من أجله حروب وسالت دماء، فليس من المقبول في العقل أن يكون أمر بهذا الخطر، ثم لا ينتشر في الناس، أو يمكن إخفاؤه والسعي إلى إزالته.

ثم إن دعوة الإسلام كانت محاطة بالأعداء من كل جانب، فكان اليهود والنصارى قريبين جدًا من العرب، وكانت بينهم وبين العرب علاقات واتصالات، بل كان بعض العرب يذهب إليهم، ويظهر لهم القدح في القرآن، ولو كان أحد من العرب استطاع حقًا أن يأتي بمثل القرآن لانتشر الخبر بين أولئك الأعداء، ولما أمكن للمسلمين منعه حينئذ.

وكان كثير من المخالفين للإسلام على علم بكثير من التفاصيل المتعلقة بالدعوة الإسلامية، فإن النبي ﷺ حين أمر بهجر ثلاثة من أصحابه الذين تخلفوا عن معركة تبوك، أرسل إلى أحدهم ملك غسان رسالة يطالبه فيها باللحاق به، وهذا الحدث يدل على أن الأعداء المحيطين بدولة الإسلام كانوا على اطلاع كبير بتفاصيل ما كان يحدث في المجتمع الإسلامي، فلو أن أحدًا من العرب استطاع حقًا أن يأتي بمثل القرآن؛ لانتشر الخبر بين أولئك الأعداء، ولكان من أسرع الأخبار وصولا إليهم؛ ولما أمكن للمسلمين منعه حينئذ.

بل كان المجتمع المسلم يعيش فيه كثير من المنافقين وأعداء الإسلام، ولم يكونوا يتوانون أبدًا في السعي إلى محاربة الإسلام وتشويه صورته، حتى بلغ بهم الأمر أن يقدحوا في عرض النبي يل فلو أن أحدًا من العرب استطاع حقًا أن يأتي بمثل القرآن؛ لسعى أولئك الناس في نشر الخبر في العالمين، ولكن ذلك لم يقع.

ثم إنه وجد في التاريخ الإسلامي من سعى إلى معارضة القرآن، وكتب في القدح فيه، ولم يستطع المسلمون إخفاء خبر هذه المحاولات، ولم يقدروا على إخفائها عن العالمين، بل كانت أخبار تلك المؤلفات مشهورة معلومة لكثير من الناس من أتباع الإسلام وغيرهم.

وهذه الدعوى لا تختلف عن دعوى ابن الراوندي وغيره التي ادعى فيها أن النبي ﷺ كان يتصف بصفات قبيحة، وكانت تظهر منه أعمال سيئة، ولكن أصحابه أخفوها عن أعين الناس.

فإنه لو كان النبي ﷺ كذلك؛ لما أمكن إخفاء ما ظهر منه عن الناس، لكونه  كان ظاهرًا للناس، ومعاشرًا لأعداد كبيرة منهم، ولبادر المنافقون إلى إعلانها في العالمين، ولنقلها كفار العرب إلى أصدقائهم في فارس والروم.

إن هذا الاعتراض لا يختلف عن زعم من يدعي بأن كفار قريش لم يحاربوا النبي ﷺ ولم يعذبوا أصحابه، وإنما اخترع أتباعه هذه الأحداث لكي يستعطفوا الناس، ويلفتوا إليهم أنظارهم، ولا يختلف عن قول من يدعي أن النبي ﷺ كان يريد التراجع عن دعوته في آخر عمره، ولكن أصحابه وأتباعه منعوه من ذلك، ولا يختلف عن قول من يدعى أن مسيلمة الكذابٍ أتى بمعارضة حقيقية للقران، ولكن المسلمين أخفوا ذلك، وحرفوه ونقلوا إلينا ذلك الكلام الهزيل حتى يشوهوا صورة مسيلمة، ونحو ذلك من الادعاءات التي لا يشك أحد من العقلاء العارفين بالتاريخ بكذبها وبطلانها.

ولا يصح أن يقال: إن العرب أخفوا المعارضة التي كانت لديهم خوفا من السيف، فإن قوة دولة الإسلام لم تكن من أول الأمر، وإنما كانت في آخر حياة النبي ﷺ بعد عقدين من التحدي،، فلو وجدت المعارضة حقًا؛ لانتشر خبرها في بلاد فارس والروم، وتللك البلاد لا سلطة للمسلمين عليها.

ثم إن دولة الإسلام ضعفت بعد موت النبي ﷺ فلو أن ثمة معارضة للقرآن؛ لأمكن لكثير من الناس نشرها أو نقلها إلى الدول الأخرى.

تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بعجز العرب عن معارضة القرآن، ولكن عجز العرب ليس دليلا على عجز غيرهم، فما الذي يمنع أن غيرهم يمكنه معارضة القرآن والمجي، بمثله؟! وما الذي يمنع أن يأتي أحد في آخر الزمان يمكنه أن يأتي بمثل القرآن أو أعلى منه؟!.

وهذا الاعتراض متناقض مع ما يقتضيه قياس الأولى، وهو دليل عقلي معتبر، فإن عجز الأقوى عن شي، ما يدل بالضرورة العقلية على عجز من هو أضعف منه عنه من باب أولى، فإن عجز الرجل القوي عن حمل صخرة كبيرة، يدل بقياس الأولى على عجز حمل الطفل الضعيف عن حملها.

فكذلك الحال في عجز العرب عن معارضة القرآن، فإن ذلك يدل بقياس الأولى عن عجز من عداهم من الناس؛ لأن العرب هم الأقوى والأولى في معارضة القرآن؛ لكونهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، وهم مشتغلون بهذا الأمر ومتفاخرون به، فإن تحقق منهم العجز عن معارضة القرآن، فغيرهم سيكون أكثر عجرًا وبعدًا عن أن يأتي بمثل القرآن.

وهذا الأمر ليس خاضًا بهذه القضية، وإنما هو شامل في كل مجالات الحياة، فإن عجز أهل الاختصاص عن شي، ما متعلق باختصاصهم بعد تحديهم فيه وتوبيخهم واستنفارهم يدل على أن غيرهم أولى بالعجز منهم، فلو أن رجلا أتى بأمر في شأن الطب، وتحدى أهل الاختصاص فيه، ووبخهم وقرعهم على معارضته، وعجز أهل الاختصاص جميعهم عن إثبات خطئه؛ فإن ذلك يدل على أن غيرهم سيكون أولى بالعجز،

أما القول: بأن لا مانع من أن يأتي أقوام في آخر الزمان يمكنهم معارضة القرآن، فهذا القول لا يعدو أن يكون مجرد فرض عقلي لا أساس له من الصحة، فإن العرب في زمن النبي ﷺ كانوا أهل اللغة، وهم يتحدثون بها بالسليقة والطبع، ومن المستبعد في العقل أن يكون من تحصل على اللغة بالتعلم والتدريب أفهم لأسرار اللغة وفصاحتها من صاحب اللغة نفسها الذي طبع عليها، فشأن اللغة مختلف عن شأن المجالات الأخرى؛ لأن الأخذ بها عند أهلها أخذ بالطبع والسليقة، فمن المستبعد أن يكون المتأخر فيها أكمل من المتقدم، وأما المجالات الأخرى كالطب والكتابة والهندسة فإن الأخذ بها عند كل الناس أخذ بالتعلم والتدريب، فمن الممكن أن يكون المتأخر أكمل من المتقدم فيها.

ثم إن الاعتماد على ذلك الفرض العقلي ‏- أعني: القول بأنه لا مانع من أن يأتي أقوام في آخر الزمان يمكنهم معارضة القرآن ‏ من غير قيد معرفي بيّن يؤدي إلى التشكيك في كل المعارف والعلوم التي يصدق الناس بها، فإنه بناء عليه يمكن أن يقال: إنه لا مانع من أن يصل الناس إلى مرحلة من العلم يكتشفون فيها أن كل ما كانوا عليه من العلوم باطل! ولا مانع من أن يكشف الإنسان بأن الرجل الذي كان يعتقده أباه لم يكن كذلك!! وهكذا الأمر في كل المعارف الضرورية.