دعوى تعارض أحاديث العدوى (*)
مضمون الشبهة
يدعي بعض المتوهمين أن أحاديث العدوى متعارضة، فتارة يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا عدوى، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفرة» كما أنه صلى الله عليه وسلم- أكل مع مجذوم، وقال له: «كل ثقة بالله تبارك وتعالى وتوكلا عليه».
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كان لنا مولى مجذوم، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي»، فهذه الأخبار تثبت أنه لا عدوى، ثم يعارض النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا كله بقوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ممرض على مصح».
وجوه إبطال الشبهة:
1) أجمع العلماء على أنه لا تعارض بين الأحاديث؛ لأن المراد من حديث «لا عدوى ولا طيرة» وما في معناه، نفي ما كانت الجاهلية تعتقده بأن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله -عز وجل- وقدره، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلمهم أن العدوى تكون بقدر الله، لذلك قال في آخر الحديث: «فمن أعدى الأول»، وأما الأمر بالفرار من المجذوم وما في معناه فمن باب سد الذرائع لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسما للوقوع في المحذور.
2) لقد أثبتت الحقائق العلمية أن ميكروب الجذام ضعيف جدا، وهو يقتل على الفور في الوسط الحامضي في المعدة، لذلك لا تنتقل العدوى عن طريق تناول الطعام مع مجذوم، وإنما تنتقل بالملامسة الدائمة، وهذا إعجاز علمي نبوي حيث رفض الملامسة منذ البيعة بينما أكل مع المجذوم على فرض صحته.
التفصيل:
أولا: لا تعارض بين أحاديث العدوى، وكل شيء بقدر الله وحكمته:
ذهب جمهور العلماء إلى الجمع بين هذه الأحاديث، يقول الإمام النووي: وطريق الجمع أن حديث «لا عدوى ولا طيرة…»[1] المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى.
وأما حديث: «لا يورد الممرض على المصح»[2] فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله -سبحانه وتعالى- وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدرته، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الأحاديث، والجمع بينها، هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء[3].
ثم يزيد الإمام النووي الأمر وضوحا إذ يقول: قوله: «كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إنا قد بايعناك فارجع»[4]، هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»[5] وأنه غير مخالف لحديث: «ولا يورد ممرض على مصح».
وقال القاضي: قد اختلفت الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر«أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كل ثقة بالله وتوكلا عليه»[6].
وعن عائشة قالت: «كان لي مولى مجذوم، فكان ينام على فراشي و يأكل في صحافي»[7].
والصحيح الذي قاله الأكثرون، ويتعين المصير إلىه أنه لا نسخ، بل الجمع بين الحديثين، وحمل الأمر باجتنابه، والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب. وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز[8].
وحديث جابر ضعيف كما حكم بذلك الألباني في السلسلة الضعيفة[9].
يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله: قالوا: وأما حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: “كل ثقة بالله وتوكلا عليه” ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي وبين الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه -صلى الله عليه وسلم- أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، قال الكلاباذي في “معاني الأخبار”: والجواب أن طريق الجمع أولى، وفي طريق الجمع مسالك أخرى:
أحدها: نفي العدوى جملة، وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن، السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته، ونحوه حديث«لا تديموا النظر إلى المجذومين»[10] فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء “لا عدوى” كان المخاطب بذلك من قوي يقينه، وصحح توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى، كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوي اليقين لا يتأثر به، وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه، وحيث جاء«فر من المجذوم» كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد العدوى، فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوى عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لإثباتها[11].
المسلك الثالث: أن الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة، وهذه طريقة ابن قتيبة قال: المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته، وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه، وينزع الولد إليه، ولهذا يأمر الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا عن طريق العدوى بل عن طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من واظب اشتمامها، قال: ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يورد ممرض على مصح» لأن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حكها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وكذا بالنظر نحو ما به..، وأما قوله: «لا عدوى»فله معنى آخر، وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون فيفر منه مخافة أن يصيبه، لأن فيه نوعا من الفرار من قدر الله.
المسلك الرابع: أن المراد بنفي العدوى – كما ذكرنا آنفا – أن شيئا لا يعدي بطبعه، نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها، ففي نهيه إثبات الأسباب، وفي فعله إشارة إلى أنها لا تستقل، بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا، وإن شاء أبقاها فأثرت، ويحتمل أيضا أن يكون أكله -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الجذمى كلهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدوى أصلا كالذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي، وعلى الاحتمال الأول جرى أكثر الشافعية.
قال البيهقي: وأما ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:«لا عدوى» فهو على الوجه الذي كان يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى. وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح ومن به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، وقال: «لا يورد ممرض على مصح»، وقال في الطاعون: «فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه»[12]، وكل ذلك بتقدير الله عز وجل.
المسلك الخامس: العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع، وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه جماعة فقال أبو عبيد: ليس في قوله: “لا يورد ممرض على مصح” إثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه[13].
وهذا ما قرره ابن القيم في كتابه “زاد المعاد”، وقد أكد الشيخ الألباني تعليقا على حديث«ائته فأعلمه أني قد بايعته فليرجع» قائلا: وفي الحديث إثبات العدوى والاحتراز منها، فلا منافاة بينه وبين حديث «لا عدوى»؛ لأن المراد به نفي ما كانت الجاهلية تعتقده أن العاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله -عز وجل- وقدره، فهذا هو المنفي، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله ومشيئته، وهذا ما أثبته الحديث، وأرشد فيه إلى الابتعاد عما قد يحصل الضرر منه بقدر الله وفعله[14].
وبناء على ما سبق فإن حديث: «لا عدوى ولا طيرة» أشار فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك إلى من اتكل على الأسباب، وحديث: «فر من المجذوم» فيه إشارة إلى من اعتمد واتكأ عليها، فهذا ليس فيه نفي للعدوى، إنما فيه إثبات لها بدلالة تتمة الحديث حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرحل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: فمن أعدى الأول؟»[15]؛ أي: أول جمل أجرب على وجه الأرض – من أعداه؟ فيريد أن ينبه بهذا إلى أن الله -عز وجل- هو الذي قدر العدوى وقدر تأثيرها، وأنه لا عدوى تنتقل بذاتها، بدليل أن الجمل الأول الذي أصابه الجرب لم يجرب بسبب عدوى، وإنما قدرة الله عليه، وهكذا ما بعده[16].
ثانيا. إثبات الحقائق العلمية لصحة أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في العدوى:
إن حديث «أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم» حديث ضعيف، لا يصح – كما تقدم – وعليه فلا تعارض حينئذ، وعلى فرض صحة الحديث فقد بين العلم الحديث أنه لا تعارض بين هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي يظن أن بينها تعارض.
وإذا استعرضنا هذه الحقيقة العلمية وهي أن العدوى بجراثيم الأمراض قد تصيب الجسم بالمرض حينا، وهي نفسها قد لا تقوى على إصابة الجسم بالمرض حينا آخر… وبذلك تصير العدوى وكأنها لا عدوى. وليس السبب في كل ذلك بيد الإنسان، كما أنه لا دخل للجراثيم فيه أيضا؛ لأن كلا من الجراثيم وخطوط الدفاع تعملان بقدر الله تعالى ومشيئته وأمره، فإذا أراد الله أن يجعل العدوى سببا للمرض جعلها، وإذا أراد إبطال مفعول العدوى أبطله، وصدق الله إذ يقول: )إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82)( (يس).
ومن هنا نفهم المغزى العلمي في قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا عدوى» وفي نفس الحديث: «وفر من المجذوم فرارك من الأسد».
بالإضافة إلى ذلك فقد بينت الأبحاث العلمية الحديثة أن كثيرا من الناس يصابون بالعدوى من جراثيم مرضية، مثل: جراثيم مرض التيفود، أو جراثيم مرض الالتهاب السحائي الوبائي، ولا تظهر عليهم أي أعراض مرضية، مع أنهم حاملين للميكروب، فيصير بذلك أغلبهم حاملا للميكروب، ومصدرا لعدوى الغير، وبعض الذين تصيبهم العدوى يمرضون، وأكثرهم لا يمرض.
إذا.. فالعدوى قد تسبب مرضا، ونفس العدوى بنفس الجراثيم قد لا تسبب هذا المرض، ذلك أن هناك الكثير من العوامل التي تجعل العدوى بجراثيم الأمراض كأن لم تكن، ولا دخل في ذلك كله لأسباب تتعلق بالجراثيم أو تتعلق بالجسم، لأن كلا منهما مسخر لأمر أحكم الحاكمين.
ومن هنا يمكننا أن ندرك الإعجاز العلمي في “تجنب النبي -صلى الله عليه وسلم- مصافحة المجذوم” وفي موضع آخر: «أكل مع المجذوم في قصعة واحدة» خاصة إذا علمنا أن العدوى بميكروب الجذام تحدث عن طريق ملامسة جلد المريض مرات عديدة ولزمن طويل، لذلك لا يظهر المرض إلا في المخالطين للمريض وبنسبة (1%) فقط.
ومن ناحية أخرى فقد ثبت أن ميكروب الجذام ضعيف جدا، وهو يقتل على الفور في الوسط الحامضي في المعدة؛ لذلك لا تنتقل العدوى بالجذام عن طريق تناول الطعام مع مجذوم، وهذا يفسر لنا الإعجاز العلمي النبوي في أكل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مجذوم، وتجنب مصافحة مجذوم آخر[17].
وقد ذكر العلماء أن الجذام: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها، وربما فسد في آخر اتصالها حتى تتآكل الأعضاء وتسقط، ويسمى داء الأسد[18].
قال الدكتور الأزهري: هذا المرض سمي بداء الأسد، لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد، لكثرة وجود أورام صغيرة وتجعدات في الوجه[19].
وقد بينت الأبحاث العلمية الحديثة أنه في أكثر أنواع الجذام شيوعا تتغير ملامح المريض، فيسقط شعر الحواجب، ويغلظ جلد الوجه، فترتفع الجبهة.
وكان أول وصف لوجه مريض الجذام سنة 1847م، وصفه طبيبان وهما “دانيال وبويك”، وقالا في وصفه: “إن وجه مريض الجذام يشبه وجه الأسد leonine face”.
ولم يوصف وجه مريض الجذام بذلك الوصف العلمي قبل سنة 1847م، إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد وصفه في الحديث النبوي الشريف قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، والعجب هنا يتمثل في اختيار النبي -صلى الله عليه وسلم- للفظ “الأسد”، وكان -صلى الله عليه وسلم- يمكنه أن يقول: فر من المجذوم فرارك من “الأفعى” أو من “الوحش” مثلا، ولكن لفظ الحديث الشريف اختار لفظ “الأسد” ليجمع بين الصورة والمعنى والقصد في كلمة واحدة، وهذا إعجاز علمي وسبق نبوي بين[20].
وبهذا يتبين أنه لا تناقض ألبتة بين تلك الأحاديث الشريفة السابقة، وأن الجمع بينها هين ويسير، وأن المسالك التي سلكها أهل العلم للتوفيق بين الأحاديث المثبتة للعدوى، والأخرى النافية لها، كانت مسالك صحيحة وقد أيدتها نتائج الأبحاث العلمية الحديثة، ولهذا فإن أقرب المسالك هو قول أصحاب المسلك الرابع – من الوجه الأول – في التوفيق بين تلك الأحاديث الشريفة[21].
الخلاصة:
ليس هناك تعارضأ وتناقض بين أحاديث العدوى، لاسيما وأن لكل حديث حالة معينة، وسببا معينا، ومعنى معينا، وأجمع العلماء على الجمع بين الأحاديث، فحديث: “لا عدوى ولا طيرة” المراد نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده، أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى.
وأما حديث: «لا يورد الممرض على المصح» فأرشد إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره.
لقد ذهب فريق من العلماء إلى أن الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه محمول على الاستحباب والاحتياط لا الوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز.
لقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث بعدة وجوه منها:
نفي العدوى جملة، وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم.
حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصح توكله، وحيث جاء «فر من المجذوم» كان المخاطب بذلك من ضعف يقينه، ولم يتمكن من تمام التوكل.
الأمر بالفرار من المجذوم لعدم التأثر بالرائحة؛ لأنها تسقم من واظب على اشتمامها.
المراد بنفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه من غير إضافة إلى الله، وأكله -صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم ليبين لهم أن العدوى لا تنتشر فتضر أو تنفع إلا بإذن الله.
العمل بنفي العدوى أصلا ورأسا، وحمل الأمر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للخالط شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع.
ثم إن حديث: «أكل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع المجذوم» حديث ضعيف لا يصح ولا يثبت، وعليه فلا تصح المعارضة به.
بينت الأبحاث العلمية الحديثة أن كثيرا من الناس يصابون بالعدوى من جراثيم مرضية. مثل: جراثيم مرض التيفود، ولاتظهر عليهم أي أعراض مرضية، مع أنهم حاملين للميكروب، إذا فالعدوى قد تسبب مرضا، ونفس العدوى بنفس الجراثيم قد لا تسبب هذا المرض، وكل ذلك بإذن الله وحده سبحانه وتعالى.
ثم إن ميكروب الجذام ضعيف جدا، وهو يقتل على الفور في الوسط الحامضي في المعدة؛ لذلك لا تنتقل العدوى بالجذام عن طريق تناول الطعام مع مجذوم، وهذا يفسر لنا فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – وأكله مع مجذوم.
سمى العلماء مرض الجذام بداء الأسد، لأنه يحول وجه المريض بما يجعله يشبه الأسد، لكثرة وجود أورام صغيرة، وتجعدات في الوجه، وكان أول وصف لوجه مريض الجذام سنة 1847م، وصفه طبيبان وهما “دانيال وبويك”، وقالا في وصفهما: “إن وجه مريض الجذام يشبه وجه الأسد leonine face”. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وفر من المجذوم فرارك من الأسد»، واختياره -صلى الله عليه وسلم- لفظ “الأسد” دون غيره ليؤكد أن هذا الحديث إعجاز نبوي، وبه يتأكد أنه لا تعارض ألبتة بين الأحاديث السابقة، وأن الجمع بينها هين ويسير.
المراجع:
(*) لا نسخ في السنة، د. عبد المتعال الجبري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1415هـ/ 1995م.
[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5687).
[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، (8/ 3352)، رقم (5684).
[3]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (8/ 3353).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: السلام، باب: اجتناب المجذوم ونحوه، (8/ 3364)، رقم (5714).
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: الجذام، (10/ 167)، رقم (5707).
[6]. ضعيف: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الكهانة والتطير، باب: في الطيرة، (10/ 300)، رقم (3918). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3925).
[7]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل مع المجذوم، (5/ 568)، رقم (30/ 9).
[8]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (8/ 3364).
[9]. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1420هـ/ 2000م، (3/ 281).
[10]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الطب، باب: الجذام، (2/ 1172)، رقم (3543). وقال عنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1064): حديث حسن صحيح.
[11]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 169).
[12] . صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأنبياء، باب: رقم (54)، (6/ 592)، رقم (3473).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (10/ 169: 171) بتصرف.
[14]. السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1422هـ/ 2002م، (4/ 614)، رقم (1968).
[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الطب، باب: لا صفر وهو داء يأخذ البطن، (10/ 180، 181)، رقم (5717).
[16]. دروس صوتية، أبو إسحاق الحويني، درس بعنوان: الجمع بين حديث لا عدوى ولا طيرة وفر من المجذوم، (46/ 9).
[17]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر للنشر، القاهرة، ط1، 2003م، (1/ 74، 75).
[18]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/ 148).
[19]. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، هامش (4/ 148).
[20]. موسوعة الإعجاز العلمي في الحديث النبوي، د. أحمد شوقي إبراهيم، نهضة مصر للنشر، القاهرة، ط1، 2003م، (1/ 75) بتصرف.
[21]. موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص913 بتصرف.