تعزيز اليقين وهداية الحيران

لماذا أمورُ الكفارِ والعصاةِ ميسرةٌ دونَ الطائعينَ؟

لماذا أمورُ الكفارِ والعصاةِ ميسرةٌ دونَ الطائعينَ؟

 

الحمدُ للهِ الذي يبسطُ الرزقَ لمن يشاءُ بحكمتِهِ ويقدِرُ، والصلاةُ والسلامُ على نبيّنَا الذي افترشَ الحصيرَ ورضيَ بالقليلِ ولو شاءَ لسألَ ربهُ الكثيرَ..

تضيقُ الحياةُ على بعضِ المؤمنينَ، فيتساءلُ بعضهُمْ: لماذا أجدُ حالَ من جاهرَ بمعاصيهِ قدْ جاءتهُ الدنيا وأنا في ضيقٍ رغمَ صلاتِي وقرآنِي وأذكارِي؟

وفي هذهِ الكلماتِ نحاولُ معاً بإذن اللهِ تسليطَ الضوءِ على زوايا عدّةٍ تُظهرُ أخطاءً في تلكَ النظرةِ، ولعلَّ الكلماتِ تكونُ نوراً بإذنِ اللهِ تعالى للمؤمنِ، فيرَى موضعَ قلبهِ في تلكَ الحياةِ، ويصبرَ ويشكرَ حتى يلقَى اللهَ، ونبدأُ بسمِ اللهِ..

 

١- التعميمُ المتسرِّعُ:

يقعُ المتسائلُ هنا في مغالطةِ التعميمِ المتسرعِ، وذلكَ حين يرَى بعضَ أمثلةٍ لمنْ يُتَوَسَّمُ فيهمُ الصلاحُ وقدْ صارُوا في ضيقٍ منَ العيشِ بينما يتقلبُ في الرفاهيةِ من اتخذُوا دينهمْ هزواً ولعباً وغرتهمُ الحياةُ الدنيا، ولا يمكنُ لعاقلٍ أن ينكرَ وجودَ تلكَ الأمثلةِ، ولكنْ منَ الغفلةِ أن ننكرَ وجودَ الصالحينَ المنعَمِينَ، وكذلكَ وجودَ الفاسقينَ البائسينَ.

فإنْ قيلَ: كَثُرَ عددُ الفساقِ أولُو الترفِ، نقولُ: ربمَا، ولكنْ ربما أيضاً يكونُ ذلكَ نتاجَ مجتمعٍ لو بحثنا في فُقَرائهِ لوجدنا فيهم منَ الظلمِ الكثيرِ، فيكثرُ في مجتمعٍ صالحُوهُ في مختلفِ فئاتِهِ، والعكسُ بالعكسِ.

 

٢- الابتلاءُ بالنعمِ:

ثمّةَ ما هو ملتَبِسٌ على كثيرٍ مِنَّا؛ إذْ يظنُّ كثيرونَ أنَّ الفقيرَ والمريضَ مبتلىً بينمَا لا يُبْتَلَى المعافَى الغنيُّ، والحقُّ أنَّ الصنفَ الأخيرَ مبتلىً بالمعافاةِ والغنَى وما هوَ فيهِ من خيرٍ، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون} [سورة الأنبياء].

وقال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [سورة الفجر].

فليسَ معيارُ رضَا أو غضبِ اللهِ عنِ الناسِ ما همْ فيهِ من غنىً وسعةٍ أو ضيقِ رزقٍ، ولكنْ على الناسِ أن يتدبرُوا أحوالهُم، فهلْ همْ يكرمُونَ المبتلينَ من اليتامَى؟ وهل يحثُّونَ بعضهمْ بعضاً على إطعامِ المساكينِ؟

إنَّ رضَا اللهِ يُنالُ بمثلِ هذَا، كما قيلَ قديماً: إذا أردتَ أن تعرفَ مقامكَ فانظرْ فيمَ أقامكَ، والفتنُ خطافةٌ والابتلاءُ بالنعمِ ليسَ هيّناً.

وهذا الأمرُ نجدهُ ظاهراً فيما قالهُ ربنا تعالى حكايةً عن نبيهِ سليمانَ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[سورة النمل].

 

٣- إنمَا هوَ استدراجٌ:

قالَ نبينَا صلى الله عليه وسلم: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ)، فتلك الدنيا فتنةٌ خاطفةٌ، ولا ينجُو من فتنتِهَا إلا من زكَّى نفسَهُ، والاختبارُ ليسَ بالهيّنِ إذ قدْ يُزَيِّنُ للمرءِ نفسِهِ سوءُ عملِهِ بعدَ رؤيتهِ النعمَ تتوالَى عليهِ تترَا، ولكنْ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ” ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ})..

قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} [سورة القلم]، وقال سبحانه: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)}[سورة آل عمران]، وقال سبحانه في السورة نفسها: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}.

وقد قصَّ علينا ربُّنا نبأَ قارونَ وكيفَ تمنَّى قومُه لو كانَ لهمْ مثلَ ما لَهُ، ثم رجعُوا عن قولهمْ بعدَ رؤيتهمُ العاقبةَ، ومن لم ينلْ عقابهُ في الدنيا، فقدْ قالَ تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ}.

 

٤- لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا:

كمْ منْ مجاهرٍ بالمعصيةِ أو كافرٍ قد نالَ شهرةً ونفوذاً ومالاً وما يحسدهُ عليهِ الناسُ، ثمَّ تابَ إلى ربهِ وصارتْ قصتهُ عبرةً وعظةً لما فيها من ثباتٍ وهجرٍ للملذاتِ؟

كَمْ من صاحبِ مالٍ كانَ مفسداً ثمَّ تابَ وأصلحَ وأنفقَ مالهُ في سبلِ الخيرِ؟

لا ينبغِي للمؤمنِ أن يحكمَ على الأمورِ وعلى الناسِ حكمَ من يعلمُ العاقبةَ والخاتمةَ، ولْيَسْأَلِ اللهَ الهدايةَ لمنْ ضلَّ، ولْيَحْرِصْ على تزكيةِ قلبهِ.

 

٥- وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ:

لو خلقَ اللهُ الناسَ كلَّهُم بعينٍ واحدةٍ إلا القليلَ لمْ يكنْ لهمْ نصيبٌ في رؤيةِ العالمِ، لمَا اعتبرَ الناسُ الأعورَ مبتلَىً، وكذلكَ لوْ جعلَ اللهُ الناسَ يرونَ خلفَ ظهورِهمْ رؤيتَهُم لِمَا بينَ أيديهمْ، لاعتبرَ الناسُ من لا يَرَى إلا أمامهُ -كما هو حالنَا- مبتلىً قد أصيبَ في الرؤيةِ بمصابٍ عظيمٍ؛ فالمقارناتُ تجعلُ لنَا حَكَمَاً يغفلُ عن النعمِ، فلا يمدُّ المؤمنُ عينهُ إلى ما في أيدي الناسِ، ولو تفكَّرَ في نِعَمِ ربهِ عليهِ؛ لظلَّ يردِّدُ قوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)} [سورة النحل].

 

٦- بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ:

ربنَا يبسطُ الرزقَ ويقْدِرُ، وليسَ لأحدٍ على اللهِ فضلٌ بصلاةٍ أو صدقةٍ، ولكنْ للهِ الفضلُ كلُّهُ إذ أعانَ ويسَّرَ وهدَى وثبَّتَ، فعلى المؤمنِ أن يَحْذَرَ خطواتِ الشيطانِ، ولا يصيبَهُ عُجْبٌ أو تَسَخُّطٌ ظناً منهُ أنَّ ما يطلبهُ حقٌّ، فالمؤمنُ يعبدُ اللهَ ويرجُو اليومَ الآخرَ، ونعوذُ باللهِ أن تكونَ نيَّتُنَا دُنْيَا إن نلناهَا رضِينَا وإلا سخطنَا.

.. وفي النهايةِ ينبغِي تذكيرُ المؤمنِ أنَّ الدنيا ليستْ هيَ الدارُ التي ينشدُهَا، ولكنَهُ يعملُ من أجلِ يومٍ قالَ اللهُ تعالى عنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وها هوَ خيرُ المرسلينَ يفترشُ الحصيرَ وقدْ كان كسرَى وهرقلُ يَتَنَعَّمَانِ، وانظرْ إلى ما قالهُ الفاروقُ عمرُ فيمَا كانَ بينهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (وإنَّهُ لعَلى حَصِيرٍ ما بينَهُ وبينَهُ شيءٌ، وتحتَ رأسِهِ وسادةٌ من أَدَمٍ حشوُهَا ليفٌ، وإنَّ عندَ رجليْهِ قَرْظًا مصْبُوبًا، وعندَ رأسهَ أَهَبٌ معلقةٌ، فرأيتُ أثرَ الحصيرِ في جَنْبِهِ فبكيتُ، فقالَ: (ما يُبْكِيكَ)، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فيمَا همَا فيهِ، وأنتَ رسولُ اللهِ، فقالَ: (أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهمْ الدنيا ولنَا الآخرةُ)).. فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهؤلاءِ قادةُ الكفرِ..

وإنَّ اللهَ قدْ وعدَ المؤمنَ حياةً طيبةً، ولكنْ ما الحياةُ الطيبةُ؟

.. ليستِ الحياةُ الطيبةُ حياةَ الرفاهيةِ، ولكنهَا حياةُ الشاكرينَ في السراءِ الصابرينَ في الضراءِ، وقدْ قالَ صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) رواه مسلم.

 ولو نظرنا لِسِيَاقِ الآياتِ سنجدُ قولَهُ تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ • مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[سورة النحل]، فبالصبرِ والشكرِ تطيبُ الحياةُ، ولنا في أنبياءِ اللهِ أسوةٌ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.

المصدر