الحمدُ للهِ الذي خلقَنا من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منها زوجَها وبثَّ منهُمَا رجالًا كثيرًا ونساءً، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ النبِيينَ وخاتمِهم، والذي شاءَ اللهُ أن تكونَ رسالتهُ الخاتِمة؛ ليُحقِقَ من اتَبعَهَا مُرادَ اللهِ من قولهِ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة]
يتساءلُ بنو آدمٍ أو بعضهُم عن سِرِ دُخولِ أبيهِم الجَنةَ، وقد كانَ مخلوقًا للأرضِ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}!
ولماذا خرجَ بعدَ توبتِهِ؟
ولماذا خرجنَا ونحنُ لم نأكُل؟ ما ذنبُنَا؟
وننطلِقُ معًا بإذنِ اللهِ إلى بساتينِ التدبُرِ؛ لعلنا نخرجُ من صحراءِ الحَيرةِ، ونأخذُ من كلامِ ربِنا قَبسًا نجدُ بإذنِ اللهِ فيهِ الهُدى، ويطوفُ الكلامُ حولَ محورَين:
١- المآلُ بالاختيار.
٢- التهيئةُ للاختبار.
المحورُ الأولُ: الهبوطُ بالاختيار:
لو شاءَ ربُنَا لجعلَ آدمَ في الأرضِ يُكابِدُ المشقةَ ابتداءً، ولكن شاءَ ربُ العالمينَ بحكمتهِ أن يكونَ الهبوطُ إلى الأرضِ نتيجةَ اختيارِ الإنسانِ، وإنَّ اللهَ إذا أرادَ شيئًا هيأ لهُ أسبابهُ، فأوجدَ اللهُ آدمَ في الجنةِ، وابتلاهُ بالنهيِّ عن الأكلِ من الشجرةِ، وبيَّنَ لهُ ربُنَا أمورًا:
١- النهيُّ الذي لا لَبسَ فيهِ ولا تأويل: {وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [سورة البقرة].
٢- عداوةُ الشيطان: {فَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} [سورة طه].
٣- احتماليةُ الخُروجِ من الجنةِ بسببِ الشيطان: {إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰٓ} [سورة طه].
فكانَ السبيلُ واضحًا، ولذلكَ ناداهُمَا ربهُمَا بعدمَا وقعت المعصية: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة الأعراف]، فهذا آدمُ عليهِ السلامُ قد اختارَ مصيرهُ الذي أرادهُ اللهُ لهُ، وقالَ ربنا: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ}، وهكذا يختارُ كُلُ إنسانٍ دربهُ، وكما أن الخروجَ من الجنةِ كانَ نتيجةَ أفعالٍ اختياريةٍ، فكذلكَ المصيرُ في الآخرةِ.
المحورُ الثاني: التهيئةُ للاختبار:
لا بُدَ أن يكونَ هذا المخلوقُ الوافِدُ على الوجودِ مؤهلًا لاختبارِ الاستخلافِ، وبعدَ العلمِ بالأسماءِ تكونُ التهيئةُ بالتكليفِ والابتلاءِ، فدخلَ الجنةَ، واختُبِرَ بالنهيِّ، وابتُليَ بالخروجِ، فجاءَ إلى الأرضِ مُحملًا بدروسٍ وعبرٍ تنفعهُ وتنفعُ ذُريتَهُ ليتزودُوا بها في رحلةِ الحياةِ الدُّنيا عسى أن يجدُوا فيها زادًا لأُخراهُم، والآنَ نقِفُ على ضِفافِ قصةِ البدايةِ لعلنا نقفُ على المقصدِ والغايةِ، ولا نزعُمُ إحاطةً بالدروسِ المُستفادة، واللهُ يُكرمُ من شاءَ بالزيادة:
١- سِعةُ المُباحِ معَ وجودِ الحرام:
إن العبوديةَ من لوازمِ المخلوقيةِ، ومن كانَ لهُ الخلقُ، فلهُ الأمرُ، ولا يتركُ اللهُ الإنسانَ بلا أمرٍ ونهيٍ يُصلحُ حالهُ، وستكونُ ثمةَ محظوراتٌ بينَ طُوفانٍ من المُباحاتِ، فليحذرِ الإنسانُ من فتنتهِ بالممنوعِ، وليرضَ بالكثيرِ المُتاحِ، وهذا نجدهُ ظاهرًا في قولهِ تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة].
٢- وجُوبُ الامتثالِ وإن غابتِ الحكمة:
قالَ تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، ولم يُرِد ذِكرُ الحِكمةِ من النهيِّ، وكانَ على آدمَ عليهِ السلامُ أن يمتثِلَ، وأن يوقِنَ بحكمةِ ربهِ ولا يُصدِقَ الشيطان، وقد ظهرت بالفعلِ آثارُ المعصيةِ؛ إذ تسببَ الأكلُ من الشجرةِ بظُهورِ السوأة.
وقد زعمَ اليهودُ في سِفرِ التكوينِ أن اسمَ الشجرةِ معرفةَ الخيرِ والشر، وأن آدمَ بأكلهِ منها انفتحَت عينهُ، ومن ثُم علمَ أنهُ عريانٌ وسعى وزوجَهُ للسترِ، وهذا ما لم يُردهُ الرب، ولا شكَ أن هذا مُخالفٌ للقُرآنِ الذي يُثبتُ وجودَ لباسٍ ما لآدمَ وزوجهِ، قالَ تعالى: {يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَٰتِهِمَآ}[سورة الأعراف]، وقالَ جلَ وعلا: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ • إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ}[سورة الأعراف].
٣- ولا تتبِعُوا خُطواتِ الشيطان:
الشيطانُ يُزينُ الباطِلَ، وقد استمعَ لهُ آدم، وكانَ هذا بدايةَ الزللِ، ومن ثُم فليتذكر آدمُ قولَ ربهِ: {إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ}، ولتتذكر ذُريتهُ قولهُ تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، والذي قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا}، هو سبحانهُ الذي قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وهو سبحانهُ الذي قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
٤- إنهُ هو التَّوابُ الرحيم:
وبعدَ أن تبيَّنَ الرُشدُ مِن الغيِّ، ويكونُ الإنسانُ على بينةٍ من أمرهِ، لم يعد هُناكَ عذرٌ، ولكن ماذا لو ضَعُفَ الإنسانُ ونسي؟
– ربُ العالمينَ توابٌ، يبسطُ يدهُ بالليلِ لِيتوبَ مُسيءُ النهارِ، ويبسُطُ يدهُ بالنهارِ ليتوبَ مُسيءُ الليلِ، وقد عصى آدمُ عليهِ السلام، وتابَ ربُنا عليه..
قالَ تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة]، فلا ييأسُ إنسانٌ من رحمةِ ربهِ، ولكن إن سقطَ في شِباكِ الشيطانِ، فليعترِف وليتُب، ولا يكونُ مستكبرًا كإبليس، ولكن ليكُن كأبوينا إذ قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف].
٥- تحمُلُ التبعاتِ مع التوبة:
تابَ اللهُ على أبِينا، ولكن أنزلهُ إلى الأرضِ، قالَ تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ• قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [سورة طه] فلا يظُن عبدٌ أنهُ بتوبتِه لن يُبتلى، ولا يظُننَ تائبٌ أن الابتلاءَ دليلٌ على عَدمِ قَبولهِ، ولكن ليُصِرَ الإنسانُ على توبتِهِ، وليحتسب الأجرَ إن ابتُلي، ولا يزيغُ قلبُه بعد أن تابَ وأناب.
٦- امتدادُ الأثَرِ عبرَ الأجيال:
هبطَ آدمُ، وهبطت ذُريتُهُ، وقد تابَ اللهُ على آدمَ ولم تحمِل الذَنبَ ذُريتُهُ، فليعلم الإنسانُ أن قرارهُ قد يُؤثِرُ على الأبناءِ، وليعلمِ الأبناءُ أنهم قد يُبتلونَ بسببِ فعلِ الآباءِ، ابتلاءً لا عقابًا، وهُم مخيرُونَ في اختيارِ السبيلِ، قالَ تعالى: {قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ • وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة].
الخُلاصة:
قصةُ البدايةِ ليست قصةَ شخصينِ كان من نسلهِمِا جميعُ البشرِ فحسب؛ بل هي سِراجٌ يُضيءُ للناسِ طريقهُم، فالحمدُ للهِ الذي أسكنَ أبانا الجنةَ ولم يجعلهُ في اختبارهِ الذي خُلقَ لهُ ابتداءً، ونسألهُ سبحانهُ أن يُعيننَا على ذكرهِ وشُكرهِ وحُسنِ عبادتهِ حتى نسكُنَ جنةَ الخُلدِ التي وُعدِ المتقونَ، والحمدُ للهِ الذي هدانَا لهذا وما كُنا لنتهديَ لولا أن هدانَا الله.