الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ المُنزَّهِ عنِ العبَثِ والذي أحسَنَ كُلَّ شيءٍ خلَقَهُ، والصّلاةُ والسّلامُ على من جاءَنا بالحقِّ وكانَ خَيرَ مَنْ عَبَدَ اللهَ وصَدَّقَه.
يَزعُمُ البعضُ وجودَ فوضى في الكون وعَشوائيّةٍ تدُلُّ على غيابِ الإرادةِ والتّدبيرِ ومِن ثُمَّ الخالقِ، ودِلالةُ ذلكَ أنَّ الأرضَ هي الكَوكبُ الوَحيدُ الصّالحُ للحياةِ، وقيلَ إنَّ تلكَ “المعلومةَ البَديهيّةَ” تَهدِمُ حُجّةَ الضَّبطِ الدّقيقِ التي يتَشدّقُ بها المُؤمنونَ!
وفي هذهِ الكلماتِ بإذنِ اللهِ تعالى نُفكِّرُ بصوتٍ عالٍ لعلّنا نُسَلِّطُ الضوءَ على بعضِ المُخادَعاتِ في هذا الطَّرْحِ، وذلكَ بافتِراضِ صحّةِ الافتراضِ وهَدمِ دِلالاتِهِ المَزعومَةِ، ثُمَّ كَشفِ حَقيقةِ الأمرِ بإذنِ اللهِ، ونَتناولُ معًا الأمرَ مِنْ خلالِ خمسَةِ مَحاورَ:
١- هل فَوضَى الكونِ تَدُلُّ على غِيابِ الإلهِ؟
٢- هل فَوضى الكونِ -إنْ وُجِدَت- تُعَدُّ عَبثًا؟
٣- عدَمُ العِلمِ ليسَ عِلمًا بالعَدَمِ.
٤- الفَوضى بينَ الحقيقَةِ والخَيالِ.
٥- فلِماذا هذا الاتِّساعُ؟
ونستعينُ باللهِ تعالى، وما كانَ مِنْ تَوفيقٍ فمِنْ ربِّنا الذي قالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}، وما كانَ مِنْ زلَلٍ أو نِسيانٍ، فمِنَ النفْسِ والشّيطانِ.
المِحوَرُ الأوّلُ: هلْ فَوضى الكَونِ تدلُّ على غِيابِ الإلهِ؟
أنتَ الآنَ في قَصْرٍ كبيرٍ، بلْ في غُرفَةٍ قدْ أُعِدَّتْ لكَ، وفيها ما تَحتاجُهُ للمُكوثِ والرّاحةِ، فوَقفْتَ على بابِ الغُرفَةِ، فوجَدْتَ القَصرَ كأنّهُ مَهجورٌ، ولم تَجِدْ بَقيَّةَ ما انتهى إليهِ بصَرُكَ يشبِهُ ما في الغُرفَةِ، فهلْ يَعقِلُ أنْ تقولَ: ليسَ هُناكَ مَنْ جهّزَ الغُرفَةَ بل ليسَ للقصْرِ مالِكٌ أو مُشَيِّدٌ؟
هذا لا يَستقيمُ، وأَعجَبُ منهُ أنْ ترى إتقانَ الأرضِ وطبَقاتِها، وإحاطةَ الغلافِ الجَوِّيِّ بها، ونباتًا يَخرُجُ منَ الأرضِ بعدَ نُزولِ الماءِ مِنَ السُّحُبِ إلى التّربةِ، فيُخرِجُ ثمَرًا متاعًا للمَخلوقاتِ التي وُجِدَتِ الأرضُ مُهيّأةً لاستِقبالِها.
الحياةُ على الأرضِ وبَديعُ ما نرى في أنْهارِها وبِحارِها وجِبالها وفِجاجِها، وما نراهُ في أنفُسِنا والكائناتِ مِنْ حَولِنا كافٍ لإثباتِ وجودِ الخالِقِ، قالَ تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ • وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[سورة الذاريات].
المِحوَرُ الثّاني: هل فوضَى الكونِ -إنْ وُجِدَت- تُعَدُّ عبَثًا؟
قد يُسارِعُ البعضُ في الجَوابِ قائلًا: نَعم.. الفَوضى في الكونِ تدُلُّ على العبَثِ!
ولكِنْ بعدَ عِلْمِنا بالدِّلالةِ القاطِعَةِ لنظامِ الأرضِ والحياةِ فيها على وُجودِ خالِقِها -ولا يُنكِرُ ذلكَ عاقِلٌ مُنصِفٌ- فقد نفكِّرُ في احتِمالاتٍ أُخرى.
فرُبّما أرادَ الخالِقُ أنْ نَستَشعِرَ نِعمتَهُ وكيفَ هيَّأَ كوكَبَنا للحياةِ في كَونٍ تَموجُ بِهِ الاضطِّراباتِ، واللهُ يَحفظُنا ويُبقِي على الحياةِ في أرضِنا، ولو شاءَ لأهلَكَنا بذُنوِبنا، وقدْ قالَ سبحانَه: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَةً لِّكُلِّ عَبْدٍۢ مُّنِيبٍۢ}[سورة سبأ].
ولا يستطيعُ أنْ يَعترِضَ مُعتَرِضٌ بأنَّ الأمرَ يَسيرُ بقوانينَ؛ لأنّهُ بذلكَ يَستدِلُّ بالضَّبطِ الذي يُريدُ نَفيَهُ، كما أنّهُ منَ المَعلومِ أنَّ مَنْ أوجَدَ القانونَ يستطيعُ تَعطيلَهُ، بلْ يستطيعُ أنْ يُهلِكَ بهِ مَنْ شاءَ، وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
– وما سبَقَ كانَ تَنَزُّلًا وسَيرًا معَ الافتِراضِ، وفيما يَلي سيكونُ الاعتِراضُ.
المحوَرُ الثّالِثُ: عدمُ العِلمِ ليسَ عِلمًا بالعَدَمِ:
لماذا لا يكونُ لمالِكِ القَصْرِ حكمَةٌ فيما يَبدو للزّائِرِ أنّهُ فَوضى؟
أليسَ منَ المَنطِقيِّ أنْ يتَوقّفَ الزائرُ، ويسألَ صاحِبَ القصرِ لماذا لم تَجعَلْ بَقيةَ القَصرِ كتلكَ الغُرفَةِ؟
ورُبّما لو فعلَ الزائرُ لَظهَرَتْ لهُ حِكمةٌ خُفِيَت عليهِ، وإنَّ عدَمَ العلمِ بالحِكمَةِ لا يَعني عدَمَها، وكذلكَ الأمرُ معَ الكَونِ، فَعدَمُ عِلمِ البعضِ بالحِكمَةِ ممّا يَظنّونَهُ فوضَى لا يُسَوِّغُ لهمُ الجَزمَ باعتِقادِ الفَوضى وعدَمِ الجَدوى، كما أنَّ هذا الاعتقادَ يُلغي بابَ التّفكُّرِ والتأمُّلِ، فالبحثُ في البحثِ في العَبدِ أشَدُّ عبَثِيَّةً بينَما يقولُ ربُّنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، فيظَلُّ أمامَ المؤمنِ فعلُ {سنُريهِم} دافِعًا لمزيدِ تأمُّلٍ وتَفَكُّرٍ بعيدًا عن زَعْمِ مَن جزَمَ بما ليسَ لهُ بهِ عِلمٌ.
المحوَرُ الرّابعُ: هلِ الفَوضَى حقيقةٌ أم خيالٌ؟
يظُنُّ النّاسُ أنَّ ما يحدُثُ من انفِجاراتٍ في الكَونِ يُعَدُّ فَوضى لا فائدةَ منها، ولكنْ ليسَ كلُّ شيءٍ يكونُ على ما يَبدو مِنْ ظاهِرِهِ، والاستفاضَةُ في ذلكَ يَضيقُ عنها المَقامُ، ومِنْ ثُمَّ نأخُذُ قَبَسًا ممّا يَظنُّهُ البعضُ فوضَى ونَنظُرُ في حقيقتِهِ..
★ نجومُ السوبرنوفا:
يَحدثُ السوبرنوفا بمَوتِ النّجمِ في انفِجارٍ عِملاقٍ حيثُ تَتَشتّتُ كلُّ مادَّتِهِ وطاقَتِهِ في مَوجَةٍ هائلةٍ جدًّا تَمُرُّ عبرَ الفَضاءِ المُحيطِ بهِ.
وهذهِ الانفجاراتُ الضَّخمةُ تتَّصِلُ جَوهرِيًّا بوُجودِنا ككائناتٍ حَيّةٍ على الأرضِ؛ لأنَّ كُلَّ العناصِرِ مِنْ كربون C ونيتروجين Nوأوكسجين O وحديد Fe..إلخ تُصنَعُ في تلكَ الأفرانِ النّوويّةِ الموجودَةِ في باطنِ النّجومِ. فبِمَوتِ النّجومِ تولَدُ الحياةُ.
لنَحصُلَ على كونٍ يُشكِّلُ بِناءً مُناسِبًا لوجودِ الحياةِ، فيَجبُ حدوثُ وَمَضَانِ النُّجومِ المُنفجِرَةِ بِنِسَبٍ دقيقةٍ جدًّا، وبمسافةٍ معتَدِلَةٍ فيما بينَها، بل وبمسافَةٍ مُناسِبَةٍ بينَ كُلِّ النّجومِ.
كما أنّهُ لا بُدَّ مِن ضبط ٍدقيقٍ جدًّا لمُستوياتِ الطّاقةِ الذّرِّيةِ، ولولا ذلكَ الضبطُ لَما وُجَدَ الكربونُ والأكسجينُ اللازِمَينِ لبناءِ الحياةِ.
إذا أُريدَ للكونِ أنْ يَكونَ مكانًا للحياةِ، فعِندئذٍ يجبُ أنْ تَحدُثَ الضّربَةُ السّريعَةُ -السوبرنوفا- بمُعدَّلٍ دقيقٍ جدًا، ويجبُ أنْ يكونَ متَوَسِّطُ المَسافَةِ بينَهُما -وفي الحقيقةِ بينَ كلِّ النُّجومِ- قريبًا جدًّا منَ الرّقمِ المُشاهَدِ فعلًا في الكونِ. كذلكَ وَفْرَةُ نجومِ السوبرنوفا أمرٌ ضَروريٌّ لوجودِ النِّظامِ الشّمسِيِّ، ووفرَةِ الحياةِ على كوكبِنا.
لو كانَ ثوَرانُ نجومِ السوبرنوفا قريبًا جدًّا، فإنَّ الإشعاعَ سَيُبيدُ الحياةَ، وإنْ كانَ بعيدًا جدًّا، فإنَّ القليلَ جدًا منَ الرّمادِ سيكونُ مُتاحًا للكواكِبِ الصّخريّةِ لتَتشكَّلَ، وإنْ كانَ نادِرًا فنَفْسُ النّتيجَةِ، وإنْ كانَ مُتَكرِّرًا بكَثرَةٍ فإنَّ الإشعاعَ سَيُبيدُ الحياةَ، وكذلكَ في الوقتِ لا يكونُ قريبًا جدًّا أوْ بعدَ فواتِ الأوانِ.¹
والحديدُ ليسَ مَعدِنًا أرضيًّا إذْ يأتِي مِنْ جَوفِ النّجومِ العِملاقةِ (المُسْتَعِرُّ الأعظَمُ) عندَ نهايَةِ دورَةِ حياتِها.
وغيرُ ذلكَ ممّا يَضيقُ المَقامُ بهِ، وليسَ مِنَ السَّديدِ إغلاقُ بابِ التّفكُّرِ والبحثِ رُكونًا إلى الجَهلِ.
المِحوَرُ الخامسُ: فلماذا هذا الاتِّساعُ؟
وهُنا قد يُثيرُ البَعضُ سؤالًا: لماذا كلُّ هذا؟
لماذا لا يَخلُقُ اللهُ أرضَنا بِما فيها مِنْ ضَبطٍ دونَ أنْ يَخلُقَ مَجرّاتٍ ونُجومًا تَخدُمُ الحياةَ على تلكَ الأرضِ؟
وهُنا يكونُ الجَوابُ مِن وَجهينِ:
١- في عِظَمِ حجمِ الكَونِ وتناغُمِ مَوجوداتِهِ رَغْمَ ظنِّ الفَوضى ما يَدلُّنا على عَظَمةِ خالقِهِ وحِكمَتِه تعالى، وفي تفَكُّرِ العبدِ في هذا الكَونِ الفَسيحِ ما يَحمِلُهُ على التّواضُعِ والخُضوعِ لرَبِّهِ مُعترِفًا بقَدْرِهِ.
٢- يقعُ المُتسائِلُ هُنا في إشكاليّةِ قياسِ أفعالِ اللهِ على أفعالِنا، وكأنَّ ربَّ العالمينَ يُنفِقُ مِنْ موارِدَ مَحدودةٍ، وأنَّ حُسنَ التّدبيرِ يَقتَضِي أكبرَ عمَلٍ بأقلِّ قَدرٍ مِنَ الموارِدِ، وهذا أمرٌ مَعلومُ البُطلانِ بَداهةً، وقدْ جاءَ في الحديثِ: (يدُ اللهِ ملْأَى لا يُغِيضُها نَفَقَةٌ، سحَّاءُ اللَّيْلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفَقَ منذُ خلَقَ السماواتِ والأرضِ ؟ فإِنَّهُ لم يَغِضْ ما في يدِهِ) [رواه البخاري]، وجاءَ في الحديثِ القُدُسيِّ: (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)[رواه مسلم].
وخلاصةُ القَولِ أنَّ الفَوضى المَزعومةَ إنِ افترَضْنَا وُجودَها فهيَ لا تَنفي وُجودَ الخالقِ كما لا تَدلُّ على عبَثٍ، ولكِن يبقى مَوقِفُ التّشكيكِ في الحِكمَةِ مِنْ أحداثِ الكونِ رُكونًا إلى الجهلِ وتوَقُّفًا عنِ البحثِ والتّفكُّرِ الذي يُفضِي عندَ التَّدقيقِ للإقرارِ بأنَّ ما يحدُثُ في الكَونِ ليسِ فوضَى ولا عبثيّةً، وإنّما هوَ مِمّا يَخدُمُ الحياةَ على الأرضِ، وأنَّ خَلْقَ الكونِ الفسيحِ ليسِ يُعجِزُ اللهَ، وهوَ على ربِّ العالمينَ هَيِّنٌ، ومعرفةُ ذلكَ يُخبِرُنا عن عظَمَةِ ربِّنا وكمالِ قُدرَتِهِ وسِعَةِ علمِهِ سُبحانَهُ.
قالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[سورة الطلاق].