تعزيز اليقين وهداية الحيران

كيف نجمع بين إرادة الله الشاملة، وإرادة المخلوق؟

الحمدُ للهِ ذو الكمال المُطلق، خالِق المُكلفينَ بعقولٍ مُدرِكة، من عزّت ذاتهُ عن الإحاطة وعلمه مُحيط، والصلاة على النبيِّ الأكرم، وآله وصحبه وسلَّم، أما بعد:

فإن مسألةً كمسألة الجمع بين إرادة الله الشاملة وإرادة المخلوق، من أهم المسائل التي كَثُر فيها اعتراض المتشككين إذ قالوا: كيف نجمع بين إرادة من شَمِلت قُدرته كل شيء ولا يخرج عن مشيئته شيء، وبين إرادة المخلوق؟ وإذا كانت إرادته شاملة ولا يخرج مخلوق عنها، فكيف يصح بناءً على ذلك أن يكلف الإنسان بالتكاليف الشرعيَّة ويُقرر عليها الجزاء والعقاب؟

وحقيقةً، فإن مثل هذا (التعارض الظاهر) قد أوهم كثيراً منهم أن الجواب لا يخرج عن اثنين:

أولاً: إما أن العبد مجبورٌ على أفعاله، إذ لا يُمكن أن يخرجَ عما اقتضتهُ مشيئة الله عليه، فسيكون عقابه بذلك منافياً للعدل.

ثانياً: أن يكون العبد حُرًا في أفعاله، فيُمكنه بذلك الخروجُ عما اقتضته مشيئةُ الله، فينسبُ بذلك العجز له -عز شأنه-.

والحق أن كلا الجوابين فاسد؛ لاستلزامهما سوء التصور لصفاته -عز وجل- ما بينَ نسبة للظلم وأخرى بالعجز، ونحنُ نعلم أن أحقيتهُ تعالى بصفات الكمال تُقِره بداهة العقول؛ إذ كُل صفة كمال قد تثبُت للمخلوق، فالخالق أولى بإثباتها له؛ لكونهِ -عزَّ شأنهُ- خالقًا قديمًا واجبًا، والمخلوق مُحدَثٌ مُمكن [١]، فمن كان مخلوقاً مُفتقراً فإنه سيكون تابعاً لمن خلقه، وهذا هو الأصلُ لا مِراءَ فيه -عقلاً وبداهة-، فكيف نجمعُ بناءً على ذلك بين الإرادتين (الإلهيَّة والإنسانيَّة) بما يضمنُ سلامة الاعتقاد لله -عزَّ شأنه- بكمال الصفات، وللمخلوق بحقيقة الإرادة؟

وهذا ما سنتناولهُ بالتحليل في مقالتنا هذه بإذن الله.

وقبل ذلك، لابُد أن نقف ابتداءً على منطلقاتٍ أساسية، تُعتبر بمثابة (الأصول) التي ينبغي استحضارها عند قراءة جواب المسألة [٢] :

الأوَّل: تمام علم الله وقُدرته وتدبيره -عزَّ شأنه- لكل ما هو موجود؛ إذ تعتبر صفةً لصيقةً بذاتهِ لا يمكن انفصال ألوهيته عنها؛ لكونه المصدر الأوَّل والأساس لكل حدثٍ يجري في الكون؛ بحُكم خلقه له، وأفعال العباد -بذلك- لا تخرجُ عن هذه الكُلية؛ لأن ما ثبت للأصل ثبت للفرع، وما ثبت للجُزء ثبت لكل الأجزاء المُشابهة له.

الثاني: غيبية علمِ الله ومشيئته؛ إذ يُعتبران سرًّا من الأسرار الإلهيَّة بعيدة الأغوار، مُستحيلة الإدراك والإحاطة لمخلوقٍ أبداً؛ لكونها مملوكةً أساساً لهذا الخالق الواهب، فلا يصح في العقل أن يُحدِّد الإنسان فيها شيئاً البتَّة؛ لانطوائها على الغيب الذي لا يملك له علماً.

الثالث: مبدأ السببية، فكل شيءٍ في الوجود قد ربطه الخالق -عزَّ شأنه- بأسبابٍ خاصةٍ به لا يتحصل علم شيءٍ إلاَّ بها؛ إذ جرت سُنة الله تعالى الكونيَّة على الترابط السببي بين أحداث الكون دون استثناء، فكما أن أحداث الدنيا تجري بأسبابٍ معلومة محددة، فكذلك بالنسبة لأحداث الآخرة، لا تحصل إلا بأسبابٍ معلومةٍ محددة، فكل مصيرٍ لابد وأن ينطوي مسبقاً على أسباب راجعة لفعل الإنسان؛ لتتعلق به المثوبة أو العقوبة.

الرابع: إرادة الإنسان الحُرة، وهذا شعورٌ صادقٌ ومحسوسٌ عند كلِ نفسٍ عاقلة، تعلم الفرق بين ما يكون منه اضطراراً كنبض القلب وارتعاش البدنِ، أو السقوط من علو، وما يكون اختياراً كالأكل والشرب والبيع والشراء وما شابه ذلك، لذلك جاءت النصوص الشرعية مُدركة لعلم الإنسان بهذه الحقيقة، فحددت التكاليف وأرست القواعد بناءً عليها.

الخامس: عدلُ الجزاء المُقرر للإنسان (خيراً أم شرًّا)، فإذا كان مُدركاً متعقِّلاً لحقيقة كونهِ حُر الإرادة، فإن ما ينطوي على ذلك من أفعالٍ تصدر برغبته الخاصة سيُحاسَب عليها حساباً عادلاً، أما ما خرجَ عن قصدهِ ورغبتهِ -جهلاً أو نسياناً أو خطأً- فذلك مما قد وسعهُ عفو الرحمنِ وغُفرانه.

السادس: إقامة الحُجة، فعلى كون الإنسان حُر الإرادة، إلا أن الهداية الإلهيَّة العامة (هداية البيان والدلالة والإرشاد) ثابتة ومُستقرة لكل العالمين، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى: ٥٢)، وقال عزَّ شأنه:﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (النساء: ١٦٥)، فقد أنار لهم الطريق وأبان الحق وأوضحَ الحجة، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الأدلة؛ ليُرشد النَّاس إلى الهداية، ويُميزها عن سبيل الغواية.

هذا أبرز ما يتعلَّق بأصول المسألة، ولا يخرجُ القارئ لها عن حالين:

١. إما أن يُدركها إدراكاً يتجلى به غموض المسألة، ويُبين لعقله فساد تصور ظُلم الله للعباد بتكليفهم مالا يطيقون.

٢. وإما أن يعجز عن تصور ذلك؛ لقصر عقله، فهذا قد أوجب على نفسه التسليم والخضوع للكمال الإلهي؛ لكونها مسألة عقلية بدهية لا تُعارَض، فكما أن الإنسان قد يُسلمُ لكثيرٍ من القضايا التي يراها مُلغزة، فتسليمه للذي خلقه وميزه بالإدراكِ أولى: “حملاً للمتشابه على المُحكم، وقياساً للأمر الغامض على الواضح الجلي، فهذا نهجُ العقلاءِ وسبيلهم في النَّظر والاستدلال والبناء للآراء والمواقف” [٣] .

أما فيما يتعلق بتفصيل الجواب عن مسألة (الإرادتين: الإلهيَّة والإنسانيَّة)، فسنقف -ابتداءً- على تعريف موجز بمعناها، لنحسن عرض الجواب المُباشر بإذن الله: فباستقراء عام لآيات القرآن، نجد أن الإرادة الإلهية تنقسم في حقيقتها إلى نوعين: إرادة كونيَّة قدريَّة، وإرادة دينية شرعيَّة [٤].

– أما الإرادة الكونيَّة القدريَّة (الشَّاملة): فهي ما تقع على جميع المخلوقات دون استثناءٍ كما أراد الله -عزَّ شأنه- لها، فلا يخرجُ مخلوق عن مُقتضاها ولزومه بها، ككونه -سُبحانه-: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (البروج: ١٦)، وكونه إن أراد أن يُهلك من في الأرضِ أو يُبدِّل حالهم لفعل: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلكَ قَرْيَةً آمَرْنَا مُتْرَفِيها﴾ (الإسراء: ١٦)، وقوله: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ (الأنعام:١٢٥)، وقوله: ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة:٢٥٣)، فهي إرادةٌ يشترك في وجوب وقوعها ولزومها كل مخلوقٍ وموجود [٥] .

– أما الإرادة الدِّينية الشرعيَّة: فهي مالا يستلزم فيها وقوع المُراد، مثل قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: ١٨٥)، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء:٢٦، ٢٨)، فإرادته هنا إرادة رضا ومحبة، تتعلق بكل ما يأمر به عباده المُكلَّفين ممن أوهبهم (حُرية الإرادة) في الطاعة أو المعصية، وفي الفعل أو التَرك، فقد أمرهم بالتوحيد وإخلاص العبادة له، ولا يستلزم من ذلك لزوم وقوعها عليهم؛ بل يرجع إلى فِعل المأمور واختياره [٦] .

هذا بالنسبة لمعنى الإرادة الإلهيَّة، والتي نلخص فيها أن إرادة الله الكونية لابد فيها من وقوع ما أراده؛ لتحقيق معنى الألوهيَّة في كونه (مُطلق) الصفات، من: القُدرة، والسُلطة، والمشيئة، أما إرادته الشرعية والتي تتضمن (المحبة والرضا) فلا يستلزم بها وقوع المُراد، إنما أرجع -عز شأنه- وقوعها إلى فِعل الإنسان نفسه؛ لما ملكه من (حريَّة الإرادة والاختيار) والتي عليها يكون ثوابه وعقابه في الاتباع من دونه.

أما بالنسبة لإرادة المخلوق: فهي إرادة حُرة محدودة لا تستقلُ عن إرادة ومشيئة وقُدرة الله –عزَّ شأنه-، بمعنى أنها ترجع في مُلكيَّتها -أصلاً- إلى واهبها، فإن شاءَ أبقاها وإن شاء نزعها، وقد وهبها للمكلفين (من الإنس والجن)؛ لغايةٍ كُبرى تتمثل في عبادتهِ وإخلاص العمل له، وتحقيق الخلافة في الأرض وإعمارها: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: ٥٦)، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: ٦١)، فهي إرادةٌ حُرة تستلزم إثابة الله للمُحسن فيها أو عقاب المُسيء: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة:٧-٨).

  • التصور الوسطي لمعنى الإرادتين:

مما سبق، نجد أن أصل الإشكال هو في مشيئته -عزَّ شأنه- الشاملة، ولعل السؤال الأبرز هو: ما حدود دخول الإنسان حُرِّ الإرادة فيها؟ وهل يمنع ذلك (تمامَ استقلاليته)؟

والجوابُ الحق فيها هو (التوسُّط)، بمعنى: أن نُقر للهِ ما قد أقره للإنسان من وجود الإرادة الحُرَّة: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: ٢٩) وإقرارهِ للجزاء عليها: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾ (الكهف:٢٩)، وفي ذات الوقت نُقر قدرة الرحمن على نزعها إن شاء وإثباتها إن شاء كذلك: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (التكوير:٢٩)، وفي هذا الجواب تمييزٌ بين أمرين:

١. الأصل: في كونه -عزَّ شأنه- مُطلق الفِعل والإرادة، إن شاءَ وهَب وإن شاء منع: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ (فاطر: ٤٤).

٢. التابع: في كون الإنسان لا يخرج عن هذه المشيئة إن شاء -صاحبها سُبحانه- تخييره أو إجباره: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ٩٩).

كيف نعالج هذا التصور الوسطي لمسألة الجمع بين الإرادتين؟

بتفصيل المسألة، نجد أن مشيئة الإنسان ثابتة ومقررة بإثبات خالقها لها، وأن محدوديتها ترجع إلى كونها “مخلوقة” أصلاً لله، ومن لوازم ألوهيته -عزَّ شأنه- أن يكون مطلقاً في صفاته، وما دونه مما خلق لا يخرجُ عن قُدرته، ولا ينسب له عجزٌ أو سهوٌ أو غفلة فيما يتعلق بهم، وما تدبيرهُ لبعض الأمور التي تخرجُ غالباً عن تدبير البشر إلا ضماناً لسلامة الكون واستمراريته، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: ٢٥١)[٧]، وقد ذكر سبحانه فضله عليهم هنا؛ لأن الأصل في هذا أن التدافع الناجم عن الإرادة الحُرة مُتعارضٌ بين طرفي (الخير، والشر)، فجعل الله في تدافعهما وإذنه بذلك بينهما ضماناً لاستمرارية الأرض التي أُعِدت كدار امتحانٍ لأهلها، فلا تفنى بشرٍ مُطلق (كحال الكفار) إلاَّ بأمر الله الذي خلقها: ﴿حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (آل عمران: ١٧٩).

وفي الاعتقاد الوسطي نجد أن الأصل هو كفالة الله للإنسان حُرية الاختيار التام لطريق الهُدى أو الضلال، وبناءً على ذلك يُيَسر له سُبحانه (لوازم) هذا الطريق (كما سبق من ذِكر التدافع)، فهو يهدي هداية عامة ويقيم الحُجة، ثم يكون اختيار الإنسان حُرًا بحيث يتحمل معه نتائجه؛ لإقامة العدل في الحسابِ فيه، فإن عَلِم أن في هذا الإنسان خيراً هداهُ هداية خاصَّة، وإن علم فيه شرًّا أتاهُ ممَّا يستحق، قال سُبحانه: ﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: ١٤٥)، وقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ (محمد: ١٧)، هذا فيما يتعلَّق بـ (المشيئة الشرعيَّة)، وما عدا ذلك من (المشيئة الكونيَّة) فإنه محدود القُدرة حتى يأذن الله بالتدبير فيه: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (التكوير: ٢٩) سواءً فيما يتعلقُ بالإنسان خاصة أو بالكون ككُل، فحُريته وما يلزم منها وإن كانت هبة منه -عزَّ شأنه-، إلا أنها لا تُوازي في حقيقتها صفاتَ خالقها أو تُعارضها في شيءٍ مُطلقًا؛ بل تدور في فلكٍ بإذن الله وتدبيره لما يراهُ أصوبَ وأحكم.

بناءً على ذلك يكون الردُّ على ما صدَّرنا من فرضية المتشكِّكين، بأن غاية خلق الإنسان التي جُعل فيها خليفة في الأرض تُحتِّم عليه أن يكون حُرَّ المشيئة فيها، وهذا أمر يُدركه العاقل في قرارة نفسه، ويعلم أن إضافة فعله لخالقه سُبحانه هو باعتبار مشيئته وقُدرته -أي: أنَّ الله شاء أن يجعل له مشيئة ولفعلهِ وجوداً، ولو أراد لنزعها منه-، وأن إضافتها إليه -أي: إلى العبد نفسه- إضافة فاعلٍ لها حقيقة [٨]: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (فصلت: ٤٦)، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: “الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد، بمعنى أنها قائمة به، وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها المتحرك بها، الذي يعود حكمها عليه” [٩].

وبذلك يتبيَّن -تلخيصاً لما سبق- أن الانحرافَ الواقعَ في هذه المسألة كان نتيجة الجمعِ بإطلاق أو التفريق بإطلاق[١٠]، والأصوب أن يُجمع بينهما في (الثبوت والإيجاد) ويُفرَّق في (المحدوديَّة والإطلاق)، فمشيئةُ الله وإرادته مُطلقة؛ لعلَّة الأزليَّة فيه، بينما مشيئة الإنسان وإرادته محدودة بما وهبَ ذلك المُطلِق وأذِنَ به -عزَّ شأنه-؛ لعلَّة الإمكان فيه، فلا يستقل المخلوق بها استقلالاً يظن به عجزَ الله عن مدافعته، ولا يُجبر إجباراً يظن به أنهُ مظلومٌ في مصيرهِ الأخروي، لما سبقَ بيانه من أدلة.

هذا، وأسألُ الله أن يُنير بالحقِّ البصائِر، ويثبِّتنا بالقول الثَّابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة.

المصدر