منهج القرآن الكريم في الرد على الملاحدة
بقلم: د. عبد الصادق الرقيبي
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، الهادي من يشاء إلى صراطه المستبين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، وبعد: فهذه صفحات في عرض ما اهتديت إليه من منهج القرآن الكريم في الرد على الملاحدة، أقدم له بتعريف للإلحاد وأنواعه وأسبابه وعواقبه، فعلى الله التكلان وهو المستعان.
الإلحاد وأنواعه:
يعرف الإلحاد عموما بأنه إنكار وجود الله، ويتفرع عن هذا نفي خلقه للخلق وإفنائه إياهم وبعثه لهم بعد الفناء، وإنكار رسالاته ومعجزات رسله، وهو ما عبر عنه بأنواع الإلحاد، نذكر منها:
الإلحاد في أسماء الله: فمن أنكر وجود الله، لا غرو ان ينكر أسماءه أو يلحد فيها بالنفي أو التحريف…، قال تعالى مشيرا إلى أصحاب هذا النوع {ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}.[1]
إنكار الغيبيات: انطلاقا من الفكر والفهم المادي القائم على فكرة ما لا تدركه الابصار والعقول فهو غير موجود، أنكر من أنكر وجود الله وجود الملائكة والجن وغيرهما.
إنكار البعث: وهذا فرع عن سابقه. قال تعالى حكاية عن منكريه{إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين}[2].
إنكار النبوات والرسالات والمعجزات: من الإلحاد عدم الاعتراف بنبوة الأنبياء ورسالة الرسل ومعجزاتهم، وإن لم يكن نابعا من إنكار وجود الله، وفي هذا النوع وقع أصحاب القرية الذين ذكروا في سورة يس بقولهم{وما أنزل الرحمان من شيء ان انتم إلا تكذبون}[3] وبهذا الإنكار اعترف أصحاب السعير{قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان انتم إلا في ضلال كبير}[4]، وعن إنكارهم للنبوات والمعجزات قال الحق سبحانه:
{وإن يروا اية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم}[5]، ومن هذا النوع الإلحاد في القرآن الكريم وذلك بالطعن أو التشكيك فيه كله او بعضه؛ قال تعالى عن أصحاب هذا النوع:{إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا}[6].
أسباب الإلحاد وعواقبه:
لئن كانت هذه بعض أنواع أو صور الإلحاد، فإن له أسبابا وعواقب؛ فمن جملة أسبابه:
ـ النشأة في بيئة لا دينية أو بيئة سابح أهلها في أوهام وخرافات وترهات وأباطيل الشرائع السماوية المحرفة مما يبعث في النفس والعقل انتفاضة بل انقلابا عليها لا يجد منهاجا قويما يوجهه مما قد يحوله إلى إلحاد.
ـ تقديس العقل إلى حد التأليه وتقديمه على النقل، ولو كان العقل وحده كافيا لهداية الخلق لما أرسل الله الرسل وهم بشر عقلاء ولما أنزل عليهم رسالاته، وها نحن نرى ما بلغ البوذيون ـ مثلا ـ في عصرنا من أعلى المراقي في الصناعات الدقيقة أبهرت وتبهر العالم، ثم ما يلبثون أن ينحنوا لبوذا، ولربما يعتبرون ما وصلوا إليه من رقي علمي وعمراني من أفضال بوذا !!، فهل فوق هذه الغباوة العقدية غباوة !!، لم لم يهدهم عقلهم إلى الخضوع لخالقهم مثلما هداهم للرقي التقني؟؟ !!، أليس هذا دليلا كافيا على أن العقل وحده لا يكفي؟.
ـ الانسياق والانجرار وراء وساوس الشيطان وربما تعضيدها وتثبيتها والدفاع عنها، قال عليه السلام” إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَإِذَا أَحَسَّ أَحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ وَبِرُسُلِهِ”[7]، لكن من في قلوبهم زيغ يعتبرون السؤال الأخير منطلقا ينطلقون منه ابتغاء الفتنة لضعاف الإيمان، مع أن الإجابة عن هذا السؤال من السهولة بمكان إذا علمنا أنه لا يمكن الجمع بين صفة الخلق ووصف المخلوقية في واحد؛ فإما أن يكون خالقا فليس إذن بمخلوق، وإما أن يكون مخلوقا فليس إذن بخالق، فلما لم يكن في ذات الله إلا الأول، وذلك ثابت بالبرهان العقلي والواقعي قبل النقلي الشرعي ـ وليس هنا محل بسطه[8] ـ انتفى الثاني وحسمت المسألة.
ـ رغبة بعض الملاحدة غير المعبر عنها في السبح في بحر الشهوات وتزيينها لغيرهم، فينطلقون من نفي مبدأ الثواب والعقاب بعد الموت، المترتب عن إنكارهم للبعث، تطمينا لأنفسهم ولمن سايرهم على العيش في دوابية وبهيمية لا ضوابط فيها ولا حدود،
إلى غيرها من الأسباب والدوافع…، ويبقى السبب الأخير ـ في تقديري ـ أحق وأصدق أسباب الإلحاد، وحيث إن لكل مقدمات نتائج، ولكل منطلقات نهايات وعواقب، فمن عواقب الإلحاد:
*الخروج عن الفطرة التي خلق الله عليها الإنسان وهي الإسلام، وعنه يترتب الحرمان من هدايته. قال تعالى{إن الذين لا يومنون بآيات الله لا يهديهم الله}.[9]
*العيش في ضيق وضنك وتعاسة، أو ما يصطلح عليه بالعذاب النفسي. قال تعالى:{ يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يومنون}[10]، وقوله عز وجل: {ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}[11].
* غلبة الشهوة الغضبية وسيطرة طباع الشر على نفوس كثير من أصحاب هذا التوجه، مما يبعث فيهم الجنوح والنزوع إلى حب الصراع والانتقام، ولعل هذا ما تلمح أو تدعو إليه أو تصرح به أفكار وكتابات بعضهم.
منهج القرآن الكريم في الرد على الملاحدة
لقد نهج القرآن الكريم نهجا فريدا في رده على الملاحدة تمثل في تنويعه أساليب الخطاب والمحاججة والمناقشة لهم قصد تفنيد مزاعمهم وشبهاتهم، والرد عليها ردا قويا واضحا ظاهرا للباحث عن الحقيقة ظهورا يدفعه إلى الاقتناع دفعا، ولا يبقي للملاحدة حجة ولا سندا إلا الإصرار على الجحود والإنكار، من هذه الأساليب نذكر:
الخطاب الفطري الوجداني: يمكن القول أن أول ما انطلق منه القرآن الكريم في رده على الملاحدة تقريره ابتداء حقيقة أساسية أبدية مفادها أن النفس البشرية مفطورة ومجبولة على معرفة بارئها بالفطرة السليمة التي خلقت عليها وهي فطرة الإسلام، وأن هذه الفطرة أبدية لا تتبدل. قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}[12] ، وقال رسولنا الكريم مؤكدا ذلك:(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) [13].
الخطاب والبرهان العقلي المنطقي: سلك القرآن الكريم في بيان العقيدة وترسيخها في النفوس منهجا عقليا متناسقا ومتناغما مع الخطاب الفطري ومكملا له، إذ لم يقتصر في إثبات وجود الله وربوبيته ووحدانيته على مجرد الإخبار بذلك في آيات شتى، وإنما أقام على ذلك براهين عقلية وحججا منطقية ساطعة قاطعة مع اللبس والغموض بمخاطبة الملحدين واستفهامهم استفهاما إنكاريا لا يملكون معه إلا الاعتراف والخضوع أو الإعراض والجحود، فأول ما يطرحون هو نفي وجود الله، لكن القرآن يستفهمهم ردا على إنكارهم وجوده سبحانه وإيجاده للخلق بقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والارض}[14] ، فهل يجرؤون أن يزعموا أنهم وجدوا صدفة؟!، أوهل يجرؤون أن يدعوا أنهم صانعوا هذا الكون؟ !، فلما لم يكن بمقدورهم ادعاء أي شيء من هذا، خاطبهم القرآن بقوله سبحانه: {أفي الله شك فاطر السماوات والارض}[15]،
الادعاء الثاني من ادعاءات الملاحدة وطروحاتهم إنكارهم البعث والحساب، فيرد عليهم القرآن باستفهام إنكاري قوي في قوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}[16]، وقوله أيضا
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [17]
أسلوب الدعوة إلى التفكر في الآفاق والأنفس: دعا القرآن الكريم المنكرين إلى التأمل والتفكر في أنفسهم وذواتهم أولا ثم في الكون أيضا ويمعنوا النظر في الدقة المتناهية والإتقان البديع اللذين يمتاز بهما صنع وتدبير هذين العالمين( عالم الآفاق وعالم الأنفس)، ليدركوا بأنفسهم – إن كان لهم إدراك- أنه يستحيل إطلاقا أن تكون هذه الدقة وهذا الإتقان تلقائيا، بل لابد أن وراء هذا صانعا بديعا عظيما فقال سبحانه بصيغة الاستفهام دائما:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [18]، وقال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[19].
هذا عن الأنفس، أما عن الآفاق فقال{ {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}[20]، وقال أيضا:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}[21] بل فصل القرآن هذه الدعوة باستفهام مطول فقال:{ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [22].
أسلوب التحدي والإعجاز: من طروحات الملاحدة إنكار الوحي والرسالات، فلما كان منهم ذلك، تحداهم الحق سبحانه أن يأتوا بمثله فقال:{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[23]، فلما عجزوا عن ذلك طولبوا بعشر سور فقط في قوله تعالى:{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [24]، ولما عجزوا طولبوا فقط بسورة. قال سبحانه: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }[25]، فلما عجزوا عن جميع ذلك صرح القرآن بهذا العجز وأثبت التحدي وذلك في قوله عز وجل:{ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }[26] .
أسلوب كشف حقيقة الملاحدة وخبايا نفوسهم وتهديدهم : لم يكتف القرآن في محاججة الملاحدة ومناقشتهم بعرض مزاعمهم والرد على شبهاتهم أو بتحديهم فحسب، بل تعداه إلى النفوذ لبواطنهم وكشف مكنوناتهم وسرائرهم وبيان حقيقتهم، وهي أنهم لا يتقنون إلا الجحود والإنكار والإعراض والاستكبار، متوعدا إياهم بسوء العذاب جراء إعراضهم هذا غير المبرر، فقال سبحانه:{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) }[27]، وقوله سبحانه:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}[28] ، وقوله ايضا:
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}[29].
إن المتأمل في هذه الأساليب يمكنه أن يرتبها ترتيبا تصاعديا تجلي سنة التدرج الإلهية، حيث يحسن البدء بما هو فطري، وبعده ما هو عقلي، ثم ما هو محسوس مشهود، فلما تمادى من تمادى في الإنكار جاء التحدي والإعجاز، ولما ظهر العجز لم يبق إلا كشف المكنون والتهديد والوعيد على هذا الإعراض غير المبرر.
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وله الحمد في الغداة والأصيل.