الحمد لله فاطر السموات والأرض، حمدًا يُبلِّغُنا رضاه، ويكتبنا به من الشاكرين. والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى ذريته المطهَّرين.
أما بعد: فلا يخفى على أحد من المسلمين ما هى سُنة النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا يكاد يوجد مسلم على وجه الأرض إلا وعنده من أخباره صلى الله عليه وسلم ما يحفظه ويعرفه وينقله. وكيف لا يكون ذلك؟! وهى منهج نبيهم المجتبى، وسيرة حبيبهم المصطفى، وهداية هاديهم ومبلغهم وحى ربهم: صلى الله عليه وسلم أفضل وأتم صلاة وسلام!
ولذلك فلا يختلف المسلمون فى أهمية السنة النبوية فى التعرف على معالم دين الإسلام، ولا يوجد عالم يجهل أنها المصدر الثانى من مصادر التشريع مع القرآن الكريم، وأن هذين المصدرين (القرآن والسنة) هما مرجع بقية مصادر التشريع، كالإجماع والقياس، وما يتفرّعُ عنها. إذن فمكانة السنة من الدين مكانة القاعدة من البناء، هى والقرآن الكريم، فلا قيام لبناء الشريعة الإسلامية ، ولا بقاء له بغير الكتاب والسنة كليهما.
وأصلٌ هذه هى مكانته من الدين، حتى يجب أن نقول عنه هو والأصل الأول (القرآن الكريم): إنهما هما الدِّين كله. ولا أقول إن هذا القول يصح أن يُقال، بل أقول: هو الواجب القطعى الوجوب – لا يصح أن يكون محلاًّ للشكوك والريبة، بل لا يصح أن يكون مظنونًا بترجيح ظني، ولا بد أن يكون أمرًا يقينيًّا مقطوعًا به، عند عموم المسلمين؛ لأنه من أصول الدين اليقينية، التى لا يصح إلا أن تكون يقينية.
ومع هذه المكانة العظمى للسنة النبوية فى دين الإسلام، ومع يقينية هذه المكانة؛ إلا أن العناية بإثبات هذه العقيدة اليقينية لعموم المسلمين ما زال مفتقرًا إلى تكميلٍ، بل ما زال مفتقرًا إلى تأصيل جديد، واحتجاج من نوع مستحدث؛ ليواجه به التشكيك فى السُّنة، خاصة فى العصر الحديث.
لقد كانت أكثر جهود العلماء قديمًا، فيما يتعلق بمكانة السنة من التشريع، تكاد تنحصر فى بيان حُجية السنة، وخاصة حجية خبر الآحاد، وهل هو حجة فى الأصول والفروع، أم فى الفروع فقط؟ وهل هو يمكن أن يكون يقينيًّا أم لا يمكن؟ فكتبوا فى ذلك البحوث الكثيرة، بل المصنفات المفردة قديمًا وحديثًا.
وهذا البحث الذى أوسعوه دَرسًا ونقاشًا لا شك فى عظيم أهميته، وفى مسيس الحاجة إليه؛ لكنه لا يحيط بالمطلوب تجاه هذا الموضوع الكبير المتشعِّب، ولا يتناول جميع أطرافه!
فمثلًا: التشكيك فى حُجية السنة قد يستند إلى عدم حفظها، إما بدعوى تفلُّت شىء منها وضياعه، أو بدعوى اختلاط ثابتها بسقيمها، مع عدم القدرة على التمييز بينهما، وإنكار قدرة علوم الحديث النبوى ومنهج المحدثين النقدى فى تنقيتها، وفى فصل ثابتها عن غير الثابت.
أما نقاش العلماء فى البحوث المشار إليها آنفًا، فكان غالبه حول بيان حجيتها، أو مراتب الحجية بناء على اختلاف مراتب النقل (كالمتواتر والآحاد)، وكان يدور بين من لا يشكك فى ثبوتها مثل هذا التشكيك العام، وإنما يعارض: إما فى وجوب المصير إليها مع وجود القرآن، لاعتقاده كفاية القرآن وحده ببيان الهداية التامة، أو يعارض فى مرتبتها من الاحتجاج (يقينية أو ظنية)، وهل يحتج بالظنى منها أو لا يحتج، وفى أبواب الاحتجاج وعدمه (العلميات والعمليات).
وفى العصر الحديث: خرج بحث هذه المسائل عن حِلق التعليم المتخصصة، وعن قاعات الدرس العلمية، إلى وسائل الإعلام المختلفة (مرئية ومسموعة ومقروءة)، وإلى مواقع الشبكة الدولية (النت). فأصبح التشكيك فى ثبوت السنة، وبالتالى فى حجيتها، موضوع حديث عوام من عوام المسلمين، وكثيرٍ من المثقفين والمفكرين الإسلاميين، بل (مع ضعف تلقى العلم الشرعي) وصل إلى بعض المتخصصين فى بعض العلوم الشرعية!!
لقد أصبحت قلوب بعض أبناء المسلمين تغلى بالشك فى ثبوت كل حديث، ولسان حال الواحد منهم يقول: كيف أعرف أن هذا الحديث ثابت أو غير ثابت، مع وجود أحاديث غير ثابتة، وأحاديث مكذوبة على النبى صلى الله عليه وسلم؟! ومارس بعض المثقفين والمفكرين ما يظنونه نقدًا عقليًّا لمرويات السنة، فصارت قواعد القبول والرد خاضعة للأهواء ووجهات النظر الخاصة، التى لا تنطلق من قواعد علمية، ولا أصول عقلية صحيحة. مما يزيد فى الشك فى السنة، ويوسع دائرة عدم الاطمئنان إليها!!
فكيف نطالب مسلمًا بأن يهتدى بالسنة، وهو لا يدرى هل هى سنة أم بدعة؟! وكيف نقول له: عليك بهدى النبى صلى الله عليه وسلم فهو خير الهدى. وهو يقول لك: وكيف أعرف هديه؟! وكيف يطمئن لألوف الأحكام الفقهية، التى تشمل أركان دينه من صلاة وزكاة وغيرها، وهو لا يجدها فى القرآن، ونُحيله فيها إلى بيان السنة التى يشك فى كونها سُنةً حقًّا؟!
لذلك كان من أوجب الواجبات طَمْأَنةُ قلوب أبناء المسلمين إلى حقيقة أن السنة محفوظة، وأنها محميةٌ من ضياعَى:
1- التَّفَلُّتِ والفُقدان. 2- والاختلاط الذى لا يتيح تمييز ثابتها من غيره.
ولا يكفى أن تحصُلَ لهم معرفةُ ذلك بأدلةٍ ظنيةٍ تفيد ترجيحَ حفظ السنة، بل لا بد أن تكون أدلةً يقينيةً تفيد اليقين بحفظها؛ لأن حفظ السنة أصلٌ أصيل من أصول الدين، هو الذى يسمح باعتمادها مصدرًا للتشريع. وأصول الدين لا بد أن تكون يقينيةً راسخةً، ومحكمةً تُرجع إليها المشتبهات، وهذا لا يمكن أن يتحصَّل؛ إلا إن كان حفظُ السنة عقيدةً يقينيةً مقطوعًا بها.
ولا يكفى ذلك أيضًا: بل لا بد أن نُسَهِّلَ هذه الأدلة، ونقرّبها لعامة الأفهام، ولا نجعلها معقَّدةً، فلا يفهمها إلا المتخصِّصون، ولا تُسمع أصداؤها إلا فى قاعات الدرس العلمية؛ ذلك لأن الثقة فى حفظ السنة يجب أن تكون ثابتةً فى قلب كل مسلم، وليس لدى المتخصصين فقط. ومع شيوع الشكوك، وانتشار الشبهات (كما سبق)، وجب تيسير أدلة اليقين بحفظ السنة لعموم المسلمين، وتعيّنَ أن نُوفّرَ لكل مسلم برهانًا يحقق له القطع بأن سنة النبى صلى الله عليه وسلم محفوظة، فلا يدخله فيها شك ولا ارتياب.
نعم.. لقد أصبح لزامًا على علماء المسلمين وأصحاب التخصص منهم أن يراعوا هذه الحاجة الإيمانية الأصلية، وأن يحققوا لأبناء المسلمين ثقتهم، التى هم مضطرون إليها؛ لكى يعرفوا معالم دينهم وأصول شريعتهم وفروع أحكامها، ولكى ينعموا بسعادة القدوة الحسنة بسنة النبى صلى الله عليه وسلم ، ويستضيئوا بمعرفة هدى سيد الأولين والآخرين، ويلتذّوا بالاطلاع على سيرة حبيبهم وأخباره العطرة وحِكَمه الباهرة، دون أن ينغّص عليهم شيئًا من ذلك شكٌّ أو شُبهة.
لذلك حاولت أن أستخلص فى هذه الورقات أدلة تفيد اليقين تفيد حفظ السنة، ويفهمها عموم المسلمين. فلأدلة هذه الورقات شرطان لا بد من اجتماعهما فيها، وهما: إفادة اليقين لا الظن، وتيسُّـرُ فهمها على عامة العقول. وهما شرطان صعبان؛ إذ فى نحو هذا وُصف بعض القول بأنه: السهل الممتنع!!
ولشرطَى اليقينيةِ والسهولةِ تجاوزتُ عن كثير من الأدلة: إما لكونها ظنيةً ترجيحية، لا تفيد اليقين. وإما لكونها عميقةً طويلةَ التقرير، تحتاج تخصصًا فى علوم السنة لدَرْكها واستيعابها.
ولا أشكُّ أن تَفَتُّقَ الأذهان عن أدلّةٍ يقينيةٍ سهلةٍ لن يتوقّف عند ما جاء فى هذه الورقات، فمجال الإضافة فيها مُشْرَعٌ لكل راغب فى الذبّ عن سنة النبى صلى الله عليه وسلم ، يريد شفاءَ صدور إخوانه المسلمين من ألم الشكِّ وقَهْرِ الوَسْواسِ فى ثبوت هَدْى حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم !!
الشُّكاك فى سنة النبى صلى الله عليه وسلم قسمان:
الأول: غير المسلمين، والثانى: هم المسلمون. ولكل قسم وسيلة إثبات خاصة به.
أما غير المسلمين ممن يشككون فى السنة:
فلا بد من البداية معهم من دلائل النبوة العقلية، كأنواع إعجاز القرآن المختلفة، وغيرها من دلائل النبوة العقلية الكثيرة والمتعددة، التى لا تستلزم إيمانًا بالإسلام لقبولها. حتى إذا آمن هذا المناقَشُ بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم ، وصدّق بكتابه، دخل فى القسم الثانى الذى سنفصل فى أدلة حفظ السنة له.
وقد ينفع فى هذا الباب، إن كان المدعوُّ صاحبَ كتابٍ يؤمن به (وهم اليهود والنصارى)، أن يُحاجّ أيضًا بالتشكيك فى منقولاته الدينية عن أنبيائه، بنفس تشكيكاته فى السنة النبوية؛ فإنهم لا يستطيعون ادعاءَ مطعنٍ فى السنة؛ إلا وفى منقولاتهم من جنسه ما هو أشد وأطمّ وأوضح.
ولعدد من علماء المسلمين وغير المسلمين دراسات عديدة تبين الفرق الكبير فى درجة الثبوت بين السنة وكتب أهل الكتاب(1) ، يمكن الانطلاق منه فى دفع شبه المشككين؛ بأنه إن كان يؤمن بما ينقله عن الوحى الموحى به إلى موسى وعيسى عليهما السلام، رغم أسباب الرد العديدة التى تشكك فى صحة ذلك المنقول، فكان ينبغى عليه أن يوقن بصحة المنقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لكونه سالما من تلك الطعون، ولكون كل طعن يدعيه فى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، إن سلمنا بوجوده وبقيامه بالطعن، فهو موجود فى منقولاتهم على وجه يكون أقوى فى الطعن وأعظم فى إثارة الشك ! فإن لم يُفده ذلك طعنًا فى منقولاته، فكان ينبغى أن لا يفيده طعنا فى منقولاتنا.
هذا هو القسم الأول من الشاكّين فى السنة، وهم غير المسلمين.
أما القسم الثانى: فهم المسلمون ممن يؤمن بالنبى صلى الله عليه وسلم ، ويصدق بالقرآن العظيم، وموقنٌ من أن دين الإسلام محفوظ من الضياع (2)، ولذلك فهو مسلم. لكن يُزلزِلُ يقينَه الجهلُ بأدلة ثبوتها. ثم قد تتناوشُه سهامُ الشُّبه وطُعونُ التشكيكات، فيصِل إلى درجة الرَّيب فى حفظ السنة، مما يجعله ينتهى إلى رفض السنة مصدرا للاحتكام والاهتداء؛ لا لعدم قناعته باستحقاق النبى صلى الله عليه وسلم فى الاقتداء به والاحتكام إليه، ولكن شكًّا فى حفظ السنة وفى القدرة على تمييز ثابتِ المنقولِ منها مما لا يثبت، كما سبق.
وقد خصَّصتُ هذه الورقات فى جمع الأدلة اليقينية على حفظ السنة النبوية، مما يمكن أن يدركها كل مسلم، ولا يحتاج لإدراكها وفهمها إلى تَخصُّصٍ فى علوم السنة، ولا إلى دراسة منهج النقد عند المحدثين الذى به استطاعوا حِفْظَ السنةِ وتمييزَ صحيحِها من باطلها. مع أن علم الحديث وقواعده النقدية من أعظم أدلة حفظ السنة فى الحقيقة؛ لكن من غير المقبول أن نطالب الناس كلهم أن يكونوا علماء فى أحد أعمق العلوم وأشدها تخصصا (كعلم الحديث)، لكى يحققوا فى قلوبهم أصلا أصيلا من أصول دينهم، وهو اعتقاد حفظ السنة النبوية ( على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم).
الدليل الأول على حفظ السنة النبوية :
أن حفظ السنة من لوازم شهادة أن محمدًا رسولُ الله :
نعلم جميعًا أن أصل الدين الأول: هما الشهادتان (شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله). ومن المعلوم أن شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنى ثلاثة أمور تستوجبها لغويًّا، ويدركها كل من عرف معناها لغةً :
1- التصديق. 2- واعتقاد وجوب الطاعة. 3- والمحبة.
فمن شهد أن محمدًا رسول الله، فشهادته تعنى لغةً: أنه قد صدَّقه فى أنه رسولُ الله تعالى مُـخْبِرٌ عن الله عز وجل، وأنه إذا أمره وجبت طاعته إذا ما أمره بأمر الله تعالى، ومثل هذا تنقاد القلوب لمحبته وتعظيمه بالفطرة.
ولذلك أخلَّ بواحد من هذه الثلاثة، فلا تكون شهادته مقبولة؛ لأنه قد نقض أصلا من أصولها، وقال كلاما ينقضه نقضا صريحا يخالف دلالته اللغوية :
– فلا يجتمع التكذيب (ولا فى حرف واحد) مع تصديقه فى كونه رسول الله.
– ولا يجتمع اعتقاد عدم وجوب طاعته مع اعتقاد أنه إنما يبلغك شريعة الله وفرائضه، فمن علم بأمره صلى الله عليه وسلم ، ثم اعتقد عدم وجوب طاعته فيه، دون شك فى الثبوت، ولا تأويل للمعنى، ودون ترك للطاعة معصيةً كسلاً أو شهوة، بل مع اعتقاده أنه لا تجب طاعته فى ذلك الأمر الواحد – فقد نقض شهادة أن محمدًا رسول الله، بهذا الاعتقاد، حتى لو أطاعه ظاهرا.
– ولا يجتمع اعتقاد أنه مصطفى الله تعالى بالرسالة ومختارُه بالنبوة، وأنه من به هُديتَ إلى خيرى الدنيا والآخرة – مع بغضه وعدم محبته.
فإذا كانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبةً بمقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، وإذا تيقنّا من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر وينهى ويُرشد ويُؤدِّب وينصح ويهدى بغير القرآن، فسوف يدل ذلك على وجوب حفظ سنته؛ لأن تحقيق طاعته لن يتحقق إلا بذلك؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم ما دام قد أمر بالقرآن وأمر بغير القرآن، فلن تتحقق طاعته الواجبة إلا بطاعته فى كل ما بلّغَ به، من القرآن وغير القرآن (السنة)، وما أطاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من أطاعه فى أمرٍ بلّغه إياه فى القرآن، وهو لا يطيعه فى أمره الوارد فى السنة.
وكذلك القول فى التصديق: فإذا كان تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبا بمقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، وإذا تيقنّا من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبر بغير القرآن الأخبارَ العديدة: مما وقع فى الأمم السالفة، ومما يقع فى زمنه، ومما سيقع فى المستقبل, فسوف يدل ذلك على وجوب حفظ سنته؛ لأن تحقيق تصديقه لن يتحقق إلا بذلك .
وإذا كان من البديهى أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم فى هديه وإرشاده ودعوته وبلاغه عن الله تعالى بغير القرآن، كما هى طبيعة البشر، وكما هو حال جميع الأنبياء والمرسلين، وكما هو معلوم من تواتر النقل عنه لتلك الأوامر والنواهي، والتى لئن شككنا فى آحادها فلا يمكن أن نشك فى مجموعها الكبير جدًّا، لتواتر الأمة كلها على نقلها جيلا بعد جيل، وتتابع المسلمين كلهم على ذكرها، كما تناقلت الأمم والشعوب تحديد مواضع البلدان والبحار والأنهار ومسمياتها – دل ذلك كله على أن للنبى صلى الله عليه وسلم أوامر ونواهى وإرشادات وأخبارًا قالها لأمته وعلمهم إياها، وهى ليست من القرآن الكريم.
فكيف يمكن أن نحقق تصديق وطاعة النبى صلى الله عليه وسلم فى تلك الأخبار والأوامر والنواهى والإرشادات التى لم تكن من بلاغ القرآن، إذا لم تكن السنة محفوظة؟! وإذا لم يكن لدينا وسيلة لمعرفة جملةٍ من تلك الأخبار والأوامر وبعضًا من هاتيك القصص والنواهى (فى أقل تقدير)؟!
وهل سنكون محققين للتصديق الواجب وللطاعة الواجبة لو أننا لم نصدقه صلى الله عليه وسلم أو لم نطعه صلى الله عليه وسلم إلا بما فى القرآن؟!
هذا كله يدل على أن حفظ السنة ومن لوازم شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن أحد مقتضيات هذه الشهادة (وهو وجوب اعتقاد الطاعة) يلزم بتصديق النبى صلى الله عليه وسلم وطاعته فى كل خبر أخبر به وكل ما أمر به ونهى عنه، سواء ورد فى القرآن أو لم يرد فيه، مما يعنى أن السنة لو ضاعت، فضياعها سيمنعنا من تحقيق هذا اللازم.
فإن قيل: لكن اعتقاد ضياع السنة لا يناقض التصديق واعتقاد وجوب الطاعة، فقد يعتقد الشخص وجوب تصديق النبى صلى الله عليه وسلم وطاعته، فيما لو تثبت عنده صحة ذلك المنقول عن النبى صلى الله عليه وسلم؟
فيكون الجواب هو أن نقول: هذا التقرير الوارد فى الاعتراض ينفع فى الحديث عن بعض المرويات، وإذا كان شكُّ الشاكِّ فى بعضها دون بعضها الآخر. أما إذا أصبح منه شكًّا فى السنة كلِّها، فقد بلغ به شكه عدم طاعة النبى صلى الله عليه وسلم وعدم تصديقه؛ لأن تصديق الخبر الوارد فى القرآن الكريم وطاعة فرائض الله تعالى فيه هى من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، فهو تصديقٌ لله تعالى وطاعةٌ له عز وجلّ، وليس فى هذا التصديق والطاعة تحقيقٌ لما يخص شهادة أن محمدًا رسول الله. فإن قيل: لكن تم تصديق النبى صلى الله عليه وسلم فى كون القرآن كلام الله؟ قلنا: لكن لم تتم طاعته فى غير ما أمر الله تعالى به !
ولذلك يبقى أن من لوازم (شهادة أن محمدًا رسول الله) اعتقاد بلوغ بعض أوامره وهديه صلى الله عليه وسلم إلينا، مميَّزًا عن المنسوب إليه ولا يصح عنه.
ولهذا الدليل تتميم مهم متعلقٌ بكمال الدين وحفظ مصادره، وسيأتى بسطه فى الدليل الأخير (الدليل السادس).
أن أركان الإسلام (بعد الشهادتين)، وعلى رأسها الصلاة، وغيرها من أصول الأحكام: لا يمكن التعرُّف عليها، ولا أداء واجب الله تعالى فيها؛ إلا بالسنة. مما يُوجب اعتقادَ حِفْظِ قَدْرٍ من السنة (فى أقل تقدير)، وهو هذا القَدْرُ الذى يُبيِّنُ كيف نُقيمُ المبانى العِظامَ من ديننا وأصول أحكامه.
فمما أمر به القرآنُ الكريم، ويعلمه المسلمون من دينهم علما يقينيًّا: الأمر بالصلاة، وأنها ثانى أركان الدين. ولم يأت فى القرآن ذكر عدد الصلوات المفروضة ذكرًا يزيل اللبس، ولم يأت فيه عدد ركعات كل صلاة، ولا تفصيل شروطها وأركانها وواجباتها وسننها وعموم صفتها. فكنا فى أداء الصلاة التى أمرنا الله بها فى كتابه مضطرين إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم ، لكى نستطيع أداء هذا الركن الجليل من أركان الدين. مما يوجب اعتقاد حفظ هذا القدر (فى أقل التقدير) من السنة النبوية؛ لأنه بغير اعتقاد حفظه سيستلزم ذلك ضياع الدين الذى يدين به المسلم، وسيستلزم أن يكون الله تعالى قد أمرنا بأوامر مع عجزنا عن معرفة طريقة طاعته فيها, وفى هذا تكليفٌ بما لا يدخل فى الوسع، وقد قال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [سورة البقرة، الآية286] .
وهذا كما يصح تقريره فى فريضة الصلاة، فيصح تقريره عن بقية المبانى بعد الصلاة: كالزكاة، والصوم، والحج، وكثير من أصول الأحكام سواها أيضًا.
فضياع السنة بأحد الضياعين (ضياعِ الفقدان، وضياعِ اختلاط الصحيح بغيره مع عدم القدرة على التمييز): سوف يعنى ضياعَ هذه الأحكام كلها، وهى أهم أحكام الدين، فضياعها هو ضياع هذا الدين، الذى تكفّل الله بحفظه، والذى لا يستقيم إسلامُ المرءِ إلا باعتقاد حفظه. فلزم لذلك أن يعتقد المسلم حفظ هذه السنن حفظًا يقينيًّا، فبيقينه هذا يصح أن ترتفع مبانى هذه الأصول فى قلبه وترسخ رسوخ اليقينيات الرواسي، كما يجب أن تكون.
يعنى: أن مجرد إسلامك يُوجِبُ عليك اعتقادَ حفظِ هذه السنن، التى تُبينُ أركانَ الدين وأصول أحكامه الكبار، بل يُوجب عليك إسلامُك اليقينَ بحفظها؛ لأنها أصول الإسلام، التى لا بد من تحقُّقِ اليقين فى ثبوتها.
وعلى هذا: فلو اعتقدنا ضياع السنة فقد كذَّبنا القرآن الذى أخبرنا ببقاء هذا الدين وحِفْظِه؛ لأن فى ضياعها ضياع الدين كله!!
بل إن اعتقاد ضياع السنة لا يجتمع مع إسلامنا وقيامنا بأركان الإسلام، التى ما عرفنا طريقة أدائها إلا بالسنة.
وقد ذكر هذه الحجة القوية أحد جِلّةِ الصحابة وفقهائهم، وهو عمران بن حصين رضى الله عنه :
فقد قال حبيب بن أبى فَضالة المالكى: «لما بُنى هذا المسجد (مسجد الجامع)، وعمران بن حصين جالس، فذكروا عنده الشفاعة، فقال رجل من القوم: أبا نُجيد، إنكم لتحدثونا بأحاديث ما نجد لها أصلاً فى القرآن؟! فغضب عمران، وقال للرجل: قرأتَ القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدتَ فيه صلاة المغرب ثلاثًا، وصلاة العشاء أربعًا، والغداة ركعتين، والأولى أربعًا، والعصر أربعًا؟ قال: لا . قال: فعمن أخذتم هذا الشأن؟! ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن نبى الله صلى الله عليه و سلم؟! أوجدتم فى كل أربعين دينارًا دينار، وفى كل كذا وكذا شاة، وكل كذا وكذا بعير؟ أوجدتم هذا فى القرآن؟ قال: لا. قال : فعمن أخذتم هذا الشأن؟ أخذناه عن نبى الله صلى الله عليه وسلم، وأخذتموه عنا. هل وجدتم فى القرآن {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [سورة الحج ، الآية 29] وجدتم طوفوا سبعًا؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم هذا فى القرآن؟ عمن أخذتموه، ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عن نبى الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. فقال: وجدتم فى القرآن: لا جلب ولا جنب ولا شغار فى الإسلام؟ قال: لا. قال عمران: فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا جلب، ولا جنب، ولا شغار فى الإسلام. أسمعتم الله تعالى يقول لأقوام فى كتابه {مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [سورة المدثر ، الآيات 42-48]. قال حبيب: فأنا سمعت عمران بن حصين رضى الله عنه يقول: الشفاعة نافعة دون ما تسمعون (3)» (4). وجاء فى رواية الحسن البصرى عن عمران رضى الله عنه فى هذا الخبر، أن هذا الرجل قال لعمران رضى الله عنه بعد هذا الحوار: «يا أبا نُجيد، أحييتني، أحياك الله ! ثم قال الحسن البصري: فما مات ذلك الرجل حتى كان من فقهاء المسلمين!!»(5) .
وكرّرَ هذه الحجة أحد علماء أتباع التابعين وهو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رَوّاد (ت 206 هـ)، حيث قال: «أُنزل القرآن، فنزلت فيه جملُ الأمورِ، وفسّرته السنة. يقول الله عز وجل{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [سورة البقرة ، الآية 43] ، وفسرت السنة حدودها وركوعها وسجودها، وما يقال فى ذلك. وقال{وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة ، الآية 43] ثم فسرت السنة ما قال فى الإبل والبقر والغنم، ولم يُفسِّر ذلك القرآن. وقد جاء فى القرآن من جمل الطلاق ما لم يُفسِّر القرآنُ كل ما فيه، وفسرته السنة. وجاء فى القرآن من جمل الحج والعمرة ما لم يُفسِّر كل ما فيه القرآن، وفسرته السنة. والجهاد والصيام كمثل. وكل ما لم يفسر القرآن مما فيه، فسرته السنة. وهذه الأصول كلها من أصول الدين ومعالمه، ولم يستغن الدينُ بالقرآن عن معرفة السنة، ولم يستغن بالسنة عن معرفة القرآن»(6) .
حاجة القرآن الكريم الماسة لبيان السنة النبوية، وعدم القدرة على تمام فهم كتاب الله العزيز فهمَه الضرورى والواجبَ إلا بها، مما يُوجِبُ حِفْظَ السُّنة؛ لكى يتمَّ بها فَهْمُ القرآن الكريم.
إذ من المعلوم أن القرآن إنما أنزله ربنا عز وجل لنفهم معانيه ولنتدبره، كما قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} [سورة ص ، الآية 29] . وقال سبحانه{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} [سورة النساء ، الآية 82] والمقصود من التدبر هو: فهمه بعمق كبير، لاستخراج حِكَمِه وشرائعه، للعمل بأحكامه، والاهتداء بنوره، وعبادةِ الله تعالى وَفقَ مراده سبحانه.
والوصول إلى الفهم الصحيح والعمق المطلوب فى إدراك معانى كتاب الله تعالى لا يمكن الوصول إليه بغير السنة، ويدل على ذلك أمور، تدل على الحاجة الماسة على السنة من أجل بيان القرآن وفهمه، وهى أمور ثلاثة :
الأول: القرآن الكريم نفسه:
فقد بيّنَ لنا ربنا عز وجل أن بيان القرآن وتفسيره موكولٌ إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك التفسير والبيان هو أعظم وظيفة للنبى صلى الله عليه وسلم ، ولأجل ذلك أنزل الله تعالى عليه القرآن ليبلغه حروفًا ومعانى ويبين للناس حدودَ ما أنزل الله. وذلك كله فى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل ، الآية 44] . وفى قوله سبحانه {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل ، الآية 64]
فهذه الآيات تبين أن فَهم القرآن لا يمكن بغير بيان النبى صلى الله عليه وسلم ، وأن معرفة مراد الله عز وجل من كتابه العظيم لا يتمّ إلا بالتفسير النبوى لها، فدل ذلك على وجوب حفظ السنة؛ لأن فهم القرآن لا يحصل بغير حفظ السنة.
فعلى كل من آمن بالقرآن أن يؤمن أن بيانه محفوظ؛ لأن القرآن نفسه بيّنَ أن بيانه موكولٌ إلى السنة، فضياع هذا البيان سيعنى العجز عن فهم القرآن، والعجز عن فهمه يعنى ذهاب أثره وغياب هدايته.
بل منطوق هذه الآية الكريمة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل ، الآية 44] يقول: لقد أنزلنا القرآن عليك يا رسولنا لكى تُبيِّـنَـهُ للناس، وهذا الترتيب قد يُلقى فى الأوهام (قبل التأمُّل ) أنّ بيانَ السنة هو الأصل الذى نُزِّلَ القرآنُ لأجله !! إذ لو أراد البشر أن يُعبِّروا عن العلاقة التفسيرية للسنة بالقرآن، لجاء تعبيرهم المباشر الصريح بنحو قولهم: «إنما جاءت السنة لكى تُفَسِّرَ القرآنَ وتُبيِّنَهُ», فيكون بَيِّنًا بهذا الترتيبِ البشرى والتعبيرِ الصحيح للمخلوقين أن الأصل هو القرآن، وأن السنة ما هى إلا الفَرْع والتَّبَع التالى للقرآن فى القَدْرِ والأهمية. لكنّ إعجازَ كلامِ الله تعالى اكتفى لتقرير هذا الأمر الذى لا يحتاج إلى بيان (وهو أن القرآن هو الأصل) بإشارة دلالتين: الأُولى: تخصيصُ الذِّكْر (وهو القرآن) فى هذا السياق بكونه هو المُـنزَّل، والثانية: بأنه هو المبـيَّنُ المفسَّر ، والمبيَّـنُ فى العادة هو الأصل، وأما الشَّرْحُ فهو فى العادة حاشيةُ الأصل وفَرْعُه.
لكن بَقِى ذلك الترتيبُ القرآنى العجيب، بدلالته الغريبة الـمُنوَّهِ بها آنفًا، والتى تُوهم بأن السنةَ هى الغايةُ من إنزال القرآن، ليؤدّى هذا الترتيبُ معنًى لا يؤدّيهِ إلا هو، مُشِيدًا بتلك العلاقةِ القويةِ الوشائجِ العميقةِ الصلاتِ بين القرآن والسنة، التى تَصِلُ إلى درجة أن تَدُلَّ على أنّ القرآنَ غيرُ مُـحَقِّـقٍ الغرضَ من إنزاله؛ إلا ببيان السنة!!
وهذا من إعجاز القرآن فى الإشادة بمكانة السنة من القرآن، وفى التأكيد على عدم استغناء القرآن عنها، وعلى أن ذلك الاستغناء المُدَّعَى سيؤدّى إلى ضياع القرآن لدى ذلك المستغنى عن بيان السنة له؛ لأن الجهل بمعانى القرآن هو الضياع الحقيقى له!!
ولهذه المنزلة العليا للسنة، ولعلاقتها القوية الوشائج والصلات بالقرآن الكريم، كان يقول غير واحد من السلف، منهم مكحول الشامى (ت 118هـ): «القرآن أحوج للسنة من السنة للقرآن»(7)؛ وذلك لأن إجمال القرآن يحتاج إلى تفصيل السنة، ومتشابه القرآن تُفَسِّرُهُ السنة؛ فى حين أن السنة – غالبًا – مفصَّلةٌ مبيَّنة واضحة.
وقد كان ذلك واضحًا تمام الوضوح عند السلف، ولهذا لما قيل لـمُطَـرِّفِ بن عبد الله بن الشِّخِّير (ت 95 هـ) :«لا تحدثونا إلا بالقرآن. قال مطرف: والله ما نريد بالقرآن بَدَلًا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منّا »(8).
ويجب التنبُّهُ إلى أن تفسيرَ السنة للقرآن ليس يقتصر على التفسير الصريح لمعانيه من النبى صلى الله عليه وسلم ، كأن يذكرَ النبى صلى الله عليه وسلم آيةً ثم يشرحها شرحًا مباشرًا. نعم هذا من تفسير السنة للقرآن، لكنَّ الخضمَّ الأعظمَ منه هو جميع سنة النبى صلى الله عليه وسلم : القوليّة والفعلية والتقريرية، وسيرته ومغازيه وحياته، فهذه كلها تفسير للقرآن وتطبيق عملى لإرشاداته. ولهذا لمـَّا سُئلت عائشة – رضى الله عنها – عن خُلُقِ النبى صلى الله عليه وسلم ، أرشدتِ السائلَ إلى النظر فى القرآن، عندما قالت: « كان خُلُقُه القرآن »(9). ومن ثَمَّ.. يحقُّ لمن سأل عن القرآن، أن يُحال إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم ، كما أحالت عائشةُ السائلَ عن السنة إلى القرآن !
الثانى: ضرورة الرسالة توجب حاجة القرآن لبيان النبى صلى الله عليه وسلم .
لا يشك أحد، ولا يختلف اثنان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أُنزل القرآنُ عليه هو أعلم الناس بمعانيه، فهذا لازم كونه رسولَ الله ، والمبلِّغَ عن الله ، والهادى إلى رضوان الله عز وجلّ.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالقرآن ، وأدراهم بمراد الله فيه، فلا بد أن يفسره لأصحابه ولأمته من بعدهم، ولا بد أن يكون تفسيره هذا من أعظم مهامّ نبوته، ومن أجلِّ وظائف رسالته. واعتقاد ضياع هذا البيان أو عدم تمييز صحيحه من ضعيفه يعنى أننا فقدنا ثمرةً من أعظم ثمار النبوة، وأضعنا وسيلة أصيلة لا يُستغنى عنها من وسائل فهم القرآن الكريم.
الثالث: جمع القرآن للمعانى الكثيرة فى الألفاظ اليسيرة، وشموله لكل هداية، وصلاحُه بهذا الاختصار الشديد لكل زمان ومكان، كل ذلك يدل على حاجته الماسة للبيان.
إن دستورَ أمةٍ فى كل شئونها، كبيرها وصغيرها، ثم يكون فى كتاب واحد، كالقرآن الكريم – سيكون من الضرورى بيانه، أو بيان مفاصل الحكم فيه وقواعد شرائعه فى أقل تقدير.
وما اختلاف الناس فى تفسير القرآن الكريم وتعدُّد أقوالهم فى فهمه، وتباينهم فى إدراك معانيه؛ إلا أحد ما يدل على أن القرآن الكريم لا يستغنى عن التفسير.
ولذلك اشتهرت العبارة الشهيرة، فى نصيحة من أراد مجادلة أهل البدع :«لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمّالٌ ذو وجوهٍ، ولكن حاجّهم بالسنة؛ فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا»(10).
ومع هذه الحاجة للبيان لا يمكن أن لا يكون النبى صلى الله عليه وسلم قد فَسَّرَه وَبَيَّنَه؛ لأن بقاءه صلى الله عليه وسلم ثلاثةً وعشرين عامًا فى بيان حقيقة الإسلام وتوضيح معالم أحكامه ستكون أحسنَ شرحٍ للقرآن، وأقطعَ قولٍ لمواضع النزاع فيه.
فهذه الأدلة اليقينية الثلاثة الدالّة على ضرورة تفسير السنة للقرآن تُوجب ضرورةً حِفْظَ هذه السُّنة؛ ليصحَّ بلاغُ القرآن إلى البشر، ويتمَّ قيام الحجة عليهم به، إلى قيام الساعة؛ إذ بغير حفظ السنة: أنَّى لمؤمنٍ بالقرآن أن يدّعى أنه عاملٌ به مصدِّقٌ بخبره، وهو مضيِّعٌ لمعانيه، مسيءٌ فَهْمَ مراميه؟!!
ولذلك قلنا فى فاتحة هذا الدليل: حاجة القرآن الكريم الماسة لبيان السنة النبوية، وعدم القدرة على تمام فهم كتاب الله العزيز فهمَه الضرورى والواجبَ إلا بها. مما يُوجب حِفظَ السنة؛ لكى يتم بها فَهْمُ القرآن الكريم.
تَعَـهُّدُ الله تعالى بحفظ القرآن الكريم فى كتابه بقوله سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر ، الآية 9] ، هو تَعَـهُّدٌ بحفظ السنة؛ وحفظ معانى القرآن لا يتمُّ إلا بالسنة (كما سبق)، وحفظ القرآن لا يتحقَّقُ إلا بحفظ ألفاظه ومراد الله منها معًا.
تقدم فيما سبق الاستدلال على أن القرآن الكريم يحتاج إلى بيان السنة النبوية حاجة ضرورية، وأن هذه كانت إحدى أهم وظائف النبوة أصلا {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل ، الآية 44] ، ونضيف هنا أن هذا يجعل السنة النبوية داخلة فى وعد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، وأن هذا الوعد الربانى المتيقَّن بحفظ القرآن الكريم يعنى وعدًا متيقَّنًا بحفظ السنة النبوية أيضًا.
ذلك أن كل عاقل يدرك أن حفظ القرآن الكريم لا بد أن يشمل أمرين اثنين: ألفاظه ومبانيه، ومراد الله تعالى فيه ومعانيه. وأن حفظ ألفاظ القرآن دون معناه ضياعٌ للقرآن الكريم، أى ضياع !! فالمقصود بالقرآن هدايته والعمل بما فيه، فكيف يتحقق شيء من ذلك لو كان الوقوف على معانى القرآن الكريم متعذِّرًا. بل الحقُّ أن حفظ ألفاظ القرآن الكريم وضياع معناه ضياعٌ أشد من ضياع ألفاظه وبقاء معانيه؛ لما ذكرنا من أن الغرض من إنزال القرآن هدايته والعمل به !!
لذلك لا يتردّد مسلم أن قول الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر ، الآية 9] ، كما يتضمن الوعد بحفظ القرآن الكريم، فهو يتضمن أيضًا الوعد بحفظ السنة النبوية أيضًا؛ لأنها بيان القرآن.
ولهذا لما سأل أحدُ السائلين الوجِلينَ على السُّنة من اختلاط صحيحها بسقيمها الإمامَ عبد الله بن المبارك (ت181 هـ)، قائلا: «هذه الأحاديث المصنوعة؟!!»، أجابه هذا الإمام بثقةِ قلبٍ واطمئنانِ جَنان: «تعيش لها الجهابذة»، ثم تلا قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[سورة الحجر ، الآية 9] (11).
وقد شرح العلامة ملا على القارى (ت 1014 هـ) استدلالَ الإمام عبد الله بن المبارك بقوله: « وكأنه أراد: أنه من جملة حفظ لفظ الذكر حفظُ معناه، ومن جملة معانيه: الأحاديثُ النبوية الدالة على توضيح مبانيه، كما قال تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل ، الآية 44] . ففى الحقيقة تكفّل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة، بأن يُقيم مِن عباده مَنْ يُجدِّدُ أمر دينهم فى كل قرن، بل فى كل زمان»(12).
وقد أشار الإمام الطبرى إلى ذلك بقوله فى تفسير هذه الآية {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر ، الآية 9] «يقول تعالى ذكره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [سورة الحجر ، الآية 9] وهو القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف ، الآية 12] قال: وإنا للقرآن لحافظون، من أن يزاد فيه باطلُ ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو منه، من أحكامه وحدوده وفرائضه»(13)، فقوله: « من أحكامه وحدوده وفرائضه» يدل على أن مقصود الحفظ الأكبر هو حفظ المعاني.
وذكر ابن الوزير الصنعانى (ت 840 هـ) هذه الآية، ثم قال: «قلت: قد احتج بعض أهل الأثر بأن الحديث النبوى داخلٌ فيما ضَمِنَ الله عز وجل بحفظه من الذكر، بقوله تعالى فى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى }[سورة النجم ، الآيتان 3-4](14).
أمْرُ الله تعالى بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتحذيره عز وجل من معصية رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيجابه تعالى الرجوعَ إلى سنته، وحثُّه سبحانه على التأسّى به، وثناؤه – جلّ ذِكرُه – عليها ووصفها بالحكمة – كل ذلك مما يُوجب حفظَ السنة؛ لأن ضياع السنة لو تمَّ، لكانت تلك الأوامر الإلهية والنصوص القرآنية متعذِرةَ العمل، والتكليفُ بها تكليفًا بما لا يُستطاع، وستكون من قبيل اللغو الذى يُقرأ ولا علاقة لنا بمعناه ولا نلتزم شيئًا من هداه !! وهذا طعنٌ فى القرآن يُوجب الكفر به، واعتقادٌ ينافى الإيمانَ به.
والآيات فى ذلك لا تُحصى، ومنها:
قوله تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سورة النساء، الآية 59] .
فدلت هذه الآية على استقلال الأمر بطاعة النبى صلى الله عليه وسلم عن الأمر بطاعة الله عز وجل، بدلالة هذا الفصل الواضح، وبدلالة تكرار الفعل (وَأَطِيعُوا)، وبدلالة تأكيد ذلك بأن الردَّ عند الاختلاف إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولذلك فقد ذهب عامة المفسرين من التابعين فمن جاء بعدهم أن المقصود بالرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه إلى شخصه ما كان حيًّا صلى الله عليه وسلم ، وإلى سنته بعد موته (15) صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو عبد الله القرطبى (ت 671 هـ): «ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله، أو إلى رسوله بالسؤال فى حياته، أو بالنظر فى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم . هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح، ومن لم يرَ هذا اختلّ إيمانه؛ لقوله تعالى{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }[سورة النساء ، الآية 59] (16).
– وقال تعالى{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [سورة النساء ، الآية 80] .
وهى صريحة فى أن الأمر بطاعة النبى صلى الله عليه وسلم هى غير طاعته فيما يبلغه من القرآن؛ إذ جعلت هذه الآية وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم بمنزلة وجوب طاعة الله تعالى، وطاعة الله تعالى هنا هى طاعة أمره الوارد فى كتابه القرآن الكريم؛ لأنه لا علم لنا بأمره تعالى إلا من خلال كتابه: القرآن الكريم.
– وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [سورة آل عمران ، الآية 32] .
– وقال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } [سورة الأنفال ، الآية 20] .
– وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [سورة النور ، الآية 54] .
– وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [سورة محمد ، الآية 33] .
– وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } [سورة الأحزاب ، الآية 36] .
– وقال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [سورة النساء ، الآية 65] .
– وقال تعالى فى التحذير من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [سورة النور ، الآية 63] .
– وقال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [سورة النساء ، الآية 14]
– وقال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [سورة الجن ، الآية 23].
– وقال تعالى محذِّرًا من الجرأة على سنة النبى صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِى وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات ، الآيات 1-2].
قال ابن عباس رضى الله عنه :« قوله {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [سورة الحجرات ، الآية 1] يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة»(17).
وقال أبو بكر ابن العربى (ت 543 هـ): «حرمة النبى ميتًا كحرمته حيًّا، وكلامه المأثور بعد موته فى الرِّفعة مثل كلامه المسموع من لفظه. فإذا قُرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك فى مجلسه عند تلفُّظه به. وقد نبَّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } [سورة الأعراف ، الآية 204] . وكلام النبى من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن؛ إلا معانى مستثناة، بيانها فى كتب الفقه»(18).
وقال ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ): «فإذا كان رَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ فَوْقَ صَوْتِهِ سَبَبًا لِحُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ، فَكَيْف تَقْدِيمُ آرَائِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَذْوَاقِهِمْ وسياساتهم وَمَعَارِفِهِمْ على ما جاء بِهِ؟! وَرَفْعُهَا عليه؟! أَلَيْسَ هذا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُحْبِطًا لِأَعْمَالِهِمْ »(19).
وقال أيضًا: «فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأى تقدُّمٍ أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟! قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. ومعلوم قطعًا أن من قدّمَ عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبى صلى الله عليه وسلم ، وأشدهم تقدمًا بين يديه. وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به؟! ومن المعلوم قطعًا: أنه لم يكن يفعل هذا فى عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثا فى أشباههم»(20).
– وقال تعالى فى الثناء على سيرته صلى الله عليه وسلم وأحواله كلها، وفى الحث البالغ على الاقتداء به فيها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأحزاب ، الآية 21].
فكيف نُحقِّقَ أمرَ الله تعالى لنا بالاقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم والعمل وَفْقَ سُنته صلى الله عليه وسلم ، وأن نكون ممن يرجو الله واليوم الآخر – لو كنا قد أضعنا سنته صلى الله عليه وسلم : ضياع فقدانٍ، أو ضياع اختلاط وعدم تمييز بين مقبولها ومردودها؟!
بل تلك الأوامر الإلهية كلها، وغيرها مما هو فى معناها كثير جدًّا فى كتاب الله تعالى، وهى خطاب الله تعالى للناس إلى قيام الساعة: كيف سنأتمر بأمر الله تعالى لنا فيها؟ وما هو طريق العمل بها، لو أن السنة النبوية لم تكن محفوظة؟! كيف سنُطِيعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لو ضاعت أوامرُه صلى الله عليه وسلم ونواهيه؟ وكيف سنعرف هَدْيه صلى الله عليه وسلم الذى أمرنا الله تعالى بأن نتّخذه لنا أُسوة، وأنَّى لنا أن نقتدى به صلى الله عليه وسلم , لو أن سنته قد ضاعت أو اختلط صحيحُها بضعيفها؟!
إن اعتقاد ضياع السنة: يعنى أن تلك الآيات (جميعها وغيرها مما هو فى معناها) لا فائدة منها، ولا معنى لها !! وهذا اتهامٌ للقرآن قبل أن يكون اتهامًا للسنة؛ لأن وجود تلك الأوامر مع العجز عن تطبيقها لغوٌ وعبثٌ يُنزّهُ عنه كلامُ العقلاء من المخلوقين، فكيف بكلام الخالق سبحانه وتعالى.
ووجود تلك الأوامر مع العجز عن تطبيقها أيضًا فيه تكليفٌ بما لا يستطاع!! وهو تكليفٌ يُنافى ويُضادُّ العدالةَ الإلهية ! والحاصل أن ربنا عز وجل قد نفى ذلك عن نفسه، فقال سبحانه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [سورة البقرة ، الآية 286] .
ولهذا كله: كان التشكيكُ فى السنة تشكيكًا فى القرآن الكريم معها، وهذا لا يقع من مسلم أبدًا؛ إلا أن يكون جاهلاً، والجاهل لا يُعذر بعد أن تقوم عليه الحجة بهذه الأدلة الآنفة الذكر.
كانت السنة النبوية مصدرًا للتشريع فى زمنه صلى الله عليه وسلم ولا شك؛ فقد كان الصحابة يأتمرون بأمره صلى الله عليه وسلم فيها، ويقتدون بهديه صلى الله عليه وسلم ، ويتحفّظون عنه صلى الله عليه وسلم قوله وفعله وإقراره ، ويحرصون على العلم بها والتفقه فيها غاية الحرص. وما كان مصدرًا من مصادر التشريع فى حياته صلى الله عليه وسلم ، فنحن إليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أحوج. وهذا يُوجب حفظ هذا المصدر للناس إلى قيام الساعة؛ لأن عدم حفظ مصدر من مصادر التشريع يعنى ضياع ذلك التشريع.
نعم..فنحن نعلم يقينا أن الصحابة رضى الله عنه كانوا دائمى الحاجة للنبى صلى الله عليه وسلم فى تعلم الدين، وكانوا عظيمى الحفاوة بسؤاله عن شئون دينهم، يتنافسون على ملازمته صلى الله عليه وسلم ، ويتبارون فى التفقُّه عليه صلى الله عليه وسلم . وهذا مما يعلمه يقينًا بلا أدنى شك حتى من ارتاب فى ثبوت آحاد روايات السنة؛ إذا كان يريد الحق ولا يعاند أدلته.
ويدل على ذلك دليلان يقينيان :
الأول: أن هذا هو جارى العادة التى لا تنخرم للخلق مع زعمائهم: فهو جارى عادة أنبياء الله (عليهم السلام) مع أتباعهم من المؤمنين بهم، بل فى المعظّمين عندهم من القادة والعلماء: أنهم يكونون حريصين على علومهم وعلى معرفة سيرهم للاقتداء بهم. وهى عادة نعلم يقينًا أنها قد تحققت فى نبينا صلى الله عليه وسلم على أعظم ما تحققت مع بشرٍ، بل مع نبى من قبل؛ فما عرف التاريخُ البشرى حفاوةَ قومٍ بسيدهم، كما عرفه فى أصحابِ النبى صلى الله عليه وسلم معه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الثانى: أن عشرات الألوف من روايات السنة التى رواها الرواة فى كتب أهل الحديث، لئن شكَّ أحدٌ فى ثبوت آحادها، فلا يشك أن مجموعها يُثبتُ هذا المعنى؛ وهو أن السنة كانت مصدرًا لا يفرط فيه الصحابة رضى الله عنه ، وأنهم كانوا يتعلمونها ويتفقهون بها ويتركون اجتهاداتهم لأجل ورودها.. إلى غير ذلك من دلائل اعتمادها التام فى معرفة معالم دين الإسلام.
وبهذا نعلم يقينًا أن السنة النبوية كانت مصدر التشريع مع القرآن لدى الصحابة رضى الله عنه ، وأنهم كانوا لا يرون دينهم يتم بغير السنة، وأنهم لا يجدون فى القرآن وحده ما يحقق لهم فهم الشريعة ومعرفة حدود ما أنزل الله.
ولا يمكن أن يكون للتشريع مصدرٌ فى زمن الصحابة، ثم نستغنى نحن عنه !
بماذا يمكن أن نستغنى عنه؟! أبالقرآن؟! فقد كان القرآن لديهم رضى الله عنه ، وهم به أعلم، وبلغته وأسلوبه أدرى، وبفقه عميق معانيه أدرك !! فاللغة لغتهم وهم أربابها، وخطاب الله تعالى فيه موجّهٌ إليهم أصالة ليفهومه عنه عز وجل، ثم هو خطابه تعالى للأمة من بعدهم إلى قيام الساعة، وهم رضى الله عنه يشاهدون مواضع التنزيل، ويحضرون أسبابها، ويسمعونها من فى أبين البشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإذا احتاج هؤلاء إلى سنة النبى صلى الله عليه وسلم لمعرفة شرع الله فنحن إليه أحوج ، وما لم يتم الدين إلا به فى زمن الصحابة، فلن يتم الدين بدونه بعدهم من باب أولى.
فدلَّ ذلك على وجوب حفظ السنة، ليبقى لنا هذا المصدر التشريعي، الذى كان مصدرًا تشريعيًا للجيل الأول من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم.
انتهينا بحمد الله تعالى من سياق ستة أدلة تدلُّ على أن السنة النبوية محفوظة من الضياع بقسميه (ضياع الفقدان والتفلّت، وضياع الاختلاط وعد التميُّز بين المرويات الثابتة وغير الثابتة)، واشترطنا أن تكون أدلة تفيد اليقين، ولا تحتاج تعمقًا فى علوم السنة لإدراكها، لتكون فى متناول جميع أبناء المسلمين، فلا تتزحح ثقتهم بالسنة، ولا تضيق صدورهم بالشكوك التى تنفرهم من هدى سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم .
وهذه الأدلة الستة هى التالية :
1- أن حفظ السنة من لوازم شهادة أن محمدًا رسولُ الله.
2- أن أركان الإسلام (بعد الشهادتين)، وعلى رأسها الصلاة، وغيرها من أصول الأحكام: لا يمكن التعرُّف عليها، ولا أداء واجب الله تعالى فيها؛ إلا بالسنة. مما يُوجب اعتقادَ حِفْظِ قَدْرٍ من السنة (فى أقل تقدير)، وهو هذا القَدْرُ الذى يُبيِّنُ كيف نُقيمُ المبانى العِظامَ من ديننا وأصول أحكامه.
3- حاجة القرآن الكريم الماسة لبيان السنة النبوية، وعدم القدرة على تمام فهم كتاب الله العزيز فهمَه الضرورى والواجبَ إلا بها. مما يُوجِبُ حِفْظَ السُّنة؛ لكى يتمَّ بها فَهْمُ القرآن الكريم.
4- تَعَـهُّدُ الله تعالى بحفظ القرآن الكريم فى كتابه بقوله سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر ، الآية 9]، هو تَعَـهُّدٌ بحفظ السنة؛ وحفظ معانى القرآن لا يتمُّ إلا بالسنة (كما سبق)، وحفظ القرآن لا يتحقَّقُ إلا بحفظ ألفاظه ومراد الله منها معًا.
5- أمْرُ الله تعالى بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتحذيره عز وجل من معصية رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيجابه تعالى الرجوعَ إلى سنته، وحثُّه سبحانه على التأسّى به، وثناؤه جلّ ذِكرُه عليها ووصفها بالحكمة – كل ذلك مما يُوجب حفظَ السنة؛ لأن ضياع السنة لو تمَّ، لكانت تلك الأوامر الإلهية والنصوص القرآنية متعذِرةَ العمل، والتكليفُ بها تكليفًا بما لا يُستطاع، وستكون من قبيل اللغو الذى يُقرأ ولا علاقة لنا بمعناه ولا نلتزم شيئًا من هداه !! وهذا طعنٌ فى القرآن يُوجب الكفر به، واعتقادٌ ينافى الإيمانَ به.
6- كانت السنة النبوية مصدرًا للتشريع فى زمنه صلى الله عليه وسلم ولا شك؛ فقد كان الصحابة يأتمرون بأمره صلى الله عليه وسلم فيها، ويقتدون بهديه صلى الله عليه وسلم ، ويتحفّظون عنه صلى الله عليه وسلم قوله وفعله وإقراره ، ويحرصون على العلم بها والتفقه فيها غاية الحرص. وما كان مصدرًا من مصادر التشريع فى حياته صلى الله عليه وسلم ، فنحن إليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أحوج. وهذا يُوجب حفظ هذا المصدر للناس إلى قيام الساعة؛ لأن عدم حفظ مصدر من مصادر التشريع يعنى ضياع ذلك التشريع.
فأسأل الله تعالى أن ينفع بها، أعظمَ نفعٍ وأعمَّه، كل من احتاج إليها.
والحمد لله خير الحمد، والصلاة والسلام على محمد، وعلى أزواجه وذريته ما تعاقبت شمس وفرقد.
والله أعلم.