تعزيز اليقين وهداية الحيران

شُبُهاتُ المُستشرقين حول جمع القران الكريم

شُبُهاتُ المُستشرقين حول جمع القران الكريم

دراسة نقدية

الحمد لله القائل: ﴿إنا نحۡنُ نزلۡنا ٱلذكۡر وإنا لهُۥ لحٰفظُون ﴾[الحجر:9]، والصلاة والسلام على النبي الكريم القائل: «ما من الأنبياء نبيٌ إلا أُعطي ما مثلهُ آمن عليه البشرُ، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاهُ اللهُ إلي، فأرجُو أن أكُون أكثرهُم تابعًا يوم القيامة»(1).

قال تعالى حكاية عن أهل الإشراك: ﴿وقال ٱلذين كفرُوٓا إنۡ هٰذآ إلآ إفۡكٌ ٱفۡترىٰهُ وأعانهُۥ عليۡه قوۡمٌ ءاخرُونۖ ﴾[الفرقان:4]، ولاشك أن المستشرقين يندرجون تحت هذه الآية، بل دخولهم تحت هذه الآية أعظم دليل على أن القران صدق وأنه وحي من الله لقوله تعالى: ﴿ذٰلك قوۡلُهُم بأفۡوٰههمۡۖ يُضٰه‍ُٔون قوۡل ٱلذين كفرُوا من قبۡلُۚ ﴾[التوبة:30].

وقد بين علماء الأمة رحمهم الله تعالى موقف المستشرقين من القرآن الكريم، ومن ذلك شبهاتهم حول جمع القرآن الكريم(2).

وهناك أسباب ودوافع دعت المستشرقين إلى محاولة تشويش صورة القرآن وإلقاء الشبهات حول جمعه، منها:

– أن المستشرقين عند دراستهم للقرآن الكريم تأثروا بخلفياتهم العقدية وموروثاتهم الفكرية.

– ومنها أيضًا دوافع نفسية تهدف إلى رمي القرآن الكريم بما ثبت في حق كتبهم من التحريف والتبديل، وتجاهلهم للحقائق التاريخية الناطقة بسلامة القرآن من التحريف.

– وكذلك الحقد والهوى والعصبية وخلل المنهج وعدم العدل والإنصاف دعتهم لتشويش صورة القرآن الكريم وإلقاء الشبهات حول جمعه(3).

 

شُبُهاتُ المُستشرقين حول جمع القران الكريم

(القائلين بها- أدلتهُم- تفنيدُها)

أولًا:عدمُ جمع القرآن في عهد النبيُ

 إن الاعتقاد السائد بين المسلمين، هو أن القرآن كان محفوظاً، بطريقة شفهية، ثم كتب أثناء حياة النبي، أو بعد موته بقليل، عندما جُمع ورُتب، لأول مرة بواسطة الصحابة الكرام، ثم ظهرت النسخة الإمام أو المصحف الإمام في عهد الخليفة عثمان بن عفان (4).

 

القائلين بها مع أدلتهُم:

يقول ويلش(5): “إن تاريخ جمع القرآن بعد وفاة محمد لايزال غير واضح (طبعا بالنسبة له) وإن إعداد النسخة الرسمية أو القانونية للقرآن الكريم قد مر بثالث مراحل عبر تطورها، يصعب وضع تاريخ محدد لكل مرحلة منها ويؤيد قوله بأن أشهر الروايات التي تتحدث عن جمع القرآن في كتاب رسمي هي رواية البخاري التي تقرر أن أول جمع للقرآن كان في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق، يعني أنها كتبت بعد سنتين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم”(6).

 

تفنيدُها:

يرد على هذه الأقاويل المزعومة بأن القرآن كتاب الله الذي حفظه بنفسه فأنزله من عنده على قلب جبريل عليه السلام فحفظ القرآن، ثم إلى قلب النبي  فوعاه وثبت به ثم  قلب المؤمنين بعد أن طهرها الرحمن بالإيمان وهيأها لحفظه وإلى جانب القلوب الواعية حفظ الله تبارك وتعالى القرآن كتابة في عهد النبي فكان يكتب بأمره بأيدي الكتبة المؤمنين الذين اختارهم الله تعالى لكتابة وحيه على ما تسنى من موادٍ آنذاك، وحفظها لتكون ظهيراً للقلوب والعقول التي كتب الله على صفحاتها آيات الذكر الحكيم، فصارت العناية بالنص القرآني مضاعفة، فقد سد بذلك جميع المنافذ في وجوه المحرفين المنحرفين عن منهج الله تعالى، المعادين لكلامه ورسله من أن تصل إليه أيديهم، أو تناله ألسنتهم بالتغيير أو التبديل أو بالإضافة والحذف، فالقرآن معصوم من ذلك إلى يوم القيامة، ومن إعجاز القرآن عصمته من التحريف، وجمعُه بهذه الطرق المختلفة حتى صار كتاباً بين دفتين، وانتشرت منه الآلاف بل الملايين من النسخ بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يُقرأ من الألواح ومن الأرواح في لغته الأصلية-اللغة العربية-(7).

 

ثانيًا: تسميةُ الجمع تنقيحًا.

القائلين بها مع أدلتهُم:

أطلق بلاشير(8) في كتابه “مقدمة القرآن” على عملية جمع القرآن الكريم “تنقيحًا”(9).

 

تفنيدُها:

الرد على هذا القول هو أن هذه التسمية من المستشرقين مقصودة وذلك ليوحوا أن القرآن الكريم كأي جهد بشري قابل للزيادة والنقصان والتغيير والتبديل للوصول به بما هو أفضل كما هو في المقياس البشري، والذي دفعهم بهذا القول والتفكير ما نقل من جهود الصحابة رضي الله عنهم وفي عهد التابعين من إعادة كتابة القرآن الكريم حفاظًا على النص القرآني من التحريف والنقص، واختلاف اللهجات فيه، فظنوا أن ذلك من باب التنقيح للنص القرآني والتعديل فيه، ولكن الله سبحانه قد تكفل حفظ هذا القرآن الكريم من أي تبديل وتغيير أو نقص وزيادة فأودع حفظه في صدور المسلمين، وفي السطور قال تعالى﴿إنا نحۡنُ نزلۡنا ٱلذكۡر وإنا لهُۥ لحٰفظُون ﴾[الحجر:9]، فلم يدخله ما زعمه “بلاشير” التنقيح بمفهومهم فهو مازال غضًا طريًا كما نزل(10).

 

ثالثًا: تاريخُ جمع القُرآن الكريم.

القائلين بها مع أدلتهُم:

حاول بعض المستشرقين مثل (بلاشير) (11) وكازانوفا(12)(Casanova التشكيك في:

أولاً: تاريخ جمع القرآن الكريم، وأول من جمعه، حيث اعتبروا أول جامع له رسول الله ، وبعضهم اعتبر أبو بكر، عمر، سالم، عثمان-رضي الله عنهم جميعاً-(13) .

ثانياً: تاريخ جمع القرآن الكريم في عهد النبوة يقولون: أن النبي  لم يجمع القرآن بنفسه ولم يأمر بجمعه، ودليلهم ما نسب إلى زيد رضي الله عنه قال: «لقد مات النبي  ولم يكن قد تم جمع القرآن في أي مكان»(14).

 

تفنيدُها:

أولاً: يجاب عليه بأن القرآن الكريم مر بثلاث مراحل أساسية، وهي:

1- الجمع النبوي للقرآن الكريم.

2- جمع أبي بكر.

3- جمع عثمان

 

والجمع له معنيان: يطلق تارة ويراد به حفظه وتقييده في الصدور، ويطلق ويراد به الكتابة في الصحف والسطور(15) .

يحمل الجمع في عهد النبي في المعنيين في الصدور وفي السطور، أما الأول فقوله تعالى:  ﴿إن عليۡنا جمۡعهُۥ وقُرۡءانهُۥ ﴾[القيامة:18]، فكان الحفظ في صدره وعدد من أصحابه،  أما في السطور كان النبي يأمر بعض أصحابه بكتابة القرآن ويمنع غير القرآن خشية أن يختلط به، فتكفل الله تبارك وتعالى  بحفظ هذا القرآن الكريم من أي تبديل أو تغيير أو نقص أو زيادة قال تعالى: ﴿إنا نحۡنُ نزلۡنا ٱلذكۡر وإنا لهُۥ لحٰفظُون ﴾[الحجر:9] وقال تعالى﴿لا يأۡتيه ٱلۡبٰطلُ منۢ بيۡن يديۡه ولا منۡ خلۡفهۦۖ تنزيلٞ منۡ حكيمٍ حميدٖ ﴾[فُصلت:42](16).

 

ثانيًا: استدلوا على عدم جمع القرآن في عهده بالرواية المنسوبة لزيد بن ثابت رضى الله، فقد ذكرها السيوطي في إتقانه ونقل توضيح الخطابي لمقصودها حيث قال: “إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقب من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على يد الصديق بمشورة عمر”(17).

أما ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: “لا تكتُبُوا عني، ومن كتب عني غير القُرآن فليمحُهُ، وحدثُوا عني، ولا حرج، ومن كذب علي – قال همامٌ: أحسبُهُ قال – مُتعمدًا فليتبوأ مقعدهُ من النار”(18) .

رابعًا: قيام الصحابة بإدخال تغييرات على القُرآن وقت جمعه.

القائلين بها مع أدلتهُم:

ذهب المستشرق الفرنسي “كازانوفا(19)(Casanova في كتابه “محمد ونهاية العالم” إلى تفسير عدم استخلاف النبي لأحد أصحابه لتولي أمر المسلمين هو اعتقاده أن نهاية العالم قريبة، وهي عقيدة مسيحية محضة، ويقول في موضع آخر: “إن القرآن قد أدخلت عليه بعد وفاة النبي تغيرات قام بها خلفاؤه، ليفصلوا ما يمكن لهم فصله بين بعثة الرسول وقيام الساعة اللتين يرى ارتباطهما مباشرا، والدليل على ذلك ما ورد في الآية: ﴿وإن ما نُرينك بعۡض ٱلذي نعدُهُمۡ أوۡ نتوفينك فإنما عليۡك ٱلۡبلٰغُ وعليۡنا ٱلۡحسابُ ﴾[الرعد:40].

فزعم “كازانوفا” أنَّ أصحاب النبي حين رأوا أن الساعة لم تقم وضعوا في صيغة التعبير صورة الشك موضع اليقين، ولا يستبعد أن الآية قبل التبديل هي كالآتي: “وسنريك بعض الذي نعدهم” ويتساءل “كازانوفا” هل يعقل أن الإله ــ وهو سيد الأقدار لم يستطع أن يحدد مسألة بسيطة، وأنه يجهل هل النبي سيموت، أو سيعيش إلى نهاية العالم في حين أنه علم بالساعة علم اليقين، ولكنه لم يشأ ينبئ الناس بهذا العلم؟!(20) (ويستطرد “كازانوفا” في كتابه المذكور قائلا: “هناك آيتان يشك في صحة نسبتهما إلى الوحي النبوي، والراجع أن يكون أبو بكر هو الذي أضافهما على إثر موت النبي، فأقره المسلمون على ذلك وهما قول القرآن ﴿وما مُحمدٌ إلا رسُولٞ قدۡ خلتۡ من قبۡله ٱلرُسُلُۚ ﴾[آل عمران:144]. ﴿ثُم إنكُمۡ يوۡم ٱلۡقيٰمة عند ربكُمۡ تخۡتصمُون ﴾[الزُمر:31].

 

تفنيدُها:

أما ما ذهب إليه “كازانوفا” من قيام الصحابة بإدخال تغييرات وقت جمع القرآن بعد وفاة الرسول ليفصلوا ما يمكن لهم فصله بين بعثة الرسول وقيام الساعة اللتين يرى ارتباطهما مباشرًا ثمَّ شكه في الآيتين الخاصتين بموت الرسول وأنهما من تأليف أبي بكر فإن هذا القول عار من الدليل العلمي الصحيح، وبيان ذلك أن الرسول لو كان يعتقد أن الساعة ستقوم في زمانه وقبل وفاته لما تجشم الصعاب لبناء دولة عظيمة كان لها مكانتها في العالم، ولما أعد تلك التشريعات التي تنظم الأمور الدنيوية للمسلمين، ولما حث أصحابه وأمته على العمل والعبادة، ولما تنبأ لهم بالفتح المبين الذي سيحرزونه على الأمم المجاورة لهم، ولما حثهم على العمل في دنيا هم كأنهم سيعيشون أبدا.

يضاف إلى ذلك أن «بلاشیر»(21) في كتابه “مقدمة القرآن الكريم” رفض رأي كازانوفا فيما يتعلق باعتقاد الرسول بقيام الساعة في حال حياته، لعدم اعتماده على أدلة علمية وقوية سائغة من جهة، ولأن الرسول لما استقر بالمدينة أصبح يدعو إلى العبادات والمعاملات، وتنظيم العلاقات التي يجب أن تسود بين المسلمين وغيرهم من جهة أخرى. كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة العربية فرض على المسلمين منذ عصر النبوة أن يفكروا في الحياة الدنيا إلى جانب التفكير في الآخرة(22).

أما ما ذهب إليه “كازانوفا” في نسبة الآيتين إلى أبي بكر الذي أضافهما إلى القرآن على إثر موت النبي وإقرار المسلمين له على ذلك فهو قول مردود من عدة جهات، منها: أن الآية الأولى نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد، وظن أن الرسول قد قتل، فصاح بعض المسلمين: إن محمدا قد أصيب فيجيب عليهم الاستسلام لعدوهم لأنهم إخوانهم، وصاح بعضهم الآخر: أنه يجب الاستمرار في القتال حتى بعد وفاة النبي إذ لا خير في الحياة  بعده، فأنزل الله هذه الآية، ومنها: أن الرسول بعد أن لحق بالرفيق الأعلى ارتج على  المسلمين واضطربوا اضطرابا عظيما بين مصدق ومكذب، فبعضهم يقول : إنه أخذ ببعض ما كان يأخذه عند الوحي، وبعضهم يقول : إن الرسول لا يموت حتى يقضي على المنافقين ولا  يحدث حتى يقطع أيديهم وأرجلهم، وكان عمر بن الخطاب من أكثر المشككين في موت الرسول، وعندما قدم أبوبكر و كشف عن وجه الرسول، وتحقق  من موته جمع الناس وتلا  عليهم الآية المذكورة فرجع الناس إلى رشدهم وعلق عمر على ذلك  بقوله: “فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ”(23)..

أما بالنسبة إلى الآية الثانية فقد نزلت بالمدينة، تعني إبلاغ النبي بأنه سيموت هو الآخر كما تموت بقية الخلق “لأن كل نفس ذائقة الموت” وهو تحذير له من الآخرة، وحث له على العمل الصالح والتقوى خاصة أن الخطاب الذي يوجه إليه موجه إلى بقية المسلمين، إلا إذا كان من خصوصياته، وإبلاغه بموته حتى لا تختلف أمته بعد وفاته، كما اختلفت الأمم الأخرى في غيره قطعاً لدابر الفتنة، والشك وقد أوشك حصول ذلك بعد وفاته لولا تدخل أبي بكر بتلاوتها  واحتجاجه بها على صحة وفاته، ولو كانت  الآيتان السابقتان من اختراع أبي بكر فكيف يسكت المسلمون على ذلك؟ ويوافقونه على هذا التزوير المتعمد، وهم أشد خلق الله تمسكا بكتابه؟ ونحن نعلم جميعا ــ كما بينا ــ حرص أبي بكر على القرآن وعدم تبديل أو تعديل ما اتخذه الرسول من قرارات سياسية، أو دينية، أو اقتصادية، خشيته من القيام بعمل لم يأمر به الرسول وفزعه الشديد عند ما عرض عليه عمر جمع القرآن في مصحف واحد وإجابته له “أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في القرآن برأيي”؟(24)، ثم يأتي بعد هذا كله ويضيف إلى القرآن ما ليس فيه؟!

 

خامساً: الشك في ترتيب القُرآن على النحو الذي وصل إلينا.

القائلين بها مع أدلتهُم:

ذهب المستشرق الألماني “نولدكه (Noldeke)”(25)، في كتابه “تاريخ القرآن” و”موير” (Muir William) (26) من الشك في ترتيب القرآن على النحو الذي وصل إلينا ومحاولتهما ترتيب الآيات ترتيبا موضوعيًّا أو أسلوبيًّا، فصنفا القرآن إلى مراتب ثلاث:

 

المرتبةُ الأولى: تتعلق بترتيب الآيات طبقا للأسلوب الذي نزل به ونتج عن هذا الترتيب التفرقة بين الآيات المكية والمدنية، والاستدلال عليها بالأسلوب الذي تتميز به كل فترة على حدة.

 

المرتبةُ الثانيةُ: تتناول الظروف السياسية والاجتماعية التي حاول محمد بحثها من خلال هذه الآيات.

 

المرتبةُ الثالثةُ: تتناول الآيات المتعلقة بالأحكام والعبادات، وهذا الترتيب نتج عنه غموض وإبهام في كثير من المواضيع وتساؤلا حول نقاط هامة قابلة للنقاش(27) .

 

تفنيدُها:

ما ذهب إليه كل من “نولدكه” و”موير” من الشك في تربيب القرآن ومحاولتهما ترتيب القرآن تريباً موضوعيا أو تاريخيا …..”، فنود الرد على شبهتهما بالإشارة إلى إجماع الأمة الإسلامية على أن ترتيب القرآن على هذا النمط الموجود في المصاحف كان بتوقيف من النبي عن الله تعالى، وأنه لا يجوز تغييره أو تبديله أو الاجتهاد فيه، وكان الرسول هو   الذي رتب القرآن بالطريقة الموجودة لدينا الآن، واستدل المسلمون على ترتيب الرسول للقرآن بهذه الطريقة “…. أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة …”(28) ويضاف إلى ذلك أن القرآن هو فن من فنون القول لا علم للعرب به وهو معجز يتحدى العرب بالفن الذي لا يخضع لترتيب معين، والقرآن لو رتب ترتيبا تاريخيا أو موضوعيا لكان كتابا تاريخيا شأنه شأن بقية الكتب الأخرى، ولكنه كان كتابا كاملا وشاملا وأورد من الأحكام والتشريعات التي تكون صالحة لكل الأزمنة في كل الأمكنة وبالتالي فهو لا يحتاج إلى الترتيب الموضوعي، أو التاريخي الذي درجت عليه الكتب الأخرى(29).

 

سادساً: موثُوقيةُ نُصُوص القُرآن الذي تم جمعه في عهد الخليفةُ عُثمان بن عفان رضى اللهُ عنهُ.(30)

القائلين بها مع أدلتهُم:

ذكر هذه الشبهة المستشرق جولد تسيهر(31) في مقدمة كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) فقال: «فلا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافاً عقدياً على أنه نص منزل أو وحي موحى به، يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات، كما نجد نص القرآن »(32).

 

تفنيدُها:

إن القرآن الكريم منزل من عند الله ومتعبد بتلاوته وقد حفظه الله بأسبابه المشهورة في صدور الرجال ومراحل كتابته في حياة النبي وبعد وفاته، وجمعه في خلافة أبي بكر الصديق يقول الله تعالى: ﴿إنا نحۡنُ نزلۡنا ٱلذكۡر وإنا لهُۥ لحٰفظُون ﴾[الحجر:9].

وهذا القرآن كما قال الله عنه في قوله تعالى: ﴿إن ٱلذين كفرُوا بٱلذكۡر لما جآءهُمۡۖ وإنهُۥ لكتٰبٌ عزيزٞ ٤١ لا يأۡتيه ٱلۡبٰطلُ منۢ بيۡن يديۡه ولا منۡ خلۡفهۦۖ تنزيلٞ منۡ حكيمٍ حميدٖ﴾[فُصلت:41-42].

فمهما حاولوا أن يضيفوا أحاديث أو أقوال للقراء فلن يجدوا لها مسلكا، وما أعدوه من اختلاف مصحف ابن مسعود عن مصحف أبي بن كعب وغيرهم فهو يعود لكتابات الصحابة الخاصة بهم وقد أجمعوا على مصحف عثمان  واتفقوا عليه، ولم يعترض على الخليفة أحد ويعد إجماعاً قوياً، ولم يتمايز سوى ما يعرف بالقراءات السبع أو العشر(33) .

 

ختامًا:

لعلنا نوجزأهم النقاط المهمة التي تعرضنا لها في هذه المقالة، على النحو الآتي:

 

  1. المنطلقات الفكرية والعقدية التي ينطلق المستشرقون منها في توجيه طعونهم نحو القرآن الكريم متعددة الأهداف، ومتنوعة المقاصد كان من أبرزها الحقد على الإسلام، ومحالة تشويهه.

 

  1. المستشرقون وإن كان ينحدرون من جنسيات متعددة وينتمون إلى بلدان مختلفة، إلا أنّهم تجمعهم قواسم مشتركة وروابط عديدة، كان من أبرزها ظاهرة التعنت والعداء للقرآن الكريم.

 

  1. البحث الاستشراقي لم يكن نزيهًا ولا موضوعيًّا، لأنه لا يبحث عن صحة الأدلة في دراسته، بل يعتمد على الأدلة الموضوعة والضعيفة والمشوشة التي تثيرها بعض الفرق التي عجزت عن مواجهة الاسلام وبدأت تثير الشكوك والمطاعن من الداخل والتي اعتمد عليها المستشرقون فيما بعد في توجيه التهم والشبهات إلى الاسلام دون تمحيص لهذه الادلة.

 

  1. إذا كان عداء المستشرقين واضحًا وجليًّا في مواقفهم من الإسلام، فإنَّ خطورة من سار على نهجهم ممن ينتسبون إلى الإسلام ويزعمون مخالفة المستشرقين أشد خطرًا وأبعد أثرًا.

 

  1. الاستشراق مدرسة من مدارس الاستعمار، وحركات التنصير، فهو يشكل معهما مثلثاً يهدد العالم الاسلامي في عقيدته، وأخلاقه، ومجتمعه، وهذا يستدعي من علماء الأمة ودعاتها، التصدي لهذا الغزو الفكري، وهذا لا يكون إلا بالعلم والمعرفة، وكشف شبههم.

المصدر