تعزيز اليقين وهداية الحيران

الزعم أن القرآن نسب للتاريخ ما ليس منه بذكره حادثة الفيل

الرئيسية / كشاف الشبهات / شبهات حول الإسلام / شبهات حول إعجاز القرآن الكريم / الزعم أن القرآن نسب للتاريخ ما ليس منه بذكره حادثة الفيل

الزعم أن القرآن نسب للتاريخ ما ليس منه بذكره حادثة الفيل

 

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغرضين أن حادثة الفيل سنة 571م التي أثبتها القرآن الكريم ليست صحيحة تاريخيا، ولو افترضنا جدلا وقوعها فإنها لم تقع بهذه الصورة الدرامية الأسطورية التي قصها القرآن. ويرى هؤلاء أنه لا مبرر حقيقيا لإحاطة البيت الحرام بهالة من التقديس وادعاء الصون والحرمة والعناية الإلهية، ولا مبرر كذلك لاتهام أبرهة بتبييت النية لهدم الكعبة؛ لأن الأحباش – حسب ادعائهم – إنما خرجوا لقتال الفرس، ثم عرجوا على الكعبة لينتقموا للصليب من العرب. ويرمون من وراء هذا إلى الطعن فيما يورده القرآن من الأحداث التاريخية، أو اتهامه – على الأقل – بتضخيمها والجنوح بها إلى عالم الخيال والأساطير.

 

وجها إبطال الشبهة:

1) إن في توظيف القرآن للتاريخ بسرد دقيق وواقعية محكمة، ما يشهد لقصصه على وجه العموم بالصدق التاريخي، وفي رواية أهل مكة لحادث الفيل، وتأريخهم به، وما سجله شعرهم في شأن هذا الحادث، ما يشهد بصحة هذا الحادث وواقعيته، في مقابل ما ادعاه بعضهم مما لا يستند إلى دليل قوي أو ضعيف.

 

2) إذا كان الأحباش خرجوا لقتال الفرس بالأصالة، فلماذا لم يسلكوا الطريق البحري الأقصر و الأسهل إلى بلاد الفرس؟! وإذا لم يكن إهلاكهم بالحجارة معجزة وصونا للكعبة وعناية إلهية بها، فلماذا لم يصب الهلاك أحدا سواهم من العرب القريبين منهم والمجاورين لمعسكرهم؟!

 

التفصيل:

أولا. دقة سرد القرآن للوقائع التاريخية وإحكام توظيفها، ورواية أهل مكة لحادث الفيل وتأريخهم به وتسجيلهم له في شعرهم، شاهد على صحة قصص القرآن:

معلوم – بدءا – أن سير الأفراد والأمم يخضع لسنن دقيقة، ومعلوم – كذلك – أن ازدهار الحضارات وانطفاءها، وبقاء الدول أو فناءها لا يتم بصورة عشوائية! وإنما يقع وفق قوانين صارمة صرامة لا تقل عن القوانين العلمية دقة واطرادا.

وقصص القرآن جزء مهم من التاريخ، ومعرفته حصانة للباحثين لا يستغني عنها ذو لب، وهو سرد واع موجه للتاريخ الإنساني، ليس الغرض منه التسلية والتشويق؛ بل الغرض منه التربية والتوعية وتجديد المعاني بعد ذهاب أهلها لتكون عظة دائمة!!

ومن ثم كان القصص القرآني مجالا رحبا لمعالجة النفوس والجماعات من عللها المنوعة بما يلائمها من الدواء الناجع، فسبك القصة ملحوظ فيه نقل ما يفيد الناس من بدء الوحي حتى قيام الساعة، ولا يعول فيها على تحديد المولد أو الوفاة أو الموقع أو الهوية بقدر ما تركز على تقديم الشفاء النفساني والاجتماعي من خلال تاريخ صادق وقصص حق[1].

 

ولعل من أبرز خصائص القصة القرآنية ومما يعنينا في هذا الصدد على وجه الخصوص:

هيمنة الصدق على موضوعات القصة وأحداثها وبثها له في أحاسيس النفس البشرية، توجيها وتقويما وإيماء، بعيدا عن الأساطير والخرافات والأكاذيب، أما صدق القصة فنابع من أصل اشتقاقها في لسان أهل اللغة، فتتبع الأثر الذي هو أصل اشتقاقها ينفي أي تخييل أو تلفيق أو تصوير لما لم يقع، ويعني عملا قياسيا كالقياس بالموازين والمكاييل، وعملا تسجيليا لنتيجة القياس.

وهو لا يحتمل في النتيجة أي زيغ عن الحقيقة العلمية المجردة، ويزيد قصص القرآن في كونه خبر الله تعالى، ومن أصدق من الله حديثا؟! فناهيك عن خبر يعلي التنزيل أمره، ويعلن شرفه، ويجعله أحسن الأخبار: )نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)( (يوسف)، فما أبعده عن الأساطير والخرافات والأكاذيب[2].

وإذا تقرر في أذهاننا ضرورة استقراء الماضي من منظور القصص القرآني – بليغ السرد، محكم الرواية – من جهة، واستوثقنا من الهدف الذي رمى إليه السياق القرآني من جهة أخرى؛ يسهل أن نوازن بين مؤدى القصة القرآنية في سورة الفيل مثلا وبين ما هو ثابت عقلا ومنطقا وتاريخا؛ لنقيم مدى التزام معطيات هذه القصة بسدى الواقع ولحمته.

 

ومما يؤكد صحة هذا الحادث، ودقة سرد القرآن له، أدلة وشواهد لا يصمد أمامها الادعاء الواهي المكذب لها. ومن هذه الشواهد:

معلوم أن حادث الفيل هذا “وقع في السنة التي ولد فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعنى هذا أن سورة الفيل التي عرضت – في إيجاز بليغ معجز – قصة هذا الحادث قد نزلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم، أو – على الأقل – سمعوا عنه، وبعضهم من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم تكن هذه القصة حقيقية لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب هذه السورة ويعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وينتهزها فرصة للكيد للنبي – صلى الله عليه وسلم – والطعن عليه، ولا سيما أنهم كانوا وقتئذ يتمنون أن يروا له سقطة أو عثرة أو كذبة، فلولا أنه ذكرهم أمرا لا يتدافعونه، ولا يستطيع العدو إنكاره، للذي يرى من إطباق الجميع عليه – لوجدوا أكبر المقال في تكذيبه والتشنيع عليه”[3]. خاصة إذا تذكرنا – كما هو معلوم – أن “القرآن الكريم كان يتحدى شعور العرب، وكثير من العرب ما كانوا يؤمنون بالقرآن، بل كانوا يتربصون به؛ لكي يأخذوا منه مأخذا يردون به على آياته، وهذا ظاهر من مواقفهم والآيات القرآنية التي تتحداهم بأنكم لن تتمكنوا من أن تأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور أو بسورة من مثله، وهكذا فهم أحرص الناس على هفوة فيه، ولذا كانوا أولى الناس بالتفتيش عن طريقة للرد على القرآن”[4].

وقصة كتلك التي يدعون اختلاق القرآن لها يستحيل منطقا أن تكون كما ادعوا، ثم يتركها العرب دونما تشهير وإبانة وتنديد بها وبالقرآن جملة وتفصيلا، “لكن شيئا من ذلك كله لم يحدث؛ وإنما نزلت سورة الفيل على النبي – صلى الله عليه وسلم – في مكة المكرمة، وسط هؤلاء العرب – الذين يفترض أن منهم من عايشها ورآها رأي العين – فتلقاها جميعهم بالقبول؛ لأنها تقص عليهم حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها، ولا يستطيع أحد إنكارها”[5].

إن فيما أحدثه حادث الفيل في المجتمع المكي ما يكفي لبيان عظيم أثره من جانب، وما يدل دلالة قطعية على صحته التاريخية من جانب آخر؛ “فلقد تركت حملة (الفيل) أثرا كبيرا في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم”[6]؛ وفي هذا ما يدل على أهميته وعظمته لدرجة تأريخهم به وما يدل بداهة على قطعية ثبوته، وإلا لما ساغ أن يبدأوا تقويمهم به، فهل يعقل أن يؤرخ الناس لحياتهم بحدث لم يقع أصلا؟! إن هذا لا يستقيم عقلا ومنطقا!

وقد “كانوا يقولون: فلان ولد في عام الفيل، أو قبل العام بسنتين، أو بعد العام بخمس سنوات أو عشرين سنة”[7].

وهكذا “صار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل (في كتبهم ودواوينهم من سنة الفيل) فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعا تؤرخ بعام الفيل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة”[8].

وهكذا نرى اقتران حادث الفيل بأحداث جسام في الجزيرة العربية – كحرب الفجار وبنيان الكعبة -، ولما كانت تلك الأحداث ثابتة لا يكاد يطعن فيها منصف عاقل، ثبت وقوع ما اقترن بها في التاريخ من حادث الفيل.

إن قدرا غير قليل من الشعر حفل بتسجيل الحادث بخيوطه وملابساته وملامحه، ولعل الراصد المدقق يقف على ما يثبته هذا التواتر ضمنا، فنحن إذ نستقرئ قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي نجد أن حادثة الفيل حادثة لها خطرها في تاريخ الحجازيين خاصة، والعرب عامة.

وقد هزت الكيان القومي لا للمكيين وحدهم، وإنما للعرب أجمع، فإن البيت الحرام يعتبر رمزا للوحدة العربية وشعارا لحرية العرب، وما غزو أبرهة له إلا محاولة للقضاء على هذه الحرية وتلك الوحدة. ولا غرو إذا ما هتف شعراء الحجاز بالقصيد يصبون جام غضبهم على المعتدي الأثيم، ويهزجون بأهازيج النصر.

ومن الشعراء الجاهليين الذين نظموا شعرا في هذه الحادثة يؤيد صدق ما جاء به القرآن الكريم: عبد الله بن الزبعري، وأبو قيس بن الأسلت الأنصاري، وطالب بن أبي طالب بن عبد المطلب، وأبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، ونفيل بن حبيب الخثعمي، وعبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

ومن هذا الشعر نختار قول عبد الله بن الزبعري:

تنكلوا عن بطن مكة إنها كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى[9] ليالي حرمت إذ لا عزيز من الأنام يرومها[10]

سائل أمير الجيش عنها ما رأى ولسوف ينبي[11] الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يئوبوا[12] أرضهم بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

 

وقول أبي الصلت بن ربيعة الثقفي:

إن آيات ربنا باقيات ما يماري[13] فيهن إلا الكفور

خلق الليل والنهار فكل مستبين حسابه مقدور

ثم يجلو النهار رب كريم بمهاة[14] شعاعها منشور

حبس الفيل بالمغمس[15] حتى ظل يحبو كأنه معقور[16]

حوله من ملوك كندة أبطا ل ملاويث[17] في الحروب صقور

خلفوه ثم ابذعروا[18] جميعا كلهم عظم ساقه مكسور

 

كذلك روى المؤرخون والمفسرون شعرا قاله عبد المطلب جد الرسول في هذه الحادثة، فقد راح يقول وهو آخذ بحلقة باب الكعبة، ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده:

لاهم[19] إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم[20] أبدا محالك

إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك

فلئن فعلت فإنه أمر يتم به فعالك

اسمع بأرجس ما أرا دوا العدو وانتهكوا حلالك

جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك

 

فكل هذه النماذج من الشعر الجاهلي الذي قيل في حادثة الفيل يؤكد وقوع هذه الحادثة، وصدق ما جاء في القرآن الكريم عنها.

 

ولقد سجل القرآن الكريم حديث أصحاب الفيل في سورة مستقلة، وقد أجمع مؤرخو العرب، والمنصفون من كتاب أوربا على وقوع حادث الفيل بين حكام اليمن ومكة، على نحو تؤيده الرواية الصحيحة، ويمليه منطق الأحداث، وفيهم من سلسل الأدوار التاريخية لهذا الحادث مرتبة على نسق مقنع يرضي الباحث المحايد، ولا يجد ذرة من الشك لديه، ومؤرخو العرب في هذا النطاق أولى من سواهم، لأن هذا الحادث الكبير بمغزاه وفجاءاته قد وقع في أرض عربية، وذاع ذكره على ألسنة صناعتها البيان والإفصاح، فسجلته الرواية المسندة، وصوره الشعر العربي في أكثر من قصيدة.

 

وإذا كان الشعر الجاهلي قد سجل حادثة الفيل، فمن السهل جدا أن يرمى بالانتحال لدى هؤلاء الذين يتشككون حيث يحلو لهم التشكك، إذ يجدونه سهل المؤونة يسير التسطير، وقد قالوا فيما يأفكون به:

إن الأشعار التي قيلت في حادثة الفيل نظمت تأييدا للإسلام، وهنا موضع العجب حقا؛ لأن الإسلام لم يعتمد في انتشاره على حادث الفيل، وقد كان الوثنيون يرونه مدعاة فخر لأصنامهم، إذ يزعمون أن لها من القدرة ما أحبطت به كيد أبرهة.

فهو – إذن – أحد مفاخر الجاهلية التي جاء الإسلام ليعفي[21] على خوارق أصنامها الموهومة! فكيف ينظم المسلمون بعد الإسلام شعرا يؤيدون به حادث الفيل ليكون تقوية لدينهم الجديد وقد كان الحادث قبل البعثة النبوية وفي العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟!، حيث ذكر المؤرخون أن أصحاب الفيل جاءوا إلى مكة في المحرم، ثم ولد النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك بخمسين يوما.

 

صحيح أن هناك أشعارا نظمت بعد الإسلام، وتضمنت إشارات أو حديثا عن واقعة أصحاب الفيل مثل قول عبد الله بن قيس الرقيات يذكر أبرهة – وهو الأشرم – ويذكر الفيل:

كاده الأشرم الذي جاء بالفيـ ل فولى وجيشه مهزوم

واستهلت عليهم الطير بالجنـ دل[22] حتى كأنه مرجوم

ذاك من يغزه من الناس يرجع وهو فل[23] من الجيوش ذميم

لكن هذه الأشعار ونحوها لم تنظم من أجل تلك الغاية التي يزعمها المستشرقون، بل كانت من مظاهر تأثر الشعراء المسلمين بالأحداث التاريخية الماضية التي قصها القرآن الكريم، أو من ملامح استعانة الشعراء العرب بالقصص القرآني في توضيح ما يتحدثون عنه في أشعارهم[24].

وبهذا يتبين لنا أن حادثة الفيل ليست من اختلاق القرآن وأن الواقع التاريخي والمنطق يجزمان بتاريخيتها على خلاف ما ادعى هؤلاء.

 

ثانيا. إذا كان الأحباش خرجوا لقتال الفرس، فلماذا لم يسلكوا الطريق البحري القصير إليهم! وإذا لم يكن إهلاكهم بالحجارة معجزة، فلماذا لم يصب الهلاك أحدا سواهم؟!

إن المنطق القويم يثبت بطلان ما ادعوه من أن الحملة الحبشية كانت موجهة إلى بلاد فارس لا إلى البيت الحرام (الكعبة) بمكة، وما عرضت لها إلا ثأرا لشرف الصليب؛ ذاك أن الواقع الجغرافي والموازنة السريعة بين الطريقين المؤديين لفارس – برا وبحرا – يشهدان على خلاف ما ادعوا، ويثبتان غير ما زعموا، فليس أمام أولئك الأحباش إلى بلاد فارس غير طريقين – متباينين بعدا وقربا ويسرا ومشقة:

 

أولهما: الطريق البري بأن يسيروا موازين لساحل البحر الأحمر الشرقي نحو الشمال إلى مكة ثم المدينة، ومنها إلى الشمال الشرقي حيث العراق، ومنها إلى إيران.

 

ثانيهما: الطريق البحري وهو لا شك أسهل بكثير، فليس عليهم سوى أن يبحروا في مياه المحيط الهندي بمحازاة جنوب الجزيرة العربية مرورا باليمن فعمان ومنها إلى بلاد فارس بعد عبور مضيق هرمز.

 

فإذا علمنا أن الهجوم العفوي المفاجئ على مكة من قبل الأحباش أثناء سيرهم لبلاد فارس – حسبما يزعمون – يقتضي أن يكون أولئك الأحباش زهدوا في الطريق البحري على ما فيه من يسر وسرعة – أحوج ما يكون إليها أولئك المحاربون بعدتهم وعتادهم – وسلكوا الطريق البري وفيه ما فيه من البعد والمشقة – جزمنا باستحالة أن يكون مسلكهم هذا ابتغاء فارس – حسبما ادعى هؤلاء – وإلا فالبحر يناديهم ليركبوه سريعا إلى فارس، أما وقد أعرضوا عنه مقدمين البر عليه فإن بلدا غير فارس كانت قبلتهم، لها قصدوا ولها بيتوا النية، تلك هي الكعبة، ويحسن بنا أن نعرض باختصار لما أورده ابن الأثير الجزري في هذا الشأن؛ لنرى كيف هي في كتب التاريخ، يقول:

“لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به، بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانه بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة[25] من بني فقيم (من بني مالك بن كنانة)، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة وقيل له:

إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة، غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا، فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت وخرج معه الفيل واسمه (محمود)، فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له (ذو نفر) وقاتله، فهزم ذو نفر وأخذ أسيرا فأراد قتله ثم تركه محبوسا عنده.

ثم مضى على وجهه فخرج عليه نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله، فانهزم نفيل وأخذ أسيرا، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف (أبا رغال) يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس، فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يرجم.

وبعث أبرهة، الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، فقال: سل عن سيد قريش وقل له: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم”[26].

على أن “قصة تدنيس (القليس)، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لا يعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع أبرهة إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع أحجاره حجرا حجرا، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار، بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشام، لجعل القبائل العربية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش وهم نصارى، وإن اختلفوا مذهبا، ويحققون لهم بذلك نصرا سياسيا واقتصاديا كبيرا، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للأسعار العالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم؛ إذ سترد إليهم من سيلان والهند رأسا عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار”[27].

وقد فات المشككين أن في القرآن الكريم دليلا من أقوى الدلائل على أن الحملة الحبشية كانت موجهة إلى الكعبة في مكة، فقد جاء في المصحف الشريف بعد سورة الفيل مباشرة سورة قريش التي يقول الحق فيها: )لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)( (قريش)، وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل التي قبلها من ناحية موضوعها وجوها. وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة، والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور، ولكن ترتيبهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب”[28]. ويوضح في الوقت ذاته أنهما أشبه ما تكونان بالسورة الواحدة، ولا سيما أن سورة قريش تبدأ بقوله تعالى (لإيلاف)، وهو جار ومجرور لا بد له من فعل يسبقه ويتعلق به، فإذا ما نظرنا إلى آخر سورة الفيل نجد الحق سبحانه يقول عن أصحاب الفيل: )فجعلهم كعصف مأكول (5)( (الفيل)، وهذا يفيد أن الله فعل ما فعل بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، فإن الحق سبحانه لو ترك بيته الذي في مكة لما كان يريده الأحباش من هدم هذا البيت لسقطت مهابة قريش في الجزيرة العربية، فإن وجودهم بجوار هذا البيت وخدمتهم لحجاجه من العرب هو الذي ربي لهم هذه المهابة، وجعل القبائل لا تجترئ على تجارة قريش ورحلتها الشتوية إلى اليمن، والصيفية إلى الشام. ومن هنا أرشد الحق سبحانه قريشا إلى شكر نعمته عليهم حين حبس عن مكة الفيل، وأهلك أهله فقال سبحانه: )فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)( (قريش).

هذا وقد أشار الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي إلى أن الحق لا يعدم أنصاره أبدا “فقد نهض من ذوي الاستشراق أنفسهم من أجهد نفسه مخلصا في البحث والتمحيص، حتى عثر على نص ذكره المؤرخ اليوناني الكبير بركوب عن تعرض الأحباش للبلاد الحجازية بتأثير الروم، وكان في العثور على هذا النص ما يجب أن يقضي على لجاجة المرجفين، بحيث يخفون رؤوسهم من حلبة هذا النقاش، لأنهم بنوا أفكارهم على خلو المصادر اليونانية من ذكر الحادث، وها هو ذا بركوب مؤرخ اليونان الأشهر قد سجل الحادث المشتهر!

وتسجيل المؤرخ اليوناني الكبير لحادثة الفيل يدحض ما ادعوه بأن رحلة أبرهة إلى الحجاز لم تكن تهدف إلى هدم الكعبة؛ بل كان الهدف منها أن تقطع صحراء الجزيرة العربية الممتدة، حتى تصل إلى فارس عن طريق العراق لتعاون الدولة الرومانية في حرب الدولة الفارسية”[29].

ولا يبعد عن هذا التعسف ما ادعوه من موت جيش الأحباش بالجدري أو بالحصبة ورفع مشيئة الله عنهم ونفى قدسية الكعبة التي اقتضت أن يصونها الله بجعلهم عبرة لغيرهم؛ ذاك أن إرادة الله واقعة لا محالة في شأنهم، أيا كانت الوسيلة حتى لو كان الجدري الذي ادعوه.

على أن شيئا من الواقعية التاريخية التي اتسم بها السرد القرآني تدعونا للوقوف على القصة وبيان طبيعة ما أهلكهم الله به في منظور التاريخ وحسبما ثبت، ثم موازنة ذلك بما أتى به النص القرآني، لبيان مدى التزامه بالتاريخ ودقة سرد الوقائع، دونما تهويل ولا تخيل ولا تقول:

يقول العلامة أبو الحسن بن الأثير الجزري: “فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وعبأ جيشه وهيأ فيله وكان اسمه (محمودا)، وأبرهة مجمع لهدم البيت والعود إلى اليمن؛ فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فأمسك بأذنه فألقى الفيل نفسه إلى الأرض، واشتد نفيل فصعد الجبل، فضربوا الفيل فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض، وأرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك؛ وليس كلهم أصابت، وأرسل الله سيلا ألقاهم في البحر، وخرج من سلم مع أبرهة هاربا يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:

أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب غير الغالب

وقال أيضا:

حمدت الله إذ عاينت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا

وكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للأحباش دينا

فخرجوا يتساقطون بكل منهل وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضوا عضوا، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى وذلت حمير واليمن له، ونكحت الحبشة نساءهم، وقتلوا رجالهم، واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب.

ولما أهلك الله الحبشة، وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم، ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون، ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حسا، فدخلا معسكرهم فرأيا القوم هلكى، فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما ذهبا وجوهرا له ولأبي مسعود، ونادى في الناس فتراجعوا فأصابوا من فضلهما شيئا كثيرا، فبقي عبد المطلب في غنى من ذلك المال حتى مات، وبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر.

وقال كثير من أهل السير إن الحصبة والجدري أول ما رئيا في العرب بعد الفيل، وكذلك قالوا إن العشر[30] والحرمل[31] والشيح[32]لم تعرف بأرض العرب إلا بعد الفيل، وهذا مما لاينبغي أن يعرج عليه فإن هذه الأمراض والأشجار قبل الفيل منذ خلق الله – عز وجل – العالم”[33].

يقول صاحب الظلال: “وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة، فقالوا: «خلأت القصواء – أي: حرنت وتمنعت – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل…»[34]. وفي الصحيحين أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد»[35]، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل.

ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة. كما يحكي عنهم القرآن الكريم. وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه، وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع تلك الجماعات من الطير وأشكالها وأحجامها وأحجام تلك الحجارة ونوعها وكيفية فعلها، كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة.

ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى، وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات، فالطير هو كل ما يطير.

قال الإمام محمد عبده في تفسيره للسورة: وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة.. قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب، وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث: إن أول ما رئيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام. وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب قائد الجيش، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.

هذا ما اتفقت عليه الروايات، ويصح الاعتقاد به، وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح.

فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه.

وإن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير – الذي يسمونه الآن بالميكروب – لا يخرج عنها. وهو فرق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها.. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب[36]، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها.. فلله جند من كل شيء.

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته. فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة. وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه – على وثنيتهم – حفظا لبيته، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه.

هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة. وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته. ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل – وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما – ويهلك، بحيوان صغير لا يظهر للنظر، ولا يدرك بالبصر، حيث ساقه القدر لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر”[37]!!

ويستدرك القاضي عبد الجبار متسائلا: وربما قيل فيه كيف يصح في الطير الصغير أن يرسل الحجر فيؤثر في الناس التأثير الذي ذكره الله تعالى في هذه السورة؟

وجوابنا أن ذلك يصح من أحد وجهين، إما بأن يزيد الله تعالى في قوة الطيور، فلزيادة قوتهم يؤثر ذلك الحجر التأثير العظيم، فقد روي أن ذلك الحجر كان ينفذ في الراكب وفي فرسه حتى يخرقها جميعا، والثاني أن يكون الله تعالى عند رمى الطير يفعل فيه من الانحدار الشديد ما يؤثر هذا التأثير.

فإن قيل كيف يصح ذلك ولم يكن في الزمان نبي وهذا من المعجزات العظام؟

وجوابنا أنه لا بد من نبي في الزمان يكون هذا الأمر معجزة له، وقد كان قبل نبينا أنبياء بعثوا إلى قوم مخصوصين فلا يمتنع أن يكون هذا الأمر ظهر على بعضهم، كما روي أنه – صلى الله عليه وسلم – قال في خالد بن سنان: “ذلك نبي ضيعه قومه”، وكما قال في قس بن ساعدة: “أنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة”[38].

 

ويعلق صاحب الظلال على تفسير الإمام محمد عبده، قائلا:

“ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام – صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم، أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو “العصف” لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله، ولا أولى بتفسير الحادث، فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع، ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس، المعهودة المكشوفة لعلمهم، هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم. أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر، وغير المعهود المكشوف لعلمهم، فحققت قدره ذاك.

إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه، وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق – كما يسمونها – هي من سنة الله. ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه!

ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها – متى صحت الراوية – أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم، وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف.

فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر.. إن طلوع الشمس وغروبها خارقة – وهي معهودة كل يوم – وإن ولادة كل طفل خارقة – وهي تقع كل لحظة، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب! وإن تسليط طير – كائنا ما كان – يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة ويلقيها في هذه الأرض، في هذا الأوان، وإحداث هذا الوباء في الجيش، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت.. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير. وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا أبابيل غير معهودة – وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها! – تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود.

نحن أميل إلى هذا الاعتبار. لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة؛ ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب؛ فقد كان الله – سبحانه وتعالى – يريد بهذا البيت أمرا، كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة، في أرض حرة طليقة، لا يهيمن عليها أحد من خارجها، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها.. فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكل مقوماته وبكل أجزائه ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ.

وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة، ولا يشق الصدر عن القلب.

وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: )فجعلهم كعصف مأكول (5)( (الفيل) إيحاء مباشرا قريبا.

ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة، وغيره ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري؛ فهي لا تزيد على أن تقول: إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة، ولم ترد في هذه الأقوال أية إشارة لأبرهة وجيشه – خاصة – بالإصابة بهذا المرض.. ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كانت الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل. وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر؟! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله!

إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام (رحمه الله) على رأسها في تلك الحقبة.. ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية.. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها”[39].

وبعد ما أسلفنا بيان الوجه الصواب لفهم آية الفيل في مقابل الخطأ المتوهم المزعوم، نخلص بإثبات أنه مهما استمر أعداء الإسلام في تكذيب الحقائق الواردة في القصص القرآني فلن ينالوا منه شيئا أبدا؛ لأن القصص القرآني كلام الله الحق الصادق، ومصدر أساسي للتاريخ القديم تصادقه الحفريات التي أجراها علماء الآثار، وما يكتشفه العلم الحديث في كل يوم من آفاق جديدة تضيء الطريق إلى الله عز وجل، وتؤكد حقائق القرآن الكريم، وتكشف زيف ما يدعيه هؤلاء الأعداء الذين يخالفون التحقيق العلمي في صميمه، وهم يزعمون أنهم يستندون إلى العلم لتمحيص تلك الأخبار، وذلك القصص الديني، أخطأوا بإنكارهم لذلك في حق العلم وحق الدين معا.

لقد أنكر بعضهم – كما أشار الجغرافي د. عبد العليم خضر – قصة قوم لوط الواردة في القرآن الكريم، وزعموا أنها خرافة لا طائل لها، وزعم آخرون منهم أنها قصة رمزية ترمي إلى العظة فليست من التاريخ في شيء!

أنكروا هذه القصة الحقة الواردة في القرآن الكريم، فلم يمض وقت حتى أثبتت الحفريات التي أجريت أن تلك القصة حقيقية بكل تفاصيلها، وتوصلت إلى اكتشاف مواقع القرى الخمس، التي كان يقيم بها قوم لوط ودمرها الله تعالى عليهم، وكان المكتشف لذلك كله هو د. أولبرايت الذي قام بمباحث واسعة النطاق في وادي الأردن وعلى سواحل البحر الميت، وهما الموضعان اللذان كان يظن أن قرى قوم لوط كانت فيها.

وانتهى البحث إلى أن القصة ليست خرافة، ولا أسطورة رمزية تهدف إلى العبرة والذكرى؛ بل هي تاريخية بكل تفاصيلها وأبعادها، وهكذا كشفت الحفريات عن صدق ما ورد في القرآن الكريم، ومطابقة ما صوره قصصه العظيم لوقائع التاريخ.

وكان هذا الاكتشاف – بحق – حادثا مهما في مجال البحث العلمي الأثري، وقلب الحسابات رأسا على عقب حين نشر نتاج كشوفه على الملأ.

مما سبق يتضح لنا أن القصص القرآني يخلو تماما من الأخطاء التاريخية، وأنه حجة تاريخية لا تقبل الطعن في إثبات ما قص من وقائع تاريخية، على الرغم من أن القرآن الكريم لم يكن يهدف إلى العرض التاريخي بالمعنى المعروف عند المؤرخين المحدثين، وإنما كان يهدف أولا وقبل كل شيء إلى أن يكون عظة وعبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

لقد كان حريا بهؤلاء المغرضين أن يتحاشوا ادعاءاتهم الكاذبة، ويظهروا – لو كانوا منصفين للبحث العلمي حقا – كيف أبان القرآن الكريم وجه الحق فيما دخل على بعض القصص الديني والتاريخي من زيف أو تحريف، سواء في كتب العهدين القديم والجديد أو في كتب التاريخ القديمة، ويوضحوا فيما كتبوه من حوليات ودوائر معارف وغيرها ما تضمنه القرآن الكريم من إشارات لا تخلو من أصول علم التاريخ وبذور فلسفته، وغير ذلك مما جاء فيه على أكمل نظام وأتقن ترتيب[40].

 

الخلاصة:

إن القصص القرآني سرد موجه للتاريخ الإنساني، ومجال رحب لمعالجة النفوس، يركز على تقديم الشفاء النفساني والاجتماعي من خلال تاريخ صادق، وقصص حق، وسرد محكم.

إن من أبرز خصائص القصص القرآني: هيمنة الصدق على موضوعات القصة وأحداثها وبثها له في أحاسيس النفس البشرية توجيها وتقويما وإيماء، بعيدا عن الأساطير والخرافات والأكاذيب.

إن ما ادعي من اختلاق القرآن لحادثة الفيل محض زعم لا يستند على دليل قوي؛ بل العقل والمنطق والواقع التاريخي ذاته يجزم بتاريخيتها، ولنا على ذلك شواهد ثلاثة وهي:

إقرار أهل مكة لمؤدى القصة حين نزلت تلك السورة المكية (الفيل)، مع العلم أن فيهم من يفترض أنهم رأوا حادث الفيل بأعينهم مع حرصهم الشديد على تصيد سقطة أو عثرة أو كذبة في هذا القرآن.

ما تركه حادث الفيل من عظيم الأثر في المجتمع المكي، كان منه أن قرن بحرب الفجار، وبنيان الكعبة، فأرخ به، كأن يقال: فلان ولد في عام الفيل أو قبل العام بسنتين أو بعد العام بخمس. وهل يستقيم عقلا ومنطقا أن يؤرخ الناس لحياتهم بحدث لم يقع أصلا؟!

ما روي من الشعر الجاهلي في تسجيل هذا الحادث بملامحه الدقيقة وملابساته، وما كان منه في العصر الإسلامي على سبيل استلهام الأحداث التاريخية الماضية جريا على عادة من سبقوهم ممن عاينوا الحادث.

إن في عدول الأحباش عن الطريق البحري وتجشمهم عناء الطريق البري ما يؤكد أن مقصدهم ليس بلاد فارس، وأن هجومهم على الكعبة ما جاء فجأة دون الحسبان – كما يزعمون – بل إنهم ما خرجوا إلا إلى مكة؛ إذ المنطق يستبعد أن يحرم قائد كأبرهة جنده من قرب الطريق البحري وسهولته، ويقذف بهم في مهاوي صحراء البر ليصلوا إلى فارس مجهدي القوي مقطعي الأوصال.

إن مطلع السورة التالية لسورة الفيل واستهلالها بقوله: )لإيلاف قريش (1)( (قريش) يؤكد أن إهلاك الله للأحباش إنما كان لحفظ مهابة هؤلاء المكيين القاطنين في جوار البيت الحرام (الكعبة)، ويدلل على أن الحملة الحبشية التي أهلكها الله كانت موجهة إلى الكعبة في مكة.

إذا كان هؤلاء قد بنوا أفكارهم تلك على خلو المصادر اليونانية من ذكر الحادث، فإن ثمة نصا ذكره المؤرخ اليوناني الكبير (بركوب) عن تعرض الأحباش للبلاد الحجازية بتأثير الروم، وبثبوت هذا النص عندهم كفى الله المؤمنين جدلا كثيرا، ولا داعي لإنكار ما ثبت من امتناع الفيل ومن كيفية إهلاكهم؛ لأن صون الله لبيته الحرام ثابت لا ريب.

ليس هؤلاء في حل من إنكار ماثبت في التاريخ من صادق القصص؛ لأننا لسنا في حاجة أيضا إلى إثباتها، فقد كفانا هذا واقع العلم فيما صدقه بعضهم من الحفريات وغيرها.

لقد كان أولى بهؤلاء أن يتجردوا من أية مقررات عقلية سابقة وأن يواجهوا النصوص ذاتها ليتلقوا منها مقرراتهم؛ ذلك أن ما نسميه “العقل” ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود، وتجاربنا البشرية المحدودة.

وبعد ما ثبت من خلو القصص تماما من أخطاء تاريخية اتهمت بها سورة الفيل، نقر أن القرآن ما قصد بهذا القصص العرض التاريخي بقدر ما هدف إلى أن تكون عظة وعبرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

المصدر