الاعتراضات على النتيجة: (الله هو من أحدث الكون من عدم):
الاعتراض الأول: لماذا الله؟
فكرة هذا الاعتراض أنه حتى بتقدير وجود سبب يقف وراء حدوث العالم، فما الموجب لأن يكون السبب هو الله؟ وهذا الاعتراض هو أحد الاعتراضات الشهيرة عند الملاحدة، والغريب أن ريتشارد دوكنز حين أراد مناقشة دليل الحدوث على وجود الخالق في كتابه الشهير «وهم الإله» في فصل خصصه لهذا الشأن لم يورد فيه من الاعتراضات على هذا الدليل إلا هذا الاعتراض، وذلك في قوله : (حتى لو سمحنا بمرور هذا الترف الاستدلالي المريب باستحضار اعتباطي قاطع للتسلسل اللانهائي وإعطائه اسما، لمجرد أننا بحاجة إليه، فليس ثمة دليل مطلقا لوصف هذا القاطع للتسلسل بأي من الأوصاف التي عادة ما يوصف بها الله كالقدرة المطلقة، والعلم الكلي والخيرية، وإبداع التصميم، فضلا عن القول بأنه يسمع الدعوات، ويغفر الذنوب، ويعلم أفكارنا الخاصة جدًّا). ثم يستغرق في الحديث عن صفات الله – تبارك وتعالى – ومدى إمكانية اتصاف الله تعالى بها، وهذا الصنيع منه ومن الملاحدة – عند التدقيق – هروب من محل البحث، إلى بحث أجنبي تمامًا، فمن استدل بهذه الحجة إنما استدل بها لإثبات وجود واجب الوجود، لا إثبات صفات هذا الموجود فالقفز على النقاط المركزية في الدليل، وتجاوزها إلى بحث مسألة لم يدعها الخصم ممارسة تنم عن عدم نزاهة، أو جهل بأصول الجدل والمناقشة العلمية الفلسفية، يوضح هذا:
- أن أحد أهم مناطق الخلاف بين الخطاب الإلحادي والخطاب الديني هو إيمان الملاحدة بالمادة وأنه لا شيء وراءها، وظاهر هذا الدليل يستوجب أن يكون ثمة سبب وراء المادة هو الذي تسبب في حدوث العالم، وهذا القدر حاصل من الدليل وهو لبنة في بناء الدلالة العقلية على وجود الله تعالى، وهو كونه سبحانه مخالفا لسائر ،مخلوقاته، ولطبيعة هذا الكون.
- أن الدليل يثبت أمورًا تتعلق بطبيعة هذا السبب مما يجعله دليلًا صالحًا لإثبات وجود الله تعالى بل ولبعض صفاته سبحانه فإذا كان الكون موجودًا بعد عدم، فلا بد أن يكون سببه خالقا حصل به تَخَلُّقُ هذا الكون، ولا بد أن يكون متصفّا بالأزلية لكون سلسلة الأسباب متوقفة عنده دون أن يكون أثرًا لسبب آخر، ضرورة انقطاع التسلسل في العلل، وافتقار وجود الكون إلى علة غير حادثة، ثم إن حدوث الكون فيه من معاني التخصيص ما يقتضي أن يكون حادثا عن إرادة والإرادة هنا ترشد إلى فاعل بالاختيار، وهذا الفاعل المختار لا بد أن يكون حيا ، إذ فرق ما بين الحي والميت الفعل ويدل أيضًا على قدرة هائلة حصل بها هذا الإحداث، وإلا فلو كان السبب فاعلا مريدا عاجزا لم يقع منه الفعل وهكذا فالقصد أن الدليل في حد ذاته يرشد إلى بعض كمالات الله تعالى .
- أن القصد من إيراد هذا الدليل لم يكن لإثبات وجود الله تعالى بسائر كمالاته وصفاته، بل يكفي منه الحد الأدنى من وجـود فـاعـل بـالـقـدرة والاختيار، وهو محل البحث والجدل مع الملاحدة وإلا فإثبات ما وراء ذلك من صفات الخالق تعالى يمكن تحصيله من أدلة أخرى عقلية كدليل العناية والنظم، أو أدلة نقلية بإخبار الله تعالى عباده عما يتعلق به سبحانه من صفات ، فمن المغالطة إيهام المتلقي بأن القصد بإيراد هذا الدليل هو إثبات وجود الله تعالى بجميع ما يشتمل عليه من كمالات فيأتي الاعتراض، لكنه لا يدل على كذا وكذا، مما هو خارج عن محل البحث أصلا، ولم يكن محل دعوى المستدل ابتداء .