مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن التشريع الجنائي في الإسلام ينطوي على وحشية وهمجية وقسوة، تُهدر كرامة الإنسان. ومن ثم، فهو في ظنهم اعتداء على حقوق الإنسان، ومخالفة للمعايير التي تنادي بها المنظمات الدولية للحفاظ على الإنسان وحقوقه ويهدفون من وراء ذلك إلى الطعن في كفاءة التشريع الإسلامي ومناسبته للإنسان.
وجوه إبطال الشبهة :
- الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح والحدود إحدى أركان هذه المنظومة، وليست الحدود المقدمة ولا الغالبة على الرؤية الإسلامية للإصلاح.
- العقوبات المقررة شرعًا على الجرائم فيها رحمة بالإنسانية، وخالية من الهمجية والتعسف، وقد اشترطت الشريعة لإقامتها شروطا يصعب توافرها.
- إهمال إقامة الحدود جلب على المجتمع مفاسد جسيمة، منها: فقدان الأمن والأمان.
- تطبيق الحدود في التشريع الإسلامي ليس فيه مساس بحقوق الإنسان ولا كرامته.
- لتشريع العقوبات في الإسلام مقاصد أهمها: تقويم السلوك الإنساني، وحماية المجتمع من الجرائم.
التفصيل:
أولا. الإسلام منظومة متكاملة للإصلاح، وليس مبنيا على إقامة الحدود فحسب:
إن الشرع الإسلامي ليس متلهفا على إقامة الحدود من رجم، وجلد، وقطع، وليست هذه غايته، ولا وكده الأساسي، وإنما هي وسيلة ولبنة في رؤيته المتكاملة للإصلاح، وبرنامجه الرباني لإدارة الحياة وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
أفاض في تبيين حقيقة هذه الرؤية وتجليتها الأستاذ محمد فريد وجدي، حيث يذكر: أن في الكتاب الكريم جرائم معينة حددت لها عقوبات مقررة كالزنا، والقذف، والشكر، والسرقة، والفساد في الأرض؛ فالكتاب والسنة الصحيحة يقرران على مرتكب الجريمة الأولى ـ الزنا ـ إن كان محصنا الرجم، وإلا فمائة جلدة، وعلى مقترف الثانية – القذف – ثمانين جلدة وعلى مقترف الثالثة – الشكر – ثمانين أو أربعين جلدة، وعلى جاني الرابعة ـ السرقة – قطع اليد، وعلى فاعل الخامسة – الإفساد في الأرض ـ أن تُقطع يده ورجله من خلاف، أو يقتل، أو ينفى من الأرض.
فهذه العقوبات تصادف اليوم اعتراضات من جانب المشرعين، وهم الذين أباحوا الزنا والشكر، وقرروا على القذف والسرقة والإفساد في الأرض عقوبات تناسب خطرها، ويفوت هؤلاء النقاد أمر خطير، هو أن الإسلام دين إصلاح اجتماعي ولــه برنامج معين فيه، وهو يهدف إلى تأليف مجتمع خال من الشرور ما أمكن، ويسود فيه التكامل في الحياة، والتَّرافد حيال صعوباتها إلى أقصى حد تطيقه الفطرة البشرية.
وفي الأرض مذاهب إصلاحية تكاد لا تحصى؛ فما الأديان، وما جمهورية أفلاطون، وما كتاب السياسة لأرسطو، ومعارضة أبيقور وزينون وغيرهم من الأقدمين، وما نشر كارل ماركس، ومن أتى بعده إلى لينين… إلخ – إلا مذاهب اجتماعية قصد ذووها إحداث إصلاح عمراني على موجبها، فمنها ما طبق على بعض الشعوب، وعاش دهرا ثم اضمحل وزال ومنها ما حبط تاركا وراءه دخانا وحمما، وبعضها لم يطبق إلى اليوم على أمة من الأمم.
فإذا كانت قيمة الشيء تعرف بأثره، فانظر إلى المذاهب الاجتماعية، هل يقرب من الإسلام مذهب منها في سمو أغراضه وبعد غاياته، واستقامة مسالكه وصحة أصوله، وفي تأديته للجماعات التي أخذت بـه إلى زعامة العالم في زمن لا يكاد يكفي لتطور فرد؟ فما ظنك بأمة؟!
فالإسلام جاء بمذهب في الإصلاح الاجتماعي ونجح في تطبيقه، وكان من أثره ما رأيت، على حين ما تزال الأمم الآخذة بـه تعمل فيـه ـ جاهلة بقيمته – معاول الهدم والتحطيم، وتكاد لا تُسقط منه ركنا إلا وتستشعر ضرورة العودة إليه بعد أن تصح من داء هذه الفتنة، أو تصحو من خَدَر الجهل الذي هي فيه.
فهل تعدى هذا الدين – فيما قرره من استقطاع الجرائم التي ذكرناها، وترتيبه عليها العقوبات الرادعة الحق الطبيعي الذي للأفراد والجماعات ؟! وهل قصر في اتخاذ الاحتياطات لها من جميع الأنواع؟!
أي مشرع أو فيلسوف – في الأرض – لا يرى في الزنا جريمة من أبشع الجرائم؛ لعدوانها على الشرف والكرامة والأخلاق أكبر عدوان؟! فالإسلام قرر أن يجلد مرتكبها إن لم يكن محصنا مائة جلدة، وأن يُرجم إن كان من أهل الإحصان.
نحن لا ننكر أن هذه العقوبة من الشدة بمكان، لكن أرأيت كيف أحاطها الشرع الإسلامي بما يجعلها وقائية ردعية أكثر منها عقوبة حقيقية؟ فقد تطلب لإثبات الزنا أربعة شهود عدول، يقرون أنهم رأوا الفعل رأي العين في تفصيل لا نستطيع الخوض فيه، مما يجعل إثباته أمرا صعبا، بل شبه مستحيل، وزاد على هذا بأن أحدًا لو انهم اثنين بوقوع هذه الجريمة منهما، طالبته الحكومة بإحضار أربعة شهود عدول، فإن عجز عن إحضارهم؛ عُد قاذفا وجُلدَ ثمانين جلدة، وقد أوصى الشارع الرحيم تبارك وتعالى بقبول أوهـى المعاذير في دفع هذه التهمة؛ ميلا منه تبارك وتعالى للعفو عنا لا تعذيبنا !!
فقد حدث أن جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني زنيت، فوقع اعترافه وقعا شديدا من النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يستوثق منه ويعرض عليه الشبهات التي تدفع عنه الحد؛ فيقول له: “لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت”، فلم يزدد الرجل إلا إصرارًا، فلم يسع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أمر بإقامة الحد عليه وهـو كــاره لذلك صلى الله عليه وسلم.
ينضاف إلى هذا بعض الآثار التي جاءت عن الصحابة في هذا الشأن، منها ما ورد عن عمر بن الخطاب في أيام خلافته أنه رأى رجلا وامرأة على فاحشة، فلم يستطع – على شدته وحرصه على حدود الله – أن يبت في هذا الأمر بنفسه، فجمع الناس وقام فيهم خطيبًا وقال: ما قولكم أيها الناس لو رأى أمير المؤمنين رجلا وامرأة على فاحشة؟ فقام علي بن أبي طالب وأجابه بقوله: يأتي أمير المؤمنين بأربعة شهود، أو يُخلد حد القذف – ثمانين جلدة ؛ فسكت عمر، ولم يعمل شيئا.
فلو علمت إلى أي مدى بلغ نظر المسلمين إلى هذه العقوبة لأيقنت أنها وقائية ردعية ـ كما قلنا ـ أكثر منها حقيقة واقعة بالفعل.
وأما قطع اليد على السرقة، فإن الإصلاح الاجتماعي الذي أوجده النبي صلى الله عليه وسلم كان من أصوله أن يقوم المسلمون على مبدأ تعاوني محكم البناء يحول دون لجوء الجناة للسرقة، وليس في إحدى نواحيه ضعف؛ وقد سلك لذلك مسلكين:
١. الإنفاق أن يؤخذ من رؤوس الأموال نحو اثنين ونصف في المائة للفقراء، ومن في حكمهم، وللأعمال العامة التي تعود عليهم بالخير والبشر، فكان في بيت مال المسلمين رصيد خاص بذوي الحاجة، ومن تدفع بهم الضرورة إلى الحدود القصوى، وكانت الحكومة مسئولة عن وصول الحاجة ببعض الناس إلى هذه الحدود.
٢. التكافل : كان على كل فرد من أفراد المسلمين واجب حتمي لا بد أن يقوم به، وهو العيش مع الجيران على حالة تكافل وتعاضد؛ بحيث يُريد (۳) غنيهم فقيرهم، وإلا كان عليه وزر المقصر المستأثر، ولقد أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوصية بالجار وضرورة المحافظة عليه ؛ حتى قال : “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه.
وقد جرى المسلمون على هذا المبدأ، وضربوا أروع الأمثلة في التعاون والتكافل بين الفقراء والأغنياء حتى امتلأت بها تواريخهم؛ وقد ذكر حجة الإسلام الغزالي: ” أن رجلا كان عند عبد الله بن عمر و الله، وغلامه يذبح شاة، فقال عبد الله بن عمرو: يا غلام لا تنس جارنا اليهودي، ثم عاد فكررها ثانية وثالثة: فقال له الرجل: لم تقول ذلك يا عبد الله ؟ فقال: “والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يوصينا بالجار حتى ظننا أنَّه سَيُورثه”.
انظر إلى هذا الأثر، من ناحية أنه تشديد في مراعاة حقوق الجوار، ولا تنس أن تنظر إليه من ناحية دلالته على مبلغ تسامح المسلمين مع الأجانب بغض النظر عن مِلتهم؛ حتى إنهم لم يُفَرِّقوا بين الناس كافة في حقوق الجوار.
وفي ظل نظام اجتماعي تعاوني من هذا الطراز، يسوده التكافل والترافد ، ويمكن استصراخ الحكومة المكلفة بدفع الحاجات عن المعوزين؛ كيف لا يعامل العابث بأموال الناس أقسى معاملة، بل كيف لا تُقْطَعُ يده؛ حتى يكُفَّ سِواه عن مثل عمله الذي لا يَقْصِدُ به إلا محض الإيذاء، وإزعاج الأمن؟
وكيف لا يساوي الشرع في إقامة هذا الحد على مرتكبه – ضعيفًا كان أو شريفا ـ وقد قال : “والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
وكيف لا يجلد رجل تسمح له نفسه الشريرة أن يشرب الخمر حتى يفقد الرشد، وقد يؤذي نفسه، أو يعتدي على غيره؟
وكيف لا يجلد ـ كذلك – رجل يتهم أهل الإحصان بالفسق – غير حاسب لما ينتج عن عمله هـذا مـن حـلّ روابط الأسر، وهدم أركان البيوت ـ ثـم يعجز عن الإتيان بأربعة شهود عدول، يُعزّزون بشهادتهم ما يقول؟
والذين يفسدون في الأرض بإضرام نيران الفتن، وقلب النظم، وإزعاج الأمن، كيف لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؟! أو لا يُنفَوْنَ من الأرض؟! وانظر لرحمـة الشارع، فقــد قـدم قطـع البـد والـرجــل استفظاعًا لهذه الجرائم، ثم فتح للحكومة باب الرحمة بين هذه العقوبة وبين النفي.
نعود إلى الجلد فنقول: ليس في هذه العقوبة ما يؤخذ على الشرع؛ فقد كان معمولا بها في إنجلترا وغيرها، بل وفي السجون المصرية أيضًا.
ولا بد لنا من التنويه هنا بحال الشهود؛ فإن القضاء الإسلامي لا يقبل – وبخاصة في الحدود – شهادة شهود يجمعهم المتقاضون من هنا وهناك؛ بل يشترط فيهم أن يكونوا من أهل العدالة، وأن يشهد شهود آخرون بأنهم أهل للشهادة، وفي حادثة الشهادة الآتية بيان لما يجب أن يكون عليه الشاهد في الإسلام من الصفات وبما كان عليه هذا الأمر عند أسلافنا الأولين من الخطورة.
فقد ذكر أن رجلا أدخل على عمر بن الخطاب في عهد خلافته في قضية، فطلب منه أن يخضر له من يشهد بأنه عدل؛ ففعل. فلما مثل شاهده بين يديه، قال لـه الخليفة: أتعرف فُلانا حق المعرفة؟ فقال الرجل: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال له: أأنت جاره صباح مساء، لتعرف مدخله ومخرجه؟ فقال الشاهد: لا. فسأله عمر: أعاملته بالدرهم والدينار الذي يستبين به وَرَعُ الرجل؟ فقال المزكي: لا. فقال له الفاروق: أصاحبته في السفر الذي يتضح فيه ما هو عليه من مكارم الأخلاق؟ فقال الرجل: لا، فقال له عمر : لعلك رأيته قائما يصلي في المسجد يهمهم بالقرآن؟ فقال الشاهد: إي والله يا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر: اذهب فلست تعرفه !!
فالمسلمون الذين قاموا على هذه النظم المحكمة؛ جدير بهم أن يظفروا – في سنوات معدودة – بزعامة العالم كافة في العلوم والفنون والسياسة، ويمدُّوا ملكهم إلى بقاع لم يَظِلُّها علم غير علمهم إلى اليوم، فاختر لنفسك الآن ما يحلو لك، أتودُّ أن يكون لأمتك ملك لم يتحقق لأمة قبلها، وزعامة العالم والسياسة، وفيها هذه الحدود؟ أم تؤثر ألا يكون لأمتك شأن يُذكر بين الأمم، ولا تكون في قوانينها مثل هذه العقوبات؟