تعزيز اليقين وهداية الحيران

الاعتراض بـ إله الفجوات

الاعتراض بـ إله الفجوات:

وهو الآخر اعتراض شهير جدا يزعم فيه الملاحدة بأن جواب المؤمنين على سؤال : ما سبب حدوث العالم؟ بأنه الله هو في حقيقته ناشئ عن حالة جهل بالسبب، فيملئون فراغ جهلهم بهذا الجواب، وهم يؤكدون موقفهم الجاهل هذا بممارسة ما يعرف بمغالطة التوسل بالمجهول، فيستدلون بقضية يرون عجز المخالف عن نقضها ليس إلا، دون أن يبرهنوا على الصحة الذاتية لمقولتهم، وهذا الكلام مغالطة أخرى يمارسها الملاحدة، فإثباتنا لوجود الخالق ليس مبنيّا على حالة من العجز عن التفسير، أو مجرد قفزة إيمانية عمياء، أقحمنا لأجلها فكرة الإله لحل معضلة لا نعرف جوابها، وإنما اعتقادنا هذا نتيجة لمقدمات عقلية ضرورية أفرزت هذه النتيجة، فالحقيقة أن هذا الاعتقاد بكون الله سببًا في حدوث الكون ناشئ عن علم لا عن جهل، إذ الكون كما سبق حادث، وإذا كان كذلك، فإما أن يكون حادثاً بسبب أو يكون حادثا من دون سبب، وبدهي امتناع الثاني، إذ الحدوث ناشئ عن سبب ولا بد، وإذا كان كذلك فهذا السبب إما أن يكون الكون نفسه، أو يكون أمرًا مفارقًا له، وممتنع أن يكون الكون نفسه سببًا في حدوثه، إذ هو قبل الحدوث عدم، وفاقد الوجود ممتنع عليه أن يمنح الوجود لغيره فضلا عن نفسه، وإذا كان حادثا بغيره، فإما أن يكون ذلك الغير سببًا حادثاً أو سببًا غير حادث، فلو قدر أنه بسبب حادث فلا بد أن ينتهي الأمر إلى سبب غير حادث لامتناع تسلسل العلل ضرورةً، فبان لك أن القول هنا ليس ناشئًا عن رغبة في ملء فراغ ناشئ عن الجهل، بل هو جواب ناشئ عن وعي وإدراك وتقديم جواب عقلي يتكئ على مقدمات بدهية.

والحقيقة أن استطالة الملاحدة بهذا الاعتراض هو ردة فعل من تعجلات بشرية سابقة في تفسير كثير من الظواهر الطبيعية بالتدخل الإلهي المباشر غير مراعين أن كثيرًا من أفعال الله في الخلق هو من خلال ما قدره الله تعالى في الكون من سنن وقوانين ناظمة لشئون هذا الكون، فصار الملاحدة يعممون هذا الحكم الجائر على كافة الممارسات الاستدلالية للمؤمنين بوجود الله تعالى، وتعقل كون الله تعالى هو الفاعل في هذا الكون وبين وجود الأسباب ليس غريبا في الفضاء الإسلامي بل هو معنى مصرح به كثيرًا في القرآن الكريم بذكر أسباب كثير من الظواهر الطبيعية، قال ابن القيم الله رحمه الله: (ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ).

أختم هذه المناقشة بكلمة مهمة قالها ريتشارد سوینبرن (Richard Swinburne) في كتابه «هل هنالك إله؟» (?Is There a God) وذلك في سياق مناقشته لذات الاعتراض المقدم هنا :

(لاحظ أني لا أفترض هنا (إله فجوات) إلها فقط دوره تفسير ما عجز العلم الطبيعي حتى الآن عن تفسيره، إنني أفترض وجود إله من أجل تفسير لما صار العلم قادرًا على أن يفسر، فأنا لا أنكر أن العلم الطبيعي يفسر، لكنني أفترض وجود الله لتفسير هذه القدرة الحاصلة للعلم على التفسير، إن نجاح العلم في الكشف عن عمق هذا النظام الموجود في عالم الطبيعة، يشكل الأرضية الصلبة للإيمان بأن هناك سببًا أكثر عمقا لوجود النظام).