الاعتراض الثالث: لماذا التعجل، فالعلم سيكشف لنا عن السبب:
منشأ هذا الاعتراض في الحقيقة مركب من تضييق شديد لمدلول العلم من جهة، ومغالاة في هذا المفهوم من جهة أخرى، حيث ينطلق الملاحدة في رسم فلسفتهم للوجود من نظرة مادية محضة لا تؤمن إلا بها وفق ما يمكن أن تكشفه العلوم الطبيعية التجريبية والتي لا تتقبل إلا التفسيرات المادية الطبيعية للظواهر ، فلا محل مطلقًا لتفسير متجاوز للطبيعة، أو ميتافيزيقي، تأمل قول أحد الملاحدة سكوت تود Scott Todd كاشفًا بصراحة ووضوح شديد عن هذه النظرة حتى لو كانت جميع المعطيات تشير إلى مصمم ذكي، فإن مثل هذه الفرضية يجب أن تكون مستبعدة من العلم؛ أن تكون مستبعدة من العلم؛ لأنها تمثل نظرة غير مادية) (۲)، ويقول الدارويني الملحد ريتشارد ليونتن (Richard Lewontin) : (إن استعدادنا لقبول المزاعم العلمية المنافرة للبداهة الفطرية هو المفتاح لفهم حقيقة الصراع الدائر بين العلم وما هو فوق طبيعي (غيبي = ميتافيزيقي). نحن مع العلم رغم السخافة الصريحة لبعض نماذجه، ورغم إخفاقه في الوفاء بكثير من وعوده الباذخة بشأن الصحة والحياة، ورغم التسامح الذي يبديه المجتمع العلمي تجاه القصص المقررة هكذا بلا أساس، كل ذلك لأن لدينا التزامًا مسبقا، ألا وهو الالتزام المسبق بالمادية، فليس الأمر راجعا إلى أن طرائق ومؤسسات العلم تلجئنا بطريقة ما إلى القبول بالتفسير المادي نصطف لظواهر العالم وإنما بالعكس، وهو أننا مضطرون بولائنا المسبق للأسباب المادية لصناعة أداة بحثية وحزمة من المفاهيم التي من شأنها أن تنتج تفسيرات 6 مادية، مهما كانت مصادمة للحدس ومهما بدت ملغزة لغير المتمرس، وفوق ذلك فالمادية مطلقة لا ريب فيها، إذ لا يمكن أن نسمح للقدم الإلهية بالولوج من الباب). هذه النظرة المغالية في إمكانيات العلوم الطبيعية التجريبية والمتحيزة بشكل فاضح لنظرة مادية ضيقة، تم الاصطلاح عليها في كثير من الدوائر العلمية والفلسفية بمصطلح (ساينتزم) (Scientism) وهو مصطلح منحوت من كلمة (ساينس)؛ أي: علم، مضافًا إليها ما يدل على الطبيعة الأيديولوجية لهذا الإيمان الشديد بإمكانيات العلوم التجريبية وحصر مصدرية المعرفة فيها، بعد حصر فاعليتها في الإطار المادي وحده، وقد تُرجمت هذه اللفظة في الفضاء العربي بـ(العلموية).
ومع كون أصول هذه النزعة قديمة نسبيًا حيث تأسس هذا الاتجاه وتبلور فلسفيًا على يد أوجست كونت رائد الفلسفة الوضعية، لتتفرع عنها مدارس فلسفية متعددة، إلا أنه يبدو أن الأيام لا تزيد ظاهرة الغلو هذه إلا غلوا، وليس بخاف أن جزءًا من مبررات هذا الغلو يعود للمكتسبات والمنجزات العلمية والتقنية الهائلة التي تحققت بسبب المنهج العلمي ـ والذي أحدث تحولا ضخمًا جدًّا في حياة البشر على كافة المستويات ـ بما لا يمكن قياسه، لكن المشكلة في هذا التعاطي التحقيري مع الموارد المعرفية الأخرى، ومحاولة حصر المجال المعرفي بتفاصيله وتعقيداته وتبايناته في هذا المورد وحده دون ما سواه، وهي إشكالية منهجية تفضي إلى إشكاليات علمية ضخمة لا تخفى، فصحة المنهج التجريبي الذي تتأسس عليها النظرة العلموية إما أن يكون مدركًا بطريقه أو بطريق خارج عنه، فإذا كان إدراكنا لصحة هذا المنهج هو بذات المنهج فهو دور باطل، وهو يحمل في طياته تناقضا داخليًا، إذ لا يصح أن تجعل الدعوى موردًا للاستدلال لها أو عليها أما إذا كانت صحة هذا المنهج مدركة بأمر خارج عنه فقد حصل المقصود بإمكان تحصيل المعرفة بهذا الخارج، وهو ما يدخل في مجالنا المعرفي ضرورةً موردًا معرفيا آخر ليس من طبيعة ذلك المورد.
والحق أن لكل مجال معرفي أدواته ومصادره المعرفية، وبالتالي فمحاولة تعميم المنهج التجريبي ليكون مصدر المعرفة في كافة المجالات العلمية، وحده الصالح لتقديم الإجابات على كافة التساؤلات إشكالية واعتقاد أنه 6 منهجية وعلمية حقيقية تفضي بصاحبها ولا بد إلى مشكلات علمية متعددة . وواقع المشهد العلمي والمعرفي بحد ذاته يكشف عن مثل هذه الإشكاليات، فالتاريخ مثلا له موارده ومصادره المعرفية، وعلوم الرياضيات كذلك، وهكذا في كل المعارف والعلوم، فاعتقاد أن المنهج العلمي التجريبي هو وحده أداة تحصيل المعرفة متناقض مع واقع التنوع في المجالات العلمية، والذي يستتبع تنوعًا في طرائق العلم والمعرفة وفي مناظرة وليم لين كريغ مع الملحد بيتر أتكنز ما يكشف عن الاضطراب الإلحادي العميق حين يكاشف بعجز العلم عن تفسير كل شيء، كما ادعاه أتكنز في أثناء المناظرة.
إن هذه النزعة المغالية في المعارف الطبيعية شبيهة بحال رجل يخرج بجهاز كشف عن المعادن لأحد الشواطئ أملًا في العثور على خاتم أو قرط أو قطعة مجوهرات ضائعة تخيل أنك قابلت هذا الشخص فحدثك أنه طيلة سنوات بحثه بهذا الجهاز لم يجد قطعة بلاستيك واحدة، وأنه يعتقد أنه لا وجود لأي مادة بلاستيكية في هذا الشاطئ كله تريد أن تنبهه إلى أن الجهاز إنما يكشف المعادن فقط، فيقاطعك قبل التنبيه قائلا : بل أظن أنه لا وجود للبلاستيك أصلا فإن هذا الجهاز لم يكشف لي عن قطعة واحدة منه يوما . لا تستطيع أن تمنع نفسك من التبسم وأنت ترى أن من مكونات الجهاز الذي يحمله أجزاء بلاستيكية.
فمع أن العلوم الطبيعية والتجريبية قادرة على تزويدنا بمعلومات وفيرة عن الظواهر الطبيعية فهذا لا يعني أنها قادرة على تزويدنا بمعلومات من كل المجالات الممكنة، فمن الخطأ الفادح قصر المورد المعرفي عليه وحده، فسبل التوصل إلى المعارف متنوعة بتنوع طبائع المعارف والعلوم كما سبق.
وثمة كتابات و دراسات ومحاضرات متعددة تتحدث عن هذه الإشكاليات العلموية، بلغت حد وصف هذه الرؤية المغالية بأنها ذو طبيعة دوغمائية مغالية ومن الكتابات الحديثة المفيدة في هذا السياق مما له صله بالظاهرة الإلحادية الجديدة خصوصًا كتاب وهم العلم» لروبرت شلدرك، وكتاب «وهم الشيطان» للملحد اللاأدري المختص في علوم الرياضيات ديفيد برلنسكي. وقد اطلعت مؤخرًا على كتاب الصديق الدكتور حسام الدين حامد «الإلحاد وثوقية التوهم وخواء العدم وهو كتاب ممتع وفيه معالجات مفيدة جدًا في هذه المسائل.
وللفيلسوف البريطاني الملحد توماس نيجل (Thomas Nagel) کتاب بعنوان «العقل والكون : لماذا التصور المادي النيو دارويني للطبيعة يكاد يكون خطأ قطع؟ Mind & Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature is Almost False) وعنوان الكتاب الفرعي يعبر عن فكرة الكتاب المركزية، وهي فكرة في غاية الأهمية حيث يسعى الكتاب إلى بيان إشكالية النظرية المادية الضيقة وعجزها الهائل عن تفسير كثير من الظواهر الموجودة في الطبيعة والكون، وهو ما يكشف عن هذه الإشكالية المركزية الكبرى الموجودة لدى الملاحدة العلمويين، والكتاب يستعرض ثلاث قضايا أساسية موضحًا عجز المادية الداروينية عن تقديم حل لها وهي: (الوعي) و (الإدراك) و(القيم)، وضرورة توسيع الأفق المعرفي من المعرفي من أجل فتح مجال للتعرف المعمق عليها ومعرفة حقيقته الوجودية.
وبطبيعة الحال، هذه وبسبب النظرة المغالية في العلوم الطبيعية وربطها بمسألة الإلحاد بات الخطاب الإلحادي مقتنعًا تمامًا بأن العلوم الطبيعية تقف في صف المواجهة ضد الفكرة الدينية، بل إنه يقود بطبيعته للإلحاد، وأن علماء الطبيعة من المتدينين هم في الحقيقة غير أوفياء مطلقًا للمبادئ العلمية، ويمارسون بتدينهم تضليلا غير مبرر يقول سام هارس مثلا منتقدًا بعض علماء الطبيعة ممن يمثلون في تقييمه خطا دينيًا معتدلا : حان الوقت للعلماء والمفكرين أن يلحظوا أن المنافسة بين الإيمان والعقلانية نتيجته صفرية، ليس ثمة شك في هذا، ولكن علماء الطبيعة المعتدلين دينيًا مثل فرانسيس كولنز، وكينيث ميلر يتسببون بضرر دائم لحديثنا بسبب حالة التوافق التي صنعوها مع اللاعقلانية الدينية).
وحين رشّح فرانسيس كولنز رئيس مشروع الكشف عن الجينوم البشري لرئاسة معاهد الصحية الوطنية الأمريكية (NIH)، هاجمه سام هارس بشدة مبررًا هجومه بأن تدين كولنز سيؤثر سلبًا على دعم البحث العلمي، وأنه متنكر للرؤية العلمية المادية للوجود . كما قام جيري كُوين أيضًا بالتهجم على كولنز واصفا إياه بأنه (مثير للخجل للمعاهد الوطنية الصحية، وللعلماء، وجزمًا لجميع البشر العقلاء)، بل يصفه الملحد الشرس بي زي مايرز بقوله بأنه (شخص مغفل يؤمن بفكرة الخلق وأنه ضد النظريات العلمية)، بل وصفه في مقام آخر بأنه: (مهرج)، (وأن جميع ما كتبه حيال طريقة تفكيره في العلم هو مجرد زبالة).
هذا مع العلم أن لكولنز منجزات علمية حقيقية وكبيرة تفوق كثيرًا منجزات منتقديه، بل لم يشفع له حماسته في الدفاع عن نظرية التطور والترقي، والذي أثنى على كتابته فيها كريستوفر هتشنز في أحد المناسبات، وكذلك نقده لحركة التصميم الذكي، إضافة إلى ما يبديه من نمط شديد الاعتدال والتسامح من التدين ولكن هذا كله لم يشفع ولكن هذا كله لم يشفع له في تخفيف حدة الهجوم عليه، إذ الإشكالية ليست ليست مع التي يمكن أن تقوم بها، وإنما هو مع نمط التدين ولا في مستوى التنازلات التدين ذاته أيا كانت طبيعته.
وفي الحقيقة فإن الملاحدة حين يؤسسون لنظرتهم العلمية هذه فإنهم يبنونها على استبعاد مغالٍ لفكرة وجود الله تعالى ولا يتعاملون مطلقا بالجدية الكافية ـ ولو مع مجرد احتمال – أن يكون ثمة خالق فعلا خلق هذا الكون على هذه الطبيعة، أو أنه سبب وجود الحياة، أو أنه مصدر هذه السنن والقوانين والثوابت، أو غير ذلك، وهو ما تتلمسه بشكل واضح تمامًا في حواراتهم ومناظراتهم مع علماء حركة التصميم الذكي فاللغة الساخرة حاضرة بشكل كثيف في مثل هذه المناسبات، والروح العدائية لمثل هذه الأطروحات يمكن ملاحظتها بشكل واضح جدًّا، والتعامل معها إنما يكون باعتبارها داخلة في إطار العلم المزيف (pseudoscience ، ويمكن مشاهدة محاضراتهم في هذا الشأن أو مناظراتهم مع رواد حركة التصميم الذكي وأدعو لمشاهدة مناظرة مايرز وبيتر وارد لتشاهد بنفسك مثل هذه النفسية الغريبة، وهو ستيفن سي مجرد مثال من أمثلة متعددة كثيرة.
وهذه الروح المغالية في إنكار وجود الله تعالى واستبعاده تمامًا من المشهد العلمي، تسببت فعلًا في صد بعضهم من قبول بعض النظريات العلمية التي تم قبولها على نطاق واسع جدًّا تحت ذريعة أن لها آثارا فلسفية تكشف عن وجود الله، أو قبولهم بنظريات علمية بديلة لمجرد استبعاد الله من المعادلة.
وهذه ملاحظة غريبة فعلا، وجديرة بالتوقف معها، فالملاحدة الجدد مع نزعة الغلو العلموي، يُظهرون عصبية زائدة أحيانًا لبعض ما يتبنونه من قضايا علمية، تكشف لنا عن خلل منهجي عميق في بنيتهم المعرفية، وتكشف عن شخصية عندها قدرةً عالية على الإيمان بالغيب لكنه ـ كما سبق ـ إيمان بمغيب يوافق المزاج المادي والعقيدة الإلحادية المتنكرة لوجود الله.
والقصد مما سبق التأكيد على أن حالة التوقف الإلحادي عن الانسياق عن أحد العقلاني لموجبات الدلائل هو في حقيقته راجع إلى موقف معرفي مسبق يستبعد إمكانية أن يكون الجواب الصحيح على مثل سؤال حدوث العالم هو الله، لا لأن الأدلة لم تدل عليه، بل لأن لهم اشتراطات خاصة في طبيعة الجواب المقبول عندهم، وهو ما يفسر حالة التوقف التي يمارسونها، وهو ما يكشف لنا الفروقات الجوهرية بين المتدينين والملاحدة فالتحيز لرؤى كونية متباينة لاتخاذ مثل هذه المواقف، فالإشكال مع الملاحدة ليس في مسائل جزئية أو بعض التفاصيل، بل هي مشكلة تمتد إلى المنهج المعرفي ذاته وطبيعة العملية تجر . هي التي الاستدلالية، فمن الطبيعي أن تفرز هذه الرؤية المباينة ذلك المنتج المباين.
وهذه المعارضة الإلحادية بالإحالة على مستقبل علمي مجهول هي في حقيقة الأمر نوع من الجهل الذي يتم ملؤه بإيمان مغيب بإمكانيات الكشف العلمي المستقبلي، ويمكن تسميته بـ علم الفجوات وهو نوع من التوسل بالمجهول لاستبعاد قول المخالف دون تقديم احتجاجات موضوعية لمبدأ الاستبعاد هذا، في تعبير إيماني عميق عن قوة تفسيرية مغيبة متمثلة في (العلم الطبيعي)، ومشكلة مثل هذا الإيمان أنه يعزل صاحبه عن أية إمكانية للبرهنة والتدليل على وجود الله، فلو وقعت معجزة صريحة أمام عينيه فيمكنه أن يدعي بكل بساطة أنه لن يؤمن بمقتضيات هذه المعجزة لأن العلم الطبيعي التجريبي سيكشف حقيقة ما جرى في مستقبل الأيام، وسيأتي في ثنايا البحث مزيد تمثيل وتوضيح لهذه القضية في أكثر من موضع.