(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ۖ أن تَقُومُوا لله مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ 46]
يُعرض (الشرّ) في الأدبيات الإلحاديّة على أنه مشكلة محرجة للمؤمن بالله. وأنّ مقام الملحد هو مقام السائل والمعترض، وليس على المؤمن بالله في مواجهة ذلك إِلا أن يسعى جهده لدفع الشبهة وإحكام رُؤبتها. وقد رضيت الكثير من الكتابات التي اهتمت بنقض شبهة الشر بهذا المقام وأنست بمحل المتهم؛ وهو ما نعتقد أنه جور فاضح في مقام التحاور، وتنظيم ظالم لمجلس التناظر.
الشرّ في حقيقته إشكال للمؤمن المطالب أن يجد له مكانًا غير نشاز في تصوّره للألوهية. كما أنه إشكال للملحد الذي عليه أن يجد له مقامًا رضيًا في عالمه المادي العابث.
سنبدأ هنا بإثارة مشكلة الشرّ بالنسبة للملحد، قبل أن نتناول هذه المشكلة بالنسبة للمؤمن بالله في بقية الكتاب. وللإحاطة بإشكالات وجود الشر في عالم الملحد علينا أن تطرح عددًا من الأسئلة:
- ما دلالات وجود الشرٌ في التصوّر الكوني للفرد المفكّر؟
- هل يسترجع الكون تآلفه مع عقيدة الألوهية إذا انعدم الشر؟
- كيف يتنزّه الإله عن الظلم من خلال المضمرات الكونية للملحد؟
- هل تقود مقدمات الملحد – منطقيًا - إلى نفي وجود الله؟
- هل يصحّ القول: أن الله قد أراد كونا غير ما انتهى إليه خلقه؟
- هل لمشكلة الشرّ مكان في التصوّر العقدي الإسلامي أم هي وافدة عليه من الخارج؟
مشكلة الشر تتحدى الإلحاد:
يأبى الخطاب الإلحادي بما أشبع به من تنج ورغبة في الاستئثار بمنصّة الكلام، إِلا أن يرى في الشرّ حربة في صدر الإيمان بالله دون أن يعترف أن لهذه الحربة رأسًا آخر موجه إليه!
لقد فضح الشرّ تناقض الملحدين، إذ أظهر أنهم وهم يسعون لإقامة دعواهم، يسرقون من الرصيد العقدي والقيمي للمؤمنين ليقيموا بعد ذلك على هذا الرصيد اعتراضاتهم، وهم لا يملكون في حقيقة أمرهم إلا أن يفعلوا ذلك؛ لأن هذا العالم هو مرجعهم الوحيد، وهو دال رغمًا عنهم، في كل شيء على وجود الله.
لماذا نستشكل وجود الشر؟:
سؤال الإنسان عن الشر والحكمة منه - سواء وجدت الحكمة أم لا – يعود إلى عدة محفزات تخالف التصور المادي الإلحادي للكون؛ إذ هي محرّكات مغروسة في طين الإيمان، تُسقى ومحفّزات الإيمان من ماء واحد، وأهمها:
- نحن نسأل عن الحكمة من الشر لأننا نعتقد أن لحياة الإنسان قيمة.
ولا يملك الملحد أن يفك نفسه عن إضفاء معنى على الحياة حتّى وهو يريد أن يعدمها بنفي الإله. ومن ظرائف هذا الباب ما نشره الفيلسوف (ويليام لين كريغ) في موقعه الإلكتروني، في باب أسئلة القرّاء، تحت عنوان: “لقد دمّرتَ حياتي، بروفسور كريغ!” وخلاصة الأمر: أن صاحب السؤال طالبُ فلسفة في إحدى الجامعات الأمريكية، وقد أشرب قلبه الإلحاد حتى إن جل أبحاثه الجامعية كانت عن الإلحاد، ومعترضاته، والرد عليها. وكان أن قرأ مقالا لـ(كريغ) تحت عنوان: (عبثية الحياة من غير الله) فاهتز له وجدانه، ولم ينم يومين متتاليين، غير أنه اجتهد لأشهر لإعداد رد عليه، وشعر بالسعادة والراحة لما انتهى من كتابة اعتراضه النقدي المطوّل. كانت خلاصة فكرة (كريغ): هي أن العقيدة الإلحادية المفرّغة من الإيمان بالله لا بد أن تؤول بالملحد إلى العدمية، بالمعنى الواسع للعدمية حيث لا قيمة لشي في ذاته. شعر هذا الشاب أنه لا بد من التسليم لما قرّره (كريغ)؟ ولذلك حاول بعد كتابته للرد أن يعيش متناسقًا مع الإلحاد كمبدأ عقدي لأن مخالفة ذلك تعني أن فعله غير متناسق مع فكره النظري، ولكنه لما وضع رجله في عالم (العدمية) صرخ: (إن العدمية لا يمكن أن تُعاش) لقد أصيب بالتأزّم النفسي، وانكفأ على نفسه في عزلة تامة؛ إذ أدرك أن الإيمان بالله هو الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يجعل للوجود معنى وأن يفك الألغاز التي تطارده بأشباحها، لتصبح الحياة بذلك قابلة لأن يعايشها الإنسان. وختم الشاب رسالته بقوله: “إنه ملحد يكره الإلحاد”!.
- نحن نتساءل عن الشر؛ لأننا نراه نشازّا، ونرى الخير هو الأصل، وهذا لا يلتقي مع الكون الإلحادي الذي لا يعرف قيمتي الخير والشر؛ لأن المادة والطاقة (وهما حقيقته الوحيدة) لا تعرفان الرحمة والعطاء.
- نحن نتساءل عن الشر لأننا كائنات أخلاقية، وهذا زَرْعٌ نفسي غير مادي في كون مادي مزعوم.
- نحن نبحث عن معنى الشر والحكمة منه لأننا اعتدنا أن نجد في الكون أجوبة على أسئلتنا الكبرى والصغرى، وإشباعًا لحاجاتنا الجليلة والبسيطة.
- نحن نتساءل عن الحكمة من الشر لأننا كائنات عاقلة، والعقل نفحة غير مادية تلزمنا أن نبحث للأشياء عن سبب لدخولها حيّز الوجود وخروجها من كتم العدم.
وماذا عن مشكلة الخير؟:
السؤال المكرّر بحماسة من المشككين، والمردّد برجفة من المتشككين: إذا كان هناك إِله؛ فَلِمَ هذا الشر في الوجود؟
إذا كان السؤال السابق يبحث بحق عن إجابة منطقيّة؛ فلا بدّ أن يُجاب أولًا عن سؤال أهم، وأحرى بالنظر، وأغزر دلائل، وأكثر استحثاثًا للنفس، وهو: إذا لم يكن هناك إِلَه؛ فلِمَ ومن أين هذا الخير؟
- أ- الخير هو أصل السؤال:
إذا كان المشكّك يريد أن يقفز فوق السؤال الأصلي ليبحث عن جواب للسؤال الاستثنائي؛ فهو يخون المنطق العلمي في النظر وتطلّب الحقيقة. إِنَّ معرفة أصل هذا الخير الذي يعم العالم ويهيمن على وجوده في الإنسان والحيوان والنبت والنهر والبحر والسهل والوادي، والذرة والمجرّة، أحرى بأن يكون محل النظر وموضع الاستفهام والتدبّر، بل هو السؤال الأصلي؛ لأنَّ الشر لا يعرف لنفسه وجودًا من غير خير يشير إليه أنه موجود.
- ب- الخير، موضوع أولى بالاستفهام:
إن فَهْمَنا لعالم الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا يجب أن ينطلق من فهم القانون العام والاستغراق في تأمّله وتدبيّره وتفسيره، ثم إذا استقام فهم الأصل ينتقل الذهن إلى فهم الاستثناءات والشذوذات ضمن الفهم الحاصل من إدراك العام المستقرّ، ولذلك فإنّه من الخطأ أن يُعمي الشذوذ على حقيقة أصل، ويصبح أساسًا في فهمه. أو أصلًا لنفي الأصل، وهذا ما نراه رأي العين في دعوى الملاحدة الذين جعلوا وجود الشر أصلا لنفي حقيقة الخير الأصيلة في الكون؛ معتبرين أن هذا الخير ليس إلا عَرَضًا ثانويًا في كون الأصِل فيه الشر! إِنّه انحراف في النظر تغذّيه العواطف المهتاجة من الألم، وتكذبه طبيعة العالم الذي يحتوينا؛ إذ إنّنا نملك القدرة على تعداد أوجه الشر في الكون، لسبب واضح وهو أن هذا الشر محصور العدد، من الممكن عدّ ،أفراده فبإمكاننا أن نقول: إنّ ذاك المرض شر، وذاك الخلق شر، وتلك الظاهرة الطبيعية شر من جهة كذا، لكنّنا لا نملك في المقابل أن نعدّ الخير الذي في العالم لأنه بالغ الضخامة والتنوع والتركيب، إذ هو يحيط بنا من كلّ وجه، فهو قانون الكون، فلو نظر الإنسان في أعضاء جسمه فقط؛ لرأى أعدادًا مهولة من الأمور الحسنة التي توفّر له أسباب الاستمتاع بالحياة. وهو في هذا الجزيء الصغير جدًا من العالم عاجز أن يعدّ هذه الخيرات، والعلم المادي نفسه قاصر عن الإحاطة بها؛ إذ هو يكتشف منها كل يوم أوجها جديدة.
إنّ مادةً وطاقةً تسبحان في عالم الفوضى والصدفة لا يمكن أن ينشئ عبثهما وجودًا الأصل فيه الخير، وهذا أمر يشهد له أحد أعظم قوانين الكون، وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يقرّر أنّ الأنظمة تتجه دوما إلى الفساد لا النظام والغائية، إلا أن تتدخل عوامل خارجية ذات طابع ذكي وقصدي تمنع ذلك. ولذلك لا يمكن للخير أن يوجد، وأن يكون عميما وطاغيًا، إلّا إذا انطلقنا من مبدأ الإيمان العقلي بوجود خالق فاعل في الكون بحكمة.
ج ـ الشرّ هو النشوز:
إنّ العلم الطبيعي نفسه قائم على فهم الشرور المادية على أنّها في الأعم الأغلب نشوز عن أصل عمل الكون، وهو لا يفسرها إلا من خلال طبيعة خروجها عن الأصل فالأمراض هي خروج عن أصل العافية؛ أي: هي في العمل الأصلي لعضو من الأعضاء، فهل من العقل أن ننفي خيرية القوانين التي تحكم عمل أجهزة أبداننا لأنّ فسادًا لحق أحدها؟ وإذا لم يكن هناك إله، فلا معنى لأن يكون الشرّ هو النشوز، فلا أقل من أن يكون هو الأصل، إن صح وجود الخير والشر أصلا، أو بعبارة (دافيد بك) (David Beck): «لو كان الإلحاد حقًا، لما كان علينا أن نتوقع أن يكون الخير هو الرئيس أو الأكثر أصالة من الشر. في الحقيقة، كنا سنتوقع ألا يكون هناك قسما الخير والشر أصلا».
إنّنا لن نفهم المعنى الوجودي للشر (الاستثناء) حتى نقر بالمعنى الوجودي للخير (الأصل). فإذا أجيب عن سؤال: (لِمَ؟ ومن أين هذا الخير؟) الجواب الموفّق، صار سهلا أن نجيب على سؤال: (من أين هذا الشر؟)؛ لأننا إن استطعنا أن نفهم القاعدة، فسندرك بسهولة حقيقة الشذوذ!.
د ـ كيف نفهم الشرّ في إطاره:
لا يستقيم في الذهن المذعن للبداهة العقلية أن ننكر الخير الغامر في الكون لأمر ما يبدو للبعض عبثًا. إنّه لا يسوغ للعاقل أن ينكر جانب العظمة والحكمة والغائية في هندسة قصر منيف فيه آلاف الغرف المهيئة للراحة والمتعة، طبق معادلات حسابية وهندسية واعتبارات نفسية غاية في الدقة والإذهال؛ لأنّ غرفة أو بعض الغرف مرتبة على صورة لا تروق لذوقه، ولا تحقق الإمتاع الذي يريده، ليس من العقل هنا أن نزعم أنّ ذاك القصر البديع هو نتاج ارتطام قطع حجر وألوحة خشب وأسلاك حديد؛ لأننا لا نرى حكمة في تنظيم تلك الغرفة أو الغرف القليلة علينا هنا أن نتهم ظننا، فلربما المتعة حاصلة لساكن الغرفة، ولربما كانت الحكمة قاضية ألّا تكون المتعة حاصلة من السكن فيها؛ لأمر يحقق الحكمة لساكنها أو لساكني هذا القصر. ولعله يحسن بنا أن نرتقي بالنظر إلى ذرى الحكمة فنقول: إنّه الشذوذ الذي يكشف القاعدة؛ فإنّ إحساسنا بالنظام والجمال والغائيّة كثيرًا ما يفتر بفعل العادة، ويكون بعض ما يبدو “قبحًا” أو “عبئًا” هو عيننا الباصرة بعميم والحكمة التي تحتل عامة آفاقنا.
وهذا الاعتراض في ذاته ساقط من الناحية المنطقية ابتداء، فهو يقوم على الزعم أنه:
- يجب أن يبلغ تصميم الإله القدير ذروة الكمال.
- من أجهزة الكائنات الحية والجمادات ما ليس على أحسن صورة، بل بعضها سبب لتلف الكائنات الحية.
- إما أنّ الله عاجز عن أن يحسن تصميم خلقه أو أنه لم يخلق هذا الخلق بما ينفي أنه موجود. وفي كلتا الحالتين يبطل التصوّر الألوهي للخالق.
يقوم هذا الترتيب الاستدلالي على مغالطة أولية تزعم أن وجود الإله الكامل يقتضي أن يكون خلقه كاملا في أفراده. ووجه المغالطة هو: افتراض أنّ كمال الله يتعارض مع إرادته، وبذلك فإرادته مقيّدة بكماله، بما يلزم منه أن يكون خلقه للأعيان من المخلوقات في الذروة من الكمال فلا الكمال، فلا وجع ولا مرض ولا موت.
كما أن هذا الاعتراض يفترض أن الحكمة تقتضي أن يكون كل مخلوق كامل الصنعة في ذاته وهو إلزام بغير ملزم إذ إنّ أبواب الحكمة أكبر من ذلك، فقد تكمن الحكمة في خلق الناقص، وإعدام الجيد.
في الحقيقة هذا الاعتراض ينتهي إلى أنّ على الله أن يخلق إلها مثله حتى يثبت له الكمال وهو كمال محال لأنّ الإله غير مخلوق ضرورة!
والعلماء في دنيانا يفهمون النقص في مصنوعاتهم على وجه آخر أيضًا يفيد في تقديرها إيجابيًا؛ فالمهندسون يعلمون أنه كثيرًا ما تتعارض الكفاءة مع المتانة، فالجودة المطلوبة لا تتحقق إلا ضمن شروط معينة، ولذلك يختارون تخفيض كفاءة بعض أجزاء مصنوعاتهم حتى يحققوا الكفاءة المرجوة للمجموع، فالتكامل الصناعي بذلك قد يقتضي أن يكون النقص مطلوبًا في البعض.
وقد جرّب الملاحدة في الغرب – ولا يزالون يجربون – الاستدلال بحجة التصميم الضعيف (Argument from poor design) لنفي أن تكون الطبيعة نتاج فعل إلهي حكيم، غير أن الأبحاث العلمية تفتح أمام أعيننا مغاليق، وتكشف حكما بارعة في ما كان يبدو قصورًا في بنية المخلوقات.
ومن ذلك ما آل إليه الاستدلال بإصبع البندا الزائد الذي أصبح رمزا لدعوى التصميم المعيب في الأدبيات الإلحادية بعد نشر عالم الحفريات (جاي غولد) (Jay Gold) كتابه ( The Panda’s Thumb: More Reflections in Natural History ) حيث زعم أنّ للبندا إصبعًا زائدا لا قيمة له؛ إذ هو مجرد عظم ناتئ بلا وظيفة وقد كانت المفاجأة في دراسة لفريق علمي ياباني قلب الأمر رأسًا على عقب بعد بحث نشره في مجلة (الطبيعة) المشهورة سنة ۱۹۹۹م، بعد تصوير يد البندا باستعمال التصوير بالرنين المغناطيسي والكشف عن أمور تشريحية لم تكن معلومة من قبل. فقد خلص هذا الفريق إلى أن إصبع البندا هو واحد من أعظم أنظمة التحكم الخارقة في عالم الثدييات!
هـ ـ عجز التفسير الطبيعي
لماذا يحمل الإنسان هذا الحس العالي لقيمتي الخير والشر؟! وكيف تؤثر المعاني المجردة في سلوك الإنسان لتدفعه إلى أن يرى في الخير والشر ميزان حياته؟! إن دعاوى مادية مثل التفوّق العرقي، والبقاء للأقوى، وشهوة القوّة من الممكن أن تفسّر الظلم والأنانية والفساد في الأرض، غير أن معاني الحنان، والرحمة والإيثار والتضحية بالنفس في سبيل فكرة نبيلة لا يمكن أن تجد لها مكانًا في عالم المادة الإلحادي الذي لا يعترف بغير المادة وقوانينها وإفرازاتها. إن ظلم الظالم لا يفاجئ الملحد لأنّ فيه استسلاما لقانون الرغبة في البقاء، غير أنّ التضحيّة والإيثار يقفان ضدّ عالم المادة التي بلا قلب.
مشكلة الشر حجّة على وجود الله:
يرى المؤمنون بالله أن مشكلة الشرّ في ذاتها برهان عظيم على وجود الله، ولهم على ذلك براهين قوية وإن لم يجر القلم عادة بذكرها، ومنها:
أولا: دليل المعيار عندما يقلب الإنسان ناظريه في هذا العالم ويُعمل حاسة النقد والتقويم فيما تبصره عيناه ويقرّر أنّ هذا الأمر أو ذاك شر وقبيح، فهو يستبطن في ذهنه فكرة الحق والباطل المواجه له، وليس بإمكانه أن يستبطن فكرة الحق والباطل إلا أن يكون قد انطبع في عقله معيار أخلاقي متعال عن المادة يحدّد الحق والباطل، وهذا المعيار غير المادي حجّة على وجود إله لأنّ هذا النقش الأخلاقي في الوعي الإنساني حجّة على أنّ الإنسان مخلوق أخلاقي لخالق صنعه على صورة متعالية على المادة الصرفة.
وبالإمكان صياغة هذا المعنى على الصورة التالية:
- إذا كان الله غير موجود، فالقيم الأخلاقية الموضوعية غير موجودة.
- الشرّ موجود.
- إذن المعايير الأخلاقية الموضوعية موجودة.
- إذن الله موجود.
يقول الفيلسوف (ويليام لين كريغ): «رغم أنّ المعاناة تشكك على المستوى السطحي في وجود الله إلا أنها على مستوى أعمق تثبت وجود الله. إذ إنه في غياب الله لا تمثل المعاناة شيئًا قبيحًا إذا آمن الملحد أنّ المعاناة شيء سيئ أو أنها أمر يجب ألا يكون فهو بذلك يقدم أحكاما أخلاقية لا يمكن أن توجد إلا إذا وُجد الله».
بعبارة أوضح وأفضَح: لا يمكن للملحد أن يستدل بالشر الموجود في العالم لنفي وجود الله حتى يقرّ بوجود الخير والشر، ولا سبيل للإقرار بقيمتي الخير والشر حتى يقرّ الملحد بوجود المعيار الموضوعي، ووجود المعيار الموضوعي الأخلاقي غير ممكن دون وجود مشرّع أخلاقي غير مادي، وهذا المشرّع هو الله الذي تسعى الحجّة الأخلاقية المعتمدة على الشر لنفيه فلا سبيل لاعتماد حجّة الشر لإثبات الإلحاد حتى يُنقض الإلحاد بإثبات وجود الله، فغاية الملحد ووسيلته لذلك تتنافيان (mutually exclusive)!
ليس للإلحاد قول معقول أمام مشكلة معيارية الخير والشر ودلالتها على الخالق، وهو ما يظهر مثلا في المناظرة الشهيرة بين الفيلسوف (برتراند راسل) والفيلسوف (فردريك كوبلستون) (Frederick Copleston)، والتي جاء فيها:
«راسل: أنا أشعر أنّ بعض الأشياء جيّدة والأخرى قبيحة. أنا أحبّ الأشياء الجيّدة، التي أعتقد أنّها جيدة وأكره الأشياء التي أعتقد أنّها قبيحة. أنا لا أقول: إنّ هذه الأشياء جيّدة لأنّها تشارك في الصلاح الإلهي.
کوبلستون: نعم، ولكن ما هو مبررك للتمييز بين الجودة والقبح؟ أو كيف ترى التمييز بينهما؟
راسل: ليس عندي أي تبرير أكثر مما لديّ لما أميّز بين الأزرق والأصفر. ما هو تبريري للتمييز بين الأزرق والأصفر؟ بإمكاني أن أرى أنهما متخالفين.
کوبلستون: جيد هذا تبرير ممتاز، وأنا أوافقك أنت تميّز بين الأزرق والأصفر برؤيتك لهما، فبأي ملكة أنت إذن تميز بين الجودة والقبح؟
راسل: بمشاعري»
استفز الحديث السابق أحد الفلاسفة ليقول: لقد كان (كوبلستون) مؤدبا للغاية، ولو كنت مكانه لسألت راسل: تدعو بعض الحضارات إلى أن نحبّ جيراننا وتدعو أخرى إلى أن نأكلهم، والاختيار قائم في كل منهما على المشاعر. هل عندك تفضيل لأي منهما ؟!؛ أي: إنّ دعوى كفاية المشاعر، الشخصية للتمييز بين الخير والشر لا تصمد أمام وعي صاحبها نفسه؛ لأنّها تسمح بأمور أخلاقية يراها صاحبها مخالفة لبداهة حسّه الأخلاقي.
وقد أدرك الفيلسوف الوجودي الملحد والشرس (جون بول سارتر)، مبلغ الإحراج الفكري في مسألة أصل التمييز الأخلاقي بين الخير والشر، ولذلك قال: «يجد الوجودي حرجًا بالغا في ألا يكون الله موجودا؛ لأنه بعدم وجوده تنعدم كلّ إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح لا يمكن أن يكون هناك خير بدهي؛ لأنه لا يوجد وعي لانهائي وكامل من الممكن التفكير فيه. لم يُكتب في أي مكان أن الخير موجود ولا أن على المرء أن يكون صادقًا أو ألا يكذب». ويوافقه (داوكنز) بقوله: «إنّه من العسير جدا الدفاع عن الأخلاق المطلقة على أسس غير دينية».
ومن العجب أن أكثر الدعوات اليوم استنادًا إلى الحقيقة الأخلاقية في تأسيس موقفها العقدي، هي دعوة ما يعرف “بالإلحاد الجديد”؛ فإنّ رؤوس هذا التيار أصحاب ولع بالاستدلال بالصورة اللاأخلاقية لإله التوراة، والتراث الدموي للنصرانية والمفاسد الأخلاقية للدين لبيان فساد الدين والتدين، وهذا التيار العدمي يستبطن بذلك مقررات أخلاقية موضوعية ملزمة في كلّ زمن وبيئة دون الإقرار بأصلها المتعالي على المادة!
ومن غريب حال ملاحدة الغرب أنّهم الأشدّ دفاعا عن النسبية الأخلاقية والقول: إنّ الذوق الأخلاقي نسبي فردي، شخصي، وليس لأحد أن يلوم غيره على فعل ما أو عادة ما إذا كان يرضاهما الملوم. ولكن مشكلة الشر لا يمكن أن تتأسس على القول بنسبيّة الأخلاق؛ إذ الاعتراض على وجود الرب الرحيم القدير العليم بوجود الشر لا يمكن أن يكون حتى يثبت وجود الشرّ الذي لا يُختلف في أنّه شر، ولكن عندما يكون الشر محل خلاف ذوقي فإنه بذلك يغدو مجرّد رأي وليس حقيقة يُعترض بها على وجود الله!
إنّ تسميتنا للشيء أنه “شر” هي في الحقيقة وصف له بأنه “شيء يجب ألا يكون كذلك”، وفي ذلك إقرار بثلاث حقائق:
- أنّ هناك أمورًا يجب أن تكون على صيغة معيّنة، وهي الخير.
- أنّ الخير هو الأصل في الوجود.
- أنّ هناك معيارًا متعاليّا على المادة يفرض على الذهن أن يتصوّر وجود تمييز بين الخير والشر.
وهذه الأمور الثلاثة لا معنى لها في كون مادي باهت؛ إذ لا معنى الحركة الأشياء فيه غير ذات الحركة نفسها. إن قيمتي الخير والشر لا تكتسبان معنى إلا في ظل وجود حقائق متعالية على المادة ترجع إلى إله زرع في قلب الإنسان نزوعًا إلى الخير وحُبِّه، واستهجانًا للشرّ ومظاهره. وهذا ما يسمّيه القرآن بالإلهام. قال تعالى: )وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا** فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(. [الشمس: ۷، ۸]
ثانيًا: الشر دليل نقيضه
الإقرار العقلي والنفسي بوجود الشرّ هو تعبير صارخ عن وجود الخير، ووجود الخير حجّة على وجود الله فلا خير في عالم المادة الصرفة. وقد عبّر (سي. أس. لويس) بلسان الفيلسوف عن هذه الحقيقة لما كان ملحدا، بقوله: «حجتي ضد الإيمان بالله كانت أنّ الكون يبدو شديد الوحشية والظلم، لكن كيف اكتسبتُ أنا فكرة العدالة والظلم؟ إنّ الإنسان لا يقول عن خط: إنّه معوّج إلّا إن كان له شيء من المعرفة بالخط المستقيم. بم كنت أقارن هذا العالم عندما قلت: إنه غير عادل؟ بالطبع كان بإمكاني التخلّي عن فكرة العدل بالقول: إنّها لا تعدو أن تكون من محض رأيي الشخصي، ولكن لو قلت ذلك فسينهار اعتراضي أيضًا على وجود الله؛ لأنّ الحجّة قائمة على القول: إنّ العالم غير عادل على الحقيقة لا أنه لا يُرضي أهوائي الخاصة».
ويعبّر عالم الجينات الأمريكي الشهير (فرنسيس كولنز) Francis) Collins) عن هذه الحقيقة بلسان عالم الأحياء بقوله: «لماذا يوجد مثل هذا الكون وهذا الظمأ الإنساني المميّز لوجود الله، إذا لم يكن ذلك مرتبطا بفُرص تحققه؟ إنّ الكائنات لا تولد برغبات فيها إلا إذا كان إرضاء هذه الرغبات موجودًا. يشعر الرضيع بالجوع، طيب، يوجد شيء اسمه أكل، ترغب البطة الصغيرة في السباحة طيب يوجد شيء اسمه ماء. أو بعبارة أخرى أقول: إذا كانت الحاجة (أم الاختراع) كما يقال فإنّ الحاجة في عالمنا هي أيضًا (بنت الاختراع)، فإنّ الطبيعة تختزن في ذاتها مشبعات حاجات الإنسان، فإذا عطش الإنسان، وجد في الأرض المخلوقة قبله شرابه، وإذا جاع، وجد في الأرض المخلوقة قبله طعامه، وإذا ارتعد من القر، وجد في الأرض المخلوقة قبله دفأه، وإذا استوحش وجد في الأرض المخلوقة قبله أنسه، فلماذا يعدم الملحد أمل الجواب عن سؤال النفس عن كمال الذات ومنتهى الرجاء في الحق المطلق؟!!».
إنّ في كل إنسان حنينا دائما إلى لحظة الصفاء الإيمانية التي تفك نفسها من المادة وأثقالها ومن هؤلاء (تشازلز داروين) القائل في رسالة له إلى صديق له بتاريخ ١٧ يونيو ١٨٦٨م يخبره فيها أنه سعيد أن وجده متديّنا وأعرب له عن جفاف حاد أصاب روحه بسبب العلم المادي حتى كأنه ورقة شجرة جافة، مما جعله أحيانًا يبغض العلم المادي.
تزداد هذه الحقيقة اتقادًا في وعينا ونحن نقرأ الكتاب الذي صدر منذ أربع سنوات بعنوان: How God Changes Your Brain)) كيف يغير الله عقلك لعالمين أمريكيين أحدهما عالم أعصاب أثبتا بالدليل التجريبي الأثر الإيجابي الكبير للإيمان بوجود إله والتوجه له بالعبادة على الصحة البدنية والعقلية والنفسية للإنسان، وذلك بتصوير نشاط الدماغ عند المتدينين والملحدين.
إنها حقيقة معلومة من قبل راسخة في تاريخ معرفة الإنسان بنفسه، ولكن زاد البحث العلمي المادي تأكيدها، وهي تلح في تأكيد التساؤل السابق: ألا يستدعي وجود الحاجة الصميمية عند الإنسان وجود المحتاج إليه، خاصة إذا كان الدليل قد قام على أنّ الأمر المحوج يوافق الطبيعة النفسية والبيولوجية للإنسان؟ إننا هنا لسنا أمام وهم، ولا خرافة، وإنّما هي الحقيقة العلوية المكملة لنصفها الأرضي.
ثالثًا: الشر حجة على مخلوقية الكون:
ليس في الكون ما يدلّ على أنه ككل أو بأجزائه، واجب الوجود؛ أي: ما يلزم من عدمه محال عقلي ومن دلائل حقيقة أنه ليس كذلك وجود الشر فيه كنقص معبر عن قصوره وفي تعبير الكون عن قصوره دلالة على حاجته إلى واجب الوجود الذي يرجّح وجوده على عدمه، وهو الله سبحانه. فالشرّ بذلك دليل من الأدلة على وجود الله؛ إذ لا يستقيم فهمنا لأصل الوجود دون واجب للوجود في كون ممكن الوجود.
رابعًا: الألم.. الإبداع، والحكمة التي لا تضاهى
كيف نحس بالألم؟ لِمَ لم يسأل الملحد نفسه هذا السؤال؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال جديرة بأن تهزّ النفس هزًّا؛ إذ لا توجد ضرورة في المادة تفرض وجود الجهاز العصبي الذي يستشعر الألم وينقله ضمن شبكة من ألياف طويلة جدًّا، بوسائل غاية في التعقيد، إلى الدماغ. فلِمَ وجد هذا الجهاز لتحقيق هذا الشعور؟!
هل هي الصدفة؟ ولكن الصدفة بمعنى الفعل العابث لا تنتج نظاما وتعقيدا يحمل معنى! فهل هي آلية الاصطفاء الطبيعي العاملة في الطفرات العشوائية، حذفًا وانتخابا؟! ولكن الطفرات العشوائية والاصطفاء الطبيعي لا يضيفان معلومات (information) للبدن، وإنما هما ينتهيان إلى الانتخاب من الموجود ضمن آلية الطفرات التي تهدم ولا تضيف؟!فمن أين جاء هذا الشعور، وما الحاجة إليه ألم يكن ذلك بفعل حكيم قدير؟!
لا تشكّ نفسي أن عقل الملحد سيذهل إذا علم كيف يعمل الجهاز العصبي حتى يحسّ الإنسان بالألم المؤذي الذي يحمي الجسد بتنبيهه إلى الأخطار التي تحيق به أو الأذى الذي اقتحم حماه، فهو الجهاز الذي يضم المخ الذي هو أعقد شيء في الوجود وهو يحمل (كوادرليون1،000،000،000،000وصلة)، كما يضم مئات الآلاف الأسلاك من العصبية، وغير ذلك من الأعضاء ذات النظام المدهش.
ومن عجائب الدماغ أنه قادر على تخزين معلومات أعظم ملايين المرات من المعلومات التي يحصلها الإنسان فعلا في الحياة والتي تبلغ 15(10) بايت.
وهو الآلة التي جعلت كريستوف كوك (Christor Koch) – عالم الأعصاب الأمريكي الشهير ورئيس المؤسسة العلمية (Allen Institute for Brain Science ) التي تُعنى بالأبحاث العلمية عن الدماغ وعمله ـ يقول: «تكشف الأعمال الأخيرة حول معالجة المعلومات وتخزينها على مستوى الخلية الواحدة الخلايا العصبية عن تعقيد وديناميكية فوق التصوّر، وانتهى إلى القول: كالعادة، يتركنا [البحث] في حال من الرهبة بسبب التعقيد المذهل الموجود في الطبيعة».
وفي شأن الألم عينه اخترع العلماء قفازا لتنبيه فاقدي الإحساس إلى الخطر، وأنفقوا لذلك الأموال والأوقات والمخططات والتجارب، ولم تتجاوز المنبهات في القفاز الواحد عشرين، منبها، في حين أن يد الوليد تخرج إلى الوجود وفي طرف الإصبع الواحد ألف منبه عصبي.
إنّ صورة تمدد الأعصاب إلى كل نقطة في بدننا، ذات نظام مبهر، والطريقة التي تحمل بها هذه الأسلاك الأوامر والمعلومات معجزة. ورغم كثافة تدفّق البيانات إلا أنه لا يحدث البتة التباس وتصل كل رسالة بدقة إلى وجهتها، بل حتى دموع الحزن المعبرة عن وجعنا الشديد كشف العلم لها فوائد صحية ونفسية ليس أقلها طرد السموم من البدن.
والألم بذلك حجّة للمؤمنين لا عليهم لأنه يدلّ على الصانع الحكيم القدير!
وقد اهتم الدكتور (بول براند) المتخصص العالمي في مرض البرص بصناعة آلة تنبه مريض البرص إلى خطر تلف أعضائه بعد فقدانه الإحساس بالألم، وكوّن فريقا علميًا يضمه مع علماء في الهندسة الإلكترونية والبيولوجيا والكيمياء الحيوية. وقرّر هذا الفريق العلمي التركيز على أطراف الأصابع؛ إذ هي أجزاء الجسم الأكثر استخدامًا وبالتالي الأكثر عرضة للتلف، ولذلك طوروا نوعًا من العصب الصناعي، وهو بمثابة محوّل للطاقة حسّاس للغاية، يتم لبسه في اليد كقفّاز، وعند تعرضه للضغط يرسل تيارا كهربائيا يؤدي إلى صدور علامة تحذير للمريض.
كان المشروع بسيطا في بدايته؛ إذ هو لا يعدو مسألة تنبيه الضغط للطاقة الكهربائية التي تنبه بدورها آلة الإنذار، غير أنه كلما ازدادت دراسة هذا الفريق العلمي للأعصاب، كلما ازداد عمله تعقيدًا، وواجهته صعوبات جديدة بأي مستوى من الضغط يجب على جهاز الإحساس أن يوجه تحذيره، كيف يمكن لجهاز الإحساس الصناعي أن يميز بين الضغط المقبول وغير المقبول؟ كيف يمكن تثبيته ليسمح بممارسة أنشطة مثل لعب التنس؟
ثم أدرك الفريق أنّ الخلايا العصبية تُغيّر تعاملها مع الألم لكي توفي بحاجات البدن. وبسبب الضغط الناتج عن الالتهاب يمكن للإصبع المصاب أن يكون حساسًا للألم عشرة أضعاف الإحساس العادي، ولذلك فالإصبع المتورم يشعر بالخطر وكأنّ الجسم يطلب وقتا حتى يجد عونا على الشفاء. أتمّ الفريق صناعة آلة استشعار الألم في حدود قدرته، ووجد الدكتور (براند) فرصته في هذا الاختراع ليرضي انزعاج الفلاسفة الذين كتبوا في مشكلة الشر، بتجاوزه للألم الذي يشعر به الجسم عندما يصاب بالأذى، فكان أن صنع نظام حماية لا يسبب ألما.
حاول الفريق في البداية أن يرسل إشارة سمعية من خلال سماعة إشارة تحدث صوتا عندما تتلقى الأنسجة الضغوط العادية ثم يرتفع الصوت عندما يقترب الخطر، ولكن كان من السهل تجاهل هذه الإشارة، وهو ما حدث مرات عديدة.
ثم تلا ذلك محاولة الفريق عمل ومضات ضوء، ولكن المرضى تخلّصوا منها بسرعة لنفس السبب. وأخيرًا لجأ الفريق إلى الصدمات الكهربية وذلك بطريق القطب الكهربائي لتسكين الجزء الحسّاس بالجسم مثل الإبط. وكان لا بد من إجبار الناس على التجاوب، إذ لم يكن التنبيه للخطر كافيا. وكان على الحافز أو المنبه أن يكون مزعجًا تماما مثل الألم.
يعلّق الدكتور (براند) بقوله: « واستنتجنا أيضًا أن الإشارة يجب أن تكون سهلة الوصول بالنسبة للمريض، فحتى الأذكياء من الناس إن أرادوا أن يفعلوا شيئا قد يتسبب في تنشيط الصدمة، فسوف يطفئون الجهاز، ثم يفعلون ما يريدون، ثم يشغلونه ثانية عندما لا يكون هناك أي خطر من تلقي إشارات غير سارة. إنني أتذكر كيف فكرت في مدى قدرة الله العظيمة بوضعه للألم بعيدًا عن قدرة الإنسان للوصول إليه».
ويضيف: «لقد قبلت بيسر أنّ سنوات عملي بين المفتقدين للشعور بالألم أعطتني رؤية منحرفة وأنا الآن أنظر إلى الألم كواحد من أعظم الميزات الرائعة لتصميم الجسم البشري وإذا أمكنني أن أختار هدية لمرضى البرص عندي فستكون هدية الألم. في الحقيقة لقد أشرفت على فريق علمي أنفق مليون دولار لمحاولة تصميم منظومة صناعية للألم. أهملنا المشروع عندما أصبح من الواضح جدًّا أنّه ليس بإمكاننا أن ننشئ منظومة هندسية معقدة تحمي الإنسان».
وختم (براند) خاطرته عن تجربته الطويلة مع الألم بقوله: «أحمد الله لأنه اخترع الألم. لا أعتقد أنه فعل شيئًا أفضل من ذلك».
اختبار ماذا لو كان ذلك كذلك؟:
حدد فيلسوف العلوم (کارل بوبر) (Karl Popper) أهم معيار لتحديد ما يدخل في حيّز النظرية العلمية وما يوافق الواقع الكوني الموضوعي، على خلاف العلم المزيف (pseudoscience)، وهو معيار (falsifiability)؛ أي: قابلية الدحض؛ أي أن تكون الدعوى العلمية قابلة للاختبار لإثبات صوابها أو خطئها. ومن أعظم أوجه الاختبار النظر في النبوءات؛ أي: توقعات الدعوى العلمية، ثم النظر في مطابقة الواقع لهذه النبوءات. وقد أفاد ذلك في تطوير معرفة الإنسان بالكون وتجنيب العلوم الدخيل وما توشع بالزور ومحض الظنون.
ونحن سنأخذ بمعيار قابلية الدحض في حديثنا عن مشكلة الشر وإن كان ذلك في غير مجال العلوم المادية (science)؛ وذلك لأنّ موضوع الشر مرتبط بمقدمات عقدية لا يمكن فصلها عن الوجود المادي المنبثق عنها.
نحتاج هاهنا أن نمتحن القول بعدم وجود الله من خلال النظر في نبوءات المبدأ الإلحادي والتي لا بد أن تظهر في عالمنا إن كانت المقدّمات سليمة صادقة. ولا يلزمنا ونحن نسلك هذا الطريق أن نسلّم إبستيمولوجيا بمذهب التناسقية (coherentism)، إذ إننا لا نعتقد أنه يكفي النظرية أن تكون متناسقة داخليا حتى تكون صادقة، وإنّما نقول: إنّ تناسقها وعدم تضاد مقدماتها مع نتائجها هما من أهم شروط صحة النظرية، ولا يمكن أن تصح بمخالفة ذلك.
سنعرض هنا مقدمة التصوّر الإلحادي ونبوءاته، في مقابل التصور الإلهي ونبوءاته، لنخلص إلى أرجح القولين:
القول الأول: ليس هناك إله:
- إذا لم يكن هناك إله، فعلينا أن نتنبأ بأمور ثلاثة:
- لا وجود لقوانين منتظمة في الكون، وإنّما هي عفوية العبث.
- لا وجود للخير؛ إذ لا يُجتنى من العبث معنى.
- لا وجود للشر؛ إذ لا معنى للشرّ في كون لا يحمل معيارًا قيميًا يميّز الشرّ والخير.
- للكون قوانين تحكمه.
- في الكون خير وشرّ.
- نفي وجود الله يعارض المعلوم من واقع الكون.
- الله موجود.
إن معاني مفاهيم مثل (الواجب) و(الخير) و(الشر) لا يمكن أن توجد في عالم بلا إله يقول ويليام جيمز (William James): « يبدو أن مثل هذه الكلمات لا يمكن أن تحمل أية إمكانية للتطبيق أو التواصل في عالم ليست فيه حياة واعية. تَصَوَّر عالما ماديًا بصورة مطلقة لا يضم غير حقائق فيزيائية وكيميائية، وهو قائم منذ الأزل دون إله ولا حتى مُشاهد مهتم هل من الممكن أن يكون هناك معنى للقول في ذاك العالم إن حالا من أحواله خير من الآخر؟»، وبعبارة أكثر اختصارًا: هل من الممكن أن يُجتنى من الفوضى معنى معقول أو قيمة خلقية ثابتة؟!
إنّ شبهة الشر قائمة على أساس الاعتراض بوجود الشر على وجود الله، رغم أنه لا يثبت وجود الشرّ حتى يثبت وجود الله؛ إذ إنه لا معنى للشر في كون ليس فيه إله!
القول الثاني: هناك إله:
- إذا كان هناك إله، فعلينا أن نتنبأ بأمرين:
- أ- خلقنا الله لسبب، وحكمة، وله الحق في أن يسمح للشر أن يوجد لأجل تحقيق السبب، والحكمة سواء بلغت عقولنا هذا السبب وهذه الحكمة أم لم تبلغ ذلك.
- ب- تعالي الربّ عن خلقه، وعظمة قدرته وعلمه وحكمته البالغة في مقابل محدودية مداركنا العقلية حجّة لأن نتنبّأ بأن معارفنا أقصر من أن تحيط بكل دواعي وجود الشرّ بما يعني أنّ بعض الشرّ قد يبدو لنا بلا حكمة، وإن كان واقعه عكس ذلك.
- النظر العقلي يتيح لنا أن نربط الكثير من شرور الكون بحكم ومصالح، ومع ذلك تنأى بعض الشرور عن أن نفهم الحكمة من ورائها دون الاستعانة بإرشاد الوحي.
- التصوّر الألوهي يحقق نبوءاته بجدارة ويثبت تناسقه الداخلي.
- الله موجود.
الشر، وفساد المقدمات:
الطابع الأبرز في الطرح الإلحادي هو أنه يبدأ بمقدمات ظاهرة ومضمرة لا يراها قابلة للنظر والجدال، ولذلك يجعل همه الوحيد مناقشة مآلات المقدمات دون النظر في أصول القول والناظر في مقدمات الملحدين في معنى الخلق وحقيقة مقام الألوهية يرى أنّها ظاهرة الفساد وفسادها كاف لوحده لينقض أصل الاعتراض.
تصور عبثي للخلق:
الخلق الذي يريده الملاحدة من الرب سبحانه هو خلق بلا غاية ولا رجاء. فالربّ هنا يخلق لأنه يجب أن يخلق وهو ملزم أن يجعل هذا العالم في أحسن صورة ممكنة في عقل الملحد؛ لأنه لا يملك مشيئة خلق عالم أدنى من الكامل. وهو يخلق عالمًا كاملًا حتى يحقق للإنسان أقصى مستوى من السعادة، ولا يملك أن يفعل أدنى من ذلك. وهي إلزامات عاطفية لا تقوم على تحقيق ضرورة عقلية بل هي تتردّى بهذا الربّ من مرتبة الإله المتعالي إلى الخادم! المقهور على خدمة عبيده!.
قال تعالى: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون( [المؤمنون: ١١٥].
)أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى( [القيامة: ٣٦]
)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِين( [الأنبياء: ١٦ــ ١٧].
الاعتراض الإلحادي هنا لا يبحث في قدرة الرب على خلق عالم يحقق للإنسان السعادة القصوى، وإنّما هو يتحدّى التصوّر الإيماني الديني لأنه يقبل ألّا يكون هذا العالم الذي خلقه الله أفضل العوالم الممكنة، وبين هذين الاعتراضين مسافات هائلة.
يقرّر الإسلام أنّ الله قادر على أن يخلق عالما يحقق للإنسان منتهى السعادة واللذة، والتنعم وهذا العالم هو الدار الآخرة: )وَمَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِب وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( [العنكبوت: ٦٤]
)وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ( [الزخرف: ٧١].
فدنيانا إذن ليست هي النموذج الأمثل للدار التي يرجوها الإنسان؛ إذ هي دار اختبار وامتحان، ومكابدة لا دار جزاء بلا مواحشة؛ ففيها ضرام الفتن الجاذبة والمحن الدافعة لا تفتر ولا تخمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حقت الجنة بالمكاره وحقت النار بالشهوات». فالإنسان تتجاذبه أمور يكرهها تدفعه عن طريق الجنّة، وأخرى يحبّها تجذبه إلى غير صراط الملة. وإذا وُفق في مجاوزة المحنة دخل العالم الذي لا شر فيه العالم الذي تغمره السعادة من كل جانب وفي كل حين، وهو العالم الذي يرى الملاحدة أنّ الله سبحانه جدير به.
غاية خلق الإنسان ليست إذن إسعاد الإنسان وإنما اختباره على محكّ العبودية، قال تعالى: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الله( [الذاريات: ٥٦].
إنّ الاعتراض الإلحادي ينطلق من إله إلحادي؛ أي: إله كما يتوهمه الملحد لا كما تقدمه الأديان بصورة بعينها؛ ولذلك يقدّم الملحد صورة مجتزأة أو قاصرة أو مشوهة لما يعتقده المخالف، والحق يقتضي أن يكون النقاش مع المسلمين منطلقا من تصوّرهم لذات الله سبحانه وغاية فعله في العالم.
إنّ آفة التفكير الذري (Atomic thinking) ملازمة للتفكر الإلحادي بصورة حادة؛ فهذا المنطق في النظر يرى في مواضيع الأفكار المدروسة وحدات ذريّة مبعثرة لا يصل بينها خيط جامع محكم. إن تفكير الملحد والمتشكك ينظر إلى المسألة المطروقة بعيدًا عن الكليات والجزئيات التي تحاصرها من كلّ جهة فاصلا لها عن سياقها ووجهتها.
وقد أشارت (إليونور ستمب) (Eleonore Stump) – رئيسة الجمعية الفلسفية الأمريكية – عند تناولها لعيوب الموقف الإلحادي من مشكلة الشر، إلى ملحظ هام في النظر إلى قضيّة الشرّ في الأديان المختلفة، وهو أن إنكار تناسق منظومة عقدية ما قد يكون عائدا إلى عجز المخالف عن فهمها؛ لأنه لم يقرأها في صورتها الأكبر باستيعاب جميع مقولاتها ضمن نسق مترابط يصل أولها بآخرها. وهذا هو في الحقيقة، الواقع من الملاحدة عندما يردّون على المؤمنين بإله في مسألة وجود الشرّ؛ فإنّهم كثيرًا ما يجمعون هؤلاء المؤمنين في ضغث واحد على أنّهم جماعة واحدة لها لون واحد، وعمق واحد، وامتداد واحد، دون مراعاة للمقولات الكبرى والتفصيلية لكلّ منظومة دينية على حدة.
الإله.. كإنسان حكيم:
يجب أن تبدأ كلّ دراسة لمشكلة الشر من وضع الأمور في نصابها حتى لا ينتهي البحث إلى فهم فاسد للواقع وموقع الأشياء فيه، وأوّل الواجبات هو ألا تبدأ الدراسة بمقاربة تمركز الإنسان في قلب الوجود (anthropocentric approach)، وإنّما يجب أن يكون الإله مركز الوجود الكوني حتى يكون فهمنا للشرّ في التصوّر الإيماني متناسقا مع ذاته فلا نحاكم العقلية الإيمانية في سياق دهري يدفع الباحث إلى أن يصل قصرًا إلى عدم تجانس الوجود الإلهي ووجود الشر.
وإن من آثار مركزية الوجود الإلهي في الكون، ألا تكون رغائب الإنسان وحاجاته هي الحكم على الأشياء بالحسن والقبح، كما أنها تجعل العقل البشري يقرّ بأنّ مدركاته من الكون أدنى من حقائق الكون التي يعلمها الخالق بواسع علمه وإحاطته بكلّ شيء.
لسنا نزعم هنا أنّ الحكمة كما تتبدّى عند العقل البشري السوي تخالف الحكمة الإلهية، فليست تلك دعوانا إذ الحكمة البشرية قبس من حكمة الله سبحانه، وإنّما قولنا: هو أن الحكمة البشريّة أضأل من أن تحيط بجميع فعل الله. وذاك هو الفرق بين حكمة المحدود، ضيّق الآفاق، وحكمة من لا يحده زمان ولا جهة نظر. فالحكمة الإلهية تختلف عن الحكمة البشرية، ولكنها لا تختلف جوهريّا عنها؛ إنّها لا تختلف عنها مثل اختلاف الأبيض عن الأسود، بل مثل اختلاف الدائرة الكاملة المتقنة عن أول محاولة يقوم بها طفل لرسم دائرة عجلة، لكن عندما يتعلّم الطفل الرسم، سيعرف عندئذ أنّ الدائرة التي رسمها في النهاية هي ما كان يحاول أن يرسمه منذ البداية.
يجنح الملاحدة عند النقاش في ذات الله وأفعاله إلى إجراء مقايسة أفعال الله بأفعال عباده قياس تمثيل وقياس شمول، وهو ما يقتضي الاشتراك الكلّي بين الله سبحانه والإنسان في كلّ شيء. وأهل السُّنَّة يردّون كلا القياسين، ويقولون بقياس الأولى؛ أي إنّ كل كمال للمخلوق – يليق بالخالق – لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ لأن مصدر هذا الكمال للمخلوق هو الله سبحانه. وإذا كان ذلك كذلك، لزم أن يعرف أن العدل بمعناه الإنساني لا يتطابق مع العدل في فعل الله سبحانه، وذلك لأسباب عديدة منها: أنّ العدل في الحس الإنساني مرتبط بالنفع والضر، والله سبحانه في فعله في الكون لا ينفعه من فعل البشر شيء، ولا يضره شيء. قال تعالى في الحديث القدسي : «يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، ولذلك ففهمنا للعدل الإلهي لا بد أن يتصف بالكثير من التواضع، وإن كان العدل في الحس الإنساني هو صورة مصغرة منه؛ إذ العدل الإلهي هو الأكمل، من باب إجراء قياس الأولى وكماله يقتضي أنّ له أبعادًا ليست ضمن أبعاد العدل بمعناه البشري.
إله الملاحدة المعقول:
الإله الذي يقبله الملاحدة، ولا يقبلون بغيره أصلا لإبداع هذا الوجود، هو في حقيقته “إنسان”.. إنسان شديد الذكاء، يتصرّف في جميع أعماله ضمن حدود المجمع عليه عند عقلاء الناس في مكان وزمن ما، فهو لا يفعل ما يتجاوز العقل البشري، ولا يخرج عن الإجماع البشري؛ فاختياره لما هو محل خلاف بين البشر سبيل لسلبه الإلهية!
على هذا الإله – البشري ـ أن يكشف جميع أفعاله، ولا يُسر منها شيئًا، وعليه أن يقدّم عريضة دقيقة فيها الدافع والغاية من كل فعل، وعلى هذه الأفعال أن تؤول إلى تحقيق الرفاه الإنساني مع مراعاة البيئة التي نشأ فيها كل فرد.
هذا الإله – الإنسان، يجب أن يكون مسلوب المشيئة الذاتية، ومستعدًا في كل حين ليتكلّم مباشرة مع سائله للإجابة عن الأسئلة الوجودية والمبررات الفقهية، إنّه على الخط الآخر من الهاتف ينتظر بلهفة ورجفة ما يستشكله خَلْقُه من فعله في الكون.
إن العدل المطلوب يقتضي أن يصنع هذا الإله – الإنسي استفتاء عاما أوليًا قبل الخلق؛ فيسأل المخلوقات إن كانت تريد أن تُخلَق يسألهم فردًا فردًا، ويلبي رغباتهم دون تردّد. إنّه عالَم توافقي، ليس للإله فيه صوت، زائد بل ربما لا صوت له.
إنّ إله الملاحدة المصَمَّم في عقل أنشأه لينفيه، فاقد للوازم الألوهية، وعِزّها، بل هو فاقد للحرية بمعناها البشري وللذاتية بمفهومها البشري هو مجرّد صندوق يضع فيه كل مخلوق قائمة رغباته … وهو بذلك أدنى من الإنسان الحرّ المريد! إنّه شيء تجري به الريح حيث تشاء!
ضخامة الدعوى وقصور الشواهد:
إقامة الحجّة العقلية أو الكونية على أنّ الإيمان بالله يخالف المعلوم من الحق يقتضي أن يُظهر المعترض حجّة في نفس حجم الدعوى، وهو ما لا نلمسه في الاعتراض الفلسفي بحجة الشر على وجود الله فاستدلال الملحد بالمعلوم أضعف من أن يحمل بأطرافه بناء جحود الخالق.
حين يكون الاستشكال الفرعي نفيا لليقين الكلي:
من أعجب ما يشين التفكير الإلحادي انطلاقه من المجهول لإقامة المعلوم، واتخاذه الأمر المشكل لا اليقيني أصلا لإقامة فهم كُلّي للوجود، وهو يستعين بقصر طرحه وأنّ منتهى دعواه الرفض، للإيهام بتجانس أفكاره وتناسقها. بمعنى أنّ الطرح الإلحادي يقوم أساسا على شبهة الشر، ثم باستدلال سريع خفيف يقفز إلى الزعم أنّ هذا الكون بلا إله، ولذلك يُعفي نفسه من الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى؛ لأنّ الوجود عنده ينطلق من عبث إلى عبث ويسعى حثيثاً من عدم الدافع إلى عدم الغاية. وذاك في الحقيقة الأصل الفكري لزعم الملاحدة صحة مذهبهم وانتصاب حجتهم؛ إذ إنّ دعواهم قائمة على فكرة واحدة بسيطة غير مركّبة، وهذا هو أس فساد ما ينتحلونه من قول.
ينطلق المنطق الإيماني theist)) – على خلاف المنطق الإلحادي – من المعلوم، ومن الكلّي المدرك ليقيم منظومته الكبرى، مستعينًا بالنظر العقلي ومدد الوحي. فهو يدرك الحكمة في عامة ما يرى ولذلك ينطلق من هذا المعلوم لتأسيس كلياته الكبرى التي ستهيمن على تفسير المجهول الذي لا يُدركه حينا أو أبدًا.
يقول (ابن تيمية): « فكل ما فعله [الله] عَلِمْنا أنّ له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل، وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته، وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كُنه؛ أي حقيقة ذاته فغير معلومة لنا، فلا نكذب بما علمناه؛ أي: من کماله ما لم نعلمه أي من تفاصيل هذا الكمال – وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته، فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها، ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفّا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو ؛ لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه لعدم علمه بتوجيهه والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو، فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك».
التفكير المعكوس:
التساؤل الإلحادي عن الشر يقوم على تفكير من أعلى إلى أدنى، وهو منطق منكوس لتوليد الأفكار وتجلية الحقائق وتبيّن معالم الدروب الموصلة إلى الحقائق الكلية الكبرى، بمعنى أن الانطلاق – في نقطة البدء ـ بالتساؤل عن قضايا هي من الغيبيات بيقين – سواء عند المؤمن أو غير المؤمن – ولا سبيل إليها إلا بوحي، للوصول إلى يقين حول وجود الله والغاية من الخلق، لا يمكن أن يقود إلى يقين؛ لأنه يبدأ من أمر ظني قائم على الحدس والتخمين ليصل إلى تأسيس منظومة تصوّر ديني كاملة.
التأصيل القرآني لقضايا الغيب؛ ينطلق تصاعديا من المعلوم إلى المجهول ومن البسيط إلى المركب. إنّ البحث المباشر في المغيَّبات أو البحث في المغيَّبات التي لا سبيل إليها أصلا إلا بوحي، هو إبحار إلى عالم (اللانهايات)؛ لأنه سفر إلى غاية متحركة تنتج لنفسها نهايات أخرى غير مدركة؛ بمعنى أن السؤال الواحد عن أمر غيبي لا يُدرك، سينشطر بعد ذلك إلى مجموعة أسئلة تولّد هي نفسها أسئلة جديدة؛ إذ إنّ التخمين هو الزاد الوحيد لتصوّر هذه الأجوبة. إنّنا نحتاج إذن أن نبدأ من المحسوس المدرك أو المعقول المتاح وهو النظر في الكون المادي وقوانينه؛ والرضا بالأجوبة الكلية التي يقدّمها والتي هي وجود خالق خالق واحد، ثم هو عزيز، وحكيم. عندها تنتهي المساحة التي يتيحها لنا العالم المادي ويقينيات العقل، ليحتكر الوحي ميدان الإجابة.
مشكلة الشرّ، وصفات الربّ لا وجوده:
كثيرًا ما يمضي البحث في مشكلة الشر بعيدا في التفصيل والجدل دون أن يطرح سؤالا أوليا لا يستغني عنه الناظر في الأمر، وهو: “هل يلزم عقلا أن يكون الإله عادلا رحيما؟”، وحتى يكون السؤال أوضح في تعبيره عن الاستشكال، نقول: هل يلزم عقلا أن يكون خالق الكون عادلا رحيما؟، إذ إنّ المقصود بالإله في مناقشة شبهة الشرّ هو خالق الكون من عدم، ونحن نتوصل إلى معرفة هذا الإله أولا وأساسا من خلال الوصول إلى الذات المتصفة بالخلق والإبداع.
قد يفاجأ الملحد العربي بتصريح الفيلسوف الملحد (ج ماكي) الذي يُعدّ أشرس الملاحدة استدلالا بمشكلة الشرّ انتصارًا للإلحاد، أن مشكلة وجود الشر هي مشكلة فقط لمن يؤمن أن هناك إلها قديرًا كامل الخيرية، وهي مشكلة منطقية تتمثل في توضيح عدد من الاعتقادات والتوفيق بينها.. إذا كنت مستعدا للقول: إنّ الله غير كامل الخيرية، وليس تام القدرة، فعندها لن تواجهك مشكلة الشر. فمشكلة الشر لا يمكن أن تكون دليلا لنفي الخالق، وإنّما أقصى أمرها أن تنفي وجود إله المسلمين واليهود والنصارى، فمن يدّعي من الملاحدة أن مشكلة الشرّ هي دليله على أن هذا الكون أزلي لا خالق له فما صدق؛ إذ إنّ مشكلة الشر لا تنفي وجود الربّ الخالق.
هذه المشكلة إذن لا يمكن أن تقود إلى الإلحاد، وإنما هي مشكلة من الممكن أن يحتج بها الربوبي (deist) على الألوهي (theist)، فالأوّل يؤمن بالخالق لكنه لا يرى إلزاما أن يصفه بصفات من يرون له تدخلًا في الكون على خلاف الثاني الذي يرى أنّ الإله فاعل في الكون هي إذن مشكلة تسعى لنفي بعض الصفات عن الخالق لا نفي ذات الخالق.
ومن ناحية الإلزام المنطقي الصرف (logical necessity) لا يوجد دليل واحد يشترط في الخالق أن يكون رحيما. وقد تشبّث البعض بالدليل الأنطولوجي على وجود الله لإثبات أنّ الرحمة لازم من لوازم الربوبية. ويزعم هذا الدليل أنّ تصوّر وجود الذات الكاملة حجّة لوجودها، إذ العقل يتصوّر وجود الإله الكامل، ولما كان الوجود في الواقع أكمل من الوجود في العقل، لزم أن يكون الله موجودًا في الواقع، وهو ما يلزم منه أن يكون الخالق بالغ الرحمة.
ونحن لو سلمنا – جدلا – بصحة الانتقال من المقدمة إلى النتيجة، فلسنا مع ذلك ملزمين أن نسلّم لهذه المقدمة وهذا الطريق في إثبات وجود الله، ولذلك فإنّه لم ينتصر له جمهور أهل السُّنَّة، وهو معروف عند أهل القبلة حصرًا عند عدد من فلاسفة الشيعة كـ الملا صدرا في ما يُعرف “ببرهان الصديقين”، كما رفضه عدد من فلاسفة النصارى كـ(توما الأكويني)، وهو ليس في حقيقته ببرهان لشيء.
ليس في الطريق المسلوك من غير الوحي، كالنظر في إخراج الوجود من العدم والإبداع في تصميم المخلوقات، حجّة منطقية قاطعة أنّ الربّ لا بدّ أن يكون في منتهى الرحمة وإن كانت آثار رحمته في الكون بادية، وفرق بين وجود الرحمة وحقيقة منتهى الرحمة. وفي غياب هذا الإلزام المنطقي، علينا أن نَفْصِلَ بُرهانيًا بين الإيمان بالخالق الذي خلق وسوّى، والإيمان بالإله الذي يخبر عن نفسه أنه مطلق الرحمة، وإن كنا نعتقد أنّ الوصول إلى الأوّل هو قنطرة الوصول إلى المعرفة الكاملة بالإله الذي جاء الخبر ببيان أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
ومن الناحية الإسلامية الشرعية ثبت الله سبحانه وصف العدل والرحمة لأنه ألزم نفسه بذلك، فقد قال جل وعلا: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا». قال الإمام (ابن رجب): «يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده، وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم، ولكن لا يفعله فضلا منه وجودًا وكرمًا وإحسانا إلى عباده».
وهو ما أكده (ابن تيمية) ببيان أنّ الحديث السابق حجّة للقول: «إنّ ترك الله سبحانه للظلم هو عن اختيار لا ضرورة، فالله سبحانه قد وضع كل شيء موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك، فهو سبحانه يفعل باختياره مشيئته، ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم، خلاف قول المجبرة الذين يقولون : لا يقدر على الظلم، وقد وافقهم بعض المعتزلة كالنظام، لكن الظلم عنده غير الظلم عندهم، فأولئك يقولون : الظلم هو الممتنع لذاته، وهذا يقول : هو ممكن لكن لا يقدر عليه … وأهل السُّنَّة أثبتوا ما أثبته لنفسه: له الملك والحمد، فهو على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء، وهو عادل في كل ما خلقه، واضع للأشياء مواضعها، وهو قادر على أن يظلم، لكنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء».
وقال رحمه الله: «إنّ الله سبحانه لا يريد الظلم والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزّه نفسه عنه من الظلم وأنه لا يفعله، وبذلك يصح قوله : إني حرمت الظلم على نفسي، وأن التحريم هو المنع وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال : حرمت على نفسي أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعل المخلوقات خالقة، ونحو ذلك من المحالات وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه : إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا لا يكون مني. وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع کونه شبه التكرير وإيضاح الواضح ليس فيه مدح ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور عليه لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو سبحانه منزه عن فعله مقدس عنه».
ولذلك قال (أنتوني فلو) – أيقونة الإلحاد في القرن العشرين – بعد تراجعه عن إلحاده: «من المؤكد أنّه لا بد من مواجهة وجود الشر والألم، ولكن فلسفيا، يُعتبر هذا الموضوع منفصلا عن السؤال عن وجود الله، فمن وجود الطبيعة نفسها نحن نصل إلى أصل إيجادها ربما للطبيعة عيوب، ولكن ذلك لا يدلّ البتة إن كان لها مصدر نهائي أم لا، وبالتالي فوجود الله لا يرتبط بوجود الشر السائغ أو غير السائغ».
إذا تقرّر مما سلف أن مشكلة الشر لا يمكنها أن تنفي وجود الخالق؛ لأنها لا تتعرّض لأصل هذا الوجود، بالإضافة إلى أنّ هذا الوجود ثابت بأدلّة يقينية لا تقبل المعارضة فلنا أن ننتهي إلى أنّ هذا الإشكال أقصر من أن يتعلق بالدعوى العريضة للإلحاد وبإمكاننا أن نرتب ذلك منطقياً على الصورة التالية:
- الدلائل الفطرية والعقلية والعلمية قاطعة أنّ لهذا العالم خالقًا.
- لا يوجد برهان منطقي يلزم عقولنا على الاعتقاد أن صفة العدل ضرورية في هذا الخالق الذي دلّ الكون والعقل على أنه واجب الوجود.
- وجود الشرّ لا تعلّق له بمسألة وجود الخالق، وإنما له تعلّق بصفاته.
يحتاج الملحد بعد ذلك أن يعيد النظر في حقيقة دلائل الخلق والإبداع؛ إذ إنّ هذه الدلائل المشرقة والمستفزة للعقل والقلب تحمل النفس حملًا على الاعتقاد أنّ للخالق غاية من وراء هذا الفعل العظيم المدهش ولا يتحمّل العقل الحسّاس البتة أن ينسب هذا الأمر إلى العبث.
وإذا انتهى من ذلك، فعليه أن يولّي وجهه شطر الرسالة القرآنية، فهي تحمل أعظم دلائل الصدق وفيها تعبير مقنع للعقل عن طبيعة الغرض الإلهي من هذا الوجود حتى لو لم يقتنع بالأصل الربّاني لهذا الكتاب، ففي تعبيرات القرآن النفسيّة واستدلالاته العقلية دليل إلى المعنى المرضي لهذا الوجود الذي لا تسمح عظمته ودقته بأن يكون من جَمْعِ الريح.
وإذا فرغ الملحد من ذلك، فقد حان له عندها أن يراجع قوله في الشرّ، ليرتقي من مذهب الربوبية الأصم إلى مذهب الألوهية المفعم بالمعاني الحيّة، فإن لم يصل إلى شاطئ هذا المعنى العظيم، فليراجع أصل فهمه للربوبية وأصالتها التي تعبّر عن نفسها في كلّ شيء في الوجود، فلا شك أنّ في إيمانه بالربوبية خلل ووهن. وقد أحسن الفيلسوف (دانيال هاورد – سنایدر) (Daniel Howard – Snyder) إذ عبّر عن هذا الأمر بقوله: «إن مشكلة الشر هي مشكلة للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشة. أمّا إذا كان للمؤمن بالربّ حجّة صلبة، فإن وجود الشر ليس مشكلة».
حصر صفات الله في ثلاث!
تقوم شبهة الشر على أن وجود الشر يتعارض مع وجود الإله ذي الصفات الثلاث: القدرة والعلم والرحمة، ويحاول الملحد من خلال حصر الصفات الإلهية في هذه الثلاث أن يقيم دعواه في التعارض الذي يمنع وجود الإله، مستغنيًا بذلك عن النظرة الكلية التي لا تهمل من صفات الربّ شيئًا، والتي تتوصل بأفقها الواسع إلى إدراك التآلف الوجودي بين وجود الله الكامل ووجود الشر.
الله – سبحانه – في التصوّر الإسلامي، هو مالك الملك الذي له الكون كله وهو صاحب الكبرياء بعظمته التي لا تدانى وسلطانه الذي لا يضاهي، وهو بمنطق العدل والحق حتى بمعاييرنا الأرضية له أن يفعل في ملكه ما شاء، ولسنا نقول بذلك : إنّ تصرف المالك في ملكه لا يكون ظلما بهذا الإطلاق، فذاك معارض لمعايير العدل ومنصوص القرآن، وإنما نقول: إنّ حقوق المالك العادل أوسع من حقوق المملوك في ميزان العدل، وسلطان المالك العادل أعظم من سلطان المملوك، وبذلك تتسع الآفاق في أن الله في فهم أن يوجّه الخلق لأمر، ويضعهم في اختبار ويعاقبهم على العصيان فليسوا هم هملا في الدنيا، وإنما خلقوا لأمر، ووضعوا على الأرض لغاية، وواجبهم الطاعة، وذلك عند النظر في العدل الإلهي يوجب ألا يكون للإنسان أن يستأثر بالحكم، ولا أن يكون مركز الكون، فحقيقة العدل أن يكون الله أعظم حق.
تعارض الشر والحكمة وتعارض الشر والقدرة:
من مظاهر الالتباس والتلبيس عند طرح مشكلة الشر الخلط بين وجهين من أوجه التعارض المزعوم بما يؤول إلى تشتيت النظر في ضبط مواطن الاستشكال؛ إذ يطرح الملاحدة مسألة تعارض وجود الشر ووجود إله حكيم، ثم يقحمون في عين هذا الاعتراض تنافر وجود الشر والإيمان بوجود إله قدير، ثم يُطلب من المخالف أن يفك العقدة الثنائية بوجه واحد من أوجه الرد!
عمليًّا أقول: كثيرًا ما يُواجه كبار الملاحدة بالقول: إن الشر حقيقة نسبيّة، وإنّ ما يبدو شرًا من وجه، هو خير من وجه أو وجوه أخرى، وغير ذلك من الأدلة التي سنسوقها لاحقا لنفي الوجود الذاتي للشر. فيكون الرد هو: لماذا لم يخلق الربّ عالمًا من دون شر أصلا، أليس ذلك دليل على عجزه؟ وهنا انتقل المخالف من شبهة تعارض الشر والحكمة، بعد أن عجز عن الرد إلى شبهة تعارض الشر والقدرة والأصل – إن كان الملحد منصفا – أن يسلّم بعدم وجود تعارض بين الشر والحكمة، ثم يفتح الباب لشبهة جديدة، وهي تعارض الشر والقدرة، ولِمَ لَمْ يخلق الله عالما آخر بلا شر؟
ولعلي أجزم في هذا السياق أنّ إشكالية الملاحدة الكبرى هي تتداخل الشُّبَه إلى درجة أنّه لا سبيل للإجابة على شبهة واحدة منها إلا بالإجابة على جميع الشبه في نفس الحين رغم تباعد المواضيع ومواطن الاستشكال. ولذلك فإن تفكيك الاعتراض إلى مجموعة أسئلة وتفكيك الأسئلة المركبة الى عناصر صغری؛ سيوضح الرؤية ويرفع الغمامة.
* * *
براءة الإسلام من أوهام الشر:
أشار الأسقف والمستشرق البريطاني (كنت كراغ) (Kenneth Cragg) إلى أنّ الإسلام لا يجد أنّ الثيوديسيا ضرورية للاهوته ولا لعباداته. وهو بذلك يعبّر عن أنّ مشكلة الشرّ لا تجد لها مكانا ضمن منظومات التصوّر والنسك والفعل في الإسلام فهي غريبة عن هذا البناء الديني المتماسك. إنّها الحقيقة التاريخية التي تكشف أن مشكلة الشرّ في البيئة الإسلامية هي إمّا إسقاط ديني أو فلسفي، أو حال من الاهتياج النفسي الشخصي.
والنظر عن كثب لمشكلة الشر في سياقاتها الكبرى، كاشف أنّ هذه المشكلة تستقي قوتها من أسفار النصارى، وتجد مرعاها في محراب اللذة، وتأنس لحضن الرقة كما سيأتي بيانه.
التوراة أصل اعتراض الفلاسفة الغربيين:
يَغفل الكثير من الملاحدة اليوم أنّ مشكلة الشر كمعضلة إيمانية لم تشغل حيزا واسعا من التفكير البشري خارج دائرة النخبة المفكرة إلا بعد تحرّر العقل الغربي من سلطان الكنيسة وهيمنتها على النشاط الفكري، رغم أن مشكلة الشر – تاريخيا – هي أساس ظهور وعلى الصواب، تحوّل الديانة المجوسية إلى القول بوجود إلهين: إله خالق للخير وآخر خالق للشر.
وتعتبر الصورة المنكرة لإله التوراة، بما فيها من بشاعات مستفزة لمشاعر الرحمة التي فطر عليها الخلق من شرارات دواعي كفر الإنسان الغربي بمعاني العدل في هذا الوجود، وقد حفرت في الذهن الأوروبي نقشا لإله متفجر شرورًا، متشبع بالدموية القانية البريئة من الرحمة والحكمة ولذلك كثيرًا ما يحيل أعلام الإلحاد الغربي إلى نصوص التوراة للقول: إن الشر الذي تلبس به إله (النصرانية) كما هو في التوراة ينفي عن هذا الإله خصائص الألوهية، ويظهره كوحش مكشر عن أنياب الظلم والجور، ومثقل بوضر العسف ودرنه. يقول (ريتشارد داوكنز): «يمكن القول: إنّ إله العهد القديم [أي: التوراة] هو أكثر شخصية بغيضة في كل القصص : غيور وفخور بذلك، تافه، جائر، غير مسامح ، انتقامي متعطش للدم ومولع بالتطهير العرقي، كاره للنساء، عنصري، قاتل للأطفال مغرم بالإبادة الجماعية قاتل لأبنائه، وبائي، مصاب بجنون العظمة سادي فتي صاحب نزوات حاقدة».
لم يجاوز (داوكنز) الحق، فإنّ إله التوراة – المحرفة ـ يحمل من أثقال الشناعة الكثير، بالإضافة إلى طباعه البشريّة المستبشعة، فهو كثير التقلب والانفعال تأثرًا بالمواقف الطارئة، وكأنه لا يعلم من الغيب شيئًا، وإذا وهو يعاقب الأبناء حمي غضبه ضرب بسوط العقاب المذنب والبريء، وهو يعاقب الأبناء حتى الجيل الرابع بإثم آبائهم.
ويُظهر هذا الإله نوعاً غريباً من الدموية التي ترفضها البراءة البشرية؛ فقد قتل ٥٠ ألف بشر، لمجرد أنهم قد نظروا إلى ما في داخل تابوت. وتطغى عليه المزاجية حتى إنّ نبيه (موسى) يضيق صدرًا بذلك، ويظهر ضجره، ويندفع للإنكار الصريح عليه.
وفي رصيد هذا الإله – كما هو في التوراة المحرفة – جرائم يطفر من جوانبها الدم الرخيص:
- قتل النساء والأطفال: (أَهْلِكُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطَّفْلَ وَالنِّسَاء وَلَكِنْ لَا تَقْرَبُوا مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِثُوا مِنْ مَقْدِسِي. فَابْتَدَلُّوا يُهْلِكُونَ الرِّجَالَ وَالشَّيُوخَ الْمَوْجُودِينَ أَمَامَ الْهَيْكَل).
- قتل الرضع: (فَاذْهَبِ الآنَ وَهَاجِمْ عَمَالِيقَ وَاقْضِ عَلَى كُلِّ مَا لَهُ. لَا تَعْفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ بَلِ اقْتُلْهُمْ جَمِيعًا رِجَالًا وَنِسَاءٌ، وَأَطْفَالًا وَرُضَعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جِمَالًا وَحَمِيرًا).
- الأمر بشق بطون الحوامل: (لَا بُدَّ أن تَتَحَمَّلَ السَّامِرَةُ وِزْرَ خَطِيئَتِهَا لأَنَّهَا تَمَرَّدَتْ عَلَى إِلَهِهَا، فَيَفْنَى أَهْلُهَا بِحَدِّ السَّيْفِ، وَيَتَمَزَّقُ أَطْفَالُهَا أَشْلَاءَ، وَتُشَقُ بُطُونُ حَوَامِلِهَا).
- حتى الحيوانات تقتل: (وَدَمَّرُوا الْمَدِينَةَ وَقَضَوْا بِحَدِّ السَّيْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ فِيهَا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَأَطْفَالٍ وَشُيُوخِ حَتَّى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحَمِيرِ).
- ثناء الربّ على القوم الذين سينالون شرف قتل الأطفال الصغار بضربهم على الصخور: (يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُحَتَّم خَرَابُهَا، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ بِمَا جَزَيْتِنَا طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ صِغَارَكِ وَيَضْرِبُ [787 = يضرب بقوة] بهم الصَّخْرَة).
وإن شئت فاقرأ كتاب Jumpin, Jehovah: Exposing the Atrocities of the Old) Testament God) لـ (بول تايس) (Paul Tice)، وقد قال في مقدمته: «إنّ إله التوراة: لم ينشر الفرح والحبور أينما حلّ، وإنّما نشر الخوف والقتل، وأن أي شخص في عالمنا، يرتكب الأعمال التي ارتكبها يهوه لا بد أن يسجن أو يعدم».
إنّ التوراة نفسها تدين هذا الإله لفعله الشرَّ غير المبرر؛ إذ نقرأ في (سفر حبقوق) صرخة منسوبة إلى النبي (حبقوق) غارقة في اليأس من إيجابية هذا الإله أمام سيل الشر الهائج، (حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لَا تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لَا تُخَلِّصُ؟ لِمَ تُرِينِي إِثْمًا، وَتُبْصِرُ جَوْرًا؟ وَقُدَّامِي اغْتِصَابٌ وَظُلْمٌ وَيَحْدُثُ خِصَامٌ وَتَرْفَعُ الْمُخَاصَمَةُ نَفْسَهَا).
وتهوي كلمات النقمة على ذات الإله من مؤلّف المزامير (داود) بعد أن ذهل عقله من علوّ سلطان الشر فوق هذا الإله الهامد: (يا رَبُّ لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الصِّيقِ؟).
(أَقُولُ اللهِ صَخْرَتِي: لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُو؟).
(اِسْتَيْقِظُ! لِمَاذَا تَتَغَافَى يَا رَبُّ؟ انْتَبِهْ! لَا تَرْفُضْ إِلَى الأَبَدِ. لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَنْسَى مَذَلَّتَنَا وَضِيقَنَا؟).
إنّ في الكتب المقدّسة لليهود والنصارى مبرّر لبذرة الشك في وجود هذا الإله المغرم بالشرّ المتنفّس دما، والعاجز أمام عبثيته الدامية!
الشرّ.. واللذية:
يلتقي الزعم القائل: إن الشر ممثل في الحس البشري أساسا في الألم أمر سلبي بلا استثناء ولا تردد مع أصل مذهب اللذيّة (Hedonism) القائل: «إنّ اللذة هي الحق الجوهري الوحيد ومبلغ طموح الرغبة الإنسانية، وإن كلّ ما خالف اللذة فهو شر، وإنّ الألم شر محض من كل وجه؛ فهو مذهب يختصر حقيقة الوجود في تحصيل قدر أكبر من المتعة ودفع كل الألم؛ فيكون الألم بذلك شرًا محضًا لا بد أن يتجانف عنه الفعل الواعي بصورة كلية، ولا تستقيم الحياة المرضية بوجوده، ولا يسلم للبشر وجود هنيء إلّا في عالم بلا ألم».
الحياة الإنسانية في ضوء مذهب اللذيّة، قطعة زمنية منقطعة عن الوجود الكوني، وإدراك فردي منقطع عن الوجود البشري، فالقول: إن الشرّ في حسن معتنق هذا المذهب لا يلتقي مع الإيمان بإله كامل، متناسق في مقدمته ونتيجته يقود أوّله إلى آخره، لكن هذا المذهب الفلسفي – الأخلاقي ليس هو مبتدأ جل المعترضين بوجود الشر المادي متمثلاً أساسا في الألم على وجود إله؛ ولذلك يسقط من البدء الزعم أنّ الألم المادي مرفوض ابتداءً في عالم خلقه إله خَيّر؛ لأنّ هذا الألم قد يكون شرًا من وجه وخيرًا من وجه آخر أو حتّى من أوجه أخرى.
وكمسلم أقول: إنّ هذا المذهب يتعارض مع النسق العقدي – الأخلاقي الإسلامي، وبالتالي فلا يجوز أن تبنى عليه استنتاجات تدين التصوّر الكوني الإسلامي بالتناقض وهو ما قرّره الفيلسوف الثيوديسي (جون هك) (John Hick) عن النصرانية في انتقاده للملاحدة الذين يستدلون بالشر في العالم لنفي وجود الله بقوله: «[ يعتقد] الكُتَّاب المعادون للإيمان بالله دائما تقريبا أن غاية الإله المحب لا بد أن تكون في خلق جنّة اللذة “hedonistic paradise” ، وبما أنّ العالم هو غير ذلك، فإنّ ذلك يثبت بالنسبة لهم أنّ الله ليس محباً على الدرجة المطلوبة أو أنه ليس قويًّا بالدرجة الكافية ليخلق مثل ذلك العالم. ويزيد (هك) في توضيح الأمر بقوله: «إنّ الملحد يتصوّر العالم دائمًا كعلاقة الإنسان بالحيوان الأليف الذي يضعه في قفص ليتحرّك داخله، فإذا كان هذا الإنسان ذا حس خلقي عال؛ فسيوفّر لحيوانه المكان المريح الصحي ما أمكنه ذلك، وكلّ قصور في إمتاع هذا الحيوان بالراحة والصحة، لا يمكن تفسيره بغير القصور في أخلاق هذا الإنسان، أو إمكاناته المادية، أو قصورهما معًا». ولعلّ ويليام لين (كريغ) التقط منه هذا المشهد التصويري، فهو دائم التعبير عن فساد التصوّر الإلحادي لعلاقة الخالق بالإنسان، بقوله: إنّ غاية الله من خلقنا على الأرض ليست إسعادنا؛ إذ إننا لسنا الحيوانات الأليفة الله» (We are not God’s pets). لقد خلقنا في هذه في الحياة للمكابدة ومصارعة الشر بأنواعه والتصبر على الوجع وأشكاله، ولم نحبس على هذه الأرض للمتع السائغة الصافية. قال تعالى: ) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد( [البلد: ٤] قال الحسن البصري في تفسير الآية: «يكابد مضايق گیره الدنيا وشدائد الآخرة».
إنّ مذهب اللذيّة واضح في موقفه من الألم، فهو يرفضه بكل أشكاله، وهو بذلك ساذج غاية السذج في تصوّره لحقيقة الشر، وقبل ذلك حقيقة العالم المركب من أمور متداخلة تقضي أن يكون الألم في أحيان كثيرة رَحِمًا للخير، ولذلك قال الفيلسوف الملحد (جون ستيوارت (مل (John Stuart Mill) عبارته الشهيرة: من الأفضل للمرء أن يكون إنسانا غير راض من أن يكون خنزيرا راضيا؛ من الأفضل أن يكون المرء سقراطًا غير راض من أن يكون أحمق راضيا».
إن الإنسان يحقق إحساسه بالامتلاء والوضاءة بأمور أكبر من الأخذ اللاهث بالمتع، بل إنّ النفس التي تسرف في اللذائذ سرعان ما يصيبها البشم، فالملل والضجر، فالتطرّف في الهوى فالمرض، فالشعور بالعدمية حيث تستوي اللذائذ في قيمتها لأنّها أصبحت عاجزة عن أن تستثير شهوته أو أن توقد حماسته، وهو الطريق الذي سلكه كثير من أصحاب المال والشهرة الذين انتهى بهم الأمر إلى إدمان المخدرات أو الانتحار بعدما أصبحت متع الدنيا أمام أيديهم دانية سهلة القطاف، فاستحال الحلم المغري سرابًا خادعا قبض الريح.
ثم إن أمتع اللذائذ، وأدومها واكثرها إرواء للنفس، هي تلك التي تحصدها يد المعاناة من أرض المكابدة؛ فتجد في حلاوتها جزاءً على صبرها، وتجديدًا لعزمها، وإنماء لعودها؛ فالألم بذلك مادة المتعة الجادة، ومن حطبه توقد نار البهجة.
سؤال الإنسان الحساس:
يستنكر الكثير من الملاحدة وجود كثير من الشر المزعج والمفزع في هذا العالم لا وجود الشر ذاته دون محاولة الغوص في الحكمة من وراء ذلك. وهذا دليل على أنّ الإشكال في حقيقته ليس عقليا بالأساس وإنّما هو ارتجاج نفسي تأثرًا بواقع مؤلم. ويتأكّد هذا الأمر بعلمنا أنّ هذا السؤال عن «الشر» قد ظهر بصورة جديدة حامية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية. إنّها صرخة الإنسان الفزعة أمام الحادث الجلل وشهقة القلب الرقيق أمام النكبة الحادثة.
إن النفس الرقيقة الانطباعية التي تستحوذ عليها الرتابة، إذا واجهت حادثة معكّرة لصفاء صفحتها، تهتز بعنف وقد تتكسر وتتشظى إلى قطع صغری، ولذلك تنحصر مشكلة الشر في الأغلب في طائفة من الناس من ذوي نفسيات خاصة، وتفشو في أزمان خاصة حيث تكثر الكوارث المهلكة، ثم تنتشر في بيئات يُحمل فيها الناس على الإلحاد قسرًا بفرض الفكر الإلحادي ومفاهيمه كما كان الأمر في الإمبراطورية السوفياتية) أو بنشر المفاهيم الإلحاديّة من خلال المهيمنين على التعليم والثقافة كما كان الأمر في البلاد العربية من خلال الشيوعيين في الجامعات والنوادي الثقافية، بدعم من الأنظمة الاشتراكية) أو بنشر الشبهات من خلال وسائل التواصل العصرية الحديثة التي لا يحدّها حاجز جغرافي ولا قانوني كما هو واقع اليوم من خلال الشبكة العنكبوتية – النت .. وهو ما يعني أنّ هذه الشبهة في جوهرها العفوي عاطفية، ثم هي تسلك بعد ذلك سبل الانتشار.7