تعزيز اليقين وهداية الحيران

في التعارض بين وجود الله ووجود الشر

في التعارض بين وجود الله ووجود الشر

إننا نجعل لعالمنا مغزى بجراة أسئلتنا وعمق اجوبتنا

کارل ساجان

كنت نبهت سابقًا أنّ أهم الإشكالات التي تواجه الباحث في «مشكلة الشر»، تحديد الأسئلة، وليس الفوز بالأجوبة الصحيحة؛ إذ إنّ «مشكلة الشر» وإن صيغت في عنوان بسيط وكلمات قليلات إلّا أنّها على الحقيقة شُعَبٌ متداخلة من الاعتراضات والاستشكالات التي لا أمل في فك لغزها وبيان الحق فيها قبل ترتيبها في صياغات فردية تضمن أن نفهم أوجه الاعتراض الإلحادي.

ويكاد يتفق الخائضون في مشكلة الشر اليوم من ثيوديسيين وفلاسفة أن الموضوع الأكبر لمشكلة الشرّ هو ثبوت التعارض بين وجود إله قدير، عليم، رحيم، ووجود الشر، غير أنّ هذا الإشكال الواحد، مجمل في صياغته، وحقيقته أنه مجموع مشکلات متعلّقة بالشرّ ووجوده في عالم مخلوق من ربّ كامل، وهي:

١ – أ – المشكلة المنطقية للشر The logical problem: وهي المشكلة المتعلقة بالتناقض المحض بين دعوى وجود إله قدير، عليم، رحيم، ووجود الشر.

٢ – المشكلة البرهانية The evidential problems، وتسمى أيضًا بالمشكلة الاحتمالية The probabilistic problem: تزعم هذه المشكلة أنه وإن لم يكن هناك تعارض صميمي بين وجود الله ووجود الشر، إلا أنّ المرء يميل إلى الاستبعاد الاحتمالي لوجود إله قدیر، علیم، رحیم، بسبب وجود الشر؛ سواء بسبب طبيعة الشر، أو لوجود قدر عظيم منه، أو لطبيعته المجانية التي لا خير من ورائها. وينقسم هذا الاعتراض بذلك إلى ثلاث مشاكل:

ب – مشكلة الشر الأخلاقي.

ج – مشكلة الشر الطبيعي.

د – مشكلة الشر المجاني.

ولنا مع كل إشكال حديث في تعريفه وبيان مبلغه من الصواب.

– أ –

المشكلة المنطقية للشر

تمثل المشكلة المنطقية للشر الشكل التقليدي لهذا الاعتراض الإلحادي، وقد شاعت قديما مع الفيلسوف اليوناني (إبيقور) (Epicurus)، وهي تقرر أن وجود الشر في العالم يتعارض مع وجود الإله؛ إذ إنّ الكمال الإلهي يقتضي: ألا يكون هناك شر في العالم، وألا يفعل الله الشر. وحول هذا الإشكال سندندن هنا!

 

ما هي المشكلة المنطقية للشر؟:

تتمثل المشكلة المنطقية للشرّ في الزعم أن وجود الله العليم القدير الخير يتنافر مع وجود الشرّ في هذا العالم؛ أي إنّ وجود الله يقتضي عدم وجود الشر؛ إذ الشرّ محض فساد لا خير فيه. وقد عرف (ويليام رو) هذه المشكلة بقوله: «الشكل المنطقي لمشكلة الشر هو الرؤية التي تقول: إن وجود الشرّ في عالمنا منافر منطقيًّا لوجود الربّ الألوهي». وزاد على ذلك بقوله: إنّ تناقض وجود الشرّ ووجود الإله الخير يلزم منه نفي أحدهما، ولما كانت معرفتنا بوجود الشرّ يقينية لا يمكن نفيها، وجب إذن القول بنفي وجود الله.

ليقوم الاعتراض الإلحادي المتعلّق بدعوى الاستحالة المنطقية لوجود الله والشرّ على رجليه، عليه أن يثبت هذا التعارض منطقيًّا. وللمؤمن بالله أن ينفي هذا التعارض بإثبات أنّ الشرّ ليس فسادًا محضا وذلك بإمكان إثبات أنه قد يتوصل بالشرّ إلى خير أعظم منه أو إلى دفع شرّ أشدّ منه.

بعبارة أوضح، يزعم الملحد أنّه:

١ – لا يستقيم منطقيا أن يسمح الإله الكامل في علمه وقدرته وخيريته للشرّ أن يوجد.

۲ – الشرّ موجود.

3 – = إذن الله غير موجود.

يبدو هذا التسلسل في الاستدلال لأوّل وهلة مرتبا على طريقة سلسة؛ فالتسليم بالمقدمتين السابقتين يلزم منه التسليم بالنتيجة، لكنّ الأمر عند النظر يكشف أنّ هذه المعادلة غير بدهية؛ إذ لا تُظهر هي وجه التناقض بين وجود الإله الخيّر ووجود الشر، وهو ما أقرّ به أهم فيلسوف ملحد في القرون الأخيرة كتب في المشكلة المنطقية للشر، وهو الأسترالي (ج. ماكي)، ولذلك كتب: « … مع ذلك فالتناقض لا يظهر بصورة مباشرة، فإننا نحتاج حتى يظهر إلى بعض المقدمات المنطقية، أو ربما بعض القواعد شبه المنطقية تربط ألفاظ «الخير» و«الشر» و «كامل القدرة». هذه المبادئ الإضافية هي أن الخير يقابل الشرّ إلى درجة أنّ الشيء الخيّر يقوم دائما بإزالة الشر كلما أمكنه ذلك، وأنه لا توجد حدود لما يمكن لكامل القدرة أن يقوم به. يتبع ما سبق القول: إنّ كامل القدرة الخيّر عليه أن يزيل الشرّ كليّة، وأن فرضيتي وجود كامل القدرة الخيّر ووجود الشرّ متناقضتان».

أضاف ماكي بذلك مقدمتين اثنتين إلى المقدمتين الأوليين:

۱ – لا يستقيم منطقيا أن يسمح الإله الكامل في علمه وقدرته وخيريته للشر أن يوجد.

۲ – الشرّ موجود.

٣ – الكائن الخيّر يتخلّص دائما من الشرّ ما أمكنه ذلك.

٤ – لا حدود لما يملك الكائن مطلق القدرة أن يفعله.

5 – = إذن الله غير موجود.

انطلاقا من هذا الاستدلال، يرى (ج. ماكي) أنّ الإله الخير مطلق القدرة إن وُجد فعليه ألا يسمح للشرّ بالوجود، ولذلك فوجود الشرّ يلزم منه منطقيًا أن هذا الإله غير موجود.

حتى يصح أي استدلال منطقي لإثبات تعارض وجود الله ووجود الشرّ لا يكفي أن تكون المقدمات المنطقية ممكنة أو صحيحة، بل لا بد أن تكون ضرورية (necessary)؛ أي إنّه يمتنع على العقل افتراض صحة غيرها؛ إذ يترتب على ذلك تناقض عقلي، وهو ما أقرّ به (ويليام رو) بقوله : «حتى يعمل هذا الإجراء، لا يكفي أن يكون ما نضيفه من تقرير صحيحا (just true) وإنما يجب أن يكون صحيحًا ضرورة (necessarily tree) … رغم أنه بإمكاننا أن ننجح في استنباط تناقضات ظاهرة للتقريرات إذا كانت التقريرات المعتمدة لاستنباط التناقض الصريح صحيحة، دون أن تكون صحيحة ضرورة، إلا أننا لن ننجح بذلك في إظهار أنّ التقريرين الأصليين متعارضان منطقيًّا».

ویرى في المقابل الفيلسوف (ستيفن دافز) (Stephen Davis) أنه يكفي للمؤمن بالله لينقض دعوى التناقض المنطقي بين وجود الله ووجود الشر أن يشير إلى إمكانية (وهذا كل ما يُحتاج إليه، مجرد الإمكانية) أن تكون لله حجة أخلاقية جيدة للسماح بوجود الشر».

الصورة الاستدلالية لمشكلة الشرّ المنطقية كما عرضها (ماكي) هي الأقوى ضمن صياغات هذه الشبهة، ولذلك أخذت حيزا كبيرا من اهتمام الثيوديسيين. وبإمكان المؤمن بالله أن يردّ عليها من خلال التعرّض لفساد المقدمتين المنطقيتين الثالثة والرابعة لبيان أنّ الترتيب المنطقي هنا لا يستقيم شكلا.

هل على الإله الخير أن يمنع وجود الشر؟:

تقرّر المقدّمة الثالثة أنّ على الإله الخيّر أن يتخلّص من الشرّ ما أمكنه ذلك لأنّ طبيعته الخيّرة تتعارض بصورة تامة مع الشرّ.

لا تحمل هذه الدعوى دليل صحتها، فهي مجرّد قفزة لامنطقية من دعوى تعارض الخير والشرّ إلى غيرها دون تمهيد. ولنقض هذا التصوّر بإمكاننا أن نثبت إمكانية أن تكون لله حِكَم بالغة في وجود الشرّ في خلقه تزيد قدرًا على وجود الشرّ ذاته.

سنتحدث بالتفصيل لاحقا عن الحكم الربانية من وجود الشر الأخلاقي الذي يقع بأيدي الناس والشرّ الطبيعي الذي لا يد للناس فيه، ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ الحكم المنطقية أو الممكنة من وجود الشرّ والتي تزيد في قيمتها على وجود الشرّ كثيرة، ومنها: اختبار الناس في هذه الأرض في حياة سبب وجودها امتحان إيمانهم أمام الفتن، نعما ومحنا ومنها: حرية الإرادة، فإنّ منح الناس حريّة للاختيار في الفعل يلزم منه أن يختار ناس الخير ويختار غيرهم الشر ومنها: أنّ الشرّ سبب لتنمية الذات وتطويرها وتهذيبها بمصارعة أسباب السقوط … كلّ هذه الحكم ممكنة ومجرّد إمكانها – حتى لو كانت غير راجحة – كافٍ لإفساد المقدمة الثالثة؛ إذ ليس علينا هنا إلا أن نثبت بطلان الاستحالة المنطقية لوجود الشرّ في عالم خلقه إله خير، لا مجرد فسادها.

أهم انتقاد وُجه إلى الإمكانية المنطقية لأن يسمح الله للشر بالوجود، كان بقلم (أنتوني فلو) لما كان ملحدا، فقد كتب ردًّا على الفيلسوف (بلنتنجا) – أشهر من انتصر لحرية الإرادة كردّ على المشكلة المنطقية للشر – قائلا: إنّه بإمكان الإله أن يخلق عالما يكون فيه الإنسان حرًّا دون أن يلزم من حرية الإرادة أن تقود إلى اختيار الشرّ ولو في بعض الأحيان.

اعتراض (فلو) قاصر من أوجه عن إصابة هدفه، ومن ذلك:

  • قصارى ما يمكن أن يبلغه اعتراض (فلو) – إن صح – هو أن يكون صحيحًا، لا صحيحًا ضرورة، وبذلك يفشل في إثبات التناقض المنطقي المطلوب لنجاح حجّة الشرّ المنطقية، فهو لم يثبت التعارض المنطقي بين وجود الله ووجود الشر، وإنما أثبت فقط – إن أصاب – أن حرية الإنسان من الممكن أن تكون توافقية (compatibilistic)؛ أي إنّها لا تتعارض مع الحتمية (determinism) على خلاف مذهب التحررية (libertarianism) الذي يرى حرية الإرادة دون قيد. والنتيجة هي أنّ اعتراض (فلو) لا يصبّ في إثبات منطقية تعارض وجود إله ووجود الشرّ.
  • التصوّر الإسلامي لوجود الشرّ في عالم الناس ليس مجانيا، وإنما وهب الله الناس حريّة للإرادة لأنه سبحانه يريد أن يختبرهم على هذه الأرض، وبالتالي يغدو افتراض إمكانية أن يخلق الله الناس بإرادة حرّة مع سوقهم كل مرة إلى الاختيار الصحيح بلا معنى؛ لأنّ الله أراد لهم أن يصيبوا ويخطئوا تبعًا لنياتهم وصلاح قلوبهم وجوارحهم. وقد فشل (بلنتنجا) في سوق هذا الردّ في جوابه على (فلو) وغيره لأنّ النصرانية لا توفّر له هذا التصوّر العقدي.
  • أسباب سماح الله بوجود الشرّ كثيرة وما حرية الإرادة إلا علة من العلل الكثيرة، ولذلك فاعتراض (فلو) قاصر عن أن يبطلها جميعًا بمجرد النجاح في إبطال سبب واحد منها.

ومن المفيد هنا أن نضيف أنّ (فلو) قد أشار بعد رجوعه عن إلحاده إلى أنّ المؤمن بالخالق من الممكن أن يتجاوز مشكلة الشر من خلال الإيمان بإله (أرسطو) المتنائي عن العالم بعد أن برَأه، فهو بذلك لا يشغل نفسه بإقامة عالم يعكس معاني العدل والرحمة، أو من خلال تقرير أن حرية الإرادة الموهوبة للإنسان سبب لوجود الشرّ، إذا كان المؤمن يرى أنّ الله قد كشف عن نفسه لخلقه من خلال الوحي. وهو ما يعني تراجعه عن دعواه الإلحادية الأولى.

كمال القدرة والقدرة على المستحيل:

ما معنى أن يكون الإله كامل القدرة (omnipotent)؟ هل يعني ذلك أنه:

  • قادر على فعل كلّ شيء ولو كان محالا من الناحية المنطقية؟

أم

  • قادر على فعل كل شيء ممكن منطقيا؟

يقرّر علماء العقيدة من المسلمين ومعهم النصارى واليهود، أنه لا يصح أن يُقال إنّ الله قادر على فعل «المستحيل منطقيا»؛ لأنّ هذا المحال عدم، والقدرة لا تتعلق بالعدم؛ إذ إنّ هذه المحالات المطلوبة من الربّ، ليست في حقيقتها أشياء ممكنة الوجود أو حتى التصوّر، فهي على الصواب مجرد مخادعات لفظية لا يمكن أن يكون لها وجود في غير عالم اللغة الشكلي.

ومن الأغلوطات الكلاسيكية التي يسوقها الملاحدة: هل يقدر الله أن يصنع صخرة يعجز عن حملها؟ وهل يقدر الله أن يخلق إلها مثله؟ وهل يقدر الله أن يرسم مربعًا مستديرا؟ وهل يقدر أن يوجد متزوجا أعزب؟

كلّ هذه الأمثلة «لا يمكن» الله أن يفعلها لأنها ليست أشياء واقعية على الحقيقة؛ فالصخرة مهما بلغ حجمها متناهية، وقدرة الله غير متناهية، والإله ليس مخلوقا بالضرورة، فلا يصح منطقيا افتراض إله مخلوق، والمربع ليس دائرة بالضرورة، فلا يصح افتراض اجتماعهما، والمتزوّج لا يكون البتة أعزب لأنّ العزوبة مقابل الزواج.

ما يقرّره المؤلهة هنا هو أنّ قدرة الله غير محدودة بحدّ منطقي، لا أنها غير محدودة بحد منطقي وغير منطقي.

وإذا رجعنا إلى مسألتنا أمكننا القول: إنّ سماح الله للشرّ أن يوجد في ملكه لا يلزم منه الطعن في قدرته؛ لأنّ منعه الشرّ غير ممكن منطقيا؛ إذ يلزم من القول بوجوب زواله تناقض منطقي؛ فإنّ الله قد سمح للشر بالوجود لأسباب منها أنه وهب البشر حرية الإرادة للاختيار بين فعل الخير والشر في امتحان إلهي لنياتهم وأفعالهم ولا تتعلّق قدرة الإله على كمالها، بإزالة هذا الشرّ لأنه من غير المنطقي أن يمتحن الله عباده بالخير والشر دون أن يكون هناك شر!

هل من الممكن أن يخرج الملحد من هذا الإلزام بالقول إنّ الله قادر على المتناقضات؟

انتبه الفلاسفة الملاحدة أنفسهم أنّ هذا الاختيار لا ينصرهم؛ إذ إنّ المشكلة المنطقيّة للشر قائمة على عدم إمكان الجمع بين متناقضين، وهما وجود الله ووجود الشر، فإن أقرّ فلاسفة الإلحاد بإمكان الجمع لأنّ قدرة الله تتعلّق بالمتناقضات لم يعد لشبهة الشرّ المنطقية معنى ولا مبرر لأن الجمع بين المتناقضات ممكن وليس محالا! ولذلك فمن مصلحة الملاحدة أن يلتزموا القول إنّ قدرة الله لا تتعلق بالمحالات. وهو ما التزموه، والتزمناه!

أليس الله «محبة»؟!

يسيطر على الثيوديسيين النصارى هاجس الحفاظ على دعوى الكتاب المقدس للكنيسة أنّ الله محبّة» بإطلاق، ولذلك يضطرون إلى تكلّفات عجيبة للجمع بين وجود الشر وأنّ الله «محبّة محضة»؛ إذ إنّ مقتضى هذه المحبة اللامشروطة أن يخلو الوجود من كلّ أذى وفساد، وأن يتنعم الإنسان بالدنيا مهما كان اعتقاده وفعله في الأرض.

لا يجد المسلم نفسه في مشاقة مع القول بأنّ الله «محبّة محضة» لأنه لا يؤمن بهذا المعنى الذي لا يلتقي مع فهمه للعدل الإلهي والكمال الربوبي، وإنما هو يؤمن أنّ الله سبحانه «ودود»، وهو – سبحانه – في وده لخلقه يختبرهم على الأمر البسيط ليمنحهم بفضله الخير العميم، وهو يبذل حبّه لمن تولّى عن الباطل وطرقه وأقبل على الحق وسبله، قال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ ربي رحيمُ وَدُودٌ﴾ [هود: ٩٠]. وهو – سبحانه – يقدّم أسباب النجاة للغافلين – إلا أن يعادوا الحق، وهو أعظم الحب؛ إذ الحب في أفضل معانيه طلب الخير للغير وإن لم يكن أهله، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْتَهُمْ فَأَسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدَى﴾ [فصلت: ۱۷]. وهو متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، يستقبل الوافد إليه خير استقبال، ويغفر للعائد إليه بلا إمهال قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: ١٤]. إنّه يدّخر حبّه لأهل الصراط القويم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ [مريم: ٩٦]، وهذا هو الحب الذي يليق بالعظيم الذي يملك ولا يُملك، ويمنح ولا يُمنح، ويمنع ولا يُمنع.

سقوط المشكلة المنطقية للشر:

من الممكن القول بيقين جازم: إنّ دعوى لامنطقية الجمع بين وجود ووجود الشر في عالمنا قد تم تجاوزها في الغرب الذي يمسك فيه الإلحاد صولجان السلطان الفكري وإنّها قد سقطت سقوطا ذريعا تحت مطارق دراسات الفيلسوف الأمريكي الشهير (بلنتنجا)، ولذلك لا يكاد يعثر على شبهة الشر بهذا المعنى في الكتابات الغربية إلا في الكتابات الإلحادية الشعبية التقليدية بعد أن هجرها عامة الفلاسفة إثر هزيمتها أمام حجّة الإرادة الحرة كمبرر منطقي لوجود الشرّ في عالم خلقه إله خير.

لم تختف – رغم ذلك – شبهة الشر من كتابات ملاحدة الفلاسفة في الغرب، وإنّما تقهقرت من دليل «عدم منطقية وجود الشر» إلى «عدم منطقية وجود الشر المجاني» gratuitous evil الذي سنتطرق إليه لاحقا. يقول (ویلیام هاسكر) (William Hasker): «القول: إن وجود الله لا يستقيم مع وجود الشر لم يعد بعد مستمسكًا بصورة كبيرة [عند الملاحدة]. جليّ أنّ مِن الشر ما هو شرط أساسي لوجود خير أكبر، وإذا كان الأمر كذلك، فربّما إذن كان السماح لهذا الشر بالوجود متسقا مع صفة الخير الإلهي (God’s goodness). الشرور التي لا تخدم مثل هذا الهدف الحسن؛ أي: ما يعرف بالشرور المجانية، لا زال يُعتقد بصورة واسعة أنها متعارضة مع مبدأ الألوهية وتوفّر أساسا قويا للحجّة المعارضة للإيمان بإله. وهو ما أكده أيضا (ويليام لين كريغ) بقوله: «أهمل جلّ الملاحدة اليوم المشكلة الداخلية في هجومهم على المسيحيّة. وزعموا في مقابل ذلك أنّ الشر الذي يبدو غير مبرر ولا ضروري في العالم – والمسمّى عادة بالشر المجاني – يمثل حجّة ضد وجود إله». لقد سقطت باعتراف (وليام رو) (William Rowe) نفسه، فقد كتب بعدما كان من نقاش بينه وبين الفلاسفة المؤلهة: «توجد حجّة مقنعة إلى حد ما للرؤية القائلة إنّ وجود الشرّ متوافق منطقيًا مع وجود الربّ الألوهي (theistic God) وصرّح بعجز فلاسفة الإلحاد عن إقامة البرهان لدعواهم بقوله: «لم ينجح أي أحد في تقديم تقرير يُعلم أنه صادق بالضرورة وأنه إذا أضيف إلى [منظومة عقائد الألوهية التقليدية فسيمكّننا من استخلاص نتائج متناقضة صراحة في ضوء ذلك من المعقول أن نستنتج أنّ الشكل المنطقي لمشكلة الشر ليس مشكلة ذات بال بالنسبة لمذهب الألوهية. إن طرحه المركزي، والمتمثل في أن منظومة عقائد الألوهية التقليدية] متناقضة منطقيا، هو طرح لم يتمكن أحد من إقامة حجّة مقنعة عليه.

ما الدلالة الكبرى على سقوط مشكلة الشر المنطقية في السجال الإيماني – الإلحادي؟

الدلالة الأعظم لهذه الانتكاسة الالحادية – إذا نظرنا إلى مشكلة الشر كأعظم برهان إلحادي يحمل دلالات ناسفة للدعوى الإيمانية – هي سقوط الوجه الوحيد الدال دلالة قاطعة على نفي وجود الرب – الألوهي؛ إذ يقوم «الاعتراض المنطقي» على الجزم القاطع بتعذر الجمع بين الإله القدير العليم الرحيم ووجود الشر، أمّا الأوجه الأخرى لاستشكالات الشر فلا تزعم النفي المطلق لوجود الذات العلية، وإنما تكتفي بالقول إنه من المستبعد جدا أن يوجد هذا الإله. وبين القول إن وجود الله محال؛ فلا جدال، والقول إنّ وجوده ينفيه الرجحان، نزول من مرتبة اليقين إلى الظن والتخمين.

. ب –

مشكلة الشر الأخلاقي

يحتج المعترض بوجود الشرّ على إنكار وجود الله بقوله: أنتم تقررون أنّ الله لا يفعل الشرّ كما سبق أن بينتموه، لكنه مع ذلك سمح بوجوده؛ إذ لا يكون شيء في ملكه رغما عنه! فكيف نوفق بين علم الله وعدله وقدرته من جهة وسماحه للشرّ النابع من أفعال الناس بالوجود في العالم؟

التوفيق بين كمال الله سبحانه و سماحه للشرّ بالوجود يسير إذا بدأنا النظر بالقول إنّ الله لا يفعل شيئًا إلا بحكمة يحمد عليها وغاية هي أولى بالإرادة من غيرها، فلا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والإحسان والرحمة والعدل والصواب، كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.

قال نبي الله (هود) : ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ ءاخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ﴾ [هود: ٥٦] فوصف الله بأنه على صراط مستقيم دال أنّه لا يفعل الشر المحض المجرّد عن الحكمة، ولا يأتي العبث الذي لا يقود إلى غاية مستحسنة.

إذا علمنا ملازمة فعل الله للحكمة، فأين إذن يقع الشر الأخلاقي من المخطط الإلهي في الأرض؟

الشر نتيجة لمنحة الإرادة الحرة:

الشر الأخلاقي هو أفعال أو تروك السوء التي يأتيها الإنسان بإرادته الحرّة، كالكذب، والسرقة، والقتل.

قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: ٤١]. قال (الطبري): «ظهرت المعاصي في برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه»، فإنّ ما يتلبس به الناس من شرور قبيحة ورذائل شنيعة يسمّيها الفلاسفة «بالشر الأخلاقي moral evil))، هي نتاج فعل الناس بمحض إرادتهم الفاسدة.

هذه الإرادة المنطلقة إلى «الشر» كما «الخير»، هي إرادة حرّة، ضمن جدود القدرة الإنسانية التي أنشأها الله سبحانه في البشر. فالشر هنا استخدام لعطية القدرة في غير موضعها وتوجيه للفعل البشري إلى أمر سلبي. وهذا الإنسان المتحرّك في الأرض بالفعل الحر، والذي يصيب ويخطئ في استخدام حريته، هو الإنسان الذي خلق لهذه الدنيا، ولولا حريته لما كان إنسانا دنيويا. وهذه الإرادة الحرّة هي التي تميّزه عن الجمادات غير المريدة والملائكة غير الحرة لجبلها على الخير المحض.

يعتبر الفيلسوف الأمريكي (ألفن بلنتنجا) أهم من دافع ويدافع في الغرب عن حجة «الإرادة الحرة» (Free Will) في نقض دعوى لامنطقية الشر في عالم أنشأه إله حكيم ورحيم. وهو يرى أنّ ملكة حرية الإرادة عند الإنسان مبرّر معقول لنفي عدم تساوق وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ فإنّ الشر الأخلاقي هو نتيجة الممارسة الإنسان الفعل النابع من إرادته الحرّة. فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقية ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنه للشر بالوجود. إنّه لا معنى عقلا وواقعا أن نتحدّث عن كائن حر يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشرية المحضة، ثم هو لا يفعل إلا الخير.

يطلق (بلنتنجا) دعواه إلى مدى أبعد بالتأكيد على أن «حقيقة أن مخلوقات حرّة تزلّ أحيانًا، لا تحسب ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريته؛ لأنه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي»؛ أي: إنّنا أمام استحالة عقلية محضة، ملخصها أنّه يمتنع عقلا الجمع بين وجود إرادة حرّة تفعل ضمن حريتها – كما هي في المفهوم الدنيوي البشري -، وعجز هذه الإرادة عن أن تفعل غير الشر. كما أنّ منع هذا الشر يعني إلغاء حرية الإنسان وتحوّله إلى كائن موجّه غير مريد، وهو ما يؤول إلى منع تسمية فعله الميكانيكي الصواب خيرًا؛ لأنه ليس فعلا اختياريا.

يوسّع الفيلسوف (مايكل بترسون) (Michael Peterson) دلالات الحاجة إلى الفعل الحر، بقوله: إنّه كلّما كانت الاختيارات أمام الإنسان أوسع، وكانت إرادته قادرة على انتقاء أحدها، كلّما كان الإنسان أقدر على خير أكبر وشر أبلغ، وكلّما ضُيّق على الإنسان في إرادة الفعل عنده؛ كلّما تقلصت قدرته على فعل كلّ من الخير والشر. فالشرّ في أعظم صوره هو الوجه الآخر للخير في أعظم صوره وكلاهما تعبير عن مِنْحَة حرية الإرادة التي هي أبرز عنصر في كينونته.

بإمكاننا الآن أن نعيد صياغة المعادلة:

۱ – خلق الله سبحانه كلّ أمر حسن.

٢ ـ من الأشياء الحسنة التي خلقها الله، الإرادة الحرة.

٣ – الإرادة الحرّة سبب لإمكانية وقوع الشرّ.

٤ – = إذن، المخلوق الذي خلقه الله خَيْرًا من الممكن أن يفعل الشرّ.

إنّ هذه العطية الثمينة للإنسان لا بدّ أن تُوصل بحقيقة الوجود الامتحاني للإنسان على الأرض لندرك أنّها ليست عطية مجانية، وأن ما ينتج عنها من أثر سلبي إنّما هو جزء جوهري في هذا الامتحان. يقول (هوبرت بوكس) (Hubert Box) : «يبدو أنّ السماح بوجود الشرّ الأخلاقي، هو أمر قابل للتفسير عندما يُعترف أن حياة الإنسان امتحان. […] بما أنّ الله قد جعل الإنسان ينال عاقبة فعله فإنّ تلك النعمة ينبغي أن تمنح له كجزاء لجهده، فليس هناك إذن مفر من أن يكون للإنسان إمكانية اختيار الخطأ. فقط عندما نكون معرضين لإمكانية الهزيمة، نكون مستحقين لجزاء النصر».

هل يُلام الرب على الشر الأخلاقي؟    

قد يعن للمعترض أن يرى ف الشر الأخلاقي حجة أخلاقية ضد الله سبحانه، بالقول: إن الإنسان هو نفسه صنعة الله، ولذلك فكل أفعاله لا بد أن تنسب إلى خالقه.

يردّ القرآن على هذه الشبهة بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين *إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التين: ٤ – ٦].

لقد خلق الله – سبحانه – البشر على أصل الاستقامة والمعرفة بحقيقة الخير والشر، ثم دفعهم بعدله إلى هذه الحياة ليعيشوا محنة اختبار العقل والقلب والجوارح، فالإنسان مخلوق على صورة تهيئه لإدراك الأمور إدراكًا مستقيما مما يتأدّى من المحسوسات الصادقة؛ أي: الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار، أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجَرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة، ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويُرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعًا أو كرها، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد».

إنّ صبغة الفطرة التي خُلق عليها الإنسان هي التي تمنعه من توجيه إرادته إلى الشر وأسبابه، وهي صنعة الله سبحانه، أما يد الفساد التي تنشب أظفارها في جمال الذات البشرية فتشوّه رقيق قسماتها، فهي غوائل خارجية لا تنجح في إفساد الإرادة إلا حين يخفت صوت الفطرة وليس فعلا اختياريا.

– ج –

مشكلة الشر المادي

تفرّ عامة الخطب الحماسية الإلحادية إلى الشر الطبيعي باعتباره أوضح المسالك لنفي وجود الخالق، فهي تزعم أنّ الآفات الطبيعية برهان غياب الرحمة والعدل في الكون. وتنقسم هذه الآفات إلى نوعين: آفات للإنسان فيها يد، وأخرى ليس له عليها سلطان.

١ – الآفات التي للإنسان فيها يد مثل تلويث البيئة وإهلاك الحرث …

٢ – الآفات التي ليس فيها للإنسان يد مثل الزلازل والبراكين والمجاعات…

سيقتصر حديثنا هنا عن الآفات الطبيعية التي ليس للإنسان فيها يد؛ فقد بحثنا الشرور التي تجري على يد الإنسان سابقاً.

يتشظى موضوع الشرّ الطبيعي كشبهة الحادية إلى مجموعة من الأسئلة التي يجب على المسلم أن يوفّر لها أجوبة، وهي:

  • هل في الشرور الطبيعية مطعن في عدل الله؟
  • هل في الكوارث الطبيعية خير يوازيها أو يربو عليها؟
  • هل في القرآن ما يدل على هذا الخير؟
  • ما هو موقع النوازل الطبيعية من التصوّر الإسلامي لعلاقة الإنسان بربه، ومعرفته به، ومعنى الحياة والغاية منها؟

تتداخل الأسئلة السابقة بصورة واضحة، وللإجابة عنها نقول:

أوجه الحكمة في النوائب الطبيعية:

كيف بإمكاننا أن ندرك الحِكَمَ من وراء «الشر» الطبيعي؟ يقودنا النظر في الأمور الأربعة التالية:

١ – الطبيعة المادية التفصيلية لهذا الكون.

۲ – صفات الله سبحانه.

۳ ـ سبب خلق الإنسان في المعتقد الإسلامي.

٤ – الحكم التفصيلية من وراء النوائب كما جاءت في نصوص القرآن والسُّنَّة.

إلى استشفاف حِكَم كثيرة لما ينزل بالناس من أذى بسبب ما يحيط بهم من مخلوقات حية وأخرى جامدة بلا حياة. ولعلنا نسوق بعضها في النقاط التالية، علمًا أنّه لا سبيل لنا لحصر كامل قائمة هذه الحكم لقصور مداركنا البشرية عن الإحاطة بجميع التفاصيل الماديّة لهذا الكون وجميع مرادات الله سبحانه في خلقه.

الشر وقود الخير ومبرّر وجوده والإحساس به:

ما «الشر» إذا لم يكن هناك «خير»؟!

إنّ (عامة) الشرّ (وعامة) الخير وجهان لعملة واحدة، لا يكون أحدهما دون الآخر، فهو متمم له أو شرط لازم لتحقيقه فبوجوده يتم الآخر، وبانعدامه ينعدم، فلا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للهمة والسعي بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول.

وهذا أمر يجري أيضًا على عامة ما نحسه ونحبّه أو نحذره، فنحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالري ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح.

يقول (إيونج) (wing)، أستاذ الأخلاق في جامعة كامبردج: «وإنّها لحقيقة واقعة أنّ ثمّة خيرات… لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنّى الفضيلة مثلا بغير المغريات والعوائق ومن ثمّ بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية … لا بد من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربّما كان هناك ضروب أخرى من الحب والفضيلة كالتي نتخيل أن الكائنات العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها ولا تنطوي على شر من الشرور ولكنّها – إذا صح تخيلنا – نوع آخر غير حبّنا وفضيلتنا، وكلما تعددت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل».

إنّ الشرّ هو الذي ينفث في الخير روح الوجود وريح النسيم، إنه وقود حركته وسبيل استوائه. إن نقص العالم هو الذي يستحث وجودنا إلى السعي إلى الكمال، وإن أثقال الشر هي التي تحرّكنا إلى ارتقاء معارج الخير. يقول الفيلسوف الإسكتلندي، (نینیان سمارت) (Ninian Smart): «مفهوم الأمر الحَسَن (good) في تعلّقه بالإنسان مرتبط بمفاهيم أخرى مثل الفتنة والشجاعة والكرم … إلخ. ليس لهذه المفاهيم مجال للوجود إذا خُلق الإنسان كاملا بلا نقص». إنّ اتّقاد شرارة الخير في أنفسنا كثيرًا ما يكون أثرًا لاصطدام ذواتنا المجبولة على الخير بشرور العالم الراغبة في الاستحواذ على نوازعنا وأفعالنا. وقد انتهى (ابن القيم) إلى تقرير هذه الحقيقة بعبارة رشيقة في قوله: «إذا كانت الآلام أسبابًا للذات أعظم وأدوم، كان العقل يقضي باحتمالها».

إن عالمًا بلا شر هو كعالم بلا خير، كلاهما بلا روح ولا معنى يسعى إليه الإنسان، وهما يفتقدان الاعتدال والاستقامة. وفي هذا قال (الجاحظ): «لو كان الشرّ صرفًا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلّم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبيّن، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر، وعزّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها محق يجد عزّ الحق، ومبطل يجد ذلّة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم؛ ولم تكن للنفوس آمال ولم تتشعبها الأطماع … ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها».

باختصار في مجال لا يقتضي الإجمال، لن نشعر باللذة على هذه الأرض ونستعذب رُضاب المتعة حتى تختبر أفواهنا طعم المر وتجري على الخد دمعة الحسرة.

الشر ملعقة اللذاذة:

قال أهل العقول والخبرة: إنما تعرف الأشياء بأضدادها، فلولا تجربة الحاجة لما كان في الكسب لذة، ولولا تجربة العجز لما كان في القدرة لذة، ولولا العلّة لكانت العافية بلا لذة. وقد أراد الله أن يجعل تجربة المعاناة وآلامها سببًا لمعرفة الخير ونعيمه، ليعرف العبد فضل الله عليه، وليتذوق بلسان التجربة عذوبة النعمة فلا يزهد في قدرها، ويدرك أنه يفضل بقية الخلق بما حظي به من خير.

و (لابن القيم) عبارة أنيقة يقول فيها: «قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق. ولذلك حَفَّ الجنة بالمكاره والنار بالشهوات. ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له، واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول. فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت، وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح، وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها، وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: ٢١٦].

وربما كان مكروه النفوس إلى

محبوبها سببًا ما مثله سبب»

إنّ الشر يهدينا إلى معرفة الخير، ويرفع في أنفسنا حساسية ذائقة الاستمتاع التي هي أعظم محفّزات الفكر والإرادة والحركة في حياتنا، فكلّما دقت وتهيّأت لها أسباب الوجود والنماء، كلّما وجد الإنسان لحياته أبعادًا جديدة وآفاقًا أرحب ودوافع أشدّ للسير في الأرض والفعل الإيجابي في هذه الحياة. أمّا إذا ضمرت هذه الحاسة، فإنّ الوجود يفقد رحابته وتتكدّر الرؤية بغبش السلبية وفقدان المنشود والهروب من الموجود. وفي الانتحار المادي تعبير أقصى عن فقدان ذائقة الاستمتاع؛ إذ تفقد الأشياء والذوات طعومها وألوانها، وتتحوّل الموجودات إلى أثقال ينوء بها الظهر دون أجر من أمل أو فرح أو أية لذة في الروح أو الجارحة.

إن في تضاد الخير والشرّ مولد لشرارة التنبه لأعماق الخير الماتعة وتحسّس مرهف لأهدابها، بل أقول: إنّ في هذا التضاد إكساب للخير حقيقة خيريته في النفس، «فبضدّها تعرف الأشياء» ؛ أي إنّها توجد في النفس ظلها، ولولا هذا الظل لم تكن غير شيء خارجي معدوم الصلة بالذات، فهذا التصادم هو الذي ينقل الخير من شيء متناء عن النفس إلى شيء مدرك له طعم حلو مستعذب.

ظهور حكمة الله وصفاته:

قال (ابن القيم): «الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات، كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والبرد والحرّ، والألم واللذة والحياة والموت، والداء والدواء، فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة، ومحل ظهور القدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام. فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عين المحال. فإنّ لكل صفة من الصفات العليا حكمًا ومقتضيات وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله، فإن صفة القادر تستدعي مقدورًا وصفة الخالق تستدعي مخلوقا، وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها. فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها، وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها. فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى. وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها؟ فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه وفات كمال الملك والتصرف، فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزا، أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلا… وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد؛ لأن ذلك نقص في ملكه. فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا. ولو فعل هذا کله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيًا لحكمته. وحكمته تأباه كل الإباء، فإنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين. وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على من نسبه إليه. والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك. فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون، ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله، وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئًا ويتصف به، وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه. وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها، إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال».

حبّ الله لأن يُشكر وأن يَغفر:

فضل الله على الخلق عميم، وحقه سبحانه عليهم واجب، ولذلك فإنّ الشكر هو أحبّ شيء إليه، وقد فاوت بين الناس في النعمة والمرتبة، فكان من الناس الغني والفقير، والصحيح والمريض، وكثير العشيرة واليتيم الفرد، وبهذا التمايز يدرك المنعم غزير النعمة وفضل الاجتباء، وهو ما يستحث قلبه للشكر ونفسه للطاعة.

وهو سبحانه يحب لعباده أن يؤوبوا إليه تائبين مستغفرين، يقرون له بالقلب واللسان بالعظمة والفضل، وهو سبحانه يفرح بتوبة العبد، فرحة لا تبلغ العقول قدر معرفتها. ومعلوم أنّ من شروط المغفرة والفرح بها أن يكون هناك مذنب وذنب، ومن تمام الحكمة تقدير الأسباب ولوازمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم». ولو قضي للبشر بالعصمة لتعطلت صفة المغفرة، فعلى من يتوب الله، وهو واسع المغفرة؟! وعمّن يعفو ويسقط حقه، وهو أرحم الراحمين؟!.

إشعار الإنسان بنعمة العافية:

إنّ النفس المستسلمة لنعيم الرفاه ولذاذة النعمة وحلاوة اللذة، لا يمكن أن تهتم بأمر معادٍ ومآل وحساب، إذ هي نفس مترهلة دوافعها، ضامرة نوازعها، خابية حرارتها، ولذلك فإنّ الآفات الطبيعية التي تصيب الإنسان، كالمرض والجدب ونقص الأموال والثمرات، تنبه اللاهي إلى نعمة العافية وفضلها، وأنّ الإنسان لم يخلق لهذا الخير الزائل. وفي عبارة شهيرة لـ (سي. .إس. لويس) (CS Lewis) بيان – بصورة مجازية – لقيمة الألم في تنبيه الإنسان الغافل المستسلم إلى متعة النعمة المستقرة، فقد قال: «يهمس الله إلينا في مُتَعنا، ويتحدّث في وعينا، لكنّه يصرخ في أوجاعنا. إن ذلك هو بوقه الذي ينبه به عالما أصمّ» «God whispers to us in our pleasures, speaks in our conscience, but shouts in our pains: it is His megaphone to rouse a .deaf world». إنّ الطبيعة البشريّة قد جبلت على الاستسلام للغفلة إذا ركبت متن الراحة واللذة، ولا يكاد يوقظ هذا الكائن الوسنان غير بوق الألم والمحنة؛ فإذا أفاق الإنسان انتبه لحقيقة وجوده وتحرّكت فيه أطراف الهمة للعمل على إصلاح نفسه إن كان في عقله رجاحة.

استخراج الفضائل الخلقية من نفوس الناس:

في قعر النفوس البشرية حِزَم من الفضائل الخلقية التي تشع بها النفس جمالا وتحقق في الإنسان كمال صورته الإنسانية، وكثيرا ما تغيب هذه الصفات تحت غلالة النعيم، أو هي مقبورة في الأعماق الدنيا للنفس فلا تستخرجها من مكامنها سوى المشقات والملمات؛ فعند الجوع والمسغبة والزلازل، تظهر معاني الشجاعة والكرم والعطاء والتآلف والتحاب.

إنّ الإنسان الذي يعيش في فسحة السعة وطراوة النعيم، يأتيه رزقه رغدًا، فلا يعرف من آلام الدنيا شيئًا، هو إنسان مخبوء في نفسه، لا يعرف من حقيقته إلّا قشرتها، ولا يدرك من ملكاته غير طاقتي الاستهلاك والاستمتاع.

إن محنة اليتم وفتنة الفقر، وقرصة الجوع، كانت حوافز أساسية في صقل مواهب المغمورين، وتنشئتهم على معاني الجد وروح الصلابة وقيم الثبات، لتصنع منهم أئمة في نحت التاريخ وكتابة الأمجاد.

إنّ معاني النقص في أوضاعنا الشخصية، صوت صارخ يستحث أجنّة الخير والحسن في أعماقنا لتخرج من رحم المحنة نورا غامرًا تبدد الظلمة التي تملأ أفق العين. وعندما يستهل هذا الجنين حيًّا صارخًا ممتلئا بمعاني الجمال، نكتشف أن محنتنا الحقيقية لم تكن في أفق ممتد على مدى البصر مظلمًا، وإنّما في أنّ هذا الأفق لم يكن يبعد عن أعيننا إلا بضع أصابع، وأنّ وراء تلك الظلمة الكثيفة القريبة، عالم من نور شاسع؛ فتحريك فضائل الذات الهامدة في أعماقنا، كفيل بأن يطرد الظلمة الواهنة، ليبدو الأفق البعيد بهيا في جلاله المشرق.

إنّ نعمة إنماء الشخصيّة بتهذيبها من خلال التجارب المؤلمة هي ما يسميه الفيلسوف الثيوديسي الشهير (جون هك) بصناعة النفس (- soul making) باعتباره مبررًا منطقياً لوجود الشر في حياتنا؛ فالعالم المبرأ من الألم – كما يقول (هك) – يحرم الإنسان من تنمية ذاته ويبقيه على نفس الصورة البسيطة التي بدأ منها؛ إذ إنّ «تنمية الشخصية … لا يمكن أن تكون في واقع خامل بلا تأثير ولا خيارات»، والبيئة المبرّأة من الإغراء والإغواء لا تسمح لنا بأن نصف الناس أو بعضهم بالصلاح؛ ولذلك فالحياة في الخطة الإلهية طريق يصعد بالإنسان إلى ذرى المجد بالمشي على مستصعبات الأمور ومدافعة وهن النفس.

ويلخص الطبيب الدكتور (براند) تجربته مع الألم في آخر أيام حياته بقوله: «اعتقدت في فترة من فترات العمر أنّ الألم هو نقيض السعادة. وكنت أرسم رسما توضيحيا للحياة، وهو عبارة عن رسم بياني ذي قمة على كلّ جانب، ومكان منخفض في الوسط. تمثل القمة اليسرى خبرات الألم والحزن المؤلم، وتمثل القمة اليمنى السعادة والابتهاج، وبين القمتين توجد الحياة العادية الهادئة. وأعتقد أن هدفي من ذلك هو أن أوجه بحزم نحو السعادة وأبتعد عن الألم. ولكنني الآن أرى الأمور بطريقة مختلفة، فلو رسمت مثل هذا الرسم البياني اليوم، فسوف تكون فيه قمّة واحدة في المنتصف، وما حولها سهول. هذه القمة هي الحياة التي يلتقي فيها الألم والسرور، والسهول المحيطة بها هي النوم واللامبالاة أو الموت».

اختبار إيمان العباد:

إن حقيقة الامتحان تقتضي أن يعاني المرء وخز المكاره وقيظ المفاوز حتى يثبت أنه حقيق بأن يكون من الفائزين. قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يتَرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ٢، ٣]. إنها سنة الله في خلقه منذ برأ البرية. إنّها الطريق الذي أعد للخلق؛ فمن تحمّل وخز الشوك وحرّ الرمل وأذى الحصى في هذا الطريق الوعر، فاز، ومن تراخى عن مقاومة الأمر الصعب؛ هلك.

وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ۳]؛ أي: نختبركم بِالشَّرِ وَالخَيْرِ بالمكروه والمحبوب، هل تصبرون وتشكرون أو تكفرون وتعرضون، والمنحة والمحنة جميعا بلاء؛ إذ المحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر.

إن تقلب الإنسان بين طباق الشر والخير، مختبر لإيمانه، وبه ينكشف صدق الولاء للمعتقد الحق، إن كان على دين الحق، وإلا فهو تحفيز لعقله واستحثاث لقلبه أن يتفكّر ويتدبّر في أمر هذا الخلق وما وراءه، وأمر هذا الوجود وما يحركه.

إنّ في محنة الشر منحة للمهتدين، وحجّة على المخلدين إلى اللذة الدانية والمعرضين عن حقيقة الوجود الكبرى التي هي أن للعالم خالق حقيق بأن يُعبد.

إنّ الشر ممثلا في المحن والآفات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة هو مادة الامتحان الدنيوي الأولى؛ فلولا المكاره لما كان هناك فرق معتبر بين المجد والمتهاون وبين من حفد ومن تراخى. وكما قال الشاعر:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

وقد حفل القرآن بآيات كثيرة في تأكيد الحقيقة الوجودية الكبرى للشر باعتباره فتنة للناس؛ فالناس أمام الشر فسطاطان، فسطاط المؤمنين المتجانفين عن الشر، وفسطاط الواقعين فيه بقصد:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالفُجَّار﴾ [ص: ۲۷، ۲۸].

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن تَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءَ تَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [الجانية: ٢١، ٢٢]. الله

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأَخْرِجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٥].

إلجاء الإنسان إلى التوبة:

كثيرًا ما ينغمس الإنسان المغرور بالمتع واللذائذ القريبة الماتعة، في بحر الغواية، ويوغل في طريق التيه والإعراض عن أمر الله؛ فلا يرى في اللذة الحرام ما يستنكره ما دامت تروي غلته وتشبع نهمته، ولا يرفع رأسه إلى السماء للتفكّر ساعة أو لمراجعة النفس لحظة، فقد غطّى ران الفتنة قلبه؛ فهولا يسمع غير حسيس المتعة الحرام ولا يرى غير بارقة اللذة النجسة. هنا، تأتيه لسعة الألم الحارقة، كمرض أو فقد مال أو عيال، فترتاع النفس وتتألّم، وتهزّه البلية هزا وترجّه رجًا لتنزع عن قلبه قشور الفتنة الرابضة على مسام الإحساس في صدره، فتنفتح عينه على حاله البئيس وإيمانه المهدر المسفوح على أعتاب شهوته الجامحة، فيرفع يد الضراعة طلبًا للصفح والمغفرة إن كان له قلب وسمع، أو يغفل عن هذا التنبيه بعدما مات قلبه ونحر روحه المؤمنة.

قال تعالى في خبر ما كان من أمر بني إسرائيل، وما كان من حالهم مع الرب سبحانه: ﴿وَبَلَوْنَهُم بِالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٨]؛ فقد تفرّق اليهود في الأرض؛ وتعددت بذلك مشاربهم ومذاهبهم. فكان منهم من استقام على صراط التقوى والصلاح، ومن زاغ والتاث بمساوئ الشرك. وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات. تارة بالنعماء وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويستقيمون على طريقهم … والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار.

وقال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ﴾ [السجدة: ٢١]، فالله سبحانه برحمته الواسعة ينزل البلاء (العذاب الأدنى) على الكفرة في الدنيا حتى تستيقظ منهم العقول وتنتبه القلوب قبل أن يهلكوا وهم على عناد للحق ويحيق بهم عذاب الجحيم (العذاب الأكبر). إنّ رحمة الله سبحانه تلاحق من ردّوا رسالة الهدى واستكبروا عنها لعلهم يهتدون، وذلك بسوط الألم المنبه بقرعه وردعه ليكون لهم زاجر نصيحة، ونذير عظة.

إنّ الرحمة الإلهية تريد أن تنتشل التائه من طريق التيه والغافل من طريق الغفلة بما تأتيه من حسنات وما تنزل به من سيئات لعله يرجع إلى ربّه.

 

الشر لتكفير الخطايا:

الشر في الدنيا محنة واختبار من جهة، ومن جهة أخرى منة وعطاء؛ فقد قضى الله برحمته أن يطهر من أصاب السيئات في الدنيا بعقوبة معجلة حتى يأتي يوم القيامة وقد تحاتت عنه كثير من الخطايا، أو يأتي بلا خطيئة متخففا من نير الآثام. قال صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»؛ فالمؤمن يستبشر بالمرض إذ يخفف عنه أوزاره ويرفعه إلى المرتبة العليا التي يرجوها في جنة الخلد. ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابية وهي ترفرف، فقال: «ما لك يا فلانة ترفرفين؟» قالت: الحمى، لا بارك الله فيها! قال لها: «لا تسبّي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد».

فكما يتأذى المؤمن إذا عَضَه الشر بنابه فأنهكه، فإنّه أيضا يستبشر به ظهرة لنفسه من أثقال الذنوب وأحمال الخطايا، حتّى إذا قدم على ربّه يوم الجزاء، غُمِس في النعيم المقيم فلا وجع معه ولا بعده، لذة مشرقة بلا كدور ومتعة باقية فلا فتور.

إشعار الإنسان بحقارة الدنيا، إذا أَلف العافية وذللت له النعمة:

قوارع الدهر الموجعة، كموت الفجأة بسبب حادث من حوادث الطبيعة، تُنبه الإنسان إلى أنّ الحياة أتفه من أن يستجمع لها كل همه؛ فهي رحلة – مهما طالت – لها خاتمة، ينتهي بعدها كلّ وجود مادي لهذا الكائن على الأرض وكأنّه لم يدبّ على حصى أو رمل. لحظة واحدة تبتر بسيف الحق آمالا وأحلاما وفرحًا بنعيم يتكاثر وعرض دنيوي ينتفش.

إنّ بعض «شرور» العالم ضرورية لتنبيه الإنسان إلى حقيقة هذه الحياة؛ إذ تردّها إلى حجمها الأوّل الضئيل وترفع عن وجهها الباهت البهرج الرخيص. إن هذه «الشرور» تردّ إلى الإنسان وعيه المخدّر بسراب الآمال التي لا تنقطع!

قال تعالى: ﴿اَعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَهَوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرُ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَتَهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَمَا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ و وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد: ٢٠].

قال صاحب «الظلال»: والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرًا عظيما هائلا. ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئًا زهيدا تافها. وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة!

لعب. ولهو. وزينة. وتفاخر. وتكاثر… هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل … ثم يمضي يضرب لها مثلا مصورًا على طريقة القرآن المبدعة … ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾.. والكفار هنا هم الزراع. فالكافر في اللغة هو الزارع، يكفر؛ أي: يحجب الحبة ويغطيها في التراب. ولكن اختياره هنا فيه تورية والماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا! ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَكَهُ مُصْفَرًا﴾ للحصاد. فهو موقوت الأجل، ينتهي عاجلا، ويبلغ أجله قريبًا ﴿ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾.. وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة.. ينتهي بمشهد الحطام!

فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يحسب حسابه، وينظر إليه، ويستعد له: ﴿وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ﴾ فهي لا تنتهي في لمحة كما لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا.

وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله.. إنها حساب وجزاء.. ودوام.. يستحق الاهتمام! ﴿وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع.

وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة. حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري. إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض. هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم. والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة، ليحقق عقيدته؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعًا».

عقاب الفاسدين:

أخبرنا الوحي بأمر لا يجد فيه العقل نكارة، بل هو الأليق بموازين القسط والعدل، وهو أن من العذاب الذي يصيب الناس في الدنيا ما هو في حقیقته عقاب من الرب سبحانه للبشر على ذنب اجترحوه وجرم أوغلوا فيه دون عُقبى ندم وتعطر باستغفار.

من النصوص القرآنية الدالة على هذا المعنى قوله تعالى:

﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنِ مَكَتَهُمْ فِي الأَرضِ ما لم تمكن لكم وَأَرْسَلْنَا السَّمَاةَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَرَ تَجْرِى مِن تَحْلِهِمْ فَأَهْلَكْتَهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنا وَاخَرِينَ﴾ [الأنعام: ٦] .

﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْتَهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: ١٠٠].

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى وَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٦].

﴿وما أصبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠].

وقال رسول الله ﷺ: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه…».

إنّ مجموع العدل الإلهي والعدل الأرضي وعزّ الألوهية، يقتضي أن يصيب الفاسدين في هذه الدار، بما جنت أيديهم، عذاب وأذى، جزاءً وفاقا. ولعلّ هذا الأمر متصل بصورة كبيرة بالكوارث الماحقة التي تحيق بالأمم، فتهلك الكثير منهم أو تبيدهم. وفي ذلك عقاب معجل ونذير مؤكد وعظة للمذكرين.

ليست العقوبات كلّها محض نكاية، وإنّما منها ما هو يد الرحمة الشديدة إذ تهزّ اللاهي المستغرق في غفلته أن أفق وأقلع عن هذا الشر العظيم الذي تأتيه دون خفقة ندم أو طيف حسرة. قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١]، لعلهم يرجعون رجوع من نبهته صعقة العذاب إلى بشاعة ما اجتنته يداه، فأقبل مهرولا إلى حيث نجاته.

فضل الشر في ردّ العبد إلى ربّه:

ليس الشر وسيلة ليدرك الإنسان ذاته وجمالها وكفى، وإنّما هو قبل ذلك وسيلة ليعرف ربه وكماله، إنّ اصطراع الإنسان مع الشرّ الذي يحيط به في عالمه، يفتح له كوّة إلى السماء ليدرك حقيقة المعبود، وليتصل به اتصال المحتاج الصادي.

إنّ الله سبحانه يريد أمورًا من العبد إذا أحاطت به المحن وطوقته الفتن وتماست في صدره أمواج العذاب، وهي أن يصرخ من أعماقه ضارعا إلى خالقه. إن صرخة الاستجارة المنطلقة من أعماق النفس المبتئسة في جوف المحنة الحارقة والرزيّة الجارفة، نافذة إلى أعماق النفس البشرية تكشف أصل معدنها المنجذب إلى الخالق عند لحظة صفاء تزول فيها أكوام غبار الغفلة والألفة والعادة. قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِيكُم مِّن ظُلُمَتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٦٣] .

في لحظات الضعف أمام الشرّ الهائج، تنجلي أمام عين البصيرة حقيقة الذات العلية لخالق النفس ومالك أمر الكون. هنا، يذهب كبر النفس وتتفتت حصى الغفلة، ويعلم الإنسان – ما دام في المحنة – أنّه عبد مربوب لرب قدير.

ويعبر الفيلسوف الأمريكي (فان إنواجن) (Van Inwagen) عن شيء من هذا المعنى في حاجة الإنسان إلى بلاء الدنيا ليعود إلى ربّه، فيقول: إذا «ألغى» الله ببساطة كلّ غوائل هذا العالم بسلسلة لا تتناهى من الخوارق؛ فسيفسد ذلك خطّته الذاتية لمصالحة الإنسان معه. إنّه لو فعل ذلك؛ فسنكون في حال رضى بقدرنا ولن نرى داعيًا للتعاون معه».

إنّ العالم الخالي من الشر فاقد لما يجذب الإنسان إلى ربّه إلا قليلا، خاصة أن سكرة المتعة كثيرًا ما تُغفل الإنسان عن كلّ شيء إلا نفسه.

جریان السنن الطبيعية ضمن نسق رتيب:

في النواميس الكونية التي خلقها الله سبحانه في الكون ضمان انتظام الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا. ولأنّ الله سبحانه لم يجعل جريان الأمور في هذا العالم ضمن سنن الخوارق وإنّما ضِمن السنن الرتيبة، فإن هذه النواميس سبيل لضمان تحقيق المناخ الذي يحقق للإنسان جو الامتحان.

إن جريان هذه النواميس بالخير في تحقيق رفاه الحياة الإنسانية، يجري أيضًا بما يؤذي الإنسان؛ فكما أنّ ذوبان الثلج وتحوّله إلى ماء سبيل لإغناء الأرض والدواب والناس بالماء الذي هو قوام الحياة، فإن هذا الذوبان سبب الفيضانات مهلكة إذا ذابت الثلوج في وقت قصير في غير مجرى بحرٍ أو نهرٍ أو مسالك جوفية. وكما أن الحرارة هي قوام الحياة الفيزيائية في الكون طبقا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، فكذلك تحصل بالحرارة حرائق وأمراض. وكما أنّ النبات يستفيد من ضوء الرعد للحصول على أكسيد النيتريك، فكذلك يصيب الرعد بعض الناس في مقتل وهكذا لا تجد في قانون كوني شرًا إلا ويقابله خير أعظم منه.

هل بإمكان الملحد أن ينفي..؟

بناءً على ما سلف، يحق لنا أن نتساءل: هل يستطيع المشكك أن يجزم أن نماذج «الشرّ الطبيعي» التي يحتج بها لإنكار وجود الله، خارجة عن كلّ ما سبق من أبواب الحكمة؟

قد يقول المعترض: أنا أحكم بالظاهر السلبي، وأجري على أصل الإنكار، وأنتم معاشر المؤمنين بإله مكلفون بالحجة المثبتة لإيجابية هذا الشر!

والجواب: كما أننا لا نستطيع أن نقطع بحال الكثير من أنواع الشر الطبيعي أنّها داخلة ضمن نوع مخصوص من الأنواع السابقة، فكذلك لا يملك المشكك إخراج أمثلته عن جميع أنواع الحكمة المذكورة.. ويكفينا هنا أن ننفي استحالة ربط الحكمة بوجود هذا الشر، لوجود أجوبة كثيرة محتملة.. ولذلك فإنّ «ما تطرق إليه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال».

وكتمثيل لهذا الأمر نقول: أصيب فلان من الناس بمرض خطير كان يتألّم منه تألّما شديدًا. نحن نقول: إنّ هذا المرض قد يكون تكفيرًا لسيئات المريض، وقد يكون امتحانًا لصبره، وقد يكون عقاباً له، وقد يكون إقعادًا له هذه الفترة عن الحركة؛ لأنه لو كان صحيحا؛ فلربما أتى منكرًا من المنكرات التي تذهب بدينه، وربما أصيب بالمرض تقوية لعزيمته الرخوة؛ لأنه مقبل على امتحانات دنيوية قادمة تحتاج صلابة، وربّما.. وربّما.. نحن لا نستطيع الجزم بحكمة واحدة محدّدة وراء مرضه، لكنّنا نقطع أنّه لا يوجد دليل عقلي يمنع وجود الحكمة من وراء مرضه، ونرى أمام أعيننا احتمالات كثيرة قد يكون واحد منها – أو أكثر – وراء هذا المرض.. في المقابل، نحن نسأل المشكك: هل تستطيع جزمًا أن تنفي أن تكون واحدة من الحكم المذكورة سابقا وراء هذا المرض؟ الجواب هو أنه لا توجد حجّة عقليّة أو كونيّة واحدة من الممكن أن تقطع بهذا النفي.. والنتيجة هي سقوط الشبهة لانتفاء وجه المعارضة.

فضل الألم على اللذة:

يقول (ابن القيم): إنّ الله «أنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها». وبعبارة أحد المحاضرين الأمريكان المعاصرين: «إن أعمق الآلام في حياتنا هي دائما الهدايا الأكبر إذا وجدنا طريقًا لاستعمالها، ولم نسمح لها باستعمالنا».

إنّ اللذات التي يزخر بها عالمنا منثورة على شطآن الآلام ومغمورة في بحارها، فما كان منها دان سهل التناول كان أخف إمتاعا، وكلّما أقبل الإنسان على هذا البحر وتقدّم في أعماقه كلّما أصابت يده متعا أكبر، وكلّما غاص في بحر الألم، كلّما التقط من صَدَف اللذة أنواعًا وألوانا جديدة، وفي هذا الجلاد مع الألم تسفر الخيرات عن وجهها المطمور.

وكمثال أقول: إنّ عامة المعارف والفوائد التي احتلبناها من ضرع التجربة في رحلة الحياة الزاخرة بالإشراق والانكسار تعود جلّها إلى حال المكابدة والتعب لا الاسترخاء والمتعة. إنّ ألمنا خير شاحذ لطاقاتنا الساذجة، وفي وهج لفحاته صقل للنفس وصرف للران الناشب في عقولنا وأرواحنا.

وقد أجري استفتاء لمجموعة من كبار السن في لندن، وكان السؤال الموجه إليهم: «ما هي أسعد فترة في حياتك؟». وكان جواب ٦٠% منهم: فترة الحرب!»، ففي كلّ ليلة تلقي الطائرات أطنانا من المتفجرات على المدينة، وتحوّل المباني الهائلة إلى حطام، والآن يتذكّر الضحايا هذا الوقت باشتياق وحنين؛ فقد اكتسبوا من تلك التجربة صفات الشجاعة والتآزر والتضحية، وعرفوا معاني التآخي والتعاون.

وفي مقالة صدرت في مجلة علمية عن حياة ثلاثمائة قائد ممن كان لهم تأثير بالغ على حركة التاريخ، كشف البحث أنهم كلهم يشتركون في أمر واحد، وهو أنهم كانوا أيتاما، إما أيتام بسبب وفاة الوالدين أو بسبب حدوث انفصال بينهما، أو أيتام عاطفيًا بسبب حرمان قاس في طفولتهم.

إن الكثير منا كان لا يرى حكمة في عوائق نغصت عليه طريق النجاح وضيّقت عليه مسالك بلوغ رغائب النفس العجلة، وكان التبرم منها أمرًا تلهج به النفس كل حين، ثم إذا مرّ زمن على تلك التجربة انفتحت أمام بصيرتنا نوافذ مطلّة على الماضي؛ فإذا تلك التجربة التي كانت تنفر منها أنفسنا درّ الغمام على ذواتنا المقحطة ونبع جار سقانا إثر جفاف في المعرفة والإرادة، وأكسبنا قوة ومد آفاق النظر أمامنا كما لم يكن من قبل.

والعالم المجد الذي بنى من تعبه صرح تألقه، يقول لذاك الذي يبغي منزلته مرتخيا في هجعة النعيم:

يا من يحاول بالأماني رُتْبَتِي

کم بین مسْتَفِل وآخر راقي

أ أبيتُ سهرانَ الدُّجى وتبيته

نوما وتَبْغِي بعد ذاك لحاقي

إنّ سهر الداجي في الظلمة المرهقة، شر بمقياس اللذة التي جبلت عليها الغرائز، لكنّه الطريق الذي لا يستغني عن سلوكه الراقي إلى ذرى المجد وعزّ العلم ونور المعرفة..

 

 

هل شرور الطبيعة دليل على أنّ هذا الكون معيب؟:

لا يوجد عالم من كبار علماء الكونيات اليوم ينكر وجود الحكمة الفائقة والمذهلة فيما يراه من مجموع الخلق. إنّها الحكمة القائمة على معادلات رياضية شديدة التعقيد. الخلاف الناشب بين المؤمنين والملاحدة في قراءة هذا التنظيم الغائي هو في تفسير أصل هذا الإبداع: هل هو من خارج العالم؟ أم هو أثر عن آلية سير العالم؟ إن هذه الحكمة المدهشة الظاهرة في التركيب البديع لأجزاء الكون لا يصح أن يقال: إنّها ثمرة الصدفة؛ لأنها قائمة على الدقة والغائية البادي مسارها. إنّ هذه الحقيقة يجب أن تهيمن على رؤيتنا للكون، لا أن تكون هي أحد طرفي النزاع أو أن تكون هي ضحية الشبهة. إنّ الإقرار بحقيقة هذا الإتقان الغائي يفتح أمامنا مسارًا واضحًا سهلا للنظر، وهو القول: إنّ ما يبدو من خلل في بعض أوجه الحياة إنما هو مقصود من مبدع الكائنات المعقدة.

مثال: لو أنني قدمت أمامك كاميرا جميلة الشكل، معقدة التركيب، تلتقط بها الصور وتطبعها على ورق بنفس الآلة بسرعة قياسية، ويشهد لها كبار العلماء أنها نتاج عبقرية فذة (اختيار الكاميرا كمثال لأنها قريبة جدا من العين، مع الفارق أن العين أعظم تعقيدًا بمراحل كبيرة)، ثم جئتك بآلة تصوير رديئة التركيب لا تعمل وقلت لك: إنني قد صنعت الآلتين. هل بإمكانك أن تنكر أن صنعي للآلة الأولى هو عمل ناتج عن ذكاء خارق لمجرد حكمك على الآلة الثانية أنّها رديئة الصنع؟ طبعا لا! إنّ الحل في فهم عظمة الاختراع الأول ورداءة الثاني هو: إما أنني قد فقدت ذكائي الذي صاحبني عند صنع الآلة الأولى، أو أنني قد قصدت أن أصنع الآلة الثانية على صورة رديئة لغاية ما، لكن لا يمكن البتة أن ينسحب الفشل الثاني لإبطال عبقرية صنع الأولى؛ لأن العبقرية ثابتة يقينًا من خلال المعادلات الهندسية المعقدة والناجحة والنتيجة العملية لهذا الاختراع النافع. كذلك الأمر مع خلق الله جل وعلا – ولله المثل الأعلى -؛ لقد خلق الإنسان في تركيب مدهش جدا؛ حتى قال (لينوس باولنج) (Linus Pauling) – الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء -: إن خلية حبة واحدة من بدن الإنسان هي أشد تعقيدًا من مدينة نيويورك، وخلق مع ذلك في الإنسان قابلية المرض؛ فهل ننكر التركيب البديع والمنظم والغائي لمجرد قابلية للعطب في دنيا أراد الله من ورائها أمرًا ولم يوجدها عبثًا؟!

إن التصور الكلي للمنظومة الإسلامية في الموقف من حياة الإنسان على الأرض هو مفتاح فهم وجود (الشر) في العالم.

 

 

الجمع بين الافتراضات الأربعة:

سبق أن ذكرنا أنّ شبهة الشر قائمة على عدم إمكان الجمع بين: الإله قدير – عليم – رحيم، ووجود الشر في هذا العالم. فلنختبر الآن تعارض كل من الدعاوى الثلاث الأولى مع وجود الشر:

  • أ‌- يرى الملحد أنّ قدرة الله تتعارض مع عجزه عن منع الشر.

قلت: هل يتعارض القول: إنّ الله قدير – أي: إنّه ليس لقدرته حد – مع القول إنّه: (لا يقدر) أن يمنع الشر؟ الجواب البدهي هو أنه لا تعارض؛ لأنّ الله (لا يقدر) على المستحيل؛ إذ المستحيل عَدَمٌ لا تتعلّق به قدرة، وهي حقيقة أجمع عليها أهل السنة، وعقلاء البشر.

وللتوضيح أقول: إنّه علينا أن نجمع بين أمرين، هما خلق هذا العالم ليمتحن الله سبحانه عباده، ومنع الله سبحانه أن يكون هذا الامتحان امتحانا، وذلك بسلبه الإنسان المشيئة التي تتيح له الاختيار بين فعل الخير والشر، وبين الطاعة والمعصية، وبين الإيمان والكفر؛ فإلغاء موهبة الفعل الذي يمكن أن يكون شرًّا بخلق الإنسان على مستوى الكمال في الاختيار والفعل دون أن يلابس أدنى خطأ، يعني أنّه لا محلّ لهذا الكائن في وجود امتحاني.

  • ب‌- يرى الملحد أنّ علم الله يتعارض مع تركه منع الشر:

قلت: لا تعارض بين علم الله المطلق ووجود الشر؛ لأنّ حكمة الله قد اقتضت أن يكون في العالم شر يصطرع معه الإنسان الممتحن.

  ج ـ   يرى الملحد أنّ رحمة الله تتعارض مع قبوله/ أو فعله الشر:

قلت: سبق أن بيّنا أنّ الله لم يفعل الشر؛ أي: لم يخلقه؛ لأنّ الشر ليس حقيقة ذاتية، وبيّنا أنّ الشر ليس من فعل الله وإنّما هو من فعل خلقه. فلم يبق غير دعوى قبول الله للشر وتعارض ذلك مع أن يكون الله رحيما.

والجواب هو أنّ الله قد سمح بوجود الشر لأنه يحقق غرض الامتحان، كما أن من الشر ما أراد الله به رحمة خلقه، كمغفرة ذنوبهم ورفع درجاتهم وتنمية ذواتهم … يقول (هبرت س. بوكس): «إنّ الشر الأخلاقي مسموح به من الله، لكنّه لم يأمر به. إن الله لا يسمح لأي شيء بالوجود إلا إذا كان سيجعل عاقبته حسنة. حتى الشر الأخلاقي جُعل مسخرًا لأغراضه الحسنة». وهي نفس الحقيقة القرآنية البادية في وصفه سبحانه أنه: الرحيم والحكيم.

– د –

مشكلة الشر المجاني

لقد أصبح جلّ الناس في الغرب – حيث لمشكلة الشر وزنها التاريخي واللاهوتي – على قناعة أنّه لا تعارض بين وجود إله ووجود الشر، ولذلك عدل كثير من أعلام الدعوة الإلحادية طرحهم من مجرّد الاعتراض بوجود الشر إلى شبهة عبثية الشر التي يعبرون عنها بـ”مجانية الألم: gratuitous suffering””؛ أي: الأذى الذي لا يخدم هدفًا.

ما يُستخلص من هذا التقهقر هو أنّ وجود الشر في ذاته ليس مشكلا؛ فهو لا يتعارض مع علم الله وقدرته ورحمته، وإنّما المعارض لكمال الله – بزعمهم – هو الشر المجاني. وقد حمل الفيلسوف الملحد (ويليام رو) في الغرب لواء المنافحة عن حجيّة الشرّ المجاني لنفي وجود الخالق. وقد صدرت ردود عديدة في نقض مذهبه وأبانت عن تهافت دعواه إبستيمولوجيا من أكثر من وجه وجه.

يمثل “الشر المجاني”، أو “الشر الذي لا هدف من ورائه”، وغير ذلك من التسميات، تعبيرا عن أقصى ما بلغه فلاسفة الإلحاد في الانتصار لعالم بلا إله رحيم. ظاهر هذا الاعتراض البساطة وباطنه من قبله التشعب والغموض، إذ هو مرتبط أساسًا برفع الحُجُب عن كلّ ظواهر الكون وبواطنه، كما أنه يستبطن تصورًا لعالم شفاف، دون أن تُثبت شفافيته. فما هي هذه الشبهة؟ وما مدى معقوليتها؟ وما صواب تضميناتها؟

“الشرّ المجاني” في تعريف (ويليام رو): هو الشرّ الذي لا يقود إلى خير يربو عليه وقد ساق له مثالين (صارا بذلك شهيرين) المثال الأول: الموت البطيء والمؤلم لغزالة في حريق غابة، والمثال الثاني – وقد استفاده من (برتراند راسل)؛ هو اغتصاب طفلة سنّها خمس سنوات وقتلها على يد عشيق أمها.

وهو يعرضه على الصيغة التالية:

  1. توجد حالات معاناة شديدة بإمكان الإله القدير العليم أن يمنعها دون تفويت خير أكبر منها أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليها.
  2. على الإله العليم كامل الخيرية أن يمنع وقوع كلّ معاناة شديدة إلا أن يؤدّي المنع إلى تفويت خير أعظم من هذه المعاناة أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليها.
  3. = إذن، لا يوجد إله قدير، عليم، كامل الخيرية.

المقدمة الأولى لـ (رو) هي التي يجادل الإلهيون بشدة في صوابها، ويرون أنّها نقطة ضعف الاستدلال بالشر المجاني، فهي تقوم على أصل (عدم العلم)، بما يفترض أن كل ما لا يعلمه الإنسان هو في حكم العدم. وهذا مذهب من ينفي الإله المتعالي (transcendent) لصالح البشر المتأله الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض. إن دعوى (رو) لا تفترض جهل الإنسان ولا دقة ما يخفى على علمه أو تعقيده الذي يتجاوز إدراكه. إنّها في الحقيقة تخلط بين الشر الغامض inscrutable evil)) الذي لا يدرك الإنسان الحكمة من ورائه و”الشر المجاني” (gratuitous evil) المقطوع أنه بلا حكمة.

يجيب المؤمنون بالله عامة على مشكلة الشر بحل من ثلاثة:

  • الإجابة تفصيلا على السؤال: الحل الثيوديسي، وهو المتمثل في بيان كلّ أسباب وجود الشر أو جلّها. وقد عرضنا هذا الحل عند مناقشة الشرين، الأخلاقي والطبيعي.
  • بيان سبب العجز عن الإجابة على السؤال كليًّا أو جزئيا: القصور المعرفي للإنسان.
  • تعديل السؤال: «تحويلة مور»، وسنعرض لها لاحقا.

ولنا على هذه الصيغة (الحلول الثلاثة السابقة) تعليقان:

أولاً: نحن لا نرى أنّ هذه الإجابات تتنافى؛ فإن قبلنا واحدة رفضنا الجوابين الآخرين، وإنما نرى أنها تتكامل، فمثلا نحن نرى قصور العقل في فهمه لدقائق العالم، لكننا نعتقد مع ذلك أننا إن قَلَبنا السؤال على الملحد، وتحديناه أن يجزم أن شرا بعينه لا يمكن أن يكون سبب وجوده حكمة من الحكم التي أوردناه فلن يحر جوابًا. وهو ما يعني أننا حتى لو تنزلنا في الجواب، وقلنا بقدرة العقل على إصابة الحكمة التي وراء كل شر، فلن يتمكن الملحد من إقامة اعتراضه.

وثانيًا: نحن نرى أن نرتب مباحث الحديث في موضوع الشر المجاني بصورة واضحة؛ لأننا بذلك نحيط بأوجه الخلل في الاعتراض الإلحادي مع استيعاب – في نفس الآن – الصيغة التقليدية للرد. وهذه الاعتراضات هي:

  1. السؤال ملغوم في داخله بأسئلة محرجة للملحد.
  2. يقوم الاعتراض على التسليم بيقينية الشر المجاني، وقد كان عليه أن يجعله موضع استشكال ونظر.
  3. الإشكال يفترض كمال العقل الإنساني وبساطة الكون، وبالتالي قدرة الإنسان على كشف حقائق كل موجود.
  4. ينفي الاعتراض الإلحادي الحكمة من عجز العقل عن سبر كلّ حقيقة.
  5. يرى الاعتراض الإلحادي أن سنن الكون المادية التي ينجم عنها كثير من “الشر المجاني” أمر عارضي، وأنّ من الحكمة الاستغناء عنها.
  6. يرى الاعتراض الإلحادي أن ثبوت مجانية الشر مرهون بحقيقته في الحياة الدنيا دون افتراض تتمة لقصة الوجود في الآخرة.
  7. يتجاهل الاعتراض الإلحادي مشكلة الخير المجاني.

ما يستشكل على الاستشكال:

يفترض الملحد أنّ مشكلة الشر المجاني بدهية في تعارضها مع رحمة الله؛ إذ كيف يسمح الإله الرحيم بهذه الشرور الكثيرة أن تسكن أرضنا؟ وإذا كانت هذه الشرور التي تبدو مجانية، تخفي وراءها حكمًا؛ فلِمَ لا يخبرنا الله عنها، إلّا أن تكون بلا حكمة؟! والإلحاد لم ينصف الحق في هذين التصوّرين.

تركيم الشر وخديعة النظر:

يقوم المشككون، في مسلك ساذج للتهييج العاطفي، بتجميع جميع الشرور في العالم باعتبارها كتلة شر واحدة، حتى إن عددها يبدو للوهلة الأولى هائلا مفزعا؛ للإيحاء أنّ الشرور في العالم بالغة الكثرة إلى درجة بالغة المعاندة لدعوى الحكمة والرحمة في الخلق. وهذا منطق متكلّف لأنّ الصواب أن نتحدّث عن الشر الذي يصيب الفرد الواحد باعتباره محنة للإنسان كفرد من جنس، أما جمع الشرور جميعًا فإنّه يخرج الدعوى من المعقولية إلى المبالغة والعاطفية. وكما قيل فإنّ كلّ شرور العالم لا تزيد على ما يعانيه كائن واحد يعاني أعظم البلاء؛ فإنه لا يوجد فرد يعاني كل شرور الدنيا. وإذا صحت الحكمة في معاناة أشدّ الناس بلاء، صحت في غيره من باب أولى.

كما أنّ هذا المنطق يعتبر خاطئًا حسابيًا؛ لأنّ الأصل في هذا الكون الخير والانتظام لا الشر والفوضى؛ فإنّ عدد الأصحاء الذين لا يعانون آلاما تتجاوز المعدل المتوسط لتحمّل الأذى، أعظم بكثير ممن يعانون الأمراض التي تحرم الإنسان لذة الحياة، والكوارث الطبيعية الكبيرة استثناء في الوجود لا أصل … ولو أننا حسبنا الأمر بالنسب المئوية، فلا ريب أن نصيب الأذى سيكون بالغ الضعف.

ثم إن أصل دعوى “الشرّ المجاني” هو النظر إلى كل شر كوحدة منفصلة، في حين أنّه لو نظر إلى هذه الشرور كأجزاء من صورة العالم في كليته، فستتضح حكم لا تدرك إذا عزلنا كلّ جزء على حدة. فموت الحشرات مثلا، بدونه تصبح حياة الإنسان مستحيلة في سنة واحدة، وافتراس الحيوانات بعضها البعض تجديد للدورة الطبيعية … إن الوجود البشري في كليته ـ كما قيل – أشبه بلوحة فسيفساء تحمل صورة جميلة رائقة، لكن إحساسنا بهذا الجمال يزول إذا نظرنا إلى كلّ قطعة من هذه اللوحة على حدة، عندها لا تبصر العين غير أحجار مكسّرة أو زجاج غير مهذب الأطراف لا يحمل من معنى الجمال شيئًا، وكذلك هي الحياة أو بعضها إن عزلنا لحظاتها عن دفقها.

لماذا لا يخبرنا الله بسبب كلّ شر؟

السؤال عن عدم إخبار الربّ لنا بالحكمة من كلّ شرّ يتكرر كثيرًا على ألسنة المتشككين، وهو تعبير عن حاجة نفسيّة متقدة وليس ثمرة ضرورة عقلية. إنه تعبير عن رغبة المبتلى في مسكن لألمه، ورجاء بعد وجعه، وفرج بعد کربه، وليس العقل مضطرًا إلى طرحه؛ بل العقل يقضي أنه سؤال بلا معنى، لسببين:

أولاً: قد أخبرنا الله أنّ الشر فتنة واختبار في رحلة الحياة، على وجه العموم، فليس في الحياة شيء من العبث القدري. كما أنّ مما يظنه المرء شرا هو خير له في الدنيا.

ثانيًا: عند التفصيل، يفقد الشر خيريته إذا كان كل شر ينزل بالإنسان تنزل معه وثيقة تشرح سببه وترفع غموضه وتبيّن مآله على هذه الصورة، يفقد الشر الكثير من الحكمة التي وراءه، لتتحول الحياة إلى دبيب ميكانيكي ممل، يعرف المرء في أوله مآله، فلا مقام أو معنى فيه للاختبار الإلهي الذي يعقبه جزاء الجنة أو عذاب النار. وهذا هو المعنى في الابتلاء… فإنّ الكلّ لو كان ظاهرًا جليًّا بطل معنى الامتحان ونيل الثواب بالجهد في الطلب. ولو كان الكل مشكلاً خفيًّا لم يُعلم شيء حقيقة، فجعل بعض [الأمور] جليًّا ظاهرًا وبعضها خفيًا ليُتوسّل بالجلي إلى معرفة الخفي بالاجتهاد وإتعاب النفس وإعمال الفكر فيتبيّن المجدّ من المقصر والمجتهد من المفرط، فيكون ثوابهم بقدر اجتهادهم ومراتبهم على قدر علومهم… [كما أنه] لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف الخلائق لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة، وما استأنس إلى التذلّل لعزّ العبودة. والحكيم إذا صنّف كتابا ربما أجمل فيه إجمالا وأبهم فيما أفهم منه إشكالا ليكون موضع جثوة التلميذ لأستاذه انقيادا فلا يحرم باستغنائه برأيه هداية منه وإرشادا.

 

تحويلة مور!

تنطلق شبهة الشر المجاني من مُسلَّمة وجود الشر المجاني لنفي وجود الله، ويقول المؤمنون بالله – ومنهم الفيلسوفة (جان ماري ترو) -: إنكم تبتدئون الجدل ببدهية موهومة تحتاج إلى نظر؛ فإنّ مقتضى الانضباط العقلي أن نقول: «ليس بإمكاننا تفسير حالات تبدو ظاهريًّا كشر مجاني، حتى نعلم إن كانت مجانية أم لا. وليس بإمكاننا أبدا أن نقطع بهذا الأمر إلا إذا كنا متأكدين من الوضع الأنطولوجي لله. بما أنّه ليس بإمكاننا نفي أو إثبات وجود الله [عبر حجّة الشر المجاني]؛ فعلينا أن نثبت أولا وجوده أو عدمه، وحتّى يتم ذلك؛ ليس بإمكاننا أن نعرف إن كانت هناك حالات شر مجاني». ويسمى هذا الاستدلال أحيانًا باسم (تحويلة ج. إ. مور) (.G. E Moore shift) على اسم الفيلسوف الإنجليزي (مور) الذي نبّه لهذه الحجة.

وقد عبّر اللاهوتي والفيلسوف (ف. ج . فتزباترك) (F. J. Fitzpatrick) عن صميم هذا المعنى أثناء نقاشه الأذى الذي يطال الحيوانات، بقوله: «إذا استطاع المؤمن بإله أن يستظهر حجّة صائبة لوجود الله فسيكون معذورًا في قوله: إنه لا بد أنّ هناك تفسيرات لتألّم الحيوان بما ينزّه بصورة تامة العناية الإلهية عن الظلم، رغم الغياب الظاهري لهذا التفسير».

وبعبارة أخرى، نسأل: هل يعجز الإله أن يجعل وراء كلّ ما يبدو شرًا مجانيا، حكمة وتعويضًا؟ إن قال الملحد: إذا افترضنا وجود إله، فإنّ العقل لا يمنع من وجود هذه الحكمة وهذا التعويض للمبتلى؛ سقط اعتراضه، وإذا قال: إنّ هذا الأمر ممتنع عقلا؛ طولب بالدليل العقلي، ولا دليل؛ واستبان عندها أنّه لا يعرف معنى كمال الألوهية. وهذا إلزام قوي قاطع لدعوى الملحد بل هو من أقوى الردود وأعظمها؛ إذ هو يقلب معادلة الملحد من:

  1. وجود شرّ مجاني هو أمر يقيني.
  2. وجود إله هو مجرد فرضية بحاجة إلى بحث.
  3. وجود الشرّ المجاني حجّة على نفي وجود إله؛ لأنه لا يمكن أن يوجد إله قدير وعليم ورحيم ويوجد في خلقه شرّ مجاني.
  4. = إذن لا وجود لإله!

لتصبح المعادلة المعقولة هي:

  1. الأدلة المادية في الكون وفي التجريد العقلي قاطعة بوجود إله.
  2. وجود الشرّ المجاني مجرّد فرضية بحاجة إلى بحث.
  3. يقيننا العقلي أنّ هناك إلها قديرًا وعليمًا ورحيما يقتضي أن نلزم عقولنا بالقول: إنّ هذا الإله قادر على أن يخفي وراء ما يبدو شرا مجانيا حكما وخيرا.
  4. = إذن لا وجود لشر مجاني!

إنّ الصورة المنطقية للتفكير التصاعدي لا بد أن تبدأ بيقين ثابت؛ حتى لا يتيه المفكّر في فرضيات الممكنات. ولذلك لا يصح أن ننطلق من افتراض وجود شر مجاني لأن القطع بمجانيته هو مجرد احتمال عقلي لا يمكن القطع به في مبتدأ النظر، أمّا القول بوجود خالق أخرج المادة من العدم إلى الوجود وصوّر الكون فأحسن تصويره فهو حقيقة ماديّة يشهد لها الحس والمعادلات العقلية.

إنّ مسلكنا في ترتيب الأفكار لا يلغي الحقائق – على خلاف المنطق الأوّل الذي ينفي ما يقطع به العقل من وجود إله -، وإنما هو يثبت المدركات اليقينية الكبرى، ثم يقيم على أعمدتها فهما مدركًا لغوامض الكون.

 

أوهام كمال العقل البشري:

يقيم الإلحاد ردّه لعقيدة الإيمان بالخالق القدير الرحيم على أن وجود القدرة أو الرحمة عند هذا الإله يتعارض مع مدركات العقل، دون أن يخبرنا فلاسفة الإلحاد عن قدرة العقل وفاعليته، وهل له أفق ينتهي عنده نظره. إنّ الظن أن العقل لا يرى حكمة في شرور العالم، يلزم منه أنّ العقل قد أحاط بكل شيء علما، علنه وسره، جلبته وحسيسه، ولكن هل يسلّم العقل الواعي لنفسه بهذا الأمر؟

حدود العقل البشري:

أهم تضمينات اعتراض (ويليام رو) افتراضه أن الإنسان يملك إدراكيا معرفة كلَّ سبب ممكن لوجود الشرّ إن وُجد إله، ولكنّ ذلك يخالف بدهية معرفيّة يسلّم لها علماء الإبستمولوجيا، وهي أن الملكات الإدراكية والخيالية للإنسان محدودة، فسواء قلنا بوجود الله أو جحدنا ذلك، أو قلنا بوجود الحكمة الكلية أو اعتنقنا العشوائية العابئة، فقدراتنا العقلية أدنى من أن تتجاوز ما توحيه إلينا الظواهر والجزئيات البارزة.

وإذا نحن نظرنا في قضيّة الشر برويّة فسنجد أنّ البت في جميع جزئياتها محال؛ لأنّ الإنسان لا يحيط بواقع الشر من جميع جوانبه، ولا صلته بما قبله وما بعده؛ ولذلك فإنّ قضيّة الشر وعلاقته بالحكمة الإلهية لا يمكن أن تتناول إلا ضمن كليات عامة فقط.

وإذا أردنا بيان القصور العقلي عند تناول المسألة الثيوديسية عينًا، فإننا نقول مع الفيلسوف ويليام الستون (William Alston): إنّ العقل أسير ستة معوقات:

  1. قصور المعلومات (Lack of data) وهي تبدأ من أسرار القلب البشري إلى عناصر الكون وتكوينه، وتشمل الماضي السحيق والمستقبل الآتي.
  2. تعقيد أكبر من طاقة إدراكنا (Complexity greater that we can handle): الموضوع متداخل العناصر على صورة أعظم من طاقتنا على التفكيك والإدراك.
  3. صعوبة تحديد ما هو ممكن أو ضروري ميتافيزيقيا (Difficulty of determining what is metaphysically possible or necessary) عــــالـــــم الماورائيات: هو عالم يقع خارج دائرة إدراك التفكير البشري ونحن لا نعرف عنه غير القليل مما تدلّ عليه قرائن الوجود المادي، ولا يبقى بعد المعارف المتلقاة من الوحي مصدر آخر لفهم هذا الوجود المتنائي عن إدراكنا.
  4. جهلنا بالقائمة التامة للممكنات (Ignorance of the full range of possibilities): تواجهنا هذه المشكلة عندما نبحث عن نتيجة سلبية (للنفي لا للإثبات)؛ فنحن مطالبون هنا باستحضار جميع الممكنات لاستنباط نتيجة من مسألة هامة جدا في حديثنا عن الحكمة الإلهية من فعل الله سبحانه في خلقه مما يبدو ظاهرا كشر محض.
  5. جهلنا بالقائمة التامة للقيم (Ignorance of the full range of values): استخلاص دلالة إيجابية من الفعل البشري أو الحدث الكوني لنفي أنه شر أو النظر إليه سلبًا على أنه شر يقتضي إدراكًا لجميع القيم الإيجابية أو السلبية التي من الممكن أن تتصل بهذا الفعل.
  6. حدود ملكاتنا في شأن تقديم أحكام قِيَميّة كاملة (Limits to our capacity to make well considered value judgments): تظهر أساسا في صعوبة إصدار أحكام مقارنة بشأن قضايا كبرى معقدة.

ولذلك أكد (ألستون) أن «الأحكام المطلوبة من الدليل الاستقرائي للشر ذات طابع طموح خاص جدا وهائل من حيث المبدأ، وليست ملكاتنا المعرفية التي تفيدنا عادة بصورة جيدة في الأعمال الأضيق مؤهلة لذلك». وهذا هو عين التواضع المعرفي المطلوب من الإنسان إذا عَرض لقضايا بهذا العمق والتعقيد. إنّها حقيقة موضوعية، سواء قلنا بوجود الخالق أو أنكرنا ذلك. إنّ العقل الإنساني محدود الأدوات والغايات ومن الجهل بحقيقته أن يُزعم له الكمال فيُنفخ فيه حتى يكون في حجم الكون أو يُطوى الكون كله ثم يحشر في بؤرة الإدراك فيه.

لا شك أنّ معارفنا المعاصرة اليوم تؤهّلنا إلى درجة أعلى من التواضع بعدما استبان حجم الترابط المعقد لهذا العالم وهو ما أكدته (نظرية الشواش) (Chaos Theory) خاصة في مثالها الطريف عن (تأثير الفراشة) (The butterfly effects) فإنّ رفرفةُ جناح فراشة في ريو دي جانيرو [في البرازيل] تتضخم بسبب التيارات الجوية، قد تسبب إعصارًا في التكساس بعد أســـبــوعــيــن) (The fluttering of a butterfly’s wing in Rio de Janeiro amplified by atmospheric currents, could cause a tornado in Texas two .weeks later)، كما هي عبارة ومثال مؤسس هذه النظرية العلمية التي تؤكد الترابط الشديد بين أحداث الكون، وأنّ الحدث الكوني الصغير مهما ضؤل، وبدا بعيدًا عن أحداث أخرى مكانًا وزمانًا، فإنّه من الممكن أن يكون بينه وبين حدث كوني هائل ترابط سببي حقيقي وإن كان بطيئًا في تفاعله.

و تقتضي ديناميكية الشواش ثلاثة أمور تتعلّق بصورة عميقة بمسألة الشر، أوّلها: الترابط الهائل بين أفراد الكون وأحداثه، وهو ما يدلّ على ارتباط ما يحصل في الكون من تغيّرات بما يتتالى من أحداث، وثانيها: أن عظيم الأحداث وبسيطها وعرضيها سواء في تشكيل أحداث المستقبل، وثالثها: أنّ تشعب الأحداث يمنعنا أن نحسم نظرتنا التنبؤية . والشر بذلك ليس نتاج تطوّر خطي (linear progression) وإنّما هو حصيلة شبكة بالغة التعقيد والتداخل، لا تعرف مقدماته لكثرتها وتنوّعها وتشابكها، تصنعه الأحداث الجليلة والأمور الحقيرة وهو ما يضطرنا إلى الإقرار بخفاء الجزء الأكبر من السلسلة السببية لما يطرأ من شر في وجودنا الكوني.

إن ظنّ المشكّك أو المتشكك أنه بإمكان عقله الضعيف أن يستوعب المعادلات الخلقيّة لهذه الحياة لظنّ ساذج غرير؛ لأنه يتصادم مع حقيقتين واحدة كونية وأخرى وجودية.

أمّا الكونيّة فهي أنّ عقل الإنسان عاجز فعلا عن استيعاب جلّ المعادلات المادية الكونية التي تحتوي حياته فهو لا يعرف عن قوانين الوجود إلا قليلها، كما أنّ الكثير من هذه المعادلات لا يستوعبها إلّا خاصة العلماء، فكيف يظن أنه بإمكانه أن يدرك مفهوم العدل الإلهي في تفصيله المعقد والخفي المتداخل، وهو العاجز عن إدراك قوانين المادة البسيطة في حضورها وعملها؟!

ومن العِبر في هذا الباب زعم التطوّريين أنّ في بدن الإنسان مائة وثمانين عضوًا بلا وظيفة وأنّ هذه الأعضاء اللاوظيفية (vestigial) هي من بقايا المراحل التطورية السابقة للإنسان. وقد استمر هذا العدد في التناقص يوما بعد اليوم على مدى القرن الماضي حتى قيل: إنّه قد وُجد لجميعها دور وظيفي في النشاط البدني.

أما من الناحية الوجودية؛ فالإنسان مختبر في امتحان، وهو جزء من هذا الامتحان؛ وهو مع ذلك يطلب من ممتحنه أن يهبه جميع الأجوبة التي بجوابها يفقد الامتحان طبيعته الاختبارية الابتلائية!

قد يقول المخالف: إنّك ترمي غير المعقول في منطقة الظلام التي تُسمّيها منطقة “القصور العقلي”؛ وهي شمّاعة من الممكن أن يعلّق عليها كلّ إنسان ما يخالف العقل. والجواب هو أنّنا ننكر أن يكون في الجمع بين الإيمان بالله سبحانه والشر مخالفة للعقل، ونحن هنا نميز بين محالات العقول ومحارات العقول؛ فعجز العقل وحيرته في فهم أمر ما لعجز أصيل فيه، غير نسبة الأمر إلى المحال والتناقض؛ فلا يلزم إذن من العجز عن الإحاطة بواقع الشر القول إنّه بلا غاية ولا حكمة، ولا يلزم العقل بالإيمان بالربّ جلّ وعلا والشر، محال عقلي، بل نقول إن وجود الشرّ في عالم الامتحان هو عين الحكمة.

ويوضح (فتزباترك) سبب الخطأ الذي وقع فيه المتخوضون في مسألة وجود الشر غير المبرّر للقول بنفي وجود الخالق بقوله: «على المرء أن يُظهر من خلال مقارنة كلّ أنواع الشر الموجودة ودرجاتها وطريقة توزّعها في العالم، أن هذه المجموعة الكاملة من الشرور مطلوب وجودها كشرط جوهري لتحقيق الخير المطلوب. هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق واقعًا إلا إذا افتُرِض من البداية أنّ فهمنا لطبيعة الأمور الخيرة التي يريد أن يوجدها الله، وإدراكنا للعلاقات الضرورية التي من الممكن أن تكون بين الخيرات والأنواع الممكنة من الشرور، يكفيان لضمان فرصة نجاح معقولة في محاولتنا. تم طرح هذا الافتراض بصورة متكررة بطريقة غير نقدية من طرف من كتبوا في مشكلة الشر، خاصة من طرف أولئك الذين يحاولون استعمال هذه المشكلة كأساس لنفي وجود الله. ويبدو أنه من العقل الشك فيما إذا كان مدى معرفتنا قريب من المستوى الذي يتصوّره هؤلاء الكتاب»؛ أي بعبارة أكثر اختصارًا إنّ أدوات العمليّة العقليّة للوصول إلى نتيجة مستوعبة لهذا الأمر الدقيق فيها قصور جوهري (intrinsic) واضح، لِعِظم المعرفة الأولية المشترطة مقابل قصور أدواتنا الإدراكية.

ويعبّر الفيلسوف (بيتر كريفت) (Peter Kreeft) عن أثر محدودية فهمنا للحكمة الإلهية على وعينا بالعالم بقصة طريفة تقرّب إلى القارئ معنى قصور العقل الإنساني عن إدراك حقيقة ما يحيط به: تَصَوَّر دبا في مصيدة، وصيّادًا بسبب تعاطفه معه يريد أن ينقذه مما هو فيه. حاول الصيّاد أن يكسب ثقة الدب فعجز. لم يجد الصيّاد بدا من تخدير الدبّ تخديرًا كاملا، ولما هم بذلك، فَهِم الدبّ أنّ الصيّاد يريد قتله. لم يدرك الدبّ أنّ الحقنة التي انغمس رأسها الحاد في لحمه يراد منها إنقاذه ممّا هو فيه. بدأ الصياد في دفع الدب داخل المصيدة ليخفف ضغظ الزنبرك ولو بقي من وعي الدب شيء بعد التخدير ورأى الصيّاد يهزّ جسده، فسيزداد يقينا أن الصياد يكاد يزهق روحه، وأنّه مصرّ على أن يكون سبب ألمه ومعاناته. لقد كان الدب مخطئًا، بل قل: لقد التبس عليه الأمر بصورة حادة؛ ففهم الأمور على عكس مقصدها.

وهكذا الإنسان أحيانًا حينما يحاول إدراك مقاصد أحداث الوجود؛ فيرى وقائع يومه تغلّق دونه أبواب الخير وتضرب عليها بالأسداد، وهو لا يدرك أنها من وراء تلك الحجب الداكنة تسير به إلى النجاة.

علينا أن ندرك أيضًا أن وجودنا في عالم جوهره امتحان إيماننا وأعمالنا، يقضي ألا تُبذل لنا إجابات مادية مباشرة عن كلّ ما يطارحنا من أسئلة وما يشاكسنا من مستصعبات. إنّ المؤمن بالله لا يشك أن رحمة الله ستتداركه بإنقاذه من معضلات الأسئلة وقوارض الشبهات، لكن ذلك لا يكون في كلّ حين بإجابة تفصيلية عن كلّ مسألة وإنّما يكون بإجابة عامة مطلقة تستوعب جزئياتها الصغرى أو هي مفاتيح للإجابة تحتاج نظرًا وجهدًا من المكلف.

إنّ نظرة الإلهيين لقضيّة الشرّ وارتباطها بالحكمة الإلهية تتميز بواقعيتها الواعية؛ إذ هي تقوم على أركان ثلاثة:

  1. الإقرار بأنّ العقل البشري محدود بمحدودية أدوات النظر ومجال النظر؛ وهو ما يسمح لأبعاد من الحكمة أن تكمن وراء آفاق وعينا.
  2. يُعلمنا الوحي الإلهي بحكم كثيرة من وراء فعل الله في الأرض مما يبدو شرا في ظاهره (كالمرض والجدب…)، كما وهب الله عقولنا القدرة على إدراك أوجه من الخير والنعمة في مظاهر الألم والنقص.
  3. العلم بكمال الرب سبحانه حجّة للاعتقاد أن الله جل وعلا حكمًا خافية عن مداركنا تسمح للشرور أن توجد في كوننا.

المنطقة المظلمة في وعينا:

لا يرى العاقل في المنطقة المظلمة في وعي الإنسان، والتي هي نتاج حتمي لقصور أدواته الإدراكية، تبريرًا لعجزه عن الجمع بين المتناقضات، وإنّما هي حجّة لإنشاء تصوّر إيماني متناسق في غياب حجة قاطعة على إثبات هذا التناقض.

هذه المنطقة المظلمة ذاتها باسطة سلطانها في ذهن الملحد؛ إذ الملحد بلا ريب يؤمن بعدد من الغيبيات التي يريد من خلالها إنشاء تصوّر عقدي متناسق، فهو يؤمن بنشوء الحياة في المادة بصورة ذاتية، وبنشوء طبيعة التوالد في الأحياء من غير تدبير خارجي، وبنشوء الأخلاق بفعل الانتخاب الطبيعي… فالمنطقة المظلمة هي نتاج آلي للقصور العقلي الذي لا يماري فيه مؤمن ولا ملحد.

إنّ هذه الحقيقة الوجودية تؤكّد صواب قول الفيلسوف (ستيفن ج. وكسترا) (Stephen J. Wykstra) في رده على (رو) إنّه بسبب عدم محدودية علم الله ومحدودية علمنا، فإن غموض (mysteriousness) الشر في هذا العالم هو ما علينا أن نتوقعه؛ أي: إنّ فارق العلم (الهائل) بيننا وبين الإله، والذي يتجاوز في مداه الفارق بيننا وبين الحيوانات العجماوات؛ يستدعى منطقيا أن يكون في إدراكنا للحكمة في أفعال الله قصورًا لأنّ المقدمات المختلفة تقتضي نتائج مختلفة. وقد انتصر لهذا القول الفيلسوف الأمريكي (ويليام ب. الستون) في مقاله الهام والشهير «The Inductive Argument From Evil and the Human Cognitive Condition» حيث قال: «الحجّة اللاهوتية الإلحادية لإنكار وجود الله باعتماد القول بوجود الشر قد أُفسدت بالثقة غير المبررة في قدرتنا على القول: إنّ الله لا يملك حججًا كافية للسماح بوجود بعض الشر الذي نراه في العالم». فهذا اليقين في كمال العقل الإنساني على الإحاطة بالحكمة الإلهية أصل فساد هذا المذهب؛ ولذلك أضاف (ألستون): «إنّ جهلنا بالحقائق المتصلة بما يبدو شرًا مجانيا» واسع والعيوب في قوة تمييزنا جدّ جوهرية؛ مما يجعلنا عاجزين، فيما يتعلّق بأعيان المسائل، عن امتلاك أساس للقول: إنّه لا يسمح بها لأسباب هي كيت وكيت». ولذلك، وكما قال الفيلسوف (فتزباترك)، فإنّ «العبء يقع على الملحد في إظهار أنه يوجد شيء ما غير مرضي بصورة عميقة في ما يتعلق بتقويم المذهب الإلهي لمجال المعرفة البشرية بالله وحدودها»، أي: إنّ الحجّة مردودة على الملحد بإلزامه هو بأن يقيم الحجة على أصل الدعوى.

ليس في هذا القول إذعان للجهل، واتّخاذ لقصور عقولنا أداة لتبرير الباطل باختلاق معنى وهمي نخفي به اضطراب دعوانا. مَثْلَ (وكسترا) لهذا الأمر بالاعتراض على نظرية (كوبرنيكوس) بغياب (الاختلاف الظاهري النجمي) (Stellar Parallax) الملاحظ، فقد اضطر (كوبرنيكوس) إلى افتراض أنّ النجوم بعيدة عنا بمسافات هائلة جدًّا يصعب تصوّرها. الفرق بين قولنا وقول (كوبرنيكوس) هو أن نظرية (كوبرنيكوس) قد احتاجت إلى دليل خارجي لتثبت صدق النظرية، في حين أن الشرّ الملاحظ في العالم يفترض منا أن نعتقد وجود خير يربو عليه، وإن كنا لا ندركه، وليس هذا الافتراض مقحما، وإنّما هو مُضَمَّن في إدراكنا لمعنى الإيمان بالألوهية (implicit in theism)؛ فمعنى الألوهية يقتضي في ذاته علمًا وحكمة مطلقين لا تدركهما عقول المخلوقات المحبوسة ضمن جدران أدوات التفكير القاصرة عن تجاوز آفاق نظرها القريبة.

نحن لم نختلق (منطقة مظلمة) لنجعل منها عذرًا لمخالفة الحقيقة، وإنما نحن نثبت أربعة أمور تستوعب حقيقة وعينا بالشر وعلاقته بعالمنا:

أولًا: نحن ننطلق من حقيقة لا مراء فيها بين المؤمنين والشكاكين، وهي ثبوت هذا القصور العقلي عند الإنسان. وأن الإنسان عاجز عن الإحاطة بكلّ خير من الممكن أن ينتج عن أعيان الشرور، كما يجهل بصورة كبيرة العلاقات المنطقيّة التي من الممكن أن تقوم بين أعيان الشرور والخير الذي من الممكن أن يتحقق منها، – ولذلك كما يقول (أهرن) -: «يبدو أنّه من المستحيل إظهار أن هذا الشر المعيّن، هو بالضرورة المنطقيّة، غير مبرّر بالنسبة الله».

ثانيًا: ثبت، كما فعلنا في هذا الكتاب وكما فعل (ألستون) في مقاله، وجود حِكَم كثيرة مرضية للعقل تفسّر بطريقة إيجابية وجود الشر في العالم. وهي حكم كما فضلنا ذلك وانتصر لها أيضًا (ألستون)، ينطبق كل منها على أحداث بعينها، وهو ما يسقط أهم اعتراض للملاحدة على عامة الأطروحات الثيوديسية باتهامها أنّها لا تغطّي بتفسيراتها ظواهر الشر بتعدد أنواعها.

ثالثًا: وَعْيُنا بحكمة الله البالغة، يقودنا إلى الاعتقاد بوجود حكم أخرى (خاصة عند التفصيل والارتباط بالأحداث المعينة) تتجاوز معرفتنا.

قال (ابن تيمية): «والذي يجب على العبد أن يعلم أن علم الله وقدرته وحكمته ورحمته في غاية الكمال الذي لا يتصور زيادة عليها، بل كلما أمكن من الكمال الذي لا نقص فيه فهو واجب للرب تعالى وقد يعلم بعض العباد بعض حكمته وقد يخفى عليهم منها ما يخفى. والناس يتفاضلون في العلم بحكمته ورحمته وعدله، وكلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور ازداد علمًا بحكمة الله وعدله ورحمته وقدرته، وعلم أن الله منعم عليه بالحسنات عملها وثوابها، وأن ما يصيبه من عقوبات ذنوبه فبعدل الله تعالى وأن نفس صدور الذنوب منه – وإن كان من جملة مقدورات الرب – فهو لنقص نفسه وعجزها وجهلها الذي هو من لوازمها…

لكن تفصيل حكمة الرب مما يعجز كثير من الناس عن معرفتها، ومنها ما يعجز عن معرفته جميع الخلق حتى الملائكة؛ ولهذا قالت الملائكة لما قال الله تعالى لهم: )إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِمَاءَ( [البقرة: ٣٠] قال: )وإِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ( [البقرة: ٣٠]. فتكفيهم المعرفة المجملة والإيمان العام».

وقال (ابن القيم): «العقلاء قاطبة متفقون على أن الفاعل إذا فعل أفعالاً ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها، ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها، وردّوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه. هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم … فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول، وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس. ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصا وسفها، فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين».

رابعًا: غياب مانع عقلي يقضي باستحالة وجود هذه الدواعي المنطقية التي تليق بكمال الله – سبحانه – وترتقي فوق معرفتنا المحدودة. إن ادعاء الحكمة المحيطة بجميع أفراد الكون؛ وأنّ ما لم نعرف له حكمة مباشرة فهو عبث وخروج عن حد الحكمة، هو أمر يرفع الوعي الإنساني – بلا دليل – إلى مرتبة الإحاطة الكلية بعِلات الموجودات كلها، ما عظم منها وما دَقّ!

أغلوطة (no – seeum):

تقوم حجة الشرّ المجاني على أصل حجة الجهل (argumentum ad ignorantiam)؛ أي إنّ ما يبدو لوعينا مجانيًا من الشّر، هو كذلك على ظاهره لأننا نجهل الحكمة من ورائه، مما يلزم منه نفي وجود الإله الحكيم. وقد أطلق (ستيفن وكسترا) على هذه الأغلوطة اسم: (seeum fallacy – no)، ذلك أنّ حشرات الـ (no– see – ums) صغيرة جدا ومن العسير على العين أن تراها، ولذلك فإذا كنا لا نستطيع رؤية هذه الحشرات فإننا لا نملك القطع بعدم وجودها.

لسنا نرى (مغالطة no seeum) مدانة على إطلاقها، وإنّما نقول: إنّ عدم العلم بوجود الشيء لا يقضي بالقول بعدمه إلا إذا توفّر شرط إضافي وهو وجود قرائن على أنّ من طبيعة ما نبحث في وجوده ألا يُفلت من آلتنا الإدراكية البشريّة، أما إن كان خفاء الشيء عن إدراكنا ممكنا لصغره ودقته مثلا، فعندها نقطع أن من المغالطة أن نزعم أنّ عدم العلم هو علم بالعدم.

الإشكال هنا هو في تصنيف مشكلة الشر المجاني، هل هي دقيقة في حجم حشرة لا تبصرها العين أم هي كبيرة لا يمكن أن تغفل عنها أبصارنا؟

وجواب ذلك أننا إذا نظرنا إلى (مغالطة  (no – seeumآخذين بالاعتبار القصور الإدراكي الأصيل في آلة النظر البشرية من جهة، وتعقيد شبكة التواصل بين أجزاء عالمنا المعقد، أدركنا أنّ عدم العلم أو الرؤية في مقام النظر في ما يظهر من شر مجاني لا يلزم منه القول بمجانية هذا الشر، فإنّ الأمر قد يدق حتى تعجز عقولنا عن رؤية أوتاره الدقيقة التي تربط بين أحداث حياتنا، والتي قد تحمل من أسباب التواصل والتأثير ما يمتنع على كائن أسير دماغه وقلبه أن يدركه.

ويجيبنا (ألفن بلنتنجا) بجواب آخر بقوله: نظرًا لأنّ الله عليم في مقابل محدوديتنا الإبستيمية الجوهرية؛ فإنه ليس من المفاجئ لنا أن تفلت من قدرتنا معرفة الحكمة الإلهية من وجود ما يبدو شرًا مجانيا؛ أي: إنّ التواضع الشديد لقدراتنا العقليّة أمام كمال علم الله وقدرته سبب قوي للتواضع في الحكم على ما نجهله في أمر من شأنه أن يتجاوز وعينا البشري الضيق.

ويضع (ابن الجوزي) هذا الأمر في نصابه عند تدارس ما يخفى من حكم في هذا العالم بقوله: «العقل قد عرف حكمة الخالق الله وأنه لا خلل فيها ولا نقص فأوجبت عَليهِ هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه، ومتى اشتبه علينا أمر في فرع لم يجز أن نحكم عَلَى الأصل بالبطلان».

وفي قصّة (موسى) u والخضر رسالة واضحة البيان في الا يمنح الإنسان لنفسه حق الكلمة الأخيرة فيما لا يعلم بواطنه مما يظهر أنّه شرّ لا حكمة تخالطه.

قال تعالى:

) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا(.

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا(

) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا(

) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا(

) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا(.

) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا(.

) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا(.

) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(.

) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(.

) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(.

) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا(.

) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(.

) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا(.

) قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا   (

) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا(.

)قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(.

) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا(. 

)فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(.

) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(.  

) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا(.

) وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا(.  

) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا(.  

)وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا( [الكهف: ٦٠ – ٨٢].

ما الحكمة التي من الممكن أن تتصوّرها عقولنا لخرق رجل عاقل ظاهره الحكمة سفينة مما قد يؤدي إلى تلفها وهلاك أصحابها؟ وما الحكمة من قتل طفل صغير بريء؟ لا تسمح لنا عقولنا بإبصار حكمة وراء هذا الشرّ الذي يبدو بوضوح (ظاهري) أنه شرّ مجاني، لكن كشف الغطاء عن خيوط دقيقة غير مرئية تربط بين أشياء الواقع وعلائقه مما يتجاوز تفكيرنا المحدود، يظهر أنّ حكمة بالغة مشبعة بالرحمة الإلهية تكمن وراء هذا الشر الذي أوهمتنا عقولنا أنّه مجاني. إنّ قصّة النبي العظيم الحكيم (موسى) u مع الخضر تأخذ بأيدينا إلى حقيقة تواضع معارفنا أمام هذا العالم الهائل في تعقيده وخفاء أسراره، فخرق سفينة سبيل لعيبها حتى لا ينتهبها من أصحابها ظالم، وقتل طفل لم يجر عليه القلم سبب لرحمته وأهله من شره إن كبر.

 

الحيوان والشر المجاني!

لم يكن المشكلة ألم الحيوانات حضور كبير في النقاش حول مشكلة الشرّ بعمومها إلا أنها كانت تطرح في ثنايا الجدل الفلسفي – الثيوديسي، غير أنه مع صعود الفكر الدارويني في عالم البيولوجيا ونفي التميز السلالي للإنسان، والثورة الإيكولوجية، وتزايد اهتمام الإنسان الغربي بإلحاق الحيوانات الأليفة بمجموع الأسرة، كالقطط والكلاب، ظهرت مشكلة ألم الحيوانات بصورة أكبر، وأضحت عنصرًا مهما في الجدل الإلحادي لصالح كون بلا إله كامل القدرة والرحمة.

أ – مبادئ النظر في مشكلة ألم الحيوانات:

يتمثل التحدّي الإلحادي في مشكلة ألم الحيوانات في أننا لا نملك أن نمد الحكم من الأذى الذي يطال الإنسان إليها؛ فهي لا تختبر بالصبر على البلاء، ولا تعاقب به في الدنيا ولا تنمّي شخصيتها به.

للرد على هذه الشبهة لا بد أن نوضح خمسة أصول أولى يقوم عليها التصوّر الإسلامي:

الأول: ليس للحيوانات نفس مقام الإنسان في المعتقد الإسلامي، فالحيوانات كلّها مخلوقة لأجل الإنسان، فليست الحكمة من وجودها غير أن تسخّر للإنسان سواء بطريق مباشر (الأكل من لحمها، والإفادة من حليبها وصوفها …) أو غير مباشر (التوازن الطبيعي عامة). قال تعالى: )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً( [البقرة: ۲۹]، وقال سبحانه: )وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ( [النحل: ]، وقال: )اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون( [غافر: ٧٩]، وقال: )وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ( [المؤمنون: ٢١، ٢٢].

الثاني: معرفتنا بنفسيّة الحيوانات محدودة جدا لأنّ تقدير الجانب النفسي مرتبط بالوعي الذاتي للكائن، ولذلك فعامة معرفتنا بنفسيّة العجماوات مرتبط بالظواهر الخارجية.

الثالث: من المسلّم به أنّ التركيب العصبي للحيوانات مختلف بصورة كبيرة عن نظيره في الإنسان.

الرابع: تشعر الحيوانات بالألم، عضويًّا ونفسيًّا، كما هو ظاهر حالها عندما يصيبها أذى، وكما تدلّ عليه الأحاديث النبوية التي تأمر بالإحسان إلى الحيوانات وتحذر من إذايتها، وهو ما يخالف التصوّر الديكارتي التقليدي الذي يرى في تألّم الحيوان مجرّد ردّ فعل آلي غير حقيقي.

الخامس: تُمثَل نسبة المشاعر الإنسانية إلى الكائنات غير البشرية نوعا صريحًا من المغالطات، وتسمى بـ(anthropopathism)، وهو مصطلح حصيلة إدماج كلمتين يونانيتين في بعضهما، إنسان (nalog) ومعاناة (0e6s)؛ إذ ليس لنا أن نفترض من خلال مشاركة الحيوانات لنا شعور الألم أن ألمها كألمنا. وللأسف، فإنّ نزوع الإنسان إلى أن ينسب إلى ما حوله الذكاء والمشاعر البشرية سبب لإثارة إشكالات في فهم العالم حوله. يقول (ستيوارت جثري) (Stewart Guthrie): «إنّ هذا الطبع ليس محصورا في نظراتنا إلى الحيوانات الأخرى، وإنّما هو أوسع وأعمق في كلّ أفكارنا وأعمالنا. إنّه يلوّن إدراكنا ويؤثر على وعينا عبر الحياة كحال حديثنا إلى النبات والسيارات وأجهزة الكمبيوتر… حقيقة، الدافع لاكتشاف صفحات الوجوه على السحب والأغصان المتشابكة والأشكال الأخرى غير البشرية، والشعور بوجود إنسان من خلال أصوات مبهمة في الليل، يبدو أمرًا عالميًّا».

النقاط الخمس السالفة سبب لأن نحوّل النقاش من كون ألم الحيوانات شر في ذاته إلى مناقشة إشكالية كونه شرًّا زائدا عن مقتضى العدل، أو بعبارة أخرى: (شرا مجانيًّا). وبذلك يصبح السؤال مرتبطا بكفاءات ملكاتنا البشرية لتقدير ألم الحيوانات وقوته، ومدى تعارض ذلك مع كمال خيرية الله وعدله.

ب – كيف ننشئ جدلًا حول مشكلة ألم الحيوانات:

السؤال عن مدى معرفتنا بألم الحيوانات، وعلاقة ذلك بعدل الله ورحمته، يدفعنا إلى أن نرتب النقاش على وجه جديد، كالتالي:

  • الله موجود.
  • لله الصفات (الأخلاقية) المذكورة في القرآن.

السؤال الآن هو: هل من الممكن التوفيق بين التقريرين السابقين وألم الحيوانات؟

للإجابة على السؤال السابق نحتاج أن نضيف الفرضيات التالية:

  1. الله هو أرحم الراحمين (سورة الأعراف/ ١٥١، سورة يوسف/ ٦٤،۹۲، سورة الأنبياء/ ۸۳).
  2. خلق الله الحيوانات وأمر الإنسان بالإحسان إليها.
  3. الأمرُ بالإحسان إلى الحيوانات دال على أنّ الله يرحم شعورها ولا يقصد إلى أذاها مجانًا.
  4. الحيوانات تتألم في عالمنا.
  5. لا تجازي الحيوانات بالجنّة يوم القيامة لأنّها ليست من أهل التكليف.

إذا كان الله موجودًا فلا يمتنع تصوّر أنه سبحانه:

  1. جعل إحساس الحيوانات بالألم أضعف من إحساس الإنسان به.
  2. أعد بعدله للحيوانات في الدنيا تعويضًا عما يصيبها من أذى.

هذا هو تصوّرنا لألم الحيوانات في عالم خلقه أرحم الراحمين فهل ينقضه المنطق أو العلم أو العدل الخُلقي؟

منطقيًّا: لا يستلزم القول: إنّ الله قد جعل إحساس الحيوانات بالألم أدنى من إحساس البشر به تناقضا ولا أية استحالة عقلية. ولا يلزمنا العقل بباطل إن تصوّرنا تعويض الحيوانات عن أذاها في الدنيا.

علميًّا: لا شكّ أننا نجهل حقيقة إحساس الحيوانات بالألم، وإن كنا ندرك أنّها تتألّم على الحقيقة. ويوفّر لنا العلم اليوم قرائن توحي أن إحساس الحيوانات بالألم أدنى من إحساسنا به وهو ما يظهر في النقطتين التاليتين:

أولًا: التركيب العصبي للكائنات الحية:

  • أ‌- يكشف تشريح الحيوانات أنّ هناك اختلافات كبيرة في جهازها العصبي المركزي، فالجهاز العصبي للدودة والمتمثل في عقدة مرتبطة بألياف عصبية، يختلف بصورة واسعة عن نظام عصبي يضم حبلا طويلا من الأعصاب الشوكية (النخاع الشوكي)، ودماعًا كبيرًا أربعون بالمئة من وزنه قشرة مخيّة.
  • ب‌- لا يلزم ضرورة من وجود جهاز عصبي عند الحيوانات، أن هذه الكائنات تتألّم إذا حدثت استجابة شرطية عند إصابتها بأذى، أو أنّ حجم استجابتها للأذى يعكس حجم تألّمها، فقد يكون شكل الاستجابة للأذى مجرد تعبير عن انقباضات آلية لا غير، خاصة إذا كان الجهاز العصبي غير معقد أو لا يمتد إلى أطراف كامل الأعضاء. كما أنّ طبيعة افتراس الكثير من الحيوانات لبعضها لا تورث ألمًا كبيرًا. وقد شهد عالم الإثولوجيا (علم دراسة سلوك الحيوانات) البريطاني الشهير (جون غودال) (Jane Goodall) أن تجربة مشاهدة افتراس الحيوانات الضارية لضحاياها الحيّة تظهر أنه رغم بشاعة المنظر للرائي إلّا أنّ الضحايا تموت بسرعة في غضون دقائق وبالتالي لا تشعر بكثير ألم. وقال صاحب كتاب: (هجوم سمك القرش): «ليس هجوم سمك القرش بالضرورة عنيفًا إلى درجة أن يجرح ضحيته بصورة بالغة. من الممكن أن يكون قطع اللحم بأسنان سمك القرش لطيفًا وغير مؤلم كما لو أنه بمشرط جراح. وقد شهد حوالي ربع ضحايا سمك القرش أنهم عاشوا اضطرابًا بسيطا أو لا اضطراب، ولم يدرك الكثير منهم أنّ أمرًا خطيرًا أصابهم».

ثانيًا وعي الكائنات الحية بالمها:

ينبهنا عدد من ملاحظاتنا أن تجربة الألم عند الكائنات الحية ليست سواء:

  • يبدو أنه ليس عند الحيوانات رؤية ذاتية بتجربتها (first – person perspective on their experiences)؛ ولذلك فلنا أن نشك في أنها قادرة على أن تحمل إحساسًا واعيًا بنفسها غير متقطع عبر مدى حياتها.
  • تتفق الدراسات الفلسفية لظاهرة الوعي (consciousness) أن طبيعة الوعي في الكائنات الحيّة ليست على شكل واحد، وإنما هناك عدة مفاهيم ودرجات للوعي.
  • الإنسان نفسه يتعايش مع درجات مختلفة من الوعي بذاته، فالعمي الذين فقدوا أبصارهم نتيجة تلف في القشرة البصرية الرئيسية (primary visual cortex)، رغم أنهم يعتقدون أنه ليس بإمكانهم رؤية الأشياء من حولهم إلا أنهم قادرون على تحديد ما في مجالهم البصري وما يحدث فيه من تغيير. وهم بذلك على وعي بما لا يرون. كما يذكر مرضى آخرون ممن أجريت عليهم عمليات جراحية على القشرة المخية أنهم «يشعرون» بالألم كالسابق لكنّهم توقفوا عن الشعور بأنّه شيء بغيض.
  • يبدو أنّ الحيوانات لا تملك القدرة على مراكمة تجربتها مع الألم لأنّها لا تفكر في معاناتها، ولذلك فهي لا تعيش تجربة الألم على الصورة التي نعيشها. إن طبيعة النسيان فيها تحميها من معاناة تراكم تجربة الماضي مع الحاضر، أو بعبارة أخرى تعيش الحيوانات تجربة الماضي والحاضر باعتبارها واحدة، فهي ترى الماضي والحاضر في صورة «الآن»؛ أي: إن تجربة الماضي تنبه تجربة الحاضر ليكونا واحدا، في حين أن تجربة الإنسان ليست مجرد استرجاع للألم الماضي وإنما هي أكبر من ذلك، فالإنسان يقارن بين آلامه، وينشئ ترتيبا بينها وتجتمع في ذهنه تجارب الماضي وهواجس المستقبل. إنّ الحيوان لا يحمل تصورًا عن الزمن، ولا معرفة بالماضي، ولا اعتبارًا للمستقبل بما يجعله غير مثقل بآلام الماضي وخوف المستقبل عندما يعيش لحظة الآن الموجعة.

نحن لا ننكر إحساس الحيوان بالألم وإنّما نوضح أن افتقاد الحيوان الزمني التراكمي يجعل إحساسه بالألم أدنى بكثير من الإنسان الذي يعود جلّ ألمه إلى طبيعة وعيه وتركيبه العصبي والنفسي.

  • يجب أن يُلحق الألم “بالوعي” لا “الشعور” لأنه أقرب إلى البنيان السيكولوجي منه إلى الفيزيولوجي، وهذا أمر تشهد له ساحات المعارك والقتال، كمثال، حيث كثيرًا ما يفقد المقاتل شعوره بالألم على خلاف ما لو كان في حال أكثر طبيعية.

بإمكاننا أن نقرر انطلاقا من الملاحظات السابقة أن:

  1. استمرار التجربة هو عنصر أساسي لوعي الكائن الحي بألمه.
  2. تفتقد الحيوانات خاصية دوامية التجربة، ولذلك:
  3. = لا تعيش الحيوانات الألم كما نعيشه.

خلُقيا: يجب أن ننظر إلى أربعة أمور عندما ندرس ألم الحيوان:

الأول: إذا كانت الحيوانات تتأذى بغير جرم ارتكبته؛ لأنها غير عاقلة (وغير مكلفة)، فكذلك هي تتنعم بغير فضل أتته. علما أن حياة الحيوان في مجملها تنعم بالخيرات التي وهبت له من غير جهد.

الثاني: من أين للمعترض أن الله سبحانه لم يعوّض هذه الدواب؟ هل علم كلّ ما منحها الله من خير؟ وهل قاس النعم التي أوتيتها البهائم بالعذاب الذي يصيبها ليدرك أنّ الألم يربو على المصائب؟ هل تبين له أن الله سبحانه لا يرزق البهيمة بعد كل بلاء تعويضًا؟ إن عدم العلم ليس علمًا بالعدم! وليس الجهل حجّة للنفي. والأصل الذي يجب أن يُردّ إليه الأمر – إذا كنا نفكّر ضمن منظومة التصوّر الإسلامية – هو قوله تعالى: )وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( [الأعراف: ١٥٦].

الثالث: لا يصح القول: إنّ ظاهر الأذى الذي يصيب الحيوان مجاني بلا قيمة؛ إذ إنّ الكثير من هذه الآلام تساهم في النماء البدني للحيوان فإحساسه بالجوع مثلا، يحفزه على تطلب الغذاء، وألمه منذر له بأسباب الأذى والهلاك. فالأذى من هذا الوجه هو من أسباب الحفاظ على الحياة.

الرابع: صلاح الكلّ يقتضي تضحيات من الأجزاء، وصلاح المنظومة البيئية يقتضي أن يكون هناك تكامل بين أفرادها، حتى يصبح موت الحيوانات سبيلا لبقاء النوع الحيواني.

امتحان الإيمان:

ما هي صورة الكون الخالي من الشر المجاني في حسّ المعترض؟ إنّه عالم محدود الآلام، يدلّ كلّ شر فيه على حكمة وراءه؛ فما إن تبصر عينك شخصا يتوجع حتى تعلم أنّ هناك خيرًا يوازي هذا الأذى أو يربو عليه… إنه كون بسيط، شفاف، لا يزعج العقل ولا يقلقل النفس!

تُعارضُ الطبيعة الشفافة للكون الذي عقلنه الملحد حقيقة الإيمان الذي يطلبه الربّ، والذي هو إيمان فطري وبرهاني لكنه محاصر بالشبهات. وبيقين المؤمن بحقيقة الخلق والعناية يتغلب على الشبهات؛ فوجود شبهات تفوق في ظاهرها الحد الأقصى المفهوم فهما مباشرًا هو ما يتوقعه المؤمن في عالم يمتحن فيه بالشبهات كما بالشهوات، ولذلك بدأت سورة البقرة بمدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم )يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ( [البقرة: 3]. وأقصد “بالفهم المباشر”. ما يدلّ عليه النظر المباشر في أعيان الشرور وعلاقتها بمالها اللحظي الذي يسهل على الجميع إدراكه.

العناية الإلهية والسنن الكونية:

ذهب بعض الثيوديسيين إلى أنه يحسن بالإلهيين ألا ينكروا وجود الشر المجاني، ومن هؤلاء الفيلسوف (بروس لتل) (Bruce little) الذي أكد أنه علينا أن نتخلى عن التصوّر الكلاسيكي «للعناية الإلهية الدقيقة» (classic meticulous providence) لاعتقاده أنّه يلزم من القول بالعناية الدقيقة أن يتدخل الله كلّ مرة ليخرق النواميس الكونية منعا لوقوع الشر إذا لم يكن سينتج عنه خير أعظم أو يندفع به شر أكبر، وانتهى إلى أنّ هذا العالم سيكون عالمًا جبريًا لا مكان فيه الحرية الإرادة.

وأضاف أنّ السماح بوجود الشرّ في عالم تحكمه القوانين الكونية المستقرة يلزم منه وجود الشرّ المجاني لأنّ هذه القوانين لا تحابي أحدًا ولا تميز بين حال وآخر، وهو ما يسمح لنا بتقرير أن وجود هذا الشر المجاني لا ينال من الكمال الأخلاقي لله. ولذلك ميّز (بروس لتل) بين العناية التي تسلب العالم ذاتيته والإنسان حريته – كسلطان قائد السيارة لسيارته -، والعناية التي تسمح للخلق أن يختاروا ويتحمّلوا آثار اختياراتهم – كعناية ربّ الأسرة بأسرته – العناية الأولى ذات طابع ميكانيكي، في حين أنّ الثانية تُعنى فقط بالخطوط العريضة لمسار أفعال الناس، وللعبد أن يفعل بإرادته ما شاء بين هذه الخطوط.

الميزة الكبرى لهذا الطرح الثيوديسي أنّه لا ينكر وجود الشر المجاني، ولذلك فهو يسحب من الملاحدة أقوى ما يملكون؛ أي: ظاهر مجانية ما نعرف من شرّ بما ينقل باب المواجهة مع الملاحدة من وجود الشر المجاني إلى دعوى اقتضائه أن يكون مطعنا في عدالة الله المتنازع في وجوده!

نحن لا نتبنّى ظاهر هذا الطرح، وإن كنا نعتقد أن خلافنا معه بالأساس هو خلاف لفظي، فإنّ وصف الشرّ بالمجانيّة غير سليم إن كان في مقابل المحافظة على: حرية الإرادة التي هي شرط الاختبار الديني في هذه الحياة، والسنن الكونية الطبيعية التي لا حقيقة لحرية الإرادة بدونها. فالقول: إنّ الشرّ الذي يبدو مجانيًا هو على حقيقته مجاني لأنه ضريبة لوجود حرية الإرادة والسنن الكونية غير سليم، وإنّما الصواب القول إنّ هذا الشرّ «مبرّر»؛ لأنّ السماح بوجوده مقابل بخير أعظم منه، وهو حرية الإرادة وثبات النواميس الكونية، وبذلك نلتقي مع طرح (بروس لتل).

إنّ العالم الذي تُعطل فيه النواميس كل حين، حيث تتدخل الملائكة لإنقاذ الغزلان من خطر أن تحترق وهي حيّة، وتتلاشى الكائنات المجهرية بصورة سحرية من على جلود الحيوانات، وتختفي الخرفان بصورة إعجازية من أمام الأسود… هو عالم معيب، والعيب فيه «في أقل اعتبار، هو في نفس حجم العيب المتمثل في وجود أنماط من المعاناة مساوية خلقيا للموجود في هذا العالم»، وهو ما عبّر عنه (سنايدر) بأنه عالم فوضى، لانتفاء العلاقات الدائمية المنتظمة بين الأحداث المتتالية؛ فلو رميت كرة إلى الأعلى، فقد تنزل مرّة، وتستمر في الارتفاع في أخرى، وتميل في ثالثة يمينا أو شمالًا دون داع فيزيائي. إن عالما بلا ناموس طبيعي مستقر بإمكاننا أن نتنبأ فيه بمآل حركاتنا وأفعالنا، هو عالم لا معنى فيه للإرادة والاختيار والحرية.

إنّ توفّر طبيعة الانتظام في أحداث الكون وثبات أصل السبية، هما من أعظم شروط الحياة المعقولة والإيجابية، إذ بالانتظام تتوفر عدة أمور، أهمها:

أ – وجود الإرادة العاقلة الحرّة: الانتظام السنني يوفر بيئة ضرورية لسلامة التفكير العقلي واستنباطاته وتوقعاته؛ إذ إنّ عالما بلا قانون فيزيائي مستقر، لا يمكن أن يقبل في إطاره ذاتا عاقلة تريد أن تفعل، وتأمل في الفعل، وتحلم أن تجتني من فعلها ما تريد.

ب – وجود الكائن الأخلاقي: ما الخير والشر في عالم الفوضى العشوائية أو الخوارق المستقرة؟! إنّ الخير لا يُتوقع من إنسان إلا إذا كانت له نية خاصة لإحداث أثر مخصوص وكذلك الشر، هو فعل بنية سيئة لإحداث أثر مخصوص، ولكن كيف يحدث الخير أو الشرّ في كون لا يملك الفرد أن يختار فعله وأن يحققه في الأرض؟! إنّ الإنسان في عالم اللاناموس لا يملك أن يكون كائنا أخلاقيا؛ إذ «الإلزام السُّنَني.. شرط أساسي ليكون العالم مسرحًا لحياة أخلاقية».

ج – تنمية الذات: لا يملك الإنسان في كون لا يحكمه قانون مادي أن يعرف نفسه ولا أن ينمّيها لأنه لا يراكم على مرّ الأيام تجربة من زَرْع التكرار.

د – معرفة الخالق: لا يملك الإنسان في عالم الفوضى أن يعرف ربه وصفاته؛ إذ إنّ معرفة الربّ عقلا وعلما هي ثمرة النظر في الكون وأشيائه والقوانين وإبهارها، والثبات وإيحائه، ولا تملك الفوضى أن تبعث من هذه الأمور في النفس شيئًا؛ إذ الفوضى لا تورث في النفس غير الحيرة وشعور الاغتراب.

إنّ عالم الملحد، الكافر بالسببية، هو في أقصى صوره تفاؤلا لا يفضل عالمنا في جوهره، بل هو عالم «لا يطاق». والقول بفساده وأن شره يربو على شر عالمنا، هو أحد اعتراضاتنا على شبهة الشر الإلحادية، وهو ما سماه (إنواجن) بـ “The anti- irregularity defense».

إنّ ما يبدو «شرًا مجانيًّا» هو عنصر أساسي وجوهري في كمال عمل السنن الكونيّة؛ فإنّ عمل السنن المحايد في الكون مبرر لأحداث لا تبدو أفرادها – إذا نظر إليها وهي منعزلة – موصولة بالحكمة. فلا بد إذن أن يُنظر إلى الأحداث المتفرّقة ضمن نسق كوني كامل يسير ضمن منطق داخلي خاص يفقد حكمته إذا تسلّطت عليه الخوارق المكثّفة حتى يتحوّل خرقها إلى ناموس جديد خارق لناموس العادة. إنّ هذه الشرور التي تبدو مجانية، مبررة في ميزان الحكمة بالخير العظيم الذي يربو عليها والذي هو أثر للانتظام السُّنَني (nomic regularity)، وهو ما يجعل هذا الشرّ خارجًا عن تعريف الشرّ المجاني في معجم (ويليام رو) نفسه إذا ما نظرنا إليه من هذه الزاوية!

إنّ تصوّر وجود إله يتدخل بصورة مكثفة لنقض النواميس الكونية المدركة عيانا يعني أنّ هذا الإله قد خلق عالمًا سيئًا فاسدا مما اضطره إلى التدخل بلا توقف ليصلح فساد ما خلقه، وهذا تصوّر فاسد ينقض نفسه ابتداء!

لا يلزم مما سبق أنا نوافق من ينتصرون للثيوديسيا الناموسية الصارمة – كالفيلسوف (بروس ريكنباك) (Bruce Reichenbach) الذي يرفض أي خرق لانتظام السنن المادية للكون لدفع بعض شروره، وإنما نقول: إنّ معبود المسلمين – سبحانه – متعال على الإله الأرسطي، فهو حاضر بسلطانه وعدله ورحمته في كل حين، وهو يصرّف الأمور ويعدّل الأحوال، ولكن دون أن يكون ذلك عبر خوارق مكثّفة ظاهرة تذهب بالحكمة من السنن المادية، وإنما بتوفيق الإنسان إلى اختيارات صائبة ودفعه إلى غير مواطن الضرر، وتهيئته لأمور نافعة أو تعديل طبائع الأشياء على صورة خفية، كل ذلك على صور لا تكسر أمام عينيه قوانين المادة، وإلا فما معنى إجابة الدعاء، وإغاثة الملهوف، ونجدة المحتاج؟!

 

التعويض الأخروي:

قد يقول معترض: «أنا أوافقكم أنّ صلاح الكل يربو في قيمته على السماح لبعض الشرّ أن يوجد لكنّ ذلك لا يلغي حقيقة أن أبرياء يقعون ضحية هذا الشر؟!».

وجواب ذلك هو أن اختزال الوجود الإنساني في هذه الحياة الدنيا وقطعه عن كل وجود آخر، يسبغ صفة السلبية على ما يؤذي الإنسان. إنّ الحياة الأخرى في التصوّر الإسلامي هي تتمّة لازمة للفصل الأول من الوجود البشري في الحياة الدنيا بل هي الحياة الحقة. قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِب وَإِن الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ([العنكبوت 64] هي الحياة الحقة، أما دار الدنيا فكالخيال الذي لا حقيقة له. ولما لم يهتم الثيوديسيون الغربيون بأمر الآخرة، إلا قلة قليلة كـ (تشاد مايستر) (Mister)، بقيت نظرتهم إلى الشر عاجزة أن تجمع بين الشر وبين مفهوم العدل الإلهي المطلق.

إنّنا نقرّ للملحد أنّ الحياة الدنيا كما نعيشها لا تعكس في أوجه منها العدالة التي نريدها ونوافقه «أن الحياة غير منصفة»، كما يُقال في المثل الشعبي الغربي، لكننا لا نردّ ذلك إلى أنّ عالمنا يفتقد إلها حكيمًا، وإنما أصل الخلل هو في قصور رؤية الملحد لمجال حياة الإنسان؛ إذ قَصَر نظره على حياة الامتحان والمكابدة على هذه الأرض فرأى إجرام (نيرون) وفظاعة (هتلر)، وشناعة أحداث (نكازاكي)، وأحزان الأطفال المشوهين، وأوجاع العجائز المشرّدين، لكنه لم يمدّ نظره إلى الحياة الأخرى التي تمثل حياة الجزاء حيث تجزى كلّ نفس بما كسبت ودار المستقر حيث لا دار بعدها وهي بقياس الحساب أطول وأعظم من هذه الدنيا الضئيلة بما لا يقدر بعدد؛ إذ كلّ شيء عدم أو يكاد أمام حياة الأبد.

إن ضيق النظرة والحدود المتقاربة لأضلع الوجود الإنساني زمانًا، هي التي جعلت الفيلسوف الملحد (ويليام رُو) يرى في محنة الطفلة المغتصبة شرا خالصا لا حكمة من الممكن أن ترفع عنه «مجانيته» الظاهرية. وهنا لا يجد المسلم نفسه في مأزق؛ لأنّ الأطفال وإن كانوا لا يتحملون وزر هذا الإجرام ولا يفيدهم هذا النوع من الوحشية المهلكة شيئًا في الدنيا، إلّا أنّنا نعلم أنّهم في الآخرة في الجنّة متنعمين فيها أبدا، سواء كانوا من أبناء المسلمين أم من أبناء الكفار. فهل تقاس محنة دقائق أو ساعات أو أيام أو أشهر أو سنوات بنعيم مقيم لا تنضب حلاوته وتتجدّد نداوته؟! إنّنا – كمسلمين – لما نقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ”، ندرك أن ابتلاءات الدنيا هدر إذا ذكر نعيم الآخرة، وأنّ محنة هذه الطفلة لا تساوي قطرة في بحر النعيم الذي يرتقبها، وأنّ الله يعاملها بفضله لا بعدله، إذ يدخلها الجنة التي يتضاءل أمامها كل أذى دنيوي.

فإن قيل اعتراضًا: قد سلّمنا أن مآل الطفلة قد رفع عنها الظلم، لكنّ ذلك لا يُثبت لوقوع هذه الجريمة حكمة!

قلنا: إنّ حقيقة خلق الله إرادة في الإنسان على فعل الخير والشر ضمن قصة الوجود الدنيوي حتى يتنعم المحسن ويعذب المسيء، تقتضي ألا يُحد فعل الإنسان الضال بأمور لا يتعدّى ضررها غيره، إذ إنّ طبيعة الوجود الإنساني فيها من التداخل والتشابك ما يجعل حياتنا أرض امتحان وابتلاء. ولما كان الفعل الإنساني الشرير يتعدّى في غالب أمره إلى غير فاعله، أبقاه الله سبحانه حتى يتسلّط على إرادة غيره، ثم يكون القصاص يوم القيامة. أما ضحية الفعل الشرير؛ فإنّ رحمة الله سبحانه تناله في الآخرة يقينا، وفي الدنيا غالبا؛ مما يرفع عنه مظلمته. إننا لن نفهم الشر والحكمة منه إن أصررنا على النظر إلى الدنيا كقصة تنتهي عند حافة القبر دون أن نجعلها فصلا أوّل في قصة أطول لا تنتهي أبدا، بل تتالى أيامها بلا انتهاء.

خلاصة الكلام أنّ حريّة الإرادة البشرية عنصر جوهري في الوجود الإنساني يربو فضلها على كل شر دنيوي؛ لأنّها مرتبطة بسبب وجود الإنسان على الأرض ومآله يوم القيامة.

تصرّ بعض الأنفس المهتاجة على المكابرة في هذا المقام، تقليلا من أمر النعيم المقيم بقولها: إنّ أيّ نعيم عاقب لا يبرّر أذى عاجلا! وهنا يقف العقل ولا يدري كيف يجيب إذ يعاند هؤلاء في التفاضل اللامتناهي بين حلاوة الآخرة وعذوبة نعيمها الذي لا ينتهي وأذى قصير لا يلبث أن يمضي. هنا ينكشف الفارق بين النفس التي تبحث عن الحق لأجل الاهتداء والنفس العنيدة التي تبتغي الانتصار لهواها أو عاطفتها بعد أن أصابها الظلم والكدر.

هذا الذي يعاند في قيمة جنة الخلد هو نفسه يشقى بأعوام الدراسة والاختبارات والسهر الطويل لينال شهادة يطلب بها رزقا يقيم أوده، ولا يرى في تعب تلك السنين ولا مشقة العمل اليدوي أو الذهني الذي يفارق النوم لأجله صباحًا ولا يتركه مساءً حتى يأخذ زهرة يومه ظلمًا ما دام يوفّر رخاء ساعات في منزل متقارب الجدران مهما اتسع ومأكل سريع النفاد، مهما كثر. أيكون الجزاء الدنيوي الزهيد على تعب السنين عدلاً، ويكون النعيم الذي يربو على خيال الخيال لأجل شر زائل ظلما؟! تلك إذا قسمة ضيزى!

وكيف تتكبر نفس على نعيم يثير حسد أهل الآخرة ممن لم يمسهم الأذى في الدنيا؟ وكيف تستصغر عين عظم جزاء الصبر على الفتنة والبلاء في هذه الدنيا، وقد جاءها الخبر أنّه «يُؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ وهل مرّ بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤس قط! ولا رأيت شدة قط!»؟! هناك.. حيث يرى الإنسان نعيم الجنّة عين اليقين، تنقشع عن النفس غمامة الكبر وتتجلّى الأشياء كما هي على الحقيقة، فيصغر في العين صغيرها وتعظم الأمور العظام.

لم يرض الفيلسوف الملحد (ستيفن ميتزن) (Stephen maitzen ) بالتعويض الأخروي لدفع العبث والظلم عن فعل الربّ، وسمّى هذا القول بثيوديسيا «الجنّة تغمر كلّ شيء» «Heaven Swamps Everything»، وحسم اعتراضه بقوله : إذا كانت الجنّة تغمر كلّ شيء، فإنها بذلك تبرّر أي شيء !. فالجنّة، في رأيه، وإن كانت تمسح بنعيمها كل شر في الدنيا، إلا أنها لا تبرر للحكمة الإلهية سماحها أن ينال الناس أذى في الدنيا.

لم يفلح (ميتزن) في فهم حقيقة التعويض الأخروي لأنّه كان يحاكم التصوّرين اليهودي والنصراني، ولم يعلم أنّ الإسلام يرى لأذى الدنيا حكمًا كثيرة، حتى لو كان ناتجا عن قانون فيزيائي صرف، وعلى رأسها أنّ الدنيا أرض فتنة وابتلاء وسلاح العاقل فيها الصبر وليس في اليهودية ولا النصرانية هذا المعنى الذي يجعل لمن أصابه شر دون جناية في الدنيا، جزاء الثبات في الآخرة. أمّا من كان من غير أهل الامتحان كالطفل، فابتلاؤه أقصر أمدًا، ونجاته في أنه لا حساب عليه يوم القيامة، بل ويأخذ بثوب أبويه فيدخلهما الجنة، فزاد الله جلّ وعلا له من العطاء دون عمل أو نَصَب.

مشكلة الخير المجاني:

يكمن صلف شبهة الشرّ المجاني في استفزازها المؤمنين أن يأتوا بتفسير مباشر أو مفصل لما يبدو من شرّ بلا ظاهر، حكمة، لكن هذا الإلحاح الإلحادي على الوصول إلى جواب ملموس حيني يتلاشى عندما يسأل المرء عن سبب وجود الخير المجاني. والمقصود بالخير المجاني في عالم ميكانيكي أو عشوائي يسير على غير هدى هو في أضيق تعريف ممكن: «كلّ خير لا يخدم وظيفة إبقاء الإنسان أو الكائنات الحيّة على قيد الحياة، أو لا يقتصر على ذلك».

من أهم مظاهر الخير المجاني «الدماغ البشري»؛ إذ إنّ الطاقة الذهنية التي تطلب منه لتحقيق أسباب الحياة أدنى بكثير من طاقاته الكامنة فيه؛ فالإنسان البدائي الذي يعيش في غابات الأمازون قادر على طلب الغذاء والسقاء والسكن ودفع شرّ الحيوانات الضارية وهذا أمر من الممكن تفسيره ضمن آلية التطوّر الداروينية وإن كنا لا نقبلها التي تزعم بقاء الأصلح؛ أي: القادر على التعامل مع أسباب الحياة ومواجهة عوامل الانقراض والفناء، لكن الداروينية تقف عاجزة عن تفسير وجود عقل (الشافعي) و(ابن حزم) و (إسحاق نيوتن) لأنّ هذه العقول تكشف عن ملكات تتجاوز بكثير حاجات البقاء؛ فعبقرية التأصيل المعرفي والحفر الفكري والاختراع ليست شرطا للبقاء، ولا محلّ لها في آليتَيّ الطفرات العشوائية والاصطفاء الطبيعي. وتسمّى هذه الحقيقة اصطلاحا بـ (مفارقة والاس) ((Wallace’s Paradox نسبة إلى ألفرد والاس (Alfred Wallace)، وهو عالم تطوّري معاصر (لتشارلز دارون) كان قد توصل إلى جوهر المفهوم التطوري الدارويني، غير أنه خالف (دارون) في أمر الوعي الإنساني؛ إذ قرّر أنّ هذا الوعي هو نفحة إلهية ولا يقع ضمن الآلية المادية للتطوّر لأنّ التطوّر لا يملك تفسير الخير المجاني في الملكة الاستعرافية البشرية والتى تتجاوز طلب أساسيات البقاء.

وما زالت مسألة الوعي البشري – في حده الأدنى ـ نفسه معضلة في المنظومة الداروينية، أو بعبارة العالم التطوّري (س أو. سميت) – صاحب کتاب (نحو فهم للدماغ) – في مقاله (مشكلة داروين) التي لم تُحل: «ما زالت مشكلة [داروين] الأولى بلا حل… ربّما كنا أقرب من قبل إلى فهم كيف نشأ العالم الحي على سطح هذا الكوكب… ولكننا لسنا أقرب في الفهم من داروين بعد قرن ونصف من معرفة أمر كيفية… الوعي الحسّـ الحسّي».

فالفهم المادي عاجز عن تفسير الوعي نفسه، فضلا عن الوعي الفائض عند الإنسان.

ومن مظاهر الخير المجانيّة هذا الجمال المفرح في الكائنات، إذ إنّنا إن قبلنا جدلًا الداروينية كتفسير أقصى لظهور هذه الكائنات، فسنبقى نسأل عن الأشكال الجمالية الماتعة في الكون والتي لا تقترن بسبب جبري لوجودها! ولذلك يقول (ستيوارت برجس) (Stuart Burgess) – أستاذ التصميم والطبيعة ورئيس قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة برستول -: «الجمال الزائد عن الضرورة]… يمثل حجّة قوية جدا للتصميم؛ لأنّه لا يوجد سبب ميكانيكي لنشأة جمال المظهر».

قال تعالى: )وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ( [النحل: ٥، ٦]، فالجمال مخلوق قصدًا لإمتاع الإنسان، مع ما في الكون من وسائل الدفء والاغتذاء، وهو ما يؤكد أن الجمال مخلوق لذاته، وأنه حقيقة موضوعية قائمة بنفسها بما فيها من صفات في الأشكال والألوان والإيحاء الذهني.

ومن مظاهر الجمال المنعش ريش الطاووس بتناغم ألوانه وأشكاله وبهائه الذي يستوقف البصر قسرًا، وقد كان (داروين) – كما يقول بلسانه في رسالة إلى (أسا غراي) ((Asa Gray – عالم النبات الأمريكي المشهور – سنة ١٨٦٠؛ أي: بعد سنة من نشر (أصل الأنواع) – يشعر بأزمة فكرية كلّما رأى ريش الطاووس: «منظر ريش ذيل الطاووس يجعلني أشعر بالسقم كلّما أمعنت النظر فيه»، فهو يندّ عن تفسيره المادي لنشأة الكائنات، والذي يقوم على فكرة (بقاء الأصلح) survival of the fittest))، غير أن (داروين) طوّر بعد ذلك نظريته في كتابه(The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex) الصادر سنة ۱۸۷۱م، ليزعم أنّ جمال ريش الطاووس يعود إلى آلية “الاصطفاء الجنسي” “sexual selection”؛ إذ تختار الأنثى الذكر الأجمل للتزاوج، وهو ما يعني بقاء الأجمل وانقراض الأدنى جمالاً. وهذا الردّ قاصر وساقط؛ ويتمثل قصوره في أنّ الاصطفاء الجنسي – إن صح كتفسير – يفسّر بقاء الأجمل ولا يفسّر ظهور الأجمل، وقضيتنا هنا ليست لِمَ عاش الطاووس الجميل؟ وإنّما لِمَ ظهر ابتداءً على هذا الشكل البديع؟ وأما سقوطه فيعود إلى بحث أجراه مجموعة من العلماء في اليابان رأسهم (ماريكو تكهاشي) (Mariko Takahashi) من جامعة طوكيو، وأثبت بعد دراسات وأبحاث متأنية لسبع سنوات أنّ إناث الطاووس لا تهتم بجمال الذكور عند التزاوج، بما يبطل وهم (داروين)، ويفتح في نظريته شرحًا جديدًا. ثمّ إنّ الحل الذي أورده (داروين) لم يزده إلا رهقا؛ فقد أعرب (داروين) عن انبهاره بوجود حاسة تذوق الجمال عند أنثى الطاووس، لكنه لم يفسّر لنا أصل القدرة على تذوّق الجمال في العجماوات، ولا هو قدّم داعي غلبة الحس الجمالي في الحيوان على ضرورة التمويه (camouflage) لكيلا تكتشف الحيوانات الأخرى هذا الكائن فتفترسه ولا طبيعة التعقيد الجمالي في الريش، وهي مشاكل تضاف إلى رصيد حجة الخير المجاني في عالم مادي صرف.

والجمال مهيمن حتى على عالم الرياضيات وهو عالم مجرد بصورة بحتة، وقد اعترف بسحره حتى (برتراند راسل) الذي أقرّ أنّ «الرياضيات لا تملك بحقِّ الحقيقة فقط، وإنّما أيضًا أقصى الجمال». وهذا الجمال سر غير مادي لا يملك له العقل تفسيرًا ماديًا، كما أنّه قد أصبح عنصرًا أساسيًا في قبول النظريات العلمية ورفضها حتى قال ((أنشتاين): «النظريات الفيزيائية الوحيدة التي نحن على استعداد لقبولها هي الجميلة منها» “The only physical theories that we are willing to accept are the beautiful ones”

إنّ الجمال هو قانون علمي ناطق في الوجودين الذهني والمادي؛ ولذلك كتب (ج. ه. هاردي( Hardy) G H ) في مؤلفه (دفاع عالم رياضيات):

«يجب أن تكون أنماط علماء الرياضيات جميلة كأنماط الرسامين والشعراء؛ فالأفكار كالألوان والكلمات لا بد أن تتألف بصورة متناسقة. إنّ الجمال هو أول اختبار لا يوجد محل دائم في العالم للرياضيات القبيحة». وقال عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي (هنري بوانكري) (Henri Poincare): «الإحساس بجمال الرياضيات وبتناسق الأرقام والأشكال وبالأناقة الهندسية . . . [هذا] الشعور الجمالي الحقيقي الذي يعترف به كلّ علماء الرياضيات الأصيلين يشكّل “غربالا دقيقا».

إنّ واقع هذا الخير المجاني أفصح من أن يلاجج فيه ملاجج؛ فإنّ النعم التي تحيط بالإنسان كثيرة ومتنوعة وهي توفّر له أسباب المتعة والنشوة والفرح وهي التي تشدّه إلى هذا الوجود رغم ما فيه من شرّ، وتربط على قلبه إذا ضربته المحن والحق هو أنّ هذه النعم لا تظهر في بعض أمور مشتتة وخيرات مبعثرة، وإنّما العقل والعلم يدركان أنّ الكون بأكمله مسخّر للإنسان، ليحفظ بقاءه ويحفظ متعه إلا ما شدّ من مكدّرات.

قال تعالى: )أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَعَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَهِرَةً وَبَاطِنَةٌ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ منير( [لقمان: ٢٠].

)اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار([إبراهيم32ـ34].

)هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون([النحل10ـ 16].

إن هيمنة الخير المجاني على مظاهر حياتنا الطبيعية لا يمكن أن تفسّر إلا بواحد من أربعة أسباب:

الأول: العبث وهو جواب ينتهي إلى أنّ الحكمة البارعة قد تخرج من رحم العشوائية العمياء.. وهذا عين الجفاء!

الثاني: الضرورة وليس وراء الضرورة ما يفسّر حتميتها.. وليس في نقض ذا عناء!

الثالث: الوهم وهل ينكر المحسوس عاقل – إلا أن يشاء ـ؟!

الرابع: إله كامل القدرة والرحمة وليس في معقولية هذا الجواب خفاء!

ومن الطريف هنا أن من الملاحدة من يستدلون بالخير المجاني لإنكار وجود الله بالقول: لماذا يكون خلق الكون بعظمته الآسرة للألباب وجماله الآخذ بالأبصار، لأجل هذا الإنسان التافه في كرة الأرض التي لا تساوي حبة رمل في هذا الكون الفسيح؟! وكأنهم يحسبون أن الله سبحانه يفتقر إذا أعطى، أو يضنّ بالعطاء لمن كان قليل الحظ من العظمة وربّنا يقول: )أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيا( [الزخرف: ٣٢]. وقال سبحانه: )وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ( [المائدة: ٦٤].

وهكذا هو الإلحاد، يستدل بالشيء وضدّه إذا أعوزه البرهان الصادق!