تعزيز اليقين وهداية الحيران

عالمنا وعالم الملحد

عالمنا وعالم الملحد

 

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ[المؤمنون: ٧١]

إذا كان الملحد لا يرضى بغير عالمه (الوردي) الذي صنعه خياله وتفياً ظلاله حتى يستقيم في العقل وجود خالق عليم قدير خير، فإنّنا سنطلق لخيالنا مع خياله العنان، وننتقل جميعا إلى عالمه، لنتبين إن كان حقًا هو أفضل من عالمنا “المستبشع”.

ولنا أن نتساءل ونحن نسير إلى عالم الملحد البريء من الفساد:

  • هل بلغ عالم الملحد صورة الكمال التي ينفي نفيها وجود الإله؟
  • هل أخرج الاعتراض الإلحادي الملحد من مشكلة الشر أم أنه قاده إلى شر مما يحاذره؟
  • هل يمكن للقلب أن يعاند إذا برئ من الأهواء؟

عالم الملحد المعترض ليس كاملًا

العالم الذي يفترض الملحد أنَّ الفعل الإلهي كان عليه أن يصنعه هو عالم غير كامل على الحقيقة؛ لأنه عالم فقد فيه الإنسان أهم خصيصة، وهي حرية الإرادة، فهو عالم جبري لا يعدو فيه قدر الإنسان ريشة تحركها الرياح أين شاءت وأنى شاءت، وإن شئت قل: إنّ الإنسان في هذا العالم مجرّد دمية تصنع على مقاس واحد وتتحرّك على سكة إلى اتجاه واحد كل ما فيها فاقد للسلطان الذاتي، حتى مشاعر الفرح والأمل والرجاء ليست إلا انطباعات ميكانيكية على القلب أو الوجه.

وقد علّق (ج. أس. ويل) (Whale J.S) على قول الملحد الشهير (هكسلي) (Huxley) إنّه لو عَرَضت عليه قوّةٌ عظمى منحة ألّا يفعل إلّا الحق، على شرط أن يتحوّل إلى كيان أشبه بالساعة؛ فسيوافق على هذا العرض لأنّ الحرية الوحيدة التي لها قيمة، هي حريّة فعل الصواب، قال: «إنّ “حرية” الساعة هي أبعد ما يكون عن أن تسمّى حريّة، إنّها ضرورة ميكانيكية مطلقة. افتراض (هكسلي) يلغي النتيجة التي أرادها؛ لأنه يهدر الشيء الصميمي في الشخصية البشرية، فالكائن غير القادر على أن يفعل الخطأ غير قادر أيضًا على أن يفعل الصواب، إنّه ليس بشرًا البتة وإنّما هو آلة ميكانيكية الحركة. إنّه ليس روحًا حرّة قادرة على أن تتعلم الرضوخ من آلامها وإنما هو روبوت [رجل آلي] مثل الإشارة الضوئية عند مفترق الطرق».

إنّ “المدينة الفاضلة” للملحد هي عالم بلا فرح؛ لأنها بلا حزن، وهي عالم بلا نجاح؛ لأنها عالم بلا فشل؛ إذ يدرك الإنسان منذ بداية فعله أنه سائر إلى الفوز دون ريب؛ فيفقد بذلك لذة الفرح بانتصاره على فرصة الفشل، وهو عالم لا يستشعر فيه الإنسان معنى الصحة والعافية لأنه لا يعلم أنّ هناك مرضًا وأذى. هو ببساطة عالم ميت بلا حركة عاطفة ولا حركة إرادة، عالم بلا أمل، وبلا شوق وبلا هدف؛ لأنه عالم بلا فشل وبلا طموح؛ فكل ما يريده الإنسان يحصده في حينه ومن عجب أن مثل هذا العالم (بصورة ماديّة مصغرة) قد قاد أصحابه إلى الانتحار في دنيانا بعد أن شعروا أن حياتهم بلا أمل، سواء في عالم الأثرياء الذين جربوا كل المتع واللذات، حتى الشاذ منها، وكذلك كبار السن الذين يتقاعدون عن العمل، ويأتيهم رزقهم رغدا؛ إذ يستشعرون أن حياتهم بلا معنى لأنها بلا كدّ وبلا خوف ولا شوق.

قال (العقاد) في عبارة ماتعة شفّافة تفضح شقاوة العالم الذي الملحد في أحلامه السكرى: «[لـ]نرجع إلى المقابلة بين هذا العالم وبين الذي يتخيله أولئك المعترضون وافيًا بالقصد أو جديرًا بحكمة الله. فإن كان هو أقرب إلى التصوّر فقد صدقوا وأصابوا، وإن كان العالم الذي نحن فيه هو الأقرب إلى التصوّر فقد سقط الاعتراض.

فما العالم الذي يتخيّل المعترضون أنّه أجدر من عالمنا هذا بحكمة الله وقصد المدبّر المريد؟

هو عالم لا نقص فيه فلا نمو فيه، ولا آباء ولا أبناء، ولا تفاوت في السن والتهيؤ والاستعداد، ولا تقابل في الجنس بين الذكور والإناث، بل جيل واحد خالد على المدى لا يموت ولا يتطلب الغذاء والدواء.

عالم لا نقص فيه فلا حدود فيه، وكيف يُوجد الناس بلا حدود بين واحد منهم وأخيه؟ بل لماذا يُوجد الألوف ومئات الألوف نسخة واحدة لا فرق فيها بين أحد وأحد، ولا محل فيها للاختلاف… إذ كان الاختلاف يستدعي نقص صفة هنا ووجودها هناك؟

إذن يُخلق إنسان واحد يُحقق معنى الإنسانية كلّها ولا يكون فيه نقص ولا تعدد ولا تكون له بداية ولا نهاية… فذلك إذن إله آخر مستمتع بكل صفات الكمال والدوام!

عالمهم المتخيل هو عالم لا حرمان فيه. فلا ينتظر فيه الحي شيئًا يجيء به الغد ولا يشتاق اليوم إلى مجهول.

بل ماذا نقول؟ أنقول: الغد واليوم؟ ومن أين يأتي الغد واليوم في عالم لا تغاير فيه ولا تنوّع في التراكيب والحركات؟ إنما يأتي اليوم والغد من تغاير الكواكب بالحركة والضخامة والدوران، فإذا بطل التغاير والتركيب فلا شمس ولا أرض ولا قمر ولا أيام ولا أعوام.

هو عالم لا ألم فيه ولا اجتهاد فيه ولا اتقاء لمحذور ولا اغتباط بمنشود.

هو عالم لا أمل فيه ولا محبة ولا حنان ولا صبر ولا جزع ولا رهبة ولا اتصال بين مخلوق ومخلوق؛ لأن الاتصال تكملة ولا حاجة إلى التكملة بأرباب الكمال.

هو عالم لا ظلم فيه فلا فضيلة ولا رذيلة؛ لأنّ الفاضل هو الإنسان الذي يعمل الخير ولو شقي به ويتجنب الشر ولو طابَ له مثواه. فإذا ضمن الجزاء العاجل على أعماله أولا فأولا فلا فضل له على الشرير. وإذا وجد العالم وفيه أشرار يجزون أبدًا بالعقاب وأخيار يجزون أبدًا بالثواب فذلك ظلم أكبر من هذا الظلم الذي يأباه المنكرون للقصد والتدبير.

هو عالمٌ لا فرق فيه بين الأبد الأبيد واللحظة العابرة؛ لأنك تريد في كل لحظة عابرة من لحظاته أن تجمع حكمة، الآباد وأن تكون مقاصدها هي مقاصد الكون الذي لا تعرف نهاية طرفيه فلا انتظار لبقية الزمن ولا موجب للانتظار ولن يحيا المخلوق المحدود بغير انتظار إلا كانت في حسّه لونا آخر من ألوان الفناء».

إنّه عالم صامت، هامد مفرّغ من “الشيء”؛ فلا شيء!

الجواب الإلحادي، مُسَكِّن ومُؤَزِّم:

القول: إن وجود الشرور في العالم دليل على عدم وجود إله، هو حل للإشكال سهل، شديد السهولة؛ إذ لا يستغرق من العقل جهدًا ولا محاولة لاستكمال صورة الوجود الكبرى هو حل يكتفي بالرفض والوجوم، وهو أيضًا يقدّم حلا كارثيا لا يمكن أن يرضي وجدان الإنسان ولا أن يروي أعماق نفسه المتعطشة لنموذج العدل؛ إذ الإلحاد يجعل الشرور التي في هذه الدنيا بلا عاقبة، ينجو الشرير من شروره، ويمنع المحسن من الجزاء، ولا ينتصف للمظلوم. إنّها مسرحية تراجيدية قائمة المقاطع لا تقود فيها الحبكة الدرامية المتقنة في فصولها الأولى إلى نهاية منطقيّة، وإنّما تنتهي المسرحية في فصولها الأولى القصيرة بلا أمل في “حكمة!”.

إنّ الحل الإلحادي لا يكتفي بالاعتراف بوجود الشر في حياتنا، ولا يقتصر على القول إن الشر عبثي بلا اتجاه ولا غاية وأنّه لا أمل في استخلاص رجاء منه، وإنما يزيد على ذلك ما هو أخطر منه، وهو أن الخير الذي في الدنيا هو نفسه بلا قيمة وبلا غاية إنّها نظرة تعدم في الحياة كلّ معنى وأمل وتفاؤل.

عبر الفيلسوف (أوغسط أوت) (Auguste Ott) ـ في كتابه عن مشكلة الألم – عن موقع الألم من الحياة العدمية التي صنعها عقل الملحد، فقال: «إذا كان الله مجرّد اسم عابث إذا كان كلّ شيء ينتهي بالنسبة لنا بالموت، إذا كان كل أمل في وجود أفضل هو وهم، فلنا أن نتساءل إن كانت الحياة تستحق أن نعيشها. نحن نتحدّث عن التطوّر، ونرغب في ازدهار مستمر لشؤون الإنسان، وتكيّفا كاملا بين الملكات الإنسانية وطبيعة العالم الخارجي، ولكن هل لهذه الآمال البعيدة وربّما، المضلة أن تعوّض الآلام الحاضرة؟ وحتّى لو تحققت فهل ثمراتها الموعودة تدوم أكثر من لحظة؟».

إنّ الحياة كما هي في عيني الملحد بحلوها ومرها، أعظم إيلاما من الشرور في عيني المؤمن فإنّ الحياة التي تنتهي مع نهاية مقدمتها ليست سوى محضن دافئ لمعاني الحسرة والضباع، وما دقات الساعات فيها سوى زغاريد المشانق إذ تنحر أجنّة الأمل، أمّا شرور الحياة في عيني المؤمن فهي مراقيه إلى السعود ومحطات للنصر والظفر، فبالشرّ يكتسب المسير إلى المصير عذوبته في قصة الحياة.

وقد أشار (أندرو دلبنكو) Andrew Delbanco)) في كتابه (الحلم الأمريكي الحقيقي: تأمل في الأمل) إلى أنّ كلّ رواية ثقافية عليها أن تحقق أمرين، أوّلهما أن تمنحنا أملًا، ولا تملك ذلك إلا أن تعيننا على تصوّر نهاية للحياة تتجاوز نصيبنا الضيّق من الأيّام والساعات، وتنتصر على تربص الشك بأذهاننا في أنّ كلّ جهودنا وبذلنا وتضحياتنا مجرد تململات في انتظار الموت. وثانيهما: أن تمكّن الرواية المجتمع المكوّن من أفراد أن يتجانسوا ضمن منظومة كبرى، ليتنازل الفرد عن فرديّته لصالح الصالح العام بشعوره القهري أن العالم لا ينتهي عند ضفاف ذاته.

إنّ هذا الكلام الذي أنثر لفظه أمامك قد يبدو لبعض الشكاكين خروجًا عن مقتضى النظر العقلي الجاد إلى مسلك العاطفة المتقلقلة. والحقيقة هي أن الحديث عن معنى الحياة هو من صميم الكلام العقلي، كما أنّ عاطفة الإنسان ليست كيانا أصم وإنما هي تحمل في ذاتها روحًا ذكية الإدراك. ولعلّ أفضل بيان لما أقوله كلمات خطها أحد الكتاب من حبر روحه المرهفة، يسرد فيها تجربة عابرة، لكنّها عميقة؛ لأنّها بسيطة وسهلة الإدراك؛ إذ هي تستخرج من أعماقنا الدفينة، يقينا موازيا لليقين العقلي، وربّما أكثر؛ إنّه يقين البداهة..

يقول صاحبنا: وماذا بعد الموت!

ألحَّ علي السؤال وأنا أشهد في مقبرة قصيّة – خارج المدينة – مواراة التراب على أربع جثث لعائلة واحدة اغتالتها يد أثيمة في منتصف ليلة سوداء واختفت عن الأنظار.

وإذ كانت جثث الموتى قادمة من مدينة أخرى غير مدينتنا في صناديق أكبر حجمًا لم يألفها حفارو قبورنا فقد اضطرهم ذلك إلى بذل جهد إضافي استغرق أكثر من ساعتين لتوسيع الحفر كي تصلح لالتقام الصناديق الأربع!!..

ودخل الليل وكانت الرياح المغبرة تسفي كآبة وشحوبا. وعندما غادرنا المكان مخلّفين القبور الأربعة الطرية وحدها في الصحراء المتربة، التفتُ ورائي، عبر زجاج السيارة، أدركت معنى أن يبقى الإنسان وحده جثة.. مغروزة في رمال الصحراء!!

وألحَّ علي السؤال: ماذا بعد الموت!

أن يسأل الإنسان نفسه، وهو جالس في بيته بين أهله وأطفاله يأكل طعامًا لذيذاً أو يشاهد برنامجًا مسلّيًا، أو يستلقي مرتاحا على سريره الدافئ، أو يتبادل الحوار الشيق مع أصدقائه في ناد أو مقهى.. ومن حولهم تتمخض حركة الحياة الدائمة عن الأمل والبلادة والمتعة والنسيان.. ليس كمن يسأل نفسه، وهو يلتفت فجأة في أعماق الظلام، الى قبر جديد، وحيد، نبت قبل دقائق في قلب الصحراء، وغادره أقرب أصدقائه وأشد محبيه..

ترى.. لو أن دينًا من السماء لم ينزل.. ودخل في عقول الناس، على مدار التاريخ خرافة الملحدين والعدميين من أنه لا حياة بعد هذه الحياة، لا بعثًا ولا حسابًا ولا جزاء.. وأن نهاية الإنسان المطلقة تجيء عندما يسكت قلبه عن الخفقان ويوارى التراب لكي ما يلبث أن يأكله الدود ويتحول بعد قليل إلى تراب يستعد لاستقبال الحفنات الجديدة من التراب الذي لا يكف عن الانقطاع!!

لو حدث وأن تحقق هذا ماذا سيكون شعور الإنسان، وهو يقف في المقبرة يشهد دفن صديق أو قريب ماذا سيكون شعوره وهو يلتفت بعد دقائق إلى الجثة المواراة وقد خنقها التراب وتركت وحدها في الصحراء!

إن أي مسلم لا يستطيع بفطرته وبداهته ويقينه وإيمانه أن يتصور موقفًا عدميًا كهذا، إنه بمجرد تصوّره يحس بالاختناق، ويستنفر كل طاقاته النفسية للخلاص من المأزق واستنشاق الهواء الصافي النقي.. إنه لا يفرق أبدا بين كابوس لا يرحم يدهمه في المنام وبين إحساس عدمي قاتم يمر بخاطره في المقبرة!!

أكثر من هذا إن المسلم يستمد من موقف الفراق هذا ثقة أكبر بعقيدته التي منحته الأمل الكبير بالبعث والنشور والحساب، وبدينه الذي علّمه دائمًا أن الموت ليس سوى نقلة، نقلة فحسب إلى دار أخرى غير هذه الدار وإلى حياة أخرى غير هذه الحياة.. ويتملكه إحساس عميق بالرثاء والاحتقار لكل أولئك الذين سعوا إلى تزييف الحياة وبترها باعتقادهم أن الإنسان يحيا مرة واحد فحسب ثم يأكله الدود ويلقه التراب، ولا شيء وراء ذلك..

وما أكثر الذين ذهبوا إلى المقابر لتشييع صديق أو قريب، وهم لا يملكون إيمانًا ولا يقينا وإذا بنازلة الموت وبمشهد حصر الميت بين جدران الحفرة الأربع، وإهالة التراب عليه تحرك أفئدتهم الميتة، وتهز عقولهم الكسولة، وتغسل عن نفوسهم الصدئة ما علق بها من رين وغبار… فيغادرون المكان وهم أشد إيمانًا وأعمق يقينا..

وفرق وأي فرق بين انسان مؤمن يرجع من المقبرة وهو يحمل أملًا كبيرًا وبين إنسان ملحد يخنقه المشهد المحزن ويزيده كآبة وضياعًا..

ثم ماذا عن العدل النهائي المطلق! لقد اغتيل أربعة من الأبرياء: أب وأم وطفلان وليس بمستبعد أن يفلت القتلة من طائلة القصاص..

وما قيمة الحياة… وما قيمة الانسان نفسه لو ترك مصيره هكذا معلقا على عدل أرضي لا يملك – في معظم الأحيان – الأداة المضمونة لتحققه ونفاذه؟!

إن الإسلام، ذلك الدين القيّم يمنحنا الجواب في كلتا الحالتين.. ولو لم يكن الدين سوى هذا الجواب لكان في ذلك وحده الدافع الأكبر لالتزامه ومعايشته وتعشقه والتشبث به حتى آخر لحظة من حياتنا التي يعلمنا الإيمان أنها لن تنقطع ولن تزول ولن يضيع حق من حقوقها بالصدفة أو العبث أو الفوضى …

جرّبوا بأنفسكم ذلك… اختبروا صدقه … ليس في بيوتكم ونواديكم.. ولكن في المقابر.. لحظة مواراة جثة صديق أو قريب.. التفتوا إليها بعد دقائق من مغادرتكم المكان.. وحيدة.. مهملة.. منقطعة في الصحراء.. أمن الممكن أن تكون هذه هي نهاية الإنسان؟!

هذه التجربة لا تحمل فقط نداءً من الفطرة، إنّها أيضًا تعبير عن مجموع القوانين المنطبعة في الذات والتي من أهمها أن الأمر العظيم الهائل، لا يتمخض عن عدم.

إنها الحقيقة التي عبر عنها أحد رؤوس الإلحاد في القرن العشرين، بل زعيم فلاسفة العبثية (جون بول سارتر) وذاك لما كان على فراش الموت؛ إذ قال: «أنا لا أشعر أنني نتاج للصدفة أو ذرّة غبار في الكون، وإنما شخص متوقع وجوده، ومجهز، ومتصوّر. باختصار، كائن لا يقدر إلا خالق على أن يضعه هنا». إنّها الجاذبية السماوية التي لم يستطع أهم من دافع عن العبث في القرن الماضي أن ينجو منها.

ويعترض (برتراند راسل) على وجود الله بسؤاله لنا عن شعورنا ونحن أمام سرير عليه طفل ينازع الموت. وهو بذلك يسألنا عن قدرتنا على تقبل منظر موت طفل في عالم خلقه ربّ كامل الصفات ولكن (راسل) لم يفصح عن البديل، والذي هو وقوف ملحد عدمي أمام طفل يصارع آخر لحظات الحياة. هل يجد (راسل) ما يقوله لهذا الطفل غير: لقد انتهى رصيد خلاياك، وحان الوقت لتعود إلى التراب! إنّك من لاشيء، وللاشيء، وإلى لاشيء!؟ لقد حان الوقت لتصبح وجبة للدود وداعًا بلا لقاء، ولا رجاء!

وأخيرًا، إنّ البحث عن جواب للتساؤل عن مشكلة الشر نابع في الحقيقة من إيجابية الإيمان بإله والإحساس العميق بغائية كل ما يحيط بنا. إنّ سؤال «الشر» هو طلب لإكمال تناسق الصورة الكبرى للوجود، وليس في حقيقته كشفًا للاغائية (purposeless) الوجود. إن الحديث عن قيمة العدل في عالم لاغائي هو عين الهذر واللغو؛ لأنه أشبه بالبحث عن الحياة في الموت، والحركة في السكون، والوجود في العدم.

إن بحث الإنسان عن معنى للوجود وعن قيمة الصواب فيه، وعن صور العدل في موازينه، وتمجيده لمعاني الحق، وسعيه وراء الغايات الكبرى، وإعلائه للمعاني القِيَميّة السامقة كالحبّ والتضحيّة فوق معنى الحياة ذاتها، دليل على أنه يرى الاستقامة أصلا في هذا الوجود. «إنّ الحديث عن المعنى الأخلاقي في كون لا أخلاقي، عبث».

إنّ الإلحاد انتحار عقليّ مغرور، وسقوط لزج في طريق يقود إلى اللانتيجة، إذ هو جواب صارخ بالصمت يغتال بضجيجه لهفة المعرفة العطشى على لسان النفس التائقة إلى حقيقة الحقيقة. وصدق (النورسي) إذ قال: «إن في الوحدانية سهولة ويسرا بدرجة الوجوب، وفى [الإلحاد] صعوبة ومشكلات بدرجة الامتناع».