إهمال إقامة الحدود جلب على المجتمع مفاسد جسيمة:
لتأكيد هذه الرؤية نبدأ بإثارة هذه التساؤلات:
هل حَبْسُ السارق، أو المحارب، أو قاطع الطريق المعمول به في القوانين الوضعية، جعل المجرم يعدل عن الشرقة، ومعاودتها؟!
أم أنه تعلم في السجن من زملائـه مــن وسـائل العدوان وأساليب السرقة ما لم يكن يتيسر له تعلمه خارج السجن؟
هل حَبْسُ السِّكِّير، أو تاجر المخدرات – مثلا قـوم خُلقه، وأصلح شأنه، وأوقفه عند حده؟!
إن الشواهد تدل على أن المسجون يخرج من سجنه مزودا بخبرة في مجال الإجرام والتفنن فيه، وإذا ضيعت حدود الله، أو أسقطت، أو فُرّق فيها بين الشريف والوضيع؛ فإنه يترتب على ذلك أضرار عظيمة، و مفاسد خطيرة من أهمها:
- عصيان الله، والاجتراء على محارمه، وانتهاك حقوق عباده ومن سنة الله تعالى أنه ربط المعصية والمصيبة برباط السببية، كما ربط بين الطاعة والنعمة، ولا شك أن تعطيل حدود الله من المعاصي المؤدية إلى الفساد في الدنيا، والهلاك في الآخرة.
- امتناع الأمة عن إقامة حدود الله، واجتراؤها على محارمه وتعطيلها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كانت نتيجته أن لحقتْهَا اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل.
- المجتمع الذي لا تُطبق فيه الحدود الشرعية مجتمع محكوم عليه بالضياع، وأفراده: إما عُصاة متمردون على أوامر ربهم، أو خائنون لا يأمرون بخير ولا ينهون عن منكر، ومجتمع من هذين العنصرين لا يرجى له فلاح، ولا يتحقق له احترام.
- وقوع الأزمات الطاحنة، والكوارث الاجتماعية المدمرة، والصراع الرهيب، بل المميت بين الجماعات والطوائف، ولذلك ـ لا شك – آثار خطيرة من ضيق العيش ونقص الحياة وسوء العاقبة، وهذه نتيجة حتمية لتعطيل حدود الله.
ولإبراز الحقيقة نقارن بين دولة تقيم الحدود وأخرى لا تقيمها:
ففي الدولة التي تطبق الحدود الشرعية: يشعر الإنسان بطمأنينة نفسية وسكينة قلبية، وأمن سائد؛ فيترك متجره مفتوحًا، وبضاعته وماله مكشوفين ويتجه لقضاء مصالحه أو صلاته، فلا تمتد إليه يد خائنة ولا عين زائغة، ويسير لبلاد في صحراء شاسعة حاملا الأموال معه فلا يخاف إلا الله.
وعلى العكس تماما في الدول التي لا تقيم حدود الله ؛ فإن الإنسان لا يشعر بطمأنينة نفسية، وسكينة قلبية، ولا يستطيع أن يترك بابه مفتوحا ولا مالـه مكشوفا، وليس من الغريب في الدول التي لا تقيم الحدود رؤية المجرم يتعدى على ضحيته في وَضَـح النهار، وفي أكثر الشوارع ازدحاما، ولا أحد يردعه؛ الأمر الذي يجعل الإنسان غير آمن على دينه ونفسه وعرضه وماله وعقله.
يتصف المجتمع الذي تقام فيه الحدود بالعفة في القول، والأمانة في المعاملة، واستنكار الفاحشة، والبعد عنها، والرغبة في الاستمتاع بما أحل الله، واجتناب مـا حرم الله. المجتمع الذي تقام به الحدود الشرعية بمثابة واحة وارفة الظلال، آمنة الحياة، رغيدة العيش، متآلفة، متآخية، بينما نجد البلد الذي لا تقام فيه الحدود على عكس هذا المجتمع تماما.
العقوبات الشرعية والتجارب:
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوبات لمحاربة الجريمة والإجرام؛ فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة، وتفوقها على القوانين الوضعية، وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء على الإجرام؛ إذ العبرة في هذا الأمر ليست بالوسائل أو الغايات، وإنما العبرة بكفاية الوسائل؛ لإدراك ما وُضِعَتْ له من غايات.
والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت محاربة الإجرام، ولكنها فشلت في القضاء عليه، والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية، ولا عبرة بالمنطق المزوق الذي يصلح مرة، ويخيب أخرى، ولم نأت بجديد حين نقول هذا وإنما نكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي؛ حيث قرروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عمله إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة، وأن التجارب وحدها هي الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود.
ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية، وبينت أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين كلية، وجزئية.
النموذج المتكامل لإقامة الحدود الشرعية:
وقد بدئ به في مملكة الحجاز منذ عشرات السنين؛ حيث طبقت الحدود الشرعية تطبيقا تاما، ونجحت نجاحًا منقطع النظير في القضاء على الإجرام، وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلا في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب المقال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام.
فقد كان المقيم فيه كالمسافر لا يأمن على ماله ولا نفسه في بدو ولا حضر ليلا ولا نهارا، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة؛ لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة، ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن، وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج، أو الرعايا الحجازيين، وخطفهم والتمثيل بهم.
وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور، حتى طبقت الشريعة الإسلامية؛ فانقلب الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عصر الخطف والنهب وقطع الطريق والسرقة، وأصبحت الجرائم القديمة أخبارًا تروى، فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها.
وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام في الحجاز، أصبحوا يسمعون أعجب الأخبـار عـن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام، فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة ليبلغ حتى يجد كيسه كما فُقد منه معروضًا للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق؛ فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة؛ لرفع العصا من مكانها.
وبعد أن كان يصعب حفظ الأمن على قوات عسكرية عظيمة من الداخل، وقوات عسكرية من الخارج، أصبح الأمن محفوظا بحفنة من الشرطة المحليين؛ تلك هي التجربة الكلية دليل على أن النظام . الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عمليا إلى قطع دابر الجريمة، وأنه النظام الذي يبحث عنه، ويتمناه القانون الدولي.
التجربة الجزئية:
فقد قامت بها أولا إنجلترا وأمريكا، وبعض الدول الأخرى، ثم قامت بها أخيرًا كل الدول تقريبا، وقد نجحت هذه التجربة نجاحًا منقطع النظير، وقد سمينا هذه التجربة بالجزئية؛ لأنها جاءت قاصرة على عقوبة الجلد، وهي عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة الإسلامية. فانجلترا تعترف بالجلد عقوبة رسمية في قوانينها الجنائية والعسكرية، ومصر تعترف بها في القوانين العسكرية، وأمريكا ـ وبعض الدول ـ تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون.
ثم جاءت الحرب العالمية الأخيرة، فقررت كل الدول تقريبًا عقوبة الجلد على جرائم التسعير والتموين، وهذا اعتراف عالمي بأن عقوبة الجلد أفضل من أي عقوبة أخرى، وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ النظام، وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئا في هذا الباب، وهذا الاعتراف العالمي يؤكد نجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة.
الإحصائيات التي أجرتها وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية:
ونظرة إلى الإحصاءات التي أجرتها وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية تُظهر بجلاء وتبين بوضوح مدى ما في تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ عقوباتها الجزئية من مكاسب دينية ودنيوية؛ حيث بلغ مجموع الحوادث في عام ١٤٠٨هـ: (٢١٥١٣) حادثة على مستوى المملكة عامة، وبلغ مرتكبو هذه الحوادث: (٢٢٣٦) شخصا، ويمثل الأجانب منهم: (۳۸٪)، وهذا التقارب بين عدد الحوادث وعدد مرتكبيها يدل على أن الجرائم التي وقعت كانت على مستوى الأفراد، وليست على مستوى تنظيمات أو عصابات.
إضافة إلى أن الحوادث الجنائية المتسمة بالخطورة كالقتل بأنواعه أو محاولة القتل أو التهديد به، وحوداث الخطف لا يتجاوز مجموعها نسبة: (٢%) من إجمالي الحوادث، وهذه الجرائم التي تقلق المواطن، وأجهزة المملكة العربية على المستوى العام لها ـ لا تمثل إلا النَّزْر اليسير إذا قورنت بما يجري في دول أخرى من المعمورة؛ لأن هذه البلاد ألفت الأمن والاستقرار التام.
وليست هذه الجرائم آتـيـة مـن خَلَل في الشريعة الإسلامية المطبقة في هذه البلاد، بل من ضعف إيمان مرتكبيها وخُلقهم، وبُعْدِهِم عن ذكر الله، وعن تعاليم الدين الإسلامي.
ونسبة حدوث الجريمة في السعودية تصل إلى: (٪3.2) بينما في بعض دول العالم تصل إلى نسبة أعلى بكثير لكل ألف من السكان؛ على سبيل المثال: في أسبانيا : (٧٧,٢٦)، وفي ألمانيا: (٤١,٧١%)، وفي إيطاليا (20.8٪)، وفي فرنسا (۳۲,۲۷٪)، وفي إستراليا: (٧٥,٠٠٪)، وفي كندا: (٧٥,٠٠٪) وفي كوريا: (١٢,٤٢٪)، وفي غانا (۱۰,۷۲٪).
فالمملكة بهذا نموذج مثالي بين الأمم عامة، والأمم الإسلامية خاصة في قلة حدوث الجرائم، واستقرار الأمن في ربوعها؛ فضربت بذلك أروع تجربة لنجاح الشريعة الإسلامية في القضاء على الجريمة، وتحقيق الأمن الوافر الذي تنعم به المدن والقرى، واستقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
وأسباب ازدياد الجرائم في الدول التي لا تطبق العقوبات الإسلامية هي:
- الأثر الهين الناتج عن العقوبات المقررة للجرائم.
- اقتناع الفرد بظلم هذه العقوبات من حيث إنها عقوبة – بشكل من الأشكال ـ ولكنها لا تطهـره مـن الإثم الذي لحقه، كما أن إثبات التهمة أمر ميسور في القانون الوضعي مما قد ييسر إدانة البرئ، بينما إثباتها في التشريع الإسلامي بالغ الدقة، بحيث لا يدع مجالا واسعا للاتهام الخاطئ.
هذا ولا يزال لدينا مجتمعات تطبق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، ومنها المجال العقابي؛ لذا نجد نسبة الجريمة فيها أقل نسبة في العالم؛ والسبب احترام الناس للقانون السماوي ويمكن إرجاع ذلك إلى قوة الردع في العقوبات الإسلامية؛ فاعتقاد الإنسان أنه يطبق أوامر الله إذا انتهى عن ارتكاب الجرائم، وأنه سيتعرض للعقاب إذا اقترفها ـ أقوى رادع لـه عــن الجريمة.