مقدمات تمهيدية في نقد شبهة الشرّ في الكون
من ليس في [قلبه] الله، فليس بإمكانه أن يشعر بغيابه.
سيمون ويل
الشر.. الشبهة الأبرز:
يكاد يحتكر الإلحاد المنصّات العلمية الكبرى في الغرب، وهو يمتلك بالإضافة إلى ذلك جاذبية طاغية حتى في الميدان العام، ويسعى – لذلك – إلى أن يحافظ على جبروته ويكتسب مؤمنين جدد بعدميّته من خلال اعتراضاته المكتّفة على عقيدة الإيمان بإله عادل رحيم.
وتعتبر «مشكلة الشر» في الغرب – اليوم – أهم شبهة إلحاديّة في السجال بين المؤمنين بخالق والدهريين، والعلامات على ذلك واضحة وكثيرة، ولذلك لا يقدّم دارس معافس للواقع عليها غيرها من الشبهات إذا تدافعت، فهي ذؤابة اللسان الكافر بالخالق. ومن علامات تَقَدّمِها غيرها من مطاعن الجاحدين لوجود الله أنها:
السبب الأكبر لظاهرة الإلحاد:
صرّح كثير من أئمة الإلحاد – مثل (أنتوني فلو) (Antony Fiew)، أهم منظري الإلحاد في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل تراجعه في بداية القرن الواحد والعشرين عن دهريته -، أن شبهة الشرّ هي سبب إلحادهم، وجحدهم وجود إِلَه خالق.
المادة الأولى في السجالي الإيماني - الإلحادي:
شبهة الشر هي مادة الاعتراض الأولى في السجالات بين المؤلّهين ومخالفيهم. ومن ذلك أن الفيلسوف البريطاني الملحد (ستيفن لاو) (Law Stephen) في مناظرته لـ(ويليام لين كريغ) (William Lane Craig) في موضوع “هل يوجد إله؟” (2011م) اكتفى – تقريبًا ـ باستعراض هذه الشبهة لإنكار وجود الخالق، وهو ما فعله أيضًا الفيلسوف الأمريكي (مايكل تولي) (Tooley Michael) في مناظرته لكريغ (2010م) مصرّحًا أن «الحجّة المركزيّة للإلحاد هي حجّة الشر». وهو ما تكرّر في جل المناظرات المشهورة بين الفلاسفة في الغرب، يل وحتى ما كان مرتبطًا من المجادلات بالشأن العلمي، ومن ذلك تصريح (مايكل روس) (Michael Ruse) – أشهر فلاسفة العلوم المنافحين بشراسة عن الداروينية – في مناظرته للداعية النصراني (فلزالا رنا) (Rana Fazale)، والتي كانت تحت عنوان: «أصل الحياة: التطوّر أم التصميم؟» (2013م) – أنه لا يرفض الإيمان بوجود الله إلا لسبب واحد، وهو مشكلة الشر. إنها الشبهة التي وصفها الشاعر الألماني الملحد (جورج بوخنر) (Georg Buchner) بأنها «صحرة الإلحاد».
عنوان الاعتراض الفلسفي:
تعتبر مشكلة الشرّ الحجّة الأثيرة في الكتابات الدعائية الفلسفية لكبار الفلاسفة الملاحدة من غير تيّار «الإلحاد الجديد» ومن أدلَّة ذلك أن الفيلسوف (مايكل مارتن) (Michael Marin) في مؤْلّفه «الإلحاد: تبرير فلسفي» (1990م) الذي يعدّ أقوى المؤلفات في بابه، قسّم طرحه إلى جزأين، أولهما: في الردٌ على ما يستدل به المؤلّهة، وقد جاء متنوعًا متناولًا لأبواب متعددة من النظر والجدل، وجزء ثان: في أدلّة الإلحاد، وقد جاء مقتصرًا على حجيّة وجود الشرٌ على نفي وجود الربٌ الخالق!
الاعتراض الشعبي الأكبر:
يُعتّبر موضوع الشرّ ـ استقرائيًا ـ السؤال الإلحادي الأوّل. ومن ذلك أن (لي ستروبل) (Lee Strobel) – أحد أشهر من يكتبون في الدفاع عن النصرانية في أمريكا ـ في كتابه الدفاعي الرائج ««The Case for Faith قد ذكر أهم الاعتراضات على الإيمان بالله، وكانت شبهة الشر هي الأولى من الاعتراضات الثمانية التي ساقها. وفي سَبْر جرى في أمريكا إجابة على سؤال: لو أتيح لك أن تسأل الله سؤالا واحدًا تعلم أنّه سيجيبك عنه، ماذا سيكون هذا السؤال؟ كان السؤال الذي حصل على أعلى نسبة [17%] هو: «لماذا هناك ألم ومعاناة في هذا العالم؟». ويلخّص الفيلسوف الأمريكي (رونالد ناش) (Ronald Nash) الحال بقوله: «الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي … لكنّ كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون أن أهم تحدٌ جاد للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر».
السؤال الذي لا يفتر:
الجدل العلمي في باب الأكاديميات والكتب الشعبيّة حول مشكلة الشر لا يزال حاميّا، يلقح أواره المختصمين. ومن المثير أنّه بينما لا يكاد يُعرف التأليف في مشكلة الشر في المكتبة الاسلامية في البلاد العربية في القرون الأخيرة، تضج المكتبة الغربيّة بالمنشورات في هذا الباب؛ فقد نشر (باري وتني) (Barry Whitney) دراسة ببليوغرافية عن المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي نشرت عن مشكلة الشر في ثلاثة عقود فقط من الزمان (1960 - 1990م)، فإذا هي تبلغ 4200 دراسة.
إنها حجّة الإلحاد الكبرى التي لا يغفر لدعاة الإسلام اليوم ترك بيان الحىّ فيها، فإنَ القول فيها حتمٌ ليكون الفصل فصلا إن أردنا أن نعرض الإسلام للعالم، خاصة الطبقة المثقفة فيه، وهو حتمٌ إن أردنا أن نقدّم الإسلام كسبيل حق وحبل نجاة في زمن عجعج الإلحاد فيه ولم يبح له بعد فيه صوتٌ.
ما هي «مشكلة الشر؟» وما هي «الثيوديسيا؟»:
تعرف مشكلة الشر في الأدبيات الإنجليزية باسم «Problem of evil» وبالفرنسية «Probleme du mal»، وهي تدخل في ما يعرف بمبحث «الثيوديسيا» «Theodicy»التي هي كلمة تتكون من مقطعين بونانيين: «ثيوس» (θεός) بمعنى إله و«دكي» (δίκη) بمعنى عدل، ومعناها: عدل الله. وقد ظهرت هذه الكلمة لأوْل مرة بقلم الفيلسوف (ليبنتس) في كتابه «Essais de Théodicée sur la Bonté de Dieu, la Liberté de l’Homme et l’Origine du Mal» (1710 م).
موضوع هذا المبحث العقدي الفلسفي هو عدل الله، وبدقة أكبر، بيان أن الشر الموجود في العالم لا يمنع من الإقرار بوجود إله. يدخل هذا المبحث في الدراسات الكلاميّة الإسلاميّة في أبواب متعددة، منها: صفات الله وإرادة الله، وخلق أفعال العباد، وهو عند المعتزلة في باب «القبيح».
وهو من ناحية إحاطته بموضوع الشر، يجيب على مجموعة من الأسئلة، هي:
1- أصل الشر: كيف ينشأ الشر؟ ومن المسؤول عنه؟
2- طبيعة الشر: ما هي أنطولوجية الشر (حقيقة وجوده)؟ وكيف يوجد؟
3- مشكلة الشر: كيف يشكّل الشر مشكلة لاهوتية (أي: متعلّقة بذات الله: الوجود والصفات)؟
4- سبب الشر: لماذا يسمح الله بوجود الشر؟ ما هو السبب الأخلاقي المعقول لوجوده؟
5- نهاية الشر: كيف سينهي الله الشر و/ أو كيف سيستخرج في ختام الأمر من الشر خيراً؟
ومن الممكن حصر الأجوبة الكبرى على مسألة وجود الله ووجود الشر في أربع مقولات:
- وحدة الوجود (Pantheism): إنكار وجود الله سبحانه، وإنكار وجود الشرّ، وهو مذهب عدد من الفلاسفة والمتنسّكة في بعض الأديان.
- الإلحاد (ِAtheism): إثبات وجود الشر وإنكار وجود الله.
- الثنوية (Dualism): إثبات وجود الشر، ونسبته إلى إله غير إله الخير، وهو مذهب المجوسية والمانوية والكاثارية وجمهور الغنوصيين.
- المذهب الإلهي (Theism) «التقليدي»: إثبات وجود الله سبحانه، ووجود الشر، ونفي مصدر إلهي خاص بالشر.
أصل الاستشكال الذي يطرحه الملحد المشكّك (الذي يريد فتنة الناس عن عقيدة الإسلام، أو عقيدة الإيمان بخالق) والمتشكّك (المسلم، أو المؤمن بإله، غير القادر على دفع الشبهة عن نفسه) هو الجمع بين العناصر التالية بصيغة توافقية لا ينفي بعضها بعضًا:
1ـ وجود إِله كامل العلم (Omniscient).
2ـ كامل القدرة (Omnipotent).
3ـ كامل الرحمة Omnidenevo1ent).
4ـ وجود الشر في عالم الإنسان.
وجود الشر في العالم يتنافى مع أن يكون هذا الربٌ عليمًا؛ لأنّ علمه يقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود، ويتنافى مع أنه قدير؛ لأن قدرته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود. ويتنافى مع أنه رحيم؛ لأن رحمته تقتضي أن يمنع هذا الشر من الوجود. ولذلك فَإِن وجود الشر ينفي وجود هذا الإله الذي لا يمكن أن يفتقد الصفات الثلاث السابقة جملة.
يقول (ريتشارد داوكنز) إمام الملاحدة اليوم - في كتابه «وهم الإله»، ساخرًا من الحلول التي يتبناها المؤمنون برب خالق، مع إيمانهم بوجود الشر في العالم: «في الحقيقة، أصحاب الميول الدينية لديهم أيضًا عدم تمييز مزمن بين الحقيقة والأمر الذي يرغبون أن يكون هو الحقيقة. بالنسبة للمؤمن بنوع من الذكاء [الكوني] الخارق [=إِلّه]، من السهل جدًا التغلب على مشكلة الشر. يكفي أن تفترض وجود إِلّه قذر – مثل ذاك المتفشّي في كل صفحة من صفحات العهد القديم [التوراة]، أو إذا لم يعجبك ذلك، اخترع إِلْها شريرًا مستقلا بذاته، وسمّهٍ الشيطان، وانسب الشر الذي في العالم إلى صراعه الكوني مع الإله الخيّر. وإن شتت هناك حل أكثر تطوّرًا؛ افترض وجود إِلَه له اهتمامات أعظم من أن يأبه لكروب الإنسان، أو إِلْهّا ليس سلبيًا أمام الآلام التي تصيب البشر، لكنه يراها ثمنًا لا بد أن يدفع مقابل [نعمة] حريّة الإرادة البشريّة في كون منظم وخاضع للنواميس. كثير من اللاهوتيين يعمدون إلى تبني مثل هذه التعقلنات».
للخروج من الظنون الواهمة السابقة - كما يقول (داوكنز) – لا بد من المسير إلى قول بسيط وسهل وهو الإقرار بوجود الشرّ وردٌ وجود الله. أن هذا «الحل» النابع من التفسير المادي الأصم، مغر في بساطته الظاهريّة، لكنه كما يقول (س. ستيفن لايمن) (C. Stephen La) – أستاذ الفلسفة والمنطق في جامعة سياتل - ضعيف القدرة التفسيريّة مقارنة بالتفسير الإلهي ل(Theism).
إنْنا أمام (إغراء) ساذج، و(تفسير) باهت. وهي حقيقة سينجلي عنها غبار الشك واللبس في نقاشنا التالي.
وقد ردّ المؤلّهة على لجاج الملحدين ببيان سيّال، وهم عامةً على واحد من مسلكين في دفع شبهة الشر كحبجة لنفي وجود الله، أولهما: الخيار الثيوديسي، وثانيهما: الخيار الدفاعي. وقد كان الفيلسوف (ألفن بلنتنجا) (ِAlvin Plantiga) في كتابه الشهير: «الله: والحرية، والشر» (1974م) أوّل من ميّز بين الثيوديسيا والدفاع (defense). وقد كتب الفلاسفة واللاهوتيون لاحمًا في التمييز بينهما، ولهم في ذلك آراء متنوعة، ولعلّ أفضل ما قيل في التمييز بينهما هو أن الثيوديسيا متعلّقة ببيان السبب (أو الأسباب) التي سمح الله لأجلها للشر بالوجود، فهي تسعى لبيان الحكم الإلهية لوجود الشر، في حين أن للدفاع هدفًا أدنى من ذلك، وهو بيان أن استدلال الملحد على وجود تضاد بين صفات الإله ووجود الشر غير سليم، أو أنّهِ لا يعدو أن يكون مغالطة منطقيّة. فالدفاع يرى فساد الاعتراض في ذاته في حين تذهب الثيوديسيا إلى تقديم جواب للسؤال ببيان الحكم الإلهية من وجود الشر ولو جزئيًا. لا يعني ذلك أن الدفاع لا يقدّم حكمًا من وراء وجود الشرّ، وإنما هو يقدّم حكمًا ممكنة، ولكن فقط لبيان منطقيّة وجود الشرّ في عالم خلقه إله كامل الخيريّة.
تخلّى معظم المفكّرين النصارى والفلاسفة كما يقول الفيلسوف النصراني (تيموثي ج. كلر) (Timothy J. Keller) عن البحث عن حل نيوديسي لمشكلة الشرّ، ورأوا أن يقنع المؤمن بدفاع يرد عن الإيمان تهمة التناقض، ببيان عجز الملحد عن أن يقيم حبّة متماسكة تقوده إلى نفي الإله، وذلك بإثبات أن وجود الشرّ لا يعني ولا يؤول إلى إثبات عدم وجود إله.
نطمح نحن هنا إلى أن نقدّم ثيوديسيا كاشفة للحكمة من وجود الشر، مدركين أن من أهم فشل الفلاسفة الإلهبين الغربيين في تقديم ثيوديسيا معقولة، قصور أسفارهم الدينيّة عن تقديم أصول الحكمة لعمل الربّ في العالم.
مشكلة الشر، مشكلة من؟
يقودنا السبر التاريخي إلى أن مشكلة الشر قديمة قدم معرفتنا بالحضارات الدائرة التي تركت مؤلفات علمية مقروءة، ولكنّ النظر القريب للأمور، وواقم هذا السؤال في هذه الحضارات، يبيّنان أن هذا الإشكال الوجودي حديث عهد بسطوع، فهو وليد ما يعرف «بعصر التنوير» الذي أفسد وعي الإنسان الغربي المعاصر بأهم أسئلة الوجود والحياة، ممّا زرع في روحه وإرادته أوصاب العصر الكبرى:
تآكل غائية الحياة:
لقد تحوّل الإنسان الغربي تدريجيًا بعد عصر التنوير عن سؤال: «لماذا نعيش؟» إلى سؤال: «كيف نعيش؟»، واحتلّت «وسائل الحياة؛» مكان «أغراض الحياة» لتصبح أرض هذه الدنيا سجن هذا الإنسان ومنتهى بصره، ولتغدو مواجهة المشقة في حياته عنوان معاناته؛ إذ إِنَّ هذه المعاناة مبرّأة في حسّه من كل غاية ومقطوعة الوشيجة بكل نهاية.
إن الشرّ في حسٌ الغربي المعاصر ليس إِلَا مظهرًا من مظاهر النشوز عن معنى الحياة الممكنة، وهو بذلك يخالف ما استقرٌ في ذهنية كثير من الأمم الأخرى التي ترى غاية الحياة فى تحقيق الفضائل الكبرى للفرد أو الجماعة (العائلة او القبيلة أو الوطن)، أو تحقيق الأمجاد الراسخة، أو بلغ الجنّة والراحة في ظلال نعيمها الباقي، ففي تلك الثقافات تمثّل صعوبات الحياة وملمّاتها مطيّة الظفر ومَهْرَ النصر، وفي مُرّ مذاقها عذوبة النشوة ببلوغ المنشود، فالإنسان يبلغ غاية الحياة عبر التغلّب على الشر الذي يواجهه، في حين تفقد الحياة عند الإنسان الغربي معناها بسيب ما فيها من شر يعانده، ولذلك فالشرٌ دائمًا هو المنتصر، أو بعبارة (شودر) فإِنَ من يعاني صولة الشرّ هو ضحيّة القوى الطبيعيّة الفاقدة للقصد، وهو ما يعني أن «المعاناة… مفصولة عن البنية الروائية لحياة الإنسان… فهي نوع من «الضوضاء»، أو تدخل عارض في دراما حياة هذا المتألّم… ليس للمعاناة صلة مفهومة بأية حبكة باستثناء المقاطعة الفوضوية» فحياة غير الغربي تكتسب معناها ولذاذتها بوجود الشر والارتقاء فوقه بمعاني الصبر والتضحية، في حين تُسلب الحياة دلالتها على «المعنى» بالعبثيّة الوجوديّة للشرّ في عقل الغربي وقلبه.
وقد كتب (س. إس. لويس) قائلا: «المشكلة الجوهريّة للحياة الإنسانية عند الحكماء في القدم هي التوفيق بين الروح والحقيقة الموضوعية، وكان الحل متمثّلًا في الحكمة، وترويض النفس، والفضيلة، أما العقل الحديث فيرى أن المشكلة الجوهرية هي إخضاع الحقيقة لرغائب الانسان».
إن الحياة الغربية المفرغة من المعنى الشائق والمذعورة بين جدران الميلاد والوفاة تضجٌ من كل قرصة ألم وتذعر من كل لسعة أنين، فليس في الوجع والأنة غير خسارة لدقائق من أيام فانية تسير بالإنسان إلى حتفه، ولذلك إن الهروب من الأذى بأنواعه، هدف في ذاته، ولا يتوصّل به إلى قيمة علياء فالحياة في ذاتها هي الغاية، وما الشرٌ غير حدث عرضي في كونٍ ليس إلا مادة وطاقة في حركة دؤوبة عمياء؛ ولذلك علق عالم الأعصاب والمحلل النفسي النمساوي (فكتور فرنكل) بقوله: «للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة» غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله.
إن الإنسان الأمريكي المترف، والذي لا يمثّل من مجموع سكان الأرض غير 5% يستهلك 50% مما يستهلكه البشر جميعًا من الأدوية، لكنّه لم يفلح مع ذلك في التعامل مع الألم الذي صار مصدر ذعر وهدم لحياته، وأذى به إلى إدمان الخمر والمخدرات للهروب من واقع الألم الموجود أو المحتمل.
ويقفز السؤال المشاكس إلى سطح وعينا: كيف يولد المعنى من رحم الصدفة والعشوائية؟!
إِنَّ العالم الغربي الذي نحت وجه الحياة فيه بعدميّة (نيتشه)، ولا معنى (سارتر)، وجبريّة (كامو)، يعيش اليوم انهيار المعنى والغاية وبتداعي المعاني البعيدة وانتهى إلى النشازيّة.
ليس للحياة في وعي الماديين معنى إلا ما يكسبه الإنسان إيّاها. وإذا كانت الحياة بذاتها بلا معنى متجاوز، فلا معنى إذن للمعاناة إِلّا أن تكون مظهرًا من مظاهر عبثيّة الوجود. وإذا لم يكن هناك إله، فلا يمكن أن يكون للحياة معنى إيجابي؛ إذ إِنَّ صفحة الحياة لا يمكن أن تكتسب معنى إذا لم تكن مجرّد مقدمة في كتاب يتضمن صفحات تتلوها أخرى متوّجة بخاتمة معبرة عن معنى شائق ثر.
لقد تحوّلت آمال الإنسان المعاصر في أن يعيش في تآلف مع حقيقة العالم إلى أن يدخل في صراع مع الكون ليشبع نهمته ويجمع من الترف كل سبب، ولذلك فهو يستعظم أن يدفع من سعادته ضريبة من الألم، فكل منغّص للحظات اللذّة ليس إلا تعبيرًا عن فساد هذا العالم البائس الذي يعاديه وينقص عليه صفو نفسه.
في ظل هذا الواقع العدمي، ضمرت دوافع المغالبة في روح الإنسان الغربي، وهو ما عبّر عنه عمليًا الدكتور (بول براند) أحد رواد جراحة تقويم الأعضاء لمرضى البرص، والذي أمضى نصف تاريخه العلمي الأول، في الهند، ونصفه الثاني في الولايات المتحدة الأمريكية بقوله: «لقد واجهت في الولايات المتحدة مجتمعًا يبحث بكل ثمن عن تفادي الألم. لقد كان المرضى يعيشون في درجة رفاه أعلى من كل من سبق لي معالجتهم، لكنهم كانوا أدنى استعدادًا بمراحل لتحمّل الألم، وأبلغ تأثرًا به، لقد فقد الإنسان قدرته على مغالبة الشرّ لأنه فقد في ذاته حافز القدرة على استشعار أيّ معنى إيجابي للمكابدة والصراع مع أوجه التقص في حياته».
حساسية الإنسان:
لا شك أنَّ مشكلة الشرّ أقرب تعلَّقًا بالقلوب ذات الحساسيّة العالية والأنفس المرهفة التي تكن لدمعة طفل ووهن عجوز وصرخة منكوب. وقد آل التطور التكنولوجي في العقود الأخيرة إلى حال أكبر من الترف والرخاوة في الغرب، وتوسّعت وسائل القضاء على الأسباب المباشرة للألم من خلال المسكنات الطبيّة والأدوية وتهيئة أسباب العيش السهل، وهو ما رفع حساسية هذا الإنسان أمام كل وجع يصيبه أو مرض يدهمه، بل إِنَّ عامة ما يستدل به الغربيون في بيان شراسة الشرّ في زماننا هو في سرد الأمراض والكوارث التي تنزل بساحة الأمم المتخلفة علميًا وتقنيا، ككثير من البلاد الإفريقية والآسيوية، بعد أن اختفت هذه النوازل في الغرب أو كادت.
تشكل هذه الحساسيّة الوقود الأكبر لمشكلة الشرّ، إذ كيف يمكننا أن ننظر إلى العالم لنتدبّر حقيقته، وأصله، ومآله، وعيوننا مغرورقة بالدمع وفي القلب انكسار؟! إِنَّنا بذلك كمن يناقش فضيلة الجوع وهو يتلوّى جوعًا، أو من ينظم الشعر في حلاوة الصبر وهو يتمرّق على أيدي أعدائه. إِن البحث في الكون وغاية وجوده، والإنسان والغاية من خلقه، يجب أن يبدأ من نفس متجرّدة من العواطف المهتاجة، وتفكير سائر على سكّة العقل الرصين.
ولا يكاد يخلو كتاب غربي للإلهيين في الثيوديسيا من تقرير أن الحل المقنع لمن يغرق بين لجج الأوجاع لفقد أم أو زوجة أو غرغرة طفل في معاناة طويلة مع مرض السرطان أو غير ذلك من الأوصاب التي يتكسر القلب عادة على صخورها الناتئة الحادةً؛ هو في يد حانية تشدٌ من الأزر وقلب يشارك المحزون ألمه ويرفع فيه همّته وينقذه من نصال الوحدة الحادة، وليس في مجرّد جواب فلسفي مجرّد عن أصل الوجود ومعناه، ونحن لا نشارك هؤلاء الكتّاب رأيهم؛ فإِنَ عقيدة الإنسان المسلم نبْعٌ لفكره وعواطفه؛ وهي كنزه الدفين الذي يجد فيه عند الفرح والترح، والسعة والضيق، زاده لإكمال المسير، ووقود جوارحه في سعيه إلى غايته الكبرى، والتي هي النجاح في امتحان الحياة.
قال تعالى: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ( [البقرة: 155 – 157]، فالصبر على البلاء مطلب إلهي؛ ووقوف المؤمن في قلب المحنة بثبات وصلابة مغروسة في الأرض المتقلقلة تحته واجبٌ لمن آمن بالنبوّة الخاتمة؛ ولذلك يبشّر صاحب البعثة الخاتمة من أفلح في استحضار عقيدته في الغيب عند هبوب الفتنة، بالأجر العميم: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيِبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُول: إنا لِلّهِ وإنا إِليْهِ رَاجعُونَ! اللهم أْجْرْنِي في مُصِيبَتِي وَأَخْلِفٌ لي خَيرا مِنْهَا».
هنا يتميّز المسلم الواعي بعقيدته عن الغربي التائه عن معنى الوجود، فهو يجد في معرفته النظرية عن الكون والانسان والحياة مصدر إلهام تشرق منه عليه المعاني الحيّة كلّ حين، ولا يختزل إقراراته العقدية في الرسوم والشعائر الباردة كما عامة الغربيين.
توحش الأنا:
بعد نهابة عصر القبيلة والدولة المركزيّة؛ تفلّتت النفس إلى حدّ بعيد من إسار الجماعة الكبرى، وغدت الذات هي الراغبة والمرغوبة؛ وما وراء ذلك هو (الآخر) المغاير الذي لا يشاركها الإحساس الآني بالوجع والكرب، وبذلك فقد الشر قيمته كمبرّر لإظهار تلاحم الجماعة وبروز معاني الأخوة والتكافل والرحمة، وفي بيكة تبتدئ (بالأنا) وتنتهي عند (الأنا)، لا يمكن للألم إلا أن يكون تعبيرًا عن انتحار بطيء للذات في كون صامت هامد.
غرور النفس:
انتهت العقلانيّة المغرورة بالإنسان المتمدّن إلى أن يرى في نفسه القدرة على الإحاطة بالكون علما والقطع من خلال مداركه بالموجود والعدم، ولذلك فهو لا يجد حرجا في نفسه أن يقطع بغياب الحكمة وراء ما لا يدركه وعيه من مظاهر، فقد أضحى هذا الإنسان سيّد الكون ـ في ظنه -، ووقر في ذهنه أنه قادر على أن ينظر إلى العالم من عَلٍ ليبصر كل أفراد الوجود، فما لم تدركه عينه فهو عدم، وما لم تَبِدٌ له منه حكمة هو عين العبث.
وقد عبر عالم الاجتماع (تشارلز تايلر) عن التحوّل الفكري في وعي الإنسان بالعالم بقوله ـ في كتابه الشهير الذي صدر منذ بضع سنوات (عصر العالمانية): «إن المجتمعات الغربيّة قد شهدت انعطافة إلى مركزية الإنسان»، مبرزًا أن الإحساس الإنسان بالترتيب الإلهي قد بَهُت، وأنّ الإحساس بأنه بإمكاننا أن نَسنُّد النظام بأنفسنا قد بدأ يبرز، منتهيًا إلى أنه قد نجم عن ذلك أن «الهدف الأعلى [في المجتمعات الغربية] … هو منع المكابدة».
إن من مآسي الإنسان الغربي المعاصر اختزاله غاية الحياة في تحقيق السعادة الآنية، وليس مع هذه الغاية أو وراءها غاية أخرى؛ ولذلك فالحياة من أجل السعادة بمعناها الأرضي البشري تضم من كل مرض أو وجع أو ألم؛ فليس للشرّ والمعاناة معنى في سياق هذه الحياة غير التنغيص على سير الإنسان حثيثًا نحو متعة صافية من الكدر؛ ولذلك فالشر ليس إلا عنوانًا لهدم حقيقة الحياة. ولما كان الشرُّ من أقدار الدنيا التي لا فكاك عنها، ولا مهرب منها، كانت الحياة عبثًا لا معنى يحتضنه؛ ولذلك يمثّل الدين الذي يبشّر ضمن منظومته بدار جزاء، وسيلةً لإكساب الحياة الدنيا حلّة من المعاني التي تعين على تحمّل أوضار الوجود وأثقاله، وترتفع بأشواق الإنسان إلى سوامق مدهشة.
مشكلة الشر، والعقل السني:
المستقرئ للتاريخ الإسلامي يلاحظ أن مشكلة الشرّ قد شغلت عددًا من الطوائف؛ وعلى رأسها المعتزلة؛ لأنها تطعن في تناسق المنظومات العقديّة لهذه الفرق، ولم تكن في المقابل سؤالا عنيدًا بالنسبة للسنّي؛ ولذلك قال المستشرق الإنجليزي المعمر (ويليام مونتجمري وات): «إن البحث عن معالجة مشكلة الشرٌ لا يوجد في الأدبيات السنيّة، وإنما هو في كتابات الطوائف البدعيّة».
لقد استطاع العقل السَّني المستسلم لنصوص الوحي، والذي يرفض التعسف في الجمع بين دلالات كلام الله وظنون البشر ووساوسهم، أن يرى هذا الوجود بأوجاعه وآلامه متساوقًا مع حقيقة وجود إله قدير، عليم، رحيم؛ لأنه عقل لم يذعن لحوافز أَنْسَنَة الله وصفاته، ولم يتوهم أن الكمال الإلهي يقتضي مركزة الإنسان في قلب الوجود، بل هو يرى أن الحكمة الإلهية قادرة على أن تنسج من خيوط الألم قصة معجبة رائقة تجمع بين العدل والرحمة بلا تنافر، والحكمة والأذى في تكامل، وهذا ما يريد هذا الكتاب أن ينتهي إلى بيانه.
ماذا نريد أن نثبت؟
الكتابة في موضوع الشرّ مثيرة لمعانٍ كثيرة كامنة في أعماق النفس، وباب لفتح مجالات رحبة من الجدل، وهو ما يغري القلم أن يجري حتى اللهاث في متابعة المعاني المتدفقة؛ غير أنني سأقتصر على مجموعة أهداف توافق عنوان الكتاب وغاية السلسلة التي تضمّه، وهي:
- بيان أن الشرّ لا يشكّل حبّة منطقيّة أو ترجيحية لنفي وجود الله.
- بيان أن الإسلام يعد بتقديم حل نسقي لمشكلة الشرّ.
- نظرًا لتجاهل المكتبة العربية تناول مشكلة الشر ضمن أسئلتها الأحدث، ووعيًا منا بالحركة الدؤوبة في المكتبة الغربية في نقاش هذه المشكلة، وحاجة القارئ الجاد إلى أن يتابع الجدل الفلسفي واللاهوتي في عالم ما وراء البحر للإفادة منه وللعلم بأوجه قصوره، فسنحاول في هذا الكتاب أن نعرض شبهات كرادلة الإلحاد؛ وأطروحات المؤلهة من الغربيين، مع بيان أوجه الصواب والخلل فيها.
صعوبات السؤال:
يطرح السؤال الإلحادي عن الشر مجموعة من الصعوبات أمام الباحث، ومنها:
- تتميز مشكلة الشر عن جميع أسئلة الإلحاد أنها لا تطيب نفساً بجواب واحد سريع؛ فالتفصيل فيها واجب، والتأني في العرض والنقض حتمٌ، خاصة أنها قائمة في الأغلب على القرائن لا الدلائل المباشرة، وهذا ما قد يجد فيه الملحد المشاغب سبيلًا لاتهام من يجيبه أنه لا يريد أن يواجه المشكلة بصورة مباشرة، والحنٌ هو أنّ هذا الإشكال تنفر طبيعته من الأجوبة المختزلة.
- أعسر ما في الجواب عن مشكلة الشرّ هو معرفة السؤال لا الجواب! وأقصد بذلك أن شبهة الشرّ لا تطرّح سؤالًا واحدًا بسيطا، وإنما هي تطرح أسئلة كبرى تعبّر عن أوجه المشكلة، ثم إن هذه الأسئلة تتشظى بعد ذلك إلى إشكالات أصغر وأغزر؛ إذ إِنّ أنصار الإلحاد كثيرًا ما يفرّعون أسئلة جديدة كلّما جاءهم الجواب عن أسئلتهم الكبرى؛ ولذلك كانت أبرز اعتراضاتهم هي أن مخالفهم لم يستوعب في جوابه جميع مظاهر المشكلة.
- لا يمكن لمشكلة الشر أن تُطرح للنقاش الجدّي خارج الدائرة الكبرى لدلائل وجود الله المتنوعة، وبالتالي فإن تناول هذه القضية لا بد أن يتزامن مع النظر الجاد إلى الضفة الأخرى حيث تُعرض الأدلّة الإيجابية على وجود الخالق، الفاطر، الحكيم.
- تقع هذا الدراسة في سياق جدلي، بعيدًا عن العرض المدرسي المحايد؛ ولذلك فلا بِدّ أن تُبسط الاعتراضات الالحادية في صورتها الأحدث، كما هي في كتابات أئمة الإلحاد المعاصر، وعلى رأسهم (ج. ماكي)، و(ويليام رو)، للرد عليها ويبان عجزها عن الصمود أمام البراهين والقرائن المتاحة التي تنقض جوهر دعواها.