تقوم حقيقة هذا الاعتراض على التسليم بأن التحدي بالقرآن قد بلغ كل العرب، وأنهم استجابوا لذلك التحدي، وأتوا بمثل القرآن، ولكن المسلمين أخفوا ذلك، فمن المعلوم أن الذي كتب تاريخ دعوة الإسلام وأحداثها هم العلماء المسلمون، فما الذي يمنع أن يكونوا أخفوا معارضات العرب للقرآن حتى لا يبطل عليهم دينهم؟!.
وهذا الاعتراض غير صحيح، فإنه قائم على مجرد احتمالات عقلية لا يوجد ما يسندها في التاريخ، بل أحداث التاريخ تناقضه وتنافره.
فإنه لو أتى العرب بمثل القرآن؛ لجاءت معارضتهم مجيء القرآن، ولحصل لها الانتشار مثل ما حصل للقرآن، ولكان العلم بها مثل العلم بالقرآن بل أشد؛ لأنها تتعلق بأمر عظيم جدًّا، فهو متعلق بأفضل ما تميزت به العرب عن غيرها من الأمم، وبأمر تشتغل به العرب كثيرًا وتتفاخر به، وقد تحداهم النبي به، ونشر ذلك في العالمين، وكرره على أسماعهم ووبخهم عليه وقرعهم، ثم إنه تفرقت بسببه جماعات العرب، وقامت من أجله حروب وسالت دماء، فليس من المقبول في العقل أن يكون أمر بهذا الخطر، ثم لا ينتشر في الناس، أو يمكن إخفاؤه والسعي إلى إزالته .
ثم إن دعوة الإسلام كانت محاطة بالأعداء من كل جانب، فكان اليهود والنصارى قريبين جدًّا من العرب، وكانت بينهم وبين العرب علاقات واتصالات، بل كان بعض العرب يذهب إليهم، ويظهر لهم القدح في القرآن، ولو كان أحد من العرب استطاع حقًّا أن يأتي بمثل القرآن لانتشر الخبر بين أولئك الأعداء، ولما أمكن للمسلمين منعه حينئذ.
وكان كثير من المخالفين للإسلام على علم بكثير من التفاصيل المتعلقة بالدعوة الإسلامية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بهجر ثلاثة من أصحابه الذين تخلفوا عن معركة تبوك، أرسل إلى أحدهم ملك غسان رسالة يطالبه فيها باللحاق به، وهذا الحدث يدل على أن الأعداء المحيطين بدولة الإسلام كانوا على اطلاع كبير بتفاصيل ما كان يحدث في المجتمع الإسلامي، فلو أن أحدًا من العرب استطاع حقًا أن يأتي بمثل القرآن؛ لانتشر الخبر بين أولئك الأعداء، ولكان من
أسرع الأخبار وصولاً إليهم، ولما أمكن للمسلمين منعه حينئذ.
بل كان المجتمع المسلم يعيش فيه كثير من المنافقين وأعداء الإسلام، ولم يكونوا يتوانون أبدا في السعي إلى محاربة الإسلام وتشويه صورته، حتى بلغ بهم الأمر أن يقدحوا في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن أحدا من العرب استطاع حقا أن يأتي بمثل القرآن؛ لسعى أولئك الناس في نشر الخبر في العالمين، ولكن ذلك لم يقع.
ثم إنه وجد في التاريخ الإسلامي من سعى إلى معارضة القرآن، وكتب في القدح فيه، ولم يستطع المسلمون إخفاء خبر هذه المحاولات، ولم يقدروا على إخفائها عن العالمين، بل كانت أخبار تلك المؤلفات مشهورة معلومة لكثير من الناس من أتباع الإسلام وغيرهم.
وهذه الدعوى لا تختلف عن دعوى ابن الراوندي وغيره التي ادعى فيها النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصف بصفات قبيحة، وكانت تظهر منه أعمال سيئة، ولكن أصحابه أخفوها عن أعين الناس.
فإنه لو كان النبي الله كذلك؛ لما أمكن إخفاء ما ظهر منه عن الناس، لكونه كان ظاهرا للناس، ومعاشرًا لأعداد كبيرة منهم، ولبادر المنافقون إلى إعلانها في العالمين، ولنقلها كفار العرب إلى أصدقائهم في فارس والروم.
إن هذا الاعتراض لا يختلف عن زعم من يدعي بأن كفار قريش لم يحاربوا النبي الله ولم يعذبوا أصحابه، وإنما اخترع أتباعه هذه الأحداث لكي يستعطفوا الناس، ويلفتوا إليهم أنظارهم، ولا يختلف عن قول من يدعي النبي كان يريد التراجع عن دعوته في آخر عمره، ولكن أصحابه وأتباعه منعوه من ذلك، ولا يختلف عن قول من يدعي أن مسيلمة الكذاب أتى بمعارضة حقيقية للقرآن، ولكن المسلمين أخفوا ذلك، وحرفوه، ونقلوا إلينا ذلك الكلام الهزيل حتى يشوهوا صورة مسيلمة، ونحو ذلك من الادعاءات التي لا يشك أحد من العقلاء العارفين بالتاريخ بكذبها وبطلانها .
ولا يصح أن يقال: إن العرب أخفوا المعارضة التي كانت لديهم خوفا من السيف، فإن قوة دولة الإسلام لم تكن من أول الأمر، وإنما كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد عقدين من التحدي، فلو وجدت المعارضة حقا؛ لانتشر خبرها في بلاد فارس والروم وتلك البلاد لا سلطة للمسلمين عليها.
ثم إن دولة الإسلام ضعفت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلو أن ثمة معارضة للقرآن؛ لأمكن لكثير من الناس نشرها أو نقلها إلى الدول الأخرى.