تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن عدم المجيء بالمماثل لا يدل على أن الكلام خارج عن القوانين الحاكمة لكلام الناس، ولا يدل على أنه نازل من عند الله؛ لأن هذا الضابط – عدم المجيء بالمماثل – يمكن أن ينطبق على كل الكلام أو أكثره، فإن كان معيار بلاغة الكلام وفصاحته وبيانه عدم معارضته، ودليل كون الكلام نازلا من عند الله عدم المجيء بمثله، فإن ديوان المتنبي سيكون مثل القرآن، وستكون كتب الهندسة ومؤلفات العروض كلها مثل القرآن في الإعجاز، فإنه لم يأت أحد بمثلها، وإذْ ثبت بطلان هذه الأحكام ثبت بطلان معيار عدم المماثلة الذي تقوم عليه دلالة القرآن.
وهذا اعتراض من لا يعرف للكلام معنى، ولا يدرك لمسالك الاستدلال مغزی، فنحن – المسلمين – لا نقول : إن القرآن معجزة، وإنه كلام الله، لمجرد عدم المجيء بمثله فقط، وإنما نقول بذلك بناءً على دلالات مركبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى العرب بكلام من جنس كلامهم، مع أنه لا يعرف باشتغاله بهذا الشأن، ثم تحداهم على الإتيان بمثله، واستحثهم ووبخهم، وجعل ذلك دليله الأقوى على أنه مرسل من عند الله، ثم إن العرب تركوا ذلك كله، وأخذوا في مقاتلة النبي ومحاربته، فهذه الدلالات جميعها تشترك في تحديد ضابط معيار الدلالة الإعجازية للقرآن.
وجميع الكتب الأخرى التي ذكرت في الاعتراض لم يتحقق فيها ذلك، فلم يتحد أحد بكتب الهندسة والعروض، ولم يتحد المتنبي بديوان شعره، فعدم تشوف الناس إلى الإتيان بمثله ومعارضته أمر طبيعي لا إشكال فيه، ولكن حال القرآن مختلف عن ذلك تمام الاختلاف.
ولو وجد كتاب زعم صاحبه أنه منزل من عند الله، ثم تحدى الناس على الإتيان بمثله، واستحثهم على ذلك، وجعل عدم فعلهم لما طلبه منهم دليلا على أنه صادق، ثم عجز كل الناس عن تحقيق طلبه، لكان ذلك دليلا على صدقه، ولكن ذلك لم يقع في الوجود، ولا يعرف عن أحد من الناس أنه قام بذلك.
ثم إن المطالبة بالإتيان بالمثل ليس المراد بها أن يؤتى بمثل تراكيب القرآن وألفاظه وجمله على الترتيب الموجود في القرآن، فإنه لو كان هذا هو المعيار، لكانت كل الكتب أو أكثرها معجزة؛ لأنه لا أحد يعجز أن يفعل ذلك، وإنما المراد بالمثلية التماثل في الفصاحة، والبلاغة، والبيان، وقوة السبك، وجمال التركيب، وثراء المواد، وعلو التشريعات والأحكام، وغزارة الأخبار الغيبية الصادقة، ونحوها من أوجه الإعجاز التي ذكرها العلماء.