يثير الناقدون للأديان في عصرنا الحاضر اعتراضات كثيرة تتعلق بدلالة القرآن على صدق النبوة، وأكثر ما أثاروه ليس جديدا، وإنما هو مأخوذ مما أثاره النصارى وغيرهم من أهل الأديان على القرآن، ومما أثاره المنكرون لجنس النبوات في التاريخ الإسلامي، وكثير مما أثاروا متعلق بالأمور التفصيلية الخارجة عن أصل الإعجاز، كالقول: بأن القرآن فيه أخطاء لغوية ونحوية وتاريخية، والقول بأن فيه تناقضاً وتضاربًا، ونحو ذلك من الاعتراضات.
ومع أهمية الجواب على هذا النوع من الاعتراضات، إلا أننا سنقتصر في هذا البحث على مناقشة الاعتراضات التي تتعلق بأدلة دلالة القرآن الإعجازية من غير دخول في الاعتراضات التفصيلية، وذلك طلبًا للاختصار، ولأن العلماء والباحثين في القديم والحديث توسعوا كثيرًا في نقض تلك الاعتراضات، وبينوا ما فيها من خلل وفساد.
الاعتراض الأول: سيولة المعيار الوازن:
تقوم حقيقة هذا الاعتراض على أن دلالة القرآن على النبوة قائمة على الإعجاز البلاغي والفني والتحدي بذلك، ولكن هذا الإعجاز لا يستند إلى معيار موضوعي حقيقي يمكن التحقق منه، فإن الكلام البلاغي ليس قضية موضوعية وجودية، وليس له معيار كمي يمكن الاعتماد عليه، وإنما هو ذوق ذاتي، وإحساس نفسي، يختلف باختلاف الأشخاص وأحوالهم.
فإدراك جماليات النص الكلامي، وتفوقه في البلاغة والبيان راجع بشكل كبير إلى ما يجده المرء في نفسه من الاستمتاع بذلك النص والارتياح إليه، فهو مجرد أمور انطباعية، لا يقوم على معيار موضوعي حقيقي بحيث يميز فيه بين أنواع الكلام.
وهذا الاعتراض قائم على مجازفة معرفية ظاهرة، وعلى أحكام تعسفية، فإن المعترض حكم بغير دليل ولا برهان على علم کامل، وهو علم البلاغة والبيان بأنه مجرد انطباعات ذوقية لا يقوم على أسس علمية موضوعية، ومثل هذه الأحكام التعميمية الشاملة تتطلب علمًا واسعا جدا بمفردات العلوم وطبائعها، والغريب أن أكثر من يطلق هذه الأحكام لا يعرف من علم البلاغة شيئًا، وإن عرف فلا يعرف إلا القليل.
والدارس لعلم البلاغة والقارئ للضوابط والقوانين التي يذكرها العلماء فيه ـ بناء على استقرائهم لطبيعة الكلام وأقسامه -والمتأمل في تطبيقاتهم العملية يدرك بوضوح أنه علم موضوعي، يقوم على أسس علمية موضوعية يمكن من خلالها التمييز بين الكلام البليغ وغيره، وبين التراكيب العالية في البيان، وبين التراكيب الهزيلة، وإدراك تميزات أنواع الكلام بعضها عن بعض.
فإن علماء البلاغة يذكرون أن تمييز بلاغة الكلام وبيانه وفصاحته تتأثر بالتقديم والتأخير، والتفصيل والاختصار، والفصل والوصل، والحذف والإضافة، والتعريف والتنكير، والتذكير والتأنيث، والجمع والإفراد، وأنواع الاستعارات والمجازات، وغيرها وذكروا المقاييس الحاكمة لهذه الأساليب، والوازنة لاستعمالاتها، ولكل هذه الأمور شواهد موضوعية يمكن التحقق من وجودها في الكلام وقياسها.
ولو كانت بلاغة الكلام وفصاحته مبنية على مجرد أمور انطباعية لما أمكن للناس أن يتحاوروا في جماليات النصوص، ويتنافسوا في بلاغتها وفصاحتها ؛ لأن الأمور الانطباعية أمور ذاتية محضة، والأمور الذاتية لا تقبل الصواب والخطأ، ولا تقبل التفاضل، ولكن العقلاء جميعهم يسلمون بأن الكلام متفاضل بلاغته وفصاحته، ومتمايز في بيانه وجزالته، وحال العرب في الجاهلية أكبر دليل على ذلك، فإن سوق البلاغة كانت قائمة، وميادين التنافس في البيان والفصاحة عامرة في حياتهم، وكانوا يحاكمون بين النصوص، ويفضلون بعضها على بعض، ولو كانت بلاغة الكلام وفصاحته مجرد أمور انطباعية ذاتية لما أمكن قيام تلك الأمور .
لا جرم أن جعل فصاحة الكلام وبلاغته أمورًا انطباعية لا يختلف عن جعل القيم الجمالية في الكون أمورًا انطباعية ذاتية، كما يذهب إلى ذلك أتباع الفلسفة الوضعية وغيرهم، وفي هذا كله قضاء على هذه العلوم، وإدخال لحياة الناس في العبثية والفوضى، وغلق لكل أبواب الإصلاح والتطوير والتقدم في هذه المجالات المهمة في حياة الإنسان.
ونحن لا ننكر أن البحث البلاغي، والنظر في بيان الكلام وفصاحته قد يتأثر بالأذواق والانطباعات، ولكننا ننكر أن يكون العلم كله كذلك، وننفي أن تكون الأحكام المتعلقة بفصاحة الكلام وبلاغته جميعها قائمة على الذوق، كما يدعي ذلك المعترض.