أما المقدمة الأولى وهي: أن العالم حادث غير قديم؛ فالمراد بها: أن العالم الذي نشهده ونعلمه له بداية في وجوده فقد كان معدوما ثم انتقل من العدم إلى الوجود، وصار متصفا بصفات الوجود بعد أن كان فاقدا لها.
وقد اختلفت مسالك العلماء في الموقف من إثبات هذه المقدمة على موقفين أساسيين:
- الموقف الأول: من ذهب إلى أن إثباتها لا يتطلب إقامة الأدلة التفصيلية على حدوث كل مفردات الكون، وإنما يكفي في إثباتها إثبات حدوث بعض المفردات الجزئية الواقعية ومن ثم الانتقال منها إلى إثبات حدوثه جميعه.
ومن أشهر من تبنى هذا الموقف ونظر له واستدل عليه: ابن تيمية، فإنه كرر كثيرًا بأن إثبات حدوث العالم لا يشترط فيه البحث في إثبات حدوث كل مكوناته، وإنما يكفي في إثبات ذلك إثبات الحدوث لبعض مشاهده الجزئية، وحدوث بعض مشاهده الجزئية حاصل بالضرورة الحسية، فانتهى إلى أن حدوث العالم حاصل بالضرورة.
وقد توسع كثيرًا في بيان وجه كون الحدوث لبعض جزئيات الكون كافيا في الدلالة الضرورية على حدوثه بأجمعه، فذكر أن حدوث المحدثات يستلزم بالضرورة وجود محدث لها، والمحدث لا يخلو إما أن يكون علة تامة موجبة للفعل بذاتها، وإما أن يكون سببا متصفا بالمشيئة والاختيار، ويستحيل أن يكون محدث تلك الحوادث علة تامة ؛ لكون العلة التامة تستوجب قدم معلولها ومقارنته لها في القدم لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة، فثبت أن الحوادث يستحيل أن تحدث بعلة تامة، البتة، وأنه يجب أن يكون محدثها متصفا بالاختيار والمشيئة.
فكل حادث لا بد في حدوثه من حوادث تحدث يتحقق من تضافرها تمام علته، والقول في تلك الحوادث التي هي أسباب كالقول في الحوادث التي هي المسببات، يمتنع أن تصدر عن علة تامة قديمة فصار حدوث كل حادث موقوفا على حادث قبله وليس في الحوادث ما يحدث عن علة تامة قديمة أبدا، فلا يوجد حادث إلا بحادث ؛ وذلك أن السبب الحادث ليس له علة تامة قديمة، فثبت إذن أنه ليس للحوادث علة تامة قديمة.
وهذا يدل على استحالة أن يكون شيء من العالم قديمًا ؛ لأنه لو كان في العالم ما هو قديم للزم ثبوت العلة القديمة التامة وثبوت ذلك ممتنع في العالم بالضرورة؛ لأننا نشاهد فيه وقوع المحدثات، وهي لا تحدث عن علة تامة قديمة أبدا.
وإذا كان قدم شيء من العالم يستلزم وجود العلة التامة القديمة، وكان ذلك مناقضًا للضرورة الحسية فهذا يدل على استحالة قدم شيء من العالم، فثبت إذن أنه ليس شيء من العالم قديما، وثبت أن محدثه لا بد أن يكون متصفا بالمشيئة والاختيار والإرادة (انظر الصفدية ابن تيمية (۲۰/۱ – (۲۲)، ومنهاج السُّنَّة النبوة ابن تيمية (٢٧٢/٢ – ٢٨٢)، ومسألة حدوث، العالم ابن تيمية (١٦٣ – ١٧١))
ويمكن أن يعضد استدلال ابن تيمية – مع أنه قوي لا يحتاج إلى تعضيد – بأن يقال: إننا نشهد في الكون حدوث جزئيات لا حصر لها ولا عد، وفي المقابل ليس لدينا دليل يقيني على ثبوت قدم شيء من الكون، وكل الأدلة التي يستدل بها المستدلون على القدم إنما تدل على قدم النوع، وليس فيها ما يثبت قدم شيء محدد معين من الكون، فمن هاتين المسلمتين الظاهرتين في الثبوت يستنتج العقل الإنساني ضرورة بأن الكون حادث بعد أن لم يكن؛ لأن العقل الإنساني لديه علم ضروري بحدوث كثير من مشاهد الكون، ولديه جهل تام بحال الأجزاء الأخرى التي لم يشهدها، فيقيس الجزء المجهول الذي لم يشهده على الجزء المعلوم عنده ويأخذ بما علمه ويعتبر ما جهله مساويا له، فتعميم حكم الحدوث على الكون كله قائم على منهج استدلالي صحيح، وهو قياس الغائب على الشاهد، فهو إذن ليس قائمًا على عدم الدليل المعين، وإنما هو معتمد على دليل ثبوتي ظاهر في الدلالة، وقد أثبت ابن تيمية من خلال تحليله ذلك أن إثبات حدوث العالم لا يتوقف على الطرق التي استحدثها علماء الكلام في الفكر الإسلامي القائمة على اشتراط إثبات الحدوث لكل جزء من أجزاء الكون.
وذكر ابن تيمية أن الطريقة التي سلكها في إثبات حدوث الكون هي الطريقة التي دل عليها القرآن واعتمد عليها في الإشارة إلى ضرورة وجود الخالق سبحانه، فقال مبينا ذلك: (الطريقة المذكورة في القرآن الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق الله، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث.
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين، والذي في القرآن هو الأول لا الثاني كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَلِقُونَ) [الطور: ٣٥]، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة.
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة: إما بإخبار يفيد العلم الضروري، أو غير ذلك من العلوم الضرورية) (درء تعارض العقل والنقل (۲۱۷/۷)). والاكتفاء في إثبات حدوث الكون بالاعتماد على حدوث بعض مكوناته ليس خاصًا بابن تيمية بل شاركه فيه عدد غفير من ذلك:
العلماء، وممن صنع ابن حزم فإنه أقام أدلة متعددة على حدوث العالم، وأقام عددًا منها على إثبات الحدوث لبعض مكوناته فقط، ومن ذلك قوله: (أنه لا سبيل إلى وجود ثانٍ إلا بعد وجود أول ولا وجود ثالث إلا بعد وجود ثانٍ وهكذا أبدًا، ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن لها ثانٍ ولكننا نشهد في العالم حوادث متعددة ومتعاقبة، يحدث الثاني فيها بعد الأول والثالث بعد الثاني، وهذا دليل ظاهر على أن العالم ليس قديما) (الفصل في الملل والأهواء والنحل (٦٣/١).).
وممن قرر ذلك ابن رشد الحفيد، حيث يقول في سياق تقريره لدليل الخلق والإيجاد: (أما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات ووجود السماوات، وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: (إن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) الآية [الحج: ۷۳] ؛ فإنا نرى أجسامًا جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن هاهنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى، وأما السماوات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة (الكشف عن مناهج الأدلة (۱۱۹)).
وممن سلك ذلك المسلك: أبو سليمان الخطابي، حيث يقول: (فمن أوضح الدلالة على معرفة الله عز وجل، على أن للخلق صانعا ومدبرًا، أن الإنسان له إذا فكر في نفسه رآها مدبرة، وعلى أحوال شتى مصرفة، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة ثم عظامًا ولحما فيعلم أنه لا ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال؛ لأنه لا يقدر أن يحدث في الحال الأفضل التي هي حال كمال عقله، وبلوغ أشده عضوًا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد من جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في وقت نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز، وقد يرى نفسه شاباً، ثم كهلا، ثم شيخًا، وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه، ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل هذه الأفعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه، وناقلا نقله من حال إلى حال ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر) (بیان تلبيس الجهمية لابن تيمية (٥٠٢/١))
- الموقف الثاني: من ذهب إلى أن إثبات حدوث الكون يستوجب إثبات حدوث كل مكون منه بخصوصه، ولا يكفي إثبات حدوث بعضه، ومن أشهر من تبنى هذا الموقف أتباع المدرسة الكلامية على اختلاف اتجاهاتها، فإنهم حاولوا إقامة أدلة متعددة تقوم على الاستدلال بحدوث جميع مكونات العالم، ومن أدلتهم دليل الحدوث، الذي يقوم على مقدمات أربع أساسية، هي: الأولى: أن الكون مكون من جواهر وأعراض والثانية: أن الأعراض حادثة، والثالثة: أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض والرابعة: أن ما لا ينفك عن الأعراض فهو حادث (انظر في بيان مقدمات دليل الحدوث ومواطن الخلل فيه: الخلل المنهجي في دليل الحدوث، للباحث، مجلة التأصيل (١/ ٨٥ ـ ١٢٥ ))
والأدلة التي أقامها المتكلمون تتعلق بها تفاريع كثيرة وتفاصيل متعددة، وفيها كثير من الإشكالات والاضطرابات، وتفصيل القول فيها مما يطول به البحث جدا، وما يتعلق بها مبحوث في المطولات من كتب العقائد.