يقوم حقيقة هذا الاعتراض على أنه لا يصح الاعتماد على مبدأ السببية في إثبات وجود الله؛ لأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يعمل إلا في الدوائر التي يوصل إليها الحس، وليس في مقدوره أن يتجاوزها البتة، وبالتالي فإنه لا يصح إثبات شيء خارج عن العالم الحسي المادي استنادًا إلى مبدأ السببية.
وهذا الاعتراض قال به الفيلسوف الألماني الشهير كانت، فإنه بعد أن انتهى في فلسفته النقدية إلى أن العقل لا يستطيع أن يعمل إلا في الدوائر التي يوصلها إليه الحس فقط وليس في مقدوره أن يتجاوزها إلى غيرها البتة، والحس يدرك إلا ظواهر الأشياء فقط؛ قرر كانت بأن المعرفة الإنسانية لا تتعلق إلا بظواهر الأمور فحسب، واستحدث نتيجة لذلك تفريقه المشهور الذي يذهب إلى التمييز بين الأشياء في ذواتها والأشياء في ظواهرها.
وتوصل بناء على أصوله تلك إلى أن الميتافيزيقا بموضوعاتها المختلفة – ومنها موضوعات الدين – ليست علما؛ لأنها ليست مما يدخل في نظام المصادر المعرفية، فهي ليست مما يمكن أن ينقله الحس إلى العقل.
وهذا التقرير يقتضي أن يكون كل من السبب والنتيجة داخلين ضمن نطاق العالم الحسي، فمبدأ العلية عند كانت لا يمكن تطبيقه إلا في عالم الظواهر الحسية فقط.
ولأجل هذا انتقد كانت دليل الخلق والإيجاد – الذي سماه: الدليل الكوني – بحجة أن فيه انتقالا غير مشروع من عالم الحس إلى عالم الغيب، وفي بيان كانت لفكرته يقول: (إن الاستدلال على علة أولى المرتكز على استحالة سلسلة صاعدة غير متناهية من علل معطاة في عالم الحس هذا، لهو استدلال لا تسمح لنا مبادئ استعمال العقل بأن نستخلصه حتى في الخبرة، بينما أننا هنا نمد المبدأ حتى ما وراء الخبرة ونمد به إلى حيث لا يمكن أبدا إطالة هذه السلسلة).
وهذا الاعتراض من كانت غير صحيح، وهو مبني على أصول فلسفية خاطئة ومنطلقات معرفية باطلة ويتبين ذلك بالأمور التالية:
* الأمر الأول: أن هذا الاعتراض قائم على مصادرة لا دليل عليها ؛ فإنه ادعى أن دلالة مبدأ السببية محصورة في الأمور الحسية فقط، وأنه لا يمكن أن يدل على الحقائق الغيبية وهذا الادعاء فضلا أنه عن مجرد دعوى لا دليل عليها، فهو في حقيقته استدلال بمحل النزاع مع المؤمنين الذين يعتقدون إمكان دلالة العقل على وجود الله ؛ إذ هو يبطل حجج المؤمنين العقلية بالدعوى نفسها التي يدعيها ضدهم.
* الأمر الثاني: أن كانت لم يستطع التخلص من حقيقة اعتراضه؛ وذلك أنه اعتمد عليه في الدليل الأخلاقي الذي استدل به على وجود الخالق، فإن طريقته في هذا الدليل راجعة في حقيقتها إلى التأمل العقلي والربط السببي بين الأمور، وهكذا يرجع الدليل الأخلاقي عند كانت إلى الدليل العقلي الذي أنكره، وينطلق من مبادئه التي زعم أنها لا تدل على وجود الله، كما سبق بيانه في المبحث السابق.
* الأمر الثالث: أن كانت خلط بين مقام البحث في ضرورة وجود السبب للحوادث وبين البحث في كنه ذلك السبب وحقيقته، فنحن لا نستدل بحدوث الكون على معرفة كنه الخالق للكون وإدراك حقيقته، وإنما نستدل به على ضرورة وجود الخالق فقط، فالعقل الإنساني لا يمكنه الوصول إلى كنه ذات السبب بمجرد النتيجة، ولكن ذلك لا يعني أنه لا يستطيع الوصول إلى ضرورة وجود السبب ذاته، فإنا إذا رأينا هذا العالم المحسوس، ولم نتمكن من معرفة كنه علته الكافية التي سببت وجوده؛ أي كنه ذات الله الذي خلقه وأوجده، لم يكن لنا أن ننكر وجود هذا الخالق لمجرد أننا عجزنا عن معرفة كنه ذاته وصفاته، وإذا فعلنا نكون منكرين ومبطلين لقانون العلية الذي يقول كانط: إنه قانون عقلي ضروري، مركوز في عقولنا.
حقًا إن كانت غفل عن الفرق الجوهري بين هذين الأمرين – أعني: إدراك ضرورة السبب وإدراك حقيقته -، فظن أن عجز العقل عن البلوغ إلى معرفة كنه السبب الموجب لحدوث الكون يستلزم عجز العقل عن إدراك ضرورة وجوده ولزوم تأثيره عليه، وهذا مكمن الخطأ الذي وقع فيه كانت في هذه القضية.