صرح عدد من الناقدين للأديان بإنكار مبدأ السببية الذي يقوم عليه دليل الخلق والإيجاد، بل كل أدلة الوجود الإلهي، وذهب إلى أن أحداث الكون مجرد تتابعات وجودية ليس بينها أي ترابط سببي وأن الحدث السابق ليس له أي علاقة سببية تأثيرية بالحدث اللاحق، فغاية ما يعرفه الناس عن الوجود هو التتابع الزمني فقط.
وقد اشتد الاعتماد على هذا الاعتراض مع ظهور الفيلسوف الإنجليزي الشهير ديفيد هيوم، فإنه يعد من أشهر المعترضين على مبدأ السببية والقادحين في حقيقته، وتعد اعتراضاته التي أثارها على مبدأ السببية من أكثر المستندات التي يعتمد عليها الناقدون للأديان ثم ازداد الاعتماد عليه مع ظهور نظريات الفيزياء الكمية الحديثة.
وفي تصوير أثر ذلك كله في الاعتماد على دليل الخلق يقول الفيلسوف المعاصر جون هيك: (ما زال البرهان يعتمد على فهم لقانون السببية ورغم صحة هذه الفرضية على أساس بعض النظريات عن طبيعة قانون السببية، فإنها غير صحيحة على قاعدة النظريات الأخرى، مثلاً: إذا كانت القوانين السببية تقرر احتمالاً ذا طابع إحصائي كما يرى العلم الحديث، أو أن العلاقات السببية تمثل مجرد ملاحظات لحوادث متتالية كما يرى هيوم أو إسقاطات لبنية العقل البشري كما يرى كانت، فإن برهان توماس الإكوني ـ برهان العلة الأولى – محتوم بالفشل).
والاعتراض على مبدأ السببية تتعلق به تفاريع كثيرة، ولكننا سنقتصر على المسوغات والأدلة التي اعتمد عليها المعترضون على ذلك المبدأ، وهي متنوعة في مساراتها ومختلفة في طرائقها، وترجع أصولها إلى نوعين من الأدلة:
النوع الأول
الدليل العقلي التأملي
وقد اشترك عدد من الفلاسفة في إثارة الاعتراض العقلي على مبدأ السببية، سواء من جهة عمومه لكل الحوادث، أو من جهة يقينيته، ومن أشهر الفلاسفة الناقدين للأديان الذين قاموا بذلك ديفيد هيوم وبرتراند رسل وترجع اعتراضاتهم العقلية إلى الأمور التالية:
- الأمر الأول: أن مبدأ السببية لا يدرك بالحس، وكل ما لا يدرك بالحس فلا وجود له، فضلًا عن أن يوصف بكونه مبدأ ضروريا، وفي بيان حقيقة هذا الاعتراض يقول ديفيد هيوم: (مهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحقها، والسبب شيء والمسبب شيء آخر، والسبب والمسبب حادثان مختلفان، وتحليل أحدهما تحليلا عقليًا لا يدل على وجود الآخر).
وبهذا التحليل أنكر هيوم الضرورة العقلية في مبدأ السببية؛ لأن تلك الضرورة ليست متضمنة في حقيقة فكرة السببية ذاتها وإنما هي ربط بين إدراكات حسية متتالية.
ونتيجة لذلك، فإن الشيء إذا كان جديدا كل الجدة، فالإنسان يعجز عن اكتشاف أي سبب من أسبابه أو أي أثر من آثاره عن طريق تفحص خاصياته بالعقل وحده، ولا يمكن أن يصل إلى ذلك إلا إذا كانت لديه خبرة حسية سابقة بالشيء، فآدم أول نزوله إلى الأرض لم يكن بإمكانه أن يستدل من سيولة الماء وشفافيته على أنه يغرقه، ويخنقه ولا من النار وحرارتها على أنها تحرقه؛ لأنه لا يمكن للعقل أن يستنتج شيئًا عن الواقع بدون مساعدة الحس، ويؤكد ذلك فيقول: (وهكذا وبكلمة واحدة فإن كل أثر هو حدث مستقل عن سببه، ولا يمكن إذن اكتشافه في السبب).
وقد سلك رسل طريقة هيوم في الاعتراض على مبدأ السببية، واعتمد على الاحتجاجات نفسها (۳)، وكذلك أتباع الوضعية المنطقية اقتفوا آثار هيوم في نقده لذلك المبدأ.
والنتيجة التي انتهى إليها هؤلاء جميعًا أنه لا يصح الاعتماد على خلق الكون في إثبات وجود الله؛ لأنه لا تلازم ضروريًا بين السبب والنتيجة، وقرروا أنه لا يصح لنا الاستدلال بالخلق على وجود الخالق، إلا إذا رأينا السبب ذاته، ولا يكفي الاقتصار على مجرد الاعتقاد العقلي بالترابط بينه وبين مسببه.
وهذا الاعتراض خطأ ظاهر؛ لكونه مبنيا على ثلاثة أخطاء باطلة:
الخطأ الأول: الزعم بأن مصادر المعرفة الإنسانية منحصرة في الحس فقط وقد سبق في أثناء البحث إثبات بطلان هذا الزعم.
الخطأ الثاني: أن طريق العلم بمبدأ السببية مبني على الاستقراء للحوادث، وأنه لا يمكن لنا العلم بمبدأ السببية إلا بعد أن نتتبع الحوادث كلها ونتحقق من ذلك؛ ولهذا فإنك ترى كثيرًا في كلام أولئك الناقدين الربط بين الاستقراء والعلم بالسببية، وقد ذكر رسل أن الاتساق والترابط في الطبيعة يجب أن لا يعد مقدمة سابقة على الحس، وعلل ذلك بقوله: (لأن هذا افتراض ليس معروفا لنا معرفة قبلية، إنما هو تعميم تجريبي، تمامًا مثل القول بأن كل إنسان فان.
وموجب الوقوع في هذا الخطأ راجع إلى خلط أولئك الناقدين بين حقيقة مبدأ السببية ومبدأ الاطراد والخلط بين ما تقتضيه الضرورة العقلية وبين ما تقتضيه الضرورة الواقعية، وقد سبق في أثناء البحث بيان هذا الغلط.
الخطأ الثالث: الاعتقاد بأن مبدأ السببية لا بد أن يكون مضمنا في مفهوم كل من السبب والنتيجة فإن لم يكن متضمنا فيهما فهو غير عقلي إذن، ويظهر هذا الاعتقاد جليا في قول هيوم: (مهما حللت بعقلك البحت واقعة ما، فلن تجد فيها ما يدل على أنها كانت مسبوقة بكذا أو أن كذا سيصاحبها أو سيلحقها، والسبب شيء والمسبب شيء آخر، والسبب والمسبب حادثان مختلفان، وتحليل أحدهما تحليلا عقليا لا يدل على وجود الآخر).
وهذا الاعتقاد غير صحيح، وهو من أضخم أصول الخطأ عند هيوم في نقده لمبدأ السببية، فإن مفهوم السببية لا يقوم على معنى التضمن في السبب أو النتيجة، وإنما يقوم على معنى الاستلزام العقلي الضروري، ومعنى ذلك أن مفهوم السببية مغاير لمفهوم السبب والنتيجة، فتصور أحد هذين الأمرين – السبب والنتيجة – لا يتضمن في حد ذاته تصور مفهوم السببية، ولكن ذلك لا يعني أنه ليس معنى عقليا ضروريًا، وقد سبق في البحث بيان مطول لهذه القضية.
وإذا ثبتت هذه الحقيقة – أعني: أن ذلك الدليل مبني على تلك الأخطاء ـ فهو دليل باطل؛ لأن ما بني على باطل فهو فباطل.
- الأمر الثاني: أن التسليم بمبدأ السببية يؤدي إلى التسلسل في العلل إلى ما لا نهاية، وهذا يدل أنه لا يمكن أن نصل إلى علة هي العلة الأولى الحقيقية المؤثرة في الوجود.
وفي الإشارة إلى هذا المعنى يقول برتراند رسل: (لو حاولنا تعليل القوانين بقولنا: لماذا؟ لاحتاج التعليل إلى تعليل، وهذا إلى ثالث، وهلم جرا)
ولكن هذا الاعتراض مبني على تصور خاطئ لمبدأ السببية، فإن المؤمنين به لا يقولون فيه: إن لكل علة علة وإنما يقولون فيه: إن لكل حادث علة، فالمبدأ ينص على امتناع تصور حدوث أمر بدون علة وامتناع تصور وقوع فعل بلا فاعل وهذا لا يقتضي أن يكون لكل علة علة، وأن يكون لكل سبب سبب إلى ما لا نهاية.
ولم يكن المؤمنون في غفلة عن معالجة هذا المعنى، فقد سبق التنبيه في أثناء البحث على امتناع التسلسل في العلل، وضرورة انتهائها إلى علة قديمة، ومسبب أولي فاعل مختار ليس له فاعل ولا سبب أعلى منه، وتحقق الكشف عن أن عدم انتهاء العلل إلى ذلك يستلزم بالضرورة عدم وجود الأشياء، فحدوث المحدثات ذاته يدل بالضرورة العقلية على امتناع التسلسل في العلل والأسباب والفاعلين.
وفي بيان حقيقة هذا المعنى يقول ابن تيمية: (الممكن المفتقر لا بد له من واجب غني بنفسه، وإلا لم يوجد، ولو فُرض تسلسل الممكنات المفتقرات، فهي بمجموعها ممكنة والممكن قد عُلم بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير فإنه يعلم أنه فقير أيضًا في وجوده إلى غيره، فلا بد من غني بنفسه، واجب الوجود بنفسه، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال).
- الأمر الثالث: أنه لو كان مبدأ السببية ضروريا لما أمكن الاستدلال عليه ولكن الفلاسفة العقليين يستدلون عليه كثيرًا، ويسعون إلى إقامة البرهان على صدقه، حيث يذكرون أنه لكي يوجد الحادث الممكن، فإن ترجح وجوده على عدمه لا بد له من مرجح لاستحالة ترجح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح، وهذا المرجح هو العلة، فتحصل أن كل حادث لا بد له من علة وهذا الاستدلال كما يقول هيوم متضمن للمصادرة على المطلوب؛ لأن فيه استدلالا على مبدأ السببية بنفسه، حيث إنه يقوم على فرض أن الرجحان لا بد له من مرجح، وهذا الفرض هو مبدأ السببية نفسه.
وهذا الاعتراض قائم على الخلط بين الاستدلال على الشيء، وبين بيان وجه الضرورة فيه، وهما أمران مختلفان في الحقيقة والحكم، فالاستدلال على الشيء يقتضي أن الشيء غير ثابت في نفسه، وأن ثبوته لا يقوم إلا على شيء ثابت قبله، وبيان وجه الضرورة في الشيء لا يقتضي ذلك كله، وإنما ينطلق من أن الشيء مستقر في نفسه، مستغن في ثبوته عن غيره، وإنما يحتاج إلى كشف وإيضاح وبيان بالطرق المعتمدة في ذلك، كالسبر والتقسيم والتمثيل وغيرها، فهو إذن عمل كشفي، وليس عملا إثباتيا بخلاف الاستدلال على الشيء، فإنه عمل إثبات، وليس مجرد کشف و توضيح.
وما يذكره المسلمون بمبدأ السببية في سياق توضيح حقيقته ليس هو في الحقيقية استدلالًا منهم على صحته، وإنما هو كشف وبيان لوجه الضرورة فيه لمن غفل عن ذلك، ومخاطبة للفطرة العقلية التي صرفت عن التسليم به.
وأما ما اعترض به هيوم فإنه يكون صحيحًا لو أن المسلمين بمبدأ السببية ساقوا تقريرهم على جهة الاستدلال والإثبات؛ فإنهم لو فعلوا ذلك لكان ما اعترض به هیوم صحيحًا مستقيما ولكنه اعتراض مخالف للحقيقة والواقع.
- الأمر الرابع: يزعم رسل أن هناك تعاقبا بين السبب ونتيجته، وهذا التعاقب يستلزم وجود فترة زمنية فاصلة بينهما، (فهناك بينهما فترة مهما قلّت في قصرها، فهي على كل حال فترة ذات طول زمني معين، وهناك احتمال أن يحدث خلال هذه الفترة ما يحول دون أن تظهر النتيجة تابعة لسببها، على أنه كلما كانت الفترة بالغة في القصر وكانت النتيجة أشد التصاقا بسببها قلّ ذلك الاحتمال بطبيعة الحال) (الفلسفة بنظرة علمية، رسل (۹۷))، فمبدأ السببية إذن ليس مبدأ علقيًّا ضروريًا، وإنما هو مبدأ احتمالي ترجيحي.
وهذا الاعتراض غير صحيح؛ لأنه قائم على افتراض عقلي لا حقيقة له في الوجود؛ فإن السبب إذا تحققت شروطه وانتفت موانعه يؤدي إلى نتيجته من غير فاصل زمني كما توهم برتراند رسل فإن غليان الماء يحصل عند توفر شرطه مباشرة من غير أي تأخر زمني، والقطع بالسكين يحصل عند إمرار السكين على المقطوع من غير أي فاصل زمني، فما افترضه رسل مجرد فرض ذهني خيالي لا حقيقة له في الواقع.
ثم على التسليم بأن هناك فاصلا زمنيا بين السبب والنتيجة، وأن هذا الفاصل يؤدي إلى دخول الاحتمال والتردد في العلاقة بين الأمرين – السبب والنتيجة، فإن ذلك ليس قادحًا في السببية القبلية؛ وذلك أن رسل يخلط خلطا كبيرا بين طبيعة مبدأ السببية وطبيعة مبدأ الاطراد، والحتمية، وهذا الخلط خطأ منهجي عميق التأثير فمبدأ السببية يرجع إلى العلاقة بين المسبب والسبب، ويقوم على أنه يجب أن يكون لكل حادث في الوجود سبب مؤثر فيه حدوثه، ومبدأ الاطراد يرجع إلى العلاقة بين السبب والمسبب، ويقوم على أن كل يؤدي إلى نتيجة محددة في الواقع.
فمبدأ السببية يتعلق بالسبب من حيث ابتداؤه ومبدأ الاطراد يتعلق بالسبب من حيث انتهاؤه ونتيجته، والضرورة في مبدأ السببية ضرورة عقلية قبلية، لا تعتمد على الحس في ثبوتها والضرورة في مبدأ الاطراد ضرورة تجريبية بعدية، قائمة على الضرورة العقلية، وذلك أن مبدأ الاطراد قائم على ثبوت الخصائص الذاتية للأشياء، وفاعلية هذه الخصائص محكومة بالظروف الوجودية المحيطة بالشيء ء، فإذا كانت الظروف مستقرة، فإن السبب سيؤدي إلى مسببه ونتيجته، وقد تتغير الظروف وتؤدي إلى تعطل السبب وتخلف مقتضياته عنه.
فما يتعلق بالاتساق الترابطي بين مجريات الأحداث اليومية راجع إذن إلى طبيعة الخواص الذاتية للأشياء التي يقوم عليها مبدأ الاطراد، ولا يشكل منها شيء على مبدأ السببية.
فلو أنا وجدنا شيئًا لا يحترق إذا ألقي في النار، فإن ذلك لا يعني أن النار ليست سببًا في الإحراق ولا يعني انتفاء مبدأ السببية من الواقع، وإنما غاية ما يعني أن إحراق النار لم يطرد في كل الموجودات، لا لقصورها في نفسها، وإنما لوجود مانع يمنع من اطراد ذلك السبب.
ولكن رسل غفل عن هذه الحقيقة، ولم يفرق بين مبدأ السببية القبلي وبين مبدأ الاطراد البعدي، فطفق ينكر مبدأ السببية ويحكم عليه بالاحتمال بناءً على إمكان تخلف مبدأ الاطراد في بعض الحالات، وهذا خلل منهجي عظيم، يؤدي إلى نتائج معرفية منحرفة عن المنهج العلمي الصادق.
النوع الثاني
الأدلة العلمية
لم يكتف المعترضون على مبدأ السببية بالأدلة العقلية الهزيلة التي أقاموها، وإنما حاولوا الاستدلال على موقفهم ببعض الاكتشافات العلمية، وظهر هذا النوع من الاستدلال بشكل ظاهر في بداية القرن العشرين مع انتشار الفيزياء الكمية، ووجه ذلك: أن نظرية الكم أثبتت أن عالم الذرة لا يسير على وفق ذلك المبدأ الذي يقتضي أن كل حادث لا بد أن يكون له سبب يؤثر فيه، ومن تلك الاكتشافات ظاهرة النشاط الإشعاعي، فقد اكتشف أن هناك مواد إشعاعية لها خاصية النشاط، وهي خاصية تستطيع الذرة بمقتضاها أن تقذف بإشعاعات مختلفة الأنواع، وهي حين تقذفها تقذفها بطريقة تلقائية بدون تفسير، ودون تنبؤ بها ولا بما سوف يكون للذرة.
فأخذوا من هذا أن نظام الذرة لا يخضع لقانون السببية، ولا يسير على مقتضاه، ولهذا يقول جيمس جينز لما ذكر فكرة الإشعاع: (هكذا نجد أن ذرية الإشعاع تحطم مبدأ اتساق، الطبيعة، وأن ظواهر الطبيعة لم تعد محكومة بقانون)، ويقول هانز ريشنباخ لما تساءل هل مبدأ السببية نهائي أم لا؟ (جاءت الإجابة من فيزياء القرن العشرين التي حللت الحوادث الذرية على أساس مفهوم الكم الكوانتم عند بلانك، فنحن نعلم من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة أن الحوادث الذرية المنفردة لا تقبل تفسيرا، سببيا، بل تحكمها قوانين الاحتمال فحسب، هذه النتيجة التي صيغت في مبدأ اللاتحديد المشهور. .. هي الدليل على الثاني – أنه ليس مبدأ نهائيا – هو الصحيح، وعلى أن من الواجب التخلي عن فكرة السببية الدقيقة)، ويقول نيلز بور لما ذكر أن أساس نظرية الكم هو الطابع الانتقالي: (إن هذه المسلمة تضطرنا إلى التخلي عن تطبيق السببية والتحديد المكاني والزماني مجتمعين في آن واحد).
ويقول جيمس جينز أيضًا: (إن السببية الصارمة ليس لها الآن مكان في صورة العالم التي يعرضها علينا علم الطبيعة الحديث).
ومن أشهر من اعتمد على الدليل العلمي للقدح في مبدأ السببية: برتراند رسل، فإنه ذكر أن العلم التجريبي حين جدّ في البحث أثبت أن الكون لا يسير على وفق ما يقرره مبدأ السببية، وأقام استدلاله على الاكتشافات العلمية المتعلقة بحركة الإلكترون، وذكر (أنه ليس لدينا علم بقانون سببي يبين لنا متى سيقفز الإلكترون من فلك إلى فلك آخر).
ولكن هذا النوع من الاستدلال غير صحيح، وهو متضمن لأخطاء منهجية واستنتاجية عديدة، ينجلي ذلك بالأمور التالية:
- الأمر الأول: أن هذا الاستدلال قائم على الخلط بين الموقف الطبيعي والموقف العلمي؛ وهذا خلل منهجي ظاهر ؛ وذلك لأن كلا من الموقفين له طبيعته الخاصة في النظر إلى الأشياء، وكل منهما له مجاله وغرضه الخاص به، فكما لا يصح أن نحكم على الموقف العلمي بما يقتضيه الموقف الطبيعي، كذلك لا يصح أن نحكم على الموقف الطبيعي بما يقتضيه الموقف العلمي، فلا يصح أن نحكم على صورة البرتقالة التي تحصل بالموقف الطبيعي بالبطلان لأجل مخالفتها لصورتها في الموقف العلمي؛ لأن كلا له طريقته في إدراك الشيء، وفي بيان هذا يقول فؤاد زكريا: (من العبث أن ننقد الصورة التي نكونها للعالم في موقفنا الطبيعي لاختلافها عن الصورة العلمية للعالم؛ إذ إن كلا من الصورتين تؤدي وظيفة مختلفة تمامًا عن وظيفة الأخرى، وتسري على مجال مخالف تمامًا لمجالها).
فلا يصح أن نبطل صورة الفيروسات في الميكروسكوب (المكبر) استنادًا إلى عجز التلكسوب (المصغر) عن إدراكه؛ لأن التلكسوب لم يوضع لإدراك الأمور الصغيرة ولا يصح أن تُبطل وجود النجوم والمجرات بناء على عدم إدراك الميكروسكوب؛ لأن الميكروسكوب لم يوضع لها، وكذلك لا يصح أن نبطل صورة الشيء في الإدراك الطبيعي بناءً على أن تلك الآلات لم تدركها كما هي عليه في الموقف الطبيعي؛ لأنها لم توضع لتحصل ما يمكن للموقف الطبيعي أن يدركه.
فتحصل أن كل إدراك له مجاله الخاص به، فالموقف الطبيعي يحكم في العالم الطبيعي، والموقف الميكروسكوبي يحكم في العالم الصغير، والموقف التلكسوبي يحكم في العالم الكبير، والخلط بين هذه المجالات يؤدي إلى نتائج باطلة حتمًا.
وقد سبق في أثناء البحث معالجة هذا الخطأ، وسوق عدد من الشواهد النقدية عليه، وبيان آثاره في عدد من المسائل.
- الأمر الثاني: تلك الدعوى قائمة على أن مبدأ اللاتحديد أو اللاحتمية متعلقة بقضية السببية الفطرية في الوجود، والحقيقة أنه ليس كذلك، فهو لا يتعلق بمبدأ السببية وإنما يتعلق بمبدأ الاطراد، والحتمية وهما مبدان مختلفان في الحقيقة، فمبدأ السببية يقتضي أن لكل حادث سببًا، وهو مبدأ فطري قبلي، ومبدأ الحتمية يقتضي أن وجود السبب يستوجب وجود المسبب إذا تكررت الظروف نفسها.
فذلك القانون لا يقول: إن الحوادث على المستوى الذري ليس لها سبب وإنما يقول: إنه لا يمكن التنبؤ بها ولا تحديد أسبابها بدقة.
ومما يدل على ذلك أن فيزياء الكم تسير وقف قواعد وقوانين منضبطة وتحكمها أسس محكمة، ولو كانت تقرر العشوائية المنافية لقانون العلية القبلي لما أضحت علما يمكن أن يدرس وتتم الاستفادة منه.
وفي بيان هذا المعنى يقول عالم الفيزياء ماكس بورن – وهو أحد مؤسسي ميكانيكا الكم -: (القول بأن الفيزياء قد تخلت عن السببية قول لا أساس له من الصحة، صحيح أن الفيزياء الحديثة قد تخلت عن بعض الأفكار التقليدية وعدلت فيها، لكن لو توقفت الفيزياء عن البحث عن أسباب الظواهر فلن تصبح حينها علما).
ومن أعمق الأمور التي أدت إلى وقوع الإشكال والاضطراب في تحديد موقف ذلك المبدأ من مبدأ السببية: الاختلاط في استعمال مصطلح السببية ذاته، وأنها تارة تستعمل بمعنى العلية وتارة تستعمل بمعنى الحتمية، وقد نبه على هذا الخلل ف. سي. س. نورثروب، فإنه ناقش الآثار المعرفية التي يمكن أن تترتب على فيزياء الكم فقال: (وماذا عن مبدأ العلية (السببية) والحتمية في ميكانيكا الكم؟ أغلب الظن أن اهتمام غير المختصين يتعلق بهذا السؤال في المقام الأول).
ثم ذكر أن هناك صعوبات في الجواب على هذا السؤال وفيه أجوبة متناقضة، وذكر أن من أسباب تلك أن مصطلح السببية يستعمل في الفيزياء بمعنيين: العلية والحتمية وقال: (فجواب ميكانيكا الكم سيكون واضحا وضوحا لا لبس فيه حين يتوضح بأي معنى يتم استعمال مفهوم العلية – السببية).
- الأمر الثالث: أنهم في استدلالهم ذلك وقعوا في خطأ استدلالي ظاهر، وذلك أن استدلالهم قائم على أن العلم لم يكتشف سير العالم على وفق السببية، وبالتالي فإنه يصح نفيه، وهذا غير صحيح؛ ؛ لأن عدم الكشف عن القانون وعدم التحصل عليه لا يعني عدم وجوده؛ فإن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه كما هو مقرر عند العقلاء، فالاستدلال بعدم الكشف عن الشيء على عدمه قفز على المقدمات وخلوص إلى النتائج بلا دليل.
ومما يؤكد هذا الخلل أن الفيزياء الحديثة أكدت في بعض اكتشافاتها مبدأ السببية، ومن تلك الاكتشافات: تغير مدار الإلكترون حول النواة، فقد اكتشفوا أن تغيره راجع إلى اكتسابه طاقة من الخارج، فتغير نطاقه إذن يكون بسبب زيادة الطاقة، وهناك اكتشافات أخرى تؤيد وجود السببية غير ما ذكر فلماذا يعتمدون على الاكتشافات التي فهموا منها نفي السببية، ولم يعتمدوا على الأخرى التي تفيد وجودها، أليس هذا تحكما محضا لا مسوغ له؟!!
- الأمر الرابع: أن بعض علماء النظريات الفيزيائية ومؤسسيها لم ينكروا مبدأ السببية، بل أقروا بوجوده وأهميته في علمهم، فقد كتب أينشتاين إلى بعض أصدقائه يقول له: (إننا نبدأ دائما ببعض عقائد حتى في البحث العلمي، ومنها السببية والموضوعية والانسجام في الظواهر وبساطة قوانينها)، ويقول ماكس بورن: (لقد استبعدت الفيزياء الحديثة أو طورت كثيرًا من الأفكار التقليدية، لكنها لن تكون علما لو نبذت البحث عن علل الظواهر)، ويؤكد رسل هذا المعنى فيقول: (إن المنهج العلمي يجب أن يقوم على بعض مصادرات لا يثبت صدقها من أية تجربة وإنما نعتقد بها منذ البدء (وذكر منها) مبادئ السببية واطراد الحوادث وسريان القانون في العالم الطبيعي).
ويؤكد أندرو كوندي إيفي – وهو من العلماء الطبيعيين المشهورين ـ أن رجل العلم لا يمكنه أن يتخلى عن مبدأ السببية، البتة ويقول: (حقيقة إن رجل العلوم يستخدم فكرة الآلية بوصفها إحدى وسائله أو أدواته، فهو يتكلم مثلا عن آلية الجسم، ولكنه يجري بحوثه على أساس مبدأ السببية – مبدأ السبب والنتيجة ـ على أساس وحدة الكون وما يسوده من القانون والنظام وهو كأي إنسان آخر يتخذ كل قرار ويفكر في كل أمر على أساس الإيمان بمبدأ السببية)، ويستمر في بيان أهمية مبدأ السببية في المجال العلمي قائلا: (إن أحدًا لا يستطيع أن يثبت خطأ قانون السببية، فبدونه تنعدم جميع الأشياء الحية والعقل البشري لا يستطيع يعمل إلا على أساس السببية. إنني أسلم أن لقانون السببية وجودًا حقيقيا).
وخلاصة ما يدل عليه التقرير السابق أن إنكار مبدأ السببية سيؤدي حتما إلى إفساد المعرفة الإنسانية جميعها، وسيوصل إلى هدم بنيان العلم التجريبي الذي لا يمكن أن يقوم على سوقه إلا بالتسليم بمبدأ السببية.