أضاف البحث العلمي خلال السنوات الأخيرة أدلة جديدة على وجود الله زيادة على الأدلة الفلسفية التقليدية. ونحن لا نقصد من ذلك ان الأدلة الجديدة لازمة او لا غنى عنها، فقد كان في الإثباتات القديمة ما يكفي لاقناع اي انسان يستطيع ان ينظر إلى الموضوع نظرة مجردة عن الميل أو التحيز. وأنا بوصفي ممن يؤمنون بالله أرحب بهذه الأدلة الجديدة لسببين:
أولا: تزيد معرفتنا بآيات الله وضوحا.
ثانيا: تساعد على كشف الغطاء عن أعين كثير من صرحاء الشكيين حتى يسلموا بوجود الله.
لقد عمت أمريكا في السنوات الأخيرة موجة من العودة إلى الدين، ولم تتخط هذه الموجة معاهد العلم لدينا. ولا شك ان الكشوف العلمية الحديثة التي تشير إلى ضرورة وجود إله لهذا الكون قد لعبت دورا كبيرا في هذه العودة إلى رحاب الله والاتجاه اليه. وطبيعي ان البحوث العلمية التي أدت إلى هذه الادلة لم يكن يقصد من اجرائها إثبات وجود الخالق، فغاية العلوم هي البحث عن خبايا الطبيعة واستغلال قواها، وهي لا تدخل في البحث عن مشكلة النشأة الأولى، فهذه من المشكلات الفلسفية، والعلوم لا تهتم إلا بمعرفة كيف تؤدي الأشياء وظائفها، وهي لا تهتم بمعرفة من الذي جعلها تعمل او تؤدي هذه الوظائف.
ولكن كل انسان – حتى أولئك الذين يشتغلون بالعلوم الطبيعية – لديه ميل او نزعة نحو الفلسفة. ومما يؤسف له أن المرموقين من العلماء ليسوا دائما من الفلاسفة الممتازين، فقليل منهم هم الذين يفكرون في أمور النشأة الأولى.
وقد يعتقد بعضهم أن هذا الكون هو خالق نفسه، على حين يرى البعض الآخر أن الاعتقاد في أزلية هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد في وجود اله أزلي.
ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي الأخير؛ فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا لأن هنالك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة.
ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام وينضب فيها معين الطاقة، ويومئذ لن تكون هنالك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.
ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود.
وهكذا توصلت العلوم – دون قصد – إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله، لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ نفسه ولا بد من مبديء، أو من محرك أول، أو من خالق، هو الإله.
ولا يقتصر ما قدمته العلوم على اثبات أن لهذا الكون بداية، فقد أثبتت فوق ذلك انه بدأ دفعة واحدة منذ نحو خمسة بلايين سنة. والواقع أن الكون لا يزال في عملية انتشار مستمر تبدأ من مركز نشأته. واليوم لا بد لمن يؤمنون بنتائج العلوم أن يؤمنوا بفكرة الخالق أيضا، وهي فكرة تستشرف على سنن الطبيعة، لأن هذه السنن إنما هي ثمرة الخلق،ولابد لهم أن يسلموا بفكرة الخالق الذي وضع قوانين هذا الكون، لأن هذه القوانين ذاتها مخلوقة، وليس من المعقول أن يكون هنالك خلق دون خالق: هو الله.
وما ان أوجد الله مادة هذا الكون والقوانين التي تخضع لها حتى سخرها جميعا لاستمرار عملية الخلق عن طريق التطور.
إنني واثق أن كلمة التطور قد أسيء فهمها في كثير من الدوائر حتى صار مجرد النطق بها يثير التعجب. وإنني أفهم ما يعنيه هؤلاء الأصدقاء، بل أتفق معهم في أن التطور المقصود هنا هو التطور المادي أو الميكانيكي الذي ينبغي ان نفرق بينه وبين التطور الخلقي او الإبداعي كل التفرقة.
ولو أن جميع المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بنفس روح الأمانة والبعد عن التحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرروا عقولهم من سلطان التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم، فإنهم سوف يسلمون دون شك بوجود الله، وهذا هو الحل الوحيد الذي يفسر الحقائق. فدراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا بدون شك إلى إدراك وجود السبب الأول الذي هو الله.
ولقد من الخالق على جيلنا وبارك جهودنا العلمية بكشف كثير من الأمور حول الطبيعة، وصار من الواجب على كل إنسان، سواء أكان من المشتغلين بالعلوم أو من غير المشتغلين بها، أن يستفيد من هذه الكشوف العلمية في تدعيم إيمانه بالله.
وكما ينبغي أن يتدبر العالم المتفتح العقل وجود الله ويسلم به، فإن غير المشتغل بالعلوم ينبغي له أن يفحص هو ايضا هذه الأدلة ويدرك أن التطور الإبداعي هو وسيلة الخالق في خلقه، وأن الله هو الذي أبدع هذا الكون بقدرته وسن قوانينه الطبيعية، فالخلق الإبداعي هو التفسير الوحيد الذي يوضح لنا سر هذا الوجود ويوفق بين ظواهره المختلفة التي يبسطها لنا كتاب الطبيعة التي نقرأ صفحاتها في جميع العلوم المختلفة من علم التصوير.