تعزيز اليقين وهداية الحيران

حوار هادئ عقلي بين (حيران) وبين (الشيخ المؤمن)

كما لا يمكن أن يكون مثل هذا الإتقان الذي نتحدث عنه واقعا بالصدفة، كما سبق أيضا، فلم يبق إلا الاحتمال الأخير وهو أن مظهر الإتقان هذا ناشئ عن فاعل عليم، وأضيف هنا تمثيلا طريفا ساقه نديم الجسر في كتابه (قصة الإيمان) يوضح

استحالة كون الصدفة تفسيرا صالحا لمظاهر الإتقان التي نراها، وذلك في سياق المحاورة الجارية بينه وبين من أسماه بحيران بن الأضعف، يقول رحمه الله:

(حيران: ما هي قيمة المصادفة في ميزان العقل السليم؟

الشيخ: الآن جاء دور الإبر، خذ هذا اللوح، واغرز فيه إبرة، وضع في ثقبها إبرة ثانية أخرى، وقل لي يا حيران، إذا رأى إنسان عاقل هاتين الإبرتين، وسال: كيف أدخلت الثانية في ثقب الأولى، فأخبره إنسان معروف بالصدق أن الذي أدخلها رجل ماهر قذف بها من بعد عشرة أمتار، فاستطاع أن يدخلها في شق الإبرة الأولى، ثم أخبره إنسان آخر معروف بالصدق أيضا أن الذي ألقاها صبي صغير ولد من بطن أمه أعمى، فوقعت في الشق (بطريق المصادفة) فأي الخبرين يصدق؟!

حيران: إنه ولا ريب يميل إلى تصديق الخبر الأول، ولكنه أمام صدق المخبرين يرى أن المصادفة ممكنة، فلا يجزم بترجيح أحد الخبرين على الآخر.

الشيخ: ولكن إذا رأى هذا الرجل إبرة ثالثة مغروزة في شق الثانية أيضا، فهل يبقى عدم الترجيح على حاله؟!

حيران: كلا، بل يتقوى ترجيح (القصد) على (المصادفة)، ولكنه على كل حال يبقى ترجيحا ضعيفا.

الشيخ: ولكن إذا رأى الرجل أن هناك عشر إبر، كل واحدة منها مغروزة في ثقب الأخرى التي تليها، فهل يبقى ترجيح فكرة القصد على ضعفه؟!

حيران: كلا، بل يتقوى عنده ترجيح (القصد) حتى تكاد فكرة المصادفة أن تتلاشى.

 

الشيخ: ولكن لو جاء إنسان من أولئك يصدق فيهم القرآن: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) وأخذ يجادله في معنى الاستحالة العقلية والاستحالة العادية، ويبرهن له على أن الصدفة ليست مستحيلة لا عقلا ولا عادة، ولكنها تكون أحيانا مستبعدة، فإن صاحبنا العاقل لا بد أن يذعن.

حيران: إن العقل يذعن، ولكن القلب يميل إلى ترجيح (القصد).

الشيخ: ولكن إذا ترقينا في تعقيد الأحجية، وقلنا: إن الإبر العشر مرقمة بخطوط لكل واحدة منها رقم، من الواحد إلى العشرة، قيل لنا في الخبر: إن الصبي الأعمى أعطي كيسا فيه هذه الإبر العشر مخلوطة مشوشة، وأنه كان يضع يده في الكيس ويستخرج الإبر تباعا على ترتيب أرقامها بطريق المصادفة، ويلقيها فتقع الأولى في شق المغروزة في اللوح، وتقع الثانية في الأولى، والثالثة في الثانية، والرابعة في الثالثة، وهكذا حتى أتم إدخال الإبر العشر بعضها في بعض، على ترتيب أرقامها، وأن ذلك قد حصل بطريق المصادفة، وجاء ذلك الإنسان المجادل يحاول أن يبرهن على أن إمكان المصادفة لم يزل موجودا، وغير مستحيل عقلا، فماذا يكون موقف صاحبنا العاقل مع هذا المجادل؟

حيران: لا ريب في أنه لا يصدقه؛ لأن المصادفة بهذا التتابع والتعاقب بعيدة جدا جدا، وإن لم تكن مستحيلة.

الشيخ: بل إنها في مجال الأعداد الكبرى تصبح مستحيلة بداهة يا حيران.

حيران: أعتقد أن هذه البداهة تأتينا مما جربناه في الحياة من ندرة تكرر المصادفات وتعاقبها.

الشيخ: كلا، ولكن هذه البداهة تعتمد في أعماق العقل الباطن على قانون عقلي رياضي لا يمكن الخروج عنه.

حيران: ما هو هذا القانون يا مولاي؟

الشيخ: إنه قانون المصادفة الذي يقول: (إن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانات المتكافئة المتزاحمة)، فكلما قل عدد الأشياء المتزاحمة، ازداد حظ المصادفة من النجاح، وكلما كثر عددها قل حظ المصادفة، فإذا كان المتزاحم بين شيئين اثنين متكافئين، يكون حظ المصادفة (واحد ضد اثنين)، وإذا كان التزاحم بين عشرة يكون حظ المصادفة بنسبة (واحد ضد عشرة)؛ لأن كل واحد له فرصة للنجاح مماثلة لفرصة الآخر، بدون أقل تفاضل طبعا.

وإلى هنا يكون الحظ في النجاح قريبا من المتزاحمين، حتى لو كانوا مائة أو ألفا، ولكن متى تضخمت النسبة العددية تضخما هائلا، يصبح المصادفة في حكم العدم، بل المستحيل، ذلك لأنه إذا اتفق للصبي الأعمى أن سحب أول مرة الرقم (١)، قلنا: إن حظ المصادفة للرقم (١) تغلب على الأعداد الأخرى المتزاحمة معه بنسبة (واحد ضد عشرة)، وأما إذا اتفق له أن سحب العددين (١ و٢) بالتتابع، قلنا: إن حظ المصادفة للعدد الثاني هو بنسبة (واحد ضد مائة)؛ لأن كلا من العشرة يزاحم (للرتبة الثانية) ضد عشرة، فيصح التزاحم بين مائة، وإذا اتفق أن سحب الصبي الأعمى الإبر الثلاثة (١ و٢ و٣) على التوالي، قلنا: إن حظ المصادفة بنسبة (واحد ضد ألف)؛ لأن كلا من العشرة يزاحم ضد مائة، وهكذا، فإذا افترضنا أن الصبي سحب الإبر العشر على ترتيب أرقمها، فإن حظ المصادفة يصبح بنسبة (واحد ضد عشرة مليارات) إلى آخر المثل الذي أقامه.