لهذا الدليل أسماء متعددة في الفضاء الديني عموما، والفضاء الإسلامي بشكل خاص، تدور جميعًا حول فكرة مركزية بأن ما وُجد بعد عدم فلا بد له من سبب رجح وجوده على عدمه، وأن ما كان ممكنا فهو مفتقر حتما إلى وجود واجب أحدثه[1]، وذاك السبب هو الله تعالى، ومن الأسماء التي اصطلح على تسمية هذا الدليل به :
دليل الخلق، والإيجاد والحدوث، والاختراع، والمحرك الأول، والدليل الكلامي، والدليل الكوني، والدليل الكوزمولوجي [= الكوني]، وغيرها من الأسماء.
ومن تأمل في هذا الدليل؛ وجده من أيسر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى، وأقربها مأخذا، وهو ما يفسر شيوع هذا النمط الاستدلالي في جميع الحضارات والثقافات والأمم، إذ بواعثه سؤال فطري يُفتش عن أسباب ما يرى ويحس به من الحوادث.
وهو وإن تنوع في صوره وتعبيراته، إلا أنه يتأسس على مقدمتين شديدتي الوضوح:
– أن الحوادث موجودة، والحادث هو ما كان مسبوقا بعدم نفسه، أو كل ما له بداية.
– أن الحوادث دالة على وجود سبب.
فالحوادث الموجودة لا بد لها من سبب وذاك السبب هو الله تعالى.
يقول ابن رشد الحفيد في الكشف عن مناهج الأدلة»، موضحًا بنيان هذا الدليل: (وأما دلالة الاختراع؛ فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السماوات وهذه الطريقة تُبنى على أصلين موجودين بالقوة في جميع فطر الناس:
أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ} الآية. فإنا نرى أجسامًا جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن هاهنا مُوجِدًا للحياة ومُنعِما بها، وهو الله تبارك وتعالى. وأما السماوات فنعلم من قِبَل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا، ومسخرة لنا، والمسخّر مأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع.
فيصح من هذين الأصلين أن للموجود[2] فاعلا مخترعا له)[3].
ويمكن أن نرصد ملاحظة في كلام ابن رشد هنا، حيث فرق بين دلالة الحيوان والنبات على الاختراع، ودلالة السماوات؛ حيث جعل الأولى ظاهرة بنفسها، أما الأخرى فجعلها أمارة الاختراع بما فيها من أمارات التسخير.
وعليه، فلنجعل دلالة الحوادث عليه – تعالى – على مستويين، باعتبار طبيعة الحوادث قربا وبعدا من الحس والمشاهدة ومدى وقوع لحظة الحدوث تحت الحس والمشاهدة:
– حدوث آحاد المخلوقات المشاهدة.
– حدوث العالم (جنس الحوادث).
وإذا تأملنا في طبيعة تناول الوحي لهذا النمط الاستدلالي؛ فسنجد أن المستوى الأول هو الأكثر حضورًا، وذلك أنه مدرك بضرورة الحس، وهو الطريق الأخصر المفضي إلى تحصيل المطلوب دون تطويل في المقدمات، أو الدخول في جدليات فلسفية واسعة أو محاولة البرهنة والتدليل على ما ليس حاضرًا مشاهدًا.
يقول ابن تيمية، مبينًا الطريقة القرآنية هنا، وكاشفًا عدم افتقار الحوادث المشاهدة على البرهنة على حدوثها (الطريقة المذكورة في القرآن: هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها، على وجود الخالق U؛ فحدوث الإنسان يُستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يُستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث ،له ووجوب تناهي الحوادث.
والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بين. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون}، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك = معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يُعلم بالحس وبالضرورة.
والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة إما بإخبار يفيد العلم الضروري، أو غير ذلك من العلوم الضرورية.
وحدوث الإنسان من المني = كحدوث الثمار من الأشجار، وحدوث النبات من الأرض، وأمثال ذلك. ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن وكذلك الإنسان، وغيره كما قال تعالى: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}، وقال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[4] .
ومن التنبيهات اللطيفة التي أشار لها ابن تيمية حالة الاعتياد على مشاهدة حادث معين وعدم الاعتياد وأثر هذه الحالة في الغفلة عن أوجه الدلالة في بعض الحوادث القريبة المشاهدة، يقول رحمه الله: (ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم متى شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه؛ لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه، بل له محدث أحدثه، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات، لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفًا لهم بخلاف المتجدد الغريب، وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغرائب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة، ما هو أعظم منه، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات، فكل أحد يعلم أ أنه هو لم يُحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من محدث، فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه، ويعلم أنه موجود حي عليم قدير سميع بصير، ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيًّا، ومن جعل غيره عليمًا كان أولى أن يكون عليما، ومن جعل غيره قادرًا كان أولى أن يكون قادرًا ويعلم أيضًا أن فيه من الإحكام ما دل على علم ،الفاعل ومن الاختصاص ما دل على إرادة الفاعل، وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية ،وغيرها كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُون}.
وينبغي ملاحظة أن كثيرًا من السياقات القرآنية الكاشفة عن حدوث الحوادث، إنما سيقت للبرهنة على قضية أوسع من مجرد إثبات وجود الخالق؛ كالآيتين اللتين ختم بهما ابن تيمية كلامه السابق؛ إذ السياق في هاتين الآيتين يكشف أنهما سيقتا للتدليل على كمال قدرته تعالى، وأنه قادر على البعث بعد الموت؛ فالذي خلق بعد العدم قادر بطريق الأولى أن يعيد ما أوجده مرةً أخرى وهذا القدر كما سبق دالّ بالتضمن بداهة على أن هذا القادر موجود، وأن في مجرد حدوث المخلوق بعد العدم ما يدل على وجوده.
وأشهر الآيات القرآنية المتضمنة لهذه الدلالة العقلية: قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون}.
وهذه الآية المهيبة هي ألصق الدلائل القرآنية فيما نحن بصدد تقريره؛ حيث انطلقت الآية في تقرير هذه الحقيقة العقدية الكبرى من خلال حصر الاحتمالات الممكنة، وبيان امتناع كل قسمة؛ ليبقى الاحتمال الحق هو أن للإنسان خالقا خلقه.
فالآية تطرح سؤالا لأصحاب العقول السليمة: (أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا)[5].
يقول ابن القيم، مفصلا طبيعة هذه الدلالة: فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق وأفصح عبارة، يقول تعالى: هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا؛ فهل خُلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا من المحال الممتنع عند كل من له فهم وعقل أن يكون مصنوع من غير صانع، ومخلوق من غير خالق.
ولو مر رجل بأرض قفر لا بناء فيها، ثم مر بها فرأى فيها بنيانا وقصورًا وعمارات محكمة = لم يتخالجه شك ولا ريب أن صانعا صنعها، وبانيا بناها.
ثم قال: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُون}، وهذا أيضًا من المستحيل أن يكون العبد موجدا خالقًا لنفسه؛ فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة ولا أصبعًا ولا ظفرًا، ولا شعرة = كيف يكون خالقا لنفسه في حال عدمه؟!
وإذا بطل القسمان؛ تعين أن لهم خالقًا خلقهم، وفاطرًا فطرهم، فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر؛ فكيف يشركون به إلها غيره، وهو وحده الخالق لهم؟!
فإن قيل: فما موقع قوله : {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} من هذه الحجة؟
قيل: أحسن موقع؛ فإنه بين بالقسمين الأولين أن لهم خالقا وفاطرًا،. وأنهم مخلوقون، وبين بالقسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخُلقوا فهم عاجزون غير خالقين، فإنهم لم يخلقوا نفوسهم، ولم يخلقوا السماوات والأرض، وإن الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه = هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض؛ فهو المتفرد بخلق المسكن والساكن، بخلق العالم العلوي والسفلي وما فيه[6].
ومن جميل الآثار المروية الكاشفة عن جلالة هذه الآية القرآنية: ما جرى لجبير بن مطعم t قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون} = كاد قلبي أن يطير[7]
ومن تأمل في طريقة الأنبياء في مجادلة من جحد ربوبية الله تعالى، وادعاها لنفسه = وجد أنهم يرشدون إلى هذه الطريقة العقلية في التدليل على ربوبية الله تعالى واستحقاقه من ثُمَّ للعبادة وحده.
فأشهر من عرف بإنكار ربوبية الله تعالى فرعون القائل: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}.، فمما جاء في شأن محاورة موسى له، ومجادلته له، استدلال بآثار قدرة الله تعالى عليه سبحانه يقول تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين}.
فنوع موسى – عليه الصلاة والسلام – صور الجواب، وأنماط الاحتجاج، فذكر بمقتضى الفطرة الضرورية بأن الله أعرف من أن يعرف سبحانه، وبين ما في سائر خلق الله تعالى من الافتقار إليه سبحانه، افتقار المخلوق إلى الخالق الذي به وجوده؛ فالسماوات والأرضون وسائر ما فيهما = مفتقر إليه تعالى في إيجاده وإعداده وإمداده.
وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} هو زيادة تنبيه وتأكيد على أن سائر الحوادث مفتقرة إليه – جل وعلا -؛ فجميع ما علاك، وما سفل منك، وما كان في المشرق والمغرب، وما بينهما مما هو أمامك وخلفك = مفتقر إليه تعالى.
ولا بن تيمية تحليل نفيس لما جرى بين موسى وفرعون من المناظرة هنا، جاء فيه: إن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجحد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين}، وقال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِين}. فاستفهامه كان إنكارًا وجحدا يقول: ليس للعالمين رب يرسلك؛ فمن هو هذا؟ إنكارا له.
فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده؛ وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ}، وقال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين}.
ولم يقل فرعون: (ومن رب العالمين؟) فإن (من) سؤال عن عينه، يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عرف أنه جاء من عند إنسان: (من أرسلك؟).
وأما (ما) فهي سؤال عن الوصف يقول: أي شيء هو هذا؟ وما هو هذا الذي سميته (رب العالمين؟ قال ذلك منكرا له جاحدا.
فلما سأل جحدًا؛ أجابه موسى بأنه أعرف من أن يُنكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب، فقال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِين}. ولم يقل: (موقنين بكذا وكذا، بل أطلق فأي يقين كان لكم بشيء من الأشياء؛ فأول اليقين اليقين بهذا الرب كما قالت الرسل لقومهم: {أَفِي اللّهِ شَكٌّ}.
وإن قلتم: لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم. فهذه دعوى السفسطة العامة ومدعيها كاذب ظاهر الكذب؛ فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لا بد له من علم؛ ولهذا قيل في حد العقل: إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل.
فلما قال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون}، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم؛ نسبوهم إلى الجنون ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق أو للاسترابة والشك فيه، هذه حال، عامتهم ودينهم وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُون}.
فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف، فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون}؛ فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق. فلما ذكر أولا أن من أيقن بشيء فهو موقن به واليقين بشيء هو من لوازم العقل = بين ثانيا أن الإقرار به من لوازم العقل.
ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل: إنه ليس له عقل.
ويقال أيضًا لمن لم يتبع ما أيقن به: إنه ليس له يقين. فإن اليقين أيضًا يراد به العلم المستقر في القلب، ويراد به العمل بهذا العلم، فلا يطلق الموقن إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل.
وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه فلم يكن لهم عقل ولا يقين. وكلام موسى يقتضي الأمرين: إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته.
وإن ادعيت أنه لا يقين لك، ولا عقل لك؛ فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسليكم خاصية الإنسان. ومن يكون هكذا لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية. مع أن هذا باطل منكم؛ فإنكم موقنون به، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
ولكم عقل تعرفونه به ولكن هواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد؛ فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار)[8].
وقد جرى لخليل الرحمن إبراهيم u مع النمروذ شيء قريب مما جرى لموسى مع فرعون، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}.
والأمر، كما ذكر ابن كثير – عليه رحمة الله – في سياق تفسيره لأجزاء هذه المناظرة وحال النمروذ: (وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك … ولهذا قال: {أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ}.
وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}؛ أي: الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها، فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له .
فعند ذلك قال المحاج – وهو النمروذ -: {أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ}.
قال قتادة، ومحمد بن إسحاق، والسدي وغير واحد وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل، فأمر بقتل أحدهما فيقتل وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة.
والظاهر – والله أعلم – أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم، ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام؛ عنادًا ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}.
ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}؛ أي: إذا كنت كما تدعي من أنك أنت الذي تحيي وتميت؛ فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود؛ في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت؛ فأت بها من المغرب.
فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام = بهت؛ أي: أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة.
قال الله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين}؛ أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانا، بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: أن = عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني – انتقال من دليل إلى أوضح منه. ومنهم من قد يطلق عبارة رَدِيّة.
وليس كما قالوه، بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني، ويُبين بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، والله الحمد والمنة)[9].
[1] قرنت دليل الإمكان بدليل الحدوث؛ لما بينهما من الاشتراك والمشابهة وإلا فهما دليلان مستقلان يفضيان إلى مطلوب واحد.
[2] الأدق (الموجود المخترع)، وهو بين من السياق.
[3] الكشف عن مناهج الأدلة ١١٩.
[4] درء تعارض العقل والنقل ۲۱۹/۷، وانظر: شرح الأصبهانية ٥١.
[5] تفسير ابن كثير ٤٣٧/٧
[6] الصواعق المرسلة ٤٩٤/٢
[7] رواه البخاري ٤٨٥٤
[8] مجموع الفتاوى ٣٣٤/١٦.
[9] تفسير ابن كثير ٦٨٦/١.