الملحدون ليسوا عقلانيين كما يظنّ البعض..
لويس لي
ترجمة: وائل وسام
تحرير: غادة الزويد
يعتقد الكثير من الملحدين أن إلحادهم هو نتاج التفكير العقلاني، فهم يستخدمون حججًا مثل “أنا لا أؤمن بالله؛ لأني أصدق العلم” حتى يثبتوا أن الدليل والمنطق -ليس الاعتقاد الدوغمائي بوجود كائنات ميتافيزيقية- الذي يدعم تفكيرهم.
لكن: من قال أن مجرّد إيمانك بالبحث العلمي المبني على الأدلة -الذي يخضع لفحوصات وإجراءات صارمة- يستلزم بالضرورة أن يعمل عقلك بالطريقة نفسها؟
عندما تسأل الملحدين عن سبب تحوّلهم إلى ملحدين (كما أفعل في عملي) فإنهم غالبًا يشيرون إلى اللحظات التي أدركوا فيها أن الدين ببساطة لا معنى له!
ومن الغريب أن العديد من المتديّنين لديهم وجهة نظر مماثلة عن الإلحاد؛ ويحدث هذا عندما يصل اللّاهوتيون وغيرهم من المؤمنين إلى أنه من المحزن أن تكون ملحدًا؛ فأنت بذلك تفتقد الكثير من الأسس الفلسفيّة والأخلاقيّة والروحيّة والجماليّة التي يمكن للأشخاص المتديّنين الوصول إليها في صحراء العقلانية المقفرة.
العلم من أجل الإلحاد:
المشكلة التي يحتاج أي مفكّر عقلاني إلى معالجتها هي أن العلم يوضّح بشكل متزايد أن الملحدين ليسوا بأكثر عقلانية من المؤمنين في الواقع؛ إنما الملحدون معرضون تمامًا -مثل الشخص المتديّن- إلى “تفكير القطيع” وغيره من أشكال الإدراك الغير عقلانية.
على سبيل المثال: يمكن أن ينتهي الأمر بالأشخاص المتديّنين وغير المتديّنين على حدٍ سواء إلى إتباع كلام الرموز المؤثرين (مثل ريتشارد دوكنز أو سام هاريس) دون تمحيص، فغالبًا ما تفضّل عقولنا ذلك على السعي وراء الحقيقة، كما اكتشف عالم النفس الاجتماعي جوثان هايدت.
حتى الأفكار الإلحادية نفسها ليست لها تلك العلاقة المباشرة بالتحقّق العقلاني التي يزعمها الملحدون، نحن نعلم الأن على سبيل المثال: أن الأبناء الغير متديّنين المولودين لآباء وأمّهات متديّنين يتجاهلون معتقداتهم لأسباب لا علاقة لها بالمنطق العقلي؛ حيث توضّح أحدث الأبحاث في مجال “المعرفة والإدراك” أن العامل الحاسم هو التعلّم مما يفعله الآباء بدلاً من إتباع ما يقولونه، فإذا قال أحد الوالدين أنه مسيحي، لكنه يتخلّى عن فعل أشياء يقول أنها من صميم دينه مثل – الصلاة، أو الذهاب إلى الكنيسة ــ فإن أطفالهم ببساطة لن يتقبّلوا فكرة أن الدين منطقي!
وهذا معقول تمامًا بمعنى ما، لكن الأطفال لا يعالجون هذا على المستوى المعرفي، فعلى مدى تاريخنا التطوري كان البشر غالبًا ما يفتقرون إلى الوقت الكافي لفحص الأدلة وتقييمها حيث يحتاجون إلى إجراء تقييمات سريعة وهذا يعني أن الأطفال -إلى حدٍ ماـ يمتصون فقط هذه المعلومة الحاسمة، وهي في هذه الحالة: أن المعتقد الديني لا يبدو مهمًا بالطريقة التي يدّعيها الآباء!
حتى الأطفال الأكبر سنًا والمراهقون الذين يفكرون فعلاً في موضوع الدين، هم لا يفكرون فيه بشكل مستقل ومتجرّد كما يخيّل إليهم.
توضّح البحوث الجديدة أن الآباء الملحدين (وغيرهم) يورّثون معتقداتهم إلى أبنائهم تمامًا مثل الآباء المتديّنين، وذلك من خلال تبادل ثقافاتهم وفعلهم بقدر حججهم.
يرى بعض الآباء أن أبنائهم يجب أن يختاروا معتقداتهم بأنفسهم، ولكن ما يفعلونه بعد ذلك هو ترسيخ طرق معيّنة للتفكير في الدين.
مثال: فكرة أن الدين هو مسألة اختيار وليس حقيقة إلهيّة. وليس من الغريب أن كل هؤلاء الأبناء تقريبًا ٩٥٪ منهم ـ ينتهي بهم الأمر إلى اختيار الإلحاد ـ
العلم مقابل الاعتقاد:
هل من المحتمل أن يكون العلم في صف الملحدين أكثر من المتديّنين؟ يمكن تطعيم الكثير من أنظمة الاعتقاد بشكل أو بآخر بأنواع من المعرفة العلمية.
بعض أنظمة الاعتقاد تنتقد العلم بشكل علني، وتعتقد أن لديه الكثير من التأثير على حياتنا، في حين أن هناك أنظمة أخرى مهتمة بشكل كبير لإدراك المزيد من المعرفة العلمية والاستجابة لها.
لكن هذا الاختلاف لا يعيّن بدقّةٍ ما إذا كنت متديّنا أم لا، فبعض التقاليد البروتستانتية على سبيل المثال: ترى أن العقلانية أو التفكير العلمي عنصر أساسي في الحياة الدينية، وفي الوقت نفسه يسلط جيل جديد من ملحدي ما بعد الحداثة الضوء على حدود المعرفة الإنسانية، ويرون أن المعرفة العلمية محدودة للغاية وتخلق إشكاليات لا سيّما عندما يتعلق الأمر بالأسئلة الوجودية والأخلاقية، وقد يتبع هؤلاء الملحدين على سبيل المثال: مفكرين مثل تشارلز بودلير في الرأي القائل بأن المعرفة الحقيقية لا توجد إلا في التعبير الفني.
وعلى الرغم من أن العديد من الملحدين يرغبون في اعتبار أنفسهم مؤيّدين للعلم ومؤثرين به، فإن العلم والتكنولوجيا بحد ذاتها قد تكون أحياناً أساساً للتفكير الديني أو المعتقدات أو شيء قريب من التفكير الديني.
على سبيل المثال: كان بروز حركة ما بعد الإنسانية (الإنسان الخارق) التي تركز على الاعتقاد بأن البشر يستطيعون وينبغي أن يتجاوزوا حالتهم الطبيعية الحالية، ويكسروا القيود من خلال استخدام التكنولوجيا = مثالاً على كيفية أن الابتكار التكنولوجي يمكنه أن يؤسس لظهور حركات جديدة تشترك في الكثير مع أنماط التديّن.
حتى بالنسبة لأولئك الملحدين الذين يشككون في ما بعد الإنسانية، فإن دور العلم لا يقتصر على العقلانية وحسب؛ بل يمكنه أن يوفر الأسس الفلسفيّة والأخلاقيّة والروحيّة والجماليّة، التي توفرها المعتقدات الدينية للآخرين.
البيولوجيا على سبيل المثال:- هي أكبر بكثير من مجرّد موضوع للترف الفكري، فعند الملحدين البيولوجيا توفّر “المعنى” والراحة النفسية بنفس الطريقة التي يوفرها الإيمان بالله للمؤمنين.
يظهر علماء النفس أن -الإيمان- بالعلم يزداد في مواجهة التوتر والقلق الوجودي، تمامًا كما يشتد التمسّك بالمعتقدات الدينية لدى المؤمنين في مثل هذه المواقف.
من الواضح إذن أن ربط كونك ملحداً بالعقلانية وحدها = تبدو فكرة غير منطقية! لكن الخبر السّار للجميع هو أن العقلانية في الأصل مبالغ فيها، فالإبداع البشري يعتمد على أشياء أكبر من التفكير العقلاني بكثير!، كما يقول هايدت عن “العقل السليم”، فإن القدرة على اتخاذ قرارات سريعة واتباع الشغف، والتصرّف بناءً على الحدس هي أيضًا صفات إنسانية مهمّة وضرورية لنجاحنا.
من المفيد أننا اخترعنا شيئاً -على عكس عقولنا- مبني على المنطق وقائم على الأدلة وهو: العلم.
عندما نحتاج إلى الدليل المناسب يمكن للعلم في كثير من الأحيان توفيره -طالما الموضوع قابل للاختبار- والأهم من ذلك، أن الأدلة العلمية لا تميل إلى دعم وجهة النظر القائلة ” أن الإلحاد نتاج للتفكير العقلاني فحسب، وأن الإيمان ما هو إلا استجابة لاحتياجات وجودية.”
الحقيقة هي أن البشر مختلفين عن العلم، لا أحد منهم معصوم عن فعل غير عقلاني، كما لا يمكنهم العيش دون مصادر توفّر لهم المعنى والاستقرار الوجودي،
ولحسن الحظ لا أحد مضطر إلى ذلك.
- لويس لي: عالمة في علم الاجتماع في جامعة كينت البريطانية، وهي مديرة مشروع ” فهم عدم الإيمان”، ويهدف إلى دراسة ظاهرة الإلحاد علميًا. يشترك فيه مجموعة من علماء النّفس والاجتماع من كافة أنحاء العالم، وتشارك فيه عدد من الجامعات مثل جامعة كوفنتري، وجامعة الملكة في بلفاست، وجامعة سانت ماري مع جامعة كينت.