تعزيز اليقين وهداية الحيران

الشر ونسبته إلى الله

الشر ونسبته إلى الله

سبوح قدوس!

محمد

ما هو الشر؟

ما الشر؟ هل هو حقيقة ذاتية لها وجود استقلالي، أم هو عرض انتزاعي لا يستقل لنفسه بكيان؟ أو بعبارة أكثر تبسيطا: هل يوجد ما يمكن أن نقول: إنه شر بذاته لا أنّه شر في ظرف من الظروف ووجه من الأوجه؟

شَغَلَ السؤال عن ماهية الشرّ الفلاسفة منذ زمن قديم، والخلاف فيه قائم على اختيار جواب من اثنين أولهما: أنّ الشرّ حقيقة موضوعية، وثانيهما: أنّ الشرّ ليس إلّا غيابًا للخير (privatio of good).

يفضي النظر الهادئ إلى القول: إنّ دعوى أنّ الشر يمثل «شيئا ما في ذاته ليس إلا نوعا من أنواع المغالطات المنطقية؛ أي: مغالطة التشييء أو التجسيم (Reification)؛ إذ يتم التعامل مع الأشياء المجردة (abstract) على أنها ذوات متحيّزة أو أحداث واقعية.

ليس الشرّ في واقع الناس مادة تُحسّ ولا ذاتا تُجسّ، وإنّما هو أثر لفعل أو حال ما، إذ لا وجود لشر مطلق، ولذلك فهو أمر نسبي أو جزئي. وبصورة أدق، علينا أن نعتبر الشرّ صفة (adjective) لا ذاتا، وأنه لا يُعامل معاملة الاسم إلّا إذا كان في صيغة التجريد.

ولنا هنا أن نتساءل: «هل بإمكاننا أن نتصوّر في خيالنا وجود عالم شر من كل وجه؟»؛ أي: وجود كلّ ما فيه شر لا يخالطه خير في مبناه أو مآله، والجواب الذي يضطر إليه كل واحد منا هو ما قاله (جون جوردون ستاكهاوس) (John Gordon Stackhouse) (لا يمكنني تصوّر ذلك، ولم أشهد أي وصف لذلك العالم في العلم أو الفلسفة أو الأدب).

ما الشر إذن إلّا حال وصفي، أو بعبارة (كورنليوس بلنتنجا) (Cornelius Plantinga): «غير ما يجب أن يكون عليه الشيء» «The way it’s not supposed to be». وهو عين ما انتهى إليه عامة الثيوديسيين المسلمين من قبل، وقد سبقهم إلى ذلك طائفة من الإلهيين وعلى رأسهم (أوغسطين). والحجّة في هذا الباب هي أن الشر واقعيًّا ليس إلا عارض فساد في شيء من أشياء الوجود التي هي في أصل وجودها سليمة من العيب، كالجرح في اليد، والصدأ في الحديد فلولا اليد، وأصل سلامتها، ما كان الجرح وما عرفنا أنّه انتقال عن أصل السلامة ولولا مادة الحديد وأصل براءتها مما يخربها ما كان الصدأ، وما علمنا أنّ الصدأ فساد في هذا المعدن، فالجرح كشر لا يقوم بنفسه وإنّما يحتاج إلى يد ولم نعرف نحن أنه أذى يصيب اليد حتى علمنا قبل ذلك أنّ الأصل في اليد المعافاة والسلامة منه، وكذلك أمر الحديد وكل شرّ في عالمنا.

إن الشر – من ناحية التقسيم العقلي النظري – لا يمكن أن يكون إلا:

۱ – شرًا محضًا حقيقيا من كل وجه .

۲ – شرًا نسبيًّا إضافيًا من وجه دون وجه.

الشر الذي هو حقيقة ذاتيّة، لا يعتوره خير من أي وجه، لا وجود له في الدنيا. فليس في وجودنا ما يمكن أن يُقال: إنّه شر خالص، فليس هناك شر في الدنيا إلا وهو خير من وجه أو أوجه أخرى. فالمرض مثلا، مؤذ للجسد من جهة، ومختبر للصبر وشاحذ للهمة وربما حتى مقو للمناعة من جهة أخرى … وهكذا الأمور المكروهة عادة، لا يخلو منها نفع للإنسان.

ثمّ إنّ الشرّ إمّا أن يكون عدميًا أو وجوديًا.

1- شرور عدمية:

أ – إما أن تكون عدمًا لأمور ضرورية للشيء:

– في وجوده: كالإحساس والحركة والنفس للحيوان.

– أو ضرورية له في دوام وجوده وبقائه: كقوة الاغتذاء والنمو للحيوان المغتذي النامي.

– أو ضرورية له في كماله: كصحته وسمعه وبصره وقوته.

ب – وإما أن تكون غير ضرورية له في وجوده ولا بقائه ولا كماله وإن كان وجودها خيرًا من عدمها: مثل تحصيل المعارف العلمية الدقيقة مما يكون العلم بها خيرا من الجهل بها.

۲ – شرور وجوديّة:

فهي:

أ ـ وجود كل ما يضاد الحياة والبقاء والكمال كالأمراض وأسبابها والآلام وأسبابها.

ب – والموانع الوجودية التي تمنع حصول الخير ووصوله إلى المحل القابل له المستعد لحصوله كالمواد الرديئة المانعة من وصول الغذاء إلى أعضاء البدن وانتفاعها، به وكالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة المانعة لحصول أضدادها للقلب.

وقد خلص الإمام (ابن القيم) من التقسيم السابق إلى أنّ «الشر لم يترتب إلا على عَدَم. وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرا ولا سببًا للشر. فالأمور الوجودية ليست شرورًا بالذات بل بالعرض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة». أو بعبارة أخرى: «الشرّ نسبي إضافي وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل اللائق إلى غيره. وهذا بالنسبة إلى الفاعل وأما بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافي أيضا، وهو ما حصل له من التألم وفاته من الحياة، وقد يكون ذلك خيرا له من جهة أخرى، وخير لغيره». وكذلك الوطء، فإنّ قوّة الفاعل وقبول المحل كمال، ولكنّ الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محل لا يحسن ولا يليق. وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية على هذا المجرى. فظهر أنّ دخول الشر في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة لا أنها من حيث وجودها وذواتها شر».

لا يعني ما سبق بحال القول: إنّ الشر مجرّد وهم، أو إنه أمر لا حقيقة له، فتلك دعوى سبق بيان فسادها، وإنما قصدنا هو أن الشر «مجرد نتاج أنطولوجي عَرضي لخلق كائنات محدودة (mere ontological by products of creating finite being s)، فوجوده تابع لوجود كون غير متصف بالكمال، وليس هو أصل لذاته، ومحدوديته في منعه الشيء من بلوغ مرتبة الكمال أو الاستواء والصلاح.

أنواع الموجودات:

لا سبيل لمعرفة موقع الشرّ من الوجود الكوني عامة، والبشري خاصة، دون أن ندرك حقيقة وجوده في ذاته بمعرفة جوهر تمثله في واقعنا. ولذلك نقول: إن الوجود من ناحية الاحتمال العقلي، لا يخرج عن أربع حالات، فهو إما أن يكون:

۱ – خيرًا من كل وجه.

۲ – شرًا من كل وجه.

٣ – خيرًا من وجه شرا من وجه.

وهو على ثلاثة أقسام:

أ – قسم خيره راجح على شرّه.

ب – قسمٌ شرّه راجح على خيره.

ج – قسم مستو خيره وشره.

٤ – وإمّا أن لا يكون فيه خير ولا شر.

القسم الأوّل: وهو الخير المحض من كل وجه الذي لا شر فيه؛ هو الله سبحانه فقط. ولا يوجد من بقيّة الأقسام في وجودنا إلا ما كانت المصلحة والحكمة والخير في إيجاده أكثر من المفسدة؛ أي: ما كان «خيره راجحًا على شرّه». وأمّا الشر المحض الذي لا خير فيه فذاك ليس له حقيقة بل هو العدم المحض.

وخلاصة الكلام في هذا الباب هو قول (ابن القيم): «فسنّته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح، والأمر بالخير الخالص والراجح. فإذا تناقضت أسباب الخير والشر، والجمع بين النقيضين محال، قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة، ولم يكن تفويت المرجوحة شرا، ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة، ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره. فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه، وما يأمر به وينهى عنه، وكذلك سُنَّته في الآخرة. وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه. وقد أتقن كل ما صنع. وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.

وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام).

وقد تناولت الفيلسوفة (جين ماري ترو) (Jane Mary Trau) تقويم حقيقة الشّر من زاوية غلبت قيمته الجوهرية (intrinsic value) على قيمته الذرائعية (instrumental value) وعكس ذلك، للحكم على الشرّ الذي لا يليق بالحكمة الإلهية أن يوجد، مفصحة أنّ الحكم على أمر ما يبدو شرا، لا بد أن يعود إلى غلبة الشرّ أو الخير في وجهيه الجوهري والذرائعي، فإذا غلب جوهره على ما يصلح أن يكون له ذريعة كان هذا الأمر شرًا لا يليق بكمال الحكمة الإلهية، وإذا غلبت القيمة الذرائعية القيمة الجوهريّة كان الشيء من أفعال الحكمة التي لا تتعارض مع علم الله وقدرته ورحمته. وقولها في حقيقته ينتهي إلى قول (ابن القيم)؛ إذ إنّ النظر في الحكمة وراء ما تتأذى منه النفس عادة يكشف عن مصالح ومنافع ضرورية، فوجود هذا الأذى ذريعة لخير أعظم منه أو دفع شرّ أشدّ منه. إننا إذن أمام شر مغمور في الخير، وشر مرصود للخير.

الشر في المخلوقات لا في فعل الخالق:

هل يصح أن يقال: إنّ الله – سبحانه – يفعل الشر، وأنه لذلك «شرير» – عياذا بالله -!؟

قد تقدّم معنا أنّ الشرّ ليس ذاتا موضوعيّة وإنّما هو صفة انتزاعية ولذلك لا تصح نسبة الشر إلى الله سبحانه وإنما هو صفة من صفات مخلوقاته.

قد يُعترض علينا بأن قولنا هذا سفسطة، ولعب بالكلمات، إذ إنّ هذا الشر نتاج عن مخلوقات الله، وبذلك فهو يعود إلى الله خالق هذه المخلوقات!

والجواب هو أنّ هناك فرقا بين فعل الله الخالق مباشرة وفعل مخلوق الخالق؛ فإنّ الله لا يريد لعباده إلا الخير لكنه …

۱ – يخلق [أي: الله] خلقا أصحاب إرادة (أناسي) يختارون غير ما رضيه [أي أحبّه ] الله لهم، فالشر هنا سببه إرادة الإنسان، والله سبحانه خلق إمكانية وجود الشرّ لا الشرّ ذاته. قال (ابن القيم): «والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء، والرب سبحانه هو الذي جعله فاعلا لذلك. وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب؛ فجَعْلُه فاعلا خير، والمفعول شر قبيح. فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا. وهذا أمر معقول في الشاهد، فإنّ الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلاً وصوابا يمدح به. وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل. ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها، كان ذلك حكمة وعدلاً وصواباً، وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها».

وقال (ابن تيمية): «الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلا له كما يفعلها العبد، وتقوم به ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له إذا كان قد جعلها صفة لغيره، كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإذا كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعمًا مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفًا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة. ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسببًا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به، لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره».

۲ – يخلق الله خلقا غير عاقل يفعل الشر، لكنّه شر من وجه لا من كل الأوجه؛ فالزلازل والبراكين مثلا هي نتاج لقوانين فيزيائية بثّها الله في الأرض، وهي ليست شرًا في ذاتها، أولا: لأنّ الزلازل والبراكين قد تقع في منطقة ليس فيها إنسان ولا حيوان فلا يتضرر منها أحد، وثانيًا: لأنّ هذه الزلازل والبراكين من أسباب تهيئة الأرض للعيش، فهي تنفّس عن الطاقة المخزونة في باطن الأرض، وتخرج الكثير من الثروات المعدنية إلى سطح الأرض ليستفيد منها الإنسان وغير ذلك مما نعلم ومما لا نعلم. فالآثار السلبية لهذه الظواهر الكونيّة هي نتاج لهذا المخلوق في ظروف معينة غير دائمة، فالشر وجه لها وليس فعلا لله، وإن كان الله سبحانه يريد من بعض هذه الظواهر ما يكرهه بعض خلقه لحكمة تربو على الشر الناتج عنها.

ففعل الله سبحانه لا يراد منه – في مآله – إلا الخير، ولذلك «فما أراد أن يخلقه أو يفعله، كان أن يخلقه ويفعله خيرًا من أن لا يخلقه ولا يفعله، وبالعكس. وما كان عدمه خيرًا من وجوده، فوجوده شر، وهو لا يفعله بل هو منزه عنه».

ويوضح (ابن القيم) ما يريده الله سبحانه في الكون، بجلاء محكم العبارة مستضيئًا بمحكم الوحي: «يمتنع إطلاق إرادة الشر عليه وفعله نفيا وإثباتًا لما في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إبهام المعنى الباطل ونفي المعنى الصحيح، فإنّ الإرادة تطلق بمعنى المشيئة وبمعنى المحبة والرضا. فالأوّل كقوله: ﴿إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) وقوله: ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ) وقوله: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةٌ)، والثاني كقوله: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) وقوله: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). فالإرادة بالمعنى الأول تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبّته والرضا به. وبالمعنى الثاني لا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبّته. فإنّها لا تنقسم، بل كلّ ما أراده من أفعاله فهو محبوب مرضي له. ففرق بين إرادة أفعاله وإرادة مفعولاته فإن أفعاله خير كلها وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها بوجه من الوجوه وأما مفعولاته فهي مورد الانقسام. وهذا إنّما يتحقق على قول أهل السُّنَّة إنّ الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق، كما هو الموافق للعقول والفطر واللغة ودلالة القرآن والحديث وإجماع أهل السُّنَّة، كما حكاه البغوي في شرح السنة عنهم. وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان: إرادة أن يفعل، ومرادها فعله القائم به، وإرادة أن يفعل عبده، ومرادها مفعوله المنفصل عنه، وليسا بمتلازمين. فقد يريد من عبده أن يفعل ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل وتوفيقه له وصرف موانعه عنه. كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم ولم يرد من نفسه أن يعينه على السجود ويوفقه له ويثبت قلبه عليه ويصرفه إليه. ولو أراد ذلك منه لسجد له لا محالة، وقوله: ﴿فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ)، إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال عبيده. وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشر كما تقدم. وعلى هذا فإذا قيل: هو مريد للشر أوهم أنه محبّ له راض به. وإذا قيل: إنّه لم يرده أوهم أنه لم يخلقه ولا كوّنه. وكلاهما باطل. ولذلك إذا قيل: إن الشر فعله أو إنّه يفعل الشرّ أوهم أنّ الشر فعله القائم به وهذا محال. وإذا قيل: لم يفعله أو ليس بفعل له أوهم أنه لم يخلقه ولم يكوّنه، وهذا محال. فانظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في النفي والإثبات من الحق والباطل الذي يتبين بالاستفصال والتفصيل.

وإنّ الصواب في هذا الباب ما دلّ عليه القرآن والسُّنَّة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى لا وصفًا ولا فعلا، ولا يتسمّى باسمه بوجه من الوجوه. وإنّما يدخل في مفعولاته بطريق العموم كقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: ۱، ۲]. فـ(ما) هاهنا موصولة أو مصدريّة والمصدر بمعنى المفعول؛ أي: من شرّ الذي خلقه، أو من شرّ مخلوقه، وقد يحذف فاعله كقوله حكاية عن مؤمني الجن: ﴿وَأَنَا لَا نَدْرِى أَشَرُّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾. وقد يُسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*  وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنيِ وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ۷۸ – ۸۰]. وقول الخضر: ﴿أَمَا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أن أَعِيبها﴾ [الكهف: ٧٩]. وقال في بلوغ الغلامين: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ [الكهف: ۸۲]. وقد جمع الأنواع الثلاثة في الفاتحة في قوله: ﴿اَهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦، ٧]. والله تعالى إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر، فقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

وماذا عن خلق إبليس؟

قد يتساءل القارئ: وماذا عن خلق إبليس؟! أليس هو عنوان الشرّ المحض، فهل في خلقه خير؟! إنّه طريق الناس إلى جهنّم ورائدهم إلى الكفر بكل نعمة، والعصيان لكل أمر!

الجواب على هذا الإشكال من وجهين:

أوّلهما: هو أنّ النظر في قصة إبليس كما جاء بها خبر الوحي مخبر أنّ الله سبحانه لم يخلق إبليس ليضل الناس، وإنّما خُلق إبليس كما خلق البشر للعبادة، غير أنّ إبليس اختار أن يتكبر على أمر الله بالسجود (لآدم)، ورضي لنفسه طريق الضلالة والإضلال.

قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِين * قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِين * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم*  ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِين﴾ [الأعراف: ۱۱ – ۱۸].

لقد اختار إبليس، وهو من الجن، أن ينحرف عمّا خلق له إلى غير ما خلق له، عاصيا أمر الله ومتكبّرًا عن طلب السجود.

وثانيهما: أنّ في وجود إبليس، على ضلاله، حكم جليلة يصعب استقصاؤها، وقد ذكر علماء الإسلام، كـ (ابن القيم)، طرفًا منها يدفع القول المتوّهم أنّ وجود إبليس شر محض لا خير معه، ومن ذلك:

١ – أنّ وجود إبليس يكمل لرسل الله وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، ومعلوم أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.

٢ – خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة التكريمية إلى المنزلة الإبليسية، يكون أقوى وأتم.

٣ – جعل سبحانه إبليس عبرة لمن خالف أمره، وتكبّر عن طاعته، وأصرّ على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه، أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه.

٤ – حال إبليس محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم، كما جعل أنبياءه ورسله محكًا لذلك التمييز، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيرَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ [آل عمران: ۱۷۹]، فأرسله الى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث، فانضاف الطيب الى الطيب، والخبيث الى الخبيث. واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القرار، يميز بينهم. وجعل لهؤلاء دارًا على حدة ولهؤلاء دارًا على حدة، حكمة بالغة وقدرة قاهرة.

ه – ليظهر الله كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين، وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فهو خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.

٦ – خلقُ أحد الضدين من كمال حسن ضدّه، فإنّ الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تُعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى.

۷ – من أسمائه سبحانه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم. وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها، كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها، ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه.

۸ – الله سبحانه هو الملك التام الملك، ومن تمام ملکه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال، فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.